دروس للشيخ محمد المختار الشنقيطي

محمد المختار الشنقيطي

نصائح غالية من الشيخ -حفظه الله- لطلبة العلم

نصائح غالية من الشيخ -حفظه الله- لطلبة العلم إن الدعوة إلى الله من أجل وأشرف الأعمال التي يحبها الله ويرضاها للعبد، ولا يكون الإنسان داعية بكل ما تعنيه الكلمة إلا إذا كان طالب علم يثني ركبتيه في حلق الذكر، وبين أيدي العلماء، ويحتاج الداعية في طلبه للعلم إلى جد واجتهاد وصبر، حتى يصبح داعية موفقاً مقبولاً عند الناس.

العلم سلاح الداعية

العلم سلاح الداعية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما بعد: فالدعوة إلى الله من أحب الأعمال إليه سبحانه وتعالى، ويشهد بذلك قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] (ومن دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء) ومن حمل هم وأمانة الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالة الله إلى عباده؛ فقد حمل أشرف الأشياء وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، بل إنه الشيء الذي خلق الله من أجله خلقه وهو عبادته، ولا عبادة إلا بالعلم، ولا عبادة إلا بالبصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]. فلا بد للداعية أن يستشعر -أولاً- ما هي الدعوة، وما هي الرسالة التي يحملها والأمانة التي في عنقه لأهلها، فإذا عرف عظم هذه المسئولية علم أنه يتكلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، وأنه يعقد الصفقة فيما بينه وبين الله أن يكون أجره على الله لا على أحد سواه {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وقال عن أنبيائه، نوح وهود وصالح وشعيب ولوط: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] أجرك على من بيده خزائن السموات والأرض، ويده سحاء في الليل والنهار أجرك على من يكتب لك الكلمة والجملة والحرف، على من يكتب لك الخطوة والتعب والنصب والسهر، ويكتب لك كل صغيرة وكبيرة سبحانه وتعالى، يحصيها لك فيكتب لك أجرها وثوابها، فتوافيه يوم توافيه بمثاقيل الحسنات إن تقبلها منك، وأجرك على من لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو الله جل جلاله. على الداعية أن يستشعر أن هذا المقام أحب المقامات إلى الله عز وجل، وهو مقام الأنبياء والرسل، فإن (العلماء ورثة الأنبياء)، ولابد على الداعية أن يجتهد في طلب العلم حتى يكون عالماً، ولا تكون دعوة إلا بعلم، ومن يريد أن ينال فضل الدعوة على أتم وجوهه، وأن يكون في أكمل صوره فليتم العلم وليأخذ وينهل منه، ويحرص على مجالسه، ويكون من أهل تلك الرياض التي تنشر فيها رحمة الله ويبتغى فيها ما عند الله، وعليه أن يصبر ويصابر ويجد ويجتهد فيها، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى في جميع ذلك حتى يبلغ من العلم أعلى المراتب، فإذا بلغ ذلك قام بالدعوة على أتم وجوهها وأكملها. أول ما ينبغي علينا هو طلب العلم، وإذا طلبت العلم فاطلبه بقوة وعزيمة وهمة صادقة، لا يثنيك عنها شيء، لا تثنيك عنها الدنيا وزينتها وغرورها وما فيها من متاعها الزائل وغرورها الحائل، إنما تجد وتجتهد وأنت تعلم أنك أنت الرابح، فلا تقوم بضعف وتظن أن الدنيا ستفوتك، وأن أهل الدنيا يتاجرون ويربحون وأنت لا تربح، لا، بل تطلب العلم وتعلم أنك أربح صفقةً وأكثر ربحاً في تجارتك مع الله سبحانه وتعالى، طلب أقوامٌ العلم فكفاهم الله همَّ الدنيا والآخرة، واقرأ في سير العلماء، فمنهم من كان لا يجد طعمة يومه، وتراه مرقع الثياب، حافي الأقدام، ولكنه أغنى الناس في الله جل جلاله، وأسعد الناس وأشرحهم صدراً، وألينهم جناناً، وأصدقهم لساناً، وأوضحهم بياناً، أغنى الناس بالعلم الذي وضع الله في قلبه وفي لسانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] لما صبروا في طلب العلم وتحصيله، لا يشتكي أحدهم من السهر ولا من التعب في طلب العلم، إنما يبحث عن هذا العلم بكل همة وبكل صدق وعزيمة. فإذا جدَّ طالب العلم في طلبه فعليه أن يعلم أن منزلته عند الله على قدر ما يحصل من العلم، فإن الله يرفع بهذا العلم درجات، وقد تجلس في المجلس الواحد وتدرس فيه مسائل قل من يضبطها ويحصلها، فتكفي الأمة همها، وتسد ثغرها، فيكون أجرك عند الله عظيم، فترفع درجتك على نفاسة هذا العلم، وبقدر ما كان علمك نفيساً عظيماً محتاجاً إليه بقدر ما تكون درجتك عند الله أعلى وأسمى. ويجب أن تعلم أن هذا العلم يحتاج منك إلى الأمانة، فإذا جلست في مجالس العلم ضبطت وتقيدت بما سمعت، فلا تزيد من عندك شيئاً، ولا تحدثن في دين الله برأيك ما لم يكن عندك حجة أو برهان. احرص في مجالس العلم على أن تسمع وتحفظ ثم بعد ذلك تعمل بضوء ما علمت، وتبلغ ما سمعت، وهذا أكمل ما يكون في العلم، أن يكون قلبك واعياً بكل ما يقال، وتتقيد بالكلمة لا تزيد ولا تنقص، وإن استطعت ألا تأتي بالمعنى وإنما تأتي باللفظ نفسه فهذا شيء حسن، فإذا بلغت ذلك كملت نضارة وجهك، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) إذا أردت أن تدعو إلى الله على أكمل المراتب وأفضلها فعليك أن تضبط العلم ضبطاً تاماً. إذا تعودت على هذا الضبط وضع الله لك القبول، وثق ثقةً تامة أن الله مطلع على سريرتك وعلى ما في قلبك، واعلم أن نظر الله إليك في كل مجلس وفي كل درس، فحاول أن تفهم وتضبط كل كلمة وكل عبارة وكل جملة، فالعلم تسمو به الأرواح والأنفس.

الاجتهاد في طلب العلم والصبر على ذلك

الاجتهاد في طلب العلم والصبر على ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام؛ إمام من أئمة السلف، وديوان من دواوين العلم والعمل، كان آية في القراءات، وفي علم اللغة في لسان القرآن آية في الحديث ويروي بالأسانيد، وآية في الفقه، وهو صاحب كتاب الأموال -رحمة الله عليه- وغيره من الكتب النافعة، وصاحب كتاب الغريب، فهذا الإمام العظيم وقف بعد صلاة العشاء بعد أن استوقفه رجل قدم عليه من خراسان يسأله عدة مسائل في الفقه، يقول: إنه وقف معه في شدة البرد، فقام معه رحمه الله يذاكره ويسأله وهو يراوح بين قدميه، فلم يشعر إلا وقد أذن الفجر. لا تستغربوا من ذلك، لا تظنوا أنه ضربٌ من الخيال، والله إنك إذا ذقت لذة العلم تسمو عن كل شيء، فإذا ذهبت إلى تلك المعاني المستنبطة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا الكنز العظيم أحسست بالغبن أن سلفك الصالح سهرت عيونهم وتعبت أجسادهم من أجل أن يخرجوا لك هذا العلم، وأنت عنه بعيد ولو لم يجد -الرجل منهم- إلا صخرة يكتب عليها لنقش العلم عليها حتى لا يفوت عمن بعده؛ لأن النصيحة لله ولأمة الإسلام، فرضي الله عنهم ورحمهم برحمته الواسعة، فإذا كانت هذه همة صادقة بذلها السلف لنا من أجل أن نحفظ علومهم، فالغبن كل الغبن أن ننظر إلى كتبهم وبيننا وبينها حواجز، ما نعلمها؛ لأن علمنا علم سطحي لا نتعمق فيه ولا نضبطه ولا نجتهد في طلبه. طالب العلم اليوم يقف عند الحكم فقط، دون أن يبحث عن الدليل ووجه الدلالة، وهل هو صحيح أو غير صحيح، وإذا كان غير صحيح فلماذا ليس بصحيح؟ فتغوص في أعماق العلم، فإذا أصبحت بهذه المثابة بوأك الله من العلم أعلى المكانة، فإذا تعبت وأصبحت تبحث عن كل صغيرة وكبيرة، وتجد وتجتهد، فلا تشتك من سهر ليل ولا من ظمأ الهواجر أو من غربة أو من تعب ونصب، وإنما تشعر بأنك أنت الرابح. لا إله إلا الله! كم من تاجر تجده الآن في الموسم، اذهب الآن إلى الأسواق في رمضان وفي ذي الحجة تجد التجار يسهرون ويتعبون ويحسون بالنشاط، والرجل تجده أمام أولاده يقول لهم: هذا موسمي هذا رزقي من الله عز وجل لا أفرط فيه، ويعتبر رجلاً لأنه وضع الشيء في موضعه، وهو يبحث عن الدنيا، فكيف بمن يخوض في رحمة الله جل جلاله؟ مكانك عند الله على قدر العلم، فابحث عن العلم الموروث من الكتاب والسنة، وابحث عن العلم المستنبط من الكتاب والسنة، فكن رجلاً يطلب العلم، ويجد ويجتهد، ولا تقف عند الأمور السطحية، وحاول أن تغوص في أعماق العلم، فإذا تعبت في طلب العلم طالباً أراحك الله مطلوباً، وإذا تعبت في طلب العلم طالباً وذللت فيه أعزك الله مطلوباً. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً) فكان رضي الله عنه يقف في يوم عرفة يفسر القرآن، يقول بعض أصحابه: (لقد شهدت من ابن عباس مشهداً في يوم عرفة لو رأته الروم لأسلمت) لقد وقف يفسر سورة النور آية آية، وكأنه يغرف من بحور، كان إذا تكلم في اللغة خاض فيها وفي لسانها وبيانها وأسرارها ونكتها وبلاغتها وفصاحتها، وإذا تكلم في علم القرآن رأيت العجب في استنباطاته وهو يستنبط، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، ومع كل ذلك العلم ورع وعمل مصحوب مع علمه رضي الله عنه وأرضاه، فهذا هو الذي يبحث عنه الإنسان.

من اجتهد في طلب العلم طالبا أكرمه الله مطلوبا

من اجتهد في طلب العلم طالباً أكرمه الله مطلوباً ما دمت قد عرفت شرف هذا العلم فعليك أن تضحي بكل ما تجد من أجل بلوغه، فإذا نظر الله إليك أثناء الطلب وأنت تتعب وتحصل، فاعلم أنه لا أكرم من الله ولا أوفى منه، فإذا تعبت اليوم فإن الله سبحانه وتعالى سيريك ثمرة تعبك، ولن تموت حتى يقر عينك بما ترى، إن كنت تعبت في الطلب وكنت تحرص على أخذ العلم كاملاً سخّر الله لك طلاب علم يتعبون كما تعبت، ويحبون العلم كما أحببته، ويأخذونه من فمك -طيباً مطيباً- كما أخذته من علمائك طيبا مطيباً، وكما أصبحت أنك قرت عين للعالم الذي أخذت عنه وهو يراك مجداً محصلاً فلا بد أن يقر الله عينك لطلابك، وهذه سنة لله عز وجل، وانظر في السلف؛ فإنك لا تجد طالباً لزم عالماً وأخذ عنه وضحَّى معه إلا ونبغ بعد وفاته، وأصبح مكانه يحاكيه ويماثله؛ ابن عباس عندما توفي جاء بعده سعيد بن جبير، وطاوس بن كيسان، ومجاهد بن جبر، فإذا نظرت إلى تلامذة ابن عباس كدت لا تفرق بينهم وبينه علماً وعملاً، فلا بد وأن يقر الله عينك بقدر تعبك في طلب العلم. الآن انظر إلى الذين يأخذون من الكتب ويقرءون فيها -ولو كانوا أذكى الناس- فإنهم إذا رقوا منبراً أو تكلموا في أمة لن تجد لهم من القبول والمحبة والرضا ما تجده لمن تغبَّرت قدماه وذلَّ تحت أقدام العلماء لله جل جلاله، فإنك تجد من المحبة والألفة والقبول لهذا ما لا تجده لذلك، مع أنه أذكى وأحفظ، لكن لن تجد له من القبول مثل ما تجد لهذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى عدل، ومن عمل خيراً فإن الله سبحانه وتعالى يوفيه خيراً في الدنيا وفي الآخرة. وفي زمن طلبي للعلم قلَّ أن نرى شاباً يطلب العلم، والله يشهد، ولا نقول هذا تفاخراً بل كل الفضل والمنة لله، وقد كنت -والله- أدخل المسجد النبوي وأرى كثيراً ممن يجلسون في مجالس العلماء هم من كبار السن، وكان الشيطان يأتيني ويقول لي: إذا مات هؤلاء فمن الذي يطلب عندك؟ ولو جلست تطلب العلم عشر سنوات فسيموتون أو يهرمون ولن يحضروا دروسك. هكذا كان عدو الله يقول لي، فلم نكن نرى الشباب بالكثرة التي نراها اليوم، ولكنها كلمة الله ودين الله، وإذا تولى الله دينه فإنه نعم المولى ونعم النصير. المقصود: أنه ينبغي على من أراد أن يدعو إلى الله عز وجل أن يتعب في طلب العلم، ويحرص على ألا يتصدر إلا بعد الضبط والجلوس بين أيدي العلماء حتى يكون له من القبول مثل ما كان لهم، بل إن الله يزيدك، وكان أحد السلف رحمه الله يقول: اللهم اجعلني كفلان، فقيل له: لا، بل قل: خيراً من فلان، فإن فضل الله عظيم وخزائنه ملأى، ويده سحاء في الليل والنهار، ومن أحسن ظنه بالله فإن الله لا يخيبه كما في حديث أحمد في مسنده قال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له). نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم اجعلنا ممن ظن بك الخير، ووفيته وزدته من فضلك يا كريم، اللهم اجعل علمنا حجةً لنا لا حجة علينا، اللهم بيض به وجوهنا، وثقل به موازيننا، وارحمنا به يوم عرضنا عليك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وآله.

حقيقة الالتزام

حقيقة الالتزام إن من ينتسب إلى الالتزام ينبغي عليه أن يكون قلبه مطمئناً بذكر ربه جل وعلا، وأن يكون راضياً بقضاء الله وقدره، حريصاً على فضائل الأعمال والإكثار منها، وأن يعلم أن هذه الطريق شاقة، ومليئة بمخاطر السخرية والاستهزاء والابتلاءات؛ فلا يثبت عليها إلا الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين وطلبة العلم المحتسبين.

وصايا للملتزمين

وصايا للملتزمين الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالآيات البينات بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

تذكر الموت في كل لحظة

تذكر الموت في كل لحظة الوصية الأخيرة التي يوصى بها كل من التزم بدين الله عز وجل: أن يحس بقرب الأجل؛ فإن طول الأمل في الدنيا يقسي القلوب، وإذا قست القلوب عميت البصائر -نسأل الله ألا يعمي لنا بصيرة- فإذا عميت بصيرة العبد ضل وأضل وشقي وأشقى، نسأل الله السلامة والعافية. فإذا قصر أملك في الدنيا خفت من الآخرة، وإذا خفت من الآخرة عملت لها فقوي التزامك، وكملت هدايتك، وأصبحت قوي القلب في طاعة الله عز وجل، وصورة ذلك: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). واحسس كأن الموت أدنى إليك من شراك نعلك، فكم من إنسان ضحك لأخيه وتبسم في وجهه ثم فارقه في طرفة عين! فالآجال مكتوبة، إذا جاء الأجل لا يستأخر ساعة ولا يستقدم. إذا أراد العبد أن يبارك الله له في هدايته جعل الموت نصب عينه، فإن ذلك يزيد من الطاعة ومن الالتزام والهداية، وكما أنه يزيد من الخوف من الله وخشيته سبحانه وتعالى، ولقد نغص الموت كل طيب إلا ما طاب لله جل جلاله: علمي بأني أموت نغص لي طيب الحياة فما تحلو الحياة لي فالإنسان إذا تذكر أنه سيموت ويرحل أحس أن أشجانه كلها للآخرة، وأن هذه الدنيا ما هي إلا كبلغة يتبلغ بها لدار ليس من بعدها دار، ولقرار هو القرار، إما في جنة وإما في نار، وسيعلم الإنسان منقلبه بينهما، فلا منزل ثابت يصير إليه غيرهما. نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبتنا بالقول الثابت، وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كما في الصحيح: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) فقولوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.

مدار الالتزام على القيام بحقوق الله والرضا بقضائه

مدار الالتزام على القيام بحقوق الله والرضا بقضائه وليعلم الملتزم أنه مهما التزم بطاعة الله فلا بد أن يمتحن، والله يقول في كتابه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] فلا بد من الابتلاء، وعلى هذا يكون مدار الالتزام على هاتين القاعدتين العظيمتين: إحداهما القيام بحقوق الله على أتم الوجوه وأكملها، ويدخل في ذلك الحرص على النوافل والخيرات، والثاني: الرضا عن الله سبحانه وتعالى في كل صغير وكبير وجليل وحقير، فمن التزم فإنه لا ينتكس عن التزامه إلا بأحد الأمرين: إما بإضاعته لحقوق الله، وإما بسبب سخطه على قضاء الله وقدره فضاقت نفسه؛ فضيق الله عليه في الدنيا والآخرة. فعلى الإنسان الذي ذاق حلاوة الهداية وأحب أن يبارك الله له فيها وأن يختم الله له فيها بخير أن يحرص على هذين الأمرين: أحدهما القيام بحقوق الله، فإن الله يرضى من عبده أن يقوم بحقه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:31 - 34] ادخلوها بسلام يوم سلمتم جوارحكم وأركانكم لله جل جلاله، أسلمت واستسلمت، وكل من أسلم واستسلم في بلاء فإن الله يعده على ذلك بالخير في الدنيا والآخرة. يقول الله عن نبيه إبراهيم وهو في أشد مواقف الابتلاء وأعظمها وأكربها، وقد أضجع ولده ووضع السكين عليه لكي يقيم حق الله الذي أمره به: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:103 - 105] قال العلماء: لما أسلم، أي: استسلم لأمر الله جاء الفرج. فكل من استسلم لقضاء الله وقدره ونزلت به الهموم والغموم فأسلمها لله معتمداً على الله متوكلاً عليه؛ فإن الله لا يخيبه، ومن ذلك: إذا التزم بدين الله وطاعته ومحبته.

الالتزام وحب القرآن والسنة

الالتزام وحب القرآن والسنة وإذا أحب الله عبداً وأراد أن يبارك له في التزامه حبب إلى قلبه كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الإنسان أن يرى مقدار حب الله له فلينظر إلى منزلة القرآن من قلبه، فإن وجد أنه يتأثر بالقرآن صدق التأثر، ويشتاق إلى القرآن كمال الشوق، وأن هذا الكتاب يبكيه وعيده وتهديده ويشوقه وعده، فليعلم أن له عند الله مكانة. إذا أصبح من أهل القرآن المتأثرين بآياته ومواعظه، المحبين لسماعه، والمتلهفين على تلاوته وتدبره، فليعلم أن تلك رحمة من الله سبحانه وتعالى، يصطفي لها من شاء من خلقه وعباده، جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل. إن العبد لا يزال يقرأ القرآن ويحبه حتى يشفعه الله فيه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، ولا يزال العبد يحب كتاب الله حتى يقر الله عينه بكلامه، وما من إنسان أحب القرآن صدق محبة ورغب فيه بصدق الرغبة إلا تبوأ منزلة عند الله وعند خلقه، ولذلك ترى أهل القرآن أشرح صدراً وأيسر أمراً وأكثر ذكراً، وهم عند الله بمكان، ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن القرآن يأتي يوم القيامة شهيداً أو شفيعاً لأصحابه) فنعمت الشهادة من كلام الله جل جلاله، ونعمة الشفاعة من كلام الله سبحانه وتعالى، فهو الشفيع الذي لا ترد شفاعته. والشهيد الذي لا تكذب شهادته! وإذا أراد الله بالملتزم خيراً حبب إلى قلبه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أردت أن ترى عبداً بارك الله له في هدايته فانظر إلى ذلك العبد الذي يبحث عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أراد أن يتكلم أخذ يبحث كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم؟ وماذا كان يقول؟ (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه) فيكون مسلماً حقاً قد سلم المسلمون من هناته وزلاته وخطيئاته وعوراته، فإذا تكلم تكلم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم؛ عفيفاً عن أعراض المسلمين، دالاً على الخير، مذكراً بالله سبحانه وتعالى، فلا تسمع منه إلا الذكر أو الشكر أو كلمة في منافعه الدنيوية، أما ما عدا ذلك فإنه أعف الناس عن قول الحرام، وأبعدهم عن فضول الكلام، فمن يتأسى بهديه صلوات الله وسلامه عليه في الأفعال حتى أنه لا يرفع قدماً ويضع أخرى إلا وهو يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في رفعها ووضعها، قال بعض السلف: (إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بسنة فافعل) بمعنى أنك لو أردت أن تقوم على شأنك الخاص فلتتذكر أن هديه عليه الصلاة والسلام أنه يبدأ باليمين قبل الشمال؛ فتبدأ باليمين قبل الشمال تأسياً به عليه الصلاة والسلام. فإذا وجدت الشاب المهتدي يسأل عن السنة، ويحرص على تطبيقها، ويغشى مجالس العلماء للعلم بها والعمل؛ فاعلم أن الله بارك له في التزامه وهدايته، وإذا وجدته غافلاً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعن هديه، فإن المحروم من حرم.

حرص الشباب الملتزم على فضائل الأعمال

حرص الشباب الملتزم على فضائل الأعمال مما يبارك الله به في التزام العبد: حرصه على فضائل الأعمال، فإن الله أوجب الواجبات، وحرم المحرمات، ودعا إلى الحسنات والطاعات، فالسابق إلى الخيرات الذي ذكره الله في كتابه، وأثنى عليه وجعله من أحبابه وصفوة خلقه هو الذي يحرص على النوافل كحرصه على الفرائض، فالذي يريد أن يبارك الله له في التزامه فليكمل إيمانه بالحسنات الفاضلة ولا يستهين بشيء من ذلك، فإذا أصبحت وأمسيت وأنت تحرص على كل حسنة -ولو كانت من الفضائل- لن تمسي وتصبح إلا وإيمانك على أحسن المراتب وأكملها، والعبد الذي تراه يحرص على السنة والنافلة التي ليست بعزيمة فإنه على الواجبات والفرائض ألزم وأحسن وآكد، والله تعالى جعل الحسنة تدعو إلى أختها، فمن حرص على الفضائل ونوافل العبادات، فأصبح طليق الوجه بالبشر والسرور للمسلمين يشتري رحمة الله عز وجل في سروره ويسره ورفقه بالعباد، يشتري رحمة الله بإفشاء السلام وإطعام الطعام وقيام الليل والناس نيام. إلى غير ذلك من خصائل الكرام، يقوى إيمانه، ويثبت قلبه، ويكمل يقينه، ويجد في قرارة قلبه حلاوة الإيمان التي لا لذة مثلها بفضائل الأعمال، ليس لنا عند الله حسب وليس بيننا وبينه نسب، ولا ينظر الله إلى ألواننا ولا إلى جمالنا، ولكن ينظر إلى ما كان منا من الأقوال والأعمال. فلترِ الله منك في التزامك وهدايتك حقيقة الالتزام بالكثرة من ذكر الله وطاعته عز وجل؛ ولذلك تجد العلماء وطلاب العلم الفضلاء أقرب الناس إلى الخير بسبب ما ألفوه من كثرة فضائل الأعمال، وقلّ أن تجد شاباً يحافظ على فضائل الأعمال ثم ينتكس، وقلّ أن تجد شاباً يحافظ على فضائل الأعمال فيقع في الانحراف؛ لأن الذي حفظ النوافل من باب أولى أن يحفظ الحدود والمحارم، والذي حفظ النوافل من باب أولى أن يحفظ الواجبات والفرائض، ولا تزال نفسك تحب هذه النوافل والفرائض حتى تعرف بها وتصبح ديدناً لك بحيث لو فقدتها كأنك فقدت الطعام والشراب. كان من السلف الصالح من إذا نام عن قيام الليل يبكي كأنه فجع بولده؛ لأنه يحس أنه ما فقد القيام في هذه الليلة إلا لأن منزلته نزلت عند الله عز وجل. عندما التزم السلف الصالح بهذا الدين التزموا التزام الموقن الذي يتحسس في كل صغيرة وكبيرة، بل حتى البلاء الذي ينزل إليه يتلذذ به، فقد أثر عن بعض العلماء قصة عجيبة: أثر عن هذا العالم أنه كان ذات يوم مهموماً مغموماً، وكان أحد طلابه ينظر إليه وهو في همه وغمه، فلما كان المساء جاءه رجل من عبيده وكلمه بشيء ففرح وزوال عنه الهم والغم، فقال التلميذ يستعجب مما جرى للشيخ: إني رأيتك يومي هذا وأنت مهموم مغموم، حتى أتاك فلان فأخبرك بخبر فسري عنك، فأخبرني يرحمك الله، قال: إني أصبحت ولم أر مصيبة في نفسي ولا في أهلي أو مالي أو ولدي، فقلت: قد نزلت مكانتي عند الله عز وجل، فلما أمسيت جاءني الرجل فأخبرني أن عبدي فلاناً مات، فعلمت أن منزلتي عند الله ما زالت. كانوا يعلمون أن الله إذا ابتلاهم أنه يحبهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم) فقوم بهذه المثابة يتلذذون بالمصائب وبالبلايا لعلمهم أن الله قدرها وكتبها، فيرضون بقضائه وقدره، لقد أصابوا منزلة عند الله بمكان، قوم بلغوا هذه المنزلة حتى تعود عليهم المصائب والمصاعب سلواناً وفرحة فوالله لقد كمل إيمانهم وعظم يقينهم، ولذلك عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة السوداء: (إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوت الله لكِ؟ قالت: أصبر ولي الجنة) ما دام أن النهاية الجنة أصبر وأحتسب وأرجو عند الله الثواب.

الالتزام والابتلاء

الالتزام والابتلاء العبد الملتزم والشاب الصادق في التزامه وهدايته يجد ويجتهد، ثم إن ربك إذا أحب عبده ابتلاه، فإذا التزم بدين الله صب الله عليه البلاء فضاقت عليه الدنيا ووسع الله ضيقه وعظمت عليه الهموم والغموم، حتى يفر من غير الله إلى الله، ويصبح في ليله ونهاره ينادي رباه رباه. إذا أحب الله الملتزم المهتدي المستقيم على طاعته صب عليه البلاء والهموم والغموم؛ لأن النفس البشرية إن غفلت وأعطيت النعمة أرخت لنفسها العنان في معصية الله جل جلاله، واتبعت الشيطان فكان صاحبها من الغاوين، ولكن الله يحب هذا العبد فيصب عليه الوساوس والهموم والغموم حتى ينطرح عند باب الله يناديه ويناجيه ويحس أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، تمر عليه اللحظات تلو اللحظات وقد ضاقت عليه نفسه، وعظمت عليه كربته، واشتدت عليه بليته ولكنها بالله هينة، وبمناجاته لله سبحانه وتعالى سعة ورحمة، وإذا بها اليوم تؤذيه ولكنها في الغد ترفعه وتكرمه بين يدي الله جل جلاله، اليوم تصب عليك الهموم والغموم والحسرات والفتن والمحن حتى من أعداء الله عز وجل عندما يستهزءون ويسخرون ويكيدون، ولكن الله سبحانه وتعالى يبدد هذه الأشجان والأحزان عنك، فيثقل بها ميزانك، ويعظم بها أجرك، ويكثر بها ديوانك، فتبكي اليوم من الهموم ولكن تضحك بين يدي علام الغيوب عندما ترى صحائف الأعمال حسناتها كأمثال الجبال. إذا رأى أهل البلاء ما عند الله من الأجر والمثوبة تمنوا أن حياتهم كلها بلاء، فإذا رأى الملتزم والمستقيم على طاعة الله جل جلاله أن سخرية الساخرين واستهزاء المستهزئين يثقل الميزان ويعظم الأجر عند الرحمن تمنى أن حياته كلها من هذا الضرب والمثيل، فاصبر وصابر واحتسب، وإذا أحب الله عبداً ملتزماً بدينه حببه للخير وحبب الخير إلى قلبه، فأصبح لا يرتاح ولا يأنس ولا يحس بسعادة إلا إذا كان قريباً من الله جل جلاله، تضيق عليه نفسه إلا في مجلس ذكر أو شكر، إذا خرج من المسجد أحس أنه ضيق النفس، فإذا دخل إلى المسجد إذا به يدخل منشرح الصدر مطمئن النفس، يدخل كأنه ورد على رحمة كورود الإبل التي اشتد ظمؤها على الماء البارد في اليوم الصائف أو أشد، كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال). فإذا كمل التزام العبد كمل إقباله على الله جل جلاله، فصلاته صلة، ودعاؤه صدق، وإقباله على الله عز وجل إقبال المجد المشمر عن ساعد الجد في رحمته ومرضاته جل شأنه وتقدست أسماؤه، ومعنى ذلك: أن كل من التزم بطاعة الله عليه أن يجعل نصب عينيه أنه مأجور على كل هم وغم وبلاء متى احتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى.

الالتزام قرب إلى الله سبحانه

الالتزام قرب إلى الله سبحانه إنها لمناسبة طيبة أن نجتمع في هذا المجلس المبارك على ذكر الله عز وجل وطاعته، خير ما اجتمعت عليه القلوب والتفت عليه الأرواح، فإن القلوب تصدأ وجلاء صداها بذكر الله عز وجل، والقلوب في قلق وحيرة لا طمأنينة لها إلا بذكر الله جل جلاله، وصدق الله تعالى إذ يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] إذا لم يكن في ذكر الله جل جلاله إلا أن الله يذكر من ذكره لكفى بذلك شرفاً وفضلاً للذاكرين. إن الله خلق العباد: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:26] منهم مهتدٍ ملتزم بطاعة الله جل جلاله أحب الله وأحبه الله، لا يبتغي عن سبيله تحويلاً ولا عن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم بديلاً يدرك أن هذا الوحي أصدق قيلاً وأحسن تأويلاً التزم بدين الله جل جلاله يوم رأى السعادة والنور والرحمة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، حينما وجد شيئاً طالما فقده، ووجد أمنية طالما تمناها، حينما أحس أنه أحوج من يكون إلى القرب إلى الله جل جلاله، فنفحه الله برحمته فدخلت الهداية من قلبه، فإذا أراد الله أن يبارك له في هذه الهداية رزقه ذكره سبحانه وتعالى؛ فأصبح قلبه متعلقاً بالله جل جلاله ينسى مع الله كل شيء، ويقبل على الله جل جلاله إقبال الصادقين، ويحب الله محبة المؤمنين الموقنين يعبد الله كأنه يسمعه ويراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وهي مرتبة المحسنين التي نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها أجمعين، قال جبريل عليه السلام: (يا محمد! ما الإحسان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فإذا كملت هداية الإنسان بلغ مراتب الإحسان. أصبحت أشجانه -أي: الملتزم- وأحزانه كلها لله جل جلاله، ولا يرتاح قلبه ولا تطمئن نفسه إلا بالكلمة التي تقربه إلى الله أو الخصلة -من خصال الخير- التي تدني به إلى جنة الله جل جلاله، يشتري رحمة الله حتى بالابتسامة يبتسمها في وجه أخيه، يشتري رحمة الله حتى بالكلمة الطيبة يريد بها ما عند الله سبحانه وتعالى، لا نفاقاً ولا رياءً ولا تصنعاً ولا تكلفاً؛ لكي يجذب بها قلوب الناس، ولكنه يريد ما عند الله جل جلاله من واسع رحمته وما يدريك فلعل هذه الحسنة التي تحرص عليها ينقذك الله بها من النار، فإن العبد قد تستوي حسناته وسيئاته فيستوي خيره وشره؛ فقد تكون عنده حسنات كأمثال الجبال تذهب بمظالم الناس فتستوي حسناته وسيئاته حتى يكاد يؤمر به إلى النار فتأتي حسنة واحدة ترجح بها ميزان الحسنات فينجو من نار الله جل جلاله.

الأسئلة

الأسئلة

تحضير الخطب والمواعظ

تحضير الخطب والمواعظ Q هل يشترط في إلقاء المحاضرات أو المواعظ التحضير؟ A هذا يختلف باختلاف الأشخاص، وينبغي لطالب العلم أن يكون علمه في صدره، وبعض العلم الذي يُلقى بدون تحضير قد يكون فيه من الفتح ما لم يكن في المحضر، فإن كان عنده أهلية وقدرة ووفقه الله عز وجل للأخذ بأسباب النجاح في الإلقاء فليتوكل على الله، أما إذا كان ضعيف الشخصية ولا يستطيع أن يتكلم إلا بتحضير فلا يتكلم بل يسكت؛ لأنه لا يأمن من التلعثم أمام الناس، فمن تعود على أن يعظ الناس من ورقة فلا يحرج نفسه ويحرج المقام الذي يقومه، فقد كان بعض العلماء والمشايخ إذا لم يحضر درسه لم يلقه؛ لأن الدرس يقوم على التحضير وقد تعوَّد هو على التحضير، وبعضهم يلقي بدون تحضير، فالبعض يكون مستحضراً متمكناً من علمه، والله تعالى يقول: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:162] وهذا يدل على أن أهل العلم منهم من يكون فيه رسوخ في العلم، والرسوخ في العلم أي: ثبات القدم فيه، ولا يكون ذلك إلا بتوفيق الله عز وجل ثم سعة العلم حتى يكون به على بصيرة، أشار الله إلى هذا المعنى بقوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57].

ترك البكاء أثناء وعظ الناس خشية الرياء

ترك البكاء أثناء وعظ الناس خشية الرياء Q ماذا تقولون فيمن يترك البكاء أمام الناس حين يعظهم خشية الإصابة بالرياء والعجب؟ A هذا عمر بن عبد العزيز خطب فأبكى الناس ثم قعد، خاف على نفسه الرياء، هذا يختلف بعض الناس يقوى خوفه من الله جل وعلا، حتى إنه يخاف أن يبكي أمام الناس، بل بعضهم لا يعظ الناس حتى يعرض موعظته على نفسه، فمنهم من يبكي بينه وبين نفسه أكثر من بكائه أمام الناس، فيجعل الله أثر محاضرته وموعظته وكلامه وخطبته بعد سماع الناس لها أكثر مما لو بكى فيها؛ لأنه لو بكى ربما دخله الرياء والعجب. ولذلك الله الله في المعاملة مع الله: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70] يعني: إن يعلم الإخلاص، والإنسان إذا تكلم والجنة والنار بين عينيه لا شك أنه يقول ويبلغ ويجعل الله لكلامه القبول، وهذا الشيء بيد الله جل جلاله، فهو المطلع على الخفيات وعلى النيات وهو الأعلم بالسرائر وبما تكن الضمائر. فالإنسان إذا خاف الرياء، نعم، لكن هناك أناس رزقهم الله قوة الإيمان، حتى لو بكى أمام الناس لا يبالي بهم، بل قد يبلغ من نعم الله على العبد أنه يدخل في المسجد وهو مليء بالناس كأنه جالس مع أخيه، لا يبالي بكثرة الناس أمامه ولا يلتفت لذلك، وهذا من كمال إخلاصه لله جل جلاله.

اشتراط السجود على السبعة الأعضاء في سجود التلاوة

اشتراط السجود على السبعة الأعضاء في سجود التلاوة Q هل يشترط في سجود التلاوة السجود على الأعضاء السبعة؟ A نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث ابن عباس: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء) وسجود التلاوة سجود.

استحباب سجود التلاوة على طهارة

استحباب سجود التلاوة على طهارة Q هل تشترط الطهارة لسجود التلاوة أو سجود الشكر؟ A فضلاً لا فرضاً، يعني: الأفضل أن يكون متطهراً.

شروط المسح على العمامة

شروط المسح على العمامة Q ما شروط وكيفية المسح على العمامة؟ A أولاً: أن تكون العمامة من عمائم المسلمين لا من عمائم أهل الذمة وهي -أي: عمامة أهل الذمة- العمامة المقطوعة التي لا ذؤابة لها، وعمامة المسلمين تكون لها ذؤابة، مثل هذه العمامة تعتبر من عمائم أهل السنة، وإلى ذلك أشار حسان بن ثابت يصف الصحابة: إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبعُ يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا فوصفهم بقوله: إن الذوائب، فدل على أن العمائم كانت لها ذؤابة، وجاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف وأرسل عذبة بين كتفيه، وقال: هكذا فاعتم يا ابن عوف) وكانت عمامته لها عذبة. والشرط الثاني: أن تكون على غالب الرأس، أن تغطي ما جرت العادة بتغطيته، فلو أنه كشفها عن رأسه إلى النصف إلى ما فوق الربع فلا يصح المسح، فلقد حددها بعض العلماء، أما لو كشف عن الناصية، بقدر ثلاثة أصابع، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه في حديث المغيرة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ ومسح بناصيته وعلى العمامة). الشرط الثالث: أن تكون طاهرة. أما القلنسوة إذا لف طرفيها وعقدها من مؤخرتها فتعتبر عمامة، ويجوز المسح عليها.

حكم خلع العمامة بعد المسح عليها

حكم خلع العمامة بعد المسح عليها Q إذا خلع شخص العمامة بعد المسح عليها، هل ينقض ذلك الوضوء أم لا؟ A في المسألة تفصيل فإن كان خلعه قبل أن تجف الأعضاء التي قبل الرأس الممسوح وهي غسل الوجه واليدين، فإن كان الوقت الذي خلع فيه قد يبست فيه يداه يستأنف الوضوء، أما لو مسح ثم غسل رجليه ثم قال: لا أريد العمامة، ولا زالت أعضاؤه لم تجف، فيمسح على رأسه ويغسل رجليه ويجزيه.

حكم المسح على الشماغات والغتر

حكم المسح على الشماغات والغتر Q هل يقاس بالمسح على العمامة المسح على الشماغ والغترة؟ A لا، لا يقاس؛ لأنها لا تعتبر عمامة.

نصائح للداعية إلى الله

نصائح للداعية إلى الله Q بعض الشباب وفق لطلب العلم وربما أصبح داعية إلى الله، يعظ الناس في المجالس والمساجد، ونريد منكم أن تذكروا لنا الضوابط في المواضع التي يتكلم فيها الداعية لعامة الناس، وذلك لأنه وقع إشكال في استخدام ذلك؟ A بالنسبة للمسائل الشرعية الفقهية المطروحة من العوام يعني حاصل السؤال أنه ربما يشوش على العامة، مثلاً: عندما يأتي ويفتح درساً ويكون فوق مستوى الناس فيحدث عندهم نوع من التشويش أو يحدث عندهم ارتباك في المسائل، فهذا لا يحبذ، بل تترك المسائل الدقيقة لمجالس طلاب العلم، أي: يجعل له درساً خاصاً بطلاب العلم الذين يفهمون، ويجعل للعوام درساً بالقدر الذي يناسب عقولهم، ولا شك أن تعليم أبناء المسلمين فيه خير كثير ويستوجب للعبد الرحمات والدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فيجعل للعوام بعد الفجر أو بعد صلاة العصر درساً يقوم فيه ألسنتهم بالفاتحة ثم ما بعد الفاتحة من قصار السور، ويتكلم عن آية أو آيتين في الآداب والأحكام يوجههم ويسددهم، هذا شيء طيب، فالناس بحاجة إلى ذلك، والقلوب تحتاج دائماً إلى من يذكرها، ولو لم يكن في الجلوس في مثل هذه المجالس إلا أن الله يرحم أهلها لكفى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة تقول: يا رب! فيهم فلان -عبد خطَّاء كثير الذنوب- جاء لحاجة معهم، قال: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) تأملوا في هذا الشخص الذي جلس مع الصالحين، ولم يكن جاء قاصداً المجلس، فكيف بمن قصد المجالس؟! ثم كيف بالعالم الداعية الذي تقوم عليه المجالس! فنسأل الله العظيم من فضله، لا شك أن هذا من بركة العلم، فالداعية أو الشاب الذي بمجرد أن يتفقه في الدين ثم ينشر علمه وينفع الناس ويبين لهم الحق فهذا يدل على أن فيه خيراً كثيراً. إذاً: من الصعب أن نضع الضابط المعين لما سبق، مثلاً: عندك بعض المساجد يكون أهلها في لهو الدنيا، كأصحاب الأعمال والمهن والحرف، فهؤلاء يختلف وعظهم باختلاف الشيء الذي تذكرهم به، والوقت الذي تذكرهم فيه، فمثل هؤلاء الذين يشتغلون أو أن عليهم ضغوطاً في الأعمال فتنفر وتسوء أخلاقهم بسبب ضغط الأعمال، فتأتيهم أنت بشيء من الدين لكي يقوي إيمانهم فتحسن معاملاتهم، فتربطهم بالله عز وجل من جهة أن الإنسان يبتلى في عمله ويكون العمل عليه شاقاً لكن الله يثيبه، وتذكرهم بأنهم قائمون على أولادهم وزوجاتهم فهم مأجورون عليهم، فتربطهم بالدين وتربطهم بالطاعة مع أنهم في حرف وأعمال يكونون في غفلة عن هذه النية، فيصبح الرجل ملتزماً بدين الله حتى في أثناء عمله، فتحيي في نفسه ارتباط بك والارتباط بالشرع. هذه الخطوة الأولى. الخطوة الثانية: بعد أن تعطيه هذه الطعمة وقد ارتبط بك تأتي له بالمرغبات من التذكير بالجنة وما عند الله من الرحمة، ثم بعد ذلك تأتي له بالمرهبات، أما الضابط والمقدار فهذا أمر يرجع إليك. وأقول: إن مدار الأمر على أعظمها وهو الإخلاص، فإنك إذا أخلصت لله عز وجل سيأتيك من التوفيق ما لم يخطر لك على بال، ولربما تخرج من الصلاة ثم تنتهي من الأذكار فتقف واعظاً دون أن يكون في نيتك الوقوف، لكن بمجرد أن تقف يفتح الله عليك بقول كلمة، فيهدي الله بها قوماً ظالمين، ويسعد بها أشقياء ومحرومون. فهذا من الأهمية بمكان أن يكون الإنسان صالح النية والمعاملة مع الله عز وجل، فأما أن نضع نحن الضوابط لذلك، فهذا صعب جداً، ولذلك أرى أن الأفضل أن يترك هذا لأحوال الناس، فإذا كان الإنسان مخلصاً لله عز وجل فإن الله سيفتح عليه. أذكر مسجدين كنت أصلي فيهما في أيام طلب العلم، فأما المسجد الأول: فكنت إذا أتيت إليه وأنا ليس بخاطري شيء وصليت مع أهله، فما إن أسلم إلا ونفسي تشتاق لوعظهم فيفتح الله عليَّ بكلام ما حضرته، ولكنه من الله سبحانه وتعالى، هؤلاء هم كبار في السن ومن البادية على فطرتهم، محبون للخير بشكل عجيب. وأما المسجد الآخر فلو أتيته وأنا محضر إذا بنفسي تستغلق، فلا أستطيع وعظهم؛ لأنهم مشغولون بالبيع والشراء وأهل دنيا، فكأنهم لا يدخلون المسجد إلا وهم يقادون بالسلاسل، فيصلون ويخرجون مباشرة، فسبحان الله! البون بينهم وبين أولئك شاسع. بعض الناس -مثلاً- قد يأتيك ويسألك مسألة في الفقه، وأنت تعلم منه الصدق والإخلاص وأنه يحبك ويجلك ويكرمك ويعظم العلم الذي تقوله، فتنشرح نفسك فتعطيه من العلم، وتحس أنك تأتيه بكل شاردة وواردة في المسألة، ويأتيك شخص -نسأل الله السلامة والعافية- غير ملتزم بالدين الالتزام المطلوب، أو يأتيك وهو معترض على السنة وعلى الوحي، سبحان الله العظيم! تريد أن تفتح فتجد الأمور كلها مغلقة في وجهك؛ لأنه ما هيأ نفسه بالإخلاص؛ لأن هناك ارتباط بين الواعظ والموعوظ، والمتكلم والسامع، والأمر مجرب، ولذلك نسأل الله أن يرحمنا برحمته. فوضع ضوابط شيء صعب، لكن أقول: الإخلاص، ثانياً: تحيُّن الفرص المناسبة، وهذا يرجع إلى ذكاء الإنسان، ثالثاً: الرفق، يعني: لماذا نقول: لا يطول الإنسان في صلاته ولا في خطبته؟ ليست القضية قضية أن الجمعة هذه يصلون معك في حدود ربع ساعة، لا. لكن القضية أنك إذا خطبت الخطبة الأولى -مثلاً- ربع ساعة والخطبة الثانية ربع ساعة والثالثة ربع ساعة وجئت يوماً وخطبت ساعة ونصف فلن تجد أحداً يقول لك: أطلت؛ لأن النفوس جبلت على أنك ترحمها وعلموا أنك رفيق بهم. فعندما تنظر إلى قضية أن هذا يختلف باختلاف الدعاة أمر مهم جداً، فإذا أوجدت عند الناس شعوراً في حب الخير والإقبال عليه سهل عليك أن تجد الأوقات المناسبة لوعظهم. والأخلاق الحميدة تفتح لك ما لم يخطر لك على بال، يعني: تصور الآن إماماً طليق الوجه للناس دائماً، فعندما يأتيه أفقر الناس يهش له ويبش كأغنى الناس، لا يوجد عنده تمييز بين الناس، فيراه الناس وهو طليق الوجه والجبين، وصفحة قلبه كوجهه، لا يغشهم بأن يكون في قلبه -والعياذ بالله- دخن، مثل هذا الشخص تكون دعوته مباركة، فأنت مثلاً -إن جئت للخطبة أو للموعظة- فمن حب الناس لك يأتيك المذنب لكي تنصحه، ويأتيك العاصي لكي تذكره، ما السبب؟ بفضل الله ثم بسبب أخلاقك، فصارت شخصية الداعية تعين على الدعوة وتعين على تهيئ الفرص المناسبة. فمعظم من يقع في الجرائم يأتي إلى المسجد منهاراً نفسياً، فلولا الله سبحانه وتعالى ثم إنه رأى من شخصية الإمام وما يسمع عنه وعن أخلاقه خيراً كثيراً لما أتى إليه. ولذلك حقيقة الضوابط ترجع إلى توفيق الله سبحانه وتعالى والإخلاص وكذلك شخصية الداعية، فهذا أمر مهم جداً، دائماً نحرص على قضية أنه يكون الإنسان رفيقاً ودوداً مع الناس حتى يستطيع أن يصل إلى قلوبهم، أما إذا كان الإمام جافاً مستعلياً وينظر الناس منه التناقض بين قوله وفعله، يرون إذا جاء الفقير لا يبالي به لكن إذا جاءه الغني أقبل عليه وسأل عنه وحيا به، فيرى الناس أنه ليس أهلاً لوعظهم ولا أهلاً لأن يرجعوا إليه. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم) فلذلك الأمر مهم جداً.

حكم من أفطر قبل الوقت لأذان المؤذن ثم تبين أن المؤذن مخطئ

حكم من أفطر قبل الوقت لأذان المؤذن ثم تبين أن المؤذن مخطئ Q مرض المؤذن في رمضان فأناب عنه أحد الإخوة، وفي جدة الأذان بعد أذان المدينة بخمس دقائق، فالأخ استمع إلى المذياع وكان أذان المدينة، فبعد سكوت أذان المدينة شرع في الأذان وأفطر معظم الناس على أذانه، مع العلم أن هناك فرقاً بما يقارب حوالي خمس دقائق فما حكم الذين أفطروا؟ A أولاً: مسألة أن أذان جدة لا يكون إلا عند انتهاء أذان مكة أو المدينة، هذا باطل، وينبغي إعادة النظر فيه، فإن أذان مكة ربما يطول وربما يقصر، ولا يقع فيه الاستعجال في بعض الأحيان، ولذلك لا يجوز الاعتداد بهذا الأذان؛ لأنه قد يطول أحدهما وقد يقصر في الآخر، فإن طول في السحور فقد أفطر الناس وإن قصر في الفطر واستعجل فإنه يفطر الناس قبل الوقت، والضابط أن كل بلد يعتبر بمغيب الشمس، وعلى الإخوة أن ينظروا إلى غروب الشمس فهو الضابط المعتبر أو تكون هناك تقاويم مضبوطة من أهل الخبرة، أما مسألة إذا سكت أذان مكة أو بلغ حيَّ على الصلاة أو حيَّ على الفلاح، كل هذا لا أصل له، ولذلك لا بد من ضبط هذه المواقيت ضبطاً دقيقاً، ومن هنا وصف المؤذن بالمؤتمن كما في حديث أبي هريرة في السنن: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) هذه أمانة. وأما مسألة فطر الناس على هذا الأذان فالذي يلزمهم قضاء هذا اليوم الذي أفطروا فيه قبل الوقت بخمس دقائق، والله تعالى أعلم. وقضية وضع التقاويم، إنما هي من عمل الفلكيين الذين لهم خبرة في درجات المدن، أما أن يطلق القول في هذا فلا. فالمسائل الطبية تتوقف على الأطباء، والمسائل التي ترجع إلى أعمال الناس ومعاشهم وأعراف التجار يبدع فيها التجار، هذه الأمور تضبط بضوابطها، ويكون المفتي يقعد القاعدة. المفتي يقول: العبرة في غروب الشمس، لكن أن ننظر إلى انتهاء أذان مدينة كذا، فهذا شيء باطل؛ لأنه من المعلوم أن الأذان قد يطول وقد يقصر، فحينما يقول: أشهد أن محمداً رسول الله ويمد، ليس كالذي يقول: أشهد أن محمداً رسول الله ويحذف، فهذا الفرق قد يصل إلى دقائق، فإذا كان المد في السحور فسيتأخر سحور الناس إلى وقت مؤثر، وإذا كان قد استعجل في الفطور فإنه سيكون الأذان القادم قبل الوقت بنصف دقيقة أو بدقيقة. فأنا أقول: من الخطأ الرجوع إلى أذان المؤذنين، فهذا خطأ، ولابد أن يوضع مقدار بين لأهل جدة، ولا ينبغي عليهم أن يفطروا الناس على هذا الأذان، بل ينبغي عليهم أن يضبطوا الوقت، حتى لو قالوا: بعد ثلاث دقائق، فلا حرج إذا قال الخبراء والفلكيون أنه بعد ثلاث دقائق، يصير في هذه الحالة أن الأوقاف تلزم المؤذنين بوقت الغروب فلا يتقيدون لا بأذان ولا بغيره، بل يصبح مردهم إلى الوقت حتى لا يضروا بإفطار الناس وسحورهم، فيا حبذا لو ينبه المؤذنون على هذا، والأئمة -أيضاً- عليهم أن ينصحوا المؤذنين.

علاج الفتور

علاج الفتور Q ماذا يجب على المسلم إذا فتر في عبادته وقصر حتى في السنن؟ A عليه أن يستغفر الله عز وجل، فإنه ما نزل هذا البلاء إلا بذنب، قال سفيان الثوري: (أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل أربعة أشهر). فإذا وجد الإنسان قصوراً في طاعة الله، فقد يكون بسبب عقوق للوالدين، أو قطيعة رحم، أو ظلم للزوجة أو الأولاد، أو أذية جار، ونحو ذلك من المظالم التي يغضب الله عليه بسببها، فمحق بركة الخير الذي كان فيه، فإن الخير لا يسلب إلا بذنب: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. فإذا فتر الإنسان فيكثر من الاستغفار؛ لأن الله قال: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] فالذي يستغفر يرحمه الله. ثانياً: أن يدعو الله عز وجل ويندم حتى يبلغه الله أجر عامل.

حكم خروج المرأة من بيت العدة لقضاء حوائجها

حكم خروج المرأة من بيت العدة لقضاء حوائجها Q هل يجوز لها أن تخرج من بيت العدة لإحضار أموال وأغراض من أهل بيت زوجها المتوفى؟ A هي ينبغي عليها أن تبقى في بيت زوجها المتوفى، وأما بالنسبة لخروج المرأة في النهار لقضاء مصالحها ففيه حديث صحيح، ولذلك إذا كان عندها أيتام وهي أرملة تسعى عليهم، وعندها عمل ولا كسب لها إلا من هذا العمل وأيتامها في عنقها لا تجد لهم عائلاً ولا من يقوم عليهم، فحينئذٍ يجوز لها أن تخرج وتعمل، لكن في الليل لا تبات إلا في بيتها، وترجع بعد العمل مباشرة وتأوي إلى بيتها تجلس فيه، لكن لو عندها كسب آخر وترك لها زوجها الثمن أو الربع وفيه غنى لها وكفاية، فتعتذر عن وظيفتها وتقدم إجازة، ولا يجوز لها أن تترك المقام في بيت زوجها؛ لأن عذرها زائل بوجود البديل.

حكم خروج المرأة من بيت زوجها المتوفى عنها أثناء العدة

حكم خروج المرأة من بيت زوجها المتوفى عنها أثناء العدة Q امرأة مات زوجها، فهل يجوز لها أن تجلس في بيت والدها أثناء العدة؛ لعدم وجود من يجلس معها في بيت زوجها المتوفى؟ A هذه المسألة الأصل في المرأة أن تسكن في بيت زوجها في العدة، قال صلى الله عليه وسلم في حديث فريعة بنت مالك بن سنان عندما توفي عنها زوجها: (امكثي في بيتك الذي جاءك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله) وأمر الله عز وجل من توفي عنها زوجها أن تتربص ببيت الزوجية أربعة أشهر وعشراً، وفي الصحيح من حديث أم سلمة أنه اشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تتألم من عينها تريد أن تكتحل وهي في عدتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، إنما هي أربعة أشهر وعشراً) وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم حبيبة في الصحيحين أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليالٍ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) ودلائل النصوص تلزم المرأة المتوفى عنها زوجها أن تمكث في بيت زوجها. لكن إذا كانت في موضع لا يؤمن على عرضها فيه، أو تخاف أن تقتل، أو تخاف الجوع، أو تخاف الضرر، يجوز أن تنتقل، وللعلماء تفصيل في هذا الانتقال: بعض العلماء يقول: تنتقل إلى أقرب أقرباء لها قريبين من بيت زوجها الأول، مثال: لو كان لها أقرباء في جدة وأقرباء في المدينة وبيت زوجها في جدة، فلا يجوز أن تنتقل إلى أقربائها في المدينة كابنها مع وجود أخيها -مثلاً- في جدة، بل تنتقل إلى أقرب بيت لها وهو بيت أخيها في جدة، وبعض العلماء يقول: وجود هذه الضرورة يبيح لها أن تعتد في أي بيت؛ لأنها عندما انتقلت من بيت زوجها صارت البيوت كلها بمثابة البيت الواحد، لكن الأحوط أن تكون في أقرب البيوت، وإذا انتقلت إلى بيت أبعد فلهذا وجه من فتوى العلماء. إذاً: لا يستثنى إلا من لم يؤمن عليها من الأذية في عرضها أو في نفسها أو تخشى أن يحصل لها ضرر فما تجد أحداً قريباً منها، فمثلاً: المرأة التي تكون في البادية والصحراء كان معها زوجها يحفظها بعد الله عز وجل، فتوفي عنها فلا تستطيع أن تبقى في البادية لوحدها، ولا تستطيع أن تبقى في بيت زوجها في ذلك المكان الذي لا تأمن فيه، لا على عرضها ولا على نفسها من أي شيء كان، ففي هذه الأحوال يستثنى للمرأة المتوفى عنها زوجها أن تخرج وتعتد في بيت أهلها.

صيام يوم عرفة بنية قضاء يوم من رمضان

صيام يوم عرفة بنية قضاء يوم من رمضان Q رجل صام يوم عرفة بنية قضاء يوم من رمضان، دون أن يقصد صيام يوم عرفة لذاته، فهل يكتب له أجر صيام يوم عرفة؟ A سئل عليه الصلاة والسلام عن صيام يوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والسنة الباقية) فيقول بعض العلماء: لا يتأتى هذا إلا بالقصد، يعني: أن يقصد يوم عرفة، ولذلك يخرج من الإشكال في أن يصوم يوم عرفة لذاته، ويترك القضاء إلى يوم آخر.

إذا انتهت عدة المطلقة ثم رجعت إلى زوجها بعقد جديد فلا يهدم الطلاق الماضي

إذا انتهت عدة المطلقة ثم رجعت إلى زوجها بعقد جديد فلا يهدم الطلاق الماضي Q إذا طلق رجل زوجته وانقضت عدتها ثم تزوجها بعقد ومهر جديد، فهل تعد تلك الطلقة أم لا؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين الجمهور والحنفية، وهي التي يسمونها: هل انتهاء العدة يهدم فيه أو يبني؟ يهدم بمعنى: أنه عندما عقد عليها عقداً جديداً فإنه حينئذٍ يصبح كأنه تزوج من جديد، هذا إذا كان قد تزوجها أحد من بعده، فيقولون: إنها تعود إلى الأول بعدد جديد ولا تعود بالأعداد الأولى. والصحيح مذهب الجمهور: أنه إذا خرجت من عدتها سواء تزوجها أحد أو لم يتزوجها أنها تعود ببقية الطلاق؛ لأن الله تعالى في كتابه قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] فأخبر أن الإنسان طلق طلقتين رجعيتين من حقه أن يسترجع فيها، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني: إذا راجعها أو عاد إليها فطلقها، فلم يفرق في الطلقة الثالثة بين كونها عادت بعقد جديد أو عادت بعد زوج أو لا، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور: أنها تعود وله بقية الطلقات، فلو طلقها طلقة ثم تزوجها رجل من بعده ثم عادت للأول فإنها تعود له بطلقتين، يقولون: يبني. أما الحنفية فيقولون: أنها تعود بعد الزوج الثاني بعقد جديد وعدد من الطلاق جديد؛ لأنهم يرون أن البناء بالزوج يهدم، والصحيح ما ذكره الجمهور. والله تعالى أعلم.

جناحا السلامة للمؤمن الخوف والرجاء

جناحا السلامة للمؤمن الخوف والرجاء Q ما قولكم فيمن يخاف الموت خوفاً شديداً جعله ذلك يعطل مصالحه ومصالح أبنائه، فلا يرى أن يقوم ببناء بيتاً لأهله مثلاً، فكيف تحثه على ترك هذا الغلو؟ A تحثه على ذلك بأن تذكر له أن الله يعظم أجره ويجزل ثوابه يوم أحسن لورثته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) دين الإسلام دين عمل وليس دين عبادة فحسب، بل جعل العمل من العبادة: (حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته يكون له بها أجر) (قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر) فالإسلام دين عمل وليس دين خمول وكسل، فإذا كان ذكر الموت يمنع الإنسان من الوقوع في محارم الله، فهذا شيء طيب، أما أن يمنعه من أن يصلح حاله وحال أولاده ويحسن إليهم من بعد موته فهذا غير صحيح، وقد يعرضهم ذلك للفتن وللوقوع في الحرام، وفي أمور لا تحمد عقباها، فينبغي عليه أن يأخذ بالأسباب من الآن، ولا حرج عليه أن يشتري الأرض ثم يبني عليها الدار وأن يحسن لأولاده، فهذا مما يثاب ويؤجر عليه بإذن الله عز وجل. ومن حسنات الإسلام أنه لا يجعلنا فقط نقتصر على الرهبنة، والخوف نوعان: خوف فيه التزام بحدود الله عز وجل وهو الخوف المحمود، وأشار إليه شيخ الإسلام بكلمة جميلة لطيفة فقال رحمة الله عليه: أصل الخوف ما كف عن حدود الله، وما زاد فلا يضرك تركه. لماذا؟ لأن الزائد قد يوصل الإنسان -والعياذ بالله- إلى درجة القنوط، الخوف لا يراد لذاته إنما يراد لمعانٍ وهي المعاملة مع الله عز وجل، فيعينك على كثرة الخير وقلة الشر، فإذا حملك على هذا فإنه لا يضرك ما زاد عنه. النوع الثاني من الخوف: الخوف الذي يخرج به إلى ترك المباحات، يقول مثلاً: لا آكل الطعام اللذيذ، لماذا؟ يقول: أخاف أن الله يحاسبني عليه، هذا -كما قال العلماء- الورع الكاذب. سئل الإمام أحمد عن رجل يقول: (لا آكل الفالوذج، فقال الإمام أحمد: ولماذا؟ قالوا: لأنه يقول: لا أستطيع أن أؤدي شكرها، قال: قبّحه الله، أويستطيع أن يؤدي شكر الماء البارد في اليوم الصائف؟) يعني: لو كان هذا المبدأ لما أكلنا ولا شربنا، فهذا هو الورع الكاذب، في بعض الأحيان الشيطان إذا يئس من العبد في باب الشر جاءه من باب الخير. فالإنسان يكون خوفه منضبطاً بالعلم وبأصول الشرع، ولا بد من جناحي السلامة: الخوف والرجاء، فيكون الإنسان بين الخوف والرجاء، ولذلك وصف الله أهل الجنة بهما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] فجمع بين الخوف وبين الرجاء، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] فهذا يدل على أنه لا بد من الجمع بين الخوف والرجاء، وهما كما يقول العلماء: جناحي السلامة. والسلف الصالح شبهاهما بالجناحين؛ لأنه لا يستطيع الطائر أن يطير بجناح واحد، فإذا كان الإنسان لا يعبد الله إلا بالخوف فقط فلا يأمن على نفسه أن يقنط من رحمة الله وأن ييأس من روح الله والعياذ بالله، وإذا عبد الله بالرجاء فقط وترك الخوف فإنه لا يأمن من الاستخفاف بحق الله والوقوع في محارمه، نسأل الله السلامة والعافية.

حكم صيام النوافل قبل قضاء الصيام الواجب

حكم صيام النوافل قبل قضاء الصيام الواجب Q هل يجوز لمن عليه قضاء من رمضان أن يصوم ستاً من شوال ثم يقضي ما عليه؟ A يجوز صوم ستة من شوال قبل القضاء؛ لأن القضاء موسع، وإذا كان القضاء موسعاً يجوز أن يتنفل الإنسان قبله، ولا حرج على المرأة -مثلاً- أن تصوم ستة من شوال، ولا حرج أن تصوم يوم عرفة والعاشر من محرم وتصوم يوم الإثنين والخميس وتؤخر القضاء، لكن الأفضل أن تصوم قبل الست من شوال، لكن لو أخرت لا حرج عليها؛ لأننا لو قلنا إنه لا بد أن تقضي -أولاً- ثم تصوم الست فعندما تكون نفساء قد تستغرق رمضان كله، فبناءً على ذلك ستخرج من الفضل؛ لأنه لا يكون عليها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال ... ). فصيام رمضان يأتي على صورتين: إن كان في رمضان فهو في رمضان، وإن كان أفطر لعذر فصيام رمضان ينتقل إلى عدة من أيام أخر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فإذا كان عدة من أيام أخر يصبح من صام العدة من أيام أخر كأنه صام رمضان؛ لأن القضاء ينزل منزلة الأداء. والله تعالى أعلم.

حكم من أفطرت في صيام القضاء طاعة لزوجها

حكم من أفطرت في صيام القضاء طاعة لزوجها Q امرأة عليها قضاء من رمضان، فصامت ثم جاء زوجها وقال لها: أفطري، فأفطرت، وربما وقع شيء من الجماع، فماذا يترتب عليها؟ A من صام في القضاء لا يجوز له أن يفطر إلا من عذر، بل قال بعض العلماء: من صام القضاء وأفطر بدون عذر عليه الكفارة. والصحيح أنه ما عليه كفارة، فإذا صامت قضاءً ثم أفطرت ثم وقع الجماع بعد الفطر فإنه لا شيء عليها، لكن عليها الندم والاستغفار وتقضي مكان هذا اليوم يوماً آخر.

حكم السارق غير البالغ

حكم السارق غير البالغ Q رجل كان في صغره يأخذ من قريب أموالاً ليست له وكان عمره آنذاك اثنتي عشرة سنة -أي: قبل أن يبلغ- وكان يأخذ هذه الأموال بدون علم صاحبها، وقد مات صاحب هذه الأموال منذ فترة طويلة، والآن يريد أن يرد هذه الأموال، فماذا يعمل؟ A أولاً: الصغير إذا سرق أو أتلف مالاً فإنه يجب ضمان هذا المال بإجماع العلماء، ولذلك يقولون: لو قتل الصبي وكان قتله قتل عمد فإنه يصير خطأً، فيجب عليه الضمان فتكون عليه الفدية، ولا تكون عليه كفارة ولا يكون عليه إثم؛ لأنه غير مكلف. فعند الشرع جانبان: الجانب الأول: الحكم التكليفي. الجانب الثاني: الحكم الوضعي. فالحكم التكليفي: هو الحكم بالإثم، كالوجوب والندب والاستحباب، أي: الأحكام التكليفية المعروفة، فهذه لا يكلف بها الصبي، أما بالنسبة للضمان: فهو حكم وضعي، سواء كان الصبي مكلفاً أو غير مكلف فإنه يجب ضمان ما أتلفه. فالمال الذي سرقه الصبي يجب ضمانه، والمال هذا يقدره الصبي بعد بلوغه، فإذا عرف مقدار ما سرق فيجب عليه أن يرده لورثة الميت، وحكمه حكم التركة، ويستغفر الله -أيضاً- للميت. أما إذا كانت هذه الأموال لا يعلم صاحبها، ففي هذه الحالة قال العلماء: يتصدق بها على نية صاحبها، والسبب في هذا، أنه إذا وقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة وجاء صاحب المال يطالبه بهذا الحق وجد من الحسنات على قدر مظلمته؛ لأنه تصدق بها على نية صاحبها، فيوفى لصاحب الحق حقه، وهذا هو أصح الأقوال عند العلماء. والله تعالى أعلم.

سؤال في الأذكار

سؤال في الأذكار Q قول: (لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير) في الصباح والمساء، وما صحة هذا الذكر؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الله، الرواية: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) يقولها عشراً إذا أصبح، وعشراً إذا أمسى، هذا من أذكار الصباح والمساء، وهذه الزيادة لا أحفظ فيها شيئاً صحيحاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

كيف نواجه الفتن؟

كيف نواجه الفتن؟ إن الله عز وجل يمحص إيمان المؤمن ويختبر معدنه، وقد جعل الله ما يكون في هذه الدنيا من الفتن والمحن والبلايا فتنة للمؤمن، وبعضها يكون محكاً يميز المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب، فالمؤمن يعتصم بالكتاب والسنة، ويضبط جوارحه وفقهما.

ضوابط مواجهة الفتن

ضوابط مواجهة الفتن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة عباد الله المهتدين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأخيار المهتدين، وعلى جميع من سار على نهجهم إلى يوم الدين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا المجلس خالصاً لوجهه، وأن يجعله موجباً لرحمته ومغفرته، وأسأله كما كتب لنا هذا الاجتماع الطيب المبارك في الدنيا أن يكتبه لنا في الآخرة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. إخواني في الله! الإيمان بالله عز وجل يحتاج من صاحبه إلى أمورٍ مهمّة، وقواعد ثابتة، ومن خلال هذه الأمور والقواعد، يستطيع المؤمن أن يكون صادقاً في إيمانه، صادقاً في طاعته وعبوديته لربه.

ضبط الجوارح والابتعاد عن الأهواء

ضبط الجوارح والابتعاد عن الأهواء يا شباب الصحوة! إننا بحاجة لمراقبة الله في أقوالنا وأسماعنا وأبصارنا وفي جميع حركاتنا وسكناتنا، إذا جاءت أي فتنة بنا إذا بنا نفترق شيعاً وأحزاباً! هذا يقول: لا، وهذا يقول: نعم، وهذا يقول: لا أقول لا ولا نعم؛ لأننا بعدنا عن كتاب الله، فأصبحنا في حيرة، وأصبحنا نقيم أنفسنا في الفتن والمحن بالأهواء والشهوات، فالله الله في دين آمنّا به! الله الله في سنة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سلمنا لها! أعط كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هواك، والتزم ما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإياك ثم إياك أن ينظر الله إليك لحظة في الحياة وقد عبدت هواك! فإن الله عز وجل يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] يقول بعض العلماء: الغريب أن هذه الآية أخبر الله عز وجل فيها عن أمرين: الأمر الأول: قال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، والأمر الثاني: قال: (أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) فأخبر أنه ضال، وأنه على علم -يعني عنده علم وبصيرةٌ- نسأل الله السلامة والعافية، يقول بعض العلماء: في هذا دليل على خطر الأهواء، إذا جئت إلى قضية إياك والهوى! ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) إذا جئت في أي قضية وأنت تهوى شخصاً معيناً أو طائفةٍ معينة فالتزم الحق، ولا تلتزم الأهواء، ولا تلتزم زيداً ولا عمراً، ولكن التزم كتاباً من الله أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، التزم كتاباً من اعتصم به نجا، ومن ابتغى الهدى في غيره ضل وغوى، التزم هذا الكتاب، واشرح له صدرك، وارضَ به حكماً وفيصلاً لك، فمن رضي بكتاب الله أرضاه الله، وكان له حسن العاقبة من الله. إخواني في الله! أخوف من نخافه بعد الالتزام والهداية هي هذه الفتن، فتن القيل والقال، وأعظم ما تكون هذه الفتن إذا كانت فيها حقوق للمسلمين، والبلاء كل البلاء إذا كان الإنسان يتحدث بشيء لم تره عينه، ولم تسمعه أذنه، ولم يشهده ولم يحضره، والله تعالى يقول: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] فالإنسان المؤمن البر والعفيف الصالح لا يشهد إلا بما علم، وأما ما لا علم له، فيكله إلى الله عز وجل علام الغيوب، فالله الله إخواني في الله، أن تأتي هذه الفتن فتصدنا عن دين الله، أو تجتالنا عن صراط الله، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ينجينا وإياكم منها، وأن يعصمنا وإياكم من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يثبتنا وإياكم على الصراط المستقيم، والسبيل القويم، إنه هو البر الرحيم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الاعتصام بالكتاب والسنة

الاعتصام بالكتاب والسنة فأول ما يفكر فيه الشاب الملتزم في أي قضية تمس دينه، وأي مسألة تنزل به أن يفكر في طاعة الله عز وجل، أن يسأل ماذا قال الله؟! وماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! هذه القضية الأولى، إذا جاءك أي قول فاعرضه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعد ذلك التزم حكم الله ولو كان بخلاف ما تهوى، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] أهل الإيمان من صفاتهم التسليم للرحمن وأهل الإيمان من صفاتهم الانقياد لكلام الديان هذا هو الإيمان الحق، والله إذا نظر الله عز وجل إليك في الفتن والمحن لا تبتغي سبيلاً غير سبيله، ولا طريقاً غير طريقه أحبّك وأدناك، واصطفاك واجتباك، وأنقذك من شرور هذه الفتن والمحن، ولذلك يقول بعض العلماء: إن الله عز وجل أخبر عن الفتن على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أخبر بعلاجها حينما أمر الصحابة بالاعتصام بالكتاب والسنة. وفي الحديث الصحيح -حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب الصحابة، وكانت خطبة بليغة، وموعظة عظيمة، حتى أن العرباض رضي الله عنه قال: (وعظنا موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت من العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا) قال: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) فأول ما يفكر فيه الإنسان الملتزم الحق إذا جاءته فتنة أن لا يقيم الفتن بالرجال، ولا يقيمها بالقيل والقال، ولكن يقيِّمها بكتاب الله وسنة المهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقيِّمها حينما يسمع الأقوال والأفعال، ويزنها بهذا الميزان، ولذلك لا نجاة إلا لأصحاب هذا الخلق المبارك، خلق الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذه منحة من الله لا يشرح لها كل صدر، ولكن يشرح لها عباده الصالحين الصادقين في الإيمان، الصادقين في العبودية للرحمن، وخير ما يوصى به المؤمن في خضم هذه الفتن والمحن أن يعف لسانه، وسمعه وبصره، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تكون فتنة، النائم فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي) فتن تهز القلوب، قد تخرج منك كلمة توجب دمار الحياة، وتنتهي بالإنسان إلى الدمار والشقاء، في خضم الفتن لا تأمن أن تخرج منك كلمة في إخوان لك في الدين، أو تخرج منك عبارة يضل بها أقوام، أو تشهد على أناس بشهادة تُغل بها عنقك بين يدي الله عز وجل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] فالله الله في الفتن!

التسليم والانقياد لله تبارك وتعالى

التسليم والانقياد لله تبارك وتعالى هذا الإيمان أساسه التسليم والإذعان لله تبارك وتعالى، فالمؤمن الحق هو الذي أسلم لله ظاهراً وباطناً، وهذا الإسلام يستلزم منك أموراً ينبغي عليك أن تقوم بها، وهذه الأمور دلائل تدل على صدق عبوديتك لله عز وجل، وقد شاء الله عز وجل أن يمتحن أهل الإيمان، وأن يبتلي صبر أهل الإحسان، ليميز الله الخبيث من الطيب، وليُظهر عز وجل صدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وأعظم أمرٍ يظهر به إيمان المؤمن، وتسليمه لله عز وجل وإذعانه لله إذا نزلت الفتن، وادلهمّت المحن، وأصبح الإنسان بين الدعاة، كلٌُ يدعو إلى سبيل، وكلٌ يَظن أنه دليلٌ ونعم الدليل، وأصبح الإنسان بين أممٍ مختلفة، وآراء متباينة، تعصفه فتنٌ كهذا النوع، عندها يظهر إيمانه ويقينه وإسلامه وانقياده لله عز وجل، ولذلك أهم سمة للمؤمن في الفتنة والمحنة أنه معتصم بالله عز وجل، راجعٌ إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إن المؤمن الصادق إذا حصلت أي فتنة بين إخوانه أو خلانه له سبيل لا يرضى بسواه، وطريق ومنهج لا يبتغي عداه، له سبيل واضح أساسه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا السبيل سار عليه سلفنا الصالح، وسارت عليه الأمة المهدية الصالحة التقية، التي عرفت ربها، وراقبت خالقها، وانتهجت المناهج التي فيها فلاحها وفوزها. إذا نزلت الفتن أو المحن بالمؤمن فإنه لا يعتصم بغير الله عز وجل، ولا يعرف طريقاً غير طريق الكتاب والسنة ولا جماعة غير جماعة الكتاب والسنة، من دعا إلى قول الله أجابه: لبيك وسعديك! ومن دعا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجابه قلباً وقالباً، إننا في أمس الحاجة أن نحقق التزامنا، وأن يكون الملتزم صادقاً في التزامه وإيمانه، فليس الإسلام بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإسلام الحق: الاستسلام والانقياد لله تبارك وتعالى، العبودية الخالصة التي يرضاها الله عز وجل منك في أي حالة وأي ظرف، فنحن نحتاج إلى هذا الاستسلام لأن الأهواء كثيرة، والآراء متناقضة متباعدة، ولكن كتاب الله حبلٌ متين، وصراطٌ مستقيم، لا يضل عنه إلا هالك، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى فضل هذا السبيل، وعلى علو مقام هذا الدليل، فأخبر أن من رحمة الله عز وجل أنه أبقاه ما بقي النيِّران -أبقى الكتاب والسنة- ما بقيت الدنيا، وما بقيت الحياة، غضة طرية كأنها نزلت اليوم.

الأسئلة

الأسئلة

المجيء إلى صلاة الفجر بدون حذاء

المجيء إلى صلاة الفجر بدون حذاء Q هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأتي لصلاة الفجر بدون نعال؟ A لا أحفظ سنة في أنه كان عليه الصلاة والسلام يأتي إلى صلاة الفجر بدون حذاء، وقد تكون هناك سنة، أنا لا أحفظ حسب علمي حديثاً في ذلك، النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتعل، وكذلك أيضاً ورد عنه أنه احتفى، وكلٌ جائز، والأمر على السعة، لكن بعض العلماء يقول: إن الشيء قد يجوز، لكن قد يكون فيه نوع من خوارم المروءة في بعض الأحيان، أو إساءة ظن فيتقى ما أمكن، حتى يكون الإنسان أبعد عن الريبة، وأسلم له ولغيره، والله تعالى أعلم.

حكم قضاء صلاة الليل والوتر بعد طلوع الشمس

حكم قضاء صلاة الليل والوتر بعد طلوع الشمس Q ما حكم من نام عن صلاة الليل والوتر، هل يقضي عندما يستيقظ لصلاة الفجر؟ A يقضيها بعد طلوع الشمس، والوتر يشفعها بركعة لحديث عائشة في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فاته قيام الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة) فالسنة أنه يقضيها، وأصح الأقوال أن الوتر يقضى بعد طلوع الشمس، ولا يقضى بين الأذان وإقامة الفجر على الصحيح، وإن قضاه بين الأذان والإقامة كما هو مذهب بعض الصحابة فلا حرج، لكن الأولى والأحسن أن يقضي بعد طلوع الشمس، والله تعالى أعلم.

صلاة الضحى تبدأ من بعد الإشراق إلى قبل الزوال

صلاة الضحى تبدأ من بعد الإشراق إلى قبل الزوال Q متى يبدأ ومتى ينتهي وقت صلاة الضحى؟ A صلاة الضحى تنتهي في الضَحّى، لأن هناك ضُحى وهناك ضَحى، فالضُحى بالضم يكون بعد الإشراق إلى اشتداد النهار قبل الزوال، والضَحى بالفتح، يكون قبل زوال الشمس بساعة تقريباً، فينتهي الضحى قبل الظهر بساعة ويبدأ وقت الضَحى التي فيها القيلولة وفيها حديث في البخاري، فنرجع إلى بيوتنا فنقيل قائلة الضَّحى، وبالمناسبة قائلة الضَحى هذه خير ما يعين على قيام الليل، وهي القيلولة التي قبل صلاة الظهر، وهي غالباً إذا نام الإنسان تعينه على قيام الليل، لكن لا يترك الوظيفة وينام، فيفعل ذلك إن أمكن، وإن لم يستطع إن شاء الله يعينه الله عز وجل، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وسلم تسليماً كثيراً.

مراقبة الله في السمع والبصر والفؤاد

مراقبة الله في السمع والبصر والفؤاد Q أريد منك يا شيخ كلمة توجيهيةً تبين لنا فيها مضار التلفاز؟ A ابحث عن واحد يجلس أمام التلفاز يعرفك بأخطاره. والأهم من ذلك أن نأتي إلى أصل القضايا، فأصل القضايا هي الإيمان، وبدلاً من الكلام عن التلفاز وما فيه، فنتكلم عن أساس الأمور وهو الإيمان بالله ومراقبته في السمع والبصر والفؤاد، هذا الذي نتكلم عنه، والله ثم والله لا نؤثر هذا الطريق إلا لعلمنا بنفعه وصلاحه؛ لأن الإنسان قد ينتقد مثلاً وسيلة معينة، ويتكلم عنها، ثم تأتي وسيلة جديدة، ما رأيكم؟ يقول هذا شيء ما سمعنا أحداً يحرمه فيفعلونه، لكن حينما تأتي بالشاب وتغرس في قلبه إيماناً بالله، ومراقبة لله في السمع والبصر والفؤاد، فما من شيء يدعو إلى حُرمات الله، إلا هو مستعد لأن يتركه، كالتلفاز، مستعد أن يترك أي شيء فيه فتنة، متى؟ إذا وجد الإيمان، فهو القضية الأساسية أهم شيء عندنا، فكل الذي نريده أن يوطِّن الإنسان نفسه على الإيمان بالله، وتقواه ومراقبته عز وجل، وبعدها ائت بأي شخص وقل له: ما حكم النظر إلى المرأة الأجنبية؟ هل يتجرأ أن يقول حلال؟ أبداً والله، لا يستطيع، فالأمور واضحة لا تحتاج إلى أن يجلس الإنسان يفصّل ويتكلم فيها، ويذكر مجون أهل المجون، فتقسوا القلوب لا والله، والله إني أجل هذا المجلس عنهم، ولذلك أقول: الأساس أن تغذي قلبك بالإيمان وبطاعة الله تبارك وتعالى، وأن نحرص أن نربي أبناءنا على ذلك، ونسأل الله عز وجل أن يكرمنا وإياكم بأن نراقب فيها جوارحنا في طاعة مولانا وربنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

خير الأدعية ما كان من الكتاب والسنة

خير الأدعية ما كان من الكتاب والسنة Q هناك كتاب اسمه: (حرز الجوشن) فهل هو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لا؟ وما حكم الدعاء به؟ A أما هذا الكتاب ما وقعت عيني عليه ألبتة، ولا أعرفه، وسمعت أحد المشايخ يذكره، ويقول: إنه من كتب المبتدعة، وهو ممن يوثق بعلمه، ولذلك يتقى ويبتعد منه، وأوصي إخواني الذين يريدون الأدعية وكتبها، أن يبحثوا عن أدعية كتاب الله عز وجل، وكذلك صحيح البخاري وصحيح مسلم، ينظرون كتاب الدعوات، ويدعون بهذه الأدعية المأثورة، وأذكار الصباح والمساء الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه فيه الغناء والبركة، والآن ما شاء الله هناك بعض الكتب صدرت طيبة منقحة، وأحاديثها معتنى بها، كزاد المسلم، وحصن المسلم، فهذان الكتابان أنا أراهما أنهما يغنيان عن غيرهما، ولو كان الشاب الصالح يريد كتاباً يعتني بأذكار الصباح والمساء والأدعية، أرى أنه يرجع إليهما ففيهما خير كثير، والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن يحتفل بالمولد النبوي

نصيحة لمن يحتفل بالمولد النبوي Q هل من نصيحة توجيهية إلى أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم -الصادقين- نحو المبتدعة، خاصة وأنهم على مرمى قوسٍ من احتفالهم بالمولد كما يدعون؟ A نصيحتي أولاً أن تقيم حجة الله على عباد الله، تنصح وتذكر بالله عز وجل بأسلوب طيب وحكمة، وموعظة حسنة، عل الله عز وجل أن يشرح على يديك صدوراً طالما عميت عن طاعة ومرضاة الله، تبين لهم الحق، وتدلهم عليه بأسلوب طيب، وحكمة وموعظة حسنة. الأمر الثاني: أن الإنسان ينبغي عليه أن يكون حكيماً في تعامله مع أهل الباطل أياً كان باطلهم، فلا يفعل الأفعال التي تؤدي إلى النفور من الحق، أو تؤدي إلى عدم قبول الحق، بل عليه أن يتعاطى الأسباب التي تهيئ لمن ينصحه القبول، وتهيئ عاملاً نفسياً وروحياً أن يتقبل ممن ينصح، ومثل هؤلاء يمكن للإنسان أن يؤثر عليهم من خلال المحبة التي يدعونها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتبين لهم أن المحبة الكاملة هي محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم ما كانوا يحتفلون، فتقول له: إما أنك خيرٌ منهم، وإما أنهم خيرٌ منا، ولا شك في ذلك، فإذا كانوا خيراً منا فينبغي أن نفعل ما فعلوا من عدم الاحتفال، وإن كان -لا سمح الله- يعتقد أنه خيرٌ منهم فهذا ضلال مبين! وشقاء مستبين! {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8] نسأل الله السلامة والعافية، فالمقصود أنه ينبغي التناصح بالأسلوب الذي يكون سبباً في قبول الحق والإذعان له، والله تعالى أعلم.

حكم الأناشيد الإسلامية

حكم الأناشيد الإسلامية Q ما حكم الأناشيد الإسلامية الجديدة التي يوجد فيها حداء يشبه ألحان الغناء وجزاكم الله خيراً؟ A أولاً أشهد الله عز وجل على حبكم جميعاً في الله، وأسأل الله العظيم أن يجمعني وإياكم في مستقر رحمته، ثم ما أدري الأناشيد منها جديد وقديم، الله المستعان! كل يوم نأتي بجديد، حتى الأناشيد فيها موديلات جديدة، على العموم: قديمها وجديدها، بالنسبة للأناشيد أنا رأيي الاقتصار في الدعوة على الكتاب والسنة، وقد بينت ذلك أكثر من مرة في السؤال عن هذه الأناشيد، وأما بالنسبة للألحان والإتيان ببعض الأمور التي تكون سبباً للفتنة، فلا أشك في حرمة ذلك لئلا يفضي إلى الفتنة، وهذا أمر بنقل الثقات أنه قد يتسبب في الفتنة، وأيضاً فتنة لمن ينشد، إذا كان المقصود به الألحان ومحاكاة الفساق في ألحانهم، أما بالنسبة لقضية أن الإنسان ينشد عند السآمة والملل فهذا ثابت في السنة، وهو حكم على كل أحد، وقد وردت الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، كقوله: اليوم نضربكم على تأويله ضرباً يزيل الهام عن مقيله وكذلك ما كان بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بناء المسجد، وحفر الخندق، وهم يقولون: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا فكان عليه الصلاة والسلام يقول: (أبينا أبينا! ويرفع بها صوته)، فالسنة ثابتة، وكان يُحدى بالإبل وعليها النساء في محضر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومسمع منه، فيسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا نسلمه عند وجود السآمة والملل، لكن التوسع في ذلك والمبالغة فيه، هذا مما لا أصل له، والأولى اتقاؤه وتركه ما أمكن، والله تعالى أعلم.

حكم الجهاد بغير إذن الوالدين

حكم الجهاد بغير إذن الوالدين Q ما حكم من يذهب إلى الجهاد بغير إذن الوالدين، هل هو عاصٍ أم لا؟ A هذه المسألة سبق وأن تكلمت فيها غير مرة، أنه بالنسبة للجهاد لا يجوز الخروج بدون إذن الوالدين، للنص الثابت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)، وبناءً عليه، فأوصيك أخي في الله أن ترجع إلى والديك، وأن تطلب منهما السماح، فإن الفترة التي يقضيها الإنسان في سفرٍ لم يستأذن فيه والديه تعتبر عقوقاً والعياذ بالله، فتب إلى الله عز وجل، وسلهما الصفح عنك، أما لو كنت تتأول فتوى من يرى أن الجهاد فرض عين، فخرجت على أساس هذه الفتوى، ثم استبان لك أن الحق في غيرها، فما مضى فأنت غير مأجورٌ فيه وغير آثم، والمستقبل تستقبل فيه أمرك، فلا تخرج إلا بإذن والديك، فمن كان يتأول فتوى من يرى ذلك، فهذا لا يحكم بإثمه، لأنه خرج بفتوى بعض أهل العلم، وله تأويل؛ وبناءً على ذلك يفرق بين الطائفتين، فالفترة التي كنت تخرجها على الصفة التي ذكرتها دون إذن والديك يعتبر الإنسان فيها آثماً، وأما الفترة التي تليها -المستقبلة- فلا تخرج بدون إذن والديك وإذا كان الإنسان يتأول فتوى فبين له السنة التي رجعت إليها حتى يكون ذلك أدعى للنصح، والله تعالى أعلم.

ذم السهر بعد العشاء للهو واللعب

ذم السهر بعد العشاء للهو واللعب Q ما حكم السهر بعد العشاء لغير فائدة سوى الضحك واللعب؟ A ما ينبغي، ولذلك ورد في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في صلاة العشاء: (يكره النوم قبلها والحديث بعدها)، وكانت عائشة رضي الله عنها تبعث إلى جيرانها تقول: (أريحوا السفرة الكرام البررة) يعني: يكفيكم ذنوب النهار، فلا خير في إضاعة الأوقات، هذا أمر لا يتخلق به المؤمن، فالمؤمن حياته جد، لكن ممكن له أن يمزح وأن يلهو بشرط ألا يصل إلى درجة المجون والسخف، أو المزح في الأمور المحرمة، هذا أمر جائز ولا حرج أن الإنسان يمزح، ولكن المزح الذي ليس فيه انتهاكاً لحدود الله عز وجل، والله تعالى أعلم.

الفرق بين حسن الظن بالله وعدم المبالاة

الفرق بين حسن الظن بالله وعدم المبالاة Q ما هو الفرق بين حسن الظن بالله، وعدم المبالاة والاستغفار من الذنب بعد وقوع الذنب وقبله؟ A حسن الظن بالله يأتي بعد الندم، إذا أصابك الندم حتى جاءك الشيطان وقال لك: الله لا يغفر لك، فقل: بلى إنه هو الغفور الرحيم، فتحسن الظن بالله بعد أن تندم، وأما عدم المبالاة -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا من موت القلب، فإن القلب قد يحيا ويموت، وحياته بالندم، وموته بعدم المبالاة والعياذ بالله، فإذا كان القلب حياً ندم على الإساءة في جنب الله، وفرح بطاعة الله، فالمؤمن من سرّته حسنته، وساءته سيئته، فإذا كنت -بارك الله فيك- تحس بعد الذنب بالندم والألم للتقصير في جنب الله عز وجل واهب النعم ودافع النقم فهذا من حياة قلبك، فإذا أحسست بالندم فاقرن ذلك الندم بحسن الظن بالله، واقرنه بحسن الرجاء فيما عند الله، فالمؤمن على جناحين جناح الخوف من الله، والرجاء لرحمة الله عز وجل، أما مسألة عدم المبالاة فهذا من موت القلب، حتى قال بعض العلماء: إن الله قد يستدرج صاحب المعصية بعدم المبالاة، حتى يمكر به -والعياذ بالله- فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، أشار الله تعالى إلى ذلك فقال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] وقال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] فالله يستدرج العبد من حيث لا يعلم، فهذا يأتي بسبب عدم المبالاة والعياذ بالله، وغالباً من لا يبالي بمعصية الله يستدرجه الله بمعصية تلو معصية، حتى يختم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية منها وألا نكون من أهلها، فهذا بالنسبة لقضية عدم المبالاة، فلا تقترن بالندم، وقضية حسن الظن بالله تأتي مركبةً على الندم، ولذلك قرن الله لأهل الجنة بين الصفتين: الخوف من الله، والرجاء في رحمة الله، قال تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] لا بد من الأمرين، الخوف والرجاء، ولذلك قال بعض السلف: إنهما جناحا السلامة، والطائر لا يستطيع أن يطير بأحد الجناحين، فلو غلّب جناح الخوف وانكسر جانب الرجاء هلك فقنط من رحمة الله، ولو انكسر جانب الخوف وأصبح في الرجاء ربما استرسل في محارم الله حتى يُكتب له سوء الخاتمة بمعصية الله، فالمقصود لا بد من الأمرين، الخوف والرجاء لله تبارك وتعالى، والله تعالى أعلم.

حكم القنوت في كل جمعة بحجة أن الأمة تمر بأزمات ومحن مستمرة

حكم القنوت في كل جمعة بحجة أن الأمة تمر بأزمات ومحن مستمرة Q ماذا نقول لإمامٍ في أحد المساجد في جدة، يقنت في كل صلاة جمعة، بحجة أن الأمة تمر بأزمات ومشاكل في كل مكان؟ A أما بالنسبة للقنوت في صلاة الجمعة أنا ما أحفظه، وعلى الصفة التي ذكرتها لا أحفظ لها أصلاً، وأما مسألة أن الأمة في محنة أو في فتنة، فالأمة منذ أن أوجدها الله وهي تمر في فتن، النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن بعث بالرسالة وهو من هم إلى هم! ومن غم إلى غم! لكي يرفع الله درجته، ويعلي مقامه، والسلف الصالح رحمة الله عليهم مرت عليهم الفتن، ومرت عليهم والمحن، ومع ذلك ما استداموا القنوت إلا في مواضع معينة، النوازل التي تعم المسلمين، هذه التي يشرع فيها القنوت، وينبغي نصح مثل هذا وتذكيره وبيان الحق له، والله تعالى أعلم.

الاهتمام بالجانب العلمي والعملي في العبادة

الاهتمام بالجانب العلمي والعملي في العبادة Q إني شاب أمر بحالة عسى أن أجد لها حلاً! وهي: عندما أكون منشغلاً بالتحصيل العلمي، أو بقراءة كتب السلف أشعر في نفسي بتقصير شديد في جانب العبادات البدنية، كالصلاة والصيام، فما هو الحل، لجعل هناك توازن بين العبادات الذهنية والعملية؟ A أولاً الإنسان مركب من شيئين جسده وروحه، والطاعة لله عز وجل تكون بالروح والجسد، تكون بالروح حينما يغذي الإنسان إيمانه، ويقوي عقيدته بربه، ويكون ذلك بكثرة تلاوة القرآن والتفكر في آياته والتفكر في ملكوت الله وعظمته وفي الكون، كل هذه تغذي روح الإنسان، وتجعله في طمأنينة، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فهذه نشوة المؤمن، ولذته وراحته، ذكر الله والعبادة. الأمر الثاني: العبادة بالروح بمعنى: التأمل والنظر، وهي التي ترجع إلى العقل والفهم. وأما النوع الثاني من العبادات، عبادة البدن كالصلاة ونحوها، ولذلك أخي في الله اجمع بين الحسنيين، بين عبادة النظر والتفكر، وقراءة كتب السلف، وتغذية روحك بالإيمان بالله، واجعل لك حظاً من قيام الليل وصيام النهار يكون تطبيقاً لذلك الإيمان، والله تعالى أعلم.

شبهة تأخير الدعوة إلى التوحيد والبدء بغيره والرد عليها

شبهة تأخير الدعوة إلى التوحيد والبدء بغيره والرد عليها Q ما رأيك فيمن يقول بتأخير الدعوة للتوحيد حتى قيام الخلافة الإسلامية، هل هذا منهج صحيح؟ وما حكم هذا العمل؟ A أول ما ينبغي أن يدعى إليه توحيد الله، وهذه قضية لا أحسب أنه يكابر أو يجادل فيها، أول ما ينبغي الدعوة إليه توحيد الله، وهذا لا يمكن أن يُشك فيه، وهو الذي من أجله نزلت الكتب، وبُعثت الرسل، ومن أجله كانت السماوات والأرض، ومن أجله كان الحساب والعرض، لا يختلف اثنان بأن توحيد الله هو الأساس، وأصدق وأفضل دعوة، وأفضل كلمة خرجت من فمك كلمة تدعو إلى توحيد الله عز وجل، بل إن الخلافة والولاية المقصود منها إقامة توحيد الله عز وجل، فتوحيد الله هو الأساس، وغيره تبعٌ له، وليس هو تبعاً لغيره، ومن قال ذلك فقد حاد عن صراط الله عز وجل. وتوحيد الله ينبغي أن يغار عليه كل إنسان يؤمن بالله واليوم الآخر، ولذلك بين العلماء رحمهم الله أن الدعوة إلى التوحيد فرض على كل أحد، لو رأيت إنساناً مشركاً يعبد الوثن، فلا تقل: لا يدعو إلا العلماء لا، أنت يجب عليك أن تقول له: اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، هذه قضية ليس فيها إشكال، ولا يختلف فيها اثنان أن التوحيد هو الأساس، وأنه تجب الدعوة إليه، وهنا أنبه أنه ينبغي الدعوة إلى التوحيد، وإلى فروع الدين، وليس الأمر مقصوراً على شيء معين، فالإسلام كلٌ لا يتجزأ، فيه العقيدة، والأحكام والصلوات، والخلافة الشرعية، وفيه جميع الأمور التي فيها محبة الله ومرضاته، كما يدعى إلى الأصول يدعى إلى الفروع، وكما تصحح الأصول تصحح الفروع، ويقام الحكم لله، والأمر لله على شريعة ترضيه سبحانه، والله تعالى أعلم.

حكم الإعداد للجهاد في سبيل الله

حكم الإعداد للجهاد في سبيل الله Q هل الإعداد في سبيل الله فرض عين أم فرض كفاية، كمثل الجهاد في أفغانستان؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن الإعداد للعدو يعتبر من فروض الكفايات، وقد أشار إلى ذلك أهل العلم رحمهم الله، وأشار إليه بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وهذا الخطاب وإن كان عاماً -كما يقول العلماء- إلا أن المراد به طائفة خاصة تحصل بها الكفاية، فإذا حصلت الكفاية بهذه الطائفة فإنه حينئذٍ يسقط الإثم عن البقية، ويجب على الأمة أن تُعد من رجالها وأهلها والصالحين من عباد الله من تَسُد به الحاجة، بحيث لو دهم العدو كانت فيهم الكفاية، فالذي يظهر من خلال دلالة الآية الكريمة أنه من فروض الكفاية، وتعميمه والقول بأنه فرض عين بناءً على عموم الأمر في الآية معارضٌ لكثير من الآيات في القرآن التي ورد فيها الأمر على العموم، والمراد به قومٌ مخصوصون، وقد أشار إلى ذلك ابن عطية رحمه الله في تفسيره، وأشار إليه القرطبي رحمه الله في التفسير، أنه قد يرد النص في الآية على العموم والمراد به الخصوص، كقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] خاطب الأمة كلها، والمقصود بعضها، وكثير من الآيات التي وردت في شأن النكاح، وكذلك في شأن إقامة الحدود، كقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فإن الذي يجب عليه الجلد البعض، وهم الذين تحملوا مسئولية ذلك، والمقصود أن آيات القران قد ترد عامةً، والمراد بها المتلبس بها، كما أشار القرطبي إلى ذلك في تفسير قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] فبين في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] أن الأمر عام، والمراد به قومٌ مخصوصون، وهكذا بقية الآيات التي يراد بها وجوب الكفاية، فإن وجدت الكفاية سقط الإثم عن الأمة، وإلا فلا، والله تعالى أعلم.

كيف ترق قلوبنا

كيف ترق قلوبنا رقة القلوب مطلب من مطالب الصالحين، ومنشد للطامحين إلى رضوان رب العالمين، فعن أهمية رقة القلوب وقسوتها، نهدي إليك هذه المادة، لتستفيد منها في علاج قلبك من مرض القسوة.

أهمية رقة القلوب

أهمية رقة القلوب الحمد لله علام الغيوب، الحمد لله الذي تطمئن بذكره القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعز مطلوبٍ وأشرف مرغوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، وعلى جميع من سار على نهجه واتبع سبيله إلى يوم الدين. أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله: إن رقة القلوب وخشوعها، وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن، وعطيةٌ من الديان، تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزاً مكيناً وحصناً حصيناً من الغي والعصيان، ما رق قلبٌ لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات، مشمراً في الطاعات والمرضاة، ما رق قلبٌ لله عز وجل وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكِّر إلا تذكّر، ولا بُصِّر إلا تبصر، وما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئناً بذكر الله، يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه وتعالى، وما رقّ قلبٌ لله عز وجل إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله عز وجل. فالقلب الرقيق قلبٌ ذليلٌ أمام عظمة وبطش الله تبارك وتعالى، ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفاً وخشيةً للرحمن سبحانه وتعالى، ولا دعاه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص ذلك القلب من خشية المليك سبحانه وتعالى. القلب الرقيق صاحبه صدّيق وأي صديق، القلب الرقيق رفيقٌ ونعم الرفيق؛ ولكن من الذي يهبُ رقة القلوب وانكسارها؟ ومن الذي يتسبب بخشوعها وإنابتها إلى ربها؟ من الذي إذا شاء قلب هذا القلب فأصبح أرق ما يكون لذكر الله عز وجل، وأخشع ما يكونُ لآياته وعظاته من هو؟ هو الله سبحانه لا إله إلا هو. القلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فتجد العبد أقسى ما يكون قلباً، ولكن يأبى الله إلا رحمته، ويأبى الله إلا حلمه وجوده وكرمه، حتى تأتي تلك اللحظة العجيبة، التي يتغلغل فيها الإيمان إلى سويداء ذلك القلب، بعد أن أذن الله تعالى أن يصطفى ويجتبى صاحب ذلك القلب، فلا إله إلا الله من ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة، ومن أهل القسوة إلى أهل الرقة، بعد أن كان فظاً جافياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، إذا به يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه، إذا بذلك القلب الذي كان جريئاً على حدود الله عز وجل، وكانت جوارحه تتبعه في تلك الجرأة إذا به في لحظةٍ واحدة يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يتغير لكي يصبح متبصراً يعرف أين يضع الخطوة في مسيره. أحبتي في الله: إنها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمةٌ أجل وأعظم منها: نعمةُ رقة القلب، وإنابته إلى الله تبارك وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل أنه ما من قلبٍ يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله، فقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]. ويلٌ: عذابٌ ونكالٌ لقلوب قست عن ذكر الله عز وجل، ونعيم ورحمةٌ وسعادةٌ وفوزٌ لقلوب انكسرت وخشعت لله تبارك وتعالى؛ لذلك إخواني في الله: ما من مؤمنٍ صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر كيف السبيل لكي يكون قلبي رقيقاً؟ كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة؟ فأكون حبيباً لله عز وجل، ولياً من أوليائه، لا يعرف الراحة والدعة والسرور إلا في محبته وطاعته سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أنه لن يحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير شيئاً كثيراً؛ ولذلك كم من أخيار تنتابهم بعض المواقف واللحظات يحتاجون فيها إلى من يرقق قلوبهم! فالقلوب شأنها عجيب وحالها غريب، تارةً تقبل على الخير، وإذا بها أرق ما تكون لله عز وجل ولداعي الله، لو سُئِلتْ أن تنفق أموالها جميعها لمحبة الله لبذلت، ولو سُئِلتْ أن تبذل النفس في سبيل الله لضحت، إنها لحظات ينفح فيها الله عز وجل تلك القلوب برحمته، وهناك لحظات يتنعر فيها المؤمن لله تبارك وتعالى، لحظات القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه، ويتعلل فيها فؤاده، حتى يكون أقسى من الحجر والعياذ بالله.

أسباب رقة القلوب

أسباب رقة القلوب وللرقة أسباب وللقسوة أسباب، ولكن الله تبارك وتعالى تفضل وتكرم بالإشارة إلى بيانها في كتابه العزيز.

تذكر الآخرة

تذكر الآخرة ومن الأسباب التي تعين على رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى تذكر الآخرة؛ أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر، أن يتذكر أن لكل بدايةٍ نهاية، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة، وأن المتاع فانٍ وأنها غرورٌ حائل، دعاه والله ذلك إلى أن يحتقر الدنيا ويقبل على ربها إقبال المنيب الصادق وعندها يرق قلبه، ومن نظر إلى القبور، ونظر إلى أحوال أهلها انكسر قلبه، وكان قلبه أبرأ ما يكون من القسوة ومن الغرور والعياذ بالله. ولذلك لن تجد إنساناً يحافظ على زيارة القبور مع التفكر والتأمل والتدبر؛ إذ يرى فيها الآباء والأمهات، والإخوان والأخوات، والأصحاب والأحباب، والإخوان والخلان، يرى منازلهم ويتذكر أنه قريباً سيكون بينهم، وأنهم جيرانٌ بعضهم لبعض قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة، وأنه قد يتدانى القبران وبينهما كما بين السماء والأرض نعيماً وجحيماً، ما تذكر عبدٌ هذه المنازل التي ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذِكْرها إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى، ولا يقف على شفير قبرٍ -فرآه محفوراً- فهيأ نفسه أن لو كان صاحب ذلك القبر، وما وقف على شفير قبرٍ فرأى صاحبه يدلى فيه، إلا سأل نفسه على ماذا يغلق وعلى من يغلق وعلى أي شيءٍ يغلق، أيغلق على مطيعٍ أم على عاصٍ، أيغلق على جحيمٍ أم على نعيم، فلا إله إلا الله هو العالم بأحوالهم، وهو الحكم العدل الذي يفصل بينهم. ما نظر عبدٌ هذه النظرات، ولا استجاشت في نفسه هذه التأملات، إلا اهتز القلب من خشية الله، وانشطر هيبةً لله تبارك وتعالى، وأقبل إلى الله تبارك وتعالى إقبال صدقٍ وإنابةٍ وإخبات.

تدبر القرآن

تدبر القرآن السبب الثاني: الذي يكسر القلوب ويرققها، ومعين العبد على رقة قلبه من خشية الله عز وجل: النظر في آيات هذا الكتاب، النظر في هذا السبيل المفضي إلى السداد والصواب، النظر في كتاب وصفه الله بقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. فما قرأ العبد تلك الآيات وكان عند قراءته حاضر القلب متفكراً متأملاً إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع، والنفس تتوهج إيماناً من أعماقها، تريد المسير إلى الله تبارك وتعالى، وإذا بأرض ذلك القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طريةً للخير، ومُحبة لله عز وجل ولطاعته، فما قرأ عبدٌ القرآن ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها والتأمل فيها رقيقاً قد اقشعر قلبه، واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]. فالقرآن تأثيره عجيب! هذا رجل من الصحابة تليت عليه بعض آيات القرآن، فنقلته من الوثنية إلى التوحيد ومن الشرك بالله إلى عبادة رب الأرباب سبحانه وتعالى في آياتٍ يسيرة، هذا القرآن موعظة رب العالمين، وكلام إله الأولين والآخرين: ما قرأه عبدٌ إلا تيسرت له الهداية بقراءته؛ ولذلك قال الله في كتابه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، هل هناك من يريد الذكرى؟ هل هناك من يريد العظة الكاملة والموعظة السامية؟ هذا كتابنا؛ لذلك أحبتي في الله ما أدمن قلبٌ ولا أدمن عبدٌ على تلاوة القرآن وجعل القرآن معه إذا لم يكن حافظاً يتلوه آناء الليل وآناء النهار إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.

الإيمان بالله عز وجل

الإيمان بالله عز وجل ما رقّ القلبُ بسببٍ أعظم من سبب الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقاً لله عز وجل، وكان وقّافاً عند حدود الله، لم تأته الآية من كتاب الله ولم يأته حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال بلسان الحال والمقال: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. فما من عبدٍ عرف الله بأسمائه الحسنى، وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وهو يجير ولا يجار عليه، إلا وجدته إلى الخير سباقاً وعن الشر محجاماً، فأعظم سبب تلين به القلوب لله عز وجل وتنكسر من هيبته المعرفة بالله تبارك وتعالى، أن يعرف العبد ربه، وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره بذلك الرب، يذكره الصباح والمساء بذلك الرب العظيم، وتذكره النعمة والنقمة بذلك الحليم الكريم، ويذكره الخير الشر بمن له أمر الخير والشر سبحانه وتعالى، فمن عرف الله رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى، والعكس بالعكس، فما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله وعذابه، وأجهلهم بنعيم الله ورحمته، حتى أنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكونون من رحمة الله، وأيئس ما يكونون من روح الله والعياذ بالله؛ لمكان الجهل بالله، فلما جهل معرفة الله جرؤ على حدوده، وجرؤ على محارمه، ولم يعرف إلا ليلاً ونهاراً وفسوقاً وفجوراً، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا الذي يعده هدفاً في وجوده ومستقبله. لذلك أحبتي في الله المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، ولذلك كلما وجدت الإنسان يديم العبرة، ويديم التفكر في ملكوت الله وجدت في قلبه رقة، ووجدت في قلبه خشوعاً وانكساراً لله تبارك وتعالى.

أسباب قسوة القلوب

أسباب قسوة القلوب أحبتي في الله: أعظم داءٍ يصيب القلب داء القسوة والعياذ بالله.

مجالسة الفساق

مجالسة الفساق ومن أسباب قسوة القلوب، بل ومن أعظم أسباب قسوة القلوب، الجلوس مع الفُسّاق، ومعاشرة من لا خير في معاشرته؛ ولذلك ما ألف الإنسان صحبة من لا خير له في صحبته إلا قسى قلبه من ذكر الله تبارك وتعالى، ولا طلب الأخيار إلا رق قلبه لله الواحد القهار، ولا غشي مجالسهم إلا جاءته الرقةُ شاء أم أبى، جاءته لكي تسكن سويداء قلبه، فتخرجه عبداً صالحاً مصلحاً قد جعل الآخرة نصب عينيه. لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن يكون ذلك على قدر الحاجة، حتى يسلم له دينه، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، أن تهب لنا قلوباً لينة تخشع لذكرك وشكرك، اللهم إنا نسألك قلوباً تطمئن لذكرك، اللهم إنا نسألك ألسنةً تلهج بشكرك، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً مقبولاً عندك يا كريم. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الركون إلى الدنيا

الركون إلى الدنيا ومن أعظم أسباب القسوة بعد الجهل بالله تبارك وتعالى: الركون إلى الدنيا، والغرور بأهلها، وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها، فإن هذا من أعظم الأسباب التي تقسي القلوب والعياذ بالله تبارك وتعالى، إذا اشتغل العبد بالأخذ والبيع، واشتغل أيضاً بهذه الفتن الزائلة والمحن الحائلة سرعان ما يقسو قلبه؛ لأنه بعيدٌ عمن يذكره بالله تبارك وتعالى. فلذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوغل في هذه الدنيا أن يوغل برفق، فديننا ليس دين رهبانية، ولا يحرم الحلال سبحانه وتعالى، ولم يَحُل بيننا وبين الطيبات، ولكن رويداً رويداً، فالأقدار قد سبق بها القلم والأرزاق قد قُضيت يأخذ الإنسان بأسبابها دون أن يغالب القضاء والقدر، يأخذها برفق ورضاً عن الله تبارك وتعالى في يسيرٍ يأتيه، وحمدٍ وشكرٍ لباريه، سُرعان ما توضع له البركة ويكفى فتنة القسوة التي تفتح عليه فتنة كل شيء، فتجدهم يضحون بأوقات الصلوات، ويضحون بارتكاب الفواحش والموبقات، ولكن لا تؤخذ هذه الدنيا عليهم، ولا يمكن أن يضحي الواحد منهم بدينار أو بدرهمٍ منها، فلذلك دخلت هذه الدنيا إلى القلب، والدنيا شعب، ولو عرف العبد حقيقة هذه الشعب، لأصبح وأمسى ولسانه يلهج إلى ربه، رب نجني من فتنةِ هذه الدنيا، فإن في الدنيا شُعباً، ما مال القلب إلى واحدة منها، إلا استهوى القلب لما بعده، ثم إلى ما بعده، حتى يَبعد عن الله عز وجل، وعندها تسقط مكانته عند الله وما يبالي الله به في أي وادٍ من أودية الدنيا هلك والعياذ بالله. هذا العبد الذي نسي ربه، وأقبل على هذه الدنيا مجلاً مكرماً لها، فعظم ما لا يستحق التعظيم، واستهان بمن يستحق الإجلال والتعظيم والتكريم سبحانه وتعالى، فلذلك كانت عاقبته والعياذ بالله من أسوأ العواقب.

زاد الحجيج

زاد الحجيج إن حج بيت الله الحرام من أعظم الفرائض التي أوجبها الله سبحانه على عباده المؤمنين، ومن رحمته لهم أن أوجبه عليهم في العمر مرة مقيداً بتوفر شروط الاستطاعة، ولذلك على المرء الحاج أن يعرف زاده في حج بيت الله الحرام، وأن يحمد الله ويشكره على توفيقه وامتنانه عليه بهذه النعمة، وأن يحرص على الالتزام بالسنة في كل المواضع والمواقف والمناسك والعبادات.

الإخلاص لله أساس زاد حجاج بيت الله الحرام

الإخلاص لله أساس زاد حجاج بيت الله الحرام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله: إن الله فرض الحج إلى بيته الحرام، وجعله شعيرة من شعائر الإسلام، وركناً من أركانه الجليلة العظام، غفر به الذنوب، وستر به العيوب، وفرج الكروب، ومحا الآثام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). يخرج من ذنوبه جميعها، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، هؤلاء هم حجاج بيت الله الحرام، طلاب عفوه ومغفرته ورحمته، وبره وإحسانه. وإن زاد حجاج بيت الله الحرام أساسه وروحه وقاعدته ولبه: الإخلاص لله، الذي لا يقبل الله ديناً سواه، إذا خرجت من بيتك فاخرج وليس في قلبك إلا الله، ترجو رحمة الله وتخشى عذابه. (لبيك) خالصة من قلبك! (لبيك) نقية تقية لربك! لا للسمعة والرياء، لا للمدح ولا للثناء، تتمنى أن حجك بينك وبين الله لا تراه عين، ولا تسمع به أذن، ولا يخطر على قلب بشر. من حج للسمعة والرياء والمدح والثناء قال الله يوم القيامة له: اذهب إلى من حججت له فخذ أجرك منه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]. من حج للأصحاب والأحباب متعه الله بأصحابه وأحبابه، وحرمه الجزيل من رحمته وثوابه. إذا خرجت ونظر الله إلى قلبك -وقد أخلصت في حجك- أحبك ووفقك وسددك، وفتح أبواب الخير في وجهك، وجعل حجك مبروراً، وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأجرك محظوظاً موفوراً. تصعد أقوالك وأفعالك إلى السماء فتفتح أبوابها {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] يرفعه سبحانه وتعالى لك لكي ينشره أمام عينيك في يوم تبعثر فيه ما في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11]. في يوم قرت فيه عيون المخلصين يقول الله فيه وهو رب العالمين: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] رضي الله عنهم بالإخلاص رضي الله عنهم لما أرادوا وجهه وما عنده سبحانه، فتقبل الأقوال والأفعال خالصة لوجه ذي العزة والجلال. أخلص لله في حجك وعمرتك وإلا حبط العمل؛ وكان العبد من الخاسرين.

زاد الحجيج إلى بيت الله العتيق

زاد الحجيج إلى بيت الله العتيق

الخشوع

الخشوع من علامة بر الحج ومن علامة قبوله: الخشوع. فالله سبحانه وتعالى إذا رزق الإنسان سلامة القلب بالإخلاص لوجهه، ورزقه الشعور بعظيم نعمة الله عليه، ورزقه سلامة اللسان والجوارح والأركان؛ استقام في حجه فأقبل على الله قلباً وقالباً، أقبل على الله سبحانه وتعالى وهو يستشعر كل حركة يفعلها، وكل كلمة يقولها. الحج من أول لحظة فيه يدعو للخشوع، ويدعو للاستكانة والخضوع، فالمسلم من أول لحظة يخرج فيها من بيته تنبعث في نفسه ذكريات الآخرة، ويتحرك في قلبه ذكر لقاء الله سبحانه وتعالى، فاليوم يخرج مفارقاً لأهله وأولاده، وغداً هو غريب عنهم في سفره، وعن قريب يفارقهم بلا رجعة. وإذا قدم على الميقات فأزال ثيابه، وتجرد من لباسه لإحرامه، تذكر ساعة تنزع منها ثيابه وينزع من الدنيا فلا يعود إليها أبداً، فلا لا إله إلا الله من يوم لبست فيه ثيابك، وقد كتب الله جل جلاله ألا تنزع هذا الثوب الذي لبسته! فلا إله إلا الله من يوم لبست فيه ثيابك وكتب الله جل جلاله ألا تنزع هذا الثوب الذي لبسته وأنه ينزع منك! فإذا تجردت لإحرامك تذكرت هذه الساعة التي تنزع فيها من أهلك وأولادك وأحبابك وجيرانك، وإذا اغتسلت تذكرت خرير الماء عليك وأنت تغسل لكفنك ولحدك، وإذا صرت في جموع المؤمنين استشعرت في كل لحظة وأنت ضيف على الله رب العالمين.

استشعار عبادة الحج في كل موطن ونسك

استشعار عبادة الحج في كل موطن ونسك من علامة الحج المبرور: أن يكون الحاج في كل حركة وفي كل سكون يستشعر هذه العبادة، يقول: (لبيك) بقلب حاضر وبلسان صادق، يستشعر معناها وما فيها من دلائل. قال العلماء: (لبيك) من لبى إذا أجاب وكأنه يأخذ العهد على نفسه أنه يستجيب لطاعة الله ربه إجابة بعد إجابة. وقيل: (لبيك): من لب الشيء وهو خالصه وناصحه وأفضله الذي لا شائبة فيه، فكأنك تقول: أنا على الإخلاص لك يا رب، وكأنك تعاهد الله على أن تكون أفعالك وأقوالك لوجهه سبحانه وتعالى، ليس فيها لأحد سواه حظ ولا نصيب. وقيل: (لبيك): من قولهم: داري تلب بدارك إذا جاورتها، فكأنك تقول: أنا مجاور لطاعتك، ومقيم عليها إقامة بعد إقامة، فكأنه يأخذ العهد على نفسه أن يقيم على طاعة الله، وأن يستقيم على محبة الله سبحانه وتعالى. وإذا كتب الله جل جلاله للعبد فدخل البيت الحرام فإنه يحمد الله سبحانه وتعالى أن بلغه هذا المكان، انظر إلى هذا المكان الطيب المبارك الذي شرفه الله وكرمه، واستشعر عظمة الله سبحانه وتعالى، هذا المكان الذي وطئته قدماك كان يوماً من الأيام وادياً لا أنيس فيه ولا جليس. أمر الله الخليل أن يأتي بأهله وذريته، فجاء بامرأة ضعيفة وصبي صغير، فأمره الله وابتلاه واختبره أن يضعهما في هذا المكان، فلما أراد أن ينصرف عنهما تعلقت المرأة الضعيفة وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ قال: لله. فقالت: إذن لا يضيعنا الله، فلما انتصبت قدماه في الوادي وولى، وقد جعل أهله وذريته وراء ظهره صدع، بالدعوات المباركات، استجاب لأمر الله ثم دعا ربه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37]. كانت أشجانهم وأحزانهم للدين ولطاعة رب العالمين، ما كانت للدنيا ولا للهوى: {أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] لتوحيدك وطاعتك والإنابة إليك. {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] سبحان الله! إذا دخلت في حجك أو في عمرتك فرأيت الألوف وهي تطوف ببيت الله جل جلاله فاذكر دعوة الخليل عليه الصلاة والسلام، استجاب الله دعوته فحنت القلوب إلى بيت الله الحرام، وأصبح الرجل تراه قد شاب شعر رأسه ولحيته يتمنى من الله سبحانه أن يبلغه البيت العتيق، كل ذلك استجابة من الله لدعاء الخليل. قال العلماء: استجاب لأمر الله وأقام أمر الله عز وجل بإحضار أهله وذويه، ثم دعا فاستجاب الله دعوته. فمن أطاع الله وامتثل أوامره استجاب الله دعوته، وها هي الجموع تكتظ في هذا المكان، فانظر إلى عظيم رحمة الله عز وجل! ومن استجاب للخليل لما أخلص لوجهه وأناب إليه سبحانه سيجيب دعوتك، ويفرج كربتك، ويستر عورتك إن صدقت معه كما صدق. وإذا سعيت بين الصفا والمروة فاذكر أن بين هذين الجبلين كربة من الكربات فرجها الله من فوق سبع سماوات، امرأة ضعيفة ليس معها أحد، وقد عطش صبيها، فأصبحت تقبل وتدبر في هذا المكان مفجوعة خائفة وجلة، ولكن كان قلبها متعلقاً بالله، منصرفاً إلى الله لا إلى شيء سواه؛ فجعل الله تفريج كربها من تحت قدم صبيها وابنها، وجعل الله الماء الذي جرى من تحت هذه القدم يبقى إلى الأبد طعام طعم وشفاء سقم؛ لما أخلصت لله في دعائها. وإذا كنت مكروباً فإن الله سيفرج كربتك، وإن جئت شاكياً ضارعاً إلى الله جل جلاله، وصدقت كما صدقت هذه المحرومة الفزعة الوجلة الخائفة الذليلة؛ فإن الله يؤمِّن خوفك كما أمن خوفها، ويقضي حاجتك كما قضى حاجتها، ويزيل عناءك كما أزال عناءها. تستشعر وأنت بين الصفا والمروة همومك وغمومك وأشجانك وأحزانك وكرباتك فتضعها بين يدي الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بين يدي الله جل جلاله منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، ادعه بقلب مخلص موقن لا يعرف أحداً سواه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] فتستشعر في هذه الأماكن والمنازل أن الله يجيب الدعوات. واستمع المؤمنين والمؤمنات، وانظر إلى عظمة جبار السموات والأرض يوم عجت ببابه الأصوات، واختلفت اللغات، والله لا يضيع منها حرف واحد، ولا تغيب منها كلمة واحدة، ولا تخفى عليه مسألة منها سبحانه وتعالى، في هذا المقام العظيم تستشعر همومك وغمومك أنك تنزلها بأكرم الأكرمين، وملاذ الهاربين، وأمان الخائفين، وجوار المستجيرين، تبارك الله رب العالمين! أستودع الله أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها لنا مليك محسن إلينا من نحن لولا فضله علينا تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف فتدعوه وأنت موقن أنه لا يخيبك، وأنه لا يردك. وإذا مضيت إلى عرفات، وأشرقت عليك شمس ذلك اليوم المبارك، فاحمد الله جل جلاله أنها أشرقت عليك وأنت ضيف على الله، احمد الله جل جلاله أنها أشرقت عليك فما كنت من المحرومين، وما كنت من المثبطين، فقل: يا رب! أكرمتني بهذا الموقف ولو شئت لحرمتني، فلا تجعلني أشقى عبادك في هذا اليوم العظيم. إذا أشرقت عليك شمس يوم عرفات فاذكر رحمة الله فاطر الأرض والسموات، وانظر إلى ذلك الموقف العظيم بقلب يعظمه، بقلب أسلم إليه سبحانه وتعالى، من بيده مقاليد السماوات والأرض جل جلاله وتقدست أسماؤه. وصل، وأخلص لله جل جلاله في صلاتك، ثم انصرف إلى الدعاء، وهذه الساعات لا تضيع في أي لحظة منها، ولا تضيع منها دقيقة، وأفضل ما يكون منك أن تذكره سبحانه وتعالى بتوحيده، قال صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) فالإنسان يقبل على هذا الموقف وهو يذكره ويمجده ويعظمه، لا إله إلا الله خالصة من قلبك، معظمة لربك، وأنت تحس أنه أقرب إليك من حبل الوريد، وأنه يسمعك وأنه يراك سبحانه جل جلاله. وإذا وقفت بين يديه وقفت وأنت تحس أن الذنوب قد كثرت، وأن العيوب قد عظمت، وأن الخطايا قد جلت، ولكنه أرحم الراحمين، وأنه لم يسئ ظنك فيه وهو الحليم الرحيم، فتقبل على الله جل جلاله بقلب يناجيه ويناديه بصدق وإخلاص، تدعوه من كل قلبك أن يغفر ذنبك وأن يستر عيبك، وأن يفرج كربتك وأن يرحمك. فلا إله إلا الله كم أشرقت شمس ذلك اليوم على أشقياء فغابت وهم سعداء! لا إله إلا الله كم أشرقت شمس ذلك اليوم على أقوام مذنبين مسيئين فغابت وهم مطهرون مرحومون مغفور لهم! لا إله إلا الله إذا رحم الله برحمته، وسمح بحلمه وعفوه وكرمه سبحانه وتعالى! لا إله إلا الله إذا نزل جبار السماوات والأرض نزولاً يليق بجلاله وعظمته على الحقيقة، ينزل إلى السماء الدنيا لأنه علم أنه لا يجيب دعاء ما سواه، وعلم أنه ليس للمسألة أحد عداه كائناً من كان، ولو كان نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً. ينزل إلى السماء الدنيا لكي يرحم المذنبين ويغفر للمسيئين، ويقيل عثرة النادمين سبحانه وتعالى، ينزل إلى السماء الدنيا في تلك الساعة المباركة لكي يباهي بالجموع المؤمنة ملائكته (انظروا إلى عبادي! أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم). فلله نفحات ولله رحمات، ولربما غفر الله جل وعلا لأهل الموقف جميعهم، لربما غفر الله -جل جلاله- لأهل الموقف نساءً ورجالاً، ورحمهم جميعاً شباباً وشيباً وأطفالاً، فرحمته واسعة، وخزائنه ملأى، بيده سبحانه وتعالى الخير كله، فتناديه وأنت موقن برحمته، وتحس أنك أفقر العباد إليه، وأغناهم به سبحانه وتعالى، وتعج ببابه جل جلاله مسترحماً مستحلماً مستعطفاً لله سبحانه وتعالى. فإذا غابت شمس ذلك اليوم خرجت وأنت تحسن الظن بالله سبحانه وتعالى؛ أن يجعل سعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأجرك موفوراً، فتنطلق إلى تلك المشاهد الباقية بقلب مستحضر لعظمة الله سبحانه وتعالى. فتقف بمزدلفة وأنت تحس بجلال ذلك الموقف، الذي أثنى الله عز وجل عليه في كتابه، هذا الموقف الذي قل أن يدعو الإنسان فيه بإخلاص وترد دعوته، وكان بعض السلف يقول: (ما سألت الله حاجة وحال الحول إلا قضاها الله لي). هذا الموقف -الذي هو موقف المشعر الحرام- أثر عن بعض السلف أنه قال: (لقد وقفت في هذا الموقف في كل عام وأنا أسأل الله ألا يجعله آخر العهد فيستجيب الله دعوتي، وإني لأستحي أن أسأله هذا العام فرجع ومات رحمه الله). هذا الموقف -وهو موقف المشعر الذي غاب عن كثير من الناس- أدب الله المؤمنين فيه فذكرهم أن تكون دعوتهم للآخرة، وأن تكون جامعة بين خيري الدنيا والآخرة، فالناس فيه بين سائل للدنيا وبين سائل خيري الدنيا والآخرة، من الناس: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] هذه الكلمة يقول العلماء: معناها أنه يقول: اللهم أصلح لي تجارتي، اللهم أصلح لي أموالي، اللهم اشف لي ولدي، اللهم عافني من كذا وكذا. وينسى الآخرة، هذا هو الذي عناه الله بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]. فاجمع بين ثلاث مسائل: المسألة الأولى: أن تسأل الله أن يصلح دينك الذي هو عصمة أمرك. والثانية: أن يصلح دنياك التي فيها معاشك. والثالثة: أن يصلح لك آخرتك التي إليها معادك. أما إذا سألته صلاح دينك الذي هو عصمة أمرك؛ فأنت بين أمرين: تسأله العفو عما كان من الذنوب والعصيان، والإحسان فيما بقي من عمرك، فقل: اللهم إني أسألك حياة ترضيك، اللهم اغفر لي ما سلف وما كان، وارحمني ووفقني فيما بقي لي من زمان، واجعل ما بقي لي من الحياة عوناً لي على طاعتك، فكم من إنسان حيي إلى فتنة!، وفي الحديث الصحيح: (أنه لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل على قبر أخيه ويقول: يا ليتني مكانك) يتمنى أن يكون مكانه من كثرة الفتن والمحن!، نسأل الله العظيم رب ا

إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا

إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً إذا أراد الله أن يكون حجك مبروراً وسعيك مشكوراً رزقك المال الحلال والكسب الطيب، حتى إذا قلت: يا رب! أجاب دعوتك (قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. قال: أطب مطعمك تستجب دعوتك) كم من لقمة من حرام حجبت صاحبها عن الله! كم من لقمة من حرام حجبت إجابة الله! فإذا أراد الله أن يجعل حجك مبروراً وسعيك مشكوراً قيض لك الكسب الحلال: (والله طيب لا يقبل إلا طيباً). إذا حججت بمال لست تملكه فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور يقول عليه الصلاة والسلام: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين، يطيل السفر، يرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك؟!).

الرفقة الصالحة في الحج

الرفقة الصالحة في الحج إذا أراد الله أن يجعل حجك مبروراً وسعيك مشكوراً قيض لك رفقة صالحين، إذا نسيت الله ذكروك، وإذا ذكرته أعانوك، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أمضاء عبادة وأطماح سهر. الحج المبرور يستعان عليه بالرفقة الصالحة والإخوان الصالحين؛ فكم غير الله أقواماً برفقةٍ صالحين! كم أصلح الله من أحوالهم!، وكم أصلح الله من شئونهم عندما كانوا مع الصالحين: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). إن رفقة الصالحين معونة على الخيرات، والرفقة الصالحون إما أن يكونوا أكثر منك فتتمنى خيرهم؛ فيبلغك الله أجرهم، قال أحدهم: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم؟ قال: أنت مع من أحببت) فمن أحب الصالحين أحب الخير وهدي إليه، فإن لم يستطع فعله بلغه الله أجره بالأمنية والنية. ومن خيار من تصحبه لحجك وبيت ربك عالم فاضل، تهتدي بهديه، وتقتدي بسمته ودله، عالم يأخذ بحجزك عن النار، ويقيمك على سبيل الأبرار، إذا نظرت إليه ذكرت الله، وإذا سمعته أعانك على طاعة الله. صحبة العلماء وطلاب العلم الأتقياء الصلحاء معونة على الحج المبرور، معونة على كل خير وبر ورحمة، قال صلى الله عليه وسلم: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). وإذا صحبت العلماء فاحفظ حقوقهم وحرمتهم، وكن كأحسن ما يكون الصاحب لصاحبه، الله الله! أن يكون منك شين الخلال أو سيئ الخصال، فيشهد على ذلك خيار عباد الله عليك، كن كأحسن ما يكون عليه طالب العلم، وكأحسن ما يكون الرفيق لرفيقه، تحفظ مشهدهم وغيبتهم وترعى مشاعرهم، وتهتدي بسمتهم ودلهم.

حفظ اللسان

حفظ اللسان إذا أراد الله أن يجعل حجك مبروراً وسعيك مشكوراً؛ عصم لسانك عن الزلات والهمات وتتبع العورات؛ حتى لا تبلى بالدركات، قال معاذ: (يا رسول الله! أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) فتتقي الله في لسانك، وتكون مسلماً منقاداً لله مستسلماً، قد سلم المسلمون من لسانك وزلات جوارحك وأركانك. احفظ اللسان! كان شريح إذا أحرم بالحج والعمرة كأنه حية صماء، كان السلف يحفظون ألسنتهم حتى يبلغوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). اشترط النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المغفرة والرحمة سلامة لسانك، وهي وصية الله في كتابه، ووصيته لأوليائه وأحبابه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]. اتفقت كلمة السلف وعبارة الأئمة رحمة الله عليهم في قوله سبحانه: (فلا رفث): هو الكلام الذي يكون عند النساء مما يثير الشهوة ويبعث عليها، وأما الفسوق: فمذهب طائفة من السلف أنه المعاصي كلها، فإذا أراد الله أن يجعل حج العبد مبروراً عصم لسانه؛ وحفظه عما لا يليق؛ فأصبح لله ذاكراً، ولنعمته شاكراً، ومن ذكر الله ذكره، ومن شكر الله فإن الله يجزي الشاكرين ولا يضيع أجر المحسنين. إذا رأيت العبد يلهج لسانه بذكر الله، ويعمر أوقات حجه بالكلام في طاعة الله؛ فاعلم أن ذلك من بشائر القبول من الله سبحانه وتعالى. احفظ لسانك؛ فإن حفظ اللسان سبيل إلى الجنان، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يحفظ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) فضمن الله الجنة لمن حفظ اللسان من هماته وزلاته، والفرج من مساوئه وتبعاته. إذا لبى الملبي تعمر لسانك بذكر الله، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر وشجر حتى تنقطع الأرض) تذكر الله قائماً، وتذكره قاعداً، وتذكره على جنب في طاعته سبحانه على جميع الشئون والأحوال. من علامة الحج المبرور: سلامة جوارحك وأركانك من أذية المؤمنين؛ فإن الله عز وجل إذا أحب عبده وفقه لاستغلال جوارحه في طاعته، وبلوغ أعلى المنازل من محبته ومرضاته. من برور الحج: أن تكون محسناً إلى المسلمين لا مسيئاً، سئل عليه الصلاة والسلام -كما روى الطبراني وأحمد في مسنده- عن برور الحج، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إفشاء السلام، وإطعام الطعام). قال العلماء: من برور الحج إفشاء السلام، وإطعام الطعام، ليس المراد أن ينحصر في هاتين الخصلتين، وإنما هو إشارة إلى صلاح اللسان، وصلاح الجوارح والأركان، معناه: أنه حاج بار ما رأى المسلمون منه إلا الخير في لسانه، وفي جوارحه وأركانه؛ فقل أن تجد مسلماً يفشي السلام إلا كان لسانه معصوماً من الآثام؛ لأن الذي يسلم فيه: خصال المؤمنين الحقة، فيه التواضع ومحبة الخير للمسلمين، ولذلك يسلم حتى يكون دعاؤه وسلامه رحمة لإخوانه المسلمين. الذي يفشي السلام ويطعم الطعام قد قيض قلباً يخاف الله ويرجو رحمته، الذي يفشي السلام ويطعم الطعام قد قيض قلباً نقياً تقياً لعباد الله المؤمنين؛ ولذلك أحب لهم الخير فكان في أعلى المراتب، وهي مرتبة الإحسان إلى الناس لا مرتبة الإساءة.

حفظ الجوارح عن المحرمات

حفظ الجوارح عن المحرمات قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] الفسوق معصية الله جل جلاله؛ فتكون بالعين بالنظر، وتكون باللسان بالكلام، وتكون بالسمع بسماع الحرام والآثام، وتكون بالأقدام، وتكون بالأيدي؛ فيحفظ الحاج لبيت الله جوارحه، يحفظها حينما يستشعر أنه ضيف على الله جل جلاله، والضيف يرعى حرمة مضيفه، ويتقي الله جل جلاله، فمن تقواه لله سبحانه: أن يحفظ جوارحه وأركانه، فلا يرسل عينه بالنظرات إلى عورات المؤمنين والمؤمنات، ولكن يتقي الله جل جلاله. كل الشرر مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر لا خير والله في نظرة إلى الحرام في البلد الحرام والشهر الحرام، ولحجاج بيت الله الحرام. قال العلماء: المعصية تتعاظم بالزمان وبالمكان وبالحال. فهي لا تضاعف؛ لأن الله لا يضاعف السيئات وإنما يضاعف الحسنات، قالوا: إنما يعظم إثمها ووزرها إذا كانت في زمان محرم، أو كانت في مكان محرم، أو كانت على حالة ينبغي للمسلم أن يرعى حرمتها، ففي الزمان الحرام كالأشهر الحرم. وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة فهي أشهر الحج، ومنها شهران محرمان نهى الله عباده المؤمنين أن يظلموا فيها أنفسهم، هذان الشهران الحرامان قد يعصي الإنسان فيهما فتكون الحرمة والذنب والمعصية أعظم من الوقوع في غيرها؛ فالنظر إلى الحرام في بيت الله الحرام، وكذلك في الشهر الحرام، والإنسان متلبس بحرمات الإحرام؛ فإن ذنبها أعظم ووزرها أكبر، فينبغي للإنسان أن يخاف الله جل جلاله، والله سبحانه وتعالى إذا اطلع على قلب العبد أنه يخافه وفقه، وعصمه من الفتن والمحن، فالذي يقع في الفتن والمحن غالباً لا يكون إلا وهو مستخف بعظمة الله سبحانه وتعالى. فيحرص الحاج إلى بيت الله الحرام على حفظ نفسه من الفسوق والآثام، يحرص على سلامة لسانه من الغيبة والنميمة والسباب والشتائم، وغير ذلك من المحرمات، فإن رأى خيراً ذكره، وإن رأى سوءاً وشراً ستره، وهذا هو حال أهل الإسلام. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وفق لهذه الخصلة من الخصال الكرام.

خروجك من بيتك للحج توفيق إلهي

خروجك من بيتك للحج توفيق إلهي مِنْ زادك للحج: أن تعلم إذا خرجت من بيتك أن الله وحده هو الذي أخرجك، ولو شاء لثبطك ولحرمك، لو شاء الله لجعل الدنيا أكبر همك، ومبلغ علمك، وغاية رغبتك وشغلك، فحبستك الأموال والتجارات، وتعلقت بك الأبناء والبنات، فآثرتهم على ما عند الله: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. لو شاء الله ما خرجت، لو شاء الله ما لبيت؛ ولكنه سبحانه هو الذي أخرجك لرحمته: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] أخرجك برحمته وبره وإحسانه وهو أكرم الأكرمين، أخرجك إلى عفوه ورضوانه. نظر الله إليك وقد أحاطت بك الذنوب فأحب أن يغفرها، نظر الله إليك وقد كثرت منك العيوب فأحب أن يسترها، نظر الله إليك وقد أحاطت بك الهموم والغموم فأحب أن ينفسها، نظر الله إليك وقد آلمتك الأسقام والآلام فأحب أن يذهبها، نظر الله إليك وقد أقلقتك الديون وحقوق الناس فأحب أن يتحملها سبحانه ما أرحمه! سبحانه ما أفضله! وما أكرمه وما أوفاه وما أبره! اختارك من بين الملايين برحمته وهو أرحم الراحمين، اختارك وأنت أفقر ما تكون إليه، وهو أغنى ما يكون عنك، اختارك لرحمته فتشكره وتذكره. لو أن عبداً من عباد الله اختارك من بين المئات والألوف لضيافتك أو لمناسبته لشكرته وذكرته وحمدته، ولله المثل الأعلى، ما قدرناه حق قدره، ولا شكرناه حق شكره؛ فاحمده فإنه يرضى عن الحامدين، واشكره فإنه تأذن بالمزيد للشاكرين.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة في حض النساء على الحجاب

نصيحة في حض النساء على الحجاب Q نرجو منكم كلمة تحضون بها الأخوات على الخير وخاصة الحجاب. A يا معاشر المؤمنات! يا معاشر الصالحات القانتات! إن الله وعظكن فأحسن وعظكن، وأدبكن فأحسن تأديبكن، وأثنى على الخيرات الدينات، فقال سبحانه وتعالى فيما أنزل من آيات: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]. يا أمة الله: اتقي الله جل جلاله في جنانك، فاعمريه بالإيمان والعبودية للرحمن، فإن الله رضي لك ذلك، والبسي لباس الحياء والحشمة والعفة، وكوني على الخير والصفاء يستقم لك أمر الدنيا والآخرة، أصلحي لله السريرة في كل ما تقولين وكل ما تفعلين وكل ما تذرين وتتركين تستوجبي رحمة الله وهو أرحم الراحمين. احرصي على الخير حيثما كنت، وعلى طاعة ربك حيثما نزلت، فإن كنت كذلك بارك الله لك في الأيام والليالي، وقرت عينك بالباري. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لمرضاته، وأن يبلغنا منازل الرحمة في جناته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

حكم أخذ الزوج لراتب زوجته

حكم أخذ الزوج لراتب زوجته Q أنا امرأة متزوجة، وأعمل في مجال التدريس، وزوجي لا يسمح لي بالتصرف في راتبي، بل يأخذ منه الشيء الكثير، وقد يقترض ولا يرد القرض، وأنا لست راضية بهذا، ولا يسمح لي بأن أعطي والدي ووالدتي، ولا يسمح لي بشراء الملابس، وهو الذي يختار ما ألبسه، مع العلم أني حريصة على الملابس الشرعية، وسؤالي: هل يحق للزوج أخذ راتب زوجته؟ وجزاكم الله خيراً. A أوصي هذا الزوج وكل زوج أن يتقي الله جل جلاله، أوصي الزوج أن يتقي الله في زوجته، والزوجة أن تتقي الله في زوجها، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة، واليتيم) قرنها باليتيم؛ لأنها إذا اشتكت قد لا تجد من تشتكي إليه إلا الله جل جلاله، ويتخلى عنها أبوها وأخوها وابنها وقرابتها، فلا تجد إلا الله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء:45]. ظلم النساء لا خير فيه، ظلمهن بالأقوال، وظلمهن بالأفعال، وظلمهن في الحقوق لا خير فيه، ولذلك ذكر الله المرأة وهي تشتكي إليه، فأخبر أنه سمع شكواها من فوق سبع سماوات، لما جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه، وبثت إليه حزنها، وتقول: إلى الله أشتكي ثعلبة. فصعدت هذه الشكوى إلى الله جل جلاله منتهى كل شكوى، ولذلك بالتجربة: قل أن تجد إنساناً يظلم أزواجه ويسيء إليهن إلا عاقبه الله جل جلاله؛ ورأيت في الدنيا عاجل ما يكون من حاله، إلا أن يتقي الله ويغير ما به. ولذلك: ينبغي على المسلم أن يتقي الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالنساء وهو في حجة الوداع، وجعل وصية النساء في هذا اليوم المشهود العظيم، قال العلماء: لكي ينص ويبين على حقوقهن، وأنه ينبغي الوفاء بها وردها إليهن؛ لضعفهن في الغالب؛ وعجزهن عن المطالبة حتى عند الخصومة. المرأة إذا ظلمتها أو ظلمت وأرادت أن تخاصمك أو تقف في وجهك لا تستطيع، لربما تقول الكلمة والكلمتين ويغلبها البكاء، ولربما تقول الكلمة والكلمتين فيغلبها الخوف والرهبة فاتق الله جل جلاله! أمانة في عنقك، إما إلى جنة وإما إلى نار، أحسنوا إليهن، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من ضرب النساء وقال: (ما أولئك بخياركم). شاع عند كثير من الناس -إلا من رحم الله- في هذا الزمان التسلط على النساء، بالأذية لهن، والقهر لهن، والتضييق عليهن دون خوف من الله جل جلاله، ودون استشعار لنقمة الله العاجلة والآجلة، فالله الله! في النساء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهن خيراً، صحيح أنهن ضعيفات وقد يكون منهن التقصير، ويكون منك كما يكون منها، ولكن الإنسان يغفر السيئة بالحسنة، ومن منا كمل؟! ولعلك ترحم هذه المسكينة فيرحمك الله جل جلاله. ووالله لقد عهدت علماء وفضلاء وأتقياء صلحاء تنازلوا عن كثير من الحقوق للنساء؛ فوجدت أحوالهم على خير ما يكون عليه الحال، لأن من رحم يرحمه الله، ومن وسع على أقرب الناس إليه وسع الله عليه في الدنيا والآخرة. هذه وصية مهمة: التوسيع على الأهل، وإذا دخلت إلى بيتك دخلت حليماً رحيماً رفيقاً رقيقاً، خاصة الشباب الملتزمون بدين الله، فإنهم قدوة، ولربما يكون هو وحده من بين الأخوة كلهم ملتزماً بدين الله، والبقية على فجور أو على عصيان، فينظرون إليه أنه قدوة. فالله الله! في أذيتهن والتضييق عليهن، خاصة إذا رأيتها أمة تخاف الله جل جلاله. احمد الله سبحانه وتعالى إذا رزقك امرأة صالحة، اقدرها قدرها، فكم من نساء يتقلبن في الفتن وأهلكن أزواجهن وضيقن عليهم في الفتنة الحرام، وهذه الولية المؤمنة الأمة الصالحة اشكر منها صلاحها، في هذا الزمان تجدها بين أربع أركان بيتها، لا تستطيع أن تخرج، لا تطالبك بخروج ولا تبرج ولا فتنة، ولا تطالبك بشيء يفتنها عن دينها؛ فاشكر منها ذلك، ولو رأيت منها زلة فليتسع صدرك، ولتكن ذلك الرجل، لأن الله فضلك بالصبر والحلم والرحمة تسعها بحنانك، وعطفك وإحسانك. كان بعض الأخيار -أعرفه- تؤذيه زوجته، فكنت أقول له: لم تصبر؟! فقال: والله إن أباها قد أكرمني، وإنها رضيت بي زوجاً، وإني أرى فيها الخير، وقد أجللت هذه الثلاث، وأرجو من الله ألا أردها إلى بيتها يوماً من الأيام تشتكي مني أو أشتكي منها. الوفي كريم، ولعلك أن تصبر اليوم فيخرج الله منها ذرية صالحة فاصبر! وقد ذكر عن ابن أبي زيد القيرواني، ذلك الإمام الذي قال عنه النسائي: كان ثقة، وكانوا يقولون له: مالك الأصغر في صلاحه وديانته، كانت امرأته تسبه حتى أمام طلابه وأمام خاصته، ومع ذلك يصبر. قالوا له: لم تصبر؟! قال: إن الله سلطها علي بالذنب، وأخشى أنني لو طلقتها أبدلني الله شراً منها. فلذلك ما رأيت منها من هذه الإساءة فبذنبك، وكن حليماً رحيماً؛ فإن الله يرحمك. أنت قادر أن تطلق وأن تنتقم وتأخذ حقك بالقوة؛ ولكن تحلم فيحلم الله عليك، وترحم فيرحمك الله. وصية: أن نتقي الله، وكذلك يوصي الشباب الأخيار بعضهم بعضاً بالصالحات، النساء الصالحات في هذا الزمان لهن فضل كبير، والله! إن المرأة الصالحة في هذا الزمان درة ثمينة، ينبغي أن نعينهن على الالتزام بالتوسعة عليهن والرحمة بهن والإحسان إليهن. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لذلك، وأن يرحمنا برحمته. والله تعالى أعلم. أما بالنسبة للسؤال: فإن الزوج ظالم، والمال مال المرأة، حقها وعناؤها وكدها وشقاؤها هو حق من حقوقها، ليس من حقه أن يطالبها بهذا الراتب، وليس من حقه أن ينتزعه منها، ولقد ظلم وفجر، وبلغ من ظلمه وفجوره أن يحرمها من بر والديها -نسأل الله السلامة والعافية-! فقد ظلمها في مالها، ولا يحل له من مالها إلا ما طابت به نفسها، أما إذا لم تطب نفسها بشيء فإياك إياك! ومالها وحقها. ولذلك: يعتبر ظالماً من وجهين: لأخذه من مالها بدون حق، ويلزمه في التوبة أن يرد المال إليها كاملاً، وأن يتوب إلى الله مما بدر منه. وأما الأمر الثاني: فإنه يستغفر الله من العقوق الذي أمرها به. وانظروا إلى الشقاء! {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37] نسأل الله السلامة والعافية، فقد يكون عاقاً ويأمر زوجته بالعقوق. وأنا أطيل في هذه المسألة وأركز عليها -ولو تأخرنا- والله لأهميتها، فكم من بيوت هدمت، ولقد سمعت من بعض الشكاوى حتى من الصالحات يشتكين الصالحين، بعض الشباب فيه خير، وقد يلتزم على ذكر وعلى طاعة وبر، ولكنه يسيء التعامل، وقد تجد المرأة عنده السنة والسنتين لم يدخل السرور عليها يوماً من الأيام. يأتي لكي يدقق في كل صغيرة وكبيرة، ناسياً فضلها واستقامتها، المرأة بشر المرأة ضعيفة بين هذه الجدران الأربعة، تصور لو أنك سجنت بين هذه الأربعة الجدران يوماً كاملاً لضاقت عليك الدنيا، أنت تخرج هنا وهناك تبدد همومك وأحزانك، ولكن هذه الضعيفة لمن تشتكي غير الله جل جلاله؟! فلذلك: الرحمة! وينبغي على الأخيار أن يوسعوا، وأن يكونوا مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقف على قدميه يوم العيد لـ عائشة -نبي الأمة، وإمام الرحمة- من أجل أن تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون بالسلاح، فيقول: هل فرغت؟ تقول: لا بعد. يقول: هل فرغت؟ لا بعد. هل قال لها: أنا نبي الأمة أقف لك؟! لو أن شاباً خيراً اليوم قالت له امرأته: أريد أن تخرج بي لكي أنفس عن نفسي. لأقام الدنيا وأقعدها، أنت تتشبهين بالفاجرات! أنت كذا وأنت كذا! ونبي الأمة يقف على قدميه صلوات الله وسلامه عليه! يقود الأمة والجحافل في الجيوش والجهاد، وإذا دخل إلى بيته دخل حليماً رحيماً موطأ الكنف صلوات الله وسلامه عليه، فيأخذ بمجامع تلك القلوب ببره وإحسانه، فيأخذ القصعة من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيقسم عليها أن تشرب قبل أن يشرب من يفعل هذا الفعل؟! تشرب قبل شربه، ثم إذا شربت وضع فمه حيث وضعت فمها من يفعل هذه الأفعال الكريمة غير الصالحين؟ وإذا لم يفعلها الصالحون فمن يفعلها؟ فالله الله! في حقوق النساء! في التوسعة عليهن! وإدخال السرور عليهن! نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الخيار للأزواج. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

لا يجوز الرمي عن المرأة إلا بعذر

لا يجوز الرمي عن المرأة إلا بعذر Q رجل يرمي عن زوجته وهي تستطيع الرمي ولكن يخشى عليها من الزحام، فما الحكم؟ A الرمي عن المرأة بدون وجود عذر لا يجوز ولا يشرع، ولذلك إذا كانت المرأة قادرة على الرمي ورمى عنها زوجها أو محرمها أو أي شخص فإن هذا الرمي وجوده وعدمه على حد سواء، فلا يصح التوكيل على هذا الوجه الذي خلا فيه المكلف من العذر، وحينئذٍ يلزمها أن تعيد الرمي إذا كان الوقت يمكن فيه التدارك، وإذا كان لا يمكن فيه التدارك ففيه ما في واجبات الحج. والله تعالى أعلم.

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الحجاج

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الحجاج Q ما هو واجب أهل الاستقامة من الحجاج الذين يرون كثيراً من الحجاج يجاهرون بشرب الدخان والتصوير والتخلف عن الصلاة؟ A الحج جمع الله فيه المؤمنين والمؤمنات؛ حتى نحس أننا مسلمون ومؤمنون؛ وأن الله قد ألف بين أرواحنا وجمع بين قلوبنا، فيكمل بعضنا بعضاً. كم أصلح الله من أحوال أقوام في هذا الحج!، وكم استقامت قلوب لله جل جلاله بالنصائح الغالية والتوجيهات والمواعظ الهادفة في حج بيته الحرام!، غير الله قلوباً وقوالب فأذعنت واستسلمت وصلحت واستقامت بالذكر بالتواصي بالحق بالأمر بما أمر الله والنهي عما حرم الله جل جلاله. فتحرص -أخي في الله- أن تؤدي لإخوانك حقهم عليك: النصيحة، وأعظم ما تكون النصيحة في أصول الدين، فإذا رأيت منه أخطاءً في عقيدته سددته ووفقته وقومته، ودللته على أصل الأصول، وعلى الأساس الذي لا يمكن أن يقبل الله به عمل عامل حتى يصححه، ويقيمه على المنهج السوي والطريق الرضي، وتأخذ بحجزه عن النار، وتذكره بحق الله جل جلاله عليه. تسمع منه كلمة فيها استغاثة بغير الله أو استجارة بغير الله تدله على توحيد الله، وإسلام القلب لله، وأنه ما جاء لهذا المكان إلا لكي يقيم حق لا إله إلا الله، فتبين له هذا الأصل وتقرره. واعلم رحمك الله أنك لو رأيت منه هذا الذنب العظيم وسكت تعلق بك بين يدي الله جل جلاله، وقال: يا رب! رآني على هذا المنكر، ورآني على هذا الخلل والزلل ولم يأمرني بأمرك ولم ينهني عن نهيك. كذلك إذا رأيت منه الأخطاء في أقواله وأفعاله، سواء كان رجلاً أو كانت امرأة هتكت حجابها واعتدت حدود ربها؛ ذكرتها بالله: يا أمة الله! اتقي الله يا أمة الله! افعلي يا أمة الله! اتركي (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) ربما تمر على عاصٍ منتهك لحدود الله، فيتمعر قلبك لله، فتقول من كل قلبك: اتق الله؛ فيكتب الله لك بهذه الكلمة رضاً لا سخط بعده أبداً. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قاعدة الخير وأساس البر؛ ولذلك عظم الله به الأجور، ورفع به الذكر، وما رفع قدر العلماء إلا لما قاموا بدينه، ما رفعهم بأحسابهم ولا أنسابهم ولا ألوانهم؛ ولكن رفعهم لما رفعوا دينه وأقاموا حجته على عباده سبحانه وتعالى. وجعلهم ورثة للأنبياء، وشرفهم وكرمهم بالأمر بأمره والنهي عن نهيه، فمن أراد أن ينال أو يبلغ مبلغ مرضاة الله فليتشبه بالعلماء العاملين الصديقين، الذين يأمرون بأمر الله وينهون عن حدود الله ومحارم الله، فتأمر بطاعة الله وتنهى عن معصية الله، ولا عليك، يقبل من يقبل ويرد من يرد، فما كلفت بنتائج عملك، إنما كلفت أن تقيم بحق الله جل جلاله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين. والله تعالى أعلم.

نصيحة عامة لشاب قيدته المعاصي

نصيحة عامة لشاب قيدته المعاصي Q هل من نصيحة لشاب قيدته المعاصي، كلما أراد التوبة عاودته الذنوب، فهل من سبيل لأن يكون حج هذا العام تطهيراً له من هذه الذنوب، وتوبة صادقة خالصة بإذن الله؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن التوبة بابها مفتوح، الله جل جلاله يفرح بتوبة التائبين، ويقيل بحلمه وإحسانه عثرات النادمين، ما صد أحداً عن بابه، ولا حرم أحداً رجاه في مغفرته وعفوه وإحسانه، الله جل جلاله لا يهلك عليه إلا هالك، يفرح بتوبتك أشد من فرحك بالتوبة، ولو علمت مقدار حبه سبحانه لتوبتك وإنابتك لكنت أعجل الناس بالتوبة وأسرعهم إليها، ولو تكررت منك الذنوب، وكثرت منك الإساءة والعيوب؛ فإن الله جل جلاله رحيم لطيف كريم، فأبشر بخير، ولا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من روح الله، فإنه لا يهلك على الله إلا هالك. قتل رجل مائة نفس آخرها عابد صالح قانت مقبل على ربه، فقتل هذا العابدَ تمام المائة وما قنط من رحمة الله جل جلاله، فسأل عن أعلم أهل زمانه؛ فدل على أعلمهم وسأل عن التوبة، فقال له: وما الذي يمنعك منها؟! ولكن قومك قوم سوء، وقوم فلان قوم صالحون، انطلق إلى قرية كذا وكذا فخرج إلى قرية الصالحين تائباً نادماً مقبلاً على الله جل جلاله، فأدركه الموت بعد هذه الجرائم الفظيعة، والدماء التي سفكها، والمحارم التي أصابها، ففرح الله بتوبته، وأجل الله منه الخطوات وهو مقبل عليه سبحانه وتعالى. إن تقربت منه شبراً تقرب منك ذراعاً، وإن تقربت منه ذارعاً تقرب منك باعاً سبحانه، وأنت أفقر ما تكون إليه، وهو أغنى ما يكون عنك. (يا عبادي: إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) فالله -سبحانه وتعالى- لا تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضره معصية العاصين، تبارك وهو رب العالمين. فلا تيأس من رحمته، ولا تقنط من روحه، ولو تكرر الذنب منك مرات وكرات ولو ملايين المرات، فلا تقنط من رحمة الله، وأغظ عدو الله إبليس، فإن الله إذا رآك كلما افتتنت تبت فرح بتوبتك؛ لأنه يحب التوابين، و (التوابون) هذه الصيغة في لغة العرب تدل على أنهم أكثروا التوبة، وأكثروا الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى. فأبشر بخير ما دمت ترجو رحمة الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه). نسأل الله العظيم أن يتوب علينا وعليكم في التائبين، وأن يرحمنا وإياكم وهو أرحم الراحمين. والله تعالى أعلم.

حكم حج من عليه دين مقسط

حكم حج من عليه دين مقسط Q ما الحكم فيمن أراد الحج وعليه أقساط شهرية لا تنتهي إلا بعد أربع سنوات؟ A الدين يمنع وجوب الحج، الأصل في ذلك: أن المديون إذا لم يجد سداد دينه فإنه عاجز عن بلوغ البيت؛ لأن حقوق العباد محيطة به، وهو مطالب بسدادها، ولا يؤمر بحجه إلا بعد أن يملك النفقة والزاد، لقوله سبحانه وتعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فالمديون الذي لا يجد سداد دينه لا يستطيع إلى البيت سبيلاً، لأنه ذمته مشغولة بحقوق العباد، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه ينبغي عليه أن يبدأ بسداد دينه، ولا يجب عليه الحج ما دام أنه غير قادر من ناحيته المادية. أما إذا كان الدين أقساطاً، فقال بعض العلماء: الدين المقسط الذي يكون على أنجم شهرية أو سنوية، إذا أدى قسطه لشهر حجه فإنه لا حرج عليه أن يحج، وهكذا إذا كان عليه دين، واستأذن أصحاب الديون فأذنوا له؛ فإنه لا حرج عليه أن يحج. والله تعالى أعلم.

حكم استخدام المرأة للحبوب المانعة من الدورة حال الحج

حكم استخدام المرأة للحبوب المانعة من الدورة حال الحج Q سائلة تريد الحج وتسأل عن حبوب منع الدورة ما حكمها؟ A هذه المسألة لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يعتبرها العلماء من مسائل النوازل، وقد نزلت في العصور المتأخرة، فبعد المائة السابعة أو الثامنة وجد الدواء، وكان عند العطارين يوجد ما يقطع الدم عن المرأة ويؤخر الحيض عنها، فقال بعض العلماء: إنها إذا شربت الدواء الذي يقطع حيضها ويؤخر عادتها فعبادتها صحيحة. وهذا هو القول الصحيح؛ لأن الشرع علق الحكم على وجود الدم، فإن وجد الدم تعلق به المنع، وإن انتفى فإنها لا تعتبر ممنوعة من عبادتها؛ لأن الأصل فيها أنها مكلفة. وبناءً على ذلك قالوا: إنها إذا شربته وصامت صح صيامها، ولو شربته وحجت وطافت صح طوافها وحجها؛ لأن الله علق الحكم بوجود الدم. والله تعالى أعلم.

الكتاب والسنة هما مرجع المسلم في حياته كلها

الكتاب والسنة هما مرجع المسلم في حياته كلها Q ما الكتب التي تنصحون بالاستعانة بها في الحج؟ A كتاب الله والسنة الصحيحة فيهما الغنى والكفاية، وما حرم كثير من الناس من حصول الخير على أتم وجوهه وأكملها إلا لما حرموا كتاب الله جل جلاله، فتجد الإنسان إذا أراد موعظة يبحث عن الأشرطة والكتيبات، وموعظته في كتاب الله سبحانه وتعالى، يترك خير الواعظين جل جلاله ورب العالمين، الذي إذا وعظ بلغته موعظته، فلربما الآية الواحدة تقلب الإنسان من الشقاء إلى السعادة، فكم من كلمات في كتاب الله لو استحضرها الإنسان لجعلها نصب عينيه إلى لقاء الله سبحانه وتعالى. ما ضر الكثير -حتى من الدعاة والهداة- إلا إقبالنا على كلام الناس أكثر من إقبالنا على الله، ولذلك كان السلف يصحبون هذين الكتابين وهذين النورين، صحبوا كتاب الله جل جلاله بقيام الليل بالقرآن، وبكاء الأسحار بآياته وتأثرهم بعظاته، حتى بلغ كتاب الله منهم المبلغ، فتقرحت قلوبهم، وأقبلوا على الله ربهم يدعونه ليلاً ونهاراً، ويخبتون إليه سراً وجهاراً أن يرزقهم جنة ويحجب عنهم ناراً. كانوا أئمة في الخير بهذا الكتاب، اصحب كتاب ربك واصحب مواعظه معك وانظر إلى أثر هذه المواعظ وعظيم انتفاعك بها. قرأنا القرآن وما حضرت قلوبنا عند قراءته، وسمعناها وما حضرت قلوبنا عند سماعه، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] هل من مدكر؟ هل من مشتر لرحمة الله فيستمع لهذا القرآن فيرحم، كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]؟. الاستماع لكتاب الله وكثرة التلاوة والتدبر هي التي تعين على كل خير، وما نال السلف الصالح -رحمة الله عليهم- الاستقامة على أتم وجوهها وأكملها، فشرفهم الله أئمة لهذه الأمة الصالحة إلا بكتاب الله جل جلاله، كان الرجل يختم على الأقل كل شهر مرة، ومنهم من لا تمر عليه عشر ليالٍ إلا وقد ختم كتاب الله، ومنهم -وهو من أكملهم وأفضلهم، الذي أصاب السنة- من يختم كل ثلاث ليالٍ. يعرض كتاب الله -أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، وتخويفه وتهديده، وبشارته ونذارته- في كل ثلاثٍ مرة، يقف لكي يعرض قلبه وقالبه وأقواله وأعماله على هذا الكتاب. فأوصيك أن تصحب كتاب الله معك فتتلوه إن كنت حافظاً، وتسمعه إذا لم تكن حافظاً، وتقرؤه ولو بالنظر؛ وسترى الخير الكثير من الله سبحانه وتعالى؛ فإنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ففيه الخير كله. كذلك تصحب سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وتعلم ما الذي أمرك الله به فتفعله، وما الذي نهاك عنه فتتركه، وتسأل دائماً عن هديه وسمته ودله، فإن العلم بالسنة رحمة، ولذلك أقرب الناس لرحمة الله جل جلاله علماء السنة، العاملون بها المهتدون بهديها، الداعون إليها، تجدهم في رحمة، حتى إن وجوههم مشرقة في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها، وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) (نضر الله): من النضارة، وهي الحسن والوضاءة والجمال. قال العلماء: إن هذا الحديث يدل على أن الله سبحانه وتعالى يهب لأهل الحديث النور في وجوههم. قال بعض العلماء: (نضر الله) أي: في الآخرة، فيحشرون يوم القيامة ووجوههم مشرقة من نور السنة جعلنا الله وإياكم من أهلها. وقال بعض العلماء: الحديث عام -وهو الصحيح- (فنضر الله) أي: في الدنيا والآخرة، ولذلك قل أن تجد عالماً عاملاً بالسنة إلا وجدت وجهه كالشمس والقمر بنور السنة، ولذلك عرف أهل السنة بهذا النور في وجوههم: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] من أثر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، ولذلك يحرص الإنسان على هذين النورين أن يصحبهما. نسأل الله العظيم أن يرزقنا حبهما، والعمل بهما، والائتساء بهما، حتى يكون القرآن شفيعاً لنا في موقفنا بين يدي ربنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

المواطن الفاضلة للدعاء في الحج

المواطن الفاضلة للدعاء في الحج Q ما هي الأوقات الفاضلة للدعاء في الحج؟ وهل من جدول مقترح لمن أراد حجاً مبروراً؟ أولاً: احرص بارك الله فيك على أمر هو قاعدة كل خير، وأساس كل بر في العبادات، وهو: التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما من موقف وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرص فيه على الدعاء إلا كنت كذلك حريصاً على الدعاء، وتجتهد -رحمك الله- في التأسي به صلوات الله وسلامه عليه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] كتب الله الرحمة والهداية والخير والبر لمن سار على نهجه والتزم بسنته صلوات الله وسلامه عليه. لا تستحدث من عندك أوقاتاً ولا مناسبات، ولا تستحسن شيئاً على شيء، إنما تكون خطواتك وآثارك وسيرتك وسريرتك على وفق السنة. قال بعض السلف: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل. وإن استطعت ألا تفعل أي شيء إلا بسنة فافعله، وكانوا إذا أرادوا أن يثنوا على الرجل قالوا: هو صاحب سنة. فإذا أردت مواطن الدعاء فاجتهد في التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم. دعا عليه الصلاة والسلام وهو يطوف بالبيت، ودعا لما رقى على الصفا، وهذه السنة يضيعها كثير إلا من رحم الله، لما رقى على الصفا كبر الله وهلله ووحده سبحانه وتعالى. الله أكبر! في هذا المقام الذي وقف عليه -عليه الصلاة والسلام- في أول دعوته الجهرية، قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله) فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟! عمه وقريبه وأمام الناس يسفهه ويهينه صلوات الله وسلامه عليه وهو الكريم، وإذا به في حجة الوداع يرده الله إلى نفس المكان ويوقفه صلوات الله وسلامه عليه ومعه مائة ألف من أمته وأصحابه صلوات الله وسلامه عليه، كلهم يفديه بنفسه وروحه خلفاً من الله وعوضاً. فلما رقى قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله نصر عبده، وأعز جنده، وصدق وعده) فهلله سبحانه وتعالى ثم شرع يدعو، ثم رد ثانية فهلل وكبر ثم دعا، ثم هلل وكبر. (ثلاث مرات). هذه السنة يضيعها الكثير كنا إذا حججنا مع بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لربما في العمرة يمكث الساعتين إلى ثلاث ساعات، أما الآن فتجد المعتمر يقف في هذا الموقف قد تكون لحظات يسيرة، قد تبلغ الدقائق بل ثواني يريد أن يعجل حتى ينتهي من عمرته، هذا الموطن موطن دعاء، وموطن مكروبة مفجوعة منكوبة فرج الله كربتها ونكبتها، فهذا موطن دعاء فاجتهدوا فيه. وإذا كان يوم عرفة ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى الموقف، فإذا صليت مع الإمام فليس بوقت نوم ولا راحة، فاجتهد بذكر الله وتوحيده والثناء عليه، ثم اجتهد في الدعاء والمسألة والإلحاح على الله عز وجل، وكلما دعوته استلذ بالكلمات التي تخرج منك، ادعه بقلب حاضر. كذلك في المشعر الحرام وقف صلى الله عليه وسلم ودعا وتضرع حتى أسفر، ثم دفع قبل الإسفار؛ مخالفة للمشركين كما ثبت في الحديث الصحيح، ثم لما كان اليوم الثاني -وهو اليوم الحادي عشر- رمى الجمرة الصغرى، ثم أخذ ذات اليسار ورفع يديه ودعا دعاءً طويلاً، ثم مضى إلى الجمرة الوسطى ورماها، ثم أخذ ذات اليسار، ثم دعا دعاءً طويلاً، ثم مضى ورمى جمرة العقبة ولم يقف عندها، فما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه دعا عند جمرة العقبة، لا في يوم العيد ولا في أيام التشريق. فهذه المواطن هي أفضل المواطن، يقول العلماء: من تحرى السنة في أي طاعة وذكر كان له أجران: أجر الدعاء، وأجر التأسي. فأنت إذا وقفت هذه المواقف تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتفعل كما فعل؛ تثاب بثوابين: الثواب الأول: ثواب العمل. والثاني: ثواب الاقتداء واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يجعل عبادتك أفضل وأكمل؛ ولذلك بعض العلماء يرون -وهو مذهب الجمهور- أن المضاعفة تختص بالحرم، وإن كان الأقوى أن المضاعفة تشمل الحرم كله لأحاديث منها حديث الحديبية، وتسمية الله لمكة كلها بالمسجد الحرام. الشاهد: أنه على القول الذي يقول إن مضاعفة مائة ألف صلاة تختص بالمسجد نفسه يقولون: في يوم الثامن -الذي هو يوم التروية- صلاة الحاج في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر أفضل من صلاته بمكة؛ لأنه إذا صلاها بمنى نال فضل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهي فضيلة الاتباع، وحينئذ يكون التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه الأجران، ولذلك قال العلماء: ما ورد من القربة اتباعاً أفضل مما لا يكون فيه اتباع كأن يكون مندرجاً تحت أصل عام، إلا إذا بلغ حد البدعة. فالمقصود: أن تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتجتهد في السؤال والمسألة والإلحاح على الله، خاصة في المواطن التي ألح فيها صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لم يختر هذا الموقف للإلحاح إلا وهو يعلم أنه موطن إلحاح، ولذلك كان أعلم الناس بربه، وكذلك أتقاهم وأخشاهم لربه صلوات الله وسلامه عليه. والله تعالى أعلم.

حج الفرض لا يشترط فيه إذن الوالدين

حج الفرض لا يشترط فيه إذن الوالدين Q هل يحق للوالدين أن يمنعا ابنهما من الحج لخوفهما عليه، خاصة وأنه سوف يحج مع رفقة صالحة، وليس لديه عائق إلا موافقة والديه؟ A هذه المسألة فيها تفصيل: إما أن يكون الحج واجباً وفرضاً لازماً فلا طاعة للوالدين، تطيع الله جل جلاله، ونص العلماء -رحمهم الله- على أن الحج المفروض لا يشترط فيه إذن الوالدين. أما إذا كان الحج نافلة فإنك لا تخرج إلا بإذن والديك، فإن منعك الوالدان -خاصة إذا كان لهما مبرر، أو يخافان عليك، وكان لخوفهما مبرر: كضعف جسد الإنسان، أو كون الإنسان لا يحسن التصرف في السفر- فهذا من حق الوالدين، وبرك وجلوسك عند والديك تصيب به الأجران. قال العلماء: إذا منع الوالدان فقد بر والبر فرض، ولو خرج ترك الفرض لسنة ونافلة. فيجلس مع والديه ويكتب الله أجر الحج كاملاً بالنية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، إلا شركوكم الأجر. قالوا: يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر). قال العلماء: العذر عذران: عذر حسي يكون في الإنسان من مرض ونحو ذلك مما سن الله عز وجل. وعذر حكمي: وهو العذر الشرعي، أن يمنعك عذر شرعي، فإذا امتنعت لبر الوالدين فهذا عذر شرعي، يكتب لك الأجر، وتبلغ بالنية ما لم تبلغه بعملك والله تعالى أعلم.

حث الحجاج بالدعاء للمسلمين في البلاد المضطهدة

حث الحجاج بالدعاء للمسلمين في البلاد المضطهدة Q أحوال المسلمين في كل مكان لا يعلمها إلا الله، فيا حبذا لو حثثتم المسلمين عموماً والحجاج خصوصاً على الدعاء لهم، فعسى أن تخرج دعوة صادقة ينفس الله بها الكربات، وجزاكم الله خيراً. A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن الدعوة سهم من سهام المؤمنين، الدعوة إذا استجيبت لا ترد، والدعوة إذا استجابها الله فإنها ماضية نافذة؛ ولكن من الذي يوفق للدعوة المستجابة، ومن حق المسلم على المسلم أن يتألم بآلامه، وأن يحزن لأحزانه وأشجانه، فكلما سمع بأخيه المسلم كربة أو نكبة تألم لها وكأنها به. كان بعض العلماء إذا سمع بضر بالمسلمين تألم وسقم جسده حتى يعاد في بيته؛ وهذا من كمال الإيمان الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) فيتألم المسلم لضعفاء المسلمين ولنسائهم وأطفالهم، وشبابهم وشيبهم، وصغارهم وكبارهم، وكأن البلايا نزلت به، فإذا بلغ هذه المرتبة فليحمد الله جل جلاله أن رزقه الإيمان والشعور، فيقدم لإخوانه المسلمين، وأقل ما يقدمه -وليس بقليل-: أن يدعو لهم بظهر الغيب. سل الله أن يفرج كرباتهم، سله في مواطن الإجابة ومواطن الدعاء، وأنت ساجد بين يديه، وفي الأسحار، وبين الأذان والإقامة. ونحو ذلك من المواضع المستجابة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفرج هم المهمومين، وأن ينفس كرب المكروبين، وأن يفك الضيق عن المأسورين، إنه ولي ذلك والقادر عليه والله تعالى أعلم.

حكم التكاسل عن الحج مع الاستطاعته

حكم التكاسل عن الحج مع الاستطاعته Q بعض الإخوة لم يحج حجة الإسلام، وهم مترددون في ذلك مع استطاعتهم، فما توجيهكم لهم جزاكم الله خيراً؟ A من ملك الزاد وجب عليه الحج إلى بيت الله سبحانه وتعالى، ومن لم يقم بفريضة الله فقد عصى الله جل جلاله، فإن كانت الأموال هي التي تمنعه فإن الله قد يمحق بركة ماله، وإن كانت الأبناء والبنات والزوجات فإن الله يشقيه ببناته وأبنائه وزوجاته. لا خير في الدنيا إذا صرفت عن الله سبحانه وتعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32 - 33] وكانت عزيزةً عليه -عليه الصلاة والسلام- فالدنيا إذا ألهت عن ذكر الله أشقت صاحبها نسأل الله السلامة والعافية! فإذا كان الإنسان يتخلف عن الحج بدون عذر فليعلم أن الله فتن قلبه، وأن الله كره انبعاثه فثبطه: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. لا يقصر في أوامر الله إلا من كان محروماً من كمال الإيمان، فالإيمان هو الذي يبعثك على طاعة أمر الله، والاستجابة لما يحييك إذا دعاك الله، والإيمان هو الذي يكفك ويحجزك ويخوفك من حدود الله جل جلاله، فإذا كان الله قد أمر عبده بالأمر فامتنع وقصر وهو يرفل في نعمة الله سبحانه وتعالى فليبك على نفسه، فإنه ذنب ومعصية وسيئة وخطيئة، وسيسيئه الله بهذا الذنب إما في الدنيا وإما في الآخرة، وإما أن يجمع له بين إساءة الدنيا والآخرة. من تخلف عن الحج فقد عصى الله جل جلاله، وسيرى عاقبة هذه المعصية. كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعرفون التقصير في الطاعات والواجبات حتى في خلق الدابة والزوجة. من عصى الله جل جلاله فترك أمره، واقترف نهيه وزجره؛ فإن الله يعذبه بما فعل. قال العلماء: سميت السيئة سيئة لأنها تسيء بصاحبها إما في الدنيا وإما في الآخرة، وإما أن يجمع الله له بين إساءة الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية! فمثل هذا وإن ارتاح قليلاً فسيتعب كثيراً، وإن لم يتداركه الله بتوبة نصوح، والندم عما سلف وكان، ويستغفر الله مما بدر منه، ويبادر إلى حج بيت الله الحرام، ويحمد الله جل جلاله أن يسر له السبيل، فليؤذن نفسه بعقوبة من الله سبحانه وتعالى: إما عاجلة، وإما آجلة، وإما عاجلة وآجلة. نسأل الله العظيم ألا يبتلينا بمثل هذا، إنه ولي ذلك والقادر عليه والله تعالى أعلم.

رسالة من طالب علم

رسالة من طالب علم إن طالب العلم إذا أحب أن يرتقي بعلمه، فيصبح من أهل العلم الأمناء على دين الله وشرعه، المجانبين لأهوائهم، المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله؛ فعليه أن يلازم أهل العلم، ويأخذ علمه وسمته من المشايخ قولاً وعملاً، وهنا ثمة وصايا يحتاجها طلاب العلم في حياتهم، ليتأدبوا بآداب العلماء، وليتخلقوا بالكتاب والسنة.

وصايا لطلاب العلم

وصايا لطلاب العلم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الحج مبروراً، والسعي مشكوراً، والذنب مغفوراً. اللهم اجعلنا مرحومين لا محرومين! واجعلنا فائزين غانمين! برحمتك يا أرحم الراحمين! في بداية هذا الدرس الأول من النصف الثاني من العام الدراسي، سيكون حديثنا عن بعض الأمور التي يحتاجها طالب العلم؛ حتى يستطيع أن يقوم برسالته؛ ويؤدي أمانته على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى. ولاشك أن النفوس محتاجة دائمة إلى التذكير بالله عز وجل، وأي نفس مؤمنة صحبها التذكير بالله أنست بربها، واستقامت على سبيل خالقها؛ لأن الله تعالى شهد لها بالانتفاع بالذكرى فقال سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].

وجوب التمسك بالكتاب والسنة

وجوب التمسك بالكتاب والسنة وآخر ما نختم به هذا المجلس: وصية بالتمسك بالكتاب والسنة، وعدم الالتفات إلى الفتن والمحن، والاستعصام بحبل الله عز وجل، فإن الله عز وجل وصى عباده بالرجوع إلى دينه، والاستمساك بحبله، والاستعصام به، وقرن النجاة في ذلك، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام -والأمر له ولأمته-: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] فمن أراد النجاة من الفتن الظاهرة والباطنة فليستمسك بكتاب الله عز وجل، وليعلم أن الله جعل القرآن نوراً وشفاءً وهدى ورحمة لمن استهدى به. والاستعصام بكتاب الله والسنة يعني الرجوع إليهما في الصغير والكبير والجليل والحقير، وتطبيق ما قال الله وقال رسوله؛ حتى يكون الإنسان المسلم مستسلماً لله ومنقاداً لشرعه كما أمر الله عز وجل، وأي حكم من أحكام الله عز وجل في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يبلغك تطبقه بكل تسليم وإذعان، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]. ولا يمكن للإنسان أن يحكم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمحبة العلماء، والرجوع إلى العلماء الربانيين الموثوق بدينهم وعلمهم، وسؤالهم، والعمل بما يقولون، وأن يحرص طالب العلم عند سؤال العلماء على الأدب، ورعاية الحرمة، وعدم التشويش والتضييق عليهم؛ فإن أذية العلماء عواقبها وخيمة، وكم من مصاحب للعلماء رفع الله قدره بصحبتهم! وكم من صاحب لعالم جعله الله في سفال في صحبته من الأذية له والتضييق عليه، وعدم الإحسان في السؤال، وعدم التهذب في الألفاظ، وعدم رعاية الحرمة. ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يوطن نفسه بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وإذا كان العالم يرى من سائله ما يعينه على أداء الحق وبيان الحق بين له. إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما فاقنع بدائك إن جفوت طبيبها واقنع بجهلك إن جفوت معلما فعلى الإنسان أن يحرص على الرجوع إلى الكتاب والسنة، ففيهما نجاة من الفتن والمحن، حتى إن طالب العلم الموفق السعيد قد جعل القرآن أمام عينيه في جميع أموره، ولذلك الفتن لا تجد سبيلاً لما قد يقال بالعلم، الموفق المسدد يخرج من بيته فيرى فتنة من الفتن أمام عينيه يتذكر أن الله يقول له: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] فيغض بصره. يجلس في مجلس فيسمع أحداً يغتاب مسلماً يقول له: لا تغتب. فإن امتنع قام من المجلس؛ لأنه يعلم أن الله نهاه أن يغتاب مسلماً، ونهاه أن يجلس في مجلس فيه ظلم للمسلمين، وخوض في آيات الله، وانتهاك لحرمة أولياء الله. هكذا إذا حرص الإنسان على تطبيق الإسلام -كما ينبغي- في نفسه وأخلاقه وشئونه وفقه الله وسدده، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله وقاه وجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، ونسألك أن تبلغنا مقام الرضا، اللهم اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تقدمنا إلى شر ولا تؤخرنا إلى شر، اللهم احفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك وعنايتك، سدد أقوالنا وصوب آراءنا يا حي يا قيوم! وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وكمل نقصنا، والطف بنا، يا حي يا قيوم! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الإخلاص أساس الدين وطريق الخلاص

الإخلاص أساس الدين وطريق الخلاص خير ما يوصى به طالب العلم بل ويوصى به الناس جميعاً، وينبغي أن يكون في نفس كل مؤمن في كل لحظة أن يكون مخلصاً لله عز وجل؛ لأن الإخلاص هو أساس الدين، وطريق الخلاص، وطريق النجاة في الدنيا والآخرة. فمن عرف الله وعمل لله نال ولاية الله جل جلاله، ومن كان لله قلباً وقالباً بارك الله قوله وعمله؛ وشكر سعيه؛ وجعل له حسن العاقبة التي لا تكون إلا لأهل التقوى كما قال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]. فحري بطالب العلم دائماً أن يسأل نفسه ويحاسبها عن حق الله في قوله وعمله، وظاهره وباطنه، وسريرته وسيرته، فإذا جد واجتهد في تكميل نقصه بالإخلاص، وجبر كسره بإذن الله عز وجل في ذلك نال سبيل الخلاص. إنه الإخلاص الذي لا يمكن أن يقبل القول أو العمل إلا بتحقيقه، والقيام بحقوقه: أن يراد به وجه الله ولا يبتغى شيء سواه سبحانه وتعالى.

الجد والاجتهاد في طلب العلم

الجد والاجتهاد في طلب العلم حري بطالب العلم أن يجد ويجتهد، ولا يسأم ولا يمل من حمل هذه الرسالة، وضبط هذه الأمانة، والعناية بالعلم حفظاً ومراجعة ومذاكرة؛ كل ذلك لكي يعظم أجره، ويثقل ميزانه، فأعظم الناس أجراً في طلب العلم أعظمهم تعباً، وأكثرهم مشقة ونصباً، وقرن الله العلم بالتعب، وجعل أهله أهل جد واجتهاد، فما نظر طالب علم في سيرة العلماء والأئمة الفضلاء إلا وجدهم قد اكتحلوا السهر، وجدوا واجتهدوا في طلب هذا العلم حتى نالوا بفضل الله وحده ما نالوه من الخير والبركة. إن الجد والاجتهاد في العلم يعني المسئولية، والشعور بالمسئولية يعني إكرام العلم، والمحبة الصادقة له، لا يجد ولا يجتهد في مراجعة العلم وضبطه وإتقانه إلا الأمين، الذي يستشعر أنه مؤتمن -من أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. فالعلم لا ينال بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة، ولا بالألقاب الفارغة، إنما هو منحة لها أسباب بفضل الله لا بفضل أحد سواه، الجد والاجتهاد لا يمكن أن يكون إلا من إنسان استشعر المسئولية والأمانة، واستشعر أن العلم ثقيل كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5].

الأسباب المعينة لطالب العلم على ضبط العلم وإتقانه

الأسباب المعينة لطالب العلم على ضبط العلم وإتقانه ولذلك يجب على كل طالب علم أن يبحث عن الأسباب التي تقوي روحه ونفسه على ضبط العلم وإتقانه. ومن أعظم هذه الأسباب: أن يستشعر أن كل آية وحديث وحكم شرعي يسمعه في مجلس عالم أو في فتوى أو يقرؤه في كتاب إنما هو أمانة في عنقه، وأن العالم إذا بين العلم فقد وضع الأمانة في رقاب طلابه، ومن حضر واستمع فقد حمل الأمانة. قال صلى الله عليه وسلم -يشير إلى هذا المعنى-: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أمناء على دين الله وشرعه، وأنهم مطالبون بتبليغ الرسالة، وجعل اجتماعهم وشهودهم أمانة عليهم، وعليهم مسئولية عليهم أن يبلغوا، وهذا لا شك أنه يحفز نفس طالب العلم إلى ضبط العلم وإتقانه. وعلى كل طالب علم أن يهيئ الأسباب، وينظم وقته ويرتبه للمذاكرة وللجد والتحصيل، ويبحث عن طالب علم يثق في دينه وأمانته وجده واجتهاده، فيذاكر ويراجع معه، وإذا لم يجد فإن الله نعم المولى ونعم النصير، فيكون له من ربه معين وظهير؛ لكي يضبط هذا العلم ويقوم بحقه وحقوقه.

ضرورة التعرف على العوائق والشواغل المثبطة عن طلب العلم واجتنابها

ضرورة التعرف على العوائق والشواغل المثبطة عن طلب العلم واجتنابها إذا أخلص طالب العلم لله وجد واجتهد في ضبط هذا العلم وإتقانه، عليه أن يعلم أن هناك عوائق تحول بينه وبين هذه الغاية، وبين الوصول إلى هذه المراتب العالية في ضبط العلم وإتقانه. وهذه العوائق والشواغل تثبط العباد عن طاعة الله عز وجل، وهي من امتحان الله لخلقه؛ لأنه ما من عمل صالح إلا وقد جعل الله بين العبد وبينه ابتلاءات، وبقدر هذه الابتلاءات ترتفع الرتب وتعلو الدرجات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره). ومن أعظم ما يجابه المسلم وطالب العلم في طلبه للعلم عدم تقدير العلم والعلماء، الذي يكون من النفس الأمارة، تكون من إنسان لا يعرف حق العلم ولا قدره ولا قدر العلماء، فتارة يستهزئ بالعلم الذي يتعلمه، وقد يشكك في الحق الذي تتعلمه، وتارة يستهزئ في جلوسك في مجالس العلم والعلماء. ولذلك تجد بعض العوام والجهلة يستخف بطلاب العلم وأين يذهب؟! وأين يجلس؟! ويقول له: إنه يضيع عمره؛ لأنه لم يجده في تجارة ولا بيع ولا شراء، لا يريده إلا في حطام الدنيا! فيستخف به، وربما وجد من الناس من يقول له: لماذا تضيع وقتك مع العلماء، وهؤلاء العلماء فيهم وفيهم؟! فينتقص العلماء ويتكلم فيهم. وإن أعظم ثلمة في الدين -بعد ضياع حق الله عز وجل- إضاعة حق الرسل وحق ورثتهم من العلماء، فالتشكيك في العلماء، والطعن في مكانتهم وأمانتهم، وتتبع عثراتهم وزلاتهم، ونزع ثقتهم من قلوب الناس أمر لا خير فيه، بل هو شر، وبلاء لا عافية، وما عاشت هذه الأمة إلا على حب علمائها، وحسن الظن بصلحائها، واحترامهم وتقديرهم وحملهم على أحسن المحامل، فإذا نزعت هذه الثقة من قلوب الناس، من الذي يعلم الناس دينهم؟! ومن الذي يدلهم على ربهم؟! ومن الذي يرشدهم على خالقهم؟! وهب أن عند العلماء أخطاء، فهل معنى ذلك أن تتبع عوراتهم، وأن تكشف سوآتهم والعياذ بالله؟! فعلى طالب العلم أن يوطن نفسه بمحبة أولياء الله، وليعلم أن أهل العلم بشر يخطئون ويصيبون؛ ولكن لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولا يمكن أن يسوى من وضع الله في قلبه أنوار التنزيل بمن كان جاهلاً بدين الله عز وجل، ولا يفقه شرعه، ولا يعرف حكمه؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. فإذا وجدت من ينتقص العلماء ويثبطك عن طلب العلم في هذا الزمان فاحذر! إنها الفتن التي أصبح الإنسان فيها غريباً في كل شيء فيه طاعة الله ومرضاته، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) فمن غربة الإسلام أن يصبح العلماء غرباء لا يسلمون من العامة، ولا من الخاصة، إن تكلموا وبينوا ثلبوا، وإن سكتوا رعاية لمصالح نظروا إليها باجتهادهم ثلبوا، فهم لا يسلمون لا من هؤلاء ولا من هؤلاء: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]. عليك أن تحذر من هذه الآفة التي أصبح الناس يخبطون فيها خبط عشواء، وقل أن تجد إنساناً يتقي الله يكف لسانه عن ذلك، فضلاً عمن يدافع عن أهل العلم ويحسن الظن بهم. فإذا وجد طالب العلم مثل هذا التخذيل فلا يلتفت إليه، ولو أن الأمة -في أزمنة الفتن والمحن- التفتت إلى هذه الفتن، وشغلت علماءها بها، وأصبحت تشكك في علمائها؛ لما انتقل الدين إلينا. حاصر الحجاج بن يوسف مكة ورمى الكعبة بالحجارة، وكان العلماء في مساجدهم يعللون ويبينون، ومنهم من آثر ما آثر من رعاية المصالح ودرء المفاسد مما يراه قربة لربه، وسيلقى الله باجتهاده، وفيهم من الصحابة رضوان الله عليهم أئمة العلم والفتوى وغيرهم، وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه، الذين أمرنا باتباع سنته، المحدث الملهم- كان يمنع الفقهاء من الصحابة أن يخرجوا إلى الجهاد والأمة بحاجة إليهم، وكانت الأمة أحوج ما تكون إلى خروجهم إلى ثغور الشام للفتوحات. كان يحرم على الصحابة الذين كانوا على علم بالسنة أن يخرجوا من المدينة؛ لعظيم حق العلم وشدة الحاجة إليه، فلا يمكن للأمة أن تستغني عن علمائها، ولا يمكن للأمة أن تصيب الحق إذا نزعت الثقة من علمائها، علينا أن ندرك ذلك، وأن نعلم أنه لا خير في طعن بعضنا في بعض، وتشكيك بعضنا في أمانة ونزاهة بعض. علينا أن نجد ونجتهد في محبة هذا العلم، والتضحية من أجله، والصدق في رغبته؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يرى منا ما يرضيه.

ابتاع العلم بالعبادة والقول بالعمل

ابتاع العلم بالعبادة والقول بالعمل كذلك أيضاً مما ينبغي لطالب العلم: أن يشوب علمه بالعبادة، والقول بالعمل، وأن يحرص على أن تكون بينه وبين الله عبادات من الحرص على ذكر الله عز وجل، وحسن عبادته، ومن ذلك كثرة تلاوة القرآن، فما عرف لأهل العلم شيء أعظم بركة ولا خيراً من كتاب الله عز وجل. فطالب العلم ينبغي عليه أن يكون له حظ من كتاب الله وافر، فيكثر من تلاوة القرآن وتدبره، والخشوع عند سماعه وتلاوته، فإن الله يبارك له في علمه، وإذا استطاع طالب العلم ألا يمر عليه أسبوع أو لا تمر عليه ثلاث ليالٍ إلا وقد ختم القرآن فذلك خير كثير. كم من الأوقات يجد الإنسان نفسه فيها في سراب! كم من الأوقات يجد الإنسان فيها نفسه صامتاً! وكم من الأوقات يجد الإنسان نفسه فيها متحدثاً بما لا خير فيه من فضول أحاديث الدنيا! فليشغل وقته بذكر الله، وأطيب الذكر وأفضله كتاب الله عز وجل؛ لأن الله يحفظ به دينه؛ ويسدد به قوله؛ ويصوب به عمله. القرآن نعم المؤنس في الوحشة! ونعم المعلم من الجهالة! ونعم الهادي من الضلالة! فهو نور من الله ورحمة، فمن استبصر بالقرآن سلمت بصيرته، ومن اهتدى بالقرآن تمت هدايته. اللهم اجعلنا من أهل القرآن، واجعله ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا يا حي يا قيوم! وأسعد الناس نجاة من الفتن من أكثر من تلاوة القرآن، وبالأخص أن يكون له حظ من قيام الليل، وليسأل كل طالب علم كم للقرآن من حظ في ليله؟! وكم يعطي القرآن في قيامه بالليل ومن ساعات ليله؟! فإذا وجد خيراً حمد الله عز وجل، وسأل الله الثبات، وإذا وجد التقصير كمل نقصه وجبر كسره. يا طالب العلم: لابد لك من قيام الليل؛ فإنه روحك ومدد من الله لك؛ وفيه خير لك في الثبات إذا عظمت الفتن وكثرت المحن؛ لأن الله يحفظ عبده بدعائه وسؤاله وعبادته، فمن تهجد بالليل حفظ الله له دينه في النهار وعصمه، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]. وكان العلماء والأئمة يوصون طلاب العلم بالمحافظة على قيام الليل، فليسأل كل طالب علم نفسه كم يقوم من الليل؟! وفي كم يختم كتاب الله عز وجل؟! عيب على طالب العلم ألا يكون قواماً لليل! وعيب على طالب العلم ألا يكون ذكاراً لله! وألا يكون صواماً للإثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر! وألا تكون عنده عبادات بينه وبين الله فكيف يذكر الناس غداً؟! ولذلك تجد بعض من يتصدر للوعظ وتذكير الناس في إمامته وخطبته أو في بعض مجالسه -وليست عنده عباده- تجده يقول قولاً لا يجد طعمه في قلبه، وكثيراً ما يشتكي البعض، يقول: أنا أذكر الناس وأجد الغفلة! نعم، لم يذكر الناس أحد بلسانه! ولن تنفع الذكرى إذا كانت باللسان دون الجوارح والأركان! فكيف يُخشع الإنسان القلوب ويذكر بالله علام الغيوب وهو أغفل الناس عن ربه؟! وكيف يكون هادياً مهدياً واعظاً مؤثراً إذا كان لا يقوم الليل، ولا يصوم النهار، ولا يتلو القرآن إلا هجراً أو بعد مدة طويلة؟! كيف يكون لأقواله ومواعظه أثر في النفوس؟! نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك استضاف الإمام أحمد بعض طلابه، فوضع عنده الماء بعد صلاة العشاء ثم نام الإمام أحمد، فلما كان الفجر وجد الماء لم يتغير، فعلم أن هذا الطالب لم يقم الليل، فصار يتعجب الإمام أحمد ويقول: طالب علم لا يقوم الليل! فمن يريد أن يطلب العلم عليه أن يعلم ما هي حقوق طلب العلم؟! وأين مكان طالب العلم في العبادة وفي النزاهة وفي التحفظ وفي الصيانة؟! إن الجلوس في مجالس العلماء له حق، والتأدب بصحبة العلماء له حق، فأنت غداً الأمل فيك -بعد الله عز وجل- أن تكون للأمة في قولك وعملك، فمن اختار الخير في بداية طلبه للعلم، واختار الذكر والطاعة والاستقامة، وأصبح له لسان ذاكر، وقلب شاكر، وإنابة صادقة لله عز وجل، وخشية لله سبحانه وتعالى، ووطن نفسه على محاسن الأمور من العبادات الصالحة والكلمات الطيبة، واستقام لربه كما ينبغي أن تكون الاستقامة، فإنه بإذن الله سيبارك له في علمه ودعوته غداً. إن الله مطلع على القلوب والقوالب، ومطلع على السرائر والضمائر، والله لا يخادع، ولن ينال الله من عباده القول والعمل فالله غني عن خلقه، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. فعلى طالب العلم أن يوطن نفسه بأن يكون كما ينبغي أن يكون عليه من طلب العلم، تجد من ينتسب إلى العلم من طلاب العلم يقول: أنا في قسوة! أنا في غفلة! أجد ضيقاً! أجد هماً! حتى أصبح بعض طلاب العلم مثل العوام يشتكي مما يشتكي منه العوام! نعم لأن أحوالنا كأحوال العوام وقد تكون أردأ، وقد تجد في العامة من ذكر الله والخوف منه مالا تجده في بعض طلاب العلم. فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نوطن أنفسنا لطلب العلم، وعلى طاعة الله عز وجل. قال الإمام إبراهيم النخعي -يحكي حال السلف في طلبهم للعلم-: كان الرجل إذا طلب العلم ظهر في وجهه وسمته ودله. مجرد ما كان يجلس الشخص في مجالس العلماء تجد في وجهه نور العبادة، ومن الخشوع والسكينة والوقار مثل ما تجده في العلماء؛ لأن أشبه الناس بالعلماء هم طلاب العلم. إنها وصية لكم ولأنفسنا المراد بها المعونة على طاعة الله عز وجل.

الأسئلة

الأسئلة

لزوم طلب العلم على أيدي المشايخ لا الأشرطة والكتب

لزوم طلب العلم على أيدي المشايخ لا الأشرطة والكتب Q أنا في بداية طلب العلم، وأحفظ شيئاً من كتاب الله تعالى وبعض المتون، وأسمع شرحها من الأشرطة فهل هذه الطريقة صحيحة؟ علماً أن الدروس لا يوجد مشايخ يشرحونها حالياً أثابكم الله. A بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: العلم سنة متبعة تؤخذ من أفواه الرجال، ولابد لطالب العلم من شيخ يتتلمذ عليه، ويحصل العلم على يديه، ويأخذ من منهجه الفعلي كما يأخذ من منهجه القولي، لابد من هذا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء -بعد إذ وعوه- ولكن يقبضه بموت العلماء). قال الإمام الحافظ وغيره: إن في هذا دليلاً على أن العلم لا يؤخذ من الكتب، وإذا لم يؤخذ من الكتب لا يؤخذ من الأشرطة؛ بمعنى أن طالب العلم لا ينحصر فيها، وينبغي لطالب العلم أن يجلس في مجالس العلماء إذا لم يوجد عالم في قريتك ومدينتك تنظر إلى العطلة وإلى أوقات الفراغ، فتسافر إلى منطقة فيها علماء، تقرأ عليهم متوناً أو كتباً تستطيع أن تحصل بها العلم وتستطيع أن ترجع بها إلى أهلك، ولو على فترات، تسافر إلى الشيخ تقرأ عليه كتاب الطهارة، كتاب الصوم، كتاب الحج، كتب العبادات، كتب المعاملات، لابد من هذا، لابد من وجود العالم، ولا يصح العلم بسماع الأشرطة فقط مجردة عن حضور العلماء. ولذلك كثير من الآفات وجدناها: طلاب العلم الذين يتخرجون عن طريق الأشرطة يخطئون أخطاءً بشعة؛ والسبب في هذا عدم جلوسهم على أيدي علماء، وعدم تربيتهم، وعدم تلقيهم للعلم كما ينبغي ظاهراً وباطناً بالجلوس على أيدي العلماء ومعرفة منهج العلماء وكيفية فتواهم وتعليلهم، ونحو ذلك مما يستفاد من مخالطة أهل العلم، ولا أشك أنه إذا سمع الشريط ونزلت عليه -مثلاً- مشكلة أو نازلة لا يستطيع أن يسأل سؤالاً مباشراً، ولا يستطيع أن يجد جواباً لهذا الإشكال. لكن لو أن الإنسان يحضر دروساً، ثم إذا غاب الشيخ وسمع الشريط لا بأس؛ لأنه قد استفاد من طول مجالسته للعلماء، والغالب أنه يباشر السماع للعالم، والغياب هذا في فترات لا يقدح، ومن هنا كان الصحابة إذا غاب أحدهم سمع من أخيه، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستنيب رجلاً حينما كان يذهب إلى مزرعته بالعوالي، وهذه طريقة من طرق السلف؛ لكنه استناب رجلاً يسمع ويعلم، وحينئذ يكون التلقي كالتلقي المباشر؛ لأن الفرع تابع لأصله. وعلى كل حال: ينبغي الحرص على أخذ العلم مشافهة من العلماء ما أمكن. والله تعالى أعلم.

من علامات الساعة اتخاذ الناس الجهال أمناء على الدين

من علامات الساعة اتخاذ الناس الجهال أمناء على الدين Q لقد انتشر في هذا الزمان بعض ممن ينتسب للعلم وأهله، ويتحدث بغير علم ويفتي في دين الله بلا دراية، فهل من توجيه لهؤلاء أثابكم الله؟ A الشكوى إلى الله عز وجل. العلم دين! ولا يؤخذ الدين إلا من أهله، وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل في هذا الدين، فلا يأخذوه إلا من العلماء الأمناء، وكون كل إنسان يتكلم ويفتي هذا من أمارات الساعة، ومن علاماتها: كثرة الجهل، وقلة العلم، وقبض العلماء؛ لأنه لو كان العلماء موجودين وكثيرين لخرست أفواه الجهلاء، ولما استطاعوا أن ينطقوا؛ لأن العلم حق يقذف به على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. ولكن حينما يقبض العلماء يسترسل الناس في دين الله وشرعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس) وانظر إلى كلمة (اتخذ الناس) ما اتخذه رب العالمين، الله تعالى يقول: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269] (اتخذ الناس) هذه الأساليب اللغوية الجميلة البديعة! (اتخذ الناس) تجدهم يضعونه في الفضائيات، ويشهِّرون به، وهو الإمام! وهو الشيخ وهو المفتي! وهو المنظر! وهو الذي يعرف الدين وهو الذي يعرف كيف يؤصل ويقعد؛ لأنه على الهوى وعلى ما تشتهي الأنفس، وعلى ما يريدون، فهم يريدون الدين كيف شاءوا وكيفما أرادوا، لا كما أراد الله عز وجل؛ لأنهم لو كانوا يريدون الدين كما أراد الله لرفعوا مكانه العلماء الربانيين الذين يرجع إليهم ويؤخذ عنهم، وينصحون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في إظهارهم للناس وبيان علمهم. (اتخذ الناس) اتخاذ الناس من أكثر ما يوجد بالمدح والثناء، وإعطاء الألقاب الكبيرة، والأوصاف المفخمة التي والله لو أعطيت لعالم جهبذ من علماء السنة والسلف وهو أهل لذلك لجثا على ركبتيه؛ خوفاً من الله عز وجل أن يقال له! ومع ذلك تجد الإنسان -والعياذ بالله- يغتر بها وينجرف وراءها، وهذا هو شأن الجهلاء. فعلينا أن نحذر من هؤلاء الذين تقمصوا ثوب العلم والدعوة. العلم نور والله! ولو أطبقت شموس الدنيا على أن تضيء ظلمة أظلمها الله ما استطاعوا، ولن يظلموا على الحق؛ فإن عليه ضياء، ولو أطبق أهل السماوات والأرض على قول باطل وأرادوا أن يفتوا به ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. ليتكلم المتكلمون! وليفتي المفتون! وليفعلوا ما شاءوا! وليقولوا ما شاءوا! فلا يبقى إلا الحق الذي أراده الله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17] لا يبقى إلا الحق، ليسوا أول من تكلم ولا آخر من تكلم، ولا يتكلم المتكلمون، ولكن لا يبقى إلا ما أريد به وجه الله، وهذه سنة ماضية. السلف الصالح رحمهم الله عانوا من ذلك ومنهم: ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك الذي كان يقال له: ربيعة الرأي من قوة رأيه وفتواه واجتهاده، والذي تتلمذ على يديه الإمام مالك، وقالت أم مالك لـ مالك: اذهب إليه فخذ من سمته ودله قبل أن تأخذ من علمه. فرزق السكينة والعلم والوقار بهذا العالم الرباني بعد فضل الله عز وجل. هذا العالم ماذا كان يقول؟ ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا رجلين يعني: قريب العهد في المدينة المنورة دار النبوة ودار الهجرة! وفي زمن القرون المفضلة! ومع ذلك دخل عليه مالك وهو يبكي فيقول: والله إن فلاناً يتكلم في العلم أحق أن يقطع لسانه من يد السارق. يبكي من كثرة القول على الله بغير علم، وهذا في الزمان الأول، فكيف بزماننا نحن؟! ولذلك لا يبالي الإنسان بهذا، دين الله منصور وكلمة الله ماضية، الله عز وجل يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] الذي عند الناس سيبلى ويفنى، والذي عند الرحمن يبقى، ولا يبقى إلا ما أريد به وجه الله. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] ستبقى كلمة الله! ويبقى دينه وشرعه، فلا يحزن الإنسان هذا؛ لأن الله يقول: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] يأتون بالفتاوى ويتتبعون بها رخص العلماء، ويخرجون الأمة من دينها بأشياء من عزائم الدين ويرخص فيها؛ فيصبح الدين سهلاً على رأيهم ونظرهم، وكأنه ليس في الدين شيء مع عزائمه والعياذ بالله، يسلقون الدين -والعياذ بالله- وينقضونه عروة عروة في الآداب والأخلاق والشيم! حتى أنك تجد العالم من يتسمى منهم بالعلم ويدعي العلم، الأمة بحاجة أن تنصح في أمور عظيمة، ومع ذلك يخرج يتكلم عن رخصة من الرخص قد يكون لا يقول بها إلا الشذاذ، ويقعد لها وينظر لماذا؟ لأنهم يتبعون الهوى، ما خرجوا غيرة لله ولا لدينه وشرعه. فهذه الآفة الموجودة من كثرة المفتين والقائلين على الله آفة عظيمة! لكن ليس البلاء على هؤلاء أن يتكلموا، البلاء كل البلاء على من ينصت لهم ويستمع إليهم ويعمل بقولهم، فإياك إياك! أن تعطي سمعك إلا لمن تثق بدينه وأمانته. كان أيوب بن أبي تميمة السختياني -من تلامذة ابن عمر رضي الله عنهما ورحم الله الجميع- من أصلح خلق الله، وكان ديواناً من دواوين العلم والعمل في حفظه للسنة عن ابن عمر رضي الله عنه، من خيار أصحاب ابن عمر، كان ابن عمر يقول لأصحابه: أيكم الأبيض المشرب بحمرة؟ قالوا: أيوب. قال: أراه أصلحكم. كان يتفرس ابن عمر أنه أصلح طلابه، وكان كذلك في الصلاح والخير والصيانة، نحسبه ولا نزكي على الله أحداً. هذا الإمام العالم الصالح كان إذا جاءه شخص من أهل البدع القدرية وأهل الأهواء يريد أن يناظره -وهو عالم رباني متمكن- يقول له: أريدك أن تسمع مني. فيضع أصبعيه في أذنيه. يقول: اسمع مني، فقط اسمع مني. يقول: ما شاء الله! حرية الرأي والمناقشة، نريد نناقش من تناقش؟ أتركك تقول على الله بدون علم، أُجرئك على أن تقول؟! قل لي من أنت؟ أين طلبت العلم؟! ما الذي تحفظ من كتاب الله؟! ما الذي تحفظ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! سم لي رجالاً حتى أصغي إليك وأعرف ما عندك، أما إذا كان ما عندك علم فمثلك ما يستمع إليه؛ لأن مثلك ليس بأهل بأن يتكلم في هذا الأمر. يخرج العالم الرباني ليتكلم في مسألة فتجد شخصاً يقول: عندي مداخلة يا شيخ! عندي إضافة يا شيخ! يا لله ياللأسف!! ذهبت حرمة العلماء والعلم، وهذا كله من غربة الدين! والناس تنظر إلى هذا، كما قال أنس: (إنكم لتفعلون أعمالاً هي أدق في عيونكم من الشعر، كنا نراها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثال الجبال). توقير دين الله وشرعه أمر عظيم، واحترام أهل العلم والفتوى، كان الناس إذا تكلم العالم بالفتوى لم يراجع، مؤتمن على دين الله عز وجل وشرعه محبوب! مهاب! مكرم! المرأة تأتي إلى بيت زوجها وأبيها وأخيها وابنها وتقول: سأفعل كذا وكذا يقال لها: من قال لك؟! كيف تشقين على نفسك؟! تقول: الشيخ أفتى. يقولون: سمعنا وأطعنا. ما أحد يتقدم ولا يتأخر؛ لأن هذا دين وشرع! ومعروف من الذي يتكلم في الدين والشرع، أما أن يفلت الزمام لكل من هب ودب، وكل يوم تدخل المرأة على زوجها بفتوى قال فلان وأفتى فلان وعلان، فعلى كل إنسان أن يعلم أن هذا الدين من تكلم فيه فهو حجة له بين يدي الله عز وجل. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله. أذكر في مجلس من المجالس أنني كنت أفتي فيه، وكان هناك رجل يرخص في الفتوى، فكان بعضهم يأتي ويرخص له، يقول أحد القائلين: وكان يناقش كثيراً، وهو من خيار طلبة الوالد ومن طلبة العلم، وكان يستفتي غيري ثم يناقشني، فمكثت على هذا أكثر من خمس سنوات، فذات يوم قال لي: يا شيخ! أنت تشدد علينا. كثيراً ما يقول لي هذا وأنا أدفعه بالتي هي أحسن! فيوم من الأيام قال لي: يا شيخ! أنت تشدد علينا. فقلت له: اتق الله! سأسألك سؤالاً، هل الذي أفتيت به فيه قال الله وقال رسوله؟ قال: اللهم نعم -نعم أنت تذكر الفتوى بالدليل-. قلت: إذا ذكرت الفتوى بالدليل فلا يجوز لك أن تقول لي أني شددت؛ لأن هذا حكم الله عز وجل، ولا أن تقول لي: أنت تتساهل. ما دام عندي دليل من كتاب الله وسنة رسوله. فإذا به يقول -وهذا موضع الشاهد، أحكيها للعبرة ولا أحكيها عن غيري، واحتجت أن أقولها عن نفسي حتى يكون مثالاً-: والله يا شيخ! وأقسم بالله -وغلظ اليمين- إنك تفتينا في المسألة ويدخل علينا عشرات ممن يرخصون لنا، لكن والله لا نجد الطمأنينة إلا في قولك. الحق عليه نور، الحق منصور بذاته: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:105] الحق لا يحتاج إلى أحد ينصره، الله عز وجل هو الذي تولى نصرته. فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا هذه المنهجية: وهي الرجوع إلى العلماء الأمناء، نوصي أبناءنا وبناتنا وزوجاتنا، وجميع من حولنا على ألا يسمعوا إلا ممن يوثق بدينه وعلمه هذا أول شيء. ثانياً: إذا جاءوا بفتاوى من الغرائب وممن لا يوثق بدينه وعلمه نذكرهم بالله، ونقول لهم: هذا دين وشرع لا تصح الفتوى إلا ممن يوثق بدينه وعلمه، ومشهود له أنه من أهل للفتوى. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

حكم من تمتع بالعمرة إلى الحج يوم التروية

حكم من تمتع بالعمرة إلى الحج يوم التروية Q كنت متمتعاً واعتمرت عمرة التمتع صباح اليوم الثامن ثم أحرمت للحج، فهل عملي هذا صحيح أثابكم الله؟ A إذا وقعت العمرة قبل الوقوف بعرفة فهي عمرة تمتع، والسنة: أنك تحرص على صلاة الظهر بمنى، فلو وقعت العمرة في يوم التروية فأصح الأقوال -وهو مذهب الجمهور- صحت العمرة، وهناك بعض العلماء من شدد في العمرة في يوم التروية، وبعضهم يشدد في العمرة يوم النحر، ولكن بالنسبة للعمرة على هذا الوجه فهي عمرة صحيحة؛ لأن الوصف الشرعي بكونك تمتعت بعمرتك إلى الحج واقع وحاصل بها، ولذلك يلزمك ما يلزم المتمتع وعمرتك مجزئة. والله تعالى أعلم.

من تعجل بالخروج من منى قبل غروب الشمس ثم عاد بعد الغروب لأخذ متاعه

من تعجل بالخروج من منى قبل غروب الشمس ثم عاد بعد الغروب لأخذ متاعه Q رجل أراد أن يتعجل فخاف أن تغرب عليه الشمس فرمى وخرج من منى، ثم عاد بعد الغروب لأخذ متاعه هل فعله صحيح أثابكم الله؟ A هذا لم يتعجل! التعجل: أن يخرج بمتاعه وجسده، أو الخروج التام، الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ} [البقرة:203] فالإنسان يفقه عن الله وعن رسوله، وهذا يقتضي أنه قد خرج كاملاً بمتاعه وبنفسه من حدود منى. أما إذا خرج من حدود منى وانتظر حتى تغرب الشمس ورجع مرة ثانية فهذا لم يتعجل، ولذلك قرن الحكم بوصف لابد من تحقيقه على الصفة الواردة الشرعية، فمن خرج وليس معه متاعه غابت عليه الشمس لم يتعجل! بدليل أن أغراضه لا زالت باقية بمنى، ومن هنا نأخذ الصفة الشرعية كما وردت، وهذا من العبث والاحتيال والتلاعب على الشرع، الله يقول: (لمن اتقى) وعلى هذا لا يكون الاحتيال على الله وعلى الأحكام الشرعية، فالتعجل ينبغي أن يكون تاماً كاملاً بحيث -فعلاً- إذا رأيت صاحبه قلت: قد تعجل. يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليه: من خرج من حدود منى قبل غروب الشمس ومتاعه بمنى، ثم رجع مرة ثانية؛ فإنه في هذه الحالة لم يتعجل حقيقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الفعل -وهو فعل التعجل- يستلزم أن تغيب عليه الشمس وقد أدى أفعالاً يصدق عليها أنه استعجل فيها. كيف يكون تعجل يعني بجسمه؟! من دقة هذا الآن يقول: لو خرج قبل غروب الشمس. ما الذي وقع منه؟ هل وقع منه الخروج الحقيقي، وتعجل بمتاعه ونفور حقيقي؟ الواقع: لا، ما خرج إلا جسده، ومتاعه بمنى، فهل فعل ما أمره الله؟ أصلاً الذي يريد التعجل قبل أن تغرب عليه الشمس يكون قد أدى أفعالاً معينة، ورتب نفسه ووضعه وجميع أموره على أنه يريد أن يخرج، أما أن يجلس إلى غروب الشمس! أصلاً ما يقع هذا الشيء إلا من إنسان مسوف ومتساهل، تجده يجلس ويتغدى وينبسط إلى قبل غروب الشمس بنصف ساعة أو بساعة -خاصة إذا كان عند الجمرات- خرج إلى آخر حدود منى ثم رجع مرة ثانية، وما شاء الله متعجل! ولا بأس ولا حرج وانتهى الأمر! هذا ما يصح. ولذلك الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] واللام للتخصيص، أي: هذا الحكم لمن اتقى، والذي اتقى يأخذ بالأسباب والأوصاف التي يصدق على مثله أنه اتقى الله عز وجل، أما أن يجلس ويماطل وينتظر إلى قبل غروب الشمس بشيء يسير، يقف على حدود منى ثم يخرج ثم يرجع مرة ثانية ويأخذ متاعه فهذا ليس بمتعجل! وإنما هو متحايل، وقاصد لترك المبيت، حتى إن بعض العلماء يقول لقوله تعالى: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] معناه: أنه يخرج من منى وهو يحب العبادة، ولكن يخرج يريد أن يتعجل إلى أهله، عنده ظرف! عنده استعجال! عنده عجزة! عنده ضعفة! عنده رفقة! عنده عمل ودوام. ما يخرج كارهاً للمبيت ونافراً من العبادة، فالذي يخرج كارهاً للمبيت ونافراً للعبادة فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لم يتق الله عز وجل. ومن هنا نجد أن الآية أعطت رخصة مقرونة بصفة شرعية، وأنها جاءت على وجه مخصوص، فينبغي التقيد بالوارد والحكم بالرخصة لمن كان من أهلها، وقام بها على وجهها. والله تعالى أعلم.

لا يلزم التتابع في صيام فدية الحج

لا يلزم التتابع في صيام فدية الحج Q من ارتكب محظوراً من المحظورات وأراد صيام ثلاثة أيام، فهل تكون متتالية أو متفرقة أثابكم الله؟ A صيام الثلاثة الأيام في فدية الحج متفرقة، ولا يجب فيها التتابع على الصحيح، وذلك لأن الكتاب والسنة ثابتان بالإطلاق، الله تعالى يقول: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] ولم ينص على التتابع في الصيام، وثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، حينما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى! ثم قال له: أطعم فرقاً بين ستة مساكين، أو انسك نسيكة، أو صم ثلاثة أيام) قال: (أو صم ثلاثة أيام) ما قال: متتابعة، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، والتتابع صفة زائدة يحتاج إلى التنبيه عليها، ولم ينبه الشرع عليها، فمن صام ثلاثة أيام متفرقة فقد صام ثلاثة أيام، ومن هنا تبرأ ذمته، وتصح فديته، ولا يلزمه التتابع. والله تعالى أعلم.

تقديم نية طواف الإفاضة ويجعل نية طواف الوداع تبعا له

تقديم نية طواف الإفاضة ويجعل نية طواف الوداع تبعاً له Q من أدرك طواف الوداع مع الإفاضة، فأيهما يقدم في النية أثابكم الله؟ A أولاً: ينبغي تحري السنة، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم. الإفاضة طواف ومن السنة أداؤه يوم النحر، فيحرص المسلم على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأداء هذا الطواف هو يوم النحر، والوداع يكون عند مفارقة البيت والرجوع إلى الأهل، فهذا طواف وهذا طواف؛ فإذا كان عنده عذر كالحائض تطهر آخر أيام التشريق تنزل وتطوف الطوافين وتأخذ بالرخصة، لكن أن يتقصد ذلك دون وجود حاجة أو عذر، فمثلاً الشيخ الكبير، والمرضى والعجزة، والناس الضعفاء يمكن أن يقال: أنهم يجمعوا. لكن بالنسبة للقوي السوي، والإنسان الذي جاء للحج حتى ولو كان امرأة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول في النساء: (عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) فجعل الحج جهاداً، ومعنى ذلك أنه مشقة وعناء، فيحرص على اتباع السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كان هناك عذر: المرأة تحيض ثم تطهر آخر أيام التشريق فطافت للإفاضة عند خروجها فيغنيها طواف الإفاضة عن طواف الوداع. أما النية: أول شيء نية طواف الإفاضة، ويجعل طواف الوداع تبعاً للإفاضة؛ لأن طواف الإفاضة ركن، وطواف الوداع واجب، ولا يندرج الركن تحت الواجب، وإنما يندرج الواجب تحت الركن؛ لأن الأصغر يندرج تحت الأكبر. ونقول بصحة ذلك؛ لأن مقصود الشرع من طواف الوداع أن يكون آخر العهد بالبيت طوافاً، وهذا يتحقق لو طافت طواف الإفاضة عند خروجها أو طاف الرجل طواف الإفاضة عند خروجه، فقد صار آخر عهده بالبيت طوافاً، فينوي النيتين: ينوي الإفاضة وينوي تحتها الوداع، وحينئذ يجزيه. فإن نوى الوداع واندراج الإفاضة تحته، فهذا له وجهان: قال بعض العلماء: يجزيه عن الإفاضة؛ لأن ذمته مشغولة بالأكبر والأصغر يجبره، وهذا مبني على مسألة مشهورة، وهي: أنه لو نوى أن يصوم غير رمضان في رمضان أنه ينقلب إلى رمضان، ولكن هذا القول مرجوح والقول الثاني أرجح؛ لأن محل ذلك أن لا يسع المحل للعبادتين، لا يسع إلا لعبادة واحدة كما في أيام رمضان، لا يمكن إلا أن تتسع إلا صوم واحد، أما هنا فالوقت متسع وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى). ومن هنا نقول: إنه لا يصح ولا يجزي، وهو القول الثاني وهو مذهب الجمهور القائلين بطواف الوداع، ويلزمه أن يطوف، وهذا القول قول ضعيف، وهو لبعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله، وحينئذٍ يلزمه أن يطوف للإفاضة طوافاً مستقلاً. وعلى هذا: النية للأكبر، والأصغر يندرج تحت الأكبر إذا تحقق مقصود الشرع، فالأكبر هو الإفاضة، والأصغر الوداع، ومقصود الشرع أن يكون آخر عهده بالبيت طوافاً، وهذا يحصل على هذا الوجه؛ فلذلك كان مشروعاً. والله تعالى أعلم.

من اعتمر لغيره وحج لنفسه في أشهر الحج لا يعتبر متمتعا

من اعتمر لغيره وحج لنفسه في أشهر الحج لا يعتبر متمتعاً Q إذا اعتمر رجل عن غيره وحج عن نفسه، وكان ذلك في أشهر الحج هل يعتبر حجه تمتعاً أم ماذا؟ A الأشبه في هذه المسألة أنه مفرد وليس بمتمتع، ويلزمه إن مر بالميقات الأبعد ناوياً للنسكين أن يرجع بعد عمرته؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] الأشبه: أنه مفرد، وهذا أحوط وأبرأ للذمة. والله تعالى أعلم.

حكم من خرج من مكة ولم يطف طواف الوداع لأجل الزحام ثم رجع بعد يومين وطاف

حكم من خرج من مكة ولم يطف طواف الوداع لأجل الزحام ثم رجع بعد يومين وطاف Q ما حكم من ترك طواف الوداع وهو من أهل جدة؛ لأنه رأى الازدحام فرجع إلى جدة فجلس يوماً أو يومين ثم رجع فطاف للوداع؟ A إذا خرج ولم يطف لزمه دم؛ لأن من خرج من أهل جدة قبل أن يطوف خوف الزحام، أو رأى المشقة في جلوسه ثم ذهب وجلس في جدة إلى أن خف الزحام، ثم رجع وطاف، فإن الطواف الثاني طواف نافلة وليس بطواف وداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً) وهذا صدر إلى أهله ورجع قبل أن يطوف بالبيت، ومن هنا يجب عليه دم الجبران بهذا الواجب، وأهل جدة على الصحيح أنه يلزمهم طواف الوداع، والسبب في ذلك: أن الوداع ليس واجباً لمسافة القصر، بل إنه واجب لكل من يغادر مكة بعد حجه. ولذلك حتى أهل مكة فلو أن المكي بعد الحج عنده عمل ووظيفة مثلاً في عسفان أو في مكان آخر، وخرج إلى هذا العمل والوظيفة بعد انتهاء حجه لزمه أن يطوف طواف الوداع، وهذا منصوص عليه عند الأئمة رحمهم الله؛ فدل على أن الأمر راجع إلى مفارقة البيت سواءً كان على مسافة القصر أو دون مسافة القصر، فأهل الجموم وأهل جدة وأهل عسفان كل هؤلاء يطوفون طواف الوداع؛ فإذا خرج الجداوي أو غيره من مكة ممن لزمهم طواف الوداع، وجلس في بلده حتى خف الزحام ورجع فطاف طواف الوداع؛ فإنه يلزمه دم الجبران؛ لأنه صدر قبل أن يجعل آخر عهده بالبيت طوافاً. والله تعالى أعلم.

حكم من طاف للوداع وخرج من مكة ثم رجع لغرض نسيه

حكم من طاف للوداع وخرج من مكة ثم رجع لغرض نسيه Q طفت طواف الوداع، ثم ذهبت إلى المطار، فوجدت أني نسيت بعض الأغراض فرجعت إلى مكة، فهل يجب علي أن أعيد طواف الوداع؟ A من طاف طواف الوداع ثم صدر ورجع مرة ثانية؛ فالعبرة بخروجه الأول، وعند العلماء وجهان: بعض أهل العلم رحمهم الله يقول: إذا صدر إلى مسافة القصر ثم رجع ثانية؛ فإنه قد انتهى طواف الوداع ولا يلزمه طواف وداع ثانٍ؛ لأنه قد أنشأ سفراً بعد السفر الأول، وحينئذ يلغى، ولو قلنا: كل شخص يعيد لكان كل شخص خرج من مكة ورجع إليها مرة ثانية يلزمه أيضاً أن يعيد طواف الوداع، ولا قائل بهذا. ومن هنا قالوا: إنه إذا صدر عن البيت فالعبرة بطواف الوداع عند صدوره الأول. وأما إذا كان دون مسافة القصر وخرج فعلى ضربين: الضرب الأول: أن يخرج خروجاً قاصداً به الانفصال عن البيت؛ كأن يكون له غرض، أو يكون عنده أهل في الجموم، أو أهل -مثلاً-في عسفان، أو له قرابة أو جماعة في منطقة تبعد عن مكة دون مسافة القصر، خرج فزارهم ثم رجع، فأيضاً العبرة بالصدور الأول؛ لأن الخروج إلى هذا الغرض يعتبر خروجاً. وفي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -في صحيح مسلم وغيره- أنها قالت: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات؛ فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً) وهذا قد صدر وخرج، ولذلك صح طوافك للوداع الأول ويجزيك إن شاء الله. والله تعالى أعلم. مداخلة: مثلاً شخص يخرج لمجرد خروجه من حدود مكة يتذكر غرضاً له في الفندق، أو عند جماعة، أو يتصل عليه شخص ويقول له: اذهب إلى فلان في مكة وخذ من عنده الحقيبة أو غرضاً، فيرجع مرة ثانية، فإن رجع مرة ثانية بعد خروجه من مكة وبقي بعد هذا الخروج بقاءً يقطع الوداع -وهو الذي ذكره العلماء: بقاء القصر- فإنه حينئذ يلزمه أن يعيد طواف الوداع. أما في الأول وقد قال: خرجت إلى المطار، وصدرت صدوراً صادقاً للحاجة، ثم بعدما ذهبت وخرجت تبين أن الرحلة متأخرة فرجعت. فحينئذ قد انقطع جلوسك الأول، وصح طوافك الأول للوداع، ولا تأثير لرجوعك الثاني. ولا يستثنى إلا هذه الحالة التي ذكرناها: إن رجع قريباً من مكة -وأشار إليه بعض الأئمة رحمهم الله، وفي كلام الإمام ابن قدامة رحمه الله ما يشير إلى ذلك- يعني: بمعنى أنه ما بلغ مسافة القصر، ومثلاً خرج من مكة، ولما كان في التنعيم رجع مرة ثانية مباشرة وجلس، فمثلاً بات بمكة أو جلس أو تغدى عند الرجل أو تعشى عنده فحينئذ انقطع الوداع، ويلزمه أن يعيد الوداع مرة ثانية. أما إذا كان الخروج لحاجة وغرض، وبلغت هذا المقصد الذي تريده، وأنت في خروجك الأول قد قطعت العلائق عن مكة، وليس عندك نية للرجوع، ثم حصل طارئ ويجب عليك الرجوع؛ فالعبرة بخروجك الأول لا بخروجك الثاني. والله تعالى أعلم.

حكم من شك في طواف الإفاضة بعد انتهائه منه

حكم من شك في طواف الإفاضة بعد انتهائه منه Q بعد الانتهاء من طواف الإفاضة أصبت بشك هل الطواف كاملاً أم ناقصاً فما هو الواجب عليَّ أثابكم الله؟ A إذا كان الشخص مبتلى بالوسواس، ويجد أن الشيطان متسلط على عبادته، فإن الموسوس على حالتين: الحالة الأولى: إن جاءته هذه الوسوسة بعد فراغه من الطواف وانتهائه منه، وخرج من المسجد أو وصل إلى بيته، فجاءه الشيطان؛ فهذا الشك ساقط، والشك بعد العبادة بالوسوسة لا مقام له، كأنه غير موجود؛ لأن هذا حديث النفس، وتسلط الشيطان الذي لا يسلم منه. الحالة الثانية: وأما إذا كان الشك في أثناء العبادة وهو يطوف حصل عنده شك أهو ستة أم خمسة أشواط، فإنه يبني على الأقل، وحينئذ إذا بنى على الأكثر ننظر فيه: إن كان قريباً وجاء فسألنا بعد الطواف مباشرة نقول له: ارجع وأكمل هذا الشوط السابع. قال: شككت أهي ستة أشواط أو سبعة؛ فالواجب عليه أن يبني على أنها ستة، فإذا بنى على أنها سبعة أشواط نقول له: ارجع وطف الشوط الأخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين، فليبن على واحدة؛ فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاث فليبن على اثنتين؛ فإن لم يدر أثلاث صلى أو أربع فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم) الحديث. فهذا يدل على أنه ينبغي في العدد أن يبني على الأقل لأنه اليقين، فإذا قال: أنا بنيت على الأكثر خالف السنة والحكم الشرعي؛ فنقول: لا زال عليك شوط. فإن كان وقت سؤاله قريباً بحيث لا يقطع شرط الموالاة؛ لأن من شروط صحة الطواف بالبيت: أن يكون على طهارة، وأن يتم عدده، وأن يتم الطواف بالبيت، وأن يجعل البيت عن يساره، وأن يستر عورته، وأن يوالي بين الأشواط؛ فإذا كان هناك فاصل: طاف اليوم شوطاً، ثم ذهب فتغدى وتعشى ثم جاء يطوف بقية الأشواط لا يصح! لابد أن يوالي بين الأشواط؛ لأنها عبادة وقعت بالموالاة فلابد منها، فإذا قطع الموالاة لزمه أن يستأنف طوافه، وأن يعيد الطواف تاماً كاملاً. وهذا مذهب الجمهور رحمهم الله خلافاً للحنفية الذين يعتدون بأكثر الطواف، ويوجبون عليه دم، يقولون: إذا طاف أربعة أشواط وكان الشك بعد الأربعة وجب عليه دم جبراً لهذا النقص إن شك في التمام. والصحيح مذهب الجمهور. وعلى هذا فإنه ينظر: إن كان طواف إفاضة نقول: إذا قطعت التتابع لزمك أن ترجع، ولا يزال في ذمتك هذا الطواف -الركن- ولو رجعت إلى بلدك، ويلزمك أن ترجع ولو بعد سنوات من أجل أن تطوف هذا الطواف الركن الذي أجمع العلماء أنه لا يتم الحج إلا به لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]. والله تعالى أعلم.

التفصيل فيمن اعتمر متمتعا إلى الحج ثم خرج إلى جدة

التفصيل فيمن اعتمر متمتعاً إلى الحج ثم خرج إلى جدة Q إذا ذهب المتمتع إلى جدة بعد عمرته، فهل يبقى حكمه حكم المتمتع أثابكم الله؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: التمتع يشترط فيه أن يؤدي الإنسان العمرة في أشهر الحج أي: بعد دخول شهر شوال من ليلة العيد، فإذا أدى العمرة بعد دخول شهر شوال وفرغ منها يبقى بمكة إلى أن يحج من ذلك العام، فإذا رجع بعد العمرة نظرنا في رجوعه: فإن كان رجوعه إلى بلده فهو مفرد بإجماع العلماء إلا قولاً شاذاً وهو قول طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس أنه متمتع وإن رجع إلى بلده. وظاهر القرآن يرد هذا القول، كما ذكر الأئمة في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] ومن رجع إلى بلده لم يتمتع بالعمرة، ولذلك يعتبر مفرداً وليس عليه دم التمتع. وأما إذا رجع إلى غير بلده فإن كان آفاقياً -يعني: من أهل الآفاق من أهل المواقيت- فما فوق، فإنه اختلف فيه العلماء، وأصح الأقوال أن العبرة بمسافة القصر؛ لأنه إذا سافر سفراً بعد عمرته الأولى فقد قطع السفر الأول للعمرة، ولم يتمتع بسفره الأول، وحينئذ يكون مفرداً لا متمتعاً. وتوضيح ذلك: لو أنه قدم -مثلاً- من المدينة، وأدى العمرة في أشهر الحج، ثم رجع إلى الطائف وأحرم بالحج من الطائف فهو مفرد؛ لأنه في هذه الحالة قطع السفر الأول بالسفر الثاني، ويحرم من ميقات الطائف ويصبح مفرداً. وأما إذا رجع إلى جدة فهي ليست على مسافة القصر في زماننا، وكانت في القديم على مسافة القصر؛ وعلى هذا فإن رجوعه إلى جدة لا يسقط دم التمتع؛ وأيضاً يتفرع على قولنا: إن جدة ليست على مسافة القصر أن أهل جدة يتمتعون، ويكونون في حكم حاضر المسجد الحرام؛ لأنهم دون مسافة القصر، فإذا تمتعوا لم يلزمهم دم؛ لأنهم من حاضري المسجد الحرام، وهذا هو مذهب طائفة من أئمة العلم رحمهم الله. وعليه: فإنه من رجع إلى جدة ننظر فيه: إن كان من أهل جدة صار مفرداً، وإذا أراد أن يتمتع يأتي بعمرة ثانية قبل حجه. وإن كان من غير أهل جدة من الذين هم آفاقيون فإنه حينئذٍ يكون متمتعاً، ورجوعه إلى جدة لا يسقط سفره الأول؛ لأنها ليست مسافة قصر. وأما إذا كان دون المواقيت مثل أن تكون مسافة بيته وأهله بينها وبين مكة كما بين جدة ومكة فإنه أيضاً مفرد، كما لو كان من الجموم وجاء بعمرة ثم سافر إلى جدة؛ فإنه ليس بمتمتع، وعليه أن يأتي بعمرة ثانية. والله تعالى أعلم.

وصية لمغترب

وصية لمغترب لقد اشتدت غربة الدين في هذه الأزمان، وذلك أنه كلما ولى زمن كان الذي بعده شراً منه، ومن العواصم للمسلم من السقوط التذكير والتثبيت. ومن أعظم أسباب غربة الدين وضعف المسلمين إخلالهم بالعقيدة، وتتجلى أهمية العقيدة وترسيخها في النفوس في دعوة النبي أثناء المرحلة المكية؛ حيث إنها استمرت ثلاث عشرة سنة تثبت العقيدة والتوحيد في قلوب المسلمين وقد نتج عن غربة العقيدة غربة في الأحكام والأخلاق، فلابد من السعي لإصلاح حال المسلمين بالاعتماد على الله والتوكل عليه أولاً، ثم بترتيب الأولويات في حياة أبناء الأمة.

اشتداد غربة الدين

اشتداد غربة الدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله العظيم في بداية هذا المجلس المبارك أن يجزي من تسبب فيه خير الجزاء، وأن يشكر مسعى الجميع، وأن يجعل القول خالصاً لوجهه، والعمل موجباً لمحبته ومرضاته. أيها الأحبة في الله: إن المؤمن كلما بعد زمانه عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم عظمت غربته، واشتدَّت فتنته ومحنته وبليته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (ما من زمانٍ إلا والذي بعده شرٌ منه حتى تقوم الساعة) بدأ هذا الدين غريباً، بدأ بداعية إلى الله، ورسولٍ أحبه الله، فحمل أعباء الرسالة، وقام بواجبات الأمانة، فبلغ الرسالة على أتمِّ الوجوه وأكملها، وأدى الأمانة على أتم الوجوه وأكملها، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين. بدأ به هذا الدين، ثم انتشر بين الخلق والعالمين، فاستضاءت به الأنوار في المشارق والمغارب؛ ففتح الله به القلوب، وشنف به الأسماع، وطهر به الجوارح من أدناس الجاهلية، وأدران الشرك والوثنية، وصاغ العباد بالطاعة والعبودية والحنيفية، وما زال هذا الدين يسطع نوره، وتشرق تلك الأنوار على مشارق الأرض ومغاربها، حتى بلغ ما شاء الله أن يبلغ، ثم بدأت الفتن والمحن والويلات والآهات، وغير ذلك من النكبات، والفجائع المبكيات، حتى فرقت شمل المسلمين، وقوضت معالم الدين، وأصبح العبد في غربةٍ عن رسالة سيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه. بدأت هذه الغربة، فضعف المسلمون من بعد قوة، وتفرقوا من بعد اجتماع، وخارت قواهم، وتشتت أذهانهم وأفكارهم، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، والله غالبٌ على أمره، ولكنَّ كثيراً من الناس يجهلون ذلك، ولا يعلمون بحكمة الله التي هي من وراء ذلك.

حاجة المسلم مع هذه الغربة إلى التذكير والتثبيت

حاجة المسلم مع هذه الغربة إلى التذكير والتثبيت إن المسلم كلما بعد زمانه عن الوحي، يحتاج إلى من يثبت قلبه، ويربط ذلك القلب الذي آمن بالله بذلك الوحي النير والصراط المستبين، والطريق المبين، حتى يلقى الله جلَّ وعلا وهو راضٍ عنه، لكن تحقيق هذه الأمنية العظيمة، وتحقيق هذه الغاية الجميلة الكريمة، يحتاج إلى الجد والصدق والإخلاص في العبودية لله عز وجل. وجميع نكبات المسلمين، وفجائعهم المبكية المحزنة، إنما تعود لسبب واحد هو أساس الأسباب، وهو منشأ الدمار والخراب، ألا وهو: البعد عن الدين.

أهم أسباب غربة الدين وضعف المسلمين

أهم أسباب غربة الدين وضعف المسلمين فبُعد الناس عن دين الله عز وجل؛ بعدٌ عن حياتهم، وبعد المسلمين عن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هو بعدٌ عن سعادتهم وعزهم، وبعدٌ عن كرامتهم، بعدهم عن خير دينهم ودنياهم وآخرتهم، وأعظم ما وقع للمسلمين من بعدٍ، وأجل وأشد ما وقع منهم؛ الإخلال بالتوحيد، وبالإيمان، والعقيدة. لما تساهل المسلمون في هذا الأصل العظيم، وأصبحت معالم الحنيفية مندثرةٌ منطمسةٌ في ديار كثيرٍ من المسلمين، حينئذٍ سلَّط الله على العباد أنواع البلاء، وأراهم صنوف الشدة واللأواء والعناء، ونسأل الله أن يلطف بالعباد.

أهمية التمسك بكلمة التوحيد

أهمية التمسك بكلمة التوحيد الإسلام يقوم على الإخلاص، يقوم على رسالة الأنبياء والرسل "لا إله إلا الله"، والأمة متى عرفت هذه الكلمة وجعلتها نصب عينها؛ فإنها تكون قويةً عزيزةً، مستميتةً من أجل الحق وللحق، ولكن إذا ضعفت صلتها بالله، فأصبحت في غربة عن هذا الأصل العظيم، وفي حيرة عن تحقيق هذا الهدف الجليل الكريم -وهو إخلاص العبودية لله عز وجل- فتح الله عليها أبواب البلاء، وأصبحت مع أعداء الله في كفة واحدة؛ لأنه لا فرق بين المسلم والكافر إلا بتحقيق هذه الكلمة، وهي لا إله إلا الله، وانظر في عصور المسلمين، ودهور المؤمنين، فلن تجد عصراً رفعت فيه راية الإسلام، وعاشت الأمة فيه بعزٍ وكرامةٍ وسلامٍ، إلا وجدتها مؤمنةً حقاً، مخلصةً لربها صدقا، ولن تجد عصراً تفرق فيه شملها، وتبددت جموعها، وخارت قواها إلا وجدتها تستغيث بغير الله، وتستجير بأحد العداة، قد تعلقت بغير الله، من شهواتٍ وشبهاتٍ وملهياتٍ وغير ذلك مما حرم الله عز وجل، فلما نسيت الأمة هذا الأصل العظيم فتح الله عليها أبواب البلاء. والسعادة، والفلاح، والنجاح، والربح، والصلاح لهذه الأمة والقاعدة التي ينبغي أن تشيد، والأساس الذي ينبغي أن يُبنى، والدعوة التي ينبغي أن يركز عليها، وأن يُدعى إليها، هي تحقيق كلمة التوحيد "لا إله إلا الله". فمتى كانت الأمة على هذا الأصل العظيم، صافية عقائدها من الشوائب، نقية لربها في النكبات والنوائب، لا تدعو غيره، ولا تستجير بأحدٍ عداه، فأنعم بها من أمة! إذا أصبح المؤمن إن أصابته السراء شكر ربه، واعترف بالجميل لله، لا لأحدٍ سواه، وإن أصابته ضراء نصب وجهه لله، لا لأحدٍ سواه، فكيف يكون حاله؟ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] ومن يتوكل على الله هذا الشرط -الإيمان، التوحيد، العقيدة- والجزاء؛ فهو حسبه، وقائمٌ بأمره، وإذا كفى ربك عبداً فكيف يكون حاله؟ كفى بالله إذا كفى عباده وكفى خلقه، فقد كفى أنبياءه ورسله وكفى خيار عباده الصالحين، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] تكفل الله لمن حقق الإيمان (رسلنا) أي: رسلنا بالتوحيد، (والذين آمنوا) ما قال: والناس، (والذين آمنوا) أهل العقيدة، أهل الإيمان، ما قال المسلمون، بل قال: الذين آمنوا، أي: الذين حققوا هذه الكلمة وطبقوها؛ فلذلك كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة، وفي توجيهها، وفي تسديدها، وفي دلالتها على الخير، تقوم على هذه الكلمة، على "لا إله إلا الله". كانت شئون المسلمين بينهم وبين الله في العقيدة، كانت شئون المسلمين في السراء، وفي الضراء، في الرفعة، وفي المهانة كلها بهذه الكلمة، فكانت شئونهم بينهم وبين الله عز وجل في "لا إله إلا الله،" لا يمكن للواحد منهم أن يصرف حقاً لله لأحدٍ سواه؛ فكانت أمورهم بينهم وبين الله صالحة. أما شئونهم بينهم وبين العباد فكانت بهذه الكلمة، بها يأخذون، وبها يعطون، وبها يوالون، وبها يعادون، وبها ينتصرون، وبها يُنصرون. هذه الكلمة أحبوا بها في الله، وكان إذا لقي الرجل منهم أخاه قال: [تعال بنا نؤمن ساعة]، نؤمن: أي الإيمان العقيدة التوحيد. وكان كل واحدٍ منهم إذا لقي أخاه، شد من أزره؛ لكي يحقق الإيمان، كما قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أي: بـ (لا إله إلا الله)، قال بعض العلماء: (الحق هو "لا إله إلا الله") و"َتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" أي: بالصبر على هذا الحق، وهو تحقيق هذه الكلمة، فكانت شئونهم مع الناس بهذه الكلمة. ولما أصبح ميزانهم هو هذه الكلمة، قربوا الغريب عنهم بالإيمان، وأبعدوا القريب منهم بالكفران، فكان الرجل يعادي أباه، ويعادي أمه، ويعادي أبناءه، ويعادي زوجه وعشيرته، من أجل "لا إله إلا الله"، تهون الدنيا -كلها- بأسرها إذا مسَّت كرامة هذه الكلمة، وكان الميزان للحب والعداء، والبغض والولاء في "لا إله إلا الله"، فكلما وجدت المسلم تدور أشجانه وأحزانه مع هذه الكلمة كلما وجدته منغمساً في نعيم السعادة الأبدية، وإذا كانت هذه الكلمة لا تُسعد صاحبها، فمن هو السعيد؟؟ إنها الكلمة التي عليها قامت السماوات والأرض، وعنها سيكون السؤال، ومن أجلها سيكون السؤال والحساب والعرض، بل من أجلها خلقت الخلائق، ومن أجلها كان الليل والنهار، والشمس والقمر، والأفلاك كلها من أجل "لا إله إلا الله"، فكلما جئنا في أي زمان ننظر إلى مشاكل المسلمين، وهمومهم، وغمومهم، أول ما ينبغي أن يصب عليه حديثنا، وأن تلتفت إليه أنظارنا، وأن يعتني به المصلحون، وأن يركز عليه الدعاة المهتدون الموفقون، تحقيق "لا إله إلا الله". ثلاث عشرة سنة والقرآن في مكة يدعو إليها، ويحققها، ويغرسها في القلوب؛ حتى إذا تمكنت هذه الكلمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت معركة بدر وأحد والأحزاب، ومواقف الإسلام والكفر أولاً، غرس الإيمان؛ ولذلك إذا غُرس الإيمان في القلوب، تفجرت ينابيع الحكم، وتبددت دياجير الظلم، ووجدْت صاحبه على ثبات وقوة وإيمان، تجد أهل هذه الكلمة إذا أخلصوا لله عز وجل، نالوا بها عز الدنيا والآخرة، هذه الكلمة تطهر القلوب، وتزكي الأعمال، تجد صاحبها على أكمل ما أنت راءٍ من إسلامٍ وصدق، بالإخلاص، بتوحيد الله وإخلاص العمل لله، قال شيخ الإسلام رحمه الله كلمة نفيسة، قال رحمه الله: (بل إخلاص الدين لله، هو الدين الذي لا يقبل الله سواه). أي: إذا جئت تعبد الله عز وجل، فاعلم أن أساس العبادة والديانة هو "لا إله إلا الله"، الإخلاص، الخلوص والصفاء والنقاء في القلوب لله جل جلاله. فإذا كان الإنسان متعلقاً بالله عز وجل، طهر قلبه، ولذلك وصف الله الشرك بالدنس والقذر {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] اجتنبوه، أي: ابتعدوا عنه، فهو دنس الحس والمعنى. كذلك -أيضاً- تزكو بهذه الكلمة أخلاق المؤمنين، ولذلك تجد الإنسان أعف ما يكون عن حدود الله حينما يمتلئ قلبه بالإيمان بالله عز وجل. والإيمان باليوم الآخر أساس من أساسيات "لا إله إلا الله"، وهو ركن من أركان الإيمان، فإذا امتلأ قلب الإنسان إيماناً بالله واليوم الآخر، هل يسرق؟ هل يزني؟ هل يقتل؟ هل يشرب الخمر؟ أبداً، إذا كان الإنسان يشاهد الآخرة بين عينيه، وجدته أخوف ما يكون لله، وأتقى ما يكون له، ولذلك تزكو به الأعمال، وكلما وجدت الإنسان يخل في شهوة أو شبهة؛ فاعلم أن وراء ذلك إخلالاً بهذه الكلمة، ونقصاً في العبودية لله عز وجل، وإلا لو كمل خوفه من الله، وخشيته لله، وتوحيده له، ما كان منه شيءٌ من ذلك. فالمقصود: أنه ينبغي العناية بهذا الأصل، وغرسه في القلوب والدلالة عليه، وتحبيبه إلى النفوس، وتقريب القلوب إليه، ولا شك أنها دعوة الرسل (ما بعث الله نبياً ولا رسولاً إلا كانت كلمته الأولى: قولوا لا إله إلا الله) ولذلك إذا وجدت الإنسان يحرص عليه، وجدته أثبت الناس قلباً، وأخلصهم منهجاً، وأصفاهم مشرباً، وأكثرهم صدقاً في العبودية لله سبحانه وتعالى، بسبب العناية بهذا الأصل العظيم.

غربة الأحكام والأخلاق والآداب

غربة الأحكام والأخلاق والآداب ثم للمسلمين غربة في أخلاقهم، وآدابهم وأحكامهم، فأول غربة وقعت للمسلمين، غربة العقيدة، ثم بعدها غربة الأحكام، فتجد الإنسان يصلي كيف يشاء، ولربما تأتي تنصح الرجل فتقول له: يا أخي! ما هذا الفعل الذي تفعله في صلاتك؟! فيقول: ليس هذا من شأنك، دعني أصلي كيف أشاء، غربة الأحكام ابتدأت بالصلاة التي هي عماد الدين، فهو يخرج إلى المسجد متى شاء، ويحضر الجماعة إن شاء وإن لم يشأ لم يحضر. وكذلك أيضاً يُخل بطهوره وبغسله، وباستنجائه، وبغير ذلك مما أوجب الله عز وجل عليه أن يحفظه، وهي أمانة حمَّلها الله عز وجل العبد. ثم غربته في زكاته، فيحرمها الفقراء، والعجيب أنك قد تجده يزكي، ولكن يزكي كيف يشاء، لا كما أمر الله عز وجل، فتجده يعطي الزكاة لمن هب ودب، فإذا قلت له: يا أخي! ما هذا الذي تفعل؟ قال لك: أفعل ما أشاء، هذا مالي، وأنا حرٌ فيه. وإذا قلت له: لا يجوز، ادفعها إلى الفقير أو إلى المسكين. يقول: لا، هذا مالي، وأفعل به ما أشاء. فأصبح في غربةٍ من أحكامه، في غربة من صيامه من حجه من معاملاته البيع والشراء الحلال: ما حل في يده، والحرام: ما لم يحل في تلك اليد يتبايع كيف يشاء إذا جئته في أي مسألة من الأحكام تقول له: افعل كذا، أو لا تفعل، أو العلماء يقولون: لا يجوز أو كذا. يقول: لا، افعل ما أشاء، ولا تحجِّر عليَّ واسعاً. إذاً المشكلة الرئيسية في قضايا المسلمين: الغربة؛ غربة العقيدة، وغربة الأحكام، وغربة الآداب. الإسلام فيه الآداب الكريمة، والأخلاق العظيمة، التي ملكت بها القلوب، ومن أعظمها وأجلها وأساسها، الأمانة، ابحث عن مؤمنٍ أمين، قلَّ أن تجد، أو مسلم أمين، قل أن تجد، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أنه تقبض الأمانة من القلوب -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يبقى إلا أثرها، كجمرٍ دحرجته على قدمك). فإذاً قبضت الأمانة من المسلمين -إلا من رحم الله- فتجده يدخل في وظيفته، يتساهل في ساعات العمل يتساهل في أخذ الرشوة يتساهل في أخذ حقوق الناس يؤخر هذا يعد هذا ويخلف ساعات العمل عنده للقيل والقال والزيارات، وكأن مكتب عمله بيته، أو مكانه، يفعل فيه ما يشاء، لماذا؟! غربة، لا يوجد دين يحكم المسلم في أخلاقه، وفي تعامله؛ ولذلك لما أخل المسلم بالأمانة، حقر حتى في عين عدوه، فترى المسلمين ضائعةً أماناتهم، مفرطين في حقوق الناس، لا يبالون بمشاعر الناس، قد يأتي الكبير الشائب الذي وصى النبي صلى الله عليه وسلم باحترامه وإجلاله، فيأتيه ذاك المتسمي بالإسلام، لا يرحم شيبته، ولا يرحم ضعفه، فيرفع عليه صوته، ويجهل عليه في الكلام، ويعده الوعود الكاذبة، ويمنيه الأماني الباطلة، أين الدين؟! إذاً: لما آل حال المسلمين إلى هذا، أصبحت أمور المسلمين إلى وبال، وساء بهم الحال، ولا فرق بينهم وبين أعدائهم، بل إنك قد تجد بعض الأعداء في بعض الأمور، يفوقون المسلمين، فتجد بعض المسلمين يعامل الكفار، فتقول له: لماذا تعاملهم؟ يقول: هؤلاء إذا وعدوا وفَّوا، وإذا قالوا صدقوا. سبحان الله! نحن أحق بهذا منهم، أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه لما أتي بكنوز كسرى، ووضعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، غطيت، حتى إن المسجد تلألأ من كثرة الكنوز والأموال: ذهب وجواهر ونفائس؛ تلألأ المسجد في شدة الظلام من كثرة الأموال، فلما دخل عمر إلى صلاة الفجر، ورأى ذلك، بكى، قالوا: يا أمير المؤمنين! ما يبكيك في يومٍ أعز الله فيه الإسلام والمسلمين؟ قال: [إن أناساً أدوا هذا لأمناء]. كان الصحابي يسير على بعيره في الفلوات، معه كنوز كسرى، وهو في الفلاة يستطيع أن يسرقها، ويستطيع أن ينقص منها، أو أن يذهب بها يميناً أو يساراً، أو يدفنها في مكان، لكن يذكر قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَ} [آل عمران:161] فيخاف الله عز وجل. إذاً كان الإسلام عقيدة، وحكماً من ناحية الأحكام، وأدباً من ناحية التعامل والتعاشر، والمسلم بهذه الثلاث الأمور: عقيدة، أحكام، آداب. فإذاً: لا ننظر إلى أي واقع للمسلمين أو مشاكل لهم إلا من خلال هذه الثلاثة الأمور: العقيدة، الأحكام، الآداب. وأي مجتمع نريد أن ننظر فيه، أو أي مجتمع نريد أن نقيمه، وهو يتسمى بالإسلام أياً كان، في أي زمان أو في أي مكان، ينبغي أن ينظر إلى هذه الأسس الثلاثة، أين هو من عقيدته، وأحكامه، وآدابه؟ انظر إلى كثيرٍ من بلاد المسلمين، تدخل إلى بعض مساجده؛ فتجد المشاهد، وتجد القبور يُطاف بها كما يُطاف ببيت الله عز وجل! ويستغاث بأصحابها كما يُستغاث بالله عز وجل! ويستجار بهم كما يستجار بالله أو أشد من ذلك! فأين الإيمان؟! حتى إنك لو دخلت في بعض الأماكن تبكي على الإسلام بين أهله، وترثي للإسلام بين حزبه. فلذلك نحن بحاجة إلى إعادة النظر في عقائدنا، وتصفيتها وتخليصها لربنا ونقائها من الشوائب، وإعادة النظر في تعاملنا ومعاشرة بعضنا لبعض؛ البيع والشراء، الأخذ والعطاء، العبادات، المعاملات، نقيمها على كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. الأمر الثالث: الآداب، نريد إسلاماً يظهر من خلال المسلمين، لا من خلال الكلمات ولا الندوات، ولا المحاضرات ولا الشعارات، ولا الرسائل ولا المجلات، نريد إسلاماً يظهر من خلال التعامل، خاصةً في البلاد التي يكون فيها أقليات مسلمة، يكون الإسلام معروفاً بأخلاق المسلمين، وليس برسائلهم ولا بمجلاتهم ولا بمقالاتهم، لكن بتعاملهم، فلذلك يحرص المسلم على أنه يتعامل بحذر، لكي يعطي الصورة السامية الزاكية التي تظهر الإسلام بصورته الحقيقية.

الأمور التي يصلح بها حال المسلمين

الأمور التي يصلح بها حال المسلمين إذا كان هذا هو الداء، وهذا هو الدواء فإننا لن نستطيع أن نصلح أحوال المسلمين إلا بأمور:

الاعتماد على الله

الاعتماد على الله أولها: اعتمادنا على الله، لا نعتمد على ذكائنا، ولا على اجتهادنا، ولا على حسن ما يكون من بعضنا، ولكن نعتمد على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، يتوكل العبد ويتوكل المؤمن على الحي الذي لا يموت {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] وسبح بحمده، فكفى به سبحانه نصيراً وولياً، فإذا كان الداعية أو الموجِّه أو المربي، بل أنت أيها المسلم في بيتك، في بلادٍ كافرة، أنت داعية بمجرد ما تقول: "لا إله إلا الله" حملت مسئولية هذه الكلمة، فنحتاج منك أن ترسم الإسلام، وتبين صراطه ومنهجه بالعمل مع القول؛ حتى لا يكون الإنسان ممقوتاً عند الله، بأن يكون قوله مخالفاً لعمله. نحتاج إلى إسلام يترجَم بالأفعال والأخلاق، حتى إذا رآنا أعداء الإسلام قالوا: نعم، هذا الدين ونِعْم الدين! أما أن نتكلم ونتشدق ونحدر الخطب ونقيم الجماعات، ونتفرق إلى جماعات متعددة وشعارات متباينة، وكل منا يدعي أنه هو المسلم الحق، وكلٌ منا في معزل عن أخيه، مع ما فيها من اعتوارٍ ونقص في بعض الأمور التي ينبغي ألا يكون فيها النقص، هذا لا يليق، بل هذا يزيد الجرح اتساعاً، ويزيد الخرق اتساعاً. ولذلك ينبغي علينا أن نعي رسالتنا.

ترتيب الأولويات

ترتيب الأولويات الأمر الثاني: نبدأ بالأهم فالأهم، نبدأ بالعقيدة، نصحح عقائد الناس، نقول للكبير والصغير والجليل والحقير: قل لا إله إلا الله، كلمة تحاج لك بين يدي الله، قلها واعمل بمقتضاها؛ ألا معبود بحقٍ سوى الله، توحده رباً فتعلم علم اليقين أنه لم يرزقك ولم يطعمك ولم يكسك أحدٌ سواه، وتوحده إلهاً بالقصد والطلب، فلا تسأل أحداً سواه، فلا تدعو غيره، ولا ترجو سواه، ولا تخاف ولا ترهب ولا تتوكل ولا تستعين، ولا تعبد أحداً سواه سبحانه وتعالى. وتوحده في أسمائه وصفاته، فلا تسمع أذنك آيةً فيها صفة من صفات الله جل وعلا إلا أثبتها لله، وتقول: آمنا بالله. كما أخبر الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وتثبت لله ما أثبت لنفسه، فنبدأ بهذا الأساس، نبدأ بالأهم فالمهم. أما إذا جاءنا شخص وقال: نبدأ بكذا، والثاني يقول: نبدأ بكذا، وهذا بكذا فكلا، نبدأ بدعوة الرسل "الإيمان والتوحيد". ثم إن صلحت عقائد الناس نبدأ بالأحكام، وبعد الأحكام نبدأ بالأخلاق، ويدل على هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أول ما بدأ في مكة بالتوحيد، وغرس في قلوب الناس الإيمان، ثم بعد ذلك دعا إلى الأحكام، فعندما انتقل صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة بين الله له الحلال والحرام، وفصل له الشرائع والأحكام، ولذلك تجد السور المدنية تتسم بطول آياتها وكثرة أحكامها، أما السور المكية فتتسم بقصر الآيات، والحجج الدامغات للذين كفروا عن سبيل الله فاطر الأرض والسماوات، تجدها شواهد الوحدانية، تنصب السور المكية، كلها قوارع تنزل على الذين كفروا، تبين لهم أنه لا إله إلا الله، وتأخذ بالقلب طوعاً أو كرهاً لكي يقول: "لا إله إلا الله"، فتأخذه تارة لكي ينظر أمامه، وتارة لكي ينظر فوقه وتحته وعن يمينه وشماله، ثم تلتفت حتى على دلائل التوحيد في نفسه وفي جسده {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فكانت آيات القرآن كلها تنصب في بدايته على هذا الأساس. نوصي جميع إخواننا في مشارق الأرض ومغاربها أن يبدءوا بهذا الأساس، وإذا جاءت الأمة المهتدية في بلاد الكفر، أو غيرها -حتى من بلاد الإسلام- إذا جاءت عقيدة صافية وفق الله وسدد وأصلح؛ لأن الله يحب المخلصين، ويوفقهم، وهو معهم ينصرهم ويؤيدهم، ويربط على قلوبهم. والأمر الثاني: بعدما نجد من المسلمين من صفت عقيدته وخلصت من الشوائب -بعد هذا الأصل العظيم- نبدأ ببيان الأحكام، لا يمكن أن نقول للإنسان: صل. وهو يعبد القبر! ولا يمكن أن نقول للإنسان: صل. وهو يستغيث بصاحب القبر! ولا يمكن أن نقول للإنسان: صل. وهو يذبح لزيد أو عمرو! لا بد -أول شيء- أن نبدأ بالعقيدة، فإذا صفيت جاءت الأحكام (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم إلى فقرائهم) ما قال له: وأمرهم بالصلاة ولا الزكاة إلا بعد التوحيد والإيمان. إذاً هذا سبيل الرسل، هذا هو عين الحكمة والصواب، لا يمكن أن تجلس مع إنسان أو تصلي معه وأنت تعلم أنه يستغيث بغير الله، ويستجير بغير الله، تتبطنه وتواليه، وتحس أنه كالمسلمين تغشه لنفسه أبداً، قل له في وجهه: هذا مسارٌ غير صحيح، أخلص لله أولاً (قل آمنت بالله ثم استقم) أول شيء الأساس فليعتن به، يعتنى به بأمور: عن طريق الدعاة، عن طريق الرسائل، والأشرطة التي تعتني بغرس العقيدة، فإذا وفق الله وخلصت العقائد، جاء التوجيه في الأحكام فنبدأ بالطهارة، ثم بالصلاة، كيف نتوضأ كيف نصلي؟ تعرف المرأة أحكام الحيض، أحكام الغسل من الجنابة، نقرأ فيها ونبحث عن رسائل مفيدة في هذه المسائل. بعد هذا -بعد الأحكام- ننتقل إلى المعاملات، كيف نبيع؟ كيف نشتري؟ ما الذي أحل الله أن نأخذه؟ ما الذي حرم الله أن نأخذه؟ بعد هذا ننتقل إلى جمال الإسلام وكماله وبهائه في تلك الأخلاق العطرة، والسير الجميلة النضرة، فإذا أردت أن ترى المسلم الجميل الكامل الفاضل، فانظر إلى ذلك المسلم الذي جمع هذه الثلاثة الأمور، وانظر إليه حينما تأتيه الرحمة من الله فيتخلق بأخلاق المؤمنين قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] والإنسان إذا صفت عقيدته وكملت عبادته، واستقامت معاملته ظهرت آثارها على أخلاقه، فتجد أثر ذاك الإيمان الخالص الصافي من الشوائب يظهر في التعامل، وإذا بالرحمة تدخل إلى قلب المؤمن فيبدأ -سبحان الله- يرحم إخوانه المؤمنين، تجد التواضع، وتجد الكلام الطيب، العفة عن أذية المسلمين، تجد المسلم الحق قد سلم المسلمون من يده ولسانه، لا يغتاب، ولا ينم، ولا يفشي الحديث ليوقع الضغينة بين المؤمنين، يحرص على أخلاقه، يرحم من المسلمين ضعافهم، ويستر بإذن الله عوراتهم، ويفرج كرباتهم، الناس همهم الدنيا وهم ذلك العبد الصالح مكروباً يفرج كربته، أو مهموماً ينفس بإذن الله همه، فتجد أخلاق الإسلام تظهر بعد تحقيق هذه الثلاثة الأمور. هذه الأمور التي هي العقيدة والأحكام، تجد بعدها الآداب، فإذا استقام القلب لله استقامت الجوارح: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله). فنسأل الله العظيم أن يصلح الأحوال، وأن يوجب لنا ولكم حسن العاقبة والمآل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

وصايا للمتخرجين

وصايا للمتخرجين إن من أعظم نعم الله علينا أن منَّ علينا بهذا العلم الذي هو سبيل إلى الجنة، ونور يستضاء به في الطريق إلى الله، فلابد من تحقيق ذلك بالإخلاص لله سبحانه وتعالى، وتزيين هذا العلم بالعمل، ودعوة الناس إلى هذا العلم والاستكثار من الأعمال الصالحة.

تذكير للمتخرجين بعظيم نعمة الله عليهم

تذكير للمتخرجين بعظيم نعمة الله عليهم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله وسار على نهجه إلى يومٍ تتفطر فيه الأرض والسماوات. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في بداية هذا المجلس المبارك أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبله منا ومنكم، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، وأن يجزي من تسبب في هذا اللقاء بخير وأفضل ما يكون به الأجر والجزاء، وشكر الله للشيخ: صالح فضله ونبله بالدعوة إلى هذا المجلس المبارك، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يرزقنا القول السديد والعمل الصالح الرشيد. أيها الأحبة في الله: إن كان لي من كلمة فما أحوجنا جميعاً إلى أن نذكر نعمة الله علينا، وجليل فضله علينا، فقد أحسن إلينا سبحانه مع عظيم إساءتنا، وأكرمنا مع التقصير الذي يكون منا، فخيره إلينا نازل، وشرنا إليه صاعد. الله أعلم كم أسبغ علينا من النعم، وكم دفع عنا من الشدائد والنقم، تحبب إلينا بالخيرات، وبسط يده آناء الليل وأطراف النهار بالخيرات والنعم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، فاللهم لك الحمد كالذي نقول، ولك الحمد خيراً مما نقول. إخوانكم من طلاب العلم أكرمهم الله بهذه النعمة العظيمة، فقرت عيوننا وعيونهم وعيون المسلمين حينما يسر لهم سبيل العلم وسهله، وبين لهم طريق العلم فهداهم إليه وحببه إلى قلوبهم. وقفوا اليوم بعد أن أكرمهم الله جل وعلا من قضاء الأعوام التي شرفهم وكرمهم بتعلم العلم فيها، فاليوم يقفون كما نقف جميعاً بعد كل نعمة من نعم الله علينا حامدين شاكرين ذاكرين لفضله وإحسانه معترفين.

وصايا لطلاب العلم المتخرجين

وصايا لطلاب العلم المتخرجين

التزام حمد الله سبحانه وتعالى وشكره

التزام حمد الله سبحانه وتعالى وشكره وأول ما ينبغي على من وفقه الله فأنهى تعليمه أن يحمد نعمة الله جل وعلا، فإن الله قرن المزيد بالشكر، وقرن البركة فيما أسدى وأولى من النعم لمن ذكره سبحانه وتعالى، فكل من شكر نعم الله تأذن الله له فيها بالمزيد، ووضع له فيها البركة حتى ينتفع وينفع غيره بما تعلم وعلم.

إخلاص العمل لله

إخلاص العمل لله أما الوصية الثانية: فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، ومن سلك سبيل الله سهل له الخيرات، وتأذن له بكل توفيق وسداد ورشاد في جميع أموره، حتى ينتهي إلى رحمة الله وجنته. المعاملة مع الله وذلك لا يكون ولن يتحقق للإنسان إلا بالإخلاص لوجهه الكريم. نقفُ اليوم لكي نجدد إخلاصنا لوجه الله سبحانه وتعالى، ونعقد العزم أن ننصب وجوهنا لوجهه الكريم، لا لأي شيء سواه، فلا يزال الرجل بخيرٍ إذا قال قال الله، وإذا عمل عملاً لله جل جلاله، فمن عامل الله سبحانه، واطلع الله على قلبه فوجد فيه الإخلاص لوجهه، سهل له السبيل وأقام له الحجة، وبيَّن له الدليل وجعله من الأخيار، والأئمة الأبرار، فيخوض في رحماته آناء الليل وأطراف النهار. الإخلاص! فلا يمسي الواحد ولا يصبح إلا وهو يعامل الله جل جلاله في أقواله وأفعاله.

تزيين العلم بالعمل

تزيين العلم بالعمل يا معاشر طلاب العلم، إن الله شرفكم بهذا العلم فزينوه وجملوه بالعمل: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل فبركة هذا العلم وخيره أن ينتفع به صاحبه، وإذا أردت أن ترى العلم النافع فانظر إلى من ظهرت آثار العلم في وجهه ويده وأخلاقه وجميع فعاله، العلم كما أنه في الصدور يترجمه العبد الصالح بأقواله وأفعاله، حتى يكون من الأئمة الذين سمى الله في كتابه. يحتاج العلم إلى عمل، ومن عمل بالعلم ورثه الله علم ما لم يعلم، جاء بعض التابعين إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكان يسألها ويستفيد منها، فأكثر عليها المسائل فقالت له ذات ليلة: [يا بني! أكل ما سألتني عنه عملت به؟ فقال: يا أماه! وأخذ يشكو التقصير وقلة العمل، قالت: أي بني! لم تستكثر من حجج الله عليك؟]، العلم إذا قرن بالعمل كان خيراً وبركة على صاحبه، وهذا هو الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وهو العلم النافع، واستعاذ بالله جل جلاله من أن يحرمه بركة هذا العلم ونفعه، وذلك بزوال العمل، فكان يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من قلبٍ لا يخشع، ومن علمٍ لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع). فكان يستعيذ بالله عز وجل من علم لا ينفع، العلم النافع: هو الذي كسر قلب صاحبه لله جل جلاله، العلم النافع الذي يزيد الإنسان قرباً من الله سبحانه وتعالى، وحباً في الله سبحانه وتعالى، لا يتعلم قليلاً ولا كثيراً إلا ازداد من العمل والقرب من الله سبحانه وتعالى، هذا هو العلم النافع الذي جعله الله للقلوب كالغيث للأرض الطيبة، تجد آثاره على جميع جوارح الإنسان، ولذلك قال إبراهيم النخعي واصفاً أئمة السلف الأخيار، الصفوة الأبرار: كان الرجل منهم إذا طلب العلم ظهرت آثاره في وجهه وخشوعه وركوعه وصلاته وسمته. كان العلم يراد للعمل، وعتب الله على بني إسرائيل حينما حُملّوا التوراة ولم يحملوها، وضرب لهم المثل كالحمار يحمل أسفاراً: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]. من حرم العمل بالعلم مقته الله جل جلاله، فكبر مقتاً عند الله أن يقول الإنسان ما لم يعمل. فلذلك ينبغي أن يفكر كل واحدٍ منا في هذه الأحكام والمسائل، والسنن والشرائع التي شرفه الله بها فعلمها، كيف يعمل بها؟ ويحاول أن يظهر هذا العلم في أخلاقه وشمائله وآدابه، والناس لا تنتظر الكلام بمثل ما تنتظر العمل والتطبيق، فالمتكلمون كثير، والمخلصون قليل، والعاملون أقل، فينبغي للإنسان أن يقرن علمه بالعمل. ومما يعين على العمل بهذا العلم: استشعار أن الله سائل العبد عن هذا العلم، ولذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسأل العبد يوم القيامة، ولا تزول قدمه من موقفه بين يدي الله حتى يسأل عن علمه ماذا عمل به. فمن الأمور التي ينبغي أن نتواصى بها جميعاً، أن نظهر هذا العلم في أقوالنا وأفعالنا وشمائلنا وأخلاقنا، فإذا ظهرت آثار العلم على عبد الله الصالح وفقه الله وسدده، وجعله محل القبول عند الخلق: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. من عمل بالعلم وضع الله له القبول، ووضع الله له المحبة، فأصبحت القلوب تقبل عليه، ووضع الله له الأثر في هذه القلوب، فأصبحت كلماته ومواعظه وجميع ما يكون منه من الدعوة إلى الله مؤثراً في القلوب، بفضل الله جل جلاله، الذي بيده القلوب يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى. العمل بالعلم يجعل الإنسان في انكسارٍ دائمٍ لله سبحانه وتعالى، ويجعله أيضاً في ربح من المتاجرة مع الله جل جلاله، وقد كان أئمة السلف أئمة في الأعمال، وأئمة في الأقوال، فجمعوا بين العلم والعمل، وكانت أخبارهم وأحوالهم وما يكون منهم مع الناس كافة، تدل على أثر هذا العلم في قلوبهم، فينبغي أن يحرص كل واحدٍ منا على العمل بالعلم.

دعوة الناس إلى العلم

دعوة الناس إلى العلم النقطة الثالثة التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها، بعد أن وفقه الله جل جلاله للإخلاص لوجهه والعمل بهذا العلم، بعد شكره سبحانه وتعالى: أن يحرص على دعوة الناس إلى العلم أن يحرص على تبليغ رسالة الله، وأداء أمانة الله، امتثالاً لما أوجب الله. فإذا أردت أن ترى من بارك الله له في علمه، ووفقه وسدده للقيام بحقه، فانظر إلى الذي لا يفتر ولا ينصب في تبليغ رسالة الله، وإقامة حجة الله على عباد الله، هذه هي الخيرية التي شهد الله بها لأوليائه المؤمنين، أن يدعوا إلى طاعته، ويحببوا في مرضاته، فيأمرون بأمره، وينهون عما نهى الله جل جلاله، فإذا بلغ الإنسان هذه المرتبة أحبه الله سبحانه، وقذف في قلوب العباد حسن الذكر له، ولذلك تجد للعلماء والأئمة من حسن القبول، ودعاء الناس، والهيبة في قلوب الناس، ما لا يمكن للإنسان أن يحصيه أو يصفه؛ والسبب في ذلك بعد فضل الله جل جلاله، بما كان منهم من الخير، وما نشروه من رسالة الله، وبلغوه من أمانة الله، فكان من شكر الله لسعيهم أن وضع لهم القبول بين عباده، فتجد الناس تذكرهم بالجميل، وتثني على ما كان منهم من عملٍ صالحٍ جليل. وانظر! إلى أئمة السلف ودواوين العلم، كيف عطر الله سيرتهم في الحياة وعطرها بعد الممات، فماتوا وما ماتت علومهم، وماتوا وما ماتت مآثرهم، وما كان منهم من خير ودعوة إلى صلاحٍ وبر، نسأل الله العظيم أن يلحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين ولا مغيرين ولا مبدلين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين.

الاستكثار من العمل الصالح

الاستكثار من العمل الصالح الوصية الأخيرة التي أوصي بها نفسي وكل مسلم يرجو لقاء الله عز وجل: الاستكثار من العمل الصالح، ينبغي للداعية إلى الله جل جلاله أن تكون بينه وبين الله أعمالٌ صالحة خفية، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، يجعل بينه وبين الله قياماً في الأسحار، أو تكون ساعات يبكي فيها من خشية الله آناء الليل وأطراف النهار، أو تكون له صدقات خفية على الأرامل والأيتام ونحوهم من ضعفة المسلمين، فقد كان أئمة السلف رحمة الله عليهم يحرصون على مثل هذه الأعمال الصالحة، فإذا كان بينك وبين الله عمل صالحٌ خفي، فإنها قربى ووسيلة يحب الله بها عباده، قربة ووسيلة تزيد العبد حباً في الله سبحانه وتعالى، وتستوجب له الدعوات الصالحة، وقد تكون من فقراء المسلمين وضعفائهم بما سد من حوائجهم، وفرج بإذن الله من كرباتهم. كان أئمة السلف يحرصون على الأعمال الصالحة الخفية، فهذا علي بن زين العابدين رحمة الله عليه مع العلم والصلاح والعمل، كان إذا جن عليه الليل لبس ثيابه، ثياباً مبتذلة وحمل على ظهره الطعام ومضى به إلى بيوت الأرامل والأيتام، وهو إمام في زمانه ولم يعلم أحد أن هذا هو الإمام علي بن زين العابدين، سليل بيت النبوة رحمه الله برحمته الواسعة، وما علم الفقراء والضعفاء أنه هذا الإمام إلا بعد أن توفي، فلما توفي فقدوا من كان يقرع عليهم بيوتهم في جوف الليل رحمة الله عليه. هكذا يكون الإنسان بينه وبين الله صدقات خفية. وهذا شعبة بن الحجاج بن الورد الإمام الذي يقول فيه سفيان الثوري رحمه الله: كان شعبة أمير المؤمنين في الحديث. وكان يهابه ويجله، وفعلاً كان خليقاً بهذا الخير، كان رحمه الله لا يرد سائلاً سأله، حتى إنه دخل عليه رجل وبكى واشتكى أن دابته قد فقدت منه، فسأله: كم قيمتها؟ قال: ثلاثة دنانير، فأدخل يده في جيبه، وقال: هذه ثلاثة دنانير والله لا أملك غيرها!! وكانوا رحمهم الله يضحون ويبذلون، منهم من كان يخرج عن ماله، ومنهم من كان يتصدق بنصف ماله؛ لأن العلم إذا كسر القلوب لله جل جلاله، لم يبالِ الإنسان بالدنيا جاءت أو ذهبت، والذي ضرنا ركوننا إلى الدنيا، فالأعمال الصالحة الخفية تعلم الإنسان الإقبال على الله سبحانه وتعالى، وتزيد من المعاملة الرابحة ولعله أن يصيب دعوة تكون مستجابة عند الله سبحانه وتعالى، وقل أن تجد عالماً يجمع بين العلم والإحسان إلى الناس، إلا وجدته في أعلى المراتب، والقبول له كأحسن وأجمل وأكمل ما يكون، جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل. والذي ضر كثيراً منا أننا نفقد مثل هذه المواقف؛ لأن هذه المواقف تنبئ عن رحمة، وتنبئ عن انكسار القلوب لله سبحانه وتعالى، فلا يرحم المسلمين إلا الرحيم، ولا يحن عليهم إلا الحنون، فإذا زين الله الإنسان بالعلم، والسعي في تفريج كربات المسلمين، وبذل قيمة هذا الجاه لقضاء حوائجهم والإحسان إليهم؛ وفقه الله وسدده وجعل الخير له وحليفه حيثما كان، فإذا مات كان وراءه الرحمات والدعوات الصالحات من المؤمنين والمؤمنات. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتيح خير، وأن ينشر بنا كل إحسان وبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وصية وتوجيه لطالب العلم إذا أراد أن يدعو إلى الله

وصية وتوجيه لطالب العلم إذا أراد أن يدعو إلى الله Q ما هي وصيتك وتوجيهك لطالبٍ يسر الله له مفاتيح علمٍ، وبعد تخرجه سيرجع إلى بلده حيث لا يوجد فيها علماء راسخون، حتى يواصل معهم والناس محتاجون للدعوة والتعليم؟ A أوصيه بالإخلاص وما كنا فيه من ضبط العلم وإتقانه، فيراجع ما قرأه ويضبطه، وكل ما تعلمه من القليل والكثير فإن الله سائله عنه، فكل ما تعلمته من القليل والكثير وكل آية وكل حديث وكل علمٍ تعلمته ستقف بين يدي الله عز وجل وتسأل عليه، ترجع وتراجع جميع معلوماتك، وتتأكد منها وتستثبت، وتجدد النية وتصححها، ثم تنطلق للدعوة وتبدأ أول ما تبدأ بنفسك، ثم بمن تعول، ثم تحقق هذا العلم بالعمل وتبدأ بالأخلاق الفاضلة، وتأخذ الناس بالتيسير لا بالتعسير، وبالتبشير لا بالتنفير. قال صلى الله عليه وسلم لما بعث أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ومعاذاً إلى اليمن قال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)، فييسر الإنسان ويبشر، ولا ينفر ولا يعسر، فإن دين الله يسر. وتأخذ الناس أولاً بما يعرفون حتى تأتلف قلوبهم حولك، وتذكرهم بالجنة والنار حتى تكون عندهم الرغبة والرهبة، بعد أن توقفهم على النار كأنهم يصعقون من زفيرها، وتوقفهم على ظلال الجنة وأشجارها كأنهم يقطفون من ثمارها، عندئذٍ تبين لهم وتأخذهم بالعزائم، ولذلك أدب الله عباده، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان أول ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة وذكر النار، ولو نزل لا تسرقوا لا تشربوا الخمر؛ ما آمن أحد). فإذاً أولاً: نقرب الناس ونثبت قلوبهم، حتى إذا جاءت العزائم جاءت والنفوس قوية. وأما منهج الدعوة فتبدأ أول ما تبدأ بتوحيد الله؛ لأنه أساس العمل الذي لا يمكن أن يقبل الله عمل عامل إلا به: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]. تبدأ بالعقيدة وأصول الدين، تدعو الناس إلى التوحيد والإيمان بالله، وتبين لهم أركان الإيمان، وتقوي في قلوبهم هذا الإيمان وتذكي جذوته، حتى إذا قوي هذا الإيمان كفاك بإذن الله عز وجل، إذا قوي إيمان الناس أصبح الواحد هو الذي يأتيك فيقول لك: ماذا أفعل في نفسي؟ وماذا أفعل في أهلي؟ وماذا أفعل بين أولادي؟ وماذا أفعل في متجري وبيعي وشرائي بعد أن يزيد إيمانه؟ ولذلك أول ما تحرص عليه العقيدة والإيمان، بعد أن تغرس العقيدة في قلبه والتوحيد والإخلاص لوجه الله عز وجل، وتعود الناس على المعاملة مع الله عز وجل بعد ذلك يسهل عليك أن تقودهم إلى الخير، وأن يأخذوا بعزائم الإسلام بقوة، نسأل الله لنا ولك التوفيق، والله تعالى أعلم. ونسأل الله العظيم في ختام هذا المجلس أن يجزي الشيخ صالح كل خير، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وإن كنا والله نود أن الشيخ يعطر المجلس فأعينوني على الشيخ، وهذا من الأدب مع العلماء والمشايخ.

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) Q ما هو الفهم الصحيح لتفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]؟ A نعم، إذا استحل الإنسان الحكم بغير ما أنزل الله واعتقد أنه حلال أو قال: الشريعة الإسلامية لا يصلح الحكم بها، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- هو الذي سمى الله بالكفر، أما لو أن إنساناً لم يستحل هذا العمل فلا يوصف بكونه كافراً، مثال ذلك لو أن إنساناً أخذ الرشوة ولم يقض بالحق، فبالإجماع لا يعد كافراً، ولو أن إنساناً جاءه قريبه فحاباه -والعياذ بالله- في القضاء فقضى له وهو يعلم أنه ظالم في حكمه، لا يوصف بكونه كافراً بإجماع العلماء، ولذلك نص العلماء في المستحل دون غيره.

الطريقة المثلى للحفظ

الطريقة المثلى للحفظ Q ما هي أمثل طريقة للحفظ؟ A يقولون أن شعبة رحمة الله عليه كان إماماً في الحفظ، وكان يقول: ما خططت سوداء في بيضاء، ولا سألت رجلاً أن يعيد علي حديثه مرتين من قوة حفظه، قالوا له: ما دواء الحفظ؟ قال: ترك المعاصي، ما جربت دواءً مثله. فالعلم نور، ونور الله لا يؤتاه عاصٍ، فالذي يريد أن يقوى حفظه فليستدم طاعة الله، وليتجنب معصية الله، فإن معصية الله تمحق البركة في الحفظ والفهم، حتى إن الإنسان إذا ما نظر إلى حرمة من حرمات الله، وجاء يفتي أو يتكلم بانت في خلجات لسانه، نسأل الله السلامة والعافية، وضره في علمه وفي بصيرته نسأل الله العافية. فالإنسان يحرص على طاعة الله، فمن الأمور التي تعين على حفظ العلم ووقته: الطاعة والتقوى والالتزام بحدود الله كما قدمنا.

حكم الرضاع من امرأة بعد بلوغها سن اليأس

حكم الرضاع من امرأة بعد بلوغها سن اليأس Q هل رضع المرأة بعد سن اليأس مؤثر؟ A هل هناك حليب؟ إذا كانت يائسة وفيها حليب فهذا من أندر النادر، والسؤال قد يكون من الأسئلة الفرضية، لكن بالنسبة للحكم لا، فإذا ثاب الحليب في امرأة وبقي فيها وكانت متزوجة من قبل، وارتضع منها طفل فإنه يعتبر ابناً لها، وابناً لزوجها الذي ثاب الحليب من وطئه، ومعنى ذلك أنه بقي فيها الحليب من بعد وطئه.

العوامل التي تساعد على محاربة الهوى

العوامل التي تساعد على محاربة الهوى Q ما هي العوامل التي تساعد على محاربة الهوى وعدم اتباعه؟ A الأمور التي تساعد على محاربة الهوى: أن تقفل على نفسك جميع الأبواب المخفية لهذا الهوى، فالإنسان الذي يبتلى بالهوى والضلالة -نسأل الله السلامة والعافية- لا بد من وجود أسباب أفضت به إلى ذلك: إما قرين السوء، ولذلك قال الله تعالى حكاية عن عبادة المجرمين: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:94 - 99]. وقال أيضاً: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29]. فقرين السوء من أعظم أسباب الهوى، ما زين الخمر وحببها إلى شاربها إلا قرين السوء، ولا زين المعاصي وجعلها سهلة ميسرة لمن فعلها إلا قرين السوء، الذي لم يتق الله في أخيه وأورده الموارد، ولذلك يأتي يوم القيامة فيتبرأ منه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، فنسأل الله السلامة والعافية، فقرين السوء من أعظم أسباب الهوى. كذلك أيضاً من أسباب الهوى: الجلوس في مجالس أهل الضلالة، فهذا الإمام مالك رحمة الله عليه المشهودٌ له، حتى يقول عنه عبد الرحمن بن مهدي: جالست سفيان ويحيى -يعني: يحيى القطان - ومالكاً، ما رأيت أعقل من مالك، كان هذا الإمام رحمة الله عليه معروفاً بوفرة العقل، حتى إن الإمام أحمد رحمة الله عليه قال: كان من أكمل الناس عقلاً في فضلٍ وعلم. وأثنى عليه، فمن عقل الإمام مالك لما قيل له ذات مرة: حدثنا. فحدثه، فقيل له: عمن حدثت؟ أي: من الذي حدثك بهذا الحديث؟ قال: ما جالست سفيهاً يوماً قط. فالذي يريد أن يعافيه الله من الهوى لا يجالس السفهاء وأهل الهوى، فمن جالس قوماً تأثر بهم، ففي اليوم الأول ينكر، واليوم الثاني يضعف إنكاره، حتى يصبح يوماً من الأيام لا يفرق بينهم وبين نفسه -نسأل الله السلامة والعافية- فالإنسان الذي يريد أن يسلمه الله من الهوى عليه أن يقفل أسباب الهوى، فيجلس مع أهل الهدى حتى ينقل إلى الهدى، ويكون من أهل الهدى، ويسلم من الردى والهوى، فيحرص الإنسان على هذه الأمور. أيضاً من الأمور التي تسلم من الهوى: كثرة قراءة القرآن مع التدبر؛ لأن القرآن يأخذ بمجامع القلب فتتجه جميع الشعب إلى الله جل جلاله، فيأتي الشيطان فلا يجد منها شعبة، وتأتي الشهوات والشبهات فلا تجد شعبة؛ لأن جميع شعب القلب اتجهت إلى كتاب الله، وإلى كلام الله. ولذلك كان السلف الصالح رحمة الله عليهم لا يفترون عن كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، فصاموا به النهار وقاموا به الأسحار رحمة الله عليهم. فلذلك الذي يريد أن يسلمه الله من الهوى؛ يحرص على هذين الأمرين: الأمر الأول: ألا يجالس أهل الهوى وأهل البدعة وأهل الضلالة، ويحرص على أهل السنة والحق، والذين هم على نور من الوحي من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: أن يحرص على ما ذكرناه من البعد عن قرناء السوء ومن لا خير في مجالسهم.

فضيلة العلم الأخروي على العلم الدنيوي

فضيلة العلم الأخروي على العلم الدنيوي Q ما جاء في وصف العلماء في القرآن هل ينطبق على أصحاب العلم الدنيوي؟ A لا. العلم إذا ذكر تشريفاً وتكريماً هو العلم الأخروي: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وأما بالنسبة للعلوم الدنيوية فيوصف صاحبها بكونه باحثاً، ويوصف بعلمه الذي هو فيه، وأما بالنسبة لمن قال: العلم لكل من هب ودب، فهذا فيه انتقاص لشرف العلم، العلم الذي أثنى الله عليه ورفع قدره هو: العلم الأخروي، الذي هو قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم. أما أن تكون منزلة علماء الدنيا كعلماء الدين فلا!! يأبى الله ورسوله وعباده المؤمنين، وهؤلاء لهم فضل، فنحن نقر للأطباء بطبهم، وللمهندسين بهندستهم، وكل من كان له علم فيه منفعة ومصلحة نقر له بفضله فيه، لكن بالنسبة للذي له شرفه وله مكانته، والذي أثنى الله عليهم ورسوله هم علماء الدين. وأما علم الدنيا فهذا من الأمور التي تكون بحالها وبحسبها، يقال: هذا طبيب ويبين فضله في علمه، أما أن يوصف بكونه عالماً لا، العلم إذا أطلق كان العلم الأخروي، ولذلك قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، فوصفهم بكونهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا: {وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وهذا في قومٍ ليسوا على إيمان، ومع ذلك من الأمور التي استوى فيها العلماء الآن أن يقال: لفظ العالم والمهندس والطبيب على مرتبة واحدة وهذا خطأ. وبعضهم يقول: لا، هؤلاء علماء، فيقال: علماء الطب، وعلماء الهندسة، وهذا غير صحيح يقال للأطباء بطبهم ويوصفون بطبهم، لكن العلم إذا أطلق بين المسلمين ينبغي أن تصان هذه الكلمة وتحفظ؛ لأن العلماء لهم هيبة ولهم مكانة، والسلف الصالح من القديم على هذا، إذا قيل العالم فمعروف من هو العالم. لأنه كان هناك الأطباء وكان غيرهم من علماء الدنيا، وهذا لا ينقص العلوم الدنيوية في نظر الإسلام، خطأ أن يظن أحد أننا إذا قلنا هذا الكلام كأننا ننتقص من العلوم الدنيوية، إنما نقول: إن العلم الأخروي له ميزة في شريعتنا وله مكانة عند أهل العلم وعند المسلمين، لا ينبغي أن يسوى العالم الديني بالعالم الدنيوي، شتان ما بينهما، ولذلك يختص هذا العلم بالعلم الديني، وهو الذي عنى الله عز وجل أهله وسماهم وشرفهم. جعلنا الله وإياكم منهم.

الواجب على طالب العلم تجاه المعلم

الواجب على طالب العلم تجاه المعلم Q ما هو الواجب على طالب العلم تجاه المعلم؟ A العلماء لهم حقٌ كبير على الناس، وبين الله تعالى علو شأنهم فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وأخبر أنه يرفعهم درجات عنده سبحانه وتعالى، فالعلماء لا يستوون مع عامة الناس، وفي تفسير قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]-جعلنا الله وإياكم منهم- فابتدأ بالأنبياء، ثم قال: "والصديقين" قال العلماء: الصديقون هم العلماء العاملون، فالعالم العامل له حق كبير على الناس. من حق العالم على طالب العلم إذا كان في مجلس العلم أن يصغي إليه، كما أخبر الله عن الجن: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29]، وقال الله لنبيه موسى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:12 - 13]. فالواجب الإنصات إليه إذا حدث، وعدم مقاطعته، وعدم الاستهانة برأيه، والاستخفاف بعلمه، فإن العلم شعيرة من شعائر الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. فالذي يتقي الله يعظم العلماء في الحدود الشرعية، ولا يغلو بهم ولا يتنطع، ولكن أيضاً لا يجحف، فنحن بين الإفراط والتفريط، لا نغلو ولا أيضاً نجحف بعلمائنا بل نحترمهم ونقدرهم إذا تكلموا وبينوا. الأمر الثاني: العمل بما يدعون إليه، ونشر فتاويهم وعلومهم بين الناس؛ لأن الله ينفع بها ويكون لك مثل أجره، فمن حبك للعالم أن تنشر خيره، فتقول: جلسنا معه فذكر كذا، ونصح بكذا، ووعظ بكذا، فتكون شبيهاً بالعلماء وإن لم يكن عند الإنسان علم فلينشر هذا الخير. الأمر الثالث: ذكرهم بالجميل، أن يذكر العلماء بالخير؛ لأن انتقاص العلماء عند العامة ثلمة في الدين، فإن العامة إذا احتقر العلماء عندهم ضاع الدين، من يسألون؟ وإلى من يرجعون؟ فينبغي ذكرهم بالجميل وإجلالهم، ولا ينادونهم بأسمائهم وإنما ينادونهم بما شرفهم الله به وكرمهم، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. الذي ينادي العالم باسمه أو يجعل العالم في مرتبة واحدة مع العامة جاهل، فإن الله يبين أنهم لا يستوون، فينبغي إجلالهم، فيقول: قال العلماء يقولون بإجلال العلم ذكره الشيخ والإمام، ويقال: عفا الله عنك وأحسن الله إليك. فيجلون ويقدرون في الحدود الشرعية. كذلك من حق العالم إذا كان ميتاً أن يترحم عليه الإنسان، كعلماء الأمة وسلف الأمة الصالح، ويذكرون بالجميل، ويترحم عليهم، فإن الإنسان إذا ذُكر عظام المسلمين من العلماء والأخيار والصالحين وذكرهم بدعوة صالحة قيض الله له من يدعو له، ويترحم عليه، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان. ولذلك كان من منهج السلف الصالح ذكر علماء الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، كما يقول الإمام الطحاوي في عقيدته: أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، من الصحابة التابعين، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، فينبغي ذكرهم بالجميل. كذلك أيضاً من حقوقهم: أن الإنسان يحرص كل الحرص على التأدب معهم في المناقشة والسؤال والاستفتاء، لا يرهقهم ولا يحملهم ما لا يطيقون، ولذلك أمر الله أصحاب نبيه أن يتأدبوا معه حتى في مجالسهم الخاصة، وأن لا يطيلوا الجلوس عنده؛ لأنه ربما كان مشغولاً بما هو أهم وأعظم، فالعالم يحتاج إلى حفظ وقته، وهكذا إمام المسجد والخطيب ونحوهم ممن يوجه الناس، قد تكون عندهم أمور خاصة يحتاج إلى تفرغ لها، ويحتاجون أن يتزودوا، فإذا أصبح الناس لا يبالون بأوقات العلماء، ويرهقونهم بكثرة الزيارات التي لا يصحبها استفادة، فهذا أمر فيه ضرر عليهم، بل هو من إساءة الأدب. ولذلك من الأمور التي شاعت بين الكثير إلا من رحم الله كثرة زيارة العلماء والجلوس معهم دون استفادة. فتجدهم يسألون عن حاله، وعن شأنه، ويسألونه عن أموره الخاصة، وشئونه الخاصة، دون أن يسألوا عن علمٍ نافع، حتى مل العلماء من مجالس الناس وأصبحوا يقولون: نجلس ويضيع الوقت في أمور دنيوية. وقد يجلسون بالساعات، فإذا أراد العالم أن يقوم، قال أحدهم: عندي سؤال، وقال هذا: عندي مشكلة، مع أن العالم يجلس بالساعات، ولا يجد من يسأله. فينبغي أن نشفق عليهم، وأن نختار الأوقات المناسبة لزيارتهم، وكذلك أيضاً إذا رأينا عليهم العناء والتعب نشفق عليهم، فهذا أيضاً من احترام العلماء ومن الأدب معهم. كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يراعيها في أدبه مع العلماء، أن يشعرهم بالإجلال والتقدير، وبالسلام عليهم وتفقد أحوالهم، فإن كانوا مرضى نزورهم ونعودهم ونقضي حوائجهم؛ لأنهم مشغولون بمصالح المسلمين، ومن قضى حوائجهم وسعى في إسداء الخير إليهم أعانهم على ما هم فيه من الخير. نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل، وأن يوفقنا إلى حب علمائنا والنصح لهم، وذكرهم بالجميل والإحسان إليهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

كيفية تسديد الدين عند تغير سعر العملة

كيفية تسديد الدين عند تغير سعر العملة Q في بلادنا تنقص العملة نقصاناً كبيراً، فمثلاً: قبل ست سنوات كانت وحدة العملة في بلادنا تساوي اثنا عشر دولاراً والآن تساوي ستمائة دولار، فهل يجوز أن يشترط على الإنسان عند الدين تقويمها عند الأداء؟ A لا يجوز، من أخذ ديناً بأي عملة فإنه يرده بنفس العملة، سواءً ارتفعت أو انخفضت واجتهد بعض أهل الرأي فقالوا: يجوز أن ينظر إلى قيمة العملة ويعطيه إياها، وهذا باطل من وجوه. أولها: أن الله تعالى يقول: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فدلت هذه الآية على أن صاحب الدين، يستحق رأس مال الدين بدون تفريق بين غلاءٍ ونقص. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود: (الخراج بالضمان) وهو حديث صححه غير واحدٍ من العلماء ومتنه مجمع عليه، ومعناه: أن الربح لمن يضمن الخسارة، يقولون: من يتحمل الخسارة يأخذ الربح، فنقول: أرأيت لو أن هذه العملة أصبحت قيمتها بأضعاف أضعافها لطالبك صاحب الدين أن تدفع له نفس العملة، قالوا: كما أنه يطالبك عند غلائها بنفس العملة أيضاً تعطيه نفس العملة عند نقصها، للقاعدة: "إن الغنم بالغُرم". ولذلك أصول الشريعة تقتضي أن تسدد بنفس العملة ارتفعت أو انخفضت، وهذا وارد، فإن الإنسان قد يأخذ الشيء وقيمته شيء ثم يرده وقيمته أدنى وقد يرده وقيمته أعلى فليس لك إلا مثله، ولأن صاحب الدين قد رضي أن يأخذ هذا القدر بعد سنوات، سواءً كان بغلاءٍ أو كان بنقص. لكن لو أن إنساناً أعطاك ديناً فأخذت مائة ألف فإن له فضلاً عليك، ومن شكر المعروف أن ترد جميله، فإذا نقصت هذه القيمة تقول له: هذا مائة ألف التي أعطيتني إياها وهذه خمسمائة من عندي، أو هذه ألف من عندي، فقد ثبت أن رجلاً قال: (يا رسول الله! لا نجد إلا خياراً رباعية، قال: أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء)، تعطيه من باب المكافئة على معروفه، ويجوز رد الدين بزيادة إذا لم يكن بشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير الناس أحسنهم قضاء)، فنحن نخرج من الإشكال ونقول له: هذه مائة ألف التي استدنتها منك، وأنت صاحب فضل عليَّ أشكره ولا أكفره وأذكره ولا أنساه، هذه عشرة آلاف مني لك جزاك الله خيراً، وأعظم لك الأجر، ففي هذه الحالة يكون الإنسان قد وفى وكفى وخرج من الشبهة؛ لأنه خرج من الحرام والشبهة ببينة من أمره.

حكم دفع مبلغ مقابل الإقالة من البيع

حكم دفع مبلغ مقابل الإقالة من البيع Q رجل اشترى سيارة من آخر وبعد يومين طلب المشتري الإقالة، لكن البائع رفض أن يقيله، فتبرع المشتري بدفع ألف لإعادة السيارة، فما الحكم، جزاكم الله خيراً؟ A مسألة الإقالة فيها جانبان: الجانب الأول: المستحب والمندوب للمسلم إذا جاءه أخوه المسلم يسأله الإقالة في بيع أن يقيله، فإن الإنسان إذا رحم أخاه رحمه الله، والأغنياء يبتليهم الله بمثل هذه المواقف فمن شكر نعم الله عز وجل على الإنسان أن يقيل النادم. والإنسان ربما استعجل وقبل منك السيارة أو الأرض أو العقار، ثم رجع إلى بيته فتذكر ديونه أو تذكر همومه وغمومه وتذكر أنه سيحمل عبئاً كبيراً، فيأتيك وهو مكروب ويقول لك: يا أخي! فرج عني عسى الله أن يفرج عنك، إني نادم، رد عليَّ بيعتي فإذا رحمته رحمك الله جل جلاله: (من أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة) لأن هذا المتن له ما يشهد له من المتون الصحيحة: (من نفس عن مؤمنٍ كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، فأجمع العلماء على فضل إقالة النادم. الأمر الثاني: مسألة هل يجوز أن يدفع له الألف ويتنازل؟ هذه المسألة مبنية عند العلماء على مسألة: هل الإقالة بيع مستأنف أو هي فسخ للبيع الأول؟ وتوضيح ذلك أنه إذا قال: أقيلك وأعطني ألفاً، فإننا إن قلنا: بيع صح وجاز، كأنه اشترى السيارة بمائة ألف ثم باعها له مرة ثانية بيعاً ثانياً بالإقالة بتسعين ألفاً، هذا لا حرج فيه؛ لأنه باع ما يملك، فهو اشترى بمائة من البائع ثم باع المشتري بتسعين، فأشبه ما لو باعها للغير، فهذا لا حرج فيه إن قلنا إنه بيع. أما لو قلنا أن الإقالة رد وفسخ للبيع فهنا إشكال، كأنه يدفع له المائة ألف مقابل التسعين الألف، ففيها شبهة، ولذلك شدد العلماء على هذا الوجه الثاني، إذا قال له: خذ من المائة ألف ألفاً وأقلني قالوا: كأنه يقول له: أعطني المائة ألف وفي مقابل الإعطاء خذ ألفاً، فبادله المال بالمال متفاضلاً وقيمة المال في السلعة، ولذلك ترد فيها الشبهة في هذه الحالة، فالأقوى أن يبيعها عليه والأفضل أن يقول له: أبيعكها بتسعين ألفاً هل تشتريها مني؟ فينشئ عقد البيع؛ لأنه لو أنشأها بصيغة البيع فبالإجماع يصح البيع وينعقد، والله تعالى أعلم.

حكم ترك الدعوة بحجة الخوف من عدم العمل بما يدعو إليه

حكم ترك الدعوة بحجة الخوف من عدم العمل بما يدعو إليه Q يقول بعض طلاب العلم: إني أخشى أن أدعو إلى عمل ولا أعمله فآثم على ذلك، فما رأي فضيلتكم؟ A بعض طلاب العلم يمتنع من الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الخير، يقول: لأني لا أعمل، وهذا فيه تفصيل؛ لأن الإنسان إذا عجز عن العمل لعذرٍ يقوم به، أو لم يستطع أن يفعل هذه الأعمال الصالحة لعذر يقوم به؛ فإنه بالإمكان أن ينال الخير بالدعوة إلى الخير، ولذلك الناس يختلفون. فمثلاً: لو أن إنساناً كان قليل ذات اليد ليس عنده مالٌ يتصدق به، فإنه لا يقول: لا أدعو الناس إلى الصدقة؛ لأنني لا أتصدق، بل يدعو الناس إلى الصدقة. ولذلك المراتب مختلفة: فأعلاها أن يجمع الله للإنسان بين الدعوة لفضائل الأعمال والعمل بها، ودونها أن يدعو وأن يمنع ويحال بينه وبين العمل بالعجز، فيكتب له الأجر إن شاء الله تعالى، كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (هذا بعمله وهذا بنيته). فكون الداعية يمتنع عن الدعوة إلى الخير لقوله: لا أعمل في فضائل الأعمال، هذا محل نظر، بل ينبغي عليه أن يدعو حتى ينال الأجر بالدعوة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يندب أصحابه إلى دعوة الناس إلى الخير؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان وأصحابه في قلة من ذات اليد، وكان يأمر بالصدقات ويحث عليها صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبتت في ذلك الأحاديث الصحيحة. ومنها قصة غزوة تبوك صلوات الله وسلامه عليه نادى المؤمنين إلى الإنفاق، فإذا عجز الإنسان عن العمل الصالح لقصور به أو ضيق وقت، أو وجود مشاكل أو تحمل أمور تشغله عن القيام بعمله، فلا يمتنع من أمر الناس بالخير، وهل كل إنسان يعمل بكل ما يدعو إليه؟ هذا أمر من الصعوبة، لو قلنا إنه لا يدعو إلا بما عمل، ولكن يكون في نفسه أنه ترك العمل لعذر. أما -والعياذ بالله- إنسان يدعو الناس إلى الخير وهو زاهدٌ فيه هذا هو الذي فيه الوعيد -نسأل الله السلامة والعافية- عنده مال ويقول للناس: تصدقوا فإذا دعي للصدقة انكف وانزجر -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا هو الذي فيه الوعيد، وفيه حديث الرجل الذي تندلق أقتابه -أمعائه- في النار فيلتف عليه أهل النار ويقولون: (يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: نعم، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) نسأل الله السلامة والعافية! فهذا يقع بأسوأ الأحوال يوم القيامة. لذلك إذا كان الإنسان تقصيره من استخفاف ونحو ذلك فهذا هو الذي يخشى عليه، أما إذا كان لضيق ونحوه فإنه معذور.

الأمور التي تعين على الخشوع

الأمور التي تعين على الخشوع Q كيف يكون الشاب المسلم دائم الخشوع لله تعالى مع ما يعتري قلبه من القسوة؟ A الله المستعان أما الخشوع فهذا من أعظم الأمنيات وأجلها وأكرمها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للصحابة: (والذي نفسي بيده، لو أنكم تستديمون على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة عيانا، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)، من منا يستطيع أن يبقى خاشع القلب دائماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم ... )، فهذا يدل على أن الإنسان أين ما كان فيه بشرية وفيه ضعف، ولكن العاقل الحكيم الذي يتعاطى الأسباب في القرب من الله، فمن الأمور التي تعين على الخشوع: أولها وأعظمها: الدعاء، قل: اللهم إني أسألك قلباً خاشعاً اللهم أصلح لي قلبي اللهم اقذف في قلبي نور الخشوع، واجعلني من أهله ونحو ذلك من الدعاء الذي ترجو به رحمة الله، فإنه نعمة لا يعطيها إلا الله جل جلاله. الأمر الثاني الذي يعين على الخشوع: الكسب الحلال والمال الطيب، فمن طاب مطعمه طاب قلبه وصلح، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى الحلال، فليبتعد قدر المستطاع عن الحرام وليجاهد نفسه، فإن الله يرزقه من الخشوع على قدر جهاده. الأمر الثالث مما يعين على الخشوع: قيام الليل، وتدبر القرآن في الأسحار، والبكاء في جوف الليل، وتذكر الذنوب والإساءة والعيوب، فإنها تكسر القلوب لله جل جلاله. ومما يعين على الخشوع: قراءة سيرة السلف الصالح وتأمل أحوالهم، وما كانوا عليه من الخوف الدائم من الله سبحانه وتعالى. كذلك أيضاً مما يعين على الخشوع: زيارة الموتى، وتشييع الجنائز، والنظر في أحوال أهلها من الأغنياء والأثرياء والضعفاء والفقراء. وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن فإذا نظر الإنسان إلى جنازة غني أو ثري كيف يوسد في قبره، وكيف يترك في لحده، وكيف آل إلى هذا المكان، انكسر قلبه لله جل جلاله وأصابه الخشوع وأحس أنه في ذلة واستكانة لله سبحانه وتعالى. كذلك أيضاً مما يعين على الخشوع: البحث عن العلماء الأتقياء، الذين فيهم ورع وصلاح، وتمسك بالكتاب والسنة، الذين إذا نظرت إليهم ذكرك منظرهم بالله، وإذا استمعت إليهم أحيا الله قلبك بما يكون منهم من ذكره وشكره سبحانه وتعالى. مما يعين على الخشوع: البعد عن المظالم وأذية الناس والشرور بجميع أنواعها. مما يعين على الخشوع: كف البصر وكف الجوارح التي فيها فتنة، فإن الإنسان إذا حبس جوارحه لله جل جلاله قذف الله في قلبه نور الخشوع، وكان من الخاشعين، هذه من الأمور التي تعين على خشوع القلوب وصلاحها، نسأل الله العظيم أن يمن علينا بهذه النعمة العظيمة، وأن لا يسلبنا لذة الخشوع إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأمور التي تعين على حفظ الوقت

الأمور التي تعين على حفظ الوقت Q كيف يحفظ الإنسان وقته إذا كان من طلاب العلم؟ A على العموم حفظ الوقت لا يكون إلا إذا هيأ الإنسان نفسه لحفظ هذا الوقت، وإذا أراد الإنسان أن يحفظ وقته فليستكثر من الطاعة، فإن الإنسان إذا كثرت طاعته بارك الله له في عمره. يقولون: إن حفظ الوقت من البركة التي يجعلها الله في العمر، ولذلك من أكثر الناس بركة في أوقاتهم هم العلماء والأخيار، والذين هم على استقامة على دين الله عز وجل يبارك الله في أوقاتهم، ولذلك تجد العالم يعيش مدة وجيزة ولكن يحيي الله عز وجل به أمماً. كذلك من الأمور التي تعين على حفظ الوقت من الأعمال الصالحة: صلة الرحم وبر الوالدين: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، فليصل رحمه). صلة الرحم تضع البركة في العمر، ويبارك الله بها في الوقت، وطالب العلم الذي يقصر في صلة الأعمام والعمات والأخوال والخالات ونحوه من القرابات يحرمه الله عز وجل بسبب هذا الذنب. قال سفيان الثوري: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل ستة أشهر، فقد يقصر الإنسان في صلة رحمه أو بر والديه فينزع الله عز وجل الخير من وقته. من الأمور التي تعين على حفظ الوقت: كثرة ذكر الآخرة وتذكر الإنسان أنه ستمر عليه مثل هذه اللحظة، ومثل هذه الساعة وهو رهين الأجداث والبلى، قد أقبل على الله جل وعلا، بما كان منه من خيرٍ أو من شر، فإن هذا يهون عليه هذه الدنيا، ويجعل عمره في نظره قصيراً، وإذا أحس الإنسان أن عمره قصير استنفذه فيما فيه الخير، واستنفذه فيما فيه الطاعة أو البر. فإذا حرص الإنسان على كثرة ذكر الآخرة بارك الله له في وقته، وأعانه على تنظيمه. ولا أستطيع أن أضع منهجاً معيناً لحفظ وقت طالب العلم؛ لأن الأمور تختلف، فلو قلت لك مثلاً: قم من الصباح الباكر من بعد صلاة الفجر وافعل كذا وكذا، ربما كانت أوقاتك لا تتهيأ في مثل هذا الوقت، ولو قلت احفظ آخر النهار وأدمن السهر، ربما كانت أحوالك لا تعين على ذلك. فوضع منهج معين من الصعوبة بمكان، وأنا ألاحظ أنه من الخطأ أن نضع للناس منهجاً معيناً، إنما نضع لهم القواعد تأسياً بالكتاب والسنة، ونقول له: احرص على ما ينفعك، واحرص على ضبط وقتك والله يعينك. فإذا تهيأت أسباب حفظ الوقت فإن الله يعين. لكن ننبه على أمور مهمة تضيع الوقت، منها ومن أعظمها: قرناء السوء، وقد يكون الإنسان ولو كان قريناً صالحاً فإنه قد يكون ليس عنده عقل، وقد يكون ممن يضيع أوقات الناس فيما لا خير فيه. ولذلك إذا أردت أن يبارك الله لك في الوقت، ابحث عمن حولك فإذا وجدت الذين حولك من الصالحين والأخيار، الذين يعينون على حفظ الوقت فاعلم أن وقتك سيحفظ. ومن الأمور التي تعين على حفظ الوقت في هؤلاء الأخيار: أن يكونوا من الناصحين، أهم شيء في حفظ الوقت بعد توفيق الله: وجود القرين الصالح الذي لا يغشك، فإذا رآك على خيرٍ سددك وثبتك، وإذا رآك على تقصير نبهك ووعظك وذكرك فأحيا الله قلبك بهذا، ولذلك قال بعض السلف: أخوف الناس فيك من نصح لك، فإذا رزقك الله قريناً صالحاً حفظ وقتك؛ لأنه إذا رآك تضيع الوقت نصحك وذكرك بالله عز وجل. إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك هذا هو الأخ الصالح الذي إذا نسيت الله ذكرك، وإذا ذكرت الله أعانك، فابحث عن القرناء الصالحين، والذي ضرنا اليوم الجلساء والخلطاء، الواحد منهم يجلس الساعات قل أن يذكر الله جل جلاله، وقل أن يسدي إليك خيراً في دينك ودنياك وآخرتك. تفقد من حولك، ولو كانوا من طلاب العلم، فبعضهم إذا جلست معه تقوم وإيمانك أزيد من ذي قبل، وتقوم وأنت قد استفدت الحكم والفوائد، وكان لك من الخير ما الله به عليم. فإن ضاقت عليك الدنيا، ولم تجد قريناً صالحاً تستفيد منه ويفيدك ويعينك على ضبط وقتك، فانتقل إلى جلساء أرباء لا يملون ساعة، وهم العلماء الماضون، تجلس مع كتبهم وعلومهم النافعة. وقد كان الوالد رحمه الله لا يحب ضياع الوقت، حتى كانت تمر عليه في بعض الأحيان مناسبات لبعض القرابة أو لقاء مع العلماء فيخرج، والله قل أن أراه يخرج إلا وكتابه معه، فإن وجد المجلس فيه علم نافع ومذاكرة جلس، وإن وجد القيل والقال والغيبة مضى إلى ظل شجرة فجلس يقرأ حتى يحضر الطعام فأصاب من الطعام وأجاب الدعوة ثم انصرف. لا يسمح لأحد أن يضيع عليه وقته، وإذا جاء أحد وقال له: فلان يقول وفلان، يقول له: اسمع! إما أن تستفيد أو تقوم عني، لا يأذن لأحد أن يضيع عليه وقته، وكان في بعض الأحيان يعتب على من يذكر أحداً عنده بسوء، ويقول له: لا تذهب عليَّ حسناتي، لا آذن لك أن تأخذ من حسناتي. فهكذا طالب العلم، إن وجدت الذي حولك يأتيك بعلم نافع يقول: جلست مع العالم الفلاني فقال وفعل فأكرم به وأنعم به من أخٍ وصديق، وأما إذا جاءك وقال: قال فلان وقال علان بالغيبة والنميمة، ويفسد قلبك على المؤمنين والمؤمنات فاحذره. فصلح قرين السوء للقرين كصلح بين اللحم والسكين فالإنسان الذي يخالطك ويضيع عليك الوقت هذا لا خير فيه، ولو كان من أقرب الناس منك، فتفقد من حولك، إن وجدت وقتك يضيع فيما فيه فائدة ومنفعة فاعلم أن الله قد قيض لك الخير بالقرناء الصالحين، وإن وجدت على العكس من ذلك فاتركهم والله يبدلك خيراً منهم، والله تعالى أعلم.

حكم تغيير لون الشعر بالأصباغ

حكم تغيير لون الشعر بالأصباغ Q هل يجوز صبغ الرأس للمرأة بما يسمى بالميش؟ A الميش يغير خصلة الشعر، ويؤثر فيها، ويعتبر من تغيير الخلقة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لعن الواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة وقال: والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فتغيير لون الشيء من تغيير الخلقة، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (غيروا هذا الشيب) فوصف صبغة الشيب بكونه تغييراً، وقال: (المغيرات خلق الله)، فلا يجوز تغيير لون الشعر من السواد إلى الأحمر الذي هو الصبغ؛ لأن المسألة راجعة إلى الاعتقاد كما يقول العلماء. قالوا: كيف يرد اللعن في النمص والوشم، قالوا: لأن المرأة حينما تشر الأسنان -بمعنى: تبردها- كأنها لا ترضى عن طول أسنانها، فتريد أسناناً قصيرة، فأصبحت مسألة عقدية: وهي عدم الرضا بما وهب الله، وكذلك الواصلة نفس الشيء. وكذلك أيضاً: الوشم بما يكون من تغيير بشرة الإنسان التي خلقه الله جل وعلا عليها، فتغيير اللون؛ لأنه يتحكم في نفس خصلة الشعر، تغيير اللون ولو كان مؤقتاً بالنسبة للميش لكنه هو يغيره، ولذلك نهي عن صبغ اللون بالسواد، فالمرأة حينما تأتي إلى سواد شعرها ولا ترضى وتنقله إلى الحمرة أو العكس، فإن هذا يعتبر من عدم الرضا بخلقة الله عز وجل. فعلى الصحيح من أقوال العلماء أن الميش يعتبر من التغيير؛ لأن ظاهر الحديثين يدل على ارتباط هذا التغيير بالمحرم، وذلك في قوله: (غيروا هذا الشيب) وقوله هناك: (المغيرات لخلق الله) فعلى المرأة أن تحمد نعمة الله عز وجل عليها، وما أعطاها من لون شعرها وتشكره على ذلك، ولا حاجة إلى هذه الأصباغ، والله تعالى أعلم.

مقدار الكفارة على من اشتركوا في قتل نفس

مقدار الكفارة على من اشتركوا في قتل نفس Q اشترك اثنان في حادثٍ خطأ، وكان النسبة ثلاثين في المائة على أحدهما، وعلى الآخر سبعين في المائة، فما الحكم في كفارة القتل؟ هل يشتركان في قيمة العتق بالنسبة للرقيق أو ماذا؟ وما الحكم إذا عجز أحدهما أو كلاهما عن العتق وهل يجوز الصيام أو لا؟ A هذه المسألة إذا اشترك اثنان أو ثلاثة في قتل خطأ؛ فإنه يلزم كل واحدٍ منهما أن يكفر؛ لأنه قاتل من وجه، ولذلك لو اشترك الثلاثة أو الأربعة في قتل العمد قتلوا جميعاً، ولذلك الأصل عند العلماء أن الكفارة لا تتجزأ، وعلى هذا فإنه تلزمهم جميعاً، كل واحدٍ منهم في خاصة نفسه، أن يكفر كفارة مستقلة، وتجزؤ الخطأ لا يؤثر في الكفارات، والله تعالى أعلم. السائل: لو كان أحدهم قادراً على العتق دون الآخر فهل يلزم من كان قادراً على العتق؟ الشيخ: هذا طبعاً إذا قلنا بالاشتراك، أما إذا قلنا أن كل واحدٍ منهم مطالب بالتكفير فإنه إذا عجز عن العتق ينتقل إلى الصيام، والله تعالى أعلم.

حكم من أوقف مزرعة ثم تلفت

حكم من أوقف مزرعة ثم تلفت Q رجل أوقف نخلاً ثم كبر هذا النخل ومات، هل له أن يستفيد من الأرض؟ A إذا كانت المزرعة قد أوقفها الإنسان ونصب الوقف على الأرض، فإن الوقفية لا تزول؛ لأنه أوقف العين وهي الأرض، وأوقف غلة ما على الأرض من النخل، وانقطاع الأصل التي تكون منه الغلة وهو النخل لا يقتضي زوال الوقفية عن الأرض، فالأرض سبيل محبسة إلى يوم القيامة. وأما بالنسبة لبيعها واستبدالها فهذا يحتاج إلى القضاء فلا يكون بالفتوى وإنما يكون بالقضاء، يرفع إلى القاضي وحكم القاضي هو الذي يرفع الوقفية، وذكر العلماء أن من المسائل التي يحكم فيها القاضي بارتفاع الوقفية، أن تتعطل مصالح الوقف، فإذا تعطلت مصالحه، مثلاً: أوقف مزرعة لكي تكون غلتها للفقراء والمساكين، فإذا جفت الآبار ولا يمكن أن تبقى هذه المزرعة؛ فإن القاضي يحكم باستبدالها فتباع ويشتري مزرعة أخرى، يمكن معها تحقيق ما قصده الواقف من وقفه.

حكم التراجع عن الوقف

حكم التراجع عن الوقف Q رجل أوقف داراً وهو لا يعلم بأحكام الوقف، ثم افتقر هذا الرجل هل له الاستفادة من وقفه وبيعه؟ A الوقف لا يباع ولا يوهب، وفي الصحيحين من حديث عمر أنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أحب مالي) انظروا كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم، وكيف كان السلف الصالح لما جاءتهم الدنيا لم يتصرفوا بها، وإنما انطلق إلى رسول الله وقال: (يا رسول الله، هي أحب مالي فماذا تأمرني؟) يعني: بماذا تشير عليَّ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (إن شئت حبست أصلها). فأجاز له أن يحبس الأصل وأن يسبل المنافع، قال: (إن شئت حبست أصلها فتصدق بها عمر -على ألا تباع ولا توهب- على الفقراء والمساكين وابن السبيل) فهذا يدل على أن الأرض إذا أوقفت أنه لا يملك الإنسان التصرف فيها لا ببيع ولا بهبة، وإنما يباع الوقف في حالة مستثناه وهي: أن تتعطل مصالحه، ثم ينظر القاضي ويحكم بانتقاله إلى ما يمكن أن يحقق مقصود الواقع مما هو شبيه به. وأما بالنسبة له هو فإن المال قد خرج عن ملكه، ولذلك لا يرجع إليه، وإذا رجع إليه فإنه يعتبر متصرفاً في مالٍ لا يملكه، فلو أن إنساناً أوقف أرضاً أو مزرعةً على المساكين، ثم أزال هذه الوقفية بسبب فقره فباعها وأخذ ثمنها، فالمال سحت وحرام؛ لأنه لما أوقف الأرض خرجت ملكية الأرض عن ملكيته، والأوقاف بإجماع العلماء لا تملك، ولا يمكن للإنسان أن يهبها للغير. وعلى هذا فإن هذا الدار قد خرجت عن ملكه، وكونه لا يعلم بأحكام الوقف لا يبيح له أن يتصرف في الوقف، فما دام أنه قد سلبها في سبيل الله فقد خرجت من يده، ولا يجوز له أن يرجع فيها إذا كان وقفاً بأي حالٍ من الأحوال. إنما اختلف العلماء فيما إذا وهب لشخصٍ، كأن يهب لفقيرٍ على سبيل الصدقة أو على سبيل الإحسان، ثم يرجع في هبته، والصحيح أن الهبة تملك بالقبض، وأنه ليس من حقه أن يرجع على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم. أما الوقف فلا، فإن الوقف لا يملكه، فهو قد خرج عن ملكيته وهو لله عز وجل.

الطريقة المثلى لزيادة الإيمان

الطريقة المثلى لزيادة الإيمان Q ما هي الطريقة المثلى لزيادة الإيمان؟ A الطريقة المثلى لزيادة الإيمان: أن يعرض الإنسان نفسه على كتاب الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، ومن عرض قلبه على كتاب الله عز وجل أصلح الله بذلك العرض قلبه، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فمن عرض قلبه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أصلح الله شأنه ووفقه فازداد من الإيمان. من الأمور التي تزيد في الإيمان: كثرة ذكر الآخرة، فإن الإنسان إذا أكثر من ذكر الموت والبلى، وقرب مصيره إلى الله جل وعلا، هانت عليه الدنيا وعظمت في عينه الآخرة، وأصبح همه وغمه أن يحسن لقاء الله جل جلاله، ولذلك أثنى الله على الأخيار والصفوة الأبرار، فذكر أنهم لا يفترون عن ذكر الآخرة، وأخبر أنه خص بهذا الذكر من اصطفى واجتبى من عباده المؤمنين، فقال في كتابه المبين: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46]، فالإكثار من ذكر الآخرة يزيد في إيمان العبد، ويجعله في توجه واستقامة وطاعة لله سبحانه وتعالى. من الأمور التي تزيد في إيمان العبد: قراءة سير السلف الصالح رحمة الله عليهم، فإن الإنسان إذا قرأ سيرة الأئمة والأخيار اهتدى بهديهم وأحبهم، وأحب ما كانوا عليه من الخير وتشبه بهم. كذلك أيضاً مما يزيد في الإيمان: معاشرة الصالحين، والحرص على حلق الذكر ومجالس العلماء، فإن مجالسة العلماء تزيد في العلم، ومجالسة الحكماء تزيد في الحكمة، ومجالسة الأخيار تزيد في الخير، ولذلك ينبغي للإنسان ألا يمر عليه يوم إلا وقد جلس في مجلسٍ يذكر فيه الله جل جلاله، فمن جالس العلماء كان من القوم الذين لا يشقى بهم جليس، وكم من أقوامٍ عظمت ذنوبهم فجلسوا في مجالس العلماء، فقاموا قد بدلت سيئاتهم حسنات. ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: (قالت الملائكة: إن فيهم فلاناً عبداً خطاءً، كثير الذنوب مر فجلس معهم، فيقول الله جل جلاله: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). فمن جالس الأخيار لا يشقى، من جالس الأخيار والصالحين وأحبهم وأحب ما يعملون به من طاعة الله أسعده الله، وهذا من دلائل السعادة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ثلاث من سعادة المؤمن: كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة العلماء]، ثلاثٌ من سعادة المؤمن: كثرة الصلاة؛ لأنها تزيد صلة العبد بربه، ويحفظه الله بها ويرفع درجته ويزيده نوراً، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (الصلاة نور). وكثرة الصيام؛ لأن الصيام يحبس عن الشهوات، ويضيق مجال الشيطان، ويزيد من تقوى الله جل جلاله، ومن امتنع عن الطعام والشراب الحلال بالصيام يمتنع عن الطعام والشراب الحرام، ومن امتنع عن الشهوة الحلال بصيامه يمتنع عن الشهوة الحرام. أما الأمر الثالث: فصحبة العالم؛ لأن صحبة العلماء بصيرة ونور، وحبهم والحرص على مجالسهم خيرٌ كثير، نسأل الله أن يرزقنا حبهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب قوماً حشر معهم)، فنسأل الله أن يرزقنا حبهم، وأن يرزقنا الحرص على مجالسهم والاهتداء بهديهم.

وصايا للمدرسين

وصايا للمدرسين Q فهذا السؤال حاصله أنه يدور حول ما كنا فيه من النصيحة لبعض الخريجين، لكن هنا يقول: خاصة أن معظمهم مدرسون في المدينة وخارجها نرجو نصيحتك لهم في تنظيم الوقت في طلب العلم والدعوة؟ A أما بالنسبة للتدريس والتعليم فهو من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وتعليم أبناء المسلمين وبناتهم مهمة عظيمة صعبة إلا أن ييسرها الله، وشاقة إلا أن يسهلها الله على العبد، فالأمور التي أوصي بها الإخوة الذين شرفهم الله وكرمهم بحمل هذه الأمانة العظيمة وهي: الضبط في العلم والإتقان، فكل من تقلد أمانة التعليم عليه أن يضبط هذا العلم، وأن يكون على بصيرة، ولا يقف أمام طلابه وإخوانه إلا وهو على بينة وبصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، على الإنسان إذا وقف أمام الناس يعلمهم أو يوجههم أن يكون على أرضٍ ثابتة، والحرص على الزيادة من العلم، فلا تقف عند التخرج أو عند المعلومات التي وفقك الله إليها، ولكن تجاوز ذلك إلى الضبط والتحصيل والزيادة في العلم. والأمر الثاني الذي يوصى به من تقلد أمانة التعليم: الصبر في التوجيه، خاصة أثناء إلقاء الدروس والمواد على الطلاب، فإن الطلاب ربما تكون منهم الهنات والزلات، ولربما يكون منهم التقصير في الضبط والإتقان، ولربما يأتيك العيي بعيه، ويأتيك أيضاً الجاهل بجهله، فيحتاج منك إلى صبر وحلم ورفق، وأن يكون صدرك منشرحاً للقيام بهذه الأمانة على أتم الوجوه في تعليمه وتوجيهه وتربيته، والصبر من أهم الأمور التي تعين على نجاح المعلم في تعليمه. وينبغي كذلك أن يقرن هذا الصبر باحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فكل من احتسب أجره عند الله، وعلم أنه سيتعب وينصب وأن الله سيأجره، هانت عليه المصاعب والمتاعب، وأصبح قوياً في تحمل هذه المشاق، فأوصي بالصبر! الأمر الثالث الذي أوصي به: أن يقرن هذا العلم بالتربية، فكوننا نعطي الأبناء والبنات معلومات جافة، بعيدة عن الروحانية والتربية المأخوذة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة عنه، هذا أمرٌ محل نظر. فلا بد أن نربيهم؛ بالآداب والأخلاق وهدي السلف الصالح رحمة الله عليهم، في أدب طلبة العلم، وأدبهم أيضاً في الحقوق العامة، وحقوق الوالدين والأقارب، فينبغي أن يخرج من بين يديك هذا الابن وقد جمع بين العلم وبين التربية، فلا يكفي أن نلقي هذه المعلومات هكذا سرداً، لا، بل ينبغي أن نقرنها بالتربية لأبناء المسلمين وبناتهم. وهذه التربية تحتاج منا إلى تفقد مشاكل الأبناء والبنات والطلاب والطالبات، والنزول لهم بالتواضع والحلم، فلا يستطيع الطالب أن يبث مشاكله، ولا أن يبدي ما في نفسه إلا إذا وجد معلماً حليماً رحيماً، ووجد يداً حانية تأخذه بلطف وحنان ورحمة. فإذا وفق الله المعلم لذلك جمع الله له بين العلم والتربية، وكان لعمله خيرٌ كثير، وهذا أمر قلَّ من يوفق له، قضية أن نفتح صدورنا إلى مشاكلهم وما يكون لهم من أمور تحتاج إلى توجيه وإرشاد وتربية. الأمر الرابع: التعاون والتكاتف والتعاطف والتراحم والتواصل بين طلاب العلم، المعلمون والمعلمات يحتاجون دائماً إلى أن يتصل بعضهم ببعض لكي يستفيد بعضهم من بعض، وكون الإنسان يحس أنه في كمال وأنه في غنىً عن إخوانه فإنه في نقص، ولذلك قالوا: من اعتقد الكمال فقد نقص، وأصلاً الإنسان من حيث هو ناقص إلا أن يكمله الله عز وجل، ولذلك ينبغي أن يحرص المعلمون على الاستفادة من إخوانهم وأن يتواضعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ونسأل الله العظيم أن يأخذ بالأيدي إلى ما يحبه ويرضاه، والله تعالى أعلم.

واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله

واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله نعم الله كثيرة لا تحصى، وإن من أعظمها معرفة كتاب الله تبارك وتعالى، ذلك الكتاب الذي احتوى على مواعظ وقوارع تقرع الأسماع والقلوب، ومن هذه المواعظ قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)؛ حيث بين الله فيها أنه لابد للإنسان من رجوع إلى الله للحساب ولفصل القضاء، ثم إلى جنة أو نار، فمن اتقى الله وأصلح فهو من أهل الجنة، ومن غفل أو تغافل فالنار موعده.

القرآن العظيم من نعم الله التي لا تحصى

القرآن العظيم من نعم الله التي لا تحصى الحمد لله الذي خلق الخلق، فأحصاهم عدداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً إمام الهدى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه شُموس الدجى، وعلى جميع من سار على نهجهم المبارك ثم اهتدى. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله: إن لله على العباد نعماً عظيمة ومِنَناً جليلةً كريمة، وقد كان من أجلِّها وأعظمها على الإطلاق: هذا الكتاب المبين والصراط المستبين، الذي أخرج الله به العباد من الظلمات إلى النور، فأنار به القلوب، وشرح به الصدور، فانتقلت تلك النفوس المؤمنة من جحيم الهوى والشرور وأليم العذاب والغرور. هذا الكتاب المبين الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، هذا الكتاب الذي جعله الله تبارك وتعالى نوراً، هادياً للسداد والصواب. كم نبَّه الله به من غافلين! وأيقظ به من نائمين! وهدى به من ضالين حائرين! هذا الكتاب الذي فيه الوعد والوعيد، وفيه التخويف والتهديد، وفيه الترغيب والترهيب، وفيه ذكر النعيم وذكر الجحيم، كم فيه من آياتٍ تضمنت تلك العظات البالغات! كم فيه من آياتٍ أنار الله عز وجل بها السبل لطاعته وجنته! فما ألذ الموعظة إذا كانت من الله جل جلاله! وما أطيب العظات إذا كانت من فاطر الأرض والسماوات!

مواعظ القرآن تقرع القلوب قرعا

مواعظ القرآن تقرع القلوب قرعاً إن العظة من الله تبارك وتعالى رحمة بتلك القلوب الحائرة التائهة السادرة النائمة في غيها، إن هذه المواعظ يقرع الله عز وجل بها القلوب، وينير بها السبل والدروب، علَّ تلك القلوب أن تنيب إلى الله علاَّم الغيوب. إن المواعظ رحمة من الله تبارك وتعالى، يهدي بها من الضلال، ويرحم بها من العذاب. ومن هذه المواعظ: موعظةٌ خَتَمَ الله عز وجل بها مواعظ القرآن. من هذه المواعظ: آية كريمة كانت هي آخر الوصايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قرع بها القلوب، فذكرها بالوقوف بين يدي الواحد الديان، آيةٌ ما عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا أياماً قليلة، كانت هي آخر الآيات، جاءت بعد مائتين وثمانين آية من الزهراء الأولى، تذكِّر العباد بيومٍ مشهود ولقاءٍ موعود، لا يغني فيه والدٌ ولا مولود، اشتملت على موعظتين ومشهدين عظيمين.

المشهد الأول: قوله تعالى: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله)

المشهد الأول: قوله تعالى: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) أما المشهد الأول: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]. وأما المشهد الثاني: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]. أما المشهد الأول: فذكَّرنا بيومٍ طالما نسيناه، وموقفٍ حقٍّ آمنا به وصدقناه، ذكَّرنا بيومٍ هو آخر الأيام، وذكَّرنا بيومٍ هو إما عذابٌ أو مسكٌ للختام، ذكَّرنا باليوم الآخر الذي تغصُّ فيه الحناجر، فلا يوم بعده، ولا يوم مثله، إنه اليوم العظيم، والموقف الجليل بين يدي العظيم الكريم. {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]: هي الآية التي أقضَّت مضاجع الصالحين، {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، فيا لله مِن أجساد إذا أوت إلى فراشها تذكرت يوم لقاء ربها، فقامت تتقلب بين يديه، تناجيه وتناديه، تسأله الرحمة إذا حلَّت بناديه. {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]: هذا اليوم العظيم الذي كتب الله عز وجل على كل صغيرٍ وكبير، وكل جليل وحقير أن يُقاد إليه عزيزاً أو ذليلاً، كريماً أو مهاناً، كتب الله عز وجل علينا أن نصير إلى ذلك اليوم المشهود، واللقاء الموعود. ولكن قبل ذلك اليوم، وقبل ذلك المشهد العظيم: لحظةٌ ينتقل الإنسان فيها من دار الغرور إلى دار الشرور أو دار السرور، لحظةٌ من اللحظات التي يُكتب فيها للعبد أنه منتقل إلى ذلك اليوم، تلك اللحظة التي يُلقي الإنسان فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، يُلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من صميم قلبه الآهات والزفرات. إنها اللحظة التي يؤمن فيها الكافر، ويوقن فيها الفاجر. إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة الدنيا. إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها أنه فرَّط كثيراً في جنب الله. إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرَّط فيها في جنب الله، ينادي: ربَّاه ربَّاه، {ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]. إنها اللحظة الحاسمة، والساعة القاصمة التي يدنو فيها رسول الله -أعني: ملك الموت- لكي ينادي، فيا ليت شعري هل ينادى نداء النعيم أو نداء الجحيم؟! ويا ليت شعري هل يقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28]. أو يقال: (يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب)؟! ويا ليت شعري كيف تكون الخواتم؟! ويا ليت شعري من تلك الساعة التي أقضَّت مضاجع الصالحين؟ {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]، وفي لحظةٍ واحدة أسلمت الروح إلى بارئها، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:29 - 30]؟! هناك يحس العبد بدارٍ غريبة، ومنازل رهيبة عجيبة! فلا إله إلا الله! في لحظة واحدة ينتقل العبد من دار الهوان إلى دار النعيم المقيم! ولا إله إلا الله! في لحظة واحدة ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة! وفي لحظة واحدة ينتقل من جوار الأشرار إلى جوار الواحد القهار! وفي لحظة واحدة طويت صفحاتُ الغرور، وبدا للعبد هولُ البعث والنشور! ولا إله إلا الله! مضت الملهيات والمغريات، وبقيت التَّبِعات! ولا إله إلا الله! من ساعةٍ تُطْوَى فيها صحيفتك، إما على الحسنات أو على السيئات، فتتمنى حسنة تزاد في الأعمال، أو حسنة تزاد في الأقوال، تتمنى صلاح الأقوال والأفعال! {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10]، فتحس بقلبٍ متقطعٍ من الألم، تحس بالشعور والندم؛ أن الأيام انتهت، وأن الدنيا قد انقضت؛ لكي تستقبل عالم الجد أمام عينيك، وتُرْهَن بما قلتَه وفعلتَه بين يديك، هناك حيث يُسْلِم الإنسان روحَه لبارئها، وينتقل إلى الآخرة بما فيها، وفي لحظةٍ واحدة أصبح العبد كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، طُوِيت الصفحات، وصرتَ في عداد الأموات، تذكرُ كأن لم تكن في الدنيا، كأن عينك لم ترَ، وكأن أذنك لم تسمع، وكأن الأرض لم تَضْرِب عليها الخُطى! ولا إله إلا الله! من ساعةٍ نزلتَ فيها أول مراحل الآخرة! ولا إله إلا الله! إذ صرتَ في عداد تلك السفينة الماخرة، واستقبلت الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة أو عيشة نكيدة، ونزلت في عداد أولئك الغرباء بين الأجداث والبلاء، هناك حيث تُفْسح القبور لأهلها، ويَزداد السرور على من حل بها، هناك حيث تنسى نعيم الدنيا مع النعيم المقيم، هناك حيث تنال من الله البركات والرحمات والتكريم! فيا ليت شعري ما حال أهل القبور! كم من قبورٍ في كهوفٍ مظلمة، وفي أماكن موحشة ملئت أنواراً وسروراً على أهلها! ولا إله إلا الله! كم من قبورٍ حولها الأنوار مضيئة، والناس يسرحون ويمرحون، وفيها الجحيم والعذاب المقيم. ولا إله إلا الله! من دارٍ تقارَب سكانها، وتفاوَت عُمَّارها، فقبرٌ يتقلب في النعيم والرضوان العظيم من الرحيم الحليم الكريم، وقبرٌ في دركات الجحيم والعذاب المقيم، ينادي ولا مجيب، ويستعطف ولا مستجيب، انقطعت الأيام بما فيها، وعاين الإنسان ما كان يقترفه فيها! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، يا أمة محمد، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، يوماً لا يغني فيه والد ولا مولود، إنه اليوم المشهود، واللقاء الموعود. فاللهم يا سامع الدعوات، ويا من تُحْيِي الأموات بعد الرفات، نسألك أن تجعل أسعد اللحظات وأعزها: لحظة المصير إليك. اللهم اذكرنا فيها برحمتك، وعُمَّنا فيها بمغفرتك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

المشهد الثاني: قوله تعالى: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)

المشهد الثاني: قوله تعالى: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) أيها الأحبة في الله: ومن المشهد الأول إلى المشهد الثاني، الذي وعظ الله به الأولين والآخرين: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]: فلما ضَمَّت القبور أهلَها، وانطوت بمن حل فيها، ونُعِّمَ أو عُذِّب فيها، ولما جُمِعَت تلك الأشلاء، وتلك الأعضاء، نادى منادي الله عليها أن تخرج إلى اللقاء الموعود، واليوم المشهود، إلى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41]، فصاح الصائح بصيحته، ففزعت الأسماع والآذان إذ قُرِعَت بصوته، وخرجت من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربها حفاةً عراةً غُرلاً، فلا أنساب، ولا أحساب، ولا جاه، ولا عز، ولا مال، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، أتاه العزيز ذليلاً، وأتاه الكريم مهاناً، {أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، نُسِيت الأنساب، ومضت الأحساب؛ لكي تُذَلَّ تلك الأجساد بين يدي رب الأرباب. إنه اليومُ الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين. إنه اليومُ الذي تنتهي عنده الأيام، وتتبدد عنده الأوهام والأحلام. إنه يومٌ تجتمع فيه الخصوم، وينصف فيه الظالم والمظلوم. إنه اليوم الذي أعده الله للعباد فتُنْشَر فيه الدواوين، وتُنْصَب فيه الموازين لحكومة إله الأولين والآخرين. إنها المسئولية العظيمة. إنها المسئولية الجليلة الخطيرة. إنها مسئولية الآخرة. كل هذه الجموع وكل هذه الأمم أقيمت في ذلك المشهد العظيم، وذلك اليوم العظيم؛ لكي تنهال عليها الأسئلة، وتعد لها درجاتها ودركاتها بما تجيب. إنه اليوم الذي جمع الله فيه الأولين والآخرين من أجل السؤال هناك حيث تغص الحناجر بغصصها هناك، يوم الطامة والصاخة، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:11 - 14]. وخرج العبد حسيراً كسيراً أسيراً، خرج حقيراً ذليلاً؛ فلا ثوب يكسيه، ولا ثوب يواريه، خرج إلى الله حافياً عارياً، خرج إلى ربه، خرج إلى خالقه، خرج إلى جبار السماوات والأرض وقهارهما؛ لكي يسأله ويحاسبه ويجزيه. فلا إله إلا الله! في يومٍ نُسِيَت فيه الملهيات، وزالت فيه المغريات، وعاينَ العبدُ فيه الحقائقَ أمام عينيه، جُمِعَت فيه الأمم على عرصةٍ واحدة، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} [الأنعام:94]! ولا إله إلا الله! من أرضٍ لم تطأها قدم غير تلك الأقدام! ولا إله إلا الله! إذا شعت الشمس وتبدد الظلام! ولا إله إلا الله! إذا طال الوقوف بين يديه! ولا إله إلا الله! يوم يُرْهَن العبد بما جناه بيديه! خرجت تلك الأمم حفاةً عراةً غرلاً، فأين الحرير واللباس؟! وأين الشدة والشوكة والبأس؟! قد انكسر العباد لرب الجِنَّة والناس خرجوا منها صفر اليدين إلا من رحمته، ووقفوا في ذلك المشهد العظيم {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:41 - 42]، يوم يفر المرء فيه من أحب الناس إليه، فلا يلتفت عن يمينه ولا عن يساره، وأبى الله إلا أن يشخص العبد إلى السماء بعينيه، ينتظر فصل القضاء، ينتظر حكم رب الأرض والسماء، أفي الجنة أم في النار يكون السواء! وشخُصَت الأبصار، وولَّت بين يدي الواحد القهار، وخرج أهل الصالحات وقد ابيضَّت الأيدي والوجوه بآثار الحسنات، خرجوا بذلك الأثر العظيم من الله الكريم، فابيضت عند الله وجوههم، وما عَظُمَ المقام عليهم، {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] ووقف العباد بين يدي رب العباد لكي يفصل بينهم في يوم التناد. ونادى منادي الله لكل عبدٍ بما جنت يداه، ودعيتَ على رءوس الأشهاد لكي تسأل عن كل قولٍ قلتَه، وعن كل عملٍ عملتَه. هناك حيث تقف بين يدي الله، والشهود حاضرة، والعيون إلى الله ناظرة. هناك حيث يوقف العبد بين يدي الله جل جلاله فينادي منادي الله: يا فلان بن فلانة، قم للعرض على الله، فلا ينادَى أحدٌ بأبيه؛ لكي تزول الأحساب والأنساب، ويَذِل العباد بين يدي الله رب الأرباب، ودعيتَ أمام الأولين والآخرين فرَعَدَت فرائصك من خشية الله، واصطكَّت القدمان بين يدي الله، وجئتَ بزادك للقاء الله، وسألك الله عن هذه الأيام التي مضت، وعن هذه السنين والأعوام التي انقضت، سألك عن الشباب، وما كان فيه من اللهو مع الأصحاب والأحباب، سألك الله عن أيامٍ فنُشِرَت بين يديك، لا تخرِم منها لحظةٌ واحدة، فإما لك وإما عليك، عُرِض الشباب عليك بأيامه وما فيه من الشهوات والملهيات، فكُشِفت الأستار، وتبدَّت للأنظار. هناك حيث تبيِّن الليالي بما اجترحتَ فيها. هناك حيث تحمد عيناً سهرت على طاعة الله، وقدماً طالما انتصبت بالوقوف بين يدي الله، فقلتَ: رباه! أما ليلي: فوقوفٌ بين يديك أناجيك بالقرآن، وأما نهاري: فصيامٌ لوجهك يا رحمن. وأما يديَّ: فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم سَتَرْتُ بها من عورات! وكم فرَّجْتُ بها من كربات! أنفقتُها لهذا اليوم العظيم، اللهم مددتها لهذا اليوم العظيم، وحُسْن ظني فيك، فلا تخيبني إذ وقفتُ بين يديك. وأما جَناني: فأسكنته حبك وتأييدك، فعشتُ وأنت الشهيد، ووحَّدتُك وأنت الحميد المجيد، ما ناديتُ أحداً سواك، ولا تعلقت بشيء عداك، ربِّ صبَبْتَ عليَّ البلايا فعذتُ بك وحدك ولم أعذ بشيء عداك، وصبَبْتَ عليَّ الرزايا فصبرتُ واحتسبتُ لهذا الموقف بين يديك. وأما لساني: فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم ذكرتك به مع الذاكرين! وكم أثنيت عليك به مع المثنين! وكم تلوت به آياتك! اللهم فعلتُها وقلتُها لوجهك العظيم، اللهم فعلتُها ابتغاء رضوانك الكريم. اللهم قدمي: ضربتُ بها الخطى إلى بيتك اللهم خرجت بها في الظلمات، فقمتُ بها مع القائمين، ونصبتها مع الراكعين الساجدين. أما يديَّ: فكم تبطنها الليل منتصباً بين يديك! وأما وجهي: فقد عفَّرته بالسجود بين يديك! فيا من خشع لك سمعي وبصري! نجني من هول هذا اليوم العظيم. اللهم قليلٌ فعلتُه في جنبك، كثيرٌ أحسنتُ به إليك، اللهم مع هذه الحسنات والباقيات الصالحات فالفضل لك جل جلالك، والفضل لك وحدك لا إله غيرك، فقيل: مشهودك؟ فشهدت الأرض التي أقلتك، والسماء التي أظلتك، وقال الله: صدقتَ وبررتَ، خذوا عبدي إلى جنان النعيم، خذوه إلى الرضوان العظيم. فنال الكتاب باليمين، وصاح أمام العالمين: {هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:19 - 21]، وفتحت أبواب الجنان، وطاف الحور والوِلدان، وذهب النكد والنصب، وزال العناء والتعب. فهنيئاً لتلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله تنادي! وهنيئاً لتلك الألسن التي ضجَّت بالدعاء بين يديه تناجي! اليوم يومها، والنعيم نعيمها، والسرور سرورها. ونادى منادي الله تلك النفس الظالمة في جنب الله: يا فلان بن فلانة، أنْ قُمْ إلى العرض بين يدي الله. فسُئِل عن ليلٍ طالما قضاه في معصية الله، وعن نهارٍ أضاعه، وما الخير فيه أسداه. فنادى منادي الله: أي حسنةٍ ترجوها عندنا؟! وأي صالحة قدمتَها في جنب الله؟! فنُشِرَت الفضائح، وصاح بين يدي الله الصائح: فقالت القدم: إلى الحرام طالما مشيتُ! وفي جنبك رباه أسأتُ واعتديتُ! وقالت اليد: كم خطفتُ من الآثام! وكم هتكتُ وأكلتُ من الحرام! فلا منك خفتُ ربِّ حقيقة الخوف، أرجو رحمتك إذ وقفت بين يديك. وقالت العين: أما أنا فقد نظرتُ وتمتعتُ، رباه! متَّعَنِي بالحرام، وتزيَّن بي في الفواحش والآثام! وشهدت الفروج بآثامها! والجوارح بخطيئاتها! ثم عَرَضت على الله مظالمها. وقالت الآذان: اللهم استمعتُ للحرام، فطالما سَهِر ليله يُمَتِّعُني بالآثام! وكم سمعتُ من الغيبة والنميمة! اللهم إن عبدك هذا قد ظلم وفجر، وشَهِدَت الجوارح بآثامها، وعُرِضَت الفضائح بين يدي الله ربِّها، فقال الله: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فقد اشتد غضبي على مَن قلّ حياؤه مني. ووقفت تلك النفس الآثمة الظالمة على نارٍ تلظى وجحيم تغيظ وتزفر، وبدا لها مآلُها، فقالت وتمنَّت أن لو رجعت لكي تحسن في جنب ربها، فكُبْكِبَت على رأسها وجبينها، فهوت في تلك المهاوي المظلمة، وتقلبت بين الدَّرَكات والجحيم والحسرات، مضت الشهوات بأهلها، وانقضت الملهيات بأصحابها، وذاق الهوان بعد المعزة والكرامة، ونزل إلى ذلك الدَّرْك العظيم من الجحيم، فكأن لم يكن مَرَّ به نعيم قط. روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه (يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيُغْمَس في النار غمسة، فيقال: عبدي! هل مرَّ عليك نعيمٌ؟ فيقول: لا وعزتك) وهوى في تلك الدَّرَكات رهين السيئات، فلا مال، ولا بنون، ولا عشيرة، ولا أقربون، فُرِّق بين الأم وولدها، والآباء وأبنائهم، وفُرِّق بين الأصحاب والأحباب فراقاً

الأسئلة

الأسئلة

التوبة تجب ما قبلها

التوبة تجبُّ ما قبلها Q ماذا يقول العبد الذي فرط في ماضيه إذا تذكر بعض المواقف التي فيها شيءٌ من المعاصي؟ A المُنْبَغي على المؤمن أن لا ييئس من رحمة الله، وأن لا يقنط من روح الله، فإن الله يفرح بتوبة التائبين. يقول: رباه أذنبتُ، وليس لذنوبي أحدٌ سواك، رباه أسأتُ وليس لإساءتي يمحوها أحدٌ عداك، يطَّرح بين يدي بارئه ويناديه ويناجيه ويسأله أن يمن عليه بالعفو فيما سلف، وأن يبدل الإساءة بالإحسان، وأن يجعله من أهل الطاعة والإيمان. هذا الذي يقوله، والقلب يتمزق حسرة وألماً في جنب الله جل جلاله. والله تعالى أعلم.

سبب الفتن والبلايا وزوال النعم

سبب الفتن والبلايا وزوال النعم Q بعض الإخوة من الملتزمين ومن المتمسكين بدين الله؛ لكنهم يعانون من بعض المعاصي مثل الوقوع في العادة السرية، والنظر المحرم، وغيرهما من الأمور، فما هي النصيحة في ذلك؟ جزاكم الله خيراً. A أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وإياكم من الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم إنا نسألك العافية، اللهم إنا نسألك العافية، وأن تمن على من ابتُلي بها في هذا المجلس بالعفو والعافية. اللهم مُنَّ علينا جميعاً بالعفو والعافية، يا ذا الجلال والإكرام. أخي في الله: إذا خلوتَ وغبتَ عن الأنظار، وأرخيت عليك الأستار، تذكر نعمة الله عز وجل عليك. إذا خلوتَ تذكَّر المريض الذي يتأوه، واللهُ متَّعَك بالعافية! تذكر الفقير الذي يكدح آناء الليل والنهار من أجل لقمة عيشٍ يسد بها رمقه الذي يؤلمه، واللهُ أغناك! تذكر -أخي في الله- الخائف القلق المعذب الذي يعيش العذاب والنكد في الحياة، واللهُ أمَّنك من خوفها ونكدها! أكان الجزاء أن تعصيه؟! أكان الجزاء أن تحاربه بنِعَمِه التي أسداها إليك؟! أهذا جزاء الإحسان؟! فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، لا الجحود ولا الكفران. فاتقِ الله بارِئَك، وخف من الله عز وجل فيما تقترفه بيديك، واعلم أن لله سطواتٍ، وأن له أخذاتٍ، فإن الله عز وجل لا يدع العاصي، ولا تزال المعصية بأهلها تتبعهم، فتنكِّد عليهم حياتهم أو آخرتهم، أو يجمع الله لهم بين العقوبتين، فإما أن يعذبه الله بمعصيته في الدنيا، وإما أن يعذبه بها في الآخرة، أو يجمع له بين النقمتين والمصيبتين. فاتق الله عز وجل، وازجر نفسك بقوارع التنزيل، وذكرها سطوة العظيم الجليل، فإن ذلك أعظم زاجرٍ من حدود الله جل جلاله. والله تعالى أعلم.

حقيقة الإجازة في حياة المسلم

حقيقة الإجازة في حياة المسلم Q ونحن مقبلون على إجازة نصف العام، يخرج كثيرٌ مِن الناس إلى البَرِّ للتَّنَزُّه، فما هي نصيحتك للإخوة في قضاء هذه الإجازة وخاصة الشباب؟ A إن المؤمن ليست له إجازة، إن المؤمن لا يزال في هم وغم حتى يلقى الله، فيلقي عصا الهموم والغموم بين يدي الله جل في علاه، فإن الله كتب على أهل الإيمان أنهم في ابتلاء واختبار، ولا تزال الدنيا تصب همومها وغمومها على أهل الإيمان حتى يلقوا الله العظيم الرحمن؛ ولكنها إجازة بمعنى. فيا مَن متعك الله بأيامٍ خلوتَ فيها عن الأشغال! تذكر نعمة الكبير المتعال. تذكر المأسور برزق أهله، لا يجد إجازة في مسائه ولا يومه. تذكر المريض طريح السرير الأبيض، لا يستطيع أن يقوم على قدميه؛ لكي يتمتع بما أنت فيه. فليكن من شكر الله عز وجل الذي أعطاك الفراغ: أن تحمد الله جل جلاله أولاً وآخراً، وقل بلسان الحال والمقال: اللهم لك الحمد أن فرَّغت قلبي من الشواغل، فأسألك يوماً يرضيك وغداً يكون في مراضيك، سل الله عز وجل أن يوفقك فيه للصالحات، ثم اغتنم هذه الإجازة، فإنها أيامٌ قليلة إما حُجَّةٌ لك، أو حُجَّةٌ عليك، (كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه، فمعتقها، أو موبقها). أخي في الله، إخواني في الله: كم من إنسان سرَّه أن يبقى إلى زمان ساءه ذلك الزمن إذا بقي إليه، فسلوا الله العافية، فإن الأيام فيها مغيَّبات لا يعلمها إلا الله عالم المغيَّبات، سلوا الله العافية، واسألوه أن يمتعكم بأيامٍ ترضيه عنكم، واعلموا -إخواني- أن أفضل ما تُقْضَى فيه الأعمار، وأفضل ما يُسْتَغل فيه الليل والنهار: ذكر الله الواحد القهار، فأكثروا من ذكر الله، فإن خرَجْتَ إلى البَرِّ: فانظر إلى الأرض، وقل: سبحان من دَحَاها! {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:31]. ثم ارْمِ إلى السماء بطرفك وقل: سبحان من بناها! {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:28 - 29]. ثم انظر إلى هذا الملكوت الذي جعله الله مذكِّراً بالله جل جلاله، كل مَن حولك يقول بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله! انظر إلى الأوراق فقل: سبحان من أجرى الماء فيها! سبحان من أحياها بعد موتها! وانظر إلى الربيع بساطاً أخضر على الأرض فقل: سبحان مَن ألقى خضرته! وسبحان من زيَّنه وأنبته جل جلاله، وتقدست أسماؤه! ثم انظر إلى حشراته، وهوامِّه فقل: سبحان من أحصاها عداً! ولا يغيب منها شيءٌ عنه فرداً، جل جلاله وتقدست أسماؤه! وانظر إلى تلك الأمم التي تسعى وتدب بين يديك فقل بلسان الحال والمقال: سبحان من تكفَّل بأرزاقها! سبحان من أغناها وأولاها! ثم انظر إلى كل شيءٍ حولك؛ انظر إلى الليل إذا أرخى بظلامه، فقبل لحظات يسيرة وأنت في ضياء الشمس، وإذا بك في ليل بهيم! لم يختلط الليل بالنهار، ولم يسبق العشي الإبكار! وسبحان الله الواحد القهار! سبحانه! وفي لحظة واحدة أظلمت عليك الدنيا، لو أخرجتَ يدك لن تَرى شيئاً فيها! سبحان الله جل جلاله! وانظر إلى تلك الظلمات، واذكر ظلمة الحُفَر والقبور، علَّها أن توقظ قلبك لله العظيم الشكور. ثم إذا أرخى عليك الليلُ سدولَه؛ فانظر إلى السماء وقل: سبحان من زيَّنها بالكواكب زينة وشهباً! لا يفوت عنها شيطان غائب. ثم انظر إلى النهار فقل: سبحان من أقبله بضيائه! سبحان من أجرى شمسه! سبحان من أشع نوره! وأبلج ضياءه! إنها آياتٌ ما أوجدها الله عبثاً، بل أوجدها لكي تخرج من هذا المكان الذي نزلتَه وأنت على عقيدة بأنه "لا إله إلا الله". ثم إذا مضت عليك الأيام، وجاءك اليوم تلو اليوم فانظر إلى آخر الأيام إذا طُوِيَت رحلتُك وآذَنَتْ بالرحيل! فأين اللذات؟! وأين الملهيات؟! كأن لم يكن شيئاً، كأنك لم تنزل إلى ذلك المكان. كأن شيئاً لم يكن إذا انقضى وما مضى مِمَّا مضى فقد مضى فقد مضت الأيام، فالله أعلم بما خبَّأْتَ فيها من خير ترجوه، أو شرٍ تلقى الله به إذا لقيتَه. فخير ما يوصى به الإنسان: أن يعمِّر وقته بذكر الله. والوصية الأخيرة: أن تسخِّر أبناءك وبناتك وزوجك لكي يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101]. قل لهم بلسان الحال والمقال: من الذي دبر هذا الوجود؟! من الذي جعل الشمس تجري، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:39 - 40]؟! هل استطاع أحدٌ أن يكف شعاعها يوماً من الأيام؟! هل استطاع أحدٌ أن يجعل الليل ضياءً يوماً من الأيام؟! سبحانه جل جلاله! {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71]، سبحانه! لا إله إلا الله! فخذ من هذه المواقف مدارس التوحيد، واغرس في تلك القلوب البريئة تعظيم الله الحميد المجيد، واللهِ إن أحبَّ الأشياء إلى الله، وأعظمها زلفى بين يديه: أن تغرس الإيمان في قلب ابنٍ من أبنائك، وأن تخرج من هذه الدنيا وابنك يوحد الله حق توحيده، ويعظم الله حق تعظيمه وتمجيده. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذاكرين، وأن لا تجعلنا من الغافلين، وأن تجعل هذه الإجازة عوناً لنا على طاعتك، وأن توفقنا فيها لسبيل محبتك. والله تعالى أعلم.

حكم الإحسان إلى الوالدين إن أساءا المعاملة والتربية

حكم الإحسان إلى الوالدين إن أساءا المعاملة والتربية Q مشكلة يعاني منها بعض الشباب، يقول أحدهم: إني شابٌ معاملتي سيئةٌ لوالديَّ وإخواني وذلك بسبب سوء تربيتهم لي، فهل علي شيءٌ في ذلك؟ أرجو الإرشاد جزاك الله خيراً. A أما الشيء الذي عليك: فتراه إذا اجتمع الخصوم بين يدي الله جل جلاله، تراه حينما تصْطَكُّ قدمك، فترى في صحيفة عملك أنك قد خَرَجْتَ من الدنيا عاقَّاً لوالديك والعياذ بالله. إن إساءة الوالدين لا تدعو الابن للإساءة، إذا أساءا إليك فأحسن إليهما، فإن الله قد أمرك ببرهما، أحسِن إلى الوالدين ولو أساءا، وأنعم إليهما ولو كَفَرا، وكن معهما ولا تؤذهما، فإن الله أوصاك من فوق سبع سماوات أن تقول لهما قولاً كريماً، وأن تخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن تقول: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]. لا تؤذهما، فإن الله لا يرضى منك أذيتهما، قابِلِ الإساءة بالإحسان، فإن أحبَّ البَرَرَة إلى الله وأعظم ما يكون البِرُّ: إذا كان من ابن يؤذيه أبوه وأمه، أفضل ما يكون البِرُّ إذا كان الوالد يؤذيك، وأفضل ما يكون البِرُّ إذا كانت الأم تهينك، أفضل البِرِّ يكون حينما تجد الإساءة وتقابلها بالإحسان؛ لأنك تريد ما عند الله، وتريد أن تمتثل أمر الله، ولا تريد منهما جزاءً ولا شكوراً. فيا للهِ من ابن أحسن إليهما مع إساءتهما! فأحبه الله بذلك الإحسان، وبُشِّرَ البارُّ بكل خيرٍ من الله، فمَن حَفِظَ وصية الله في والديه فإن الله عز وجل سيوفقه لكل خيرٍ يرجوه، واللهِ ما قرع البارُّ باباً من الخير إلا فتحه الله في وجهه، ولا سلك سبيل طاعةٍ إلا يسر الله له من أمره. بر الوالدين من أعظم القربات، وأحبها إلى الله، فابكِ على الأيام التي مضت، ثم تذلل لهما، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، واسألهما قبل أن تبيت ليلتك هذه العفوَ منهما، واطَّرِح بين أيديهما، وقل: قد أسأتُ إليكما، وإني تائب من الإساءة إليكما. فلا تدري فقد تكون هذه هي آخر ليلةٍ لك من الدنيا، فاللهَ الله أن تصبح وقد عققت والديك! ثم أعلموا يا إخواني: أن من أفضل ما يتقرب به الشاب المهتدي بعد توحيد الله: بر الوالدين، وقد قرنه الله بتوحيده، فالذي يريد التوفيق، والذي يريد المعونة والتيسير فليكن بوالديه رحيماً، حتى ولو كانا أمواتاً، فإن الوالدان أحوج ما يكونان إلى بر الولد إذا قُبِضا وانتقلا من الدنيا، أحوج ما يكون الوالدين إلى بر الولد إذا انتقلا إلى الله جل جلاله، أحوج ما يكونان إلى دعوة صالحة منك، قال: (يا رسول الله، هل بقي من بري لوالدَي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)، واللهِ ما ذكرتَهما بدعوة إلا سخر الله لك إذا صرت إلى مصيرهما من يذكُرك بمثلها وخيرٍ منها، فاحتسب عند الله في بر والديك أحياءً وأمواتاً. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لبرِّ الوالدين، وأن ينجينا من العقوق، وأن لا يجعلنا من أهله. فإن العاق ولو كان مطيعاً فهو محبوس عن الجنة، قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46] قال: إنهم رجال خرجوا إلى الجهاد دون إذن الوالدين، استشهدوا وقُبِلَت شهادتهم، فإن أرادوا دخول الجنة بالشهادة حبسهم العقوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة عاقٌّ)، وإن أرادوا دخول النار بالعقوق حبستهم الشهادة، فالشهيد كريم عند الله جل جلاله، فيُحْبَسون عن دخول الجنة، ثم بعد فترة يؤذن بدخولها، ولذلك قال الله عنهم: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46] يعني: يطمعون في دخولها؛ ولكن يُحبسون بسبب عقوق الوالدين. فعقوق الوالدين أمر خطير. بل قال بعض العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاقٌّ) قال: إن معناه أن الغالب في العاق أن لا يوفق لحسن الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- والغالب أن الله يستدرجه حتى يمكر به -والعياذ بالله- فيأخذه على سيئةٍ يَشْقَى بها، فيخسر الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية. نعوذ بالله من العقوق. فإياك أن تصبح وفي قلب والديك عليك شيء. إياك أن تخرج من هذا المسجد وتفكر في شيء إلا أن ترضيهما قبل أن يناما ليلتهما هذه، فلعلها أن تكون آخر ليلةٍ لك من الدنيا. فاتقِ الله في والديك، اتقِ الله في الوالدين، وامتثل أمر الله. نسأل الله العظيم أن يسلمنا من الزلل، وأن يعصمنا في القول والعمل. والله تعالى أعلم.

سبب قسوة القلوب وجفاف العيون

سبب قسوة القلوب وجفاف العيون Q كثير من الإخوة صدروا أسئلتهم بقولهم: أنهم يحبونك في الله. ما هو الحل، وما هو العلاج لقسوة القلوب التي تنتاب كثيراً من الناس، وكذلك قلة البكاء والخشية من الله، والتكاسل عن قيام الليل، والتهاون في الصلوات، وغيرها من الأمور والمعاصي التي تحدث من جرَّاء قسوة القلب، فما هي النصيحة؟ وما هو العلاج لذلك فضيلة الشيخ؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأحبك الله الذي أحببتني فيه، وأُشْهِد الله العظيم رب العرش الكريم أني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يجمعنا بكم بهذا الحب {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]. أخي في الله: إن قسوة القلب بلاء وأي بلاء! وإذا قسا لعبد قلبُه فقد حِيل بينه وبين الله، فالقلب القاسي بعيدٌ من الله، والقلب القاسي محروم من رحمة الله، فمن وجد في قلبه قسوةً فليبكِ على ما ابتُلي به، وليطَّرِح بين يدي الله. أما العلاج لقسوة القلوب: فتسألُ اللهَ مقلِّبَ القلوب أن يرزقك قلباً ليناً، وعيناً دامعة من خشيته، وقلباً رقيقاً لجلاله ومحبته، إذا ذُكِّر تذكَّر، وإذا بُصِّر تبصَّر، سَلِ اللهَ أن يعطيك، ونادِهِ، وناجِهِ يولِك، ولا يخيب ظنُّ عبدٍ صَدَقَ ظنُّه في الله بارِئِه. أما الوصية الثانية: فأوصيك -أخي في الله- أن تبتعد عن الذنوب والمعاصي، فإن الذنب يطفئ نور الطاعة من القلوب، وإذا انطفأ نور الطاعة في القلب أظلم ذلك القلب، وتَحجَّر، واستحكمه الشيطان، فلا يستجيب بعدُ لداعي الرحمن. أوصيك -أخي في الله- أن تفر من الله إلى الله. أوصيك أن تتفقد المظالم التي بينك وبين بارئك، فلا بد من ذنب بينك وبين الله أوجب لك قسوة القلب، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، تفقَّد نفسك، وتفقَّد أهلك وزوجك، وتفقَّد أبناءك وبناتك، فلعل مظلمة حالت بين قلبك وبين الخشوع، ولعل مظلمة حالت بين عينك وبين الدموع. ثم أقبل على الله بالتوبة النصوح إن وجدتَها، قال بعض السلف: أذنبتُ ذنباً فحُرِمْتُ قيام الليل ستة أشهر، فإذا كان هذا في ذنبٍ واحد يُحْرَم العبد المقام بين يدي الله، فحَرِيٌّ أن يُحْرَم التذكُّر والتدبُّر لآيات الله. أما الوصية الثالثة: فخذ مِمَّا يرقِّق قلبك: خذ هذا القلب الغافل الساهي إلى منازل الأموات، واجعله يعيش بين أهلها، وذكِّره تلك المنازل. وأكثر من تشييع الجنائز، فإن تشييعها يحيي -بإذن الله- موات القلوب، انظر إليه محمولاً وحيداً فريداً، وانظر إلى أبنائه وأقاربه، وعشيرته، وأحبابه، كلٌّ يكفكف دمعه، وكلٌّ يجفف -مما أصابه- جفنه، ومع هذا لا يغني له من الله شيئاً. فإن لم ينكسر قلبك، فخذه إلى المرضى، وأقمه مع أهل البلاء، واسمع تلك الصيحات، والآهات، والآلام التي يعيشها أهل الأسقام، عِشْ مع المرضى حتى تعرف عافية الله ونعمة الله التي نعَّمك بها، ثم خذ من العلاج النبوي. أَدْنِ اليتيمَ إليك، وامسح برأسه، وضمه إليك ثم أحسن إليه، وقربه، وواسِه، فإن ذلك مما يزيل قسوة القلوب؛ لأن الله يرضى على مَن أحسن، ومِن أعظم الإحسان: الإحسان إلى اليتيم. ثم كذلك خذ من عبير السلف الصالح، وسِيَر الصالحين من عباد الله المؤمنين من الماضين، وأدعوك أن تعيش مع الأموات من أهل الصالحات والطيبات، وأدعوك -أخي- أن تقرأ سيرة السلف الصالح، فإنها ترقق القلوب لله جل جلاله. وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحول بيننا وبين قسوة القلوب. اللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلب. اللهم إنا نعوذ بك من قلب قاسٍ أمام ذكرك. والله تعالى أعلم.

نصائح للمعلمين والمعلمات

نصائح للمعلمين والمعلمات إن هذا العلم الذي علمنا الله إياه هو منة ونعمة منه جل وعلا، فعلى من سلك هذه الطريق الجد والصبر على الطلب، وإن من تمام شكر هذه النعمة تعليم الناس هذا العلم ونشره بينهم.

شكر الله على نعمة تعليم الناس الخير

شكر الله على نعمة تعليم الناس الخير باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله جعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، وعلى المعلم والمعلمة أن يشعر كلٌ منهما بفضل الله عز وجل عليه، وجميل إحسانه، وجليل ما أسدى إليه سبحانه وتعالى، فإن الله إذا اختارك لتعليم الناس فقد فضلك وشرفك وقدمك على غيرك، وعلى المعلم أن يستشعر نعمة الله عليه، ومن عظَّم نعمة الله شكرها، ومن شكر نعم الله بارك الله له في نعمته، فعليك أن تعلم أن الله أعطاك خيراً كثيرا، فليكن من أول شكرك لله أن تعظم نعمة الله في قلبك، قال العلماء: الشكر ثلاثة أقسام: شكر الجنان، وشكر اللسان، وشكر الجوارح والأركان. فأما شكر الجنان: فهو أن تعتقد من قلبك أن الفضل كله لله، ولذلك قال الله عز وجل في هذا النوع من الشكر: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] فلا يعتقد المعلم أنه بلغ إلى هذه المرتبة أو عين في هذا المكان من أجل ذكائه أو فهمه، ولكن الفضل كله لله سبحانه وتعالى، فإذا أحس أن الله وحده هو الذي اختاره عظَّم نعمة الله عليه وشكرها.

سعي المعلم لتحسين ظن الناس به

سعي المعلم لتحسين ظن الناس به أما الأمر الثاني: فعليه أن يسعى جاهداً إلى أن يحسن ظن الناس به، وأن يكون عند حسن ظنهم به، حيث حملوه الأمانة وأناطوا به المسئولية، وجعلوه في هذا المكان، الذي صرفوا عنه غيره، واختاروه بحسن ظنهم به، فليكن عند حسن ظن الناس به، وهذا يستلزم منه أن يسأل ما هو المطلوب منه، وما هو الواجب عليه، فأول ما ينبغي عليه ضبط العلوم التي يعلمها، وأفضلها وأزكاها وأعظمها أجراً عند الله سبحانه وتعالى: علم الدين، الذي يتعلق بالأحكام الشرعية، سواءً كان في العقيدة أو المعاملات، أو العبادات الأخر، فعليه أن يتقي الله عز وجل ويضبط هذا الباب، ويخرج أبناء المسلمين عالمين بما نيط بهم. إن أسند إليك تعليم التوحيد، فاعلم أن الله سائلك عن هذه القلوب التي تعلمها، هل وجهتهم إلى ما فيه صلاح عقائدهم ودللتهم على الأصل العظيم الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة من العقيدة في ألوهية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته. فلا تدخر جهداً ولا وسعاً إلا وقد بذلته من أجل أن تعلمهم ذلك الأمر على أتم الوجوه وأكملها وأفضلها. كذلك إذا أسند إليك تدريس الفقه، ينبغي عليك أن تجد وتجتهد في ضبط المسائل وتحريرها وبيانها، ومعرفة الأدلة عليها والراجحة من أقوال العلماء مدعماً بالدليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أن أعظم ما يكون في التعليم تعليم الدين. وهنا مسألة أنبه عليها أنه ينبغي على المعلم والمعلمة أن يرغبوا أبناء المسلمين وبناتهم في العلوم الدينية، وأن يكون هناك مما في الأسلوب والطريقة والتناول للمسائل والعرض لها ما يشوق أبناء المسلمين وبناتهم لدينهم، وما يحببهم لا ما ينفرهم ويبغضهم بالأسلوب المنفر، أو بالطريقة المنفرة، ينبغي أن يبذل قصارى جهده للوصول إلى الأفضل والأكمل، وأن يغرس في تلك القلوب البريئة حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب هذا الدين، ويبلغهم ما علمه من الأحكام الشرعية بكل وضوحٍ ودلالة صحيحة، كذلك أيضاً: إذا نيطت به العلوم الدنيوية، فإن الإسلام لا يمنع تعلم العلوم الدنيوية، لكن بشرط ألا تعارض الأسباب، وألا تعارض العقيدة، وألا تتنافى مع أصل الدين، فإن تنافت معه، فلا ولا كرامة، فالأصل ديننا وإسلامنا، فينبغي أن تكون الدنيا ذليلة صاغرة لهذا الدين، لا أن تكون حاكمةً على ديننا وإسلامنا، فتعليم العلوم الدنيوية أمرٌ مطلوب، خاصة إذا توقفت عليه مصالح المسلمين كالطب. كان الإمام الشافعي رحمه الله قد ذكر عنه بعض العلماء بالسند الصحيح، كما ذكر صاحب كتاب المنهل السوي في الطب النبوي، أشار إلى الشافعي أنه كان يقول في علم الطب: "لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب" وكان يقول كلمته المشهورة: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى"؛ لأنه كان في زمان الشافعي لا يوجد طبيب مسلم، وأكثر ما يوجد من الأطباء هم من أهل الكتاب، فكان يتأسف أن المسلمين لم يتقنوا علم الطب حتى احتاجوا إلى غيرهم، لا بد من إتقان العلوم الدنيوية حتى تسد حاجة المسلمين عن غيرهم، وتسد ثغور المسلمين بالرجل والمرأة المؤمنة المسلمة اللذان يخافان الله عز وجل ويرعيان النصحية للمسلمين. كذلك أيضاً: علوم الحساب، والهندسة، ونحوها من العلوم التي تنفع، ويُستعان بها لتحسين المصالح الدنيوية، لكن الأفضل والأكمل والأعظم ثواباً علم الدين، وهو الأصل وهو الذي شرف صاحبه ونبل في الدين والدنيا والآخرة، وحيثما ذكر العلم في أكمل صوره، وأجمل حلله فهو علم الإسلام، وعلم الدين المتصل بالعقيدة والأحكام الشرعية كما لا يخفى.

النصح لأبناء المسلمين وبناتهم

النصح لأبناء المسلمين وبناتهم كذلك أيضاً: على المعلم والمعلمة أن ينصحا لأبناء المسلمين وبناتهم، وذلك برعاية المشاعر ومحاولة المعلم أن يكون معلماً ناجحاً من خلال الطريقة والأسلوب في جذب الأبناء، وكذلك المعلمة من حيث الطريقة والأسلوب في جذب البنات، ولا يخفى على الجميع أن العصر الذي يعيش فيه الناس عصرٌ مختلف عن العصور التي تقدمت ومضت، الناس اليوم في زخم من مشاغل الدنيا وشواغلها، وقلَّ أن تجد أباً يتفرغ لأبنائه، وقل أن تجد أماً تتفرغ لبناتها، فينبغي علينا أن ننظر إلى هؤلاء الصغار خاصة إلى القلوب البريئة من الصغار، ألا نعاملهم بالعنف؛ لأننا ننظر إلى أنهم فقدوا كثيراً من جوانب التربية وأصبحت حالة الناس اليوم في كثرة المشاغل والشواغل، حتى قد تجد بعض الأخيار قد لا يستطيع أن يُربي أولاده من ضيق الوقت، فينبغي علينا أن نشعر بهذا الإحساس، وأن الأبناء قد فقدوا جوانب كثيرة من التربية، فلا تنظر إليهم بالبيئة التي نشأت فيها، حينما كانت الأم تمسح على رأس ابنها، ولا يفارق سواده سوادها، وكان الأب يراقب الابن في كل كلمة وحركة، ومع من يمشي وإلى أين يذهب، شتان ما بين العصرين والواقعين، فينبغي على المعلم وعلى المعلمة أن ينظروا إلى هذا العصر من خلال هذه الأمور التي يعيشها كثير من الأبناء والبنات، فإذا أدركوا ذلك فقد أحسنوا التصرف في هذه الأمور، فإذا وجدوا الطفل يتصرف تصرفاً شاذاً بسبب ما حوله من قرناء السوء، أو كانت بيئته بيئة جهل، أو بيئة يغلب عليها الجهل ينبغي أن يتعامل معها بما يليق، وأن يتعامل معه بما يليق، وأن تتعامل المعلمة مع أمثال هؤلاء بما يليق. كذلك أيضاً: ينبغي عليه ألا يخلوا العلم عن التربية، فإن أبناء المسلمين وبناتهم كما هم محتاجون للعلم كمادة فإنهم يحتاجون إلى التربية، فالتربية أن تكون قدوة في تعليمك، بالابتسامة والآداب الفاضلة والأخلاق الزاكية، التي تُنبئ وتدل على شرف ما تحمله من العلم النافع حتى ولو كان من علوم الدنيا، فإن الأخلاق الحميدة والآداب الكريمة جبلت النفوس على حبها وحب أهلها، وإذا كان المعلم أو المعلمة محبوبة، ووضع الله له القبول، فإن الله ينفع بعلمه وتعليمه ولو كان من أمور الدنيا. كذلك أيضاً: هناك أمر ينبغي التنبه له في مسألة التعامل مع الأبناء والبنات في التصرفات الشاذة، فإن الأبناء الصغار يحدثون التشويش واللغط، فينبغي في هذه الحالة أن يكون المعلم والمعلمة وسطاً بين الإفراط والتفريط، حزماً بدون عنف، ليناً بدون ضعف، ينبغي حزم الأمور ووضعها في نصابها، مما ينبغي على المعلم أن يراعيه: الأمانة في حفظ وقت المحاضرة والحصة ويؤدي ذلك على أتم الوجوب وأكمله، وينتظر الثواب من الله سبحانه وتعالى، ويبرئ ذمته في الواجب والمسئولية المناطة به، فلا يتخلف ولا يتأخر ولا يسند ذلك على وجه تضيع به أبناء المسلمين أو بناتهم، إذا كانت المعلمة تدمن الغياب، والمعلم يدمن الغياب، ضاعت الحقوق والواجبات، وضيعت الأمانات، وللابن وللبنت في التعليم حظ منك، هذه الساعة التي هي محاضرة أو حصة قد تستهين بها ولكنها شيءٌ كبير؛ لأنه هرم ينبني عليه التعليم، وإذا فقد هذه الساعة فاعلم أنها ستؤثر على تحصيله في كليته أو جامعته، فالله الله ينبغي أن يشعر المعلم بالأمانة وألا يضيع وقت المحاضرة أو وقت الحصة، والخروج عن المقصود يكون المعلم مناط به تعليم مادة فتجده يضيع الوقت في الترهات أو يضيع الوقت في القصص والحكايات، فيخرج الأبناء دون نتيجة ويخرج الطلاب ضاحكين مستبشرين من اللهو واللعب، ولكن قد دمرت حياتهم بسبب هذا الجهل الذي فات عليهم تحصيل العلم الذي يزول به ذلك الجهل، فينبغي على المعلم أن يتقي الله وأن يعلم أن هذا الوقت أمانة ومسئولية يستفرغ كاملاً في التوجيه والتعليم مهما كلفه الأمر، وعليه أن يعلم أنه إذا نصح وغيب في قلبه إرادة النصح إن الله يعينه ويسدده.

التحلي بالصبر والتحمل

التحلي بالصبر والتحمل كذلك مما يوصى به المعلم: الصبر والتحمل؛ لأن العلم فيه تعب، وفيه جهد عظيم، وقد يكون المعلم أو المعلمة يخرج من المدينة إلى السفر وهذا يحمل مشقة كبيرة فيحتاج إلى أن يحتسب ولا ينسى فضل الشيء الذي يحمله. إن أهل الباطل يسافرون إلى الأدغال حيث المهلكة والهلاك الذي يغلب على الظن أن صاحبه يفضي إليه، ومع ذلك يضحون، وتجد الرجل يتبع النصرانية فلا يبالي أن يذهب إلى أدغال أفريقيا في شدة الحر أو البرد، وبين الجاهلين منهم وقد يتعرض للقتل والموت وهو لا يبالي، كل ذلك كما زعم من أجل الصليب، ومن أجل تعظيم دينه وهو على الباطل، فوا عجباً من صبرهم على الباطل وعدم صبرنا على الحق! ينبغي أن تصبر وتصابر وتحتسب وتجد وتجتهد وتكون عندك همة عالية، ولا شك أن شرف كل معلم كلما كان تعليمه بعيداً ونائياً في القرى النائية، والمناطق النائية التي هي بحاجة إلى المعلمين أن يصبر ويحتسب، خاصة إذا كان من الشباب الأخيار والقدوة عليه أن يصبر ويحتسب ويكون في جده وقيامه بمسئولية التعليم على أتم الوجوه وأكملها، ونحن والله لا نقولها مجاملة، نحن في نعمة عظيمة ومنة جليلة كريمة خاصة في هذا العلم الذي بلغ الجبال والأودية السحيقة، تجد فيها من يعلم، وتجد فيها من المدارس ودور التعليم، فنسأل الله بعزته وجلاله -ونقولها من قلوبنا- أن يوفق ولاة أمورنا وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، والله لو علمنا ما وراء الجهل من مصائب ومتاعب وكوارث لا يعلمها إلا الله، لعلمنا مقدار هذه النعمة التي نعيشها، فكونها تجند هذه النعم من أجل أبناء المسلمين وبناتهم فهذه نعمة عظيمة، ولقد مرت قرون قد تجد الرجل عمره أربعين سنة وهو لا يعرف كيف يتوضأ أو يغتسل من الجنابة، والمرأة تعمر وتبلغ الخمسين وما علمت كيفية غسل الجنابة إلا قبل موتها بالسنة أو السنتين، فالعلم نعمة -يا أخوان- ومنة جليلة كريمة، فإذا أحسن بك الظن، ونيطت بك الأمانة في بلدٍ بعيد أو قرية نائية لا تسخر ولا تجهل، ينبغي التعاون والتظافر والصبر والاحتساب، وإذا ضحت الأمة وضحى أفرادها سمت إلى المجد والعلياء، إذا حسنت الظنون وصار الرجل ينتظر الأجر من الله عز وجل ثبته الله ووفقه، فلا تنتظر من أحدٍ أن يثيبك أو يكافئك إلا الله جل جلاله، فعلى هذا ينبغي أن يصبر ويحتسب المعلم ما أمكن، وهكذا المعلمة تصبر وتحتسب في تعليم أبناء المسلمين وبناتهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم ووجلة لرضوانه العظيم، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

وصية للنساء في طلب العلم وتعليمه

وصية للنساء في طلب العلم وتعليمه Q سائلٌ يقول: تعلمون يا فضيلة الشيخ أن النساء قد يصعب عليهن أن يفرغن من وقتهن لطلب العلم من المشايخ والعلماء، فما هي الطريقة التي توصون بها النساء بطلب العلم وتعليمه، وكيف يوفقن بين أعمال البيت وطلب العلم؟ A بالنسبة للمرأة علمها بالأحكام وما يتعلق بحياتها من المسائل فرضٌ عليها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم تأتيه الصحابية تسأله عما أشكل عليها في طهارتها وصلاتها وعبادتها وحق بعلها وعشيرها وزوجها عليها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يفقههن ويعلمهن ويدلهن على ما فيه صلاح دينهن ودنياهن، وعلى هذا قال العلماء: المرأة تتعلم ما فرض الله عليها، هذا هو الأساس وهو الواجب عليها أن تتعلم، وما وراء ذلك فإنها في الأصل مطالبة بحقوق البيت، وإدارة بيتها؛ لأن رسالة المرأة تربية أبناء المسلمين وبناتها، وإذا كانت الأم في بيتها قائمة على حقوق أولادها، وأتقنت هذا الثغر وقامت بحقه، قويت الأمة وعزت وسادت وبزت وغلبت؛ لأن بيوت المسلمين قد سدة ثغورها فهذا هو الأصل، الأصل أن رسالتها أولادها، والله عز وجل حملها المسئولية عن أولادها وأبنائها وبناتها، فإذا كانت تستطيع أن تنتقل بعد ذلك لنفع بنات المسلمين ودلالتهن على الخير واحتيج إليها لتعليمهن، وقامت بهذه الحاجة على أتم الوجوه وأكملها، فهذا فضلٌ عظيم، وخيرٌ كثير. أما بالنسبة لطلبهن للعلم فإن عرضن أن يطلبن العلم فلهن من الفضل ما للرجال، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يرجعون إلى أمهات المؤمنين في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، ولما اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في مسألة حديث مسلم: (إنما الماء من الماء)؛ من جامع ولم ينزل. أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عائشة، ولما سألها ذكرت له حديث رسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل) فقال عمر قولته المشهورة: [من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً] فكانوا يرجعون إلى أمهات المؤمنين، ويجعلون أمهات المؤمنين فيصلاً في هديه عليه الصلاة والسلام داخل البيت، كما كان أمهات المؤمنين يحلن إلى الصحابة في مسائل السفر ونحوها، فالمرأة تتعلم وهن شقائق الرجال، ولكن إذا خرجت من بيتها للعلم فعليها أن تراعي الحقوق والواجبات التي فرض الله عليها: أن تكون بعيدة عن الفتنة، وحضورها إلى مجلس العلم يكون على السمت الشرعي البعيد عن الإغراء والفتنة، وإذا فعلت ذلك وتفقهت في دينها أو علمت أبناء وبنات المسلمين ووجهتهم فهي على خيرٍ كثير! أما الطريقة: فالمرأة إذا أمكنها أن تحضر درس علمٍ في مسجد، فإن هذا خير وهذا من طلب العلم، وتعتبر طالبة علم، وهكذا إذا تعلمت في دور التعليم وصانت نفسها وابتعدت عن قرينات السوء فهذا أيضاً من التعليم، فالمقصود أن الأصل الشرعي يقتضي أن المرأة تتعلم ولكن بشرط ألا تضيع ما هو أوجب عليها وما هو آكد وما هو الأصل، ثم بعد ذلك إذا قامت بتعلمها على الوجه الشرعي بعيدة عن الفتنة فهذا خيرٌ لها وللأمة، نسأل الله العظيم من الجميع التوفيق والسداد، والله تعالى أعلم.

من سير الصالحات

من سير الصالحات في كل زمان ومكان تحتاج المسلمة إلى القدوة الحسنة التي تسير على نهجها، وتسلك سبيلها، تحتاج إلى تلك النماذج الطيبة الطاهرة التي أحسن الإسلام صياغتها فغدت هممها عالية، وقلوبها مؤمنة راضية تقية.

القدوة وأهميتها

القدوة وأهميتها الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ألا هو العزيز الغفار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الصفوة الأخيار، وعلى جميع من التزم شرعه من الصفوة الأبرار: السلام عليكن ورحمة الله وبركاته: السلام على كل مؤمنة بالله السلام على كل منيبة إلى الله السلام على كل مهتدية بشرع الله السلام على تلك المرأة المؤمنة التي آمنت بربها، والتزمت بدينها، وسارت على نهج خالقها. سلام على تلك المرأة المؤمنة التي أقبلت إذ أدبر الناس، وآمنت إذ كذب الناس، وجدّت في طاعة الله إذ استهزأ الناس. السلام على ذلك القلب الذي وعى، والسلام على ذلك الفؤاد الذي رضي وبهدى الله اهتدى. السلام عليكن إذ خرجتن إلى طاعة الله ومرضاته، خرج النساء إلى الأسواق وخرجتن إلى سوق الجنة، وخرج النساء إلى الرياض، وخرجتن إلى روضة من رياض الجنة، وباهت النساء بالأزياء وباهيتن بسربال التقوى، واستمسكتن بعروة الله الوثقى، هنيئاً لكن معشر المؤمنات! هنيئاً لكُنَّ معشر الصالحات الداعيات! هنيئاً لكن على الإيمان والثبات! هنيئاً لكن على الجد في الحسنات والمرضات! بيَّض الله وجهكن، ونور الله قلوبكن في زمان الغربة الذي تباعد عن زمان الوحي، وقفت الصالحة أمام تيارات فكرية، ومذاهب هدامة لكي تعلنها صريحة قلباً وقالباً أن لا إله إلا الله فعاشت مع الله، مع أوامره إذ التزمتها، ونواهيه إذ ابتعدت عنها. وقفت الواحدة أمام هذه الفتن والمحن فثبتت بتثبيت الله، واعتصمت بحبل الله، فطوبى لذلك الإيمان، وطوبى لذلك الجنان، وطوبى للصدق في العبودية للرحمن. يا فتاة الإسلام: إن هذه رحمة من الله أسداها إليك، ومنة تفضل بها عليك، إن الله تبارك وتعالى قد رحمك بهذه الهداية التي حرمها كثيراً من النساء، رحمك بهذه الهداية التي عاش قلبك أحاسيسها، وارتاح فؤادك لمعانيها، فسرت بتلك الخطا راضية أي الرضا، سرت على طاعة الله ومرضاته ومحبته. امتلأت القلوب حباً للدنيا وامتلأ قلبك حباً للصالحات، امتلأت قلوب النساء حباً للماجنات الداعرات وامتلأ قلبك حباً للصالحات الداعيات، امتلأت قلوب النساء محبة لهذه الدنيا وفتنة بزهرتها، وامتلأ قلبك حباً للآخرة وسعياً لتحصيلها، طوبى لتلك العين منك إذ سحت بالدمع من خشية الله، وقد اكتحلت عيون النساء بمكاحيل الزينة، ولكن تزينت عينك بالعبرة من خشية الله، طاب للنساء أن يتجملن بالمظاهر وطاب لك -أمة الله- أن تتجملي بالجواهر! طوبى للإيمان! طوبى لسلوك سبيل الرحمن! طوبى لهذا العفاف؛ طوبى له وحسن مآب! أخواتي المسلمات: إن المسلمة تحتاج في كل زمان ومكان إلى قدوة حسنة صالحة تسير على نهجها، وتسلك سبيلها، تحتاج إلى تلك النماذج الطيبة الطاهرة التي حملت المعادن الكريمة وقلوباً تعظم الله وجواهر تؤمن بلقاء الله وتعظمه وتجله، تحتاج إليها لكي تسير على نهجها، وتتخلق بأخلاقها وتتأدب بآدابها، وقد بين القرآن فضل القصة، وفضل الأسوة والقدوة، فبين أن فيها عبرة، وأنه بهدى الأخيار يُهتدى، وبحذوهم يُقتدى، وبسبيلهم يُربى.

نماذج من سير الصالحات

نماذج من سير الصالحات لقد قصَّ الله عز وجل في كتابه قصص الصالحات، وبين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم تلك المواقف المشرفة من تلك النماذج الطيبات الطاهرات من قرونٍ خلت، وأزمنة مضت؛ مضت بإيمان، وصبر ويقين بالرحمن، مضت تلك الخلوف الصالحة وقد سطرت في دواوين المجد عبراً لا تنسى، وذكريات توجب من الله عز وجل الرحمة والرضا، ومع هذه القرون الخالية، ومع تلك النماذج السامية، ومع ذلك الرعيل، ونسمة من عبير ذلك الجيل تسمو إلى هذه النماذج {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]. تحب المرأة المؤمنة الصالحة سير الصالحات حتى يطمئن بذكرهن قلبها، ويسعد بالائتساء بهن قالبها، ومع ذلك الرعيل، ونسمة من عبير ذلك الجيل، نقف مع النساء الطاهرات من سلف هذه الأمة.

عائشة رضي الله عنها

عائشة رضي الله عنها ومن سمية -التي قدمتُ لسبق شهادتها- إلى الصديقة بنت الصديق، إلى المبرأة من فوق سبع سماوات، إلى امرأة سكن الإيمان قلبها، ونزل الإيمان واليقين بفؤادها؛ عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صديقة بنت صديق، لست أدري ما الذي أختار لكِ من طهارتها وعفتها، أأختار لكِ إيماناً لا شك معه ولا مرية؟ أأختار لكِ جناناً مليئاً بمحبة الله؟ أأختار لكِ علماً وفضلاً وأدباً وخلقاً؟ إنها النجم الزاهر، والروض الناضر الذي يستهوي من رآه، ويستهوي من سمع أخباره، إنها عائشة التي تربت في بيت الصديق، وفي بيت النبوة مع خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين. مع عائشة التي رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وزوجاً محبوباً، أكرمته وأحبته فلما خُيرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت آية التخيير لنسائه، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إني مخيركِ في أمرٍ فلا تعجلي فيه حتى تراجعين فيه أباك وأمك) فما إن خيرها بين الدار الآخرة وبين أن يمتعها ويسرحها سراحاً جميلاً، حتى أبت وأصرت إلا البقاء معه صلى الله عليه وسلم، بل إنها أجابت مباشرة بأنها تختار الله ورسوله والدار الآخرة، وعجلت أن تخير والديها، فهو الأمر الذي لا يحتاج إلى خيار غير خيارٍ واحد، وهو الذي أحبته وارتضته، وهو اختيار رحمة الله ومحبته، عاشت هذه الطيبة الطاهرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً لكل زوجة وفية لزوجها، أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، أحبها لديانتها ولطهارتها، ولصلاحها وعفتها رضي الله عنها وأرضاها. وعاشت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيشة الفقر؛ فقر الظاهر وغنى الجواهر، عاشت فقيرة في الظاهر ولكنها غنية بالله عز وجل، ثلاثة أشهر وما يوقد في بيتها نار، فرضيت بهذه العيشة لعلمها بأن رضوان الله عز وجل فيها، ماذا أختار لكِ من هذه الصالحة الطيبة الطاهرة المباركة الصديقة بنت الصديق التي عاشرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينٍ تراقب حركاته وسكناته، وسمعٍ يصغي لكل لفظ من حديثه، فكانت وعاءً من أوعية السنة، وحافظة من حفاظ الصحابة، وعت أكثر من ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنضر الله ذلك الوجه، ونضر الله -عز وجل- تلك الصورة التي حفظت للأمة دينها، وما اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من هديه داخل بيته إلا ورجعوا إلى الصديقة يختارونها حكماً بينهم، قال أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه: [ما اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرٍ ورجعوا إلى عائشة إلا وجدوا عندها خبراً وأثراً]. إنها عائشة علماً وأدباً وفضلاً ونبلاً، رسمت منهجاً للصالحات في المثابرة على محبة رب البريات بطلب العلم، فهي مثال لكل زوجة عالم، ومثال لكل زوجة داعية أن تتقي الله عز وجل في زوجها، رسمت المنهج الصالح بمعاشرة النبي الكريم ولخلفاء الأنبياء من العلماء العالمين، والدعاة المخلصين بصبرها على العيشة اليسيرة، وعفتها عن الغنى الذي يرديها ويهلكها، رضيت فأرضاها الله عز وجل برضاها، ونحن اليوم نعيش مع عائشة اليوم، نعيش مع تلك النماذج الحية من نساء مؤمنات صالحات طاهرات ذكرن عائشة في علمها وأدبها، فجعلنها قدوة بها يحتذى، وأمة بها يُقتدى. نعيش اليوم مع تلك النماذج الطيبة الطاهرة، مع النساء الحافظات لكتاب الله، اللاتي خرجن إلى بيوت الله لحفظ آيات الله، نعيش مع عائشة اليوم وهي ساهرة في طلب العلم بعين ترجو رحمة الله، وهي تخط بيدٍ ترجو الفوز بالكرامة من الله، وهي تصغي بسمعٍ يطلب رضوان الله، نعيش مع عائشة اليوم تلك الداعية المخلصة التي نذرت نفسها للدعوة إلى الله، مع عائشة اليوم التي جرت محبة الدعوة في عروقها. إنها عائشة الصالحة عائشة الفاضلة عائشة التي صبرت على البلاء، فأوذيت في أقدس شيء -بعد الإيمان- وهو عرضها فمست كرامتها، ولكن لتنال من الله رضواناً، وصفحاً من الرحمن وبراً وإحساناً، وقفت عائشة رضي الله عنها أيام محنة الإفك؛ ذلك الموقف العصيب الرهيب، ولكنها كانت أكبر من تلك المقالة حينما تعلقت بالله ولاذت به، واستعاذت بالله فكانت معه، قيل عنها ما قيل فبرأها الله عز وجل، وغار عليها إذ نزل آيات التنزيل، وما كانت تظن أن ينزل الله عز وجل فيها قرآناً إلى يوم الدين، فكل امرأة اليوم تؤمن بربها، فتؤذى في عرضها، تترسم نهج هذه الصالحة فتصبر لوجه الله، وتحتسب الأذية عند الله، وترجو في مصابها وبلائها المثوبة من الله. عائشة اليوم تؤذى وتتهم في عرضها وعفتها ولكنها ثابتة لوجه الله، صادقة إيماناً بالله، تصبر على تلك المكائد، وتصبر على ما يروجه كل معاند وحاسد، تتمثل هدي تلك المرأة الصالحة، وتترسم خطى تلك الصديقة الفاضلة. عائشة رضي الله عنها التي كانت مثالاً في الزكاة، ومثالاً في الجود والسخاء، فتحت لها أموال الدنيا فما التفتت إلى تلك الأموال، بعث إليها عبد الله بن الزبير رضي الله عنها وعنه مائة ألفٍ فجاءتها وهي صائمة لله، فما إن وقعت في يدها حتى تذكرت جنان الخلد التي ترجوها عند ربها؛ فبذلت تلك المائة في طاعة الله ومحبته، فرقت تلك المائة حتى أمسى المساء وما عندها منها شيء، فطلبت فطورها وطلبت شيئاً ترد به جوعها وظمأها، فإذا به لم يبق من المائة ألف شيء تطعم به طعاماً، ولكنها أبقت رضوان الله، والرجاء فيما عند الله، صامت لوجه الله عز وجل ذلك اليوم، وصامت مع صيام الجسد عن شهوة الدنيا وفتنتها وزهرتها، فبذلت ذلك المال كله لوجه الله حتى نسيت طعام فطورها! يا لله من قلب يؤمن بالله! ويا لله من فؤاد يرجو رحمة الله! ويا لله من صديقة تلتمس رضوان الله! قالت لها أم ذر: [هلا تركت من المائة ألف ما تفطرين به؟ فقالت: لا تلوميني، هلا ذكرتني؟] ذهلت عن الدنيا حينما تذكرت رحمة الله، ورجت الفوز بما عند الله. إنها ذهبت ومضت وخلفت لنساء المؤمنين ذلك المثال الصادق لبذل المال لوجه الله واحتساب الأجر عند الله، ذهبت عائشة إلى رحمة الله ورضوانه، ولكنها رسمت المنهج لـ عائشة اليوم حينما اقتدت بها وائتست، فكم نسمع من قصص تذكر بها! كم نسمع من قصص عن تلك الصالحة! وعن تلك المؤمنة الموقنة التي جددت عائشة الأمس رضي الله عن تلك وعن هذه رضواناً لا سخط بعده. امرأة من نساء المؤمنين في العصر الحاضر كانت بنت ثري من الأثرياء، شاء الله عز وجل أن يقبض روحه فخلف الأموال الكثيرة، فجاءها زوجها مساء ذلك اليوم بتلك الورقة التي فيها خمسة ملايين من الريالات، فلما أخبرها الخبر وقال لها: هذا قسمك من ميراث أبيك. قالت: كم هو؟ قال: كذا وكذا. قالت: والله لا أطعم منه شيئاً وأيتام الأفغان يعانون الجوع، وأرامله يقاسون البرد والعناء. وقالت: والله لا يمسي هذا المال وعندي منه شيء، فخرجت منه ترجو رضوان الله، فيا لله من مؤمنة صابرة! ويا لله من مؤمنة صادقة! إنها قلوب الصادقات التي آمنت برب البريات، فنسيت عند الإيمان به حظوظ الدنيا وزهرتها، إنها أمثلة ونماذج حية بنقل الثقات عن تلك الصالحات اللاتي يُذكِّرن بـ عائشة الأمس رضي الله عن الجميع وأرضاهن.

خديجة رضي الله عنها

خديجة رضي الله عنها وأول وقفة -مع الإيمان والثبات على الإيمان- مع امرأة آمنت بربها، ورضيت عن الله ورضي الله عنها، امرأة لا كالنساء، كاملةٌ، مطهرةًٌ، مختارةٌ من الله لنبيه، امرأة أحبها الله وأحبت الله، ورضيت عن الله ورضي الله عنها، إنها خديجة بنت خويلد التي أحبها الله عز وجل، وأحبها نبيه صلى الله عليه وسلم، أحبها الله حتى نزل جبريل الأمين يحمل سلام الله عليها، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن جبريل قال: (يا رسول الله! هذه خديجة قد جاءتك بإناء فيه إدام -أو شراب، أو طعام- فأقرئها من الله السلام ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) إنها خديجة مثال الإيمان، واليقين بالرحمن، إنها خديجة التي ثبت الله عز وجل بها أحب القلوب إليه، إنها خديجة التي واست رسول الله صلى الله عليه وسلم بمالها، وواسته بفؤادها إذ شاركته أحزانه، وشاطرته آماله وآلامه، ما جاءها خائفاً إلا أمنته بعد الله، ولا جاءها مهموماً محزوناً إلا بددت همومه وأحزانه بإذن الله، زوجة ونعم الزوجة! مؤمنة بالله عز وجل حقيقة الإيمان، ما إن جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخوف قد استولى عليه حتى قالت له: [كلا والله، لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق] فيا لله من امرأة! أتعجب من إيمانها وثباتها إذ هي تعاني وتقاسي عذابها في الله! أم تعجب من حكمتها وبيانها إذ ثبتت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم! مضت هذه الطيبة الطاهرة إلى رحمة الله، ومضت إلى عفوه وغفرانه، ولكنها سطرت لأجيال المؤمنات ديواناً من المجد ائتست به صالحات وأي صالحات، مشى على دربها الفاضل نساءٌ مؤمنات قد بعن الدنيا واشترين الآخرة. إن مضت خديجة الأمس فإن خديجة اليوم باقية، فكم من نساءٍ صالحات طاهرات نسمع عنهن في هذا الزمان قصصاً تعيد لنا ذكرى خديجة! كم من زوجة صالحة الآن اهتدى زوجها على يدها، عرفته سبيل المساجد، وأقامته مع كل راكع وساجد، وحببته أن يكون مع الخير العابد. إن ذهبت خديجة فقد أبقت لنا أمثالها، وإن ذهبت خديجة فقد أبقت لنا أشباهها، وإن واست خديجة الأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين والمال والنفس، فـ خديجة اليوم تواسي زوجها وهو داعية إلى الله، فتضحي بمالها في سبيل الدعوة إلى الله، وتضحي بأوقاتها كي تعينه على مرضاة الله. كم في زماننا من أشباه لتلك المرأة المؤمنة؟ قال الأب لابنته يوماً من الأيام: إن ابن عمك يريد الزواج منكِ. قالت له: يا أبتاه أتأمرني بذلك؟ قال: نعم. قالت: سمعاً وطاعة. وشاء الله ذلك الزواج، وما إن مضت أيامٌ يسيرة حتى تبدى لها ذلك الزوج وإذا به شيطانٌ مريد، من رحمة ربه شقي طريد، فما إن بلغ الخبر بذلك القلب الذي يعامل الله، وذلك الفؤاد الذي يرجو رحمة الله، حتى احتسبت المعونة من الله وقالت: لقد بررت أبي بزواجي منه، والله يعينني على هدايته. فيا ألله من امرأة صالحة تفجرت ينابيع الحكمة على لسانها، فأخذت بمجامع ذلك الزوج إلى طاعة الله! وأخذت بمجامعه إلى محبة الله، وهدته إلى رضوان الله وطاعته، فما ذكر فضلها يوماً من الأيام إلا بكى اعترافاً بجميلها، وإقراراً بفضلها. إنها خديجة اليوم التي تحتسب عند الله عز وجل في التأسي بتلك الطيبة الطاهرة، إنها خديجة اليوم مهما رأت من زوجها إعراضاً عن الله؛ كان قلبها أكمل ما يكون يقيناً بالله، وكان جنانها أقوى ما يكون ثباتاً على طاعة الله، إنها خديجة اليوم التي نطمع أن نرى أمثالها وأن نسمع ذكراها، فنضَّر الله وجهها، وكثَّر في المسلمين سوادها.

سمية رضي الله عنها

سمية رضي الله عنها ومن خديجة إلى مقام الإيمان والتوحيد والصبر على الإيمان بالحميد المجيد، إلى سمية وهي تُكاد على الإيمان بالله، وتهان من أجل لا إله إلا الله، إلى تلك المرأة التي آمنت بربها، وصَدَّقت بوحدانية خالقها فقيدت إلى العذاب الذي يفضي بها إلى رحمة رب الأرباب، قيدت إلى العذاب الذي فيه مهانة الدنيا، ولكن مآله كرامة الآخرة، إنها سمية أول شهيدة في الإسلام، التي رضيت أن تنال العذاب، وأن ترى ما ترى من صنوف البلاء والمهانة في الله ولله، وكل ذلك من أجل أن يرضى عنها الله، فما وهنت في طاعته، وما ضعفت في سبيله، فيا له من قلب موحد لله! قلب سكن التوحيدُ بشعابه، ونزل إلى أعماق جذوره، فاهتدت بهدي ربها فلم تبتغ عن سبيله تحويلاً، ولا له بديلاً. إنها سمية الأمس التي صبرت على طاعة الله ومحبته، وأوذيت في الله، وعايشت ما عايشت من البلاء والضنك في سبيل طاعة الله ومرضاته. وأشباه سمية في عصرنا الحاضر كثير، وما زال الخير في الأمة، فكما أن الخير في الرجال فإن الخير موجود في النساء، فما زالت سمية في الأمة باقية إنها سمية التي تعيش بهدايتها وحيدة بين أسرة كاملة إنها سمية التي تعيش بإيمانها وطاعتها لربها وعفافها بين أخواتٍ وزميلاتٍ بعيدات عن الله إنها سمية اليوم التي تؤذى في لباسها فتصبر وتحتسب، وتؤذى في حيائها فتصبر وتحتسب، وتؤذى في شيمتها وعفتها فتصبر لوجه الله وتحتسب. إنها سمية اليوم الصادقة مع ربها، الموقنة بلقاء خالقها إنها سمية اليوم التي لم تلتفت إلى مفاتن الأزياء، ولم يغرها ما غر غيرها من النساء إنها سمية التي أوذيت باللسان، فسمعت من الكلام ما كرهت ولكن رضيت بالله، ورضيت البقاء على طاعة الله ومحبته؛ فطوبى لها وحسن مآب!

يا فتاة الإسلام! هذه هي القدوة

يا فتاة الإسلام! هذه هي القدوة أخواتي المسلمات: إن نماذج الصالحات نورٌ في القلوب، ودليل يدل على رحمة علاَّم الغيوب، إنها النماذج الحية التي إذا قرأت المؤمنة سيرهن تذكرت كتاب الله، فكلامهن، وأفعالهن، وأخلاقهن تذكر بالقرآن، فالله الله أن تستبدل المؤمنة الصادقة بتلك السيرة العطرة، والمواقف النضرة سير الماجنات الداعرات! الله الله أن تنسى المرأة المؤمنة تلك النماذج الحية التي تسبقها إلى رياض الجنان. فيا طالبة الجنة! فيا أيها المؤمنة التي تعلق قلبها بالجنان! ويا أيتها المؤمنة التي ترجو الرحمة من الكريم الرحمن! شمري عن ساعد الجد في زمان الغربة، وجددي مآثر الإسلام في هذا الزمان الذي عظمت فتنته وجلت محنته، جددي مآثرهن بالأخلاق الفاضلة، والآداب الرفيعة. كم كان بودي أن أبقى معكن في سير الصالحات التي لا تنتهي، في سير أولئك الداعيات المصلحات اللاتي أحيا الله عز وجل بهن قلوب البريات، في سيرة تلك الصالحات الداعيات إلى الله والمحتسبات للأجر عنده، ولكن ضاق الوقت، وأرجو من الله عز وجل أن يجعل فيما مضى الخير والبركة، وليست العبرة أن نذكر سيرهن، وليست العبرة أن نقص أخبارهن، ولكن العبرة كل العبرة أن يترجم أمثالكن يا معشر المؤمنات الصالحات، ويا معشر التائبات العابدات، ويا معشر المنيبات القانتات، أن تجددن تلك المواقف، وأن تترجمن هذه السير وهذه المواقف إلى حياة عملية، فنضر الله عز وجل وجه امرأة أحيت تلك السيرة الفاضلة، ودعت إلى تلك المواقف المشرفة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكثر سواد الصالحات في الأمة، وأن يثبت قلوبهن على الطاعة والملة. اللهم ثبت قلوب نساء المؤمنين على طاعتك يا رب العالمين، اللهم أعذهن من شرور أهل الفتن وأهل المحن، وأسمعنا عنهن كل خير وكل فضل وبر، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم ترتيل المرأة القرآن بصوت حسن أمام معلمها

حكم ترتيل المرأة القرآن بصوت حسن أمام معلمها Q كثير من الدارسات في هذه الدورة في الفصول الدراسية عند تلاوة القرآن يقمن بتنغيم الصوت والتغني عند تلاوة القرآن، فهل هذا الترتيل جائز عندما نُسمعه شيوخنا الكرام، أرجو توضيح ذلك للكثيرات وجزاكم الله خيراً؟ A هذا السؤال يتضمن مسألتين: المسألة الأولى: في مشروعية الترتيل. والمسألة الثانية: في مشروعية سماع الرجل الأجنبي لصوت المرأة التي يعلمها. أما المسألة الأولى: وهي مشروعية ترتيل القرآن، فإن الألحان، وحسن التغني بكتاب الله، وحسن الترتيل لآيات الله محبوب عند الله عز وجل، ومحبوب عند نبي الله وعباد الله، فإذا خرج كتاب الله من فم معطر بتلك التلاوة التي تعطي الحروف حقوقها، وتعطي آيات القرآن صفاتها فإنها التلاوة المحبوبة وهي التلاوة المطلوبة، ولذلك أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بذلك وقال لـ أبي موسى الأشعري: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) فكان ذلك ثناءً، وكان ذلك إقراراً فدل على محبة الترتيل. ولكن يشترط في جواز هذا الترتيل وجواز هذا اللحن أن يكون بدون تكلف يخرج الحروف عن أوصافها أو تجاوز المرأة المرتلة حدود التجويد وضوابطه، ولذلك قال القائل: اقرأ بلحن العرب إن تُجوِّدِ وأجز الألحان إن لم تعتد فالضابط عند أهل العلم في جواز الترتيل وحسن النغمة ألا يجاوز القارئ الحد المعروف والمطلوب والمألوف، فإذا جاوزه إلى التمطيط والتغني الخارج عن الحد السوي فإنه محرم، فإذا جاوز هذا الحد الذي ذكرناه وكان الترتيل المذكور من جنسه فينبغي تركه والبعد عنه، أما إذا كان في الحدود المعتبرة شرعاً وكان وفق قواعد الشرع فهو محمود وغير مردود وصاحبته مأجورة غير مأزورة إن شاء الله. المسألة الثانية: في جواز سماع الرجل الأجنبي قراءة المرأة. يجوز له أن يسمعها عند الحاجة كالحال في سماع المعلم من المرأة التي يعلمها ونحو ذلك فهذا لا حرج فيه، ولا وزر فيه بشرط ألا يوجب فتنة السامع، فإن خاف السامع من الفتنة فإنه ينبغي له أن يسعى في نجاة نفسه ولا يهلك نفسه وينجي غيره، والله تعالى أعلم.

أساس قبول الأعمال

أساس قبول الأعمال Q ما نصيحة فضيلتكم لمن تعمل الأعمال الصالحة، وتبذل الجهد في الدعوة إلى الله ويشوب إخلاصها لله بعض الشوائب مثل: مضايقتها لبعض المخلصات في العمل معها، أو محاولة إبراز أعمالها للغير وحب الظهور والتسلط؟ A أولاً: أوصي كل امرأة مؤمنة نذرت نفسها للدعوة إلى الله أن تكون مشعل خير حيثما كانت أو حلت. وأوصي بأمرين مهمين للداعية إلى الله: أمر بينها وبين الله، وأمر بينها وبين عباد الله: أما الأمر الذي بينها وبين الله: فإخلاص قلبها لله عز وجل، فتتكلم وتنطق لله، وترجو رحمة الله على نور وبصيرة من الله. إن هذه الكلمات التي تتفوهين بها ترجين بها رحمة الله عز وجل ورضوانه، ليست باليسيرة عند الله، إن اللحظة الواحدة وأنت تذكرين فيها بالله عز وجل لها ثمن عند الله غالٍ، ولها أجر عند الله عظيم {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114]. لذلك أختي المسلمة احتسبي عند الله كلامك الذي تذكرين به بالله، احتسبي به وجه الله، وارجي به ما عند الله، وإياك والالتفات إلى الأنظار، أو الالتفات إلى حظوظ الدنيا من الشهرة والسمعة، فهو متاع حائل وظل زائل، فاتقين الله عز وجل، فإن الدعوة إلى الله قد اختارها الله واختار أهلها للآخرة، فأهل الدعوة إلى الله هم أولياء الله وصفوته عز وجل من خلقه بعد أنبيائه والعلماء العاملين. احتسبي عند الله تلك الكلمات التي تذكرين بها، واحتسبي عند الله تلك الكلمات التي تتلفظين بها، فإذا بليت بالرياء أو بطلب السمعة فالله الله بتوبة نصوح، الله الله في إنابة إلى الله، بادري بالرجوع إلى الله ولا تقنطي من رحمة الله، وعودي علَّ الله عز وجل أن يتوب عليك، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. أما الوصية الثانية للداعيات إلى الله: فوصية بالتآلف، وبالتعاون والتكاتف، وبالمحبة والوفاء، وبالإيثار والإخاء. إن هذه الداعية التي تراها عينك عزيزة عند الله إن هذه الداعية التي تسامتها أقدامك عزيزة عند الله خطاها عزيزة عند الله كلماتها عزيزة عند الله دعوتها. إنها المرأة التي باعت وقتها لله وفي الله فأحبيها في الله، والله إنا لنسمع ببعض الصالحات الداعيات فنحتقر أنفسنا بجوار ما يبلغنا عنهن من الصلاح، والديانة، والاستقامة، والحرص على الدعوة، فكوني مُجِلَّة لهذه الداعية وأحبيها في الله، حينما تتذكرين تلك العدوة التي لا ترضى بك، ولا تحبك، ولا ترضى بالدنو منك ولا بحياتك، فالله الله في مُحِبَّة لكِ في الله، فإن حصلت منها الزلة وبدرت منها الهفوة فاغفريها لوجه الله، فقد وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وقع ولكن بقيت الدعوة إلى الله وبقيت الهداية إلى سبيل الله ولم يغير ذلك من منهجهم في طاعة الله ومرضاته. ثم أوصي أخواتي الداعيات إذا حصلت أية نفرة بينهن أن يكون نقاشها في الخلوة، وأن يكون هادفاً، وأن يكون الجميع طالباً لرحمة الله. الله الله يا معشر الداعيات أن يشمت بالإسلام بسببكن، الله الله في هذا النزاع، وفي هذا الخلاف الذي لا يستفيد منه إلا أعداء الله، إن الله قرن الفشل والخيبة بالنزاع فقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] إذا لم تجتمع الداعيات إلى الله فكيف تقف الواحدة أمام النساء تذكرهن بالمحبة والوفاء؟ إذا لم تتألف قلوب الداعيات إلى الله فكيف تأتلف بهن القلوب على طاعة الله؟ الله الله يا معشر الداعيات! لينسى كل خلاف بيننا، ولتنصب قلوبنا وقوالبنا على طاعة الله ومحبته، إننا والله نخشى أن نكون حجر عثرة في سبيل الله وطاعته. الله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكن، فاحتسبن عند الله في الصبر على البلاء، واحتسبن عند الله في البعد عن النزاع والشقاق، ونسأل الله العظيم أن يجمع القلوب على محبته وأن يؤلف الأفئدة على مرضاته، والله تعالى أعلم.

أسباب الانتكاسة وكيفية علاجها

أسباب الانتكاسة وكيفية علاجها Q توجد ظاهرة بين الأخوات الملتزمات وهي: أن بعضهن تلتزم باللبس والحجاب والزينة الإسلامية، ولكنها تمر أحياناً بانتكاسات، فتجدها -مثلاً- في أكثر الأيام ملتزمة بما شرع الله، فتلتزم باللبس والحجاب والزينة، ولكن يحدث لها في إحدى الأيام أن تنتكس فتلبس الملابس القصيرة والضيقة، وتسرح شعرها وتقصه كفعل الفاسقات، وتلطخ وجهها بالمساحيق، ثم تعود بعد ذلك من جديد لحشمتها والتزامها، فما هي أسباب هذه الانتكاسات؟ وكيف علاجها؟ A الانتكاسة -والعياذ بالله- عن طاعة الله أسبابها كثيرة أعظمها وأهمها: السبب الأول: ضعف الإيمان في القلوب؛ فإذا قوي الإيمان في القلب تعلق القلب والقالب بالله، وصار القلب إلى الله، وتبعته الجوارح إلى رحمة الله، فالعين تنظر بطاعة الله، والسمع يسمع ما أمر الله، والبصر يبصر ما أذن الله، واللسان يتكلم بما أذن الله، فإذا ضعف هذا الإيمان تنكبت الجوارح في معصية الرحمن. أول ما تحرص عليه المؤمنة التي تريد الثبات على هدايتها وعقيدتها بربها، بأسمائه، وصفاته، وبألوهيته وربوبيته، الأسماء والصفات تخوفها من الله، وتجعلها في طمع برحمة الله، والإيمان بألوهية الله يجعلها متعلقة بالله وحده لا إله إلا هو، وإيمانها بربوبية الله يجعلها في حياء من الذي أطعمها وسقاها وكفاها وآواها؛ فتكون سائرة على طاعة ربها ورحمة خالقها. وهذا الإيمان يأتي بأسباب أعظمها: القرآن، أن تدمن المرأة التفكر والتدبر لآياته، والتأثر من زواجره وعظاته. السبب الثاني الذي يدعو إلى الانتكاسة -والعياذ بالله-: هن قرينات السوء، الداعيات إلى الردى، المانعات من سبيل الرضا، المثبطات عن طاعة الرب جل وعلا، صديقات سوء، كلامهن يقسي القلوب ويصرفها عن محبة علاَّم الغيوب ومرضاته، صديقات سوء غضب الله عز وجل من كلامهن فلم يقلن من الكلام ما يرضيه، فأصغت تلك المرأة وتساهلت في إصغائها فنفذت تلك الكلمات التي لا ترضي الله إلى قلبها، فحببتها في معصية الله، ودعتها إلى سخط الله والعياذ بالله، فما أشقاها من جليس كان عوناً على سبيل إبليس! وما أشقاها من امرأة لا تعرف حدود الله! فالله الله -يا أيتها المؤمنة- أن تتساهلي في صحبة الأشرار، إذا رأيت المرأة على طاعة الله فاجعليها مثالاً لك في سبيل الله ومرضاته، وإن رأيتها على معصية الله فكوني معها على حالين: الحالة الأولى: تذكير بالله. والحالة الثانية: إن لم تتذكر فصدود وإعراض عنها يرجى به رحمة الله. السبب الثالث من أسباب الانتكاسة: عين تمتعت بالحرام، وأذن أصغت إلى الفواحش والآثام، فقادت تلك العين القلب إلى معصية الله، وقاد ذلك السمع القلب إلى حدود الله، فالجوارح هي التي توجب الانتكاسة، وتوجب -والعياذ بالله- الارتكاس، كم من جارحة أصغى بها العبد فأوردته الردى، وصدته عن سبيل الهدى فعاش عذابها وبلاءها، فالمؤمنة التي ترجو الثبات على طاعة رب البريات تحفظ سمعها وبصرها ولسانها وفؤادها عن حدود الله ومحارمه. إذا أردتِ الثبات إلى الممات فأسكني قلبك ذكر الآخرة، والمصير إلى الله عز وجل في السفينة الماخرة، تذكري أن الأيام تنقضي، وأن الأعمار تنتهي، وأن الآجال توجب قطع الآمال، فما من امرأة تذكرت مصيرها إلى الله إلا ثبتت على طاعة الله ومحبته. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبت قلوبنا على طاعته ومحبته، والله تعالى أعلم.

ضرورة الصبر على الدعوة إلى الله

ضرورة الصبر على الدعوة إلى الله Q أنا فتاة أعيش في بيت فيه من أنواع الفساد الشيء الكثير، ولا يوجد من يساعدني على أن أسمو إلى ما وصلت إليه الصالحات، فكيف المخرج حفظك الله مع العلم أن كثيراً من الفتيات يعشن نفس ظروفي؟ A أولاً: أهنئكِ بنعمة الله عز وجل عليك بالهداية، أهنئكِ بهذا القلب الذي وعى مع أنك في عيشة لا تعينه على الوعي، أهنئكِ على ذلك الفؤاد الذي تذلل لطاعة رب العباد فتبتِ وأنبتِ إلى الله، فهذه نعمة من الله أهنئكِ أولاً عليها. أما ثانياً: فإنني أدعوك بدعوة الله عز وجل؛ أدعوك أن تدعي من حولك إلى طاعة الله ومحبته، وإلى الجهاد والصبر في محبة رب العباد، حينما تحتسبين هداية تلك القلوب الحائرة التائهة، احتسبي بكلمة ترجى بها رحمة الله، ذكري بالله، وبصري به، واهدي إلى سبيله ورضوانه، ولا تيئسي! فكم من شابة كانت وحدها، هدى الله عز وجل بها أمة، وأرشد بها أمة. لذلك -أختي المسلمة- أدعوك أولاً إلى دعوتهن إلى طاعة الله ومرضاته، وأن تحتسبي عند الله عز وجل تذكيرهن بالله، وإياك والقنوط من رحمة الله أو اليأس من روح الله، لا تيئسي فلا بد لليل من فجر، ولا بد للظلام من أن ينجلي، وأقل ما تقومين به وهو كثير: أن تقيمي حجة الله على إماء الله، ذكري بالله، وانصحي فيه، وتقربي إليه بذلك اللسان، لا فض فوك من رحمة الرحمن. أختي المسلمة: احتسبي عند الله عز وجل إنقاذ أهلك من معصية الله ودلالتهن على مرضاته، وخذي بالأسباب التي تهيئ القلوب إلى طاعة رب الأرباب، إذا كان نصحك لهؤلاء النسوة أمام الملأ يوجب رد نصيحتك فخذيهن واحدة واحدة، وذكريهن منفردات، واغسلي قلوبهن بالآيات والعظات، وإذا كان هناك أسلوب ترغيبٍ يذكرهن أو ينفع في تذكيرهن فخذي بذلك الأسلوب، المهم أن تحتسبي أولاً دعوتهن إلى طاعة الله، وثانياً: أن تصبري في دعوتهن إلى طاعة الله ومرضاته، فكم من شابة كانت في البداية ولكن غنمت النهاية. وأسأل الله العظيم أن يثبت قلبك على الطاعة، وأن يجعلك من عباده المهتدين، وأن يجعلك هاديةً إلى سبيله ومرضاته، والله تعالى أعلم.

الحذر من الاغترار بالطاعة

الحذر من الاغترار بالطاعة Q بعض الأخوات الطيبات والحريصات على الخير والملتزمات بكثير من تعاليم الإسلام إذا طلب منهن المزيد من الالتزام بتعاليم الإسلام يرفضن بحجة أن وضعهن أفضل من المتبرجات والمتسكعات في الأسواق، ومن العاكفات على الفيديو والمجلات، فما توجيه فضيلتكم لمثل هؤلاء الأخوات؟ A المرأة المؤمنة الموقنة تنظر في طاعة الله عز وجل إلى من هو أعلى منها، ففي طاعة الله عز وجل ومرضاته تنظر إلى من هو أسبق منها إلى الطاعة، وأجد منها في مرضات الله ومحبته، وأكثر اجتهاداً، وعبادةً، وصلاحاً، وعند ذلك تغار على نفسها، ولا ترضى بالقليل لنفسها، لذلك أوصي هذه النماذج أن تنظر إلى من هو أعلى وأشرف وأسمى، أن تنظر المرأة إذا كانت على نوع من الصلاح إلى من هو أصلح منها، كم من امرأة صالحة كانت قليلة الصلاح؛ فلما نظرت إلى من هو أصلح منها شمرت في سبيل الفلاح فنافست وسابقت وفازت برحمة الله ورضوانه. ليست المرأة العاقلة تلك التي تقول: أنا خير من كثير، نعم إذا ذكرت نعمة الله فانظري إلى من هو دونك حتى تعظمي فضل الله عز وجل عليك، ولكن في الطاعة والمحبة والمرضاة، انظري إلى من هو أعلى منك مقاماً، وأكثر التزاماً، فإذا كانت المرأة في بداية الهداية نظرت إلى من هو أصلح منها، وأكمل هداية وولاية، إذا كانت تقتصر على صلاتها نظرت إلى المحافظة على السنن الراتبة، وإذا كانت محافظة على الصلاة والسنة الراتبة نظرت إلى قائمة الليل وصائمة النهار فنافست في محبة الواحد القهار، واحتسبت رضوان الله عز وجل في تلك المنافسة. فهذا هو حسد الغبطة، وهو التنافس المحمود الذي ندب إليه الواحد المعبود {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ومن المجرب إذا نظرت المرأة إلى من هو دونها في طاعة الله فإنها سرعان ما تغتر، والغرور من أسباب الانتكاس والعياذ بالله، فلا تنظري إلى من هو دونك في طاعة الله ومرضاته، ولكن انظري إلى الدامعة من خشية الله الباكية من عذابه، وانظري إلى قائمة الليل وصائمة النهار، وتشبهي بالكريمات فإن التشبه بهن فلاح وأي فلاح. والله تعالى أعلم.

نصيحة في عدم تأخير الزواج لغير عذر

نصيحة في عدم تأخير الزواج لغير عذر Q أمر خطير متفشٍ بين النساء وهو أنهن تجاوزن الثلاثين من أعمارهن ولا رغبة لهن في الزواج، إما بحجة أن الوقت ما زال مبكراً وتريد أخذ حريتها في الذهاب والإياب بدون ارتباط بزوج أو أولاد، أو بحجة عدم وجود رغبة لديهن بالزواج، فما رد فضيلتكم على هذه الحجج؟ A المرأة المؤمنة حريصة على طاعة الله ومحبته ومرضاته، وهي قد سمعت عن نبيها المصطفى وحبيب ربها صلوات الله وسلامه عليه أنه ندبها إلى الزواج والتناكح والتناسل، فأحبت أن تكون سباقةً إلى ذلك ما دام أنها لم تكن مشغولة بما هو أعلى وأسما من ذلك، فنافست وسابقت وأخرجت للأمة رجالاً صالحين ونساءً صالحات. فنصيحتي إلى هذه المرأة المسلمة: أولاً: من يضمن لها البقاء إلى الزواج، ومن يضمن لها زوجاً صالحاً؛ فقد تتأخر المرأة المسلمة في زواجها عن هذا السن التي هي عز شبابها ونضرة بهجتها والرغبة فيها، فإذا ولت هذه السن انصرفت عنها الأنظار وساءتها -بإذن الله- الأقدار، وعندها تندم حين لا ينفع الندم، ترى من حولها النساء قد ولدن الرجال والنساء، قد ولدن الأبناء والبنات، وربينهم على محبة رب البريات، وأبقين للأمة الصالحين والصالحات، وهي تبقى بلوعتها وحسرتها. والمرأة أشد من الرجل، فإن الرجل قد يطلب الزواج مع التأخر، ولكن المرأة يتعذر زواجها عند التأخر غالباً، فاحتسبي عند الله أن تعفي عبداً لله، وأن تحصنيه بحصن الله، احتسبي عند الله ليالٍ ترجين بها رحمة الله إذ تسهرين على الأولاد، وتربيهم على محبة رب العباد. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح منا ومنكن ما ظهر وما بطن، والله تعالى أعلم.

واجب المرأة في حماية بيتها من وسائل الإعلام

واجب المرأة في حماية بيتها من وسائل الإعلام Q لا يخفى عليكم خطورة وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمرئية وما ننتظر من البث المباشر على البيت المسلم، وحيث إن المرأة عماد هذا البيت؛ فما هو الواجب عليها لحماية بيتها من خطورة هذه السموم؟ A الواجب على المرأة المسلمة التي ترجو رحمة الله عز وجل أن تفر إلى الله، وأن تلوذ بالله بالبعد عن هذه الوسائل، نظراً لخبثها وعظيم ما اشتملت عليه من فتنتها، تفر إلى الله بعصمة نفسها عن السماع، وبعصمة بصرها عن النظر، وبعصمة لسانها عن المحاكاة والمشابهة، وأن تبقى على طاعة ربها حافظة لدينها، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين، عجبٌ والله أن يكون الزوج على استقامة لربه فتأتي تلك المرأة تأن عليه وتزن في طلب فتنة تفتن بها القلوب، في طلب تلك المحنة التي تصرف عن محبة علام الغيوب. إننا ننتظر منك أن تكوني خير معين للبعد عن هذه الوسائل التي لا تأتي بخير إلا ما شاء الله، فالله الله -أختي المسلمة- في سمعك الله الله في بصرك الله الله في لحظاتك وأنفاسك إذ تقضينها على حدود الله ومحارمه، فاتقي الله في أبنائك وبناتك فأنت قدوة لهن إن سهرت على معصية الله، كم من امرأة اقتدت بها ابنتها، وكم من امرأة اقتدى بها ابنها، فحملت وزره ووزرها والعياذ بالله {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] فمتعي سمعك بطاعة الله، واحجزيه عن حدود الله، والله تعالى أعلم.

المظهر اللائق بقارئة القرآن

المظهر اللائق بقارئة القرآن Q مظهر منتشر بين بعض النساء وهو تفريط منهن في بعض الأمور الشرعية، فمثلاً: قد تأتي لحلقات تحفيظ القرآن أو لدورة حفظ القرآن مع سائق بدون محرم، أو تلبس ملابس غير محتشمة، أو أن يكون سلوكها خارج الحلقات لا يليق بأهل القرآن، فما نصيحة فضيلتكم لأولئك النسوة؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أولاً: أهنئ تلك الشابة الصالحة على صلاحها وفلاحها إذ خرجت إلى حلقة تتلو فيها كتاب ربها أهنئ تلك المؤمنة الصالحة التي رضيت بوقتها، وضحت بشبابها في سبيل حفظ كتاب ربها، طوبى لتلك الخطوات التي خرجت بها إلى رياض الجنة طوبى لتلك الخطوات التي اشترت بها رحمة الله، وطوبى لتلك المجالس التي تعطرت بكلام الله، نور الله قلوبكن، وبيَّض الله وجوهكن يا من اجتمعتن على كتاب الله في هذا المجمع المبارك، وجزاكن الله كل خير، وثبت الله قلوبكن على طاعته، وإلى الأمام في طاعة الله، وإلى الأمام إلى جنان الخلد ورحمة الله، سابقن إلى تلك الجنان بترجمة هذا القرآن وهذه الآيات التي تتلى والمواعظ التي ترتل، عِشن مع هذا الكتاب قولاً وعملاً واعتقاداً وجناناً، عشن مع هذا القرآن بالمظاهر الكريمة التي تدل على الجواهر الكريمة، عِشن مع هذا القرآن رحمكن الله، وكنَّ مثالاً لمن حمل كتاب الله. الله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكن، فيرى الحافظات الحاملات كتاب الله، بعيدات عن شرع الله -لا سمح الله- تأدبن بآداب هذا الكتاب فإنه إما حجة لكن أو عليكن. ثانياً: يا فتاة الإسلام: إن هذا الكتاب الذي تقرئينه، وهذا الكتاب الذي تسمعينه إما لكِ أو عليك، فالله الله في أقواله! فالله الله في آياته وعظاته! الله الله في زواجره وحدوده! ترسمي هديه عندما تلبسين جلباب الحشمة والحياء، وترسمي هديه حينما تخريجين، الله الله أن تختلي بأي أجنبي ليس بذي محرم لك! وخذي بما يعينك على طاعة الله ومحبته؛ حتى تفوزي بتلك الساعات في رضوان الله، فلا تختلي بسائق أجنبي إلا ومعك ذو محرم، واتقين الله وأطعن الله ورسوله، وإياكن والبعد عن الحشمة والعفاف بلبس ثياب لا تليق بحاملة كتاب الله، وتصرفات لا تليق بالمتأدبة بشرع الله. إنني لأرجو من الله أن يكون هذا آخر العهد بتلك التصرفات التي لا تليق، وبتلك المناظر التي لا تليق، وأسأل الله العظيم لنا ولك خير الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

وصية بالإنفاق في سبيل الله

وصية بالإنفاق في سبيل الله هذه وصية من الإخوان للحث على الإنفاق في سبيل الله وطاعته عز وجل. باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أوصيكن أخواتي المسلمات بإنفاق المال في طاعة الله ومحبته، فهذه أبواب الخير لكُنَّ قد فتحت، وهذه سبل الطاعة والرضوان لكن قد مهدت، هذا مجال خير ينتظر يداً لا شلت تلك اليد، باذلة لوجه الله معطية ابتغاء رضوان الله، ولقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف على النساء فقال: (تصدقن يا معشر النساء فإنكن أكثر حطب جهنم، فأمرهن بالصدقة، فجعلن يهوين ويلقين من حليهن وأقراطهن). فلذلك أوصي كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفقة تحتسبينها ومال ترجينه عند لقاء الله عز وجل، احتسبي عند الله عز وجل النفقة، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار). قد تبذلين مالاً يغفر الله عز وجل به ذنوب عمر مضت منك، وقد تبذلين مالاً يصرف الله عز وجل عنك به ميتة السوء، وخاتمة السوء، فاحتسبي عند الله يا أمة الله في معونة الحفَّاظ ومن يعين على تحفيظ كتاب الله، احتسبي عند الله عز وجل هذا الباب من الخير الذي يقصد به إحياء مدارس القرآن، هذا الكتاب الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، فشرح لنا به الصدور، وأنقذنا به من مزالق الهوى والردى والشرور، فاحتسبي عند الله عز وجل ببذل ما تستطيعين من المال، كم من امرأة بذلت ما في جيبها رضي الله عز وجل عن بذلها، فالله الله في احتساب الأجر عند الله. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

رسالة إلى الدعاة

رسالة إلى الدعاة الدعوة إلى الله من أشرف المقامات وأعلى المنازل، حيث إن الداعي إلى الله هو أحب العباد إليه، وقوله هو أطيب القول لديه، والدعوة مرتبطة بالعلم ارتباطاً وثيقاً، بل يعتبر العلم أول لبنة تبنى عليها الدعوة، فإنْ توفَّر العلم وجب التزام العمل، وفي هذا الطريق الطويل يجب على الداعية التزام أمور وخصال تعينه على الاستمرار والثبات، وهذه الخصال مذكور كثير منها في هذه المحاضرة.

شرف الدعوة إلى الله وعلو منزلتها

شرف الدعوة إلى الله وعلو منزلتها الحمد لله الذي اصطفى العلماء العاملين والأئمة المهتدين فجعلهم حملة لهذا الدين، وشعلة نور يستهدي بها من أراد رضا رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم المبارك إلى يوم الدين، أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأسأل الله العظيم أن يبارك لنا في هذا المجلس المبارك، وأن يجزي إخواننا الذين تسببوا فيه كل خير بما صنعوا. إخواني في الله: أشرف المقامات وأعلى المنازل في هذه الحياة ذلك المقام لذلك الداعية، وذلك العالِم العامل الرباني، الذي اصطفاه الله عز وجل لدينه فصقل قلبه وصقلت قلبه روحانية الكتاب والسنة، ففقه عن الله دينه وعلم عن الله شرعه، فسار على هدى من الله، ونور من الله يهدي عباد الله إلى الله، ذلك العالِم الذي نور الله بصيرته ونور بهدايته الخلق، الذي ما إن تكلم حتى تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه، وإذا أبان تفجرت ينابيع الحكمة من بيانه، عالِم وداعية نور الله قلبه، وهادية نور الله بصيرته. إنها النعمة التي اختص الله عز وجل لها رجالاً واصطفى لها رجالاً هم صفوته من خلقه، فصفوة العباد من عباد الله هم المطيعون لله، وصفوة أولئك المطيعين هم العلماء الربانيون الذين تعلموا وعملوا وعلّموا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى فضلهم فقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فمن تعلم كتاب الله وعلم بما فيه من آيات الله وانشرح صدره لهداية العباد به إلى الله فهو خير العباد عند الله. وإذا أردت أن تعرف مقام الإنسان عند الله عز وجل فانظر إلى علمه وعمله واجتهاده في الدعوة إلى الله، إذا علم هذا الأصل وهو أن أحب العباد إلى الله هم ورثة أنبياء الله، العلماء العاملون والهداة الربانيون الذين علموا فكانوا قدوة في العلم جداً واجتهاداً ومثابرةً وتحصيلاً وأخذاً للعلم عن أهله، وحفاظاً على الوقت، وحفاظاً على الزمان، وحرصاً على الفائدة، وفرحاً بها وتأدباً بأخلاق أهلها الذين يريدون وجه الله والدار الآخرة، ثم اجتهدوا بعد ذلك في العمل بالعلم فما إن تعلموا سنة حتى طبقوها والتزموها وكانوا أسبق الناس إلى العمل بها والتزامها، فأصبحت أقوالهم وأفعالهم تسير مع العلم الذي علموه، وتسير مع الفهم الذي أوتوه، وقد أشار الله تعالى إلى أنه لا فلاح للعالِم إلا بالعمل فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] فمن أبأس ما يكون أن يكون العالِم بعيداً بعلمه -والعياذ بالله-.

مراتب الناس في العلم والدعوة

مراتب الناس في العلم والدعوة إذا علم فضل العلم، وأن الله اصطفى أهله واجتبى أهله، فينبغي أن يعلم أن الناس في هذه النعمة على مراتب: فمنهم مستكثر ومنهم مستقل، ومنهم ذلك العالِم الذي نزل إلى أعماق العلم وأخذ من المعين الصافي فلم يشبع من ري، وارتوى حتى نضحت أضلاعه مما روى محبة لله وطلباً لرحمة الله، ومنهم من هو أقل ودون ذلك وصدق الله إذ أشار إلى ذلك بقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. لذلك -أحبتي في الله- إذا أراد الإنسان الخير وأراد السعادة والفلاح فليجند نفسه لكي يكون من العلماء والهداة والدعاة إلى الله، فالعلم إذا كان نعمة من الله فينبغي للإنسان أن يستكثر من هذه النعمة، وأن لا يستقل عطية الله فيها، وكل واحد منا إذا تعلم أي سنة وعلم أي حكم من الشرع فليعلم أنه طالب علم، وأن طلب العلم لا يقتصر على الجلوس في حلق العلماء فقط بمعنى: أن يكون الإنسان مداوماً مداومةً كاملة بل كل عالِم بقدر ما علم، وقد كان أصحاب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم المجلس الواحد، ثم ينطلقون دعاة وهداة إلى الله، فلذلك كل واحد علم أي حكم أو أي سنة فليعلم أن الله شرفه بطلب العلم.

طلب العلم والدعوة ليس مقصورا على طائفة معينة

طلب العلم والدعوة ليس مقصوراً على طائفة معينة الإنسان إذا أراد أن يسلك هذا السبيل يأتيه الشيطان من كل فج ومن كل صوب، يأتيك ويقول لك مثبطاً ومخذلاً: من أنت حتى تكون عالماً؟ ومن أنت حتى تكون طالب علم؟ ومن أنت ومن أنت؟ فما أبوك بعالِم ولا أنت من بيت علم إلى آخر ما يقوله عدو الله، فينبغي للمؤمن أن تكون همته عالية وأن تكون نفسه أبية تنافس في طاعة الله، وتسابق في مرضاة الله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. إن العلم ليس حجراً على أحد، وطلب العلم ليس حكراً على قوم معينين، ولا على طائفة معينة، ولا على قبيلة بعينها، ولا على جنس معين، طلب العلم إنما هو منحة من الله لعباد الله، قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269]. هو المعلم وهو المفهم وهو الهادي إلى سواء السبيل، فإياك أن يثبطك الشيطان عن طلب العلم، وإذا وفق الله لك في البلدة أو المدينة التي أنت بها ووجدت فيها رجلاً من أهل العلم فاحتسب عند الله بخطواتك إليه، واحتسب عند الله جلوسك في مجلسه، واحتسب عند الله بإنصاتك لحديثه وعملك بما يقول، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. فينبغي لنا إذا كنا في أي مكان وتيسر وجود العالِم ألا نقصر في غشيان حلق العلم، الله الله أن توجد تلك الحلقة ويسبقك غيرك إليها فتكون أدنى منزلةً عند الله؛ لأنك إذا كنت بين قوم يطلبون العلم وأنت متقاعس عن طلب العلم فهذا زهد في الخير ونقصان في الأجر -والعياذ بالله-، ولذلك قال بعض السلف يوصي ابنه: إياك أن تعرض عن العالِم، فإنك إن أعرضت كان الضرر عليك ولم تضر العالِم شيئاً. فالعالِم لا يضره إعراض المعرضين وإنما يستضر من أعرض عن العالِم، قال الجد رحمة الله عليه: ومن صد عنا بحسبه اللوم والقلى ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته فالمقصود: أنه ينبغي لك أن تشمر عن ساعد الجد في طلب العلم.

أهمية العمل بالعلم وتطبيقه والدعوة إليه

أهمية العمل بالعلم وتطبيقه والدعوة إليه لا تتعلم أي سنة أو أي علم إلا طبقته ولو مرة واحدة، سمعت عن آية فيها ذكر لله طبقها ولو مرة، سمعت عن حديث فيه ذكر عند القيام عند القعود عند النوم عند المساء عند الصباح طبقه ولو يوماً واحداً، التزم بالسنة، فإن الإنسان إذا عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، فالعمل بركة العلم، ولذلك قال السلف: هتف العلم بالعمل فإن أجابه ولا ارتحل فينبغي لك أن تقدم على العمل هذه المرحلة الأولى. والمرحلة الثانية: العمل بالعلم. وينبغي للإنسان أن يستكثر من هذا العمل، فإن الإنسان قد يتعلم السنة الواحدة يبلغ بها درجةً عند الله عز وجل ومغفرة.

أهمية الدعوة إلى الله

أهمية الدعوة إلى الله أما الأمر الثالث وهي المرحلة التي يدور عليها الحديث: قضية الدعوة إلى الله. فبعد أن تعلم وتعمل تنطلق مشعل نور ورحمة وهداية في مجتمعك، تنطلق هادياً إلى الله وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً بين قومك وأهلك، حتى تتشرف فتكون وارثاً للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى تتشرف ويثقل ميزانك بحسنات أقوام هديتهم إلى الله، حتى تتشرف فتقيم حجة الله على عباد الله، فأعلى مقام للعبد مقام الدعوة إلى الله، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المقام الشريف والمنصب المنيف بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] و (مَن) هنا بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله. فما أطيبها من كلمات عند الله حينما تذكر بها عباد الله! وما أسعدها من لحظات حينما تجلس بين قوم تهدي قلوبهم إلى الله! فليحتسب كل واحد منا أن يقوم بهذا الواجب، وهذا الواجب لا يقتصر على قوم معينين، بل واجب الدعوة إلى الله أمانة في عنق كل واحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله واجب على كل أحد، حتى إن الإنسان العامي من المسلمين تجب عليه الدعوة بمقدار ما علم، فلو مر على إنسان يعبد غير الله لا يقول أنا عامي فإن الدعوة إلى توحيد الله ونبذ ما يعبد من دون الله واضحة لا تحتاج إلى كثرة علم، وهناك أمور خاصة كمعرفة الأحكام والشرائع فالدعوة إليها خاصة بأهل العلم، ولكن هناك دعوة عامة وهي الدعوة إلى أصل الدين، وتوحيد رب العالمين، وإقامة حجة الله على خلقه أجمعين، وهي التي وردت فيها الآيات العامة، ثم يليها الدعوة إلى ترك المحرمات والفواحش والمنكرات. فما حَيَّتْ الأمة إلا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ماتت القلوب ولا هانت الأمة إلا حينما أضاعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولن تجد الأمة في زمان سما مكانها وعز بين العباد شأنها إلا وجدتها أحرص ما تكون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو نظرت إلى زمان من عصور الإسلام الزاهرة وأزمنته الغابرة التي كانت فيها في عز ومجد ورفعة، لو قرأت التراجم وجدت تلك الأمة التي كانت تعتصر قلوبها غيرة على الدين، وجدت الصغير يغار على الدين قبل الكبير، ووجدت القلوب تتمعر لله، ووجدت الألسن تهدي إلى الله وتدعو إلى الله، فلما كانت الأمة بهذا الحال صلحت أحوالها وعظم عند الله مكانها وعز بين الخلق شأنها. فالمقصود أن الإنسان ينبغي له أن يقوم بهذا الواجب، فلو مر إنسان على إنسان يعصي الله عز وجل في كبيرة من الكبائر أو صغيرة من الصغائر لا يقول: أنا لست بعالِم، بل هذه الكبيرة أو هذه الصغيرة يستوي في النهي عنها الصغير والكبير، ليس الأمر بعسير على إنسان تراه يشرب حراماً أن تقول له: اتق الله يا هذا، اتق الله فيما تشرب، أو ترى إنساناً يأكل حراماً تقول له: اتق الله فيما تأكل، أو ترى إنساناً ينتهك حرمةً لله ليس بالصعب أن تذكره بالله، فلربما كلمة تكلمت بها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تلق لها بالاً كتب الله لك بها رضواناً لا سخط بعده، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، تمر عليه وتقول له: اتق الله! بقلب يتمزق غيرةً على دين الله، يكتب الله لك بها رضاً لا سخط بعده. فالله الله في هذا الواجب العظيم، الله الله في رسالة أفضل الأنبياء والمرسلين، إذا تخاذلنا عن هذا الدين، من الذي يقوم به؟! وإذا تقاعسنا ولم تكن عندنا غيرة على هذا الدين، من الذي يغار على سنة سيد المرسلين وإمام المتقين صلوات الله وسلامه عليه؟! والخوف كل الخوف أننا إذا تقاعسنا، سيبدل الله عز وجل من هو خير منا، سيبدل الأمة بمن هو أفضل منا، والله إذا تقاعس طلاب العلم أورث الله الأمة طلاب علم صادقين خيراً ممن تقاعس، وإذا تقاعس العلماء أبدل الله علماء ربانيين خيراً ممن تقاعس {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] فالله الله أن يستبدل الله بنا قوماً ولا نضره شيئاً، فينبغي للإنسان أن يحيي هذا الواجب في قلبه وأن يحيي هذا الفرض في نفسه وأن ينطلق مشعل هداية.

كيف يؤهل الإنسان نفسه للدعوة؟

كيف يؤهل الإنسان نفسه للدعوة؟ أما النقطة الأخيرة من Q فكيف يؤهل الإنسان نفسه للدعوة؟

الأمور التي يجب أن تكون قبل الدعوة وأثناءها

الأمور التي يجب أن تكون قبل الدعوة وأثناءها يؤهلها أولاً: بالعلم. هناك أمور يجب أن توجد قبل الدعوة، وهناك أمور ينبغي أن توجد أثناء الدعوة، وهناك أمور ينبغي أن توجد بعد الدعوة؛ أما الذي يسبق الدعوة فعلم عن الله وفقه عن الله وبصيرة في دين الله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] ليس عن عمى، ولا عن غي وهوى، ولكنه على سبيل الطاعة والهدى، أما الذي يكون مع العلم وأثناء العلم فتلك الآداب الطيبة والأسلوب اللين الذي يؤثر في القلوب {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. فالإنسان يبتدئ بالأسلوب الطيب، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار، ولو نزل لا تسرقوا لا تشربوا الخمر ما آمن أحد). أولاً: تأليف القلوب بأسلوب الحكمة، وباللين، وبالموعظة الحسنة، فإذا جاء إنسان لإنسان عاصٍ أحس أنه أمام إنسان غريق، أحس أنه أمام إنسان يحتاج إلى من ينقذه، ولا ينظر إليه على أنه إنسان عدو بمعنى: أن يسيء له في الخطاب والأسلوب الذي يوجب نفرته، فلذلك ينبغي للإنسان أن يراعي الأسلوب الطيب في الدعوة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المتقين وقدوة الدعاة المهتدين كيف كانت أساليبه؟! كان يغزو القلوب بحسن خلقه قبل أن يغزو العقول بأفكاره ومبادئه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت الكلمة إذا خرجت منه خرجت بعد أن تمهدت القلوب لسماعها، وبعد أن طابت القلوب لوعيها، فينبغي للإنسان أن يترسم سبيله، وأن يسير على طريقه، وأن يكون أسلوبه أثناء الدعوة أسلوباً طيباً، حكيماً جذاباً رقيقاً رفيقاً.

الأمور التي تنبغي على الداعية بعد الدعوة

الأمور التي تنبغي على الداعية بعد الدعوة أما ما ينبغي على الداعية بعد الدعوة فهناك أمور: منها أنه لا يخلو من حالتين: إما أن تستجاب دعوته، وإما أن ترد دعوته، فإن استجيب لدعوتك ووقعت في موقعها فالله الله في الإخلاص، الله الله أن يدخلك الغرور بالنفس، فكم من داعية هلك بسبب الغرور، وكم من ناصح هلك بسبب الغرور، وكم من عالِم أهلكه الله بغروره بعلمه، فلا تعتقد أن الناس تأثرت بأسلوبك وبلاغتك، ولكن للقلوب مفاتيح ربانية وهبات إلهية ومنح من الله عز وجل يتفضل بها على من يشاء، هو الهادي إلى سواء السبيل، وهو الذي يشرح الصدور بفضله وينورها بكرمه، وليس الفضل لأحد، بل الفضل كله لله وحده لا شريك له، وأصدق شاهد على ذلك نبي الله نوح، ونبي الله لوط، نبي قام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ما استطاع أن يهدي زوجته وكانت من أهل النار، فدل هذا أننا لا نملك لأنفسنا فضلاً عن أن نملك لغيرنا شيئاً، فينبغي للداعية ألا يغتر بأسلوبه. الأمر الثاني: أنه ينبغي عليه إذا وجد القبول أن يحرص على سقي تلك البذرة الطيبة، فإذا وجد القلب استجاب له لان له أكثر وتوطأ له أكثر واقترب منه أكثر وأعطاهم من الود والمحبة أكثر مما كان عليه، هذا صنيع من يغار على الدين ويريد أن يهدي عباد الله إلى رب العالمين، تنزل نفسك للعباد إذا وجدت الاستجابة والقبول بنفس طيبة ونفس منشرحة ترجو بذلك رحمة الله، وتطمع في رضوان الله وعفو الله سبحانه وتعالى. أما الأمر الثاني أيضاً مما يترتب على الإنسان بعد الدعوة وهي الحالة الثانية: إذا نفر الناس من موعظتك وأعرضوا عن كلمتك وجفت لدعوتك فماذا تصنع؟! أولاً: عليك بالدعاء أن يشرح الله صدورهم وأن ينور قلوبهم، وأن يحسن الاستجابة منهم. ثانياً: إياك أن تقنط، فإن الشيطان حريص على إبعادك منهم. ثالثاً: ربما أن الله -لحكمة- لا يجعل أذناً تصغي لموعظتك؛ لعلمه أن ذلك أعظم في أجرك وأثقل في ميزانك وأرفع لدرجتك، يكون معك زميل في العمل أو يكون معك جار بجوار البيت تدعوه فلا يستجيب وتذكره فلا يجيب، وهكذا اليوم ثم الغد ثم بعد الغد وهكذا، وإذا بتلك الكلمات تمر عليك سنة كاملة وأنت تنصح وما تدري كم لك من الحسنات في تلك النصائح، ولربما أنه لو استجاب من أول مرة ما فزت بتلك الدرجات، فلله حكمة في إعراض الخلق عنك، فإن نوحاً عليه الصلاة والسلام مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً وما قنط إلا في الأخير حينما قال: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27] فقامت الدلائل على أن لاّ منفعة فيهم، فقنط منهم ويئس من دعوتهم، فالمقصود أن الإنسان لا ينبغي له أن يقنط أو ييئس من دعوته، وهناك أمور ينبغي عليه أن يراعيها إذا حصلت الإساءة من الغير: وهي مقابلة الإساءة بالإحسان، فإذا وجدت من الناس أذية في دعوتك وتهمة في كلمتك وسوء ظن بمنهجك فلا تلتفت إلى ذلك، وإنما علق الأمل بالله، ولا ترد السوء بالسوء فإن خُلُقَ أنبياء الله والدعوة إلى الله أن يردوا السوء ولا يردوا عليه بسوء {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66] {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67] كان بإمكانه أن يقول لهم: أنتم السفهاء، ولكن انظر إلى أسلوب الأدب الإلهي الذي أدب به أنبياءه: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67] فالمقصود أن يبتعد الإنسان عن الخنا وعن الكلمات التي لا خير فيها، وعن تنفير العباد بسوء أسلوبه، وفي الحقيقة أنني لا أحب أن أسترسل في هذا الموضوع وهو موضوع من الأهمية بمكان، ولكن نظراً لضيق الوقت أقتصر على هذا، وأرجو من الله تعالى أن يضع فيه البركة، فقليل مع البركة خير من كثير لا بركة فيه، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول الصحابي

حكم قول الصحابي Q ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: إن قول الصحابي ليس بحجة؟ A إذا ورد القول عن الصحابي لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه، كإخبار عن علم بالغيب من أمور القبر أو البرزخ. فهذه أمور غيبية سمعية مثلها لا يقوله الصحابي باجتهاد منه، فهذا يسميه العلماء الموقوف لفظاً المرفوع حكماً، وهو حجة؛ لأن الصحابة كان عندهم ورع، ما كانوا يتكلمون في هذه المسائل إلا بدليل، فهذه حالة، وهي إذا كانت المسألة مما تحتاج إلى نص ودليل. الحالة الثانية: أن تكون من المسائل التي فيها رأي واجتهاد، فلا يخلو قول الصحابي من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قوله موافقاً للنص، فحينئذٍ لا إشكال أن قوله حجة، فالأصل في تلك الحجة التي وردت هو السنة التي اعتبرها الصحابي. والحالة الثانية: أن يخالف قوله السنة، ويعتذر له بعدم بلوغ السنة له، أو نسيانه للسنة، كما ورد في فتوى أبي هريرة رضي الله عنه حينما روى غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً وأفتى بالثلاث، فإن العبرة بما روى لا بما أفتى كما يقول العلماء، وهو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة أن الصحابي: إذا روى وخالف قوله ما روى عُمل بما روى لا بما أفتى، ومن أمثلته أيضاً، قول ابن عباس: "إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل"، وقد روى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن بدل دينه فاقتلوه) فإن (مَن) مِن صيغ العموم تشمل الذكر والأنثى، فقوله في هذا مرجوح والعمل بالنص. والله تعالى أعلم.

حكم شراء السيارة بالتقسيط مع زيادة الثمن

حكم شراء السيارة بالتقسيط مع زيادة الثمن Q فضيلة الشيخ أريد أن أشتري سيارة من معرض بالأقساط، ولكن صاحب المعرض لا يبيع السيارة إلا بالدفع الفوري، ولكن قال لي: بإمكانك أن تشتري السيارة بالأقساط عن طريق شركة الراجحي، يقول هنا ملاحظة: معنى الشراء أن يبيع صاحب المعرض سيارة لشركة الراجحي ثم أشتريها من الراجحي بالأقساط بقيمة تزيد عن قيمة الدفع الفوري؟ A أنا عندي قاعدة في الحقيقة وهي أنه إذا سُميت شركة فلا أجيب؛ لأنه أحياناً قد يكون الإنسان فهم نظامها خطأ، فيأتي ويقول: لا يجوز، فيصبح الناس يقولون: لا يجوز التعامل مع شركة كذا. فإذا سأل شخص مرة ثانية فمن أدب السؤال أن يجعل السؤال عاماً، فيقول هناك شركة تقول: كذا وكذا، حتى يكون أدعى؛ لأنه أحياناً قد يفهم الإنسان المعاملة خطأ، وهذا حتى لا نظلم الناس، أو قد يأتي موظف عادي فيفهم منه الشخص خطأ ويأتي ويقول: ذهبت إلى شركة كذا فقالت كذا فهل يجوز، فيقول العالِم: هذا ربا، فيصبح الناس يقولون: شركة كذا تتعامل بالربا، فأنا في الحقيقة أرى أنه يحتاط فيه، وإذا سألت اسأل سؤالاً عاماً؛ لأن الهدف الفائدة فما هناك أي داعي لتسمية شركة كذا أو كذا؛ لأن ذلك أقرب وأبعد عن الأذية وبناء على ذلك نطبق القاعدة ولو الليلة فقط. لكن على العموم إذا كان الإنسان اشترى السيارة وحازها -أي شركة حازت السيارة وقبضتها- فيجوز لك أن تشتريها بعد الحوز، ولا يجوز لك أن تتعاقد مع الشركة قبل الحوز، فلو جئت إلى أي شركة وقلت لها: أنا أريد أن أشتري سيارة كذا، قالوا: نحن نشتريها بخمسين ونقسطها عليك بمائة، فهذا ربا، لماذا؟ لأنها دفعت عنك خمسين مقدمة بمائة مؤجلة، كأنه قال لك: خذ هذه الخمسين وردها مائة وخمسين أو مائتين، فهذا المقصود يعتبر من الربا، فإن الله تعالى يقول: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، أما لو حازتها الشركة وقبضتها وتعاقدت مع شركة أخرى وأصبحت في ملك الشركة الثانية، فيجوز لك أن تأتي وتشتري من الشركة الثانية تقسيطاً أو نقداً، والله تعالى أعلم. وهذه شبهة أخرى وهي: فيما لو تعاقد مع الشركة الوسيطة هذه قبل قبض السلعة وحوزها يعتبر من (بيع المجهول) وأيضاً يعتبر من (ربح ما لم يضمن) ويعتبر من (بيع ما ليس عندك) وكل هذا يعتبر من الآفات، والعيوب، فهذه فيها عدة آفات وليست ربا فقط. أما بيع المجهول بالوصف، فأصح الأقوال فيه: أنه يصح إذا كان وصفه وصفاً صحيحاً، فإذا وصفه -مثلاً- فقال لك: عندي بيت على صفة كذا وكذا وكذا يصح، ولو لم تر البيت، ثم يكون لك الخيار بعد الرؤية إن وافق الصفة لزمك البيع، وإن كان خالف الصفة فإنه في هذه الحالة كان لك خيار الرد؛ لأنه قد خالف الصفة، وهذا مأثور عن قضية عثمان رضي الله عنه مع أبي طلحة، وأصح الأقوال صحة هذا البيع؛ وهو بيع الموصوف في الذمة إذا كان غائباً، والله تعالى أعلم.

حكم القول بضرورة تجديد أصول الفقه الإسلامي

حكم القول بضرورة تجديد أصول الفقه الإسلامي Q بعض أهل العلم المعاصرين يقولون بتجديد أصول الفقه الإسلامي، واستدلوا بقول القائل: (هم رجال ونحن رجال فنأخذ من حيث ما أخذوا) فما قولكم في ذلك؟ A هذا السؤال قولهم: إن أصول الفقه تحتاج إلى تجديد، أو يقولون: إن الشريعة تحتاج إلى تجديد، لا فرق بين القولين، هذا القول ابن أخت خالة القول الأول، على العموم هي كلمة حق أريد بها باطل؛ فإن الشريعة قديمها جديد وجديدها قديم، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وهذا أمر مسلَّم من البدهيات، فإن الله تعالى يقول: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] رضي بهذه الشريعة التي آمن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا إليها منذ أربعة عشر قرناً، رضيها الله عز وجل لنبيه، ورضيها لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، وكذلك رضيها للأمة إلى يومنا هذا، بل إلى قيام الساعة. فلو جاء أي شخص يريد أن يغير في مفاهيمها أو يقلب أصولها وموازينها، ولو كانت عبارته منمقة أو مزوقة فقد حاد عن سواء السبيل -نسأل الله السلامة والعافية-. فلذلك هذه الكلمة كلمة حق أريد بها باطل، فأصول الفقه هي أصول فهم الدليل، وأصول فهم الدليل باقية إلى قيام الساعة، والذي فهم به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نفهم به نحن، وإذا خالف فهمنا فهمهم بمعنى: أنا تركنا موازينهم في الفهم وتركنا موازين السلف الصالح في الفهم فقد ضللنا -والعياذ بالله-، فلذلك إذا كانت هذه مفاهيم خير القرون فهي صاحلة لشر القرون، فقرننا من شر القرون التي قبله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة) كما ثبت في صحيح مسلم. فإذاً الذي صلح لخير القرون من باب أولى أن يصلح لما هو شر منه، هذا الأصل الأول. الأمر الثاني: قولهم: (هم رجال ونحن رجال) نعم هم رجال ونحن رجال، لكن شتان ما بين رجال ورجال، شتان ما بين رجال شهد التنزيل أنهم رجال ورجال هم أشباه الرجال، شتان ما بين رجال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بلسانهم فعايشوا أحوال الكتاب، وعرفوا ناسخه من منسوخه، وحلاله من حرامه، وواجبه وحدوده، عرفوا كل صغير فيه وكبير، ففقهوا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شتان ما بين هؤلاء وما بين من جاء من بعدهم من الخلوف، ووالله لو جئت تزن الواحد منهم بهذه الأمة قد يكون راجحاً لهم، فأين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن بعدهم؟!! فالمقصود: أن هذه كلمة حق أريد بها باطل، وأما قول الإنسان: نحن نأخذ من حيث ما أخذوا. فهذا ضلال، فإن الله تعالى أمرنا بالرجوع إلى العلماء فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، ولو كان كل شخص يذهب إلى الكتاب والسنة فما فائدة العالِم، ولو كان كل شخص يفهم الكتاب والسنة فما فائدة أهل العلم، والله تعالى يقول: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ولم يقل كلهم، وإنما قال منهم قال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ} [النساء:162] {بِاللَّهِ} [النساء:162] وهم الذين يفقهون عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي الرجوع إليهم والفهم عنهم وأخذ السنة عنهم، ومن قال: هم رجال ونحن رجال. فقد ضل سواء السبيل، ونقص من مكانة سلف هذه الأمة، والغالب أن لا يقول ذلك إلا إنسان مفتون، أو من عنده فتنة يريد الدعوة إليها وترويجها، فالله الله في سلف الأمة، والله الله في أولئك العلماء الأفاضل الذين أبقى الله علومهم وبارك في أفهامهم، ولو لم يكن من الدليل على إخلاصهم إلا بقاء علومهم لكفى في ذلك دليلاً. فأوصي إخواني طلاب العلم، بل أوصي كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتأدب مع سلف الأمة، وأن يكون ورعاً فيما يقوله تجاه سلف الأمة، فمن أجلهم وأكرمهم فإنه عبد تقي؛ لأن إجلالهم إجلال لدين الله، وإكرامهم إكرام لدين الله، وانتقاصهم ثلمةٌ في الإسلام -والعياذ بالله-. وقول القائل: هم رجال ونحن رجال. هذه كلمة حق أريد بها باطل، فإن الكلام قد يكون حقاً لكن فيه سوء أدب، وفيه خروج عن الهدي، والهدي الكامل الذي ينبغي للمؤمن أن يلتزمه، ولذلك لو قال قائل: الله رب القردة والحمير والخنازير، كلمته صحيحة ولكن فيها نوع سوء أدب، فلو قال: رب الخلق. لكان أكمل أدباً، وكان أرعى حرمةً لله عز وجل، فليس كل كلام ظاهره أنه مزوق أنه يقبل، فالإنسان يرجع إلى سلف الأمة ويرتبط حاضر الأمة بماضيها، هذا الباب الذي فتح الآن من بعض المتفيهقين الذي يقولون -سامحهم الله وهدانا وإياهم إلى سواء السبيل- يقولون: نعيد النظر، ونريد تجديد الشريعة ومسايرتها للعصر، هذا مما لا ينبغي، ومقالته هذه قد تؤدي -والعياذ بالله- إلى هدم الشريعة ونقضها، لكن قد يكون مقصود البعض مقصوداً حسناً في جانب نستثنيه وهو أن يقال: إننا نريد من يترجم فهم السلف للخلف بأسلوب معاصر، فهذا كلام طيب، وكلام مقبول بمعنى: أن تأخذ الكتب التي عن سلف الأمة وتأتي بأسلوب صحيح سوي يناسب الأفهام، فهذا كلام صحيح، وهو واجب الدعاة وواجب العلماء، والحمد لله هم قائمون به في فتاويهم وتعليمهم ودروسهم. أما لو قيل: نريد أن نغير الفتاوى لتغير الزمان، أو نريد أن نجدد الشريعة، فالله أعلم أنها فتنة وقانا الله وإياكم شرها، فلا خير في إنسان يعرض عن خيار هذه الأمة. ولذلك أقول: ينبغي أن نبدأ من حيث انتهوا ولا نكرر ما فعلوا؛ لأنهم سلف الأمة المختار لها -نسأل الله عز وجل أن يرزقنا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى حبهم، وأن يرزقنا سبيلهم، وأن يرزقنا الحشر في زمرتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم. أما أصحاب المذاهب فالناس فيهم على ثلاث طوائف: طائفة تقول: هؤلاء رجال ونحن رجال كأصحابنا من قبل، وطائفة ثانية تقول: هؤلاء المعصومون، وهؤلاء الذين لا يمكن أن يخرج الحق عنهم، وهؤلاء هؤلاء حتى بلغوا بهم مقاماً قد يصل إلى مقام الأنبياء، وأقوام وسط نزلوا أهل العلم منزلتهم، وأجلوا حملة الدين إجلالهم، ووقروا حملة الشرع توقيرهم، فحفظوا مكانتهم، ونظروا في قولهم، فما وافق الحق قبلوه، وما خالف الحق اعتذروا لصاحبه، وتأدبوا في الاعتذار عنه؛ لأن هؤلاء الذين اختلفوا من سلف الأمة كان هدفهم الحق وكانوا يريدون وجه الله ويريدون الدلالة على الصواب في دين الله لا أقل ولا أكثر، ما كانت عندهم شهوات وأهواء وأغراض، فلذلك ينبغي للإنسان أن يسلك السبيل القيم ديناً قيماً لا اعوجاج فيه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. والمتون الفقهية التي يقرأ الناس فيها على ثلاث طوائف: طائفة قالت: ما نقرأها، هذه أقوال قوم (هم رجال ونحن رجال) وهم كمن قبلهم. وطائفة قالت: هذه الكتب لا نجاوزها ولو كان النص بخلافها -والعياذ بالله-. وطائفة قالت: هذه كتب على أعيننا ورءوسنا ما وافقت كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن خالفت فإننا نظن بأهلها خيراً، ولكن الحق أحب إلينا منهم فيلتزموا صواب ما دل عليه الكتاب والسنة من الصواب، ولا يحيدون عن ذلك قيد شعرة طلباً لمرضاة رب الأرباب فهؤلاء هم السعداء، وانظر في سلف الأمة لن تجد عالماً إلا وجدته قد التزم مذهباً بدليله. انظر إلى علماء الإسلام وفقهائه الأعلام تجدهم قد قرءوا المذاهب بالدليل، ما قرءوها مجردةً عن الدليل ولا تعصبوا، انظر إلى الحافظ ابن عبد البر الإمام الجليل كان على مذهب المالكية رحمة الله عليه ثم صار مجتهداً، ومع ذلك وافق الإمام مالك فيما وافقه وخالف الإمام مالك فيما خالفه، واعتذر عند مخالفته، ومع ذلك ينتسب إلى مذهبه، ويناصر مذهبه إن وافق الحق، ويرده إذا خالف الحق. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في فتاويه: قال أصحابنا، وأجاب أصحابنا، وهو مذهب أصحابنا، من هم أصحابه؟ أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، وبه يقول إمامنا، واحتج إمامنا بكذا وكذا، مراده الإمام أحمد رحمه الله، ولكن قرأ فقهه بالدليل، ثم وافق الإمام أحمد وخالف الإمام أحمد فما نقص ذلك من قدر الإمام أحمد، ولا نقص كذلك من فضل شيخ الإسلام رحمه الله وقدره، وهكذا علماء الإسلام ما تجد أحد إلا وقد قرأ مذهباً لكن بدليله، هذا هو السبيل البين الذي نسأل الله عز وجل أن يقيمنا وإياكم على صراطه، والله تعالى أعلم.

حكم صنع أهل الميت طعاما للضيوف إكراما لهم

حكم صنع أهل الميت طعاماً للضيوف إكراماً لهم Q بعض الناس ربما يحرجون من ضيوفهم يأتي في البيت فيحتاج إلى أن نصنع له طعاماً، وهو لا يصنعه على أنه يعتقد فيه أنه للميت ولكن يصنعه من باب إكرام الضيف، أحياناً يكون البيت مملوءاً بالضيوف فماذا يفعلون؟ A إذا جاء الضيف للإنسان، هو في الأصل والحقيقة أنه ليس هناك حاجة أن يتكلف الناس بالسفر والانتقال والمبالغة، فهذا كله مما لا أصل له، لكن قد ينتقل الأخ والقريب الذي له صلة فيأتيك ضيفاً فتحب أن تكرمه، فلا حرج في ذلك، وهذا نص العلماء رحمة الله عليهم من المتأخرين على أنه لا حرج في إكرام الضيف بقدره أو بحقه، وأما بالنسبة للممنوع أن يتوسع في ذلك وأن يخرج به عن الهدي المعروف، والله تعالى أعلم. سائل: إذا كنا نعرف أنه لأضيافه فندعو المتواجدين ونقول لهم: تعالوا الليلة لعشاء أو غداء عندنا وهو لضيوفه. الشيخ: نعم هو هذا.

كيفية التعزية الشرعية

كيفية التعزية الشرعية Q فضيلة الشيخ فصّل لنا في كيفية التعزية الشرعية، وعن حكم الاجتماع عند أهل الميت، وصفة الطعام منهم ولهم، وأكل الناس عندهم، ومدة التعزية مع ذكر الأدلة ما استطعتم؟ A أولاً: قضية التعزية يقصد منها تسلية المؤمن في مصابه وتعزيته في كربه وبلائه، والمقصود من التعزية طمأنة القلوب حتى لا تنفر، وكذلك تسليتها حتى يعظم لها الأجر عند الله عز وجل. الأمر الثاني: إذا علم هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هديه في ذلك أكمل الهدي، فإنه قال للمرأة المصابة: (مرها فلتصبر ولتحتسب) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار، فلتصبر ولتحتسب) فهذا يدل على أن المقصود من التعزية تثبيت القلوب وطمأنتها ودفع القلق عنها، ويذكره الإنسان بما له عند الله من الأجر حتى يكون لهم مثل أجره. الأمر الثاني: إذا علم أن هذا المقصود، فإن التوسع فيه والخروج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر خارجاً عن هذا الأصل، والذي ينبغي الاقتصار عليه، وأما مسألة الطعام للميت، فإنه ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع لأهل الميت طعاماً، قال عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) ويصنع لأهل الميت خاصة، ويكون ذلك على المعروف وذلك بالخروج عن الإسراف والبذخ، وكذلك دعوة الناس إلى هذه الوليمة، فإن الدعوة إليها مما لا أصل له، فيقتصر على أهل الميت. أما الأمر الثالث: ما يفعله الناس من دعوة الغير إلى هذه الولائم وتكثير الناس عند أهل الميت، فإن هذا خروج عن الهدي وخروج عن السنة، وكره العلماء ذلك ونصوا على بدعية الاجتماع عند أهل الميت خاصةً في هذا الزمان، الذي بلغ ببعضهم أنه يجلس عند أهل الميت أياماً ويحرص على الكلام في فضول الدنيا، تقول له: يا أخي اتق الله ما يصلح أن تتكلم وهؤلاء مصابون، يقول لك: حتى أروح عنهم، وهذا نوع من الخطأ بمكان. سبحان الله!! يعني: أن الإنسان ما يكفيه أنه خارج عن الهدي حتى يأتي بأمور يكون فيها إساءة لأهل الميت؛ لأن الكلام في فضول الدنيا دليل على الغفلة، تروح عنهم بماذا؟ موت الميت هذه نعمة من الله قد تهديهم إلى الله، قد تذكر الغافلين منهم بالله، فتأتي وتزيدهم غفلة على غفلة ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا من البلاء، الناس في العزاء وعند موت أقاربهم يتذكرون، وتكون فرصة للدعوة إلى الله، ويأتي هذا لكي يسهر الليلة الأولى والثانية والثالثة ليس عنده قصد إلا الإتيان بالمضحكات والمسليات، يقول: حتى أروح عنهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! فهذا بلاء {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] نسأل الله عز وجل ألا يطمس لنا ولكم بصيرة. أما الأمر الثالث: فهناك منكر عظيم وهو أن أهل الميت يقومون بصنع الطعام، ويكون ذلك أشد حرمة ومنكراً إذا كان من أموال اليتامى والقاصرين، وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] فهذا إذن وقع لا شك أنه منكر واعتداء على أموال اليتامى، فاليتامى أموالهم تحفظ قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2] فنهى عن أكل مال اليتيم قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:152] فمن حفظ وصية الله يبتعد عن هذا المنكر العظيم. الأمر الأخير الذي ينبغي التنبيه عليه: أن الإنسان إذا جاء ليعزي أخاه يحاول دعوته وتذكيره بالله، إن كان بعيداً عن الله قربه إلى الله وقال له: انظر إلى فلان كان بالأمس أمامك حياً واليوم كأن لم يكن. بينما امرئٌ بين يديك حياً إذ صرت لا تبصر منه شيّا في لحظة واحدة كأن لم يكن، فتذكره بالله، وإن كان طائعاً منيباً خيراً وكان والميت على صلاح تسليه وتثبته. إنا نعزيك لا أنا على ثقة من البقاء ولكن سنة الدين ليس المعزى وإن طال عمراً بعد صاحبه ولا المعزي بباقي إلا إلى حين فذكره بالله وثبته على الصبر على هذه المصيبة، ولله در القائل: أبكيه ثم أقول معتذراً له وفقت حيث تركت ألأم دارِ جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري تسليه وتثبته، فهذا الذي ينبغي تعاطيه، والله تعالى أعلم.

المقصود من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاما)

المقصود من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) Q نريد المزيد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) لعله أن يكون السبب لأنه استشهد معه زيد بن حارثة واستشهد عبد الله بن رواحة وكذلك حمزة وكثير من الصحابة ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) لأن هذا الحديث احتج به كثير من الناس حتى الآن يأتوا بالذبائح ونحن نصنعه في المطابخ، فلعلك تعطينا المزيد جزاك الله خيرا؟ A هذا الحديث الناس فيه على طوائف بين إفراط وتفريط، قوم قالوا: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) فأخذت الذبائح تنهال على أهل الميت، وأصبح بيت الميت أشبه ببيت فيه وليمة عرس، وهؤلاء القوم قد أفرطوا في ذلك وبالغوا وجاوزا هدي الشرع. والقسم الثاني فرطوا وقالوا: أبداً ما نصنع شيئاً، وتراهم يقصرون في حق أهل الميت، نعم وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) وهذا قاله وخصه؛ لأنه كان من قرابته عليه الصلاة والسلام، فكانت سنة للأمة وليست خاصة بـ جعفر؛ لأنه لو أخذ بهذه القاعدة لعم الخبر على الكل، لو أخذ بهذه القاعدة لتركت كثير من السنن، ولقيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك في غير هذا، ألا ترى في تعزية ابنه إبراهيم حينما قال: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ ... ) ما قال هذا الكلمة حينما بلغه استشهاد كثير من الصحابة، فالمقصود أنه لا يقال بالتخصيص، فقوله عليه الصلاة والسلام عند ورود الحادثة المعينة لا يقتضي التخصيص، والذي نص عليه العلماء رحمهم الله تعميم هذه السنة؛ لأن العلة المذكورة في النص تقتضي التعميم؛ لأنه قال: (فقد جاءهم ما يشغلهم) وهذه العلة يستوي فيها آل جعفر وغيرهم. فنقول: إن السنة باقية ولكن في حدود الشرع وهذا أمر مجرب، تجد الإنسان تأتيه الفاجعة -مثلاً- قبل صلاة الظهر، يموت الميت عنده، وتراه في شغل وحزن وأهله في حزن حينما يأتي جاره بالطعام أو يأتي قريبه بالطعام يحس أن إخوانه معه وقرابته والأمة بأكملها، وهذه أمور لها مقاصد شرعية نبيلة يتعزى ببعض مصابه، لكن لو جاع يومه لربما بلغ ما به ما بلغ ولاجتمعت عليه مصيبتان: ظاهرة وباطنة، فالمقصود: أنه ليس المقصود الطعام بذاته ولكن المقصود تأليف القلوب والربط بين عباد الله وتآلف المجتمع، فالذي نص العلماء عليه بقاء هذه السنة، ولا يقال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم خصها فالعلة عامة، ويبقى هذا على الأصل الذي قررناه، صحيح أن الناس توسعوا وأفرطوا وزادوا فهذا أمر منكر ليس له أصل في الشرع، والله تعالى أعلم.

العلاقة بين قيام الليل ورضا الله

العلاقة بين قيام الليل ورضا الله Q فضيلة الشيخ أخبركم بأنني أحبكم في الله، وسؤالي: هو أنني كلما حاولت قيام الليل لا أستطيع ذلك هل هذا يدل على عدم رضا الله عني وجزاكم الله خيراً؟ A أحبك الله الذي أحببتني فيه، أولاً أشهد الله على حبكم جميعاً فيه، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته. إن الإنسان إذا لم يوفقه الله لقيام الليل فإن ذلك لا يدل على عدم رضا الله عز وجل عنه، وإنما هو نقص إذا كان على استقامة في بقية أموره، فإن هذا يدل على نقص الرضا وليس على نفي الرضا، وفرقٌ بين نقصان الرضا وفقد الرضا، فإن الناس في رضوان الله على مراتب -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم في أعلاها وأسناها- فإذا كان الإنسان محافظاً على الفرائض والنوافل والطاعات سباقاً إليها على أكمل ما يكون فهو أكمل الناس رضا، ومن نقص عن ذلك فهو أنقص، والله تعالى أعلم.

وصية للوالدين

وصية للوالدين للأبناء على الوالدين حقوق أوصى بها الشارع الحكيم، فهما مسئولان عن تربيتهم وتنشئتهم، وكذلك عن تصرفاتهم وأخلاقهم، وغير ذلك من الأمور المناطة بالوالدين. وإذا قصَّر الوالدان في حقوق الأولاد، فقد يكون ذلك التقصير سبباً في عقوق الأولاد آباءهم وأمهاتهم، فينبغي للآباء والأمهات إعطاء الأولاد حقوقهم التي أمر الشارع بها؛ حتى يكون النشء طيباً كريماً يؤدي واجباته وحقوقه في إطار المجتمع المسلم.

وصية للآباء والأمهات

وصية للآباء والأمهات الحمد لله الحليم الغفور {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تنفع قائلها يوم البعث والنشور، يوم يُبَعْثَر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11] وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث بالهدى والنور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا في الحق نِعْم الشموس ونعم البدور، وعلى جميع من سار على نهجهم إلى يوم الهول والبعث والنشور. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله: هذه وصيةٌ إلى والدَين؛ إلى أبوَين حليمَين كريمَين. إلى أبٍ يخاف الله ويتقيه، ويعلم أنه مسئول بين يديه وملاقيه. وإلى أمٍ تخاف ربها، وترعى صغيرها، وتكرم بعلها. إلى أم صالحة مصلحة، هادية مهدية، ما أمست ولا أصبحت إلا هدت ودلت وأرشدت! وصيةٌ إلى الوالدَين. إلى القلبَين الغافلَين النائمَين السادرَين. إلى من أضاع حقوق الأبناء والبنات، وترك لهم الحبل على الغارب في الملهيات والمغريات. إلى من ترك القلوب البريئة ترتع في المعاصي والشهوات، فذاقت جحيم المعاصي والمنكرات، ورتعت في الحدود والمحرمات، وبُليت بجحيم المسكرات والمخدرات. إلى من أضاع حقوقها، ولم يرحم صغيرها، ولم يكرم كبيرها. إلى من أبكى الصغير، وأهان الكبير. إلى من حَمَّل الأبناء والبنات العناء، وخلَّفهم وراء ظهره في تضرع واستكانة وبكاء. إلى من لا يخاف الله ولا يتقيه، ولا يعلم أنه ملاقيه. إلى تلك القلوب القاسية. إلى تلك النفوس الظالمة الناسية. إلى من أضاع حقوق الأبناء والبنات، فتركهم يرتعون في الملهيات والمغريات، وحَمَل بين يدي الله المسئوليات والتبِعات، يوم ينصب للآخرة موازينها، وينشر لها دواوينها، يوم يجادلُ الأمَّ رضيعُها، يوم يجادل الأمَّ جنينُها! وصيةٌ للآباء والأمهات عن حقوق الأبناء والبنات، وهل قامت بيوت المسلمين إلا على رعاية الحقوق والذمة والدين؟! وهل قامت بيوت المسلمين إلا على التنشئة الصالحة التي ترضي الله رب العالمين؟! وصيةٌ بحقوق الأبناء والبنات، قبل أن يَدْهَمَ الممات، وقبل أن يصير العبد إلى الرفات، وقبل أن يحمل بين يدي الله المسئوليات والتبِعات! ألا وإن من أجلِّ الوصايا، وأعظم الحقوق التي تُدفع بها الهموم والغموم والرزايا: أن تعلم أن الله أنْعَمَ وتَفَضَّلَ عليك بالولد وتَكَرَّم، فكان من أحق الحقوق عليك أن تشكره ولا تكفره، وألاَّ تنساه وأن تذكره، وأن تَحْمَدَ نعمة الله ومنته إذ متع عينيك، وجمَّل الولد في ناظرَيك يوم صاحت صيحتُه، يوم رأيتَه بشراً سوياً يدب على وجه الأرض مرضياً. أيها الأحبة في الله: إن من آكد الحقوق والواجبات وأعظم الأمانات والمسئوليات التي يحملها الآباء، وتحملها الأمهات عن الأبناء والبنات: تنشئتهم على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: لا خير في الأبناء ولا في البنات، ولا خير في الأولاد ولا في الأحفاد إلا إذا أقمتَهم على محبة الله رب العباد، فلن تجني منهم مالاً ولا حالاً، لن تجني منهم إلا صلاحاً يرضي الله عنهم، أقِمْهم على محبة الله ومرضاتهِ، عوِّدهم على العبودية والطاعة، ومرهم بالصلاة والزكاة، ونشِّئهم على خوف الله وتقواه؛ فإن ذلك من أعظم ما تثقَّل به الموازين، وتبيَّض به الصحائف والدواوين.

حقوق الأبناء على الآباء والأمهات

حقوق الأبناء على الآباء والأمهات ألا وإن للأولاد على الآباء والأمهات حقوقاً:

العفو عن التقصير وذلك في حدود

العفو عن التقصير وذلك في حدود ألا وإن من الحقوق والواجبات على الآباء والأمهات، ومن الوصايا للوالدين: أنه إذا قصر الأبناء والبنات أن يعفوا ويصفحوا؛ فإن الله جل جلاله قد وصَّى من فوق سبع سماواتٍ بالعفو والصفح عن الأبناء والبنات. إن لهم الزلة والهفوة والخطيئة؛ فطوبى لمن قابل الإساءة بالإحسان، وطوبى لمن قابل السيئة بالعفو والغفران؛ فإن الله وعد على ذلك بالأجر العظيم، والثواب الكريم، ما لم يكن عفوك حاملاً لهم على الجرأة في حدود الله ومحارمه. كن ليناً بدون ضعف، وشديداً بدون عنف، ربِّهم على طاعة الله ومحبته، فإن أساءوا وظلموا واحتَمَلَتِ الإساءةُ العفوَ فاشْتَرِ رحمة الله بالعفو عنهم، فهم أحق الناس بعفوك، وهم أحق الناس بحِلمك ورحمتك، يوم ينظر إليك الصبي وتنظر إليك الصبية بعطف الحنان، ينتظران منك الصفح والغفران؛ فبادرهما بذلك؛ فإنه مما يثقُل به الميزان؛ فإن الله يرحم من يرحم عباده. وإياك والسطوات، والشدة على الأبناء والبنات، فلأن دعتك قدرتك على الإساءة إليهم، فإن الله قادر عليك يوم تظلمهم. اعلم أن عافيتك من الله، وأن حولك وقوتك بين يدي الله، فالله الله في زلات لسانك، والله الله في زلات جوارحك وأركانك يوم تُرْسِل لليد عنانَها، فتضرب الصبي والصبية دون خوف من الله أو مراعاة للحقوق الشرعية؛ فإن الله يسألك عن ضربهم. ولئن كفَأَتِ الأمُّ صبيَّها فرَبَّتَتْ على ظهره، فإن الله يسألها يوم القيامة عن تربيتها؛ فاتقِ الله في الأبناء والبنات، إن ضعفهم لا يدعوك إلى القوة عليهم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أمراً من أموره، ويبث إليه حزناً وشجناً من أحزانه وأشجانه فقال: (يا رسول الله! إن لي أرقاء أو لي موالي آمرهم فيعصونني؛ فأضربهم وأشتمهم وألعنهم، فما تأمرني فيهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة نُظِر في أمرك لهم وعصيانهم لك، ثم أُخِذْتَ بذلك، فتولَّى الرجل يبكي وقال: أشهدك أنهم أحرار لله جل جلاله). فالله الله في الأبناء والبنات! إن الله يسألك عن ضربهم، إن الله يسألك عن دموعهم وعبراتهم، إن الله يسألك عن إهانتهم. إن الله يسألك يوم يُنْشر لك الديوان بزلات اللسان، وبتلك الكلمات الجارحات، والعبارات المؤذيات القاسيات؛ يوم أطلقتها، ويوم لفظتَ بها فلم تعبأ بها، ولم تراقب الله عز وجل يوم لفظتَها. فاتقِ الله في ضعفهم، وخذهم بالمودة والإحسان، وكن حبيباً مهاباً، ولا تكن فظاً غليظاً، فإن العبد إذا عامل الناسَ بالإحسان، وقابل الإساءة بالغفران، فإن الله يصفح عنه، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

ردعهم عن حدود الله

ردعهم عن حدود الله ألا وإن من أجلِّ الحقوق والواجبات التي تجب على الآباء والأمهات: ردعهم عن حدود الله والفواحش والمنكرات:- يوم أن يزل الابن، وتزل البنت في كلامها أو مشيها أو سلوكها، فإن الله سائلك -أيها الأب- عن حقها، فأقم حق الله عليها. إن بيوت المسلمين لا تقوم على الاستهتار والاستخفاف بحدود الله الواحد القهار، فهي تحتاج أباً يحفظ حدود الله، ويردع من يجاوزها إلى محارم الله. فخذهم -أيها الأب- بما أمر الله حينما تردعهم عن حدود الله ومحارمه، وإياك والعواطف التي تمنعك من أن تقول كلمة الحق لهم، إياك -والعواطف- أن تحول بينك وبين أمرهم بما أمر الله، ونهيهم عما نهى الله.

تربيتهم على أداء الحقوق والواجبات

تربيتهم على أداء الحقوق والواجبات ألا وإن من حقوق الأبناء والبنات: تعويدهم وتربيتهم وتنشئتهم على أداء الحقوق والواجبات:- عوِّدهم -أيها الأب- على صلة الأرحام، عوِّدهم على صلة الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وخذهم إلى ذلك، فإنه من أجلِّ الطاعات والقُرُبات، فما ربيتَ صبياً على صلة القرابة إلا كَتَب الله لك أجره، فلا رَفَع قدماً يَصِلها، ولا تكلم بكلمة يبرها إلا أُجِرْتَ عليها. عوِّدهم على خصال الخير، وطاعة الله، والبر: مِن إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وغير ذلك من موجبات دار السلام. عوِّدهم على الخصال الكريمة حينما تنشئهم على توقير الصغير وإجلال الكبير، فليس منا من لم يوقر كبيرنا، ولم يرحم صغيرنا، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا -أي: ليس على هدينا ولا على شريعتنا الكاملة- مَن لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا). عوِّدهم على حب المساكين، والإحسان إلى الأيتام والأرامل والمحتاجين، فوالله ما مَدَّ كفاً يحسن إليهم بها إلا أُجِرْت عليها، وكان لك مثل أجرها. عوِّدهم على الخيرات، وحسن الظن بالمسلمين والمسلمات، فإن ذلك من أجلِّ القربات والطاعات، فلا يَسْمع الصبي منك كلمة تغتاب بها مسلماً، أو تنتهك بها عرض مسلم؛ فإن الله يسألك عن تلك القدوة السيئة إذ تَبِعَك في ذلك مما لا يرضي الله جل جلاله.

تعليمهم الصلاة

تعليمهم الصلاة ألا وإن من حقوق الأبناء والبنات إذا بلغوا وَعْيَ الخطاب عن الله جل وعلا أن يؤمروا بالصلاة:- قال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) إذا بلغ الصبي سبع سنين، فأمُرْه -أيها الأب- بالصلاة، وطاعة الله رب العالمين؛ فذلك من حقوق الله في البنات والبنين. مُرْهم بالصلاة والزكاة، وأمرهم بالاستجابة لله جل في علاه، وخذهم إلى المساجد، وتَرْجِم ذلك الأمر بالعمل، فكن أسبقهم إلى تلك الطاعة بكل خوفٍ من الله ووجل. فادعُ الأبناء والبنات إلى الصلاة وكن لهم القدوة الصالحة في ذلك، فحينما تأمرهم بطاعة الله أتْبِعِ القولَ العمل؛ فإن الله يمقت مَن خالف قولُه عملَه. فإياك ثم إياك وإضاعة الصلاة، وإضاعة الحقوق والزكاة! فإن ذلك من أعظم المسئولية بين يدي الله، فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن أول ما يُنْظَر من أمر العبد: الصلاة، فإن صلحت نُظِر في سائر عمله، وإن فسدت وضيَّعها فهو لِمَا سواها أضيع). فطوبى لمن رَبَّى على هذا الحق العظيم، ونشَّأ الأبناء والبنات على المحافظة على الصلاة لله رب العالمين. مُرْهم بالصلاة في أول أوقاتها بشرائطها، وبيِّن لهم أركانها، وبيِّن لهم أحكامها، فوالله ما من صبي ولا صبية علمته شيئاً من كتاب الله أو الطهارة للطاعة والصلاة إلا أُجِرْتَ على ذلك، ولو علَّمته الوضوء فوالله ما أصاب ذلك العضو ماءٌ من الوضوء إلا أُجِرْتَ عليه الدهر كله، ولا علَّمته كتاب الله ولا الفاتحة يقرؤها في الصلاة فلَفَظَها لسانه إلا أُجِرْتَ مثل أجره من الله. فأنْعَمْ بذلك عيناً حينما يَعْظُمُ أجرك بأمرهم بطاعة الله ومحبته.

أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتنشئتهم على ذلك

أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتنشئتهم على ذلك ألا وإن من الحقوق والواجبات التي تجب على الآباء والأمهات تجاه الأبناء والبنات: تنشئتهم على رعاية حدود الله، والبعد عن الفواحش والمنكرات:- إن قلوب الأبناء والبنات قلوب بريئة، ينبغي أن تُغَذَّى بخوف الله وخشيته، حتى يكون العبد أعف ما يكون عن حدود الله ومحارمه. عوِّدهم -أيها الأب- على العفة والحياء، والخوف من الله فاطر الأرض والسماء. عوِّدهم على البعد عن الفواحش والمنكرات، وعلى العفة عن المعاصي والسيئات، فإن ذلك من أعظم وأجلِّ القُرُبات يوم تخلِّف وراء ظهرك ابْناً يخاف حدود الله ومحارمه. واعلم أنك لا تفتح على الابن والبنت باب شهوة أو باب فتنة إلا حُمِّلْتَ وزرها بين يدي الله، واللهِ ما من ساعة ولا لحظة تَمَتَّع فيها الأبناء والبنات بملهيات أو مغريات إلا حُمِّلْتَ بين يدي الله ذنوبَها، وعُرضْتَ بين يدي الله بأوزارها. فاتقِ الله عز وجل في تلك القلوب البريئة، خاصةً قلوب الصغار التي هي أوعى ما تكون للخير والشر، اتقِ الله في تلك القلوب البريئة أن تفتح عليها أبواب الملهيات والمغريات، فتجتالهم عن طاعة الله ومرضاته، فتكون بذلك قد فتحت لهم سبيل الحرب والعدوان على حدود الله ومعاصيه، اتقِ الله في كلِّ ما تجلبه، وكلِّ ما تُمَكِّن منه الأبناء والبنات، فإن الله سائلك ومحاسبك عن كل ما تسبَّبْتَه فيما يجلب عليهم من السوء والشر في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

بذل الحنان والمودة لهم

بذل الحنان والمودة لهم ألا وإن من حقوقهم في التربية: بذل الحنان، والمودة، والإحسان:- فـ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] أحسني -أيتها الأم- إلى ذلك الصبي، وأنعمي عينَه بكلمة طيبة، وحنانٍ وبِر، وأدخلي السرور عليه، فمن سرَّه سرَّه الله يوم المساءة، فأنعمي عينه بالإحسان لا بالإساءة.

حسن الاختيار لبعضهما

حسن الاختيار لبعضهما أول هذه الحقوق: أن يُحْسِن الأبُ وتُحْسِن الأمُّ الاختيار:- إن للولد عليكما -أيها الوالدان- حقاً عظيماً: أن تختار -أيها الأب- أمَّه ذات الدين الكريمة الأمينة التي تخاف الله وتتقيه، وتعلم علم اليقين أن العبد ملاقيه. أن تختار له أمَّاً كريمة، لا خَبَّةً ولا لئيمة؛ تختارها لا لجمالها، ولا لمالها، ولا لحسبها، ولا لنسبها؛ ولكن لطاعةِ اللهِ ربِّها. أن تختار للولد تلك اليد الأمينة التي إن غِبْتَ عنها حفظتك، وإن نظرتَ إليها سرَّتك، وإن أمرتها أطاعتك. أن تختار الصالحة المصلحة، الهادية المهدية، التي تسير على السيرة المرضية. وأن تختاري -أيتها الأمُّ- لابنكِ ذلك الأبَ الكريم، فاختاريه دَيِّناً، لا صعباً ولا ليناً، واختاريه عبداً مطيعاً مستجيباً لله سميعاً، واختاريه على حب الله وغشيان مراضيه. فإذا اختارت الأم بعلها، واختار الزوج زوجته، فإن الله سائلهما. فأول حقوق الولد عليك -أيها الأب-: أن تحسن الاختيار لأمه، فكم من أم نشَّأت وربَّت وأصلحت لَمَّا أحسن البَعْل اختيارها! وكم من أم أفسدت وأشقت وأضلت حينما أساء الزوج اختيارها! فالله الله في اختيار الأزواج والزوجات. إن اختيار الآباء والأمهات مسئولية عظيمة على الأزواج والزوجات؛ فليتق العبد بارئه، وليعلم أنه ملاقيه وسائله عن اختياره لزوجه وولده.

الدعاء له بالصلاح

الدعاء له بالصلاح الوصية الثانية: إذا أنعم الله عليكَ بالولد، وصاح صيحته فاحمَد الله جل جلاله، واشكره على نعمه وآلائه:- إذ متع الله ناظريك؛ وأخْرَجَ لك بشراً سوياً، فاضرع إلى الله بصالح الدعوات، وصادق المناجاة والابتهالات، أن يجعله عبداً مطيعاً، وقل: ربِّ أسألك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]. فلقد ابتهل المتقون، ونادى العباد الصالحون إلهَ الكون أن يرزقهم الذرية الطيبة، فذكر الله عن نبيٍّ من أنبيائه، وحبيبٍ من أحبابه وأصفيائه أنه سأله الولد الصالح: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]. فسَلِ اللهَ خيرَ الولد، فكم من ولدٍ أنعم الله به الوالدين! وكم من ولدٍ أشقى الله به الوالدين! فاسأل الله خيرَه، واستعذ به من شره، واسأله أن يكون نعم الخليفة لك على طاعة الله ومحبته، كما قال الله عن حبيبه: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:6].

تنشئتهم تنشئة صحيحة والقيام على حقوقهم وواجباتهم

تنشئتهم تنشئة صحيحة والقيام على حقوقهم وواجباتهم أحبتي في الله: الوصية الثالثة: تنشئة الأبناء، والقيام على حقوقهم وواجباتهم على الوجه الذي يرضي الله. إن للأولاد على الآباء والأمهات حقوقاً، فالله سائل الآباء والأمهات عن حقوق الأبناء والبنات. فعلى الأم حق عظيم: أن تربي الابن بعد أن أنعم الله عليها بوجوده، وأن تطعمه، وتسقيه، وتتفقَّده في حوائجه حتى يبلغ السن التي يعي فيها أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. أيتها الأم المؤمنة: إن الله يسألكِ عن هذا الابن عن طعامه وشرابه، وسقائه ودوائه وكسائه، حتى إن الأم لو فرَّطت في طعام صبيها وتأخرت، فالله سائلها يوم القيامة: لِمَ ضيعت؟ وأن تعلم الأم أن هذا الجنين وأن هذا الرضيع سيكون لها خصماً بين يدي الله عز وجل حتى عن طعامه وشرابه، وحتى عن الإناء لو فرطت وتساهلت فيه فتسبَّب في سقمه ومرضه، أو تسبب في وفاته وموته، فحملت بين يدي الله إثماً. فينبغي على المؤمنة أن تعلم أن الله حمَّلها أمانة عظيمة، فكما أنها مطالبة بالتنشئة على الدِّين، كذلك هي مطالبة بأداء حقوق الدنيا على الوجه الذي يرضي الله، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك) فكان هذا من كبائر الذنوب، وقد عرض الله مشاهدَ الآخرة، فأخبر عن الشمس إذا كورت، وعن الموءودة أنها تُسأل لماذا قُتِلَت؟! وبأي ذنب وُئِدَت؟! فينبغي على الأم الصالحة أن تعلم أن الله يسألها عن طعام صبيها وشرابه، إنَّ تساهُل الأمهات عن الصراخ والصيحات من تلك النفوس البريئات، يوم جاعت وظمئت وهنَّ مشتغلات بفضول الحديث والترهات، كل ذلك مسئولة عنه بين يدي الله فاطر الأرض والسماوات. وأن تحفظ للصبي طعامه، وسقاءه وشرابه، وكساءه، ودواءه. وأن تترسم في ذلك حب الله ومرضاته، فترفع الكف لسقائه، وترفع الكف لطعامه، وتحتسب الأجر عند الله، قال صلى الله عليه وسلم يبين لنا عظيم الأجور عند الله لنا: (حتى اللقمة يضعها الرجل في فيّ امرأته يكون له بها أجر). فاتقي الله في هذا الطفل الضعيف، فإنها ذرية ضعيفة، ولقد وصفها الله جل وعلا بالضعف حتى تعطف عليها قلوب المؤمنين والمؤمنات.

وصايا متفرقة للوالدين

وصايا متفرقة للوالدين وصيةٌ إلى الوالدين يوم يَكْفُرُ الأبناءُ والبنات الفضائلَ، ويوم يقف الأب عند المشيب والكِبَر ينتظر من الابن البر والإحسان؛ فإذا به يفاجأ بالتمرد والعصيان. وصيةٌ إلى الوالدين يوم وقفت الأم عند مشيبها وضعفها وكِبَرها تنتظر بر ابنتها، فخابت الظنون، وتغيرت الأحوال، وسبحان الله إله الكون! إذا وقفتَ هذه المواقف فاعلم أن الله هو الذي يأجرك، وأن الله هو الذي يعوض خيرك وبرك، واعلم أن ما كان منك من حسنات؛ فإنه لا يضيع عند الله فاطر الأرض والسماوات، فاحتسب الأجر عند الله يوم تجدهم كُفَّاراً للجميل يوم تجدهم كُفَّاراً للنعمة والفضل، واسألِ الله أن يجبر كَسْرَك، وأن يُعْظِم أجرك، وإياك وزلات اللسان التي تُذْهِبُ بها ما سَطَّرْتَ من الخير والأجور والإحسان. وصيةٌ للوالدين إذا فُجع الأب وفُجعت الأم بتلك الفواجع، يوم يُقْرَع العبد بتلك القوارع، فإن الحياة فانية، وهي ذاهبة زائلة، فإذا ربَّى الأب ابنه والأم ابنتها، وجاءت عند مشيبها وكِبَرها بعد أن متع الله ناظرَيها ومتع سمعَيها بسماع تلك الصيحات، إذا بها تفاجأ بابنتها في عداد الأموات، وقد صارت إلى رفات. وصيةٌ إذا نَزَلت الفواجع، وقرعت تلك القوارع أن يقول العبد ما يرضي الله، وأن يحتسب الثواب عند الله، فكلنا إلى الله صائرون، وكلنا إليه منقلبون، والله جل جلاله منه الخلف وفيه العوض من كل فائت. فاحتسبي -أيتها الأم- المصاب، وارجي من الله حسن العاقبة وحسن الثواب، واحتسبي عند الله أجرها يوم فُجِعتِ بتلك المصيبة التي سمعتِها؛ فإن في الجنة بيت الحمد لمن صبر على المصاب، واسترجع وأناب، ومن الله حُسْن الأجر والثواب. وصيةٌ إلى الوالدين في خضم هذه الفتن والمحن بالمحافظة على الأبناء والبنات، وعدم الغفلة عنهم بكثرة الخروج والزيارات، فإن كثيراً من الأمهات قد أغفلن حقوق الأبناء والبنات، وأصبحت الأم لا تحفظ صغيرها، ولا ترعى طفلها، فهي كثيرة الخروج والولوج، وأصبح الأب غائباً في تجارته، وفي شئونه وأعماله، حتى ضاع أبناء المسلمين، وحرموا الخير مِن فَقد الرعاية من الآباء والأمهات. فاتقِ الله عز وجل -أيها الأب- في أبنائك وبناتك. إن حقوق الأبناء والبنات مقدمة على الأموال والتجارات. إن حقوق الأبناء والبنات مقدمة على الزيارات والمناسبات. إن حقوق الأبناء والبنات مقدمة على جميع ذلك؛ لأنها من الفرائض والواجبات. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما وهب من نعمة الولد عَوناً على طاعته ومحبته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية معاملة الولد العاصي

كيفية معاملة الولد العاصي Q أنا قصَّرت في تربية ولدي، فقد ربيته على بعض المعاصي؛ ولكن لم أكن أعلم بأن هذه الأشياء محرمة؛ ولكني عرفتُ الآن أن هذه الأمور محرمة، وقد تبتُ ورجعتُ إلى الله؛ ولكن ابني قد بلغ السابعة عشرة من سِنِّه، وصار لا يطاوعني في ترك هذه الأمور، فهل أنا آثمة في هذا الأمر؟ فإن قلبي يتقطع عليه، وما أدري ماذا أفعل، ولا كيف أصلحه، وبارك الله فيك! A أسأل الله أن يقبل منا ومنك التوبة والإنابة، وأسأله أن يمنَّ على الولد بصلاح حاله وتوبته واستقامته. ابذلي ما تستطيعين من التذكير والتوجيه، فإن ذلك يكون سبباً -بإذن الله عز وجل- في غفران الله لزلتك وخطيئتك، ذكِّريه وانصحيه في الأمور التي كنتِ سبباً في وقوعه فيها من المحارم، وبيِّني له أنها لا تجوز، ولعلَّ الله أن يمنَّ علينا وعليك بالعفو والمغفرة. والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة على من مات على كبيرة من الكبائر

حكم الصلاة على من مات على كبيرة من الكبائر Q هل يجوز الصلاة على مَن يموت بسبب المخدرات؟ وهل يجوز تعزية أهله على ذلك؟ A مَن مات بسبب المخدرات فإنه يعتبر مسلماً مرتكباً لكبيرة من الكبائر، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يُصَلَّى على مرتكب الكبيرة، ويدعى له ويُتَرَحَّم عليه، وهو أحوج ما يكون إلى الدعاء؛ ولكن استحب العلماء ألاَّ يصلي عليه أهلُ الفضل، أي: أن الإمام العام لا يصلي على من مات بسبب المخدرات حتى يزجُرَ غيره، وهذا من باب التعزير، أما إذا توفي فهو من المسلمين، وله ما للمسلمين من الدعاء والتَّرَحُّم، فالله ابتلاه، وهذا شيء ابتلاه الله جل وعلا به، فاسأل الله له العفو والمغفرة، فلعل دعاءك له وترحُّمَك عليه يكون سبباً في رحمة الله به، فيكون ذلك من الخير الذي يسديه المسلم لأخيه المسلم، وإذا كان لا يُصَلَّى إلا على المطيعين، ولا يُصَلَّى إلا على الأبرار المتقين فأين رحمة الله التي وَسِعت عباده أجمعين؟! والله يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53]. فاستغفِرْ له وترحَّمْ عليه؛ فإن الله جل وعلا نفع المؤمنين بدعاء إخوانهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] وكذلك يُعَزَّى أهلُه، فتُعَزِّي أهلَه وتسأل الله جل وعلا أن يُعَظِّم لهم الأجر في فَقده، وكونه أساء فإن ذلك لا يمنع حق قرابته مِن صلتهم؛ فإنهم مفجوعون، وقد يكونون على استقامة وخير وطاعة وبر؛ فمِثْلُهم يُعَزَّى، ولا يُضَرُّ أهلُه كونه على معصية الله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] والله تعالى لا يُحَمِّلهم ذنبه، ولا يُحَمِّلهم تَبِعَتَه ومسئوليته. والله تعالى أعلم.

نصيحة لشاب مفرط في حق والديه

نصيحة لشاب مفرِّط في حق والديه Q ما نصيحتك يا شيخ لشاب مفرِّط في حق والديه؟ A أوصيك -أيها الشاب- ونفسي بتقوى الله، وأن تعلم أن الله جل وعلا إذْ أنعم عليك بحياة الوالدين فقد يسلبك هذه النعمة عاجلاً أو آجلا، فاغتنم وجود الوالدين، فكم -والله- من قلوب تفطَّرت على فَقد الأب والأم! إن الله جعل لك بابين من أبواب الجنة، وبابين من أبواب الرحمة، فاغتنم وجود الوالدين، وأقبِلْ بجدٍّ وإخلاص ومثابرة على إدخال السرور عليهما، وحسن البر بهما، واللطف معهما، ولعلَّ الله جل وعلا أن يُخْرِج من ألسنتهما دعوة صالحة تكون سبباً في سعادتك في دينِك ودنياك وآخرتِك. فاحتسب عند الله الأجر في إدخال السرور عليهما، وأحسن إليهما ولا تسئهما، وأكرمهما ولا تهنهما، وارفعهما ولا تضعهما، وكن على أحسن ما يكون الابن مع والديه. وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن بر، وأن يعيذنا وإياكم من العقوق. وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].

كيفية أخذ الأبناء لزيارة أقاربهم العصاة

كيفية أخذ الأبناء لزيارة أقاربهم العصاة Q ذكرتُم -جزاكم الله خيراً- أنه يَجب تعويد الأولاد على صلة الأقارب، فماذا ترون إذا كان هؤلاء الأقارب لا يلتزمون بتعاليم الدين الإسلامي في العادات والتقاليد، وقد يفعلون ما هو خَطَرٌ على تربية الأولاد من الأقوال والأفعال؟ A هذا فيه تفصيل! عليك أن تأخذ مِن الأبناء مَن عنده رشد وفَهم وتزور به القرابة، ثم تنبِّهه إلى أن هذا الأمر خطأ، وأنه لا يجوز، فتؤدي للقرابة حقوقهم، ولله عز وجل حقه، فالمنكر تَعْلَم أنه منكر، والابن تبيِّن له أن هذا لا يجوز، هذا أفضل من أمرك للابن أن لا يزورهم، بل زُرْهم بابنك، وعلِّم الابن أن هذا منكر لا يجوز، وأن هذا حرام، وانصح القرابة، وذكِّرهم بالله جل وعلا، فإن كانت هذه المنكرات تؤثِّر على الذرية؛ فلا يأخذ الإنسان الذرية الضعيفة، وربما يقتصر على الزيارة في حدودٍ لا يقع فيها الأبناء والبنات والذرية في حدود الله ومعاصيه. والله تعالى أعلم.

كيفية التعامل مع الوالد الذي يتعامل بالربا

كيفية التعامل مع الوالد الذي يتعامل بالربا Q والدي يتعامل بالربا، وقد نصحتُه مرَّاتٍ عديدة، ويدَّعي أنه يتعامل بالمضاربة؛ ولكنها ليست الحقيقة، وقد قمتُ بإرسال الرسائل إليه؛ ولكن دون جدوى، فكيف أتعامل معه؟ أرشدني أرشدك الله! A إذا قال الوالد إنه يتعامل بالمضاربة فاسأل عن ذلك، وتحرَّ عنه، فإن كان صواباً فلا يحل لك أن تتهمه بالربا، وإن كان كذباً فإنه لا يجوز الأكل من مال الربا. والله تعالى أعلم.

ضرورة عدم إظهار الخصومات التي تقع بين الزوجين أمام الأبناء

ضرورة عدم إظهار الخصومات التي تقع بين الزوجين أمام الأبناء Q صارت بين زوجٍ وزوجةٍ خصومةٌ أدَّت إلى تَفارُقِ الزوجين دون طلاق، وتَهاجُرِهِما، وتضرَّرَ من ذلك البنون والبنات، علماً بأن هذه الزوجة كانت تحاول جاهدة أن تبر زوجها؛ لكنها لم تُطق يا فضيلة الشيخ، فما نصيحتك؟ وما موعظتك لهذه الأم؟ عسى الله أن ينفعها بها! A على الأم أن تتقي الله، وأن تحتسب الأجر عند الله في الصبر على أذية زوجها وبَعلها؛ خاصة إذا كان عندها أولاد، وكان لها منه أبناء وبنات؛ فإنه ينبغي عليها أن تتحمل الأذى، وأن تصبر على ما يكون من البلوى، فإن الله يأجرها على حسن هذه النية، ولو كان الأمر فيه ما فيه من الأذية والمهانة فإن الله يكرمها، ويعوضها ويخلف عليها، ويأجرها، فهذه من الأمور التي ينبغي أن تُوصَى بها المؤمنة إذا بُلِيت بالزوج وأذيته مع وجود الولد. إن هَدْمَ البيوت وتَفَرُّقَ الأزواج والزوجات على حساب الأبناء والبنات يخَلِّف من التبعات والعواقب -التي لا يعلمها إلا الله- الشيء الكثير. فينبغي على الأب والأم أن يفكر كلٌّ منهما فيما تجنيه التصرفات والأفعال التي بينهما، فإن قلوب الأبناء والبنات تتفطر حزناً حينما ترى تَنَكُّدَ الحياةِ في وجه الأب والأم، وكم من أبناء وبنات فقدوا حتى عقولهم بسبب أذية الآباء والأمهات لهم بالعبارات القاسية، وبتلك المعاملات الغليظة التي تكون من الزوج لزوجته أو من الزوجة لزوجها! ويقف الابن حائراً تائهاً لا يدري أأبوه المصيب ومعه الحق، أم أمه المصيبة؟! أأبوه المخطئ أم أمه المخطئة؟! فيعيش في حياة الهم والغم من صباه ومن صغره، حتى ربما يفقد تفكيره وشعوره. فمن الذي يحمل هذه المسئولية؟! ومن الذي يحمل إثم هذه الهموم والغموم غير الأب والأم؟! فينبغي على الأب والأم أن يكونا بعيدَي النظر، وأن يتقيا الله جل وعلا في الأولاد، وأن يرحما هذه القلوب الضعيفة، فإن الله سمى الأولاد والبنات ذرية ضعيفة، ووصفهم بالضعف؛ لأنهم لا حول لهم ولا قوة، وأفكارهم وعقولهم صغيرة، فإذا فُجِعَت هذه العقول الصغيرة البريئة بالخصام والشجار والكلمات القاسية تَعَذَّبت وتألَّمت، خاصة إذا كان الابن قوي الإحساس، وكانت البنت قوية الإحساس ضعيفة المشاعر؛ فإن هذه كلها أمور تكون لها من العواقب أشياءٌ كثيرةٌ. فليتقِ الله الآباء، ولتتقِ الله الأمهات. إن مشاكل الزوجين ينبغي أن تكون بمنأىً وبُعْدٍ عن الأبناء والبنات، وينبغي أن تكون في خلوتهما وفي حال انفرادهما، لا تَسْمَع بها أذُن، ولا تنظر إليها عين، ولا ينبغي للأب -خاصة بعض الآباء- إذا كبر سنه وشاب أن يسيء المعاملة للزوجة أمام أبنائها وبناتها، ويهينها ويذلها، حتى إن بعض الأبناء والبنات يتعلم -والعياذ بالله- ويأخذ من أبيه إهانة أمه. كذلك بعض الزوجات إذا شاب زوجها وكبر وضعف أساءت إليه، وآذته، وفتحت له أبواب المشاكل، فيتعلم الأبناء والبنات منها -والعياذ بالله- العقوق، وإهانة الأب عند المشيب والكبر، والله المستعان مِن يومٍ يشيب فيه الوِلدان، يومَ تُنْصَب الموازين، وتُنْشَر الدواوين، لكي يُؤْخذ كل إنسان بقوله وعمله! الله المستعان على ذلك اليوم العظيم الذي ينصف الله عز وجل فيه الظالم والمظلوم، والبائس والمحروم! فليتقِ الله الآباء والأمهات في حقوق الأبناء والبنات من عدم إساءة بعضهم إلى بعض بمحضر الأبناء والبنات، ونسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل. والله تعالى أعلم.

حكم المستحاضة التي كان لها عادة

حكم المستحاضة التي كان لها عادة Q امرأة تأتيها العادة الشهرية -عادةً- في كل شهر لمدة سبعة أيام، وفي هذا الشهر جاءتها ثمانية عشر يوماً، وما زالت مستمرة، وهذا أول شهر يحصل لها فيه هذا الأمر؛ فما الحكم في هذه الحالة بالنسبة للصلاة وقراءة القرآن إلى غير ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإنه ينبغي عليها أن تعتدَّ الأيام التي كانت تعتدُّها قبل أن يصيبها الذي أصابها؛ فتَعْتَبِر حيضَها الأيامَ التي اعتادتها، ثم تَعْتَبِر الأيامَ الزائدةَ أيامَ استحاضة لِمَا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتنظر الأيامَ التي كان تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها؛ فإذا هي خَلَّفَت ذلك فلتغتسل، ثم لتصلي). فدل هذا على أن المرأة التي لها عادة؛ ينبغي عليها أن تبقى قدر عادتها، ثم بعد ذلك تلغي ما بقي ولا تعتبره من الحيض. والله تعالى أعلم.

كيفية معاملة الوالدين عند صلتهما أقاربهما العصاة

كيفية معاملة الوالدين عند صلتهما أقاربهما العصاة Q إذا خفتُ على والديَّ من زيارتهما للأقرباء، وذلك لفسادهم، مع العلم أنهم أقرب الأقرباء، فماذا أفعل تجاه ذلك؟ A انصح الوالدَين وذكِّرهما بالله جل وعلا في زيارتهما للقرابة، ولا تنههما عن زيارتهم؛ فإن الزيارة واجبة، وكون القرابة يسيئون أثناء الزيارة فإن ذلك لا يمنع من أداء حق الزيارة؛ ولكن انصح هؤلاء القرابة بحفظ جوارحهم أثناء الزيارة، فإن نصحتهم، فقد أديت ما عليك. والله تعالى أعلم.

طاعة الوالدين في مرضاة الله

طاعة الوالدين في مرضاة الله Q لي إخوة بالغون وهم على سلوكٍ غير سليم، وقد بذلتُ لهم النصح؛ أحياناً باللين، وأحياناً بتغليظ القول، إلى آخر ذلك؛ ولكنَّ والدتي ربما تتدخل عندما أقسو عليهم؛ فأتركهم لذلك خوفاً من غضبها عليَّ، فماذا أفعل؟ أرشدني مأجوراً -بارك الله فيك-! A ظاهر قولك أن الوالدة تتدخل إذا قسوتَ. هذا هو الذي ورد في السؤال. وبناءً على ذلك فإنك تأخذ بأساليب اللين، وإذا أردتَ أن تقسو، فاقسُ عليهم دون علم الوالدة، فتأمر بطاعة الله، وبُرَّ والديك في حدود مرضاة الله. والله تعالى أعلم.

حكم دفع الأذى عن الوالدين

حكم دفع الأذى عن الوالدين Q إن لي أخاً يعقُّ والدتي، وحينما أذكِّره بفضل الوالدين يزداد غضباً، فيضرب، ويشتم، ويأخذ بالسخرية والاستهزاء بها! فماذا تنصحني أن أفعل؟ A أولاً: إذا كانت عندك قوة تمنعه من الضرب فاضربه إذا كان يضرب الوالدة وأنت أقوى منه وتستطيع كفه، فإنه يجب عليك كفه، ومثل هذا لا حرمة له، وإذا كان الوالد موجوداً فإنك ترفع الأمر إليه، ولا تضربه، وتنصح الوالد وتبين له أنه مسئول بين يدي الله عن مجاوزة هذا الابن لحدود الله مع أمه. هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: إذا كنت تعجز عن كفه ومنعه عن ضرب الوالدة؛ فإنه ينبغي أن تختار أفضل الأوقات لتوجيهه وإرشاده ودلالته إلى الخير وتحذيره من مغبة الشر. فأما نصحك له في حالة الغضب فأظن أن هذا هو الذي يتسبب في شدة إعراضه وتماديه في الضرب، وبناءً على قولك بأنه يزداد في الضرب إذا نصحتَه؛ فإنه لا ينبغي أن تنصحه على وجه يزداد فيه من أذية الوالدة، ولذلك نهى الله عن سب آلهة الكفار؛ لأنها تفضي إلى سب الله جل وعلا، فكذلك الحال: إذا كان نصحك له أثناء الضرب يزداد فيه من الضرب فإنك تتوقف عن نصحه إلى وقتٍ ترجو فيه استجابته. ثم خذ بالأسباب: فإذا كان الوالد يستطيع كفه فأخبر الوالد. وإذا كان هناك أخ أكبر منك وهو موجود فاطلب منه أن يَكُفَّه. وإذا كان هناك من القرابة من الأعمام والعمات أو الأخوال والخالات من يستطيع زجره كذلك فاستعن به بعد الله. وإذا لم تجد في القرابة فانظر إلى إمام الحي أو إمام المسجد أو الصلحاء أو قرنائه وأصدقائه، حتى ولو كان عن طريق مسئوله ومديره، حتى يذكِّره ويردعه. فابذل كل ما تستطيع لكفه عن ظلم الوالدة وأذيتها. والله تعالى أعلم.

حكم ضرب الأبناء

حكم ضرب الأبناء Q ما هي الحدود الشرعية في ضرب الأبناء؟ وما هي أنواع الضرب الجائزة شرعاً؟ A أولاً: لا يُضْرَب الابن إلا من حاجة، وذلك إذا أعيت الحيلة بالتوجيه، ولذلك ينبغي على الأب في أول شيء أن ينصح، وأن يوجه، فإن حصل العمل بنصيحته وتوجيهه فالحمد لله، وإذا لم يحصل العمل يُهَدِّد، ومما اتفق عليه الحكماء أن الأب إذا لاحظ من ابنه أو ابنته تقصيراً، فهدَّد وخوَّف بالضرب أو العقوبة فليس من المحمود أن يتخلف عن العقوبة إذا فعل الابن أو فعلت البنت التقصير، بمعنى إذا قلتَ له: إذا عدت إلى هذا الأمر فسأضربك، فإن عاد فاضربه مهما كان الأمر؛ لأن ذلك من أبلغ ما يكون من الزجر؛ لأنه إذا هدَّده بعد ذلك مرة ثانية عَلِم أنه إذا فعل سيُضْرَب وسيُؤَدَّب، والضرب يُعْتَبر من أساليب التربية التي أقرها الكتاب وأقرتها السنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من الأبناء والبنات من يُقرع باللسان، ومنهم من تقرعه اليدان، فلا ينفع فيه توجيه ولا إحسان، فيحتاج إلى الزجر وإلى العقوبة؛ ولكن بعد أن تُعْيِي الحيلة في التوجيه. فالأول: أن تكون هناك حاجة؛ كمعصية الله جل وعلا، أو ترك أمرٍ من أوامر الله، فهذان أمران: إما فعل حرام. أو ترك واجب. فترك الواجب مثل: الصلاة. وفعل الحرام مثل: السب والشتم، أو النميمة، أو الأذية للناس، فتقول له: لا تسب بعد اليوم ولا تشتم؛ فإن سبَّ مرةً ثانية وشتم، فإنه إذا غلب على ظنك أن تأديبه بالضرب ينفعه فاضربه؛ ولكن بحدودٍ وقيود، فلا تقبِّح الوجه، ولا تكسر العظم، ولا تشوِّه الصورة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لطم الوجوه، ولذلك نص بعض العلماء على أن ذلك يعتبر من الذنوب. فلا يُلْطَم الوجهُ خاصةً من المسلم، فإذا أردتَ أن تضرب فاضربه في قفاه، أو في قدمه، أو في يده، بشروط: ألاَّ تكسر له عظماً. وألاَّ يكون ضرباً مبرحاً. كذلك ينبغي أن يكون هذا الضرب بعيداً عن الغير. فإن الآباء لا يفرقون بين أمرين: الضرب للتوجيه والإرشاد ومحبة الخير. والضرب من أجل إشفاء الغليل، وإثبات السلطة والقوة والقهر. فإن كان ضرب الوالد من أجل أن يثبت السطوة والقوة والقهر في البيت، فإنه يعتبر آثماً شرعاً والعياذ بالله؛ لأن نيته تخالف مقصود الشرع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) فهو آثم بنيته، وأما فعله فإن جاوز فيه الحد فهو آثم أيضاً. فالمقصود: أن الأب ينبغي أن يكون ضربه للتوجيه والإرشاد، ولذلك يظهر هذا الخلل حينما يَضْرِب الإنسانُ من أجل التوجيه والإرشاد تجد ضربَه على قدر الحاجة، ولكن إذا ضربَ من أجل شهوةِ النفس وحظوظها، فإن ذلك -والعياذ بالله- يكون بمجاوزةٍ لحدود الله في الغالب، وقد ينتهي في الغالب إلى كسر عظم، أو تشويه صورة، أو غير ذلك، نسأل الله السلامة والعافية من الأمور المحرمة. فلا ينبغي للوالدين أن يؤذيا الأولاد بكثرة الضرب، وقد قال الحكماء والأطباء: إن كثرة الضرب للأبناء تُحْدِث عندهم نوعاً من شرود الذهن، وكثرة الخوف والرعب، وقد يصاب الابن -بسببها- بأمراض خطيرة، منها: أمراض في نفسيته. وقد تكون أمراضاً في جسده. وقد تسبب له أذية حتى في شهوته. وإذا حصل هذا كله فيحمل وزره -والعياذ بالله- الأب والأم الجائران في ضربه. فلا ينبغي هذا، بل ينبغي أن يتقي اللهَ العبدُ، وأن يصلح ولا يفسد، وأن يحسن ولا يسيء، نسأل الله للجميع التوفيق والرعاية. والله تعالى أعلم.

كيفية تربية الزوجة للأبناء مع فساد زوجها

كيفية تربية الزوجة للأبناء مع فساد زوجها Q أنا أمٌّ أحاول بكل جهدي أن أربي أولادي وبناتي التربية الإسلامية، والتربية الصالحة؛ لكنَّ زوجي لا يساعدني على ذلك ويقول: لا تعقِّدي الأولاد، فأنا أبْنِي وأعمر وهو يهدم، وإذا نصحتُه على انفراد وفي الوقت المناسب يقول لي: كوني صالحة لنفسك، وما لك وللأولاد، وهو لا يصلي الصلاة في الوقت، ولا يصليها في المسجد، وهو كثير السفر إلى بلاد الكفر، حتى إنني قررتُ ألا أحمل منه، ويكفي ما رزقني الله منه من أولاد؛ لأنني أخاف عليهم من تربية هذا الرجل، وبالأصح هو لا يربي ولا يريدني أن أربي، فأرجو الدعاء لهذا الزوج وتصبيري على هذا الحال المكتوب عليَّ أثابكم الله فضيلة الشيخ؟ A أسأل الله العظيم أن يهدي قلبه، وأن يصلح أمره، وأن يكف شره عن ولده. أختي في الله: احتسبي الأجر عند الله جل وعلا، والله يكتب لك ما يكون منك من إحسان في تربية الوِلْدان، احتسبي عند الله الأجر، والله لا يضيع أجرك، وأجرك عظيم، فالمرأة التي تُبْلَى بزوجٍ لا يقدِّر عناءها وتعبها في إصلاح الذرية أعظم أجراً من المرأة التي تجد من يشكر حسنتها، ويذكر جميلها، فاحتسبي عند الله الأجر، واعلمي أن الله معك، وأنه {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40]. هذه الوصية الأولى. أما الوصية الثانية: فاستديمي على ما أنت عليه، وابني؛ فنِعْمَ -والله- ما بنيتِ، واهدي ودُلِّي؛ فنِعْمَ -والله- ما هديتِ ودلَّيتِ، وكذلك أيضاً ذكريه بالله وخوفيه من عقوبة الله، لعل الله أن يهديَه، ومِن عذابه أن ينجيَه! والله تعالى أعلم. أما الطرف الثاني من السؤال: وهو ما قررتيه من عدم الحمل، فلا ينبغي هذا، بل ابقَي على ما أنت عليه، واحملي، وذَكِّري، وانصحي، واثبُتي؛ فإن الله يحب الصابرين في البلاء، ولذلك لا ينبغي أن تفكري هذا التفكير، فإن الله يقول في كتابه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95] قال بعض العلماء: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95] أي: الولد الصالح من العبد الفاجر. ولذلك أخرج الله من أبي جهل: عكرمة، وما ضَرَّ عكرمة كفر أبيه. فلا يدعوكِ هذا إلى اليأس والقنوط من رحمة الله، ولعل الله عز وجل أن يكتب لك درجات في الجنة تبلغينها بسبب هذا البلاء، ثم يَمُنُّ عليه بالهداية، فيجمع لك بين خيرَي دينِكِ ودنياكِ وآخرتِكِ. فلا تفكري هذا التفكير، وعليكِ بالبناء والاجتهاد في طاعة الله، وتربية الأبناء على محبة الله. والله تعالى أعلم.

واجب الوالدين تجاه المنكرات التي قد يقع فيها الأبناء

واجب الوالدين تجاه المنكرات التي قد يقع فيها الأبناء Q إن بعض بيوت المسلمين تئن من وجود الخادمات بلا محارم، مما يؤثر على تلقي الأبناء أوامر الشرع، ناهيك عن الذي يكون في حالات عديدة من الخلوة، بل الوقوع في الحرام -والعياذ بالله-! فما توجيهكم أثابكم الله؟ A أولاً: ينبغي أن يعلم الأب وتعلم الأم أن أول مَن يُسأل عن الولد هما، وليس الخادمة ولا غيرها. فينبغي على الأب والأم إذا استشعرا المسئولية أن يسعيا في فكاك أنفسهما من النار؛ فإن الله عز وجل جعل الحنان بين الابن وأمه، ولا يمكن تعويض هذا الحنان بخادمٍ ولا خادمة، ولذلك لا ينبغي استقدام الخادمات والخدم إلا عند وجود الضرورة وبضوابط شرعية، ولا يجوز للمرأة أن تترك أمر جنينها وأولادها إلى الخادمات، وإلى الأيدي الغريبة، أما إذا كن كافرات فلا أشك في حرمة ذلك؛ فالمرأة الكافرة لا يجوز أن يُوْدَع عندها الصبي المسلم؛ فإنه لا يختلف اثنان أنها ستفسده، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُمجِّسانه أو يُنصِّرانه)، قال بعض العلماء: يتأثر الابن بوالديه بمكان المداخلة، وهذه المداخلة ستحل فيها الخادمة محل الأم، ويحل الخادم فيها محل الأب. فلا يجوز ترك الأبناء والبنات بأيدي الكافرين والكافرات، فإن ذلك من أعظم الشرور وأعظم الآثام، فلا يحل بِوَجْهٍ تَرْكُهُم لدى أمثال هؤلاء، وإذا تَرَك صبيَّه أو صبيتَه عند أمثال هؤلاء، فاجتالهم هؤلاء عن طاعة الله وعن توحيده، فإنه يحمل وزر ذلك القلب بين يدي الله جل جلاله. فينبغي أن يستشعر الإنسان مسئوليته بين يدي الله، ولا يجوز ترك الأبناء والبنات للخدم والخادمات الكافرات. هذه المسألة الأولى. المسألة الثانية: إذا وجدت الضرورة والحاجة، فينبغي على الأم أن تربي وتنشئ، ثم تنظر في هذه الخادمة، فمتى ما وجدت أنها تعين على التربية والتنشئة على طاعة الله جاز إبقاؤها، وأما إذا كانت سبباً في الوصول إلى حدود الله ومحارمه؛ فإنه لا يحل إبقاؤها، ومن ذلك لو أن الخادمة هذه كانت في بيتٍ فيه البالغون، أو فيه من يُخشى منه الوقوع في المحرمات، أو النظر إلى هذه الخادمة، والوقوع فيما لا تحمد عقباه، فإنه يجب على الأب والأم أن يضَعا كل الأسباب التي تمنع وتحول دون الوقوع في هذا الحرام، فإن حصل أي تقصيرٍ أو إهمال أو تساهل؛ فإنه يكون عليهما من الوزر والإثم على قدر ما يكون من الآثام من الأبناء والعياذ بالله. فينبغي المحافظة على أبناء المسلمين وعلى بناتهم. إن التساهل في أمر الخدم والخادمات مصيبة عظيمة، ووزر كبير، فكم من أبناء كانوا على عفة وحياء وخجل فذهب الحياء من وجوههم بسبب التساهل في هذه الأمور! فليتق الله الوالد، ولتتق الله الوالدة يوم تناشِد بَعلها أن يُدخل الغريبة على أبنائها وبناتها. فاصبري واحتسبي واعلمي أن الله يأجركِ على تربية الأبناء والبنات، وإذا كان ولا بد من وجود أمثال الخادمين والخادمات؛ فليكن ذلك مع المحافظة على حدود الله جل وعلا، فلا خير في الدنيا إذا أَفْسَدَت الدين. والله تعالى أعلم.

حكم الإكثار من السب واللعن

حكم الإكثار من السبِّ واللعن Q ما نصيحتكَ لوالدَيَّ حيث أنهما يكثران اللعن والشتم عند أقل الأعمال أثابكم الله؟ A ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) فالذي يكثر اللعن والسب والشتم -والعياذ بالله- لا يكون يوم القيامة شفيعاً ولا شهيداً، فينظر إلى إخوانِه وأخواتِه وزوجِه وولدِه في النار، ويريد أن يشفع لهم فلا يؤذن له في الشفاعة، وذلك بسبب كثرة اللعن -والعياذ بالله-. هذا الأمر الأول. وأما الأمر الثاني: أن اللعنة إذا خرجت من الفم، انطلقت إلى السماء، فتُغَلَّق دونها أبواب السماء، ثم تعود إلى الأرض فلم تجد مجالاً، ثم تذهب إلى صاحبها، فإن كان كما قال، أصابته ولُعِن -والعياذ بالله- وإلا رَجَعَت إلى الذي قالها، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك لا ينبغي الإكثار من اللعن، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفر فلَعَنَت امرأةٌ دابتها فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصحبنا ملعونة). فينبغي الحذر من كثرة اللعن والسباب والشتائم، فإنه لا خير فيها، وينبغي على المرأة المؤمنة أن تصون لسانها، وعلى الأب المؤمن أن يصون لسانه؛ فإنه قدوة لأبنائه وبناته. والله تعالى أعلم.

حكم من حضر حلقة علم وأمه ساخطة عليه

حكم من حضر حلقة علم وأمه ساخطة عليه Q إني أتيتُ وأمي عليَّ غاضبةٌ، فهل عليَّ إثم؟ ثم هل خروجي من هذا المجلس يَغْفِر جميع ذنوبي، ومنها غضب أمي؟ A أناشد الله العظيم كل من كانت بينه وبين أمه أو رَحِمِه قطيعة ألاَّ يحضُر لي محاضرةً ولا يَغشى لي مجلساً، فقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (أحرِّج بالله على كل قاطع رحم أن يقوم من مجلسي، فلما قيل له في ذلك قال: أخبرني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرحمة لا تنزل على قومٍ فيهم قاطع رحم)، ولولا أني أخاف أن يكون تشهيراً بك لحرَّجت عليك بالله العظيم أن تقوم من المجلس الآن؛ ولكن لا أحل لأحد أن يحضر مجلساً لي أو محاضرة، وأمه غاضبة عليه أو والده. فليتقِ الله فينا، وليتق الله في مجالسنا أن نُمْنَع الرحمة بسببه، فهذا أمرٌ عظيم! إذا غَضِبَت عليك أمك غضب الله عليك! فاتقِ الله في والدتك، ولا تيئس فإن رحمة الله واسعة، ارجع إلى والدتك بعد الصلاة، وابكِ عندها، واسألها الرضا منها، فإن الله تعالى يرضى عنك إذا رَضِيَتْ عنك، ويسخط عليك بسَخَطِها. فاتقِ الله فيها، وأدخل السرور عليها، واحتمل ما يكون من أذاها. وأما جلوسك بيننا فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغفر ذنبك، وأن يغفر ذنوبنا، وأن يرزقك رضا الوالدين، وأن يرزقنا ذلك الرضا، وأن يتوب علينا وعليك وعلى جميع المسلمين. والله تعالى أعلم.

مدى مسئولية الوالدين عن الأبناء

مدى مسئولية الوالدين عن الأبناء Q متى يكون الوالدان غير مسئولَين أمام الله عز وجل عن الأولاد والبنات؟ A لا أعرف والدين خالييَن من المسئولية أبداً! فالأم بِمُجرد ما تحمل جنينها يسألها الله عز وجل عن كل أمر يكون فيه صلاحٌ لهذا الجنين أو فسادٌ له، وبِمُجرد ما تضعه كذلك هي مسئولة، وبِمُجرد ما تربيه وتقوم على شأنه، بل وكل حركاتِها وسكناتِها مع هذا الصبي تُسأل عنها بين يدي الله. كذلك الأب مسئول عن هذه النطفة بِمُجرد ما تتخلق في رحم أمها. فلذلك لا أعرف أماً وأباً خالييَن من المسئولية، بل هما مسئولان، وأول مَن يسأل عن ذلك الابن هما، ولذلك قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] فقال: يفر الرجل من أبنائه، وذلك مِن عظيم خوفه من مسئوليتهم بين يدي الله عز وجل. فليس هناك والدان خاليان من المسئولية عن الولد. والله تعالى أعلم.

حكم طاعة الوالدين عند إساءتهما للولد

حكم طاعة الوالدين عند إساءتهما للولد Q شاب يقول: إن والده يقسو عليه، وهذا الشاب لا يستطيع أن يليِّن الكلام مع والده بسبب سوء المعاملة، فما السبيل إلى برِّ الوالدين ولِيْنِ الكلام معهما؟ A استشعر عظيم ما عند الله من الثواب؛ فإنَّ أبلغ ما يكون البر إذا أساء الأب إلى ابنه، وأصدق ما يكون البر يوم يحسن الابن إلى أبيه، والأب يؤذيه، وأبلغ ما يكون البر حينما تعطيه الكلمة الطيبة فيبادلك بكلمة خبيثة، وحينما تُحسن فيسيء، وتكرمه فيهينك، كل ذلك من أبلغ ما يكون من البر. أما لو كان الأب إذا قابلته بالإحسان كافأك على الإحسان، فهذا خير وبر؛ ولكن أصدق ما يكون البر وأعظم ما يكون من الثواب والأجر عند الله أن يقابِل إحسانك بالإساءة، وأن يقابل جميلك بالكفران. فيا أخي في الله: احتسب الأجر عند الله -جل جلاله- واعلم أن الله هو الذي يثيبك، والله جل وعلا هو الذي يُخْلِفُك الأجر. إن إساءة الأب لا تدعوك إلى الإساءة، وظلم الأب لا يدعوك إلى الظلم، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فلا تطعهما في المعصية؛ ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، فإذا أساء الوالدان فلا تسيء، وإذا كان من الوالدين ما يسوءُك فلا تقابلهما بما لا يرضي الله جل جلاله، فأوصيك بالصبر! فإن الإنسان يصبر على أذية الناس، فكيف بأذية الوالدين؟! ولعل الله جل وعلا -بهذا الصبر- أن يُكَفِّر وزرك، وأن يُعْظِم أجرك، وأن يُثَقِّل ميزانك. والله تعالى أعلم.

حكم تضايق الزوجة من معاملة الزوج أمه معاملة حسنة

حكم تضايق الزوجة من معاملة الزوج أمه معاملة حسنة Q فضيلة الشيخ! رزقني الله بزوجة مؤمنة؛ ولكنها تتضايق عندما أجلس مع والدتي، فما هي نصيحتك لهذه الزوجة أثابكم الله؟ A أوصي الزوجات أن يتقين الله جل وعلا في حقوق الأمهات، المرأة المسلمة عليها أن تكون أكبر عون للزوج على طاعة الله ومرضاته، ولا يجوز للمرأة أن تفسد قلب زوجها على أمه، ولا خير في زوجٍ يُقَدِّم زوجته على أمه. إن حق الأم عظيم، وفضلها جليل كريم، فينبغي للإنسان أن يجعله نصب عينيه، قال: (يا رسول الله! مَن أحقُّ الناس -مَن أحقُّ الخلق؟ مَن أحقُّ البشرية- بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أبوك)، فأحق مَن تحسن إليه، وأحق من تكافئه وتبذل المعروف إليه هو: والدتك. فإياكَ أن تؤثر الزوجة على الوالدة، وإياكِ أيتها المرأة المؤمنة أن تكوني سبباً في العقوق والقطيعة. الله الله في قلب زوجكِ أن يَفْسُد على قلب أمه! فاتقي الله في البعل، واتقي الله في تلك الأم، ولا تكوني سبباً في الدعوة إلى العقوق والقطيعة، لا يجوز للمرأة أن تتدخل فيما يجري بين الزوج وأمه بكثرة السؤال والبحث عما تطلبه الأم، وعما يعطيه الزوج، كل ذلك من الأمور التي تعتبر من الفضول، وقد تصل إلى حد الحرمة، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]. فالمرأة ليس من حقها أن تبحث عن شيء ليس من شأنها فإن (مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فليس مما يعني المرأة أن تتدخل فيما يعطيه الزوج لأمه، وفيما يبذله لها من الحنان والإكرام، فتَجْعَل تُتابِعُهُ في كلِّ ما يكون منه من صغير وكبير، وجليل وحقير، وتفسِّر ذلك بأنه إهانة لها، وتضييع لحقها، كل ذلك مما ينبغي للمرأة المؤمنة أن تتقيه وتبتعد عنه. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل. والله تعالى أعلم.

حكم طاعة الوالدين في معصية الله

حكم طاعة الوالدين في معصية الله Q إن والدي يطلب مني أحياناً أن أشتري له أمراً محرماً مثل الدخان، ويقول لي: إن لم تشترِ الدخان فأنت مطرود من البيت، فماذا أفعل؟ هل أشتري له هذا وأطيعه أم أعصيه وأُطْرَد من البيت؟ وآخر يقول: والدي يطلب مني بعض الأحيان أن أذهب بالأهل إلى أماكن تكثر فيها المنكرات، فهل أطيعه؟ أرشدني يرحمك الله؟ A ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، إذا أمر الوالد ولده بمعصية الله جل وعلا؛ فينبغي على الولد أن يذكِّر والده بالله جل وعلا، وأن تَخرج النصيحة من قلبه لذلك الأب، فيقول له: لا أستطيع أن أعصي الله جل جلاله، وليحاول معه المرة تلو المرة. وأنا لا أستطيع أن أفتيك بطاعة المخلوق في معصية الخالق، فليس عندي من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يبيح لي أن آذن لك أن تفعل المحرم، وأحْمِلُ وزره بين يدي الله. فأوصيك أن تذكِّر والدك بالله جل جلاله، ولا أزيد على ذلك، ولا أُنْقِص منه. والله تعالى أعلم.

ضرورة المداومة على نصح الوالدين بالحكمة واللين

ضرورة المداومة على نصح الوالدين بالحكمة واللين Q يا شيخ! إننا نحبك في الله؛ أنا شاب لي والدان لا يصليان، وقد دعوتهما كثيراً؛ ولكن والدي ربما يستجيب أحياناً، أما والدتي فلا تصلي، وتخرج متبرجة متعطرة، ونصحتُها كثيراً؛ ولكن بدون جدوى، فماذا أفعل؟ أفتونا مأجورين! A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأحبَّك الله الذي أحببتني من أجله، وأُشْهِدُ الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم جميعاً في الله، وأسأل الله العظيم أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته. أما ما سألتَ عنه -أخي في الله- من كون الوالدين لا يصليان والعياذ بالله، فذلك ذنبٌ عظيم، وإثم كبير، فاستَدِم على نصحهما وتذكيرهما بطاعة الله ربهما، ولا تيئس ولا تعجز، وأسألُ الله أن يفتح لك قلبيهما؛ فإن من أعظم الحقوق للوالدين على الولد أن يأمرهم بطاعة الله، وأن ينهاهم عن معاصي الله وحدوده، فاستَدِم على أمرِهم بذلك، وحُثَّهم على ذلك، ولا تيئس، والله يأجرك. والله تعالى أعلم.

أساس التوفيق والسداد

أساس التوفيق والسداد Q فضيلة الشيخ! هناك رجل يسكن بعيداً عن والديه أي: أنه في بلدٍ ووالدَيه في بلد أخرى، ولم يزرهم منذ ثمان سنوات، علماً بأن هذا الغياب كان لظروفه الخاصة، حيث إنه يريد تكوين نفسه وجمع بعض المال، ومن ثَمَّ السفر إلى بلده ليعيش هناك، ويبني مستقبلاً أفضل كما يقول، فما هي نصيحتك له يا شيخ، علماً بأن والده قد توفي؟ A لا حول ولا قوة إلا بالله! عَظَّم الله أجرك في هذا العقوق، وهذا القلب القاسي الذي لا يتقي الله في الوالدين، ثمان سنوات تحرم والديك رؤيتك؟! أما تتقي الله جل جلاله؟! وأي مستقبل ترجوه؟! وأي مستقبل تؤمِّله؛ لو أن الله عز وجل غضب عليك ومَقَتَك بسبب والديك؟! المستقبلُ الذي تنتظره مفاتيحُه البر، ومن أعظم أسباب نجاحك وفلاحك بر الوالدين، ومَن بر والديه كفاه الله همَّ دِينه ودنياه وآخرته، فكم مِن ابن أصبح وأمسى ووالداه راضيان عنه! قد رَفَعَا له أَكُفَّ الدعاء بأدعية لن تُرَدَّ من عند الله جل جلاله، فحاز سعادتي الدنيا والآخرة! أي مصيبة أعظم إذا فتنتك الدنيا وألهتك عن هذا الحق العظيم؟! أما ما ذكرتَه من كونك تغربتَ للأموال وللمستقبل الذي تزعمه فليس ذلك عذراً في الانقطاع عن الوالدين إلا إذا أذِنا، وإذا أذِنا فابكِ بكاءً حاراً من قلبك على فَقد رؤية الوالدين، ابكِ على ذنب حرمك الله بسببه أن تكون بجوار والديك، ولو كنتَ في وظيفة، أو في عمل؛ فإن هذا ابتلاءٌ من الله جل وعلا. إن من أجل نعم الله أن يوفَّق العبد إلى القرب من الوالد والوالدة، فابكِ على ذنب حال بينك وبين هذا الباب من أبواب الجنة. هذه الوصية الأولى. أما الوصية الثانية: فأوصيك من الليلة أن تفكر في طريق الرجوع إلى الوالدَين، وكفى ما مضى، وأقبِل على والدتك وأدخِل السرور عليها، واسأل الله أن يتجاوز عما كان منك من التقصير في حق أبيك؛ وليكن رجوعك عن هذا الذنب العظيم أن تكثر له من الدعوات، وأن تسأل الله عز وجل أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات. أدرك بر والديك بالرجوع إلى والدتك، وكفى ما مضى من الأمور التي كنت فيها، وما كان من الخير الذي أصبته من الدنيا ففيه الخير، فعُد إلى أهلك وأنْعِم عينيك ببر والدتك، قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: أَحَيَّةٌ أمُّك؟ قال: نعم، قال: فالزم رِجْلها، فإن الجنة ثَمَّ) فالزم رِجْل والدتك، وعُدْ إلى والدتك، واسألها أن تعفو عما كان منك من غابر الزمن. والله تعالى أعلم.

نحو ترشيد الصحوة

نحو ترشيد الصحوة تعاني الصحوة الإسلامية من مظاهر سلبية مختلفة ترافق مسار الدعوة إلى الله، لذلك قام الشيخ الفاضل حفظه الله بإسداء نصائح ووصايا لشباب هذه الصحوة، تقويماً لمسارهم، وإصلاحاً للعيوب والآفات التي انتشرت بينهم.

أثر النصيحة والتذكير بين الأخيار والصالحين

أثر النصيحة والتذكير بين الأخيار والصالحين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين. أما بعد: فيعلم الله كم كنت أريد أن يستمر الشيخ حفظه الله ووفقه وزاده علماً وحلماً وسداداً ورشاداً، فما أحوجنا إلى أن يذكر بعضنا بعضاً بهذه الأمور التي يكمل بها نقص الإنسان، ويدل بها على صدق العبودية لله العظيم الرحمن، فلا خير في الأخيار إذا لم يتناصحوا، ولا خير في المؤمنين على الكمال إذا لم يتواصوا. المؤمن يحتاج من أخيه إلى كلمة تدله، ونصيحة على الخير ترشده، وعلى طاعة الله ومحبة الله تثبته، وإذا أراد الله بالعبد خيراً رزقه القرين الصالح الذي يبصره بعيوبه، ويذكره بخطاياه وذنوبه، حتى يسلم له أعز شيء في الحياة وهو دينه، فلا سلامة للدين إلا بتوفيق الله ثم بالوصية من الإخوان الصادقين، ولذلك شهد الله جل وعلا أنه لا نجاة من الخسارة إلا بالنصيحة التي تدل على طاعة الله ومحبة الله، وتحذر من معصية الله وحدود الله، كما قال في السورة العظيمة التي قال عنها الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه: لو لم ينزل الله في القرآن إلا سورة العصر لكفت الخلق، وفيها قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. وإذا بُصر الإنسان في وصية خالصة صادقة، بُصر بعيوبه وذُكر بزلاته وذنوبه احتقر نفسه ودعاها إلى الكمالات وذكرها برفعة الدرجات، فسمت إلى محبة الله فاطر الأرض والسماوات، النصيحة غالية، النصيحة لا تصدر إلا من أخٍ صالح، وإذا نظرت في إخوانك فوجدت أخاً يتعاهدك بالنصيحة، فاعلم أنه يحب الخير لك. ولذلك أثر عن عمر ويؤثر عن غيره أنه قال: [رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا]. فإذا أهديت العيوب، عرف الإنسان قدر نفسه، ودل على طاعة ربه ومع هذا كله أيها الأحبة! إذا كان هذا هو الداء؛ فإنه تثور في النفس أشجان وأحزان، إنا لمقصرون وعندنا عيوب وذنوب، فكيف المخرج من التقصير؟ وكيف السلامة من العيوب والذنوب؟

وصايا تعين على التخلص من العيوب والآفات

وصايا تعين على التخلص من العيوب والآفات

الوصية الثامنة والأخيرة: تقوى الله

الوصية الثامنة والأخيرة: تقوى الله وختاماً أيها الأحبة! أحب أن أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلا وعلا التي هي مظنة الصلاح والفلاح والربح والنجاح؛ فإن الله تعالى جعل بها فرجي الدنيا والآخرة، فجعل سعادة الدين في التقوى، وأخبر أن المتقين على سدادٍ وصلاح ولو لم يكن لهم إلا محبة الله ومعيته لكفى، وأخبر سبحانه وتعالى عن صلاح دنياهم؛ أنه يجعل لهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، فإذا ضاقت النفوس وخشي الإنسان من الانتكاسة أو تغير الأحوال؛ فليتق الله فلعل ذنباً بينه وبين الله غير حاله الذي هو عليه، وذلك تقوى الله هي أزمة الأمور، ومن أعظم الأسباب التي تنشرح منها الصدور: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء. يتفقد الإنسان نفسه فلعل ذنباً في عين أو في سمع أو في قدم أو في يد أو في فرج أو مظلمة لوالدة أو والد أو رحم؛ فإن الله عزوجل ذكر أن الذنوب من أعظم الأسباب التي تحول بين الإنسان والخير؛ فقال تعالى عن الذين قطعوا أرحامهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا قطع رحمه أصابه الصمم وعمي البصيرة، والمراد بالصمم: أنه لا تنفع فيه موعظة، ولو عرضت المواعظ التي تفتت الجبال عليه ما أثر فيه، ولو أثرت فيه تأثر بها لحظة ثم تزول نسأل الله السلامة والعافية: {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] فلا يرى خيراً ولا يوفق لطاعة، نسأل الله السلامة والعافية، فالذنوب من أعظم الأسباب التي تحرم الإنسان من هذا الخير، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يثبت قلوبنا وقلوبكم على ما يرضيه عنا. وختاماً والله إنها لمناسبة طيبة، أسأل الله أن يجزي الأحبة كل خير، وكان مما يبهج نفسي ويدخل السرور عليه -والله شهيد على ذلك- وجود الشيخ، ويعلم الله كم تمنيت لقائه، أسأل الله أن يجمعنا وإياكم وإياه في دار كرامته، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين في جلاله، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله. اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وآله الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم.

الوصية السابعة: أن يكون للإنسان هدف سام في الحياة

الوصية السابعة: أن يكون للإنسان هدف سام في الحياة كذلك أيضاً من الأمور التي تعين على التمسك بالدين والبقاء على حلاوة الالتزام والاستقامة وطاعة الله جل وعلا: أن يكون نظر الإنسان إلى ما هو أسمى وأسنى، بعض الشباب يقول: سأنتكس والعياذ بالله، ويأتيه هاجس في النفس قلّ أن يلتزم أحد إلا والشيطان يقول له: ستنتكس، فأنت اجعل الجنة والنار بين عينيك، وعد نفسك بإذن الله أنك يوماً من الأيام ستبلغ مرضاة الله العليا؛ لأن الله لما أخرج العبد من الظلمات إلى النور وهو لم يرفع كفاً له يوماً أن يهديه؛ فإن الله جلا وعلا أكرم سبحانه، من أن يضيع عبده وقد سأله الثبات والهداية. هل أحد في الجاهلية رفع كفه وقال: اللهم اهدني؟ أعرف كثيراً ممن كانوا في الجاهلية، كثير منهم لم يسأل الله يوماً من الأيام أن يهديه، والله الذي هداه سبحانه، فإذا كان أعطاه الهداية بدون سؤال؛ فيكف إذا سأل الله وهو على استقامة وصلاح والتزام أن يثبت قلبه إلى لقائه! فمن الأمور المهمة أن الإنسان يسعى ويحرص قدر الاستطاعة على أن يجعل له هدفاً سامياً، وهذا الهدف الأسمى والأسنى، أن تحاول أن تتمثل هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تهيئ نفسك لعلم أو عمل تبلغ به معالي الأمور، مثلاً: اجعل في نفسك أن الله يجعلك يوماً من الأيام من أعلام المسلمين، وما ذلك على الله بعزيز؛ فإن الذي علم آدم وداود وفهم سليمان قادر سبحانه وتعالى على أن يعلمك أو يفهمك، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:56] فإذا تذللت لله عز وجل وجعلت نفسك أنك تسمو إلى هذه الكمالات فبإذن الله سيثبت الله قلبك ويشرح صدرك.

الوصية السادسة: التفاعل مع حلق الذكر

الوصية السادسة: التفاعل مع حلق الذكر كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها: التفاعل مع حلق الذكر، بعض الشباب يسمع الشريط المرة والمرتين ثم يمله، والعبد الصالح الموفق لا يسأم من خير، ولا يمل من طاعةٍ وبر، ولو كثر هذا الحديث، ولو كان من أوضح الواضحات! وأذكر موقفاً طريفاً: ذات مرة الشيخ ناصر الألباني حفظه الله، حصلت حادثة في المدينة -حريق- بسوق بجوار المسجد وقام رجل من العوام بجوار باب السلام -لا زلت أذكر ذلك بعد صلاة الظهر- فقام يتكلم ويعظ الناس، عامي ولكنه رجل محافظ على الصف الأول وأراه صاحب سنة؛ لما ترى -سبحان الله- فيه من الوقار، وتلك اللحية البيضاء الجميلة الوقورة، والمحافظة على الصف الأول، والمحافظة على حلق العلم، شخص صالح وفيه خير، فقام هذا الرجل وأظنه كان رجلاً باكستانياً عامياً من العوام؛ فتكلم كلاماً عامياً وكنا جالسين، لكن مع أنه عامي وعادي ينفذ إلى القلوب والله أعلم بقلب الرجل، وقد تُوفي رحمة الله عليه، والله -أيها الأحبة- يكاد يكون المجلس كله بكى، تكلم كلاماً لامس شغاف القلوب، فما شعرنا فجأة إلا به يضع يديه على رأسه وقال: الشيخ ناصر -الشيخ ناصر كان موجود في الحلقة- فاستعظم أن الشيخ موجود، فقال له الشيخ وكان بعيداً عني قليلاً تكاد تكون فيه عبرة، يقول له: استمر، بالله استمر، ما قال: أنا الشيخ ناصر، ولا افتخر، ولا قام من الحلقة، هكذا صنيع أهل الفضل؛ لأن الله عزوجل إذا رفعك بالهداية فتذلل لهذه الهداية لله جل وعلا، لا تستنكف عن مجلس خير، لا يكن جلوسك في مجالس الخير للمشهورين، ولكن اجلس لكلام الله رب العالمين، حتى ولو حلقة قرآن، وثق أنك إذا حضرت مجالس الذكر، أنك لا تجد -بإذن الله- تغيراً إلا إلى كمال، حتى ولو كان عند الإنسان نقص وعيوب لعل الله أن يسترها ويغفرها بمثل هذه المجالس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) هذه أمور مهمة جداً منها الحرص على المحاضرات.

الوصية الخامسة: عدم السأم والملل من الطاعة

الوصية الخامسة: عدم السأم والملل من الطاعة كذلك أيضاً من الأمور التي تعين على ترك هذه الأخطاء وهذه الزلات التي لا منجى ولا ملجأ فيها من الله إلا إلى الله: كون الإنسان كثير الخير بمعنى: ألا تسأم من طاعة، إن كثيراً من الشباب قد تجده في بداية الأمر حريصاً على الصلوات، حريصاً على الطاعات، حريصاً على الخيرات، ثم يخف قليلاً قليلاً حتى -والعياذ بالله- ينتكس، والسبب في هذا السآمة من الطاعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا) فالإنسان إذا ملَّ الطاعة -نسأل الله السلامة والعافية- حُرم الخير، بعض الإخوان أصلحهم الله تجده في بداية الهداية لو قيل له: هناك محاضرة فلا يمكن أن تفوته، أي مجلس خير لا يمكن أن يفوته، فما أن يمضي الشهر والشهران عليه؛ فيعتاد العلماء ويعتاد مجالسهم، لو قيل له يوماً من الأيام: تعال إلى محاضرة تتحدث عن رمضان، يقول: يا أخي هذا موضوع واضح، لا ينظر إلى أن خطواته في سبيل الله، ولا ينظر أنه يحضر مجلساً من مجالس الخير والرحمات، لولا الله ثم هذه المجالس لما نال كثير من الشباب هذه الروحانية واللذة التي يجدها مع ما فيها من علم وميراث نبوة وتوجيه وإرشاد؛ لا تسأم ولو قيل لك محاضرة عن الصبر، ولو قيل لك محاضرة من أوضح الواضحات فاذهب إليها واشتر رحمة الله بخطوة تمشيها، وبمزاحمة الناس على الخير أن يُقسم ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ولا تشهده!! أتقسم الدرجات والحسنات ولا تكون في ذلك المكان الطيب المبارك؟! وما يدريك لعل هذا الشيخ غير المشهور الذي يحضر له الصف والصفان مقبول عند الله جل وعلا، ما يدريك فليست العبرة بالكثرة، ولا بالمشهورين، ولا بالسمعة، ولكن العبرة بالقلوب (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). كثير من الشباب الآن بدأ يألف الخير لقلة حضور المحاضرات، لقلة غشيان حلق الذكر، لقلة غشيان مجالس العلماء، أي شاب تجده يجد في نفسه الضيق بعد السعة، فاسأله قل له: أناشدك الله أما كنت تحضر المحاضرات وتقاعست عنها؟ قال لك: نعم، أما كنت تحضر حِلق العلم وتقاعست عنها؟ قال لك: نعم، إذن: {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] إن الله يحب من العبد الجد والاجتهاد في طاعته: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] فالله ندبنا إلى استباق الخيرات، والسلف الصالح رحمة الله عليهم كانوا يجلسون في مجالس من هو دونهم في العلم والفضل، حتى أذكر من علمائنا ومشايخنا سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز -رحمه الله- كان عندنا في المدينة بمرأى من عيني وأشهد له بذلك يصلي في الصفوف الأول في الحرم النبوي، ثم يرجع خارجاً من المسجد يكون مثلاً ما عنده درس، قلَّ أن توجد حلقة عالم إلا جلس فيها ما شاء الله، وقد يكون ذلك العالم من طلابه، هل قال: أنا الشيخ عبد العزيز أو اغتر؟ الإنسان الذي يغتر بنفسه يهلك، نقصان الطاعة الموجود في الشباب من أسبابه -والعلم عند الله- الاغترار، الإنسان دائماً يسعى إلى الكمال، يحرص على طاعة الله، لا تسمع بحلقة عالم إلا حضرتها، ولا حلقة ذكر إلا جلستها، ولا مجلس علم إلا شهدته، هل ترضى أن تفتح حلقة علم في مسجد الحي، أو في مدينتك وتُرفع أسماء من حضرها في دواوين الصالحات إلى الله، تصعد الأعمال الصالحة وليس فيها اسمك؟ أترضى لنفسك بهذا؟ ولذلك الذي يحتقر العلم ويحتقر العلماء، سيصيبه السفال، والذي يعظمهم يعظم من الله ويجل ويكرم: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] هذه آفات حصلت بأسباب، تغير القلوب، حصول نقص من الإيمان عند كثير من الشباب من أسباب هذه الأمور.

الوصية الرابعة: القرب من العلماء الصالحين

الوصية الرابعة: القرب من العلماء الصالحين الوصية الرابعة التي تعين على البعد من هذه الآفات: القرب من العلماء الصالحين، فكلما وجدت الشاب الصالح اهتدى؛ ثم اقترب من العلماء فاعلم أن الله قبل هدايته، لكن يقترب الإنسان من العلماء بالمحبة والمودة والتوقير والإجلال وذكرهم بالجميل وتعطير المجالس بذكرهم الحسن وأخلاقهم وآدابهم؛ حتى ينتفع الناس ويكون قرب الإنسان منهم رحمة له ولغيره، لا يقترب مغتراً كما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن كثيراً من أهل الفسوق اغتروا بصحبة الصالحين؛ فهلكوا بتلك الصحبة. فالقرب من العلماء والصالحين، ينبغي على الإنسان أن يحذر فيه وأن يكون هذا القرب بالمحبة والمودة الصادقة التي عله أن ينال بها ذلك الشرف الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه في حديث أنس في الصحيحين، حديث الأعرابي الذي جاء -أعرابي عامي ليس عنده كثير صلاةٍ ولا صيام- إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك القلب المنكسر والنفس المتعطشة المتلهفة؛ يشكو إليه ذلك الشجن في قلبه فقال: (يا رسول الله! المرء يحب القوم ولما يعمل بعملهم، فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب). فالذي يحب العلماء ويبادل العلماء المحبة والمودة والتقدير والتوقير والإجلال، يغفر زلاتهم وينشر خيراتهم ولا يتتبع عثراتهم، ولا يشهر في المجالس بأخطائهم، يبادلهم المحبة الصادقة؛ فإن الله ينفع بذلك، ولذلك أقرب الناس من الخير بعد العلماء هم طلاب العلم، ومثل العلماء لذلك بالعين؛ فإن أخصب مكانٍ في أرض الله جل وعلا منفعة بتلك العين ما كان قريباً منها، ولذلك قلَّ أن تجد عيناً للماء إلا وجانباها قد اعشوشب من ذلك الماء، فتجد أكمل خضرة وأجمل خضرة على الأرض من ماء تلك العين ما كان قريباً من العين، وكذلك ينبغي لطالب العلم أن يقترب ويكون تحت كرسي العالم، ويتقرب إلى الله والله يشهد أنه ما اقترب إلا لوجهه؛ وما اقترب إلا لرحمته؛ فلعله إذا اقترب أن يجلس ذلك المجلس الذي تبدل فيه سيئاته حسنات، وما من أحد إلا وعنده زلات وهلات، فإذا أصبح حريصاً على مجالس العلماء يغفر له في كل مجلس يجلسه، قالوا: (يا ربنا إن فيهم فلاناً عبد خطاء كثير الذنوب مر وجلس معهم، قال: وله قد غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فإذا كان هذا مر وجلس؛ فكيف بمن لزم ذلك المكان تحت قدم العالم يتقرب إلى الله جل وعلا دون غلوٍ ولا تنطع؛ هذه نعمة كبيرة وفضل عظيم؛ ولذلك تجد أقرب الناس إلى الخير طلاب العلم الأخيار. وينبغي أن يقترب الإنسان من العلماء بقلب صافٍ من ناحية الغل والبعد عن العجب، يقترب وهو يتذلل لله تعالى بهذا القرب علَّ الله أن يرفع درجته، وأن يعظم أجره وأن يضاعف حسنته، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.

الوصية الأولى: دعاء الله الصادق بالسلامة من العيوب

الوصية الأولى: دعاء الله الصادق بالسلامة من العيوب والوصية الأولى: أن تسأل الله جل وعلا الذي يلطف بمن شاء من عباده، ويرحم من شاء من خلقه، أن يرحمك فيسلمك من عيوبك، ويغفر لك ما بدر من خطاياك وذنوبك، سل الله أن يلطف بك، فإنه لا يلطف بالعبد في هدايته وصلاحه إلا ربه، وهو الذي بيده القلوب يقلبها كيف شاء سبحانه وتعالى، وكم من عبدٍ كثير الزلات كثير الخطايا والهنات، ضرع إلى الله بدعوة صالحة فاستجيبت من بين الدعوات ونظر الله إلى قلبه أنه يريد وجهه، صادقاً في سؤاله، فقلب الله قلبه بين العشية والضحى عبداً صالحاً كاملاً، سلوا الله أن يعافيكم وأن يسلمنا ويسلمكم من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال.

الوصية الثانية: الاهتداء بهدي السلف الصالح

الوصية الثانية: الاهتداء بهدي السلف الصالح ثم الأمر الثاني: الأخذ بالأسباب: أن يأخذ الإنسان بالأسباب التي تعينه على ترك مثل هذه المآخذ والمخالفات والأمور التي لا تليق به وهو منتسب إلى خير ما ينتسب إليه وهو الدين والاستقامة، ومن أعظم هذه الأسباب: الاهتداء بهدي السلف الصالح؛ فإذا وفق الله جل وعلا العبد رزقه السير على منهج السلف الصالح؛ فتشبه بالأخيار حتى صار منهم، واهتدى بهديهم حتى حُشر معهم، والدليل على ذلك أن الله جل وعلا أخبر أن قصص الأنبياء تثبت القلوب على طاعة الله: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] يثبته على ماذا؟ على الهدى، على المحبة والرضا، على الطاعة التي تُرضي الله جل وعلا. فمن أعظم الأسباب بعد الدعاء: أن يحاول الإنسان قدر استطاعته أن يأخذ بالقدوة الصالحة من السلف الصالح الذين تمسكوا بهدي الكتاب والسنة، وقلّ أن يقرأ الإنسان سيرة من سير العلماء، أو يتدبر قدوة صالحة من الأخيار الصلحاء الفضلاء من سلف هذه الأمة إلا دمعت عيناه، وخشع قلبه، وأخذ في كمال نفسه وحملها على طاعة الله ربه، ولذلك قال الله تعالى لنبيه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الأخيار الذين هدى الله فبهداهم اقتده، فالذي يريد أن يكون على أكمل المناهج، وأقوم السبل بعيداً عن الزلات والهنات؛ يهتدي بالأخيار من سلف هذه الأمة الصالحين من العلماء العاملين، الأئمة المهديين، الذين عضوا على كتاب الله رب العالمين، وسنة خير الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد أشار الصحابي الجليل أبو حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه إلى هذا العلاج الكريم حينما قال: [لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها]. فقراءة سيرة السلف الصالح تغسل عن القلوب كثيراً من الأدران، وتجعل الإنسان دائماً يتفقد نفسه، ويحاول أن يكمل نقصه، وأن يترك خلله، وأن يُصلح خطأه؛ وهذه نعمة يوفق الله إليها من شاء من عباده، وكان الوالد رحمة الله عليه يقول: يا بني لا أوصيك بشيء بعد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مثل قراءة تراجم العلماء والسلف الصالح. لها أثر عظيم في القلوب، ولها أثر عظيم في النفوس، تحبب الخير إلى القلوب، وتنفر المعاصي إلى الطباع، وتجعل الإنسان دائماً يبحث عن خصلة من الخصال، أو طاعة من الطاعات حتى يدرك ما أدركوا من الخير، أو يكون قريباً مما نالوه من الفضل، ونسأل الله بعظمته وجلاله أن يبلغنا ما بلغوه، وأن يكرمنا كما أكرمهم، وإن كنا لسنا أهلاً لذلك؛ فهو أهل الفضل وأهل الرحمة والعطاء والنول، سبحانه لا إله إلا هو.

الوصية الثالثة: ترك الغفلة

الوصية الثالثة: ترك الغفلة أما الوصية الثالثة التي تعين على ترك مثل هذه الأمور: ترك الغفلة؛ فإن الإنسان إذا أخطأ وهو غافل عن خطئه؛ قل أن يتبصر بعيبه إلى أن يلقى الله جل وعلا، إذا رأيت الإنسان يخطئ وهو غافل عن عيوبه، غافل عن ذنوبه؛ فاعلم أنه مستدرج من الله، نسأل الله السلامة والعافية. فلا ينبغي للشاب أن يغتر بحاله وسمته، وما يكون منه من بعض الصالحات، فلذلك ينبغي ألا يغفل عن الأخطاء والعيوب؛ دائماً يحاسب نفسه كما قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال المؤمن يتهم نفسه يقول: ما أردت بهذا وجه الله] أي: إني لست مخلصاً، أو لست أريد به وجه الله خالصاً. هكذا المؤمن دائماً يتفقد نفسه بالاحتقار الذي يدعوه إلى الكمال، أما إذا كان الاحتقار كما سبق في كلام الشيخ حفظه الله يدعو إلى النقص، كون الإنسان يحتقر نفسه ويمتنع من الكمالات لا، لكن احتقاراً يدعو إلى الكمال فنعم هذا الاحتقار، كون الإنسان يحتقر نفسه، ويتهم نفسه دائماً؛ لكي يسمو إلى معالي الأمور فهذا فضل، قال بعض السلف: والله ما جلست مجلساً وأرى نفسي أصغر القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم، ولا دخلت مجلساً وأرى نفسي أني أعلاهم إلا خرجت وأنا أدناهم. فالاحتقار للنفس نعمة كبيرة، قال مطرف بن عبد الله الشخير: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً] فالذي ضرنا العجب، ننظر إلى من هو دوننا ولا ننظر إلى من هو فوقنا، فلا ينظر الإنسان إلى الشباب الذين ابتعدوا عن طاعة الله أصلحهم الله لكي يقول: أنا الشاب الصالح الذي أغشى حلق الذكر وأسمع الندوات والمحاضرات؛ ولكن يقول: أنا المذنب، أنا المقصر، أنا المسيء، أنا الخطاء، أنا الذي عندي الذنوب التي لا أعرف أحداً أكثر ذنباً مني، يتهم نفسه وهو في عداد الصالحين وإلا فقد يكون الكفار أكثر ذنوباً منا، ولذلك قال بعض السلف وهو واقف بعرفة: لو نادى منادٍ من الله: غُفر لأهل هذا الموقف إلا واحداً لعددت نفسي ذلك الرجل. الإنسان إذا احتقر نفسه سما إلى الكمالات.

صنائع المعروف

صنائع المعروف من نعمة الله على عبده أن يشرح صدره للطاعة، ويكمل ذلك عليه بنعمة مكارم الأخلاق، فيصير للخيرات سباقاً، ولطاعة ربه ورحمته تواقاً ومشتاقاً، حتى يصير مفتاحاً من مفاتيح الخيرات، وسبباً من أسباب الرحمات، مستجمعاً لصنائع المعروف التي تفرج هموم المسلمين، وتعين الفقراء والمساكين.

فضل صنائع المعروف

فضل صنائع المعروف الحمد لله الذي اصطفى لمحبته الأخيار، فصرف قلوبهم في طاعته ومرضاته آناء الليل وأطراف النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وعلى جميع أصحابه الأخيار، ومن سار على نهجهم ما أظلم الليل وأضاء النهار. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخواني في الله! إن الله إذا أحب عبداً من عباده شرح صدره لطاعته، فإذا أراد أن يتمم عليه نعمته وأن يكمل عليه منته تممها وكملها بمكارم الأخلاق، يوم يصير للخيرات سباقاً، ولطاعة ربه ورحمته توَّاقاً ومشتاقاً، يوم يصير مفتاحاً من مفاتيح الخيرات، وسبباً من أسباب الرحمات، يوم يفرج الله به هموم المسلمين وغمومهم يوم يفرج الله به كربات المكروبين، ويرحم به المعذبين، ويغني به الفقراء والبائسين، يوم يجعله الله جل وعلا رحمة من رحماته، حين يملأ قلبه عطفاً على المسلمين، ورحمةً بهم ومواساة للمحتاجين. إنها صنائع المعروف التي اصطفى الله لها رجالاً واختار لها على مر العصور والدهور أجيالاً، يوم جعلهم مفاتيح الخيرات والرحمات، فعاشوا في هذه الحياة بالذكر الجميل والعمل الصالح الجليل، وخرجوا من الدنيا والله راضٍ عنهم غير غضبان، يوم أصبحوا نعمة على العباد لا نقمة عليهم، أصبح الواحد منهم مسلماً لله منقاداً مطيعاً مستسلماً ما إن يسمع رحمة من الرحمات ولا باباً من أبواب الخيرات إلا كان إليه سباقاً طالباً له ومشتاقاً، إنها الرحمة التي أسكنها الله قلوب الرحماء ولم تدخل الرحمة إلى قلب عبد من عباد الله، إلا أهله الله لرحمته، فالله يرحم من عباده الرحماء والله يحلم على الحلماء، وييسر على الذين ييسرون على عباده، ويرفق بمن رفق بخلقه وعبيده. إنها أبواب الخيرات، وأبواب الطاعات والرحمات التي يحقق بها المسلم إسلامه، التي يحقق بها المؤمن طاعته لربه والتزامه، إنها الاستقامة الصالحة، إنها الاستقامة الصادقة، يوم يتفطر قلب العبد شوقاً وحنيناً إلى رحمة من رحمات الله، وما يدريك فلعل دمعة اليتيم التي كفكفتها يكفكف الله بها دموعك في الحشر، وما يدريك عن هذه الكربة من أرملة من أرامل المسلمين فرجتها عنها فلعل الله أن يفرج عنك بها كربة من كرب يوم الدين، في يوم شديد الأهوال، في يوم تشيب منه ذوائب الأطفال، في يوم تضع فيه الأثقال ذوات الأحمال. أيها الأحبة في الله: ما شرح الله صدر عبدٍ من عباده لهذه الخيرات إلا جعله من أحب الخلق إليه، ومن أكرمهم وأعظمهم زلفى لديه، لذلك كان من أجلِّ نعم الله بعد الهداية أن يشرح صدر الإنسان لصنع المعروف. صنائع المعروف وما أدراك ما صنائع المعروف؟ التي يخط بها العبد الصالح في دواوين الصالحات تلك الحسنات العظيمة. صنائع المعروف وما أدراك ما صنائع المعروف؟ التي غفر الله بها الذنوب، وستر بها العيوب وفرج بها الهموم والغموم والكروب، فيا لله من أقوام عاملوا الله جل وعلا بهذه الأعمال الصالحة، خرجوا وقد ملئت دواوين أعمالهم بالحسنات الباقية، إنه الأجر الذي يتقدم الإنسان إلى الدار الآخرة، إنها مزارع الآخرة التي يحصدها الإنسان في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. لذلك أيها الأحبة في الله! كل مؤمن صالح ينظر في كتاب الله أو يقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد تلك الأبواب أمام عينيه مفتحة، يجد أمام عينيه الخيرات مؤهلة، تلك الخيرات وتلك الرحمات التي ندب الله إليها الصالحين والصالحات، فقال في كتابه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].

قواعد وأسس في صنائع المعروف

قواعد وأسس في صنائع المعروف

امتلاك القلب الرقيق

امتلاك القلب الرقيق القاعدة الثانية والتي لا يمكن للإنسان أن يكون من أهل المعروف إلا بها: أن يرزق الله العبد قلباً رقيقاً، القلب الرقيق الذي يفتحه العبد الصالح لهموم المسلمين وغمومهم، لن تستطيع أن تدخل تلك الأبواب التي فيها الرحمات وفيها عظيم الأجور والحسنات إلا بقلب رحيم بعباد الله المسلمين، إنها الرحمة التي قال الله جل وعلا يخاطب بها نبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. أن يكون عند الإنسان قلب رقيق، قلب إذا جاءه المهموم بهمه لا يتحمل أن تفيض عيناه، وكأنه صاحب شكواه. أن يكون عند الإنسان قلب يعيش أشجان المسلمين وأحزانهم، فإذا جاءه المكروب بكربه أو جاءه المهموم بهمه أو المغموم بغمه فتح له ذلك القلب الرقيق الرحيم؛ حتى تهون على صاحبه الدنيا فيشتري بها رحمه الله جل جلاله. أن يكون عند الإنسان قلب يعطف على المسلمين ويرحم المسلمين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الله) الراحمون أي: الذين أكرمهم الله جل وعلا بلين القلوب، والعطف على عباد الله، والشفقة على خلق الله جل جلاله، فليكن الإنسان رحيماً بعباد الله. إذا أتاك المهموم أو صاحب الحاجة أو المغموم فاعلم أن له فضلاً عليك يوم اختارك من بين الناس لهمه وغمه. ولذلك قال ابن عباس: [ما سألني صاحب حاجة حاجته إلا اعتقدت الفضل له أن اختارني من بين الناس] اختارك من بين الناس لحزنه، واختارك من بين الناس لهمه وغمه، فأعطه من الحنان وأعطه من الرحمة والإحسان فوق ما يرجوه منك. فإذا رزق الله الإنسان إخلاص العمل ورزقه قلباً رقيقاً بعباد الله رحيماً رفيقاً؛ تهيأت له أبواب الخيرات وتيسرت له سبل المكرمات جعلنا الله وإياكم منهم.

إخلاص العمل لله جل جلاله

إخلاص العمل لله جل جلاله أول قاعدة في صنائع المعروف وأساسها وأعظمها والتي يبارك الله بها: إخلاص العمل لله جل جلاله، فأول ما ينبغي على العبد الذي يريد أن يجعله الله جل وعلا صانعاً للمعروف المقبول أن يخلص لله جل جلاله، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، أن ينفق الإنسان وتسح يمينه بالخيرات آناء الليل وأطراف النهار، يشتري بذلك رحمة الله جل جلاله، لا ينفق رياءً ولا سمعةً ولا ثناءً، ولكن يريد رحمة الله، يريد ما عند الله، كما قال الله جل جلاله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:9 - 11] اللهم إنا نسألك أن تجعلنا منهم. أن تنفق يوم تنفق والآخرة أمام عينيك، أن تنفق يوم تنفق ومزارع الجنة كأنها أمام ناظريك، أن تشتري رحمة الله بكل مالٍ تُعطيه ولكل فقير تواسيه، أن تشتري رحمة الله بقلب لا يريد إلا ما عند الله جل جلاله، ما كان لله دام وبقي ما كان لله نفع العبد في الدنيا وفي الآخرة. فينبغي على الإنسان إذا فتح أبواباً من أبواب الخير، أو أوقفه الله جل وعلا أمام باب من أبواب الخير أن يفكر أول ما يفكر في المتاجرة مع الله. إن المتاجرة مع الله باقية، وهي الصدقة الطيبة الخالدة التي يثيب الله صاحبها عليها في الدنيا والآخرة إخلاص العمل لله. وكم من عامل أحبط الله عمله بالرياء! وكم من عامل أحبط الله عمله بالثناء! فاشترِ ما عند الله جل وعلا، فإن الثناء كل الثناء من الله، وإن أعظم ما ينتظره العبد رضوان الله جل جلاله، ولذلك ورد في الحديث وإن كان قد تكلم بعض العلماء على إسناده ولكنه عبرة وعظة ومعناه صحيح: (أن العبد إذا أقامه الله يوم القيامة وذكره أعماله الصالحة، قيل له: قرِّب، فيقرب أعماله، فيقول الله: ما تقبلت منها شيئاً) نسأل الله السلامة والعافية. وجاء في رواية أن الله تعالى يقول له: (اذهب فخذ أجرك ممن رائيته) اذهب وخذ الحسنات والأجور من ثناء الناس، خذ ما تريد من مدح الناس، خذ ما تريد من ذكر الناس، فاليوم لمن أراد الله والدار الآخرة، اشتر رحمة الله فإنها باقية خالدة تالدة.

أبواب صنائع المعروف

أبواب صنائع المعروف أما صنائع المعروف فهي أبواب عظيمة وكثيرة، ولذلك قال الله في كتابه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] فليست باباً واحداً، ولكنها أبواب كثيرة يعيشها المسلم مع هموم وغموم المسلمين لا يعلمها إلا الله جل جلاله، فلا تقتصر على إنفاق الأموال ولا تقتصر على ستر العورات وتفريج الكربات، ولكنها تعيش مع المسلم في كل خير وطاعة أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، كل خير يحبه الله ويحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو نفعٍ متعدٍ فإنه من صنائع المعروف.

إعانة المكروب

إعانة المكروب ومن صنائع المعروف إعانة المكروب عند كربه، وذلك يكون بأمور كثيرة تختلف باختلاف الناس، باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل ذي حاجة جاءك في حاجته فأعنه على تلك الحاجة التي لا تغضب الله، فذلك من صنيع المعروف الذي يحبه الله جل جلاله، ويشمل ذلك ما كان بالأموال، وما كان بالجاه من الشفاعة الحسنة التي لا تحول بين حد من حدود الله، يوم يأتيك عبدٌ ضعيف يريد من جاهك أن تشفع شفاعة لا يؤثر بها على ذي حق، ولا يتوصل بها إلى مظلمة فتلك من الشفاعات المباركة. وقال بعض العلماء: من زكاة الجاه والذكر الجميل، أن يسعى الإنسان في تفريج كربات الناس بذلك الجاه، من شكر نعمة الله بالجاه أن تبذله في تفريج الهموم وتفريج الغموم بالشفاعة الحسنة قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] الشفاعة الحسنة التي تعين على إيصال الخير للناس وتفريج الهموم والغموم عن عباد الله من صنائع المعروف.

مواساة المصابين والمكلومين

مواساة المصابين والمكلومين ومن صنائع المعروف التي يحبها الله جل علا: مواساة المصابين والمكلومين، فإن الإنسان إذا سمع عن أخيه أنه أصيب بمصيبة في نفسه أو أهله أو ولده؛ فعليه أن يؤهل نفسه لكي يقترب منه، فيذكره بحسن الثواب، وحسن العاقبة عند الله والمآب، علَّ ذلك يكون سبباً في صبره وسلوانه وعظم أجره عند ربه، فتثبيت القلوب عند الكربات وتثبيت القلوب عند المصائب من صنائع المعروف. فالمسلم يحتاج من أخيه إذا نزلت به ضائقة أن يواسيه ويسليه، يحتاج من أخيه إذا نزل به همٌّ وغمٌّ أن يثبته، فإن القلوب إذا نزلت بها المصائب تزلزلت، إلا أن يثبتها الله جل وعلا من عنده، فإذا جاء العبد الصالح وذكّر أخاه بما عند الله من الأجر والمثوبة كان ذلك من أعظم المعروف الذي يسديه إليه.

الصلح بين الناس

الصلح بين الناس ومن صنائع المعروف: الصلح بين الناس إذا تقاطعوا، والصلح بين الناس إذا تهاجروا، وقطع أسباب الضغائن والشحناء، وقطع أسباب الفتن والبغضاء، فإنها من أعظم الأمور المقربة إلى الله جل وعلا، والتي شهد الله من فوق سبع سماوات أنها خير النجوى، قال سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114]. إنها لخطوات عزيزة عند الله يوم تسعى في لمِّ شملٍ قد تفرق يوم تسعى لجمع قلوب المؤمنين، فما أحوج الناس إذا وقعت بينهم الخصومات والنزاعات إلى من يجمع شملهم إلى من يؤلف بين قلوبهم إلى من يقطع سبيل الشياطين عنهم إلى من يقف معهم لكي يذكرهم بما في العفو من الأجر عند الله جل جلاله! فلذلك كان من أحب الأعمال إلى الله: السعي بالصلح بين الناس الصلح بين الزوجين الصلح بين المتخاصمين، فلا تعلم بقطيعة بين مسلم ومسلم إلا أهّلت نفسك للصلح بينهم، فإن الله يشكر خطوات الصلح ويحب أهلها ويثني عليهم كما أخبر الله جل وعلا بحسن الأجر لهم، وأن من احتسب أجره وثوابه عند الله أن الله يؤتيه أجراً عظيماً. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخيرات، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وتفريج الكربات، اللهم فرج عنا همومنا، وفرج عنا غمومنا، اللهم أصلح لنا أحوالنا إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله إن أعظم معروف تبذله إلى الناس وأعظم خير تبذله إلى خلق الله الدعوة إلى الله جل جلاله، تقريب القلوب إلى الله وتحبيب عباد الله في الله أعظم ما يكون من الخير والمعروف، يوم ينقذ الله بك حائراً يوم يهدي الله بك ضالاً تائهاً يوم تأخذ إنساناً غريباً عن ربه بعيداً عن طاعته، فتأخذ بمجامع ذلك القلب إلى الله، فما ركع ركعة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا صنع خصلة من خصال الخير إلا أجرت على تلك الخصلة أياً كانت. ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يقام للرجل يوم القيامة ديوانه فتأتي أعمال كالغمامات فيقول: يا رب ما هذا؟ فيقال: سنن هديت إليها كان لك أجر من عمل بها) أي: سنن وخيرات دللت عليها وصنعت بها المعروف أجرت مثلما أجر أصحابها.

المعونة على الدعوة إلى الله

المعونة على الدعوة إلى الله ومن صنائع المعروف بعد الدعوة إلى الله المعونة على الدعوة إلى الله، وذلك بحب العلماء ونشر فتاويهم وذكرهم بالجميل، وتحبيبهم إلى الناس وتقريبهم إلى قلوب الناس، فذلك من المعروف بالعلماء، وذلك من رد الجميل لهم ذكرهم بالجميل ونشر خيرهم بين الناس من أعظم الحسنات وأعظم الأجور المقربة إلى الله، فوالله لا يحب العلماء إلا الصالحون ولا يسعى لنشر خيرهم بين عباد الله إلا عباد الله المتقون، جعلنا الله وإياكم منهم.

السعي على الأرامل والأيتام

السعي على الأرامل والأيتام ومن صنائع المعروف التي يحبها الله جل جلاله: السعي على الأرامل والأيتام التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فضلها كالصيام والقيام، يوم تسعى على الأرملة التي لا تجد من يعولها فتكفيها بإذن الله همها وغمها يوم تذكر تلك المهمومة المغمومة حزنها وشجاها بفقد ولدها فتجد من عباد الله المسلمين من يفرج همها وغمها بإذن الله رب العالمين. والسعي على الأرامل والأيتام قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم النهار الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر) قال بعض العلماء: إنما فضل النبي صلى الله عليه وسلم السعي على الأرامل والأيتام بهذا الفضل لأن النفع متعدٍ، ومثل اليتيم والأرملة لا يجد من يعينه إلا الله جل جلاله، فإذا أهَّل الإنسان نفسه للسعي عليهم وتفريج كرباتهم والإحسان إليهم كان ذلك من أعظم الخير والبر.

الأسئلة

الأسئلة

الدعاء لإخواننا في مختلف بقاع المسلمين

الدعاء لإخواننا في مختلف بقاع المسلمين Q نحن هاهنا قد اجتمعنا في بيت من بيوت الله، ونتفرق إلى بيوتنا وأولادنا وأطعمتنا وأمننا وأماننا، ولنا إخوة في شتى بقاع المسلمين كالبوسنة والهرسك وإريتريا وفلسطين وغيرها من بلدان المسلمين لا يجدون مثل هذا، فهل من دعاء وتوجيه للإخوة في إرخاء أيديهم في دعمهم؟ وهل من دعاء في هذا الجمع المبارك لإخواننا خصوصاً في البوسنة والهرسك، فنحن في فصل الشتاء نعلم أنه قد مات منهم الكثير بسبب الجوع والبرد، رقق قلوبنا رقق الله قلب الحاضرين وقلبك، ونفعنا بدعائك وتقبل من الجميع؟ A اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، يا من عز جاهك! وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله غيرك. يا ذا الحبل الشديد! يا مبدئ يا معيد! يا جبار يا قهار! يا واحد يا أحد! يا فرد يا صمد! يا من عجت ببابك الأصوات! وفرجت منك الهموم والغموم والكربات، يا من أنت السند والعضد! وأنت الملجأ والمنجى والمهرب، أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى وجلالك العظيم، اللهم مُنَّ على إخواننا في البوسنة والهرسك بالصبر والثبات، اللهم ارحم موتاهم، اللهم تقبل شهدائهم، اللهم استر عوراتهم، اللهم آمن روعاتهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم متفرقون فاجمعهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم داو جرحاهم، وارحم موتاهم، والطف بنا وبهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عليك بالصرب ومن شايعهم، اللهم أحصهم عددا، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تغادر منهم أحداً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك في الدنيا قبل الآخرة، اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم ألق الرعب في قلوبهم، اللهم انتقم منهم فإنك عزيز ذو انتقام، اللهم أنزل بهم بأسك الشديد، وعذابك الأكيد، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل الرعب في قلوبهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.

من عقبات الزواج ممن كبر سنها

من عقبات الزواج ممن كبر سنها Q هذا تعقيب على سؤال الأخت السائلة التي تشكو حالها، وأنها كانت تطلب الشهادة في دراستها وتركت الزواج، يقول: فضيلة الشيخ تعليقاً على الأخت التي سألت عن حالها ولم تتزوج هي ولا أخواتها، نقول: يا فضيلة الشيخ! قد يتقدم البعض لأمثال هذه الأخت ولكن قد يواجه عقبات، لأنه يريد هذه الأخت أو إحدى أخواتها زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة، أليس بعض زوج أفضل من عدم زوج. السبب الثاني: أن بعض الأخوات تتمسك بالعمل وترفض الزواج من أجل العمل، فما توجيهك وفقك الله خصوصاً في المسألة الأولى وهي مسألة التعدد، أليس نساء الصحابة، بل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل كتاب الله تعالى ذكر التعدد في النساء، نرجو التوجيه وبيان أن ذلك الأمر ليس عيباً، وإنما هو من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ A الله المستعان، الله يعين النساء علينا! أما قضية التعدد فهي قضية بيَّن الله حكمها وأنزل على نبيه فصل القول فيها، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحرم ما أحل الله. أختي المسلمة: ارضي بما كتب الله وأعيني زوجك على تحصين فرجه، حتى يكون ذلك أغض له عن الحرام وعن الفواحش والآثام، ليس في التعدد غضاضة، فلو كانت فيه غضاضة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين، إن التعدد يجمع شمل أهل الإيمان، حتى إن الرجل يتزوج أربع نسوة إذا مرض مرضت بيوت المسلمين؛ لأن هذا رحيمه وهذا رحيم لرحيمه فتجتمع القلوب وتتآلف ويصبح الناس كالبيت الواحد، ولذلك ما إن فقد الناس هذا المعنى حتى أصبح الرجل يعيش في الحياة هو وزوجه فقط، فلذلك التعدد هدف سامٍ إسلامي نبيل يكثر به عباد الله وأولياء الله، وينتشر به النسل الطيب، وكذلك يعم به الخير ويكون فيه من المصالح والمنافع ما الله به عليم، والله أعلم بخلقه وأحكم بشرعه ونظامه. فينبغي على المؤمنة أن ترضى بحكم الله جل وعلا، ولا ينبغي لها أن تضايق زوجها، ولا تضيق على بعلها في زواجه من الثانية، اتقي الله فإن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً، كم من امرأة كرهت زواج الثانية فكان زواج الثانية سبباً في صلاح زوجها، تزوج زوجها الثانية فعرف فضل الأولى وهذا من حكمة الله جل وعلا، أن المرأة لا يعرف فضلها إلا بغيرها. فلذلك أوصي أخواتي المسلمات خاصة الصالحات والمتدينات، فإنه للأسف أن بعض الصالحات والمتدينات يكرهن ذلك ويشنعنه، حتى إن بعضهن يقلن: ذاك رسول الله وتلك الصحابيات، ومن لنا نحن برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن يشبهه في حسن عشرته وغير ذلك من الأعذار، لا ينبغي هذا ولا يجوز، ينبغي على المؤمنة أن تتقبل حكم الله بكل رضاً وبكل تسليم، يقول الله جل وعلا لنبيه: {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:65] يقسم سبحانه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. فسلمي رحمك الله تسليماً، وإذا علمت أن زوجك يريد تحصين فرجه فأعينيه، أو كفي أذاك عنه؛ فإن الله لا يحب من المؤمنة أن تكون أذية على المؤمن، أسأل الله العظيم أن يبصرنا بحكم دينه، وأن يعيننا على التزام شريعته، والله ما منعت امرأة بعلها وضيقت عليه من الزواج من الثانية فصبر خوفاً من قطيعة رحم، وما زال يتعرض للفتن فآذته أن يتزوج الثانية حتى وقع في فتنة أو في حرام إلا كان لها من ذلك نصيب. اتق الله إذا رأيت البعل يريد أن يحصن فرجه خاصة في هذا الزمان الكثير الفتن، الكثير المحن، فأعينيه أعانك الله أعينيه على دينه أعينيه على إعفاف فرجه وإحصان نفسه، وكوني مؤمنة حقاً ملتزمة بشريعة الله تعالى، فلعل الله أن يجمع شملك بامرأة صالحة، وبصالحات يعنك على ذكر الله وطاعة الله، ودعي وساوس الشيطان وكوني من الصالحين من أهل الإيمان، والله تعالى أعلم.

كيفية الجمع بين طلب العلم والعمل في التجارة

كيفية الجمع بين طلب العلم والعمل في التجارة Q أنا طالب علم، وقد جربت التجارة فوجدت أنني موفق في التجارة، وأنا الآن محتار بين طلب العلم أو العمل في التجارة، ووالله لست بجامع للدنيا، ولكن أريد أن أستعمل هذه التجارة لوجه الله تعالى، فبماذا ترشدني وفقك الله؟ A أنت بين تجارتين: تجارة فانية وتجارة باقية، فإن قلت: أطلب التجارة للدين فهذا فضل ونية صالحة، ولكن هل تستطيع أن تضمن نفسك على هذا الثبات، وعلى هذا الحب لما عند الله جل وعلا إلى أن تصيب التجارة؟ لا تستطيع، ولكن إذا طلبت العلم نفعت الناس في تجارة مصلحتها باقية، فأنت بين تجارتين: تجارة مصلحتها مضمونة وتجارة مصلحتها باقية خالدة تالدة حتى تكاد تكون قطعية؛ لأن الإنسان إذا طلب العلم كسر قلبه للآخرة. ولذلك الإنسان إذا طلب العلم وفقه الله لبذله إذا أخلص لوجه الله، فأنا أوصيك أن تؤثر تجارة الآخرة على تجارة الدنيا، فلعل الله أن يرى منك صدقاً في طلب تجارة الآخرة وتطلب العلم، ثم يفتح لك باباً من أبواب الدنيا، فيكون قد جمع الله لك بين التجارتين، فلذلك لا أوصيك أن تترك تجارة العلم، والله إنها لأعظم التجارات وأربحها وأحبها إلى الله جل وعلا، يأتيك الرجل في دياجير الظلمات لا يدري امرأته تحل له أو تحرم عليه، مهموماً مغموماً مكروباً فتفتيه الفتوى، فيقول: الله يرحم والديك، سبحان الله! يعني ليس خيرها لك فحسب، بل حتى لوالديك، فقد يكونا ميتين تغشاهم الرحمات بهذه الدعوة الصالحة، تجارة العلم تجارة رابحة. ولذلك قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69] ثم من بعدهم {وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] قال بعض العلماء: الصديقون هم العلماء العاملون جعلنا الله وإياكم منهم. العلم مع العمل أفضل وأعلى وأسمى وأصل التجارات وأقربها إلى الله جل وعلا وأحبها إليه، فلذلك أوصيك بهذه التجارة الباقية، أما تجارة الدنيا فاتركها لأهلها، ولذلك ورد في الحديث الصحيح في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب البقاع إلى الله مساجدها) هذه تجارة العلم التي فيها مساجدها: (وأبغض البلاد إلى الله أسواقها). قال بعض العلماء: أبغض البلاد إلى الله أسواقها؛ لأن فيها النجش، وفيها الحلف بالله كاذباً، وفيها غش المسلم، وفيها أكل أموال الناس بالباطل، وفيها الربا، وفيها المحرمات والمنكرات، وغير ذلك من الغفلة عن الله جل وعلا وعن ذكر الله. فلذلك لا أوصيك أن تزج بنفسك إلى هذه الفتن، وقد تقول: إني أريد المال للآخرة، لكن لا تضمن نفسك، ولذلك لما أمر المنصور أبا قلابة أن يتولى القضاء فر إلى الشام رحمة الله عليه، فقيل له: لم لا تتولى القضاء وأنت أنت؟ فقال رحمه الله: أرأيتم لو أن رجلاً يسبح ورمي في البحر إلى متى يسبح. حتى لو كان سباحاً إذا رمي في البحر فإلى متى يسبح؟! تأتيه الأمواج تلو الأمواج تلو الأمواج حتى يفنى ويهلك ثم يغرق. هكذا الإنسان ولو كان قوي الإيمان في خضم الفتن الكثيرة تأتيه الفتنة تلو الفتنة، ويأتي رجل يكذب ويقول: لمصلحة العمل، ويأتي آخر يغش ويقول: لمصلحة العمل، قد يخالط الأشرار، قد يخالط الفجار، قد يسمع الحلف بالله كاذباً، يسمع المنكرات فلا يستطيع أن ينكر منها منكراً، فلا يزال يفقد نوراً من الإيمان نوراً من الإيمان، حتى لربما دخل السوق وليس في قلبه إلا مثقال الذرة من الإيمان نسأل الله السلامة والعافية. هذه فتن سلم نفسك وفر من الله إلى الله، وخذ بصلاح دينك ودنياك وأخراك، والله تعالى أعلم.

حكم صدقة الإنسان الذي عليه دين

حكم صدقة الإنسان الذي عليه دين Q ذكرت في صنائع المعروف التصدق على الآخرين والمحتاجين، فهل يجوز للإنسان أن يتصدق وعليه ديون كثيرة، وقد خصص لها من راتبه الشهري، ولا يبقى منه إلا النفقة فقط، فهل يحل له الصدقة وهو في مثل هذه الحال؟ A الله أكبر! تسألوني وعندكم عالم العلماء وإمام الأئمة الشيخ محمد حفظه الله، أنا لا أفتي في الأحكام، ولن أفتي إن شاء الله بعد هذا السؤال في الأحكام، نسأل الله أن يحفظ الشيخ وأن يرعاه وأن يبقي خيره للإسلام والمسلمين، والله إني لأذوب خجلاً ووجلاً في بلد فيه مثل هذا العالم، أسأل الله أن يحفظه وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين كل خير. أما الأحكام فجنبوني، فعندكم الشيخ حفظه الله، ولكن سلوني عن أمور القلوب، ومع ذلك والله إني لأعده من الخطأ أن أفتي في هذا المكان المبارك الذي فيه الشيخ، أسأل الله أن يحفظه، وأن يرعاه وأن يعلي قدره، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء فاعذروني رحمكم الله.

علاج من وسوس له الشيطان بترك العلم وجمع له الهم والغم

علاج من وسوس له الشيطان بترك العلم وجمع له الهم والغم Q وفدت إلى هذه البلاد لطلب العلم أسأل الله أن يجعل نيتي ونية كل مسلم صالحة خالصة، ومع الجو الدراسي والدروس وحفظ المتون جاءني الشيطان يرغبني عن العلم ويصرفني عنه، ويضعف عزيمتي ويشغلني بما لا يفيد، فقسا قلبي وانشغلت عن كتاب الله وعن التركيز في دروسي، واجتمعت علي هموم وغموم وأحسست بضيق شديد، فيا شيخنا الفاضل -جزاك الله خيراً- ابذل لي النصيحة ولمن وقع في مثل ما وقعت به لعلها تقع في قلبي موقعاً ينفعني الله به، نفع الله بك وجزاك الله خير الجزاء؟ A أسأل الله العظيم أن يكتب خطواتك، وأن يعظم أجرك، وأن يكثر من حسناتك يوم أن خرجت من بيتك طالباً للعلم راغباً فيما عند الله فأبشر بخير من الله إن شاء الله. أخي في الله! أحسن الظن بالله فإن الله جل وعلا عند حسن ظن عبده به، هذا ابتلاء ابتلاك الله به، ولعل الله بعده أن يرفع درجتك، وأن يعظم أجرك وأن يحسن وأن يعلي بالعلم ذكرك، أبشر بخير، فما طلب أحدٌ العلم إلا ابتلاه الله، إن الله يبتلي طالب العلم بالهموم والغموم فيجد من يخذله ويجد من يهينه، ويجد الشدائد في التغرب في غربة الأسفار والبعد عن الأوطان والأحباب والخلان، ومفارقة الأهل والولدان، إلى غير ذلك من المحن والفتن، حتى يكون عاقبتها رضوان الله الواحد الديان، إن العلم يحتاج إلى جهاد لأن فيه فتناً ومحناً لا يعلمها إلا الله جل جلاله. قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أوحى الله إليه بجبريل أخذه فغطه حتى رأى الموت، ثم أخذه فغطه حتى رأى الموت، ثلاث مرات وهو يقول له: اقرأ فيقول: ما أنا بقارئ، ففي هذا دليل على أن العلم لا يكون ولن يكون إلا بعد الامتحان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه الله رأى الموت، (أخذني فغطني) يعني حتى كاد أن يهلك صلوات الله وسلامه عليه، وهذا فيه سلوان لكل طالب علم، تحفظ وتسهر الليل وتتعب ولا تجد لذة النوم ولا لذة الدنيا، كل ذلك من عاجل الامتحان؛ لأن الحياة التي ترضي الله مبنية على الجهاد {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] أي: والله لنهدينهم سبلنا، أنت الآن في الثمن وغداً بإذن الله تنال المثمن، حين تفوز بعلم يرضي الله، وجنة هي المأوى من الله جل جلاله. أبشر بخير وأحسن الظن بالله، وقل لعدوك إبليس: اخسأ عدو الله فلن تنثني لي عزيمة ولن يضعف لي عزم في طاعة الله ومرضاة الله بطلب هذا العلم. كان السلف الصالح يتغرب الرجل منهم عن أهله حتى لا يسمع عنهم خبراً، وكانوا يتغربون عن أوطانهم، وكانوا يسيرون الأسفار التي ترى فيها الأهوال والشدائد والموت والمصائب، ومع ذلك كله رفع الله بالعلم قدرهم، وعظم بالعلم أجرهم، فلا يزال أهل العلم وطلاب العلم في هذا الامتحان من الله جل جلاله. أبشر بخير وأحسن الظن بالله جل جلاله، ولكن لا تستجب لنوازغ الشيطان وتوهين الشيطان، واستعن بالله العظيم المنان، وسل الله أن يثبتك فإن الله بيده ثبات القلوب. أما الوصية الثانية التي أوصيك بها: تفقد نفسك في الذنوب التي بينك وبين الله، وفي الذنوب التي بينك وبين عباد الله، فإنه ما دخل همٌّ ولا غمٌّ على عبد إلا بسبب ذنب: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] فلعلك في يوم من الأيام أتاك العجب بطلب العلم، وقلت: إني سافرت لطلب العلم، أو إني أفعل وأفعل فمقت الله منك ذلك فكان سبباً في هذا الابتلاء، قال سفيان: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل أربعة أشهر، وهو إمام من أئمة السلف وديوان من دواوين العلم، فلعل هناك ذنباً بينك وبين الله أو بينك وبين عباد الله، ربما مع إخوانك وطلاب العلم من جيرانك، آذيت أحداً منهم من أحباب الله والأخيار، فغضب الله عز وجل عليك بأذيته فحرمك لذة العلم. تفقد معاملتك مع إخوانك ومعاملتك خاصة مع طلاب العلم، فإن كثيراً من طلاب العلم يبتليهم الله بسبب التعامل مع بعضهم. أما الوصية الأخيرة: فانطرح بين يدي الله، وأكثر من سؤال الله وناجه وناده فإنه عليه المعول وهو مصلح الأحوال، وإليه المرجع والمآل، سبحانه الكبير المتعال، والله تعالى أعلم.

علاج قسوة القلب وجلساء السوء

علاج قسوة القلب وجلساء السوء Q أنا شاب أريد التوبة والهداية، ولكن كيف السبيل وما الطريق، وكيف أترك المعاصي وأترك جلساء السوء وهم يأتون إليَّ ويجالسونني وأشاركهم في سماع الأغاني واستعمال ما يغضب الله تعالى، وأحس بقسوة في قلبي، فكيف العلاج لي ولأمثالي جزاك الله خيراً، فلعل الله أن ينفعني بك؟ A أخي في الله أهنئك ببشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه تصعد الملائكة إلى الله جل وعلا -وقد جلست في مجلس ذكر في بيت من بيوت الله- فيذكرون لله جل وعلا حال هؤلاء الأخيار يوم جلسوا في المسجد يذكرون الله العظيم، فقالوا: أتيناهم وهم يذكرونك ويسبحونك ويمجدونك فيقول: ماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة. قال: وهل رأوها؟ قالوا: لا. قال: كيف لو رأوها لكانوا أشد طلباً لها أو رغبة فيها، ثم يقول: ممَّ يستعيذونني؟ فيقولون: من نارك. فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب. قال: كيف لو رأوها؟ ثم يقول: قد غفرت لهم. فتقول الملائكة: إن فيهم فلاناً، عبد خطاء كثير الذنوب جلس معهم؟ فيقول الله: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فأسأل الله بعزته وجلاله كما جلست في مجلسنا أن يغفر لك ولكل مذنب ذنبه، وأن يفرج لنا ولكل مكروب كربه. أبشر أخي في الله! ومن هذه الساعة عاهد الله جل وعلا على توبة نصوح، أوصيك أخي في الله يوم أثقلتك الذنوب وعظمت عليك الخطايا والعيوب أن تتذكر رحمة الله علام الغيوب، واعلم أن الله يناديك ويبسط يده بالليل لتتوب إليه بالنهار (لكي تنيب إليه) فأبشر يوم أقبلت عليه، أقبل على الله، ومن هذا المجلس أحسن الظن بالله، واطو صفحة الماضي وقل: يا نفس توبي، ويا نفس أنيبي، وأقبل بصفحة جديدة فلعل الله جل وعلا أن يغفر لك ذنوبك الماضية وأن يجود ويتفضل فيجعلها حسنات باقية، أقبل على الله وأحسن الظن بالله فإنه نعم المولى ونعم النصير. من منا لا يخطئ، ومن منا لا يذنب، ومن منا لا يسئ، ومن منا لم يقفل بابه على ذنب بينه وبين الله، ومن منا من لم يرخ حجابه على ذنب بينه وبين الله، ومن لهذه الذنوب والهموم والخطايا والعيوب غير الله جل جلاله، ولذلك نادى عباده فقال: {قُلْ يَا عِبَادِ} [الزمر:10] سبحانه ومن لهم غيره! فهو اللطيف بهم وهو الرحيم بهم وهو العليم بحالهم، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا جميعاً بالتوبة النصوح. اللهم إنا نسألك الإنابة إليك، وأن تتقبلنا من عبادك التائبين المنيبين، والله تعالى أعلم.

هل طلب العلم وحفظ القرآن من صنائع المعروف؟

هل طلب العلم وحفظ القرآن من صنائع المعروف؟ Q تكلمت وفقك الله عن صنائع المعروف، فهل القيام بهذه الصنائع أفضل من بعض القربات الخاصة بالإنسان التي يعملها الإنسان لنفسه، كطلبه للعلم وحفظه للقرآن وتدبره، وغير ذلك مما يعود أثره على الإنسان نفسه لا على الآخرين؟ A أخي في الله: ورد في السؤال أن طلب العلم منفعة للنفس وهذا محل نظر، فإن طلب العلم جمع الله فيه بين الفضلين: فضله على النفس وفضله للغير، ولذلك فإن طلب العلم أفضل من صنائع المعروف لأنه أشرفها وأعظمها وأعلاها وأجزلها ثواباً عند الله جل وعلا؛ لأنه أعظم المعروف. فأعظم المعروف أن تأخذ بحجز القلوب عن النار، وأعظم المعروف أن تقرب العباد إلى رحمة الله الكريم الغفار، فأبشر بخير ما أنت فيه من طلب العلم، ففيه خير كثير. ولكن كما قال العلماء: ينبغي على طالب العلم أن يمزج طلب علمه بشيء من الصالحات؛ مثل تفريج كربات المكروبين، والإحسان إلى الضعفاء والمحتاجين؛ فإن هذا يعينه على طلب العلم، ولذلك كانوا يستحبون لطلاب العلم أن يجمعوا بين الحسنيين لكن شريطة ألا يؤثر على طلب العلم، فاجعل لك صدقة في الشهر جارية ابحث عن بيت من بيوت الأيتام والأرامل تعطيه كل يوم طعاماً {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:11 - 17]. فلذلك أوصيك أن تجمع بين الحسنيين توصي بالصبر والمرحمة عن علم حينما تتعلم العلم، وتقتحم العقبة فتفك الرقبة وتطعم في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة. فيا أخي في الله: اجمع بين الحسنيين، والغالب في طالب العلم أنه إذا انشغل بطلب العلم وترك الأعمال الصالحة أن يكون علمه جافاً، ولذلك تجد بين طلاب العلم تفاوتاً كبيراً؛ فمن طلاب العلم من جمع الله له بين العلم وبين الإحسان، وهذا أعلى المراتب وأفضلها وأحبها، ومن طلاب العلم من عود نفسه من البداية على الاقتصار على نفسه، والاقتصار على تعليم الناس دون تفريج كرباتهم وقضاء حوائجهم، ودون السعي في مصالحهم وهو على خير، ولكن يفوته من الخير ما هو أعظم، فهذا حسن وهذا أحسن، وهذا فاضل وهذا أفضل. فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يجمع بين الحسنيين، والله تعالى أعلم.

دواء خلو الصلاة من الخشوع

دواء خلو الصلاة من الخشوع Q أحب أن تبين لي قضية الخشوع في الصلاة، فإن الإنسان يصلي الصلاة ثم يخرج منها وقد خرج بأفكار وخطط وأعمال، وأما الصلاة فإنه قد لا يدرك إلا القليل منها، فإذا كان هذا الداء فما الدواء؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فجزاك الله خيراً على هذا السؤال الذي هو من أهم الأسئلة لتعلقه بالصلاة. أما الخشوع في الصلاة فهي نعمة إلهية، ومنة ربانية يمنحها الله من يشاء، وذلك فضله، ونعم والله العطاء يوم يكرم الله العبد فيقبل على الله بقلبه وقالبه يوم يقبل على الله جل وعلا يستشعر هيبة الموقف بين يديه جل جلاله. أوصيك أخي في الله إذا دخلت إلى بيت من بيوت الله فادخله وليس في قلبك إلا الله، أثر عن بعض السلف أنه أكثر من عشرين عاماً ما سها في صلاة واحدة، فقيل: لقد أممت في أكثر من عشرين عاماً ما سهوت في صلاة واحدة فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما دخلت المسجد وفي قلبي غير الله. أن تدخل إلى هذه المساجد وأنت على عقيدة وإيمان أنها لله لا للدنيا أن تدخلها وأنت ترعد فرائصك من خشية الله جل جلاله أن تخاف المقام بين يدي الله. كان علي زين العابدين إذا توضأ احمر وجهه وتغير لونه، فقيل: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ قال: ألا تدرون من الذي أناجيه وأقف بين يديه. كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يدخلون بيوت الله بقلوب نقية، بقلوب خالية ليس فيها إلا الله، يشترون رحمة الله بكل عمل صالح، وهذا من أعظم الدلائل على الإخلاص لوجه الله جل جلاله. فإذا دخلت المسجد وقلبك معمور بذكر الله انشغلت عن كل شيء سوى الله، وقد أثر عن مسلم بن يسار رحمه الله -إمام من أئمة التابعين علماً وصلاحاً وخيراً- أنه كان يصلي في مسجده بالكوفة، فسقط المسجد -وذلك في الضحى- فهرع الناس من السوق يقولون: هلك مسلم، فلما جاءوا وجدوه يتشهد وسلَّم من صلاته فقال: والله ما شعرت به إلا بعد السلام. نصف المسجد يسقط ولا يشعر به من لذة مناجاة الله، كانوا إذا دخلوا دخلوا بقلوب فارغة ليس فيها إلا الله سبحانه وتعالى. الأمر الثاني: أخي في الله! تذكر هذه الصلاة يوم يجعلها الله لك نوراً في القبرِ، تذكر يوم يجعلها الله لك نوراً في الحشر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة نور) الصلاة نور أي: نور في القبور، ونور يوم البعث والنشور، وهذا النور أحوج ما يحتاجه الإنسان، فإن للقبور ظلمة، نسأل الله العظيم بعزته وجلاله وكماله أن يكفينا ظلمتها ووحشتها، ولا يستطيع الإنسان أن يجد لتلك الظلمة نوراً إلا من فضل الله جل جلاله ورحمته وحلمه به سبحانه وتعالى، فلا إله إلا الله من قوم أدوا الصلاة على أتم وجوهها أصبحت عليهم القبور اليوم أنواراً، الصلاة نور واستشعار عظيم الأجر بها، وأنها ستكون لك نوراً بالقبر ونوراً في الحشر ونوراً لك على الصراط، ذلك يدعوك إلى إتقانها وإكمالها، فاستشعر هذا. أولاً: لا تدخل إلى المسجد وفي قلبك غير الله. ثانيا: اشعر بحاجتك إلى هذه الصلاة، ودائماً إذا تذكر الإنسان القبر وهول القبر، وأنه ستمر عليه مثل هذه اللحظة وهو ضجيع القبر أحوج ما يكون إلى ما يؤنسه، دعاه والله ذلك إلى استشعار هيبة الموقف بين يدي الله جل جلاله. الأمر الثالث: أن تصلي صلاة المودع، أن تجعل هذا الصلاة ولو كانت سنة، اجعلها آخر عهدك من الدنيا، فإن العبد إذا صلَّى صلاة مودع فإن الله جل وعلا يرزقه الخشوع، ويرزقه إحسان هذه الصلاة وإتقانها. الأمر الرابع: استشعر عواقبها الحميدة، فوالله ما أديت الصلاة على أكمل خشوع إلا حفظك الله به، ولذلك أخبر الله جل وعلا أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، لكنه قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] من هم يا رب {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] حتى قال بعض العلماء: إن هذه الآية تدل على أن الخشوع في الصلاة سببه وأساسه كثرة ذكر الآخرة {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة:46] يظنون بمعنى: يوقنون، كقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] فالظن يستعمل بمعنى اليقين أي: توقن بلقاء الله، وذلك يدعوك إلى إتقان الصلاة بين يدي الله جل وعلا. الأمر الخامس: الحياء والخجل وأنت تقف بين يدي الله وقلبك مصروف إليه، يخجل الإنسان ويستحي من الله جل جلاله، حين يقول: الله أكبر ويقبل على الله ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن بيده ملكوت كل شيء سبحانه لا إله إلا هو، الذي لا أعظم من نعمته ولا أجل من منته، ومع ذلك يجد الإنسان أنه فضله وأكرمه أنه يقف بين يديه، وهو يقول: الله أكبر ودون حياء ولا خجل ولا وجل ينصرف إلى دنيا فانية ومتاع حائل وظل زائل، فإنا لله وإنا إليه راجعون! صدق الله يوم أن قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] إيه والله ما قدرنا الله حق قدره، ولكن نسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا وإياكم تعظيمه، ونعوذ به من عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، ومن علم لا ينتفع به، استعذ بالله جل جلاله، سل الله يعطك، سل الله أن يرزقك خشوع العبادة، فوالله إن القلوب بين إصبعين من أصابعه وفي طرفة عين لربما قلبك فأصبحت من الخاشعين، إذا دخلت الصلاة تمنيت أن حياتك كلها صلاة فاسأل الله يعطك فإنها خزائن ورحمات من الله ينفح بها من يشاء. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الفضل وهذا العطاء والنوال، والله تعالى أعلم.

الأسباب المعينة على أداء صلاة الفجر جماعة

الأسباب المعينة على أداء صلاة الفجر جماعة Q أنا شاب قليل الانتباه لصلاة الفجر، مع أني أفرح لصلاة الفجر، فبماذا تنصح الذين يقصرون في صلاة الفجر، حتى إنه في بعض المساجد لا يصلي إلا ثلاثة في صلاة الفجر، مع أن حول المسجد ما يقارب الثلاثين منزلاً، وما هي الأسباب المعينة على مجاهدة النفس في أدائها؟ A بكل اختصار أولاً: لا يمكن للإنسان أن يشهد الصلوات ويحافظ عليها إلا بكمال الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) فالإيمان هو الذي يحرك القلوب لشهود الصلوات مع الجماعة. ثانياً: احتساب الأجر والثواب، ولذلك قال العلماء: إن الإنسان يحافظ على الخير إما رغبة أو رهبة، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر رغبتهم في الدنيا، فقال: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً) فإذا استشعرت ما في الصلاة مع الجماعة من عظيم الأجر والرحمة والرضا من الله جل وعلا أعانك ذلك على ترك الفراش والمبادرة إلى الصلاة. ثالثاً: كثرة الخطا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ وذكر منها: كثرة الخطا إلى المساجد)، فخروجك إلى الصلاة مع الجماعة، واحتسابك للأجر في كثرة الخطا وشهود الصلاة، فإن شهدتها من أول ما تكون من تكبيرة الإحرام والتأمين مع الإمام وغير ذلك من الفضائل كان ذلك أعظم حظاً لصاحبها. إن استشعار هذا الثواب من الله جل وعلا هو الذي يحرك الإنسان لما عند الله، لكنه لم يكن إلا بإيمان، فإذا كان عند الإنسان إيمان وشعور بالثواب من الله عز وجل حركه إلى المبادرة والمسارعة إلى مثل هذه الصلوات. رابعاً: الأخذ بالأسباب، فمن أعظم الأسباب النوم مبكراً، فقد قرر العلماء أنه إذا كان سهر الإنسان ولو في النوافل يؤدي إلى ضياع صلاة الفرض أنه لا يجوز له أن يسهر، لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به، فإذا كان سهر الإنسان يؤدي إلى ضياع صلاة الفجر فلا يجوز له السهر إلا من ضرورة ملحة، فإن سهر وضع بجواره منبهاً أو يوصي أحداً أن يوقظه، أو يوصي جاره، أو يوصي إمام المسجد أو مؤذن المسجد أو نحو ذلك، أو من يتصل عليه، يأخذ بالأسباب، فإذا أخذ بذلك فإن الله يعينه. والأصل في هذا حديث أبي حذيفة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرس في مقدمه من غزوة، قال: يا بلال اكلأ لنا الليل) قال العلماء: في هذا دليل على أنه يجب على الإنسان إذا تأخر نومه أن يهيئ الأسباب لاستيقاظه بتوصية من يوقظه، ومن هذه ما تيسر الآن من وجود المنبهات ونحوها، وهذه من الأمور المهمة التي يجب على الإنسان أن يحافظ عليها حتى تعينه على صلاة الفجر. خامساً: يقول بعض العقلاء والحكماء: إن من الأمور التي تعين على الاستيقاظ أن الإنسان يجعل في نفسه الرغبة في القيام، فإنه إذا جعل في نفسه ذلك دعاه إلى القيام، وهذا مجرب فإنك إذا نمت وفي نفسك أن تقوم آخر الليل أعانك الله على قيام آخر الليل، وإذا جعلت في نفسك أن تقوم لصلاة الفجر أعانك الله على قيام صلاة الفجر، ولذلك تجد الكثير إذا وضع في نفسه أنه يقوم لاختباره أو لامتحانه قام بكل سهولة ويسر، نسأل الله السلامة والعافية. فلذلك ينبغي على الإنسان أن يأخذ بالأسباب، وإذا أخذ الإنسان بالأسباب أعانه الله جل وعلا، وأجر عليها وكفي المئونة والذنب، والله تعالى أعلم.

علاج ترك الطاعات خشية النفاق

علاج ترك الطاعات خشية النفاق Q أنا شاب أرغب في صيام يوم الإثنين والخميس، ولكن أكون مرتبطاً في المدرسة بإفطار جماعي مع الطلاب، وكذلك في يوم الخميس أرتبط مع عائلتي وأخشى إن انقطعت عنهم على نفسي من النفاق وأن يعلموا عني أني صائم، وكثيراً من الطاعات أتركها وأصرف نفسي عنها خشية من النفاق، فماذا علي وما العلاج في مثل هذا؟ A أوصيك بهذا الصيام الذي ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم واحتسب الأجر عند الله، وما تجده في نفسك من هذا الحديث فلعله وسوسة من الشيطان، احتسب عند الله الأجر وصم الإثنين والخميس واحتسب الثواب عند الله جل وعلا في صيامها، فإن وجدت شيئاً من الرياء أو شيئاً من العجب فاستغفر الله وتب إليه، فإن الله غفار لمن تاب ويصفح عمن ندم وأناب، والله تعالى أعلم.

علاج العادة السرية

علاج العادة السرية Q كثير من الشباب ابتلي بالعادة السرية وأصبحت مزعجة لهم إزعاجاً شديداً، يقول: وأنا شاب ابتليت بهذه العادة ولم أستطع ترك هذه العادة، فما توجيهك لي ولإخواني جزاك الله خيراً، وكيف العلاج في تركها؟ A أولاً أحب أن أنبه على أمر مهم وهو الوصف لقولك: كثير من الشباب، لقد اتهمت الشباب والله سائلك عن هذه التهمة، عليك نفسك وقل: إني أجد هذا البلاء في نفسي فلا تقل: كثير من الناس، فإن الأخيار إن شاء الله هم أقرب إلى الخير، فلعل سامعاً أن يسمع هذا السؤال فيظن بالأخيار سوءاً، وأرجو من الله أنهم خير من ذلك وأرفع، ولا يحكم الإنسان إلا على نفسه. أما الأمر الثاني: فإن الذنب إذا بلي به العبد ينبغي عليه أن يتفقد نفسه، فإن الله لا يخذل الإنسان بذنب إلا بسبب بينه وبين الله، فتفقد نفسك وحالك مع الله جل وعلا، واقترب من الله جل وعلا حتى يعينك على التخلص من هذا البلاء، وخذ بالأسباب: أولاً: ألا تخلو بنفسك قدر المستطاع، فإنه قد حكى بعض الإخوان ممن بلي بهذا البلاء أنه ما وجد شيئاً مثل إشغال نفسه بأكثر الوقت، وأنه لا يقدم إلى بيته إلا في ساعة متأخرة منهكاً متعباً حتى يرتاح وينام، فهذه من الأسباب التي تعين على ترك هذه المعصية. ثانياً: ذكر الآخرة وخشية الله جل جلاله، وهي من أعظم الأسباب، أن تذكر أنه تمر عليك مثل هذه الساعة وأنت ضجيع اللحد والبلاء، هل يسرك أنك فعلت هذا الفعل؟ وأنه قد تمر عليك هذه الساعة وأنت في سكرات الموت وشدة الموت وآخر نظرتك إلى الدنيا، هل تتمنى أنك فعلت هذا الفعل؟ الآخرة هي التي تهذب سلوك المؤمن كثرة ذكر الآخرة ذكر الموت وسكرته، والقبر وضغطته، والحساب وشدته، والصراط وزلته، والجبار وسؤاله وهيبته، كل ذلك يعين على كبح جماح النفس على معصية الله. والناس في خوف الله وذكر الآخرة مراتب: فإن كمل خوفك وأصبحت كثير الذكر للآخرة كمل ردع الآخرة لك عن الأمور التي لا ترضي الله جل وعلا، كلما كمل خوف الإنسان من الآخرة كلما كان ذلك أحصن لفرجه وأعف لنفسه، فلا زال ذكر الآخرة بأهله حتى أخرجهم من الدنيا أعفة عن الحرام أعفة عن الفواحش والآثام، أكثر من ذكر الموت وذكر سكرته، وذكر القبر وضغطته، وكذلك الحساب وفجعته وشدته، فإن ذلك من أعظم الأسباب التي تحول بين هذا الإنسان وبين الخطايا، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يمن علينا وعلى المسلمين جميعاً بصلاح الأحوال، والله تعالى أعلم.

معنى: صنائع المعروف تقي مصارع السوء

معنى: صنائع المعروف تقي مصارع السوء Q ما معنى هذا الحديث إن كان حديثاً: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء) أرجو شرح هذا الحديث شرحاً وافياً؟ A أما هذا الحديث فقد تكلم العلماء رحمهم الله على سنده، فهو حديث ضعيف ولكن معناه صحيح، فهو صحيح المعنى لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) فأخبر أن الصدقة تطفئ غضب الرب، والصدقة من صنائع المعروف. وثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها -في صلاة الكسوف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس إذا كسفت الشمس أن يدعوا وأن يصلوا وأن يتصدقوا)، فدل هذا -كما يقول العلماء- على أن أعظم أسباب الخير الصدقة وفعل المعروف. وأذكر حادثة قصها رجل من أصدقاء الوالد غريبة جداً، وسمعته بأذني يحكيها للوالد رحمة الله عليهما -فقد توفيا- يقول هذا الرجل -أحسبه من الأخيار والصالحين وهو رجل كان أميراً في قومه- أنه كان نازلاً من الطائف إلى مكة في يوم الجمعة وكان معه ابنه، فأراد الله عز وجل أنه رأى رجلاً ضعيفاً، فقال لابنه: قف لهذا الضعيف، فكأن الابن رأى إلى رثاثة حال هذا الضعيف وما هو عليه من الملبس الرث، فكره أن يركب معه في هذه السيارة الفارهة. يقول الوالد: فعلمت ما في نفس ابني، فلما ركب الرجل ذكرت ابني بصنائع المعروف، وأن الله يقي بها مصارع السوء، وأن الله يحفظ بها، وأن الله يلطف بها، فلما دخلنا إلى مكة ونحن في أشد ما تكون السيارة في السرعة لندرك الجمعة، وإذا بطفل أمام السيارة تماماً لا نستطيع أن نفر عنه، فمرت عليه السيارة، فأصابه شيء من الرعب، فتوقفنا على أن الابن قد قضى ومات، وإذا به قائم على رجليه ليس به أي بأس. يقول: فلما ركبت السيارة انكفأت على وجهي وأنا في حالة لا يعلمها إلا الله، قلت: يا بني والله ما أعرف لك إلا هذا المعروف الذي فعلته فحفظنا الله وإياك به. وهذا عاجل ما يكون في الدنيا، فالله يلطف، وغالباً إذا رحم الإنسان عباد الله لطف به الله عز وجل، والقصص في ذلك كثيرة جداً في لطف الله، وأن صنائع المعروف يحفظ الله جل وعلا بها، والله تعالى أعلم.

نصيحة إلى من فاتها قطار السعادة (الزواج)

نصيحة إلى من فاتها قطار السعادة (الزواج) Q أنا بنت بلغتُ من العمر ما يقارب الأربعين عاماً، وكنت أظن السعادة في الحصول على شهادة عليا، وكان يتقدم إليَّ كثير من الشباب للزواج وكنت أرفضهم ظناً مني أن السعادة في تحصيل الشهادة التي أجمع بها المال ويكون لي منصب ومركز في المجتمع، وأنا الآن لا أشعر بالسعادة بل فاتني قطار السعادة، علماً بأن في بيتنا خمس بنات، الكبرى منهن عمرها خمسون سنة، والصغرى خمس وعشرون سنة، ولم تتزوج منا واحدة، ظناً من الشباب أن البنت إذا كان عمرها أكثر من عمر الشاب فإنه يعزف عن الزواج منها. أرجو من فضيلتكم أن تبين لي ولأخواتي لكي لا يخطئن مثل خطئي أين تكون السعادة؟ هل هي في الشهادة أم في غيرها؟ كذلك أرجو نصيحة لإخواني الشباب الذين يعزفون عن الزواج بأخواتهم في الله تعالى إذا كبرن عن السن المختار؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن السعادة كل السعادة ليست في جمع الأموال، ولا إصلاح الأحوال، ولكنها في حب الله الكبير المتعال، يوم يحب الله عبده فيشرح صدره وييسر أمره، ويجعله عبداً تقياً من معصية الله خلياً نقياً، يوم يفتح الله عز وجل له أبواب الطاعات حتى يصير من السعداء، فالسعادة كل السعادة في تقوى الله جل وعلا. ولست أرَ السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد السعادة في تقوى الله؛ لأن الله جمع فيها خيري الدنيا والآخرة، فخير الدنيا في أمرين: إما أن يدفع عنك ضرراً أو يجلب لك نفعاً، فقال الله في التقوى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] فجمع له الدنيا في هاتين الآيتين. وأما الآخرة فإن الله جل وعلا جعلها للمتقين: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:31 - 33] فالسعادة في تقوى الله جل وعلا، يوم تمسي المرأة المؤمنة وتصبح وليس في قلبها إلا الله جل جلاله، يوم تعمل للدار الآخرة فتلك هي السعادة الحقيقية، حتى تجد آثار الصالحات في دنياها وأخراها، والله ما اتقى عبد ربه إلا أقر عينه في الدنيا قبل الآخرة، ولا أطاع عبدٌ مولاه على أكمل ما تكون عليه الطاعة إلا أسعده في الدنيا قبل الآخرة {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] أي: والله لنحيينه حياةً طيبة، السعادة كلها في حب الله، والسعي الحثيث لمرضاة الله جل جلاله. أما القضية الثانية: فإن الابتلاء الذي بليت به جاء من سوء النية {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] أنعم الله على المرأة بحسن الحال، وكانت في شبابها وعز حالها، والناس يطلبونها لكرامتها عليهم، فلما كفرت نعمة الله ونظرت إلى ما ورائها من طلب الشهادات وعلو الدرجات من هذه الدنيا الفانية، بليت بهذه العاقبة الوخيمة نسأل الله السلامة العافية، فهذه من عاجل العقوبة أنك طلبت العلم للدنيا ومن طلب العلم للدنيا مكر الله به في الدنيا قبل الآخرة، هذا معلوم ونص عليه العلماء: أن من طلب العلم للدنيا لشهادة لعلو درجة لطلب جاه، فإن الله يمكر به في الدنيا قبل الآخرة نسأل الله السلامة والعافية. فأوصيك أولاً: بالاستغفار من هذه النية، فالزواج يهون ولكن الخطب كل الخطب (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) نسأل الله السلامة والعافية، هذه هي المصيبة العظيمة مصيبة الدين. أما الوصية الثانية التي أوصيكِ بها: فمن الليلة استغفري ربك وتوبي إليه، فإن الله يصلح حالك، فإن الله يقول: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46] فإنكِ إن استغفرتِ الله واستدمتِ الاستغفار وسؤال الله الرحمة فليرحمنك الله في الدنيا قبل الآخرة، أكثري من الاستغفار علّ الله أن يغفر لك الذنب الذي بليت به حتى حيل بينك وبين هذا الخير الكثير، وما يدريك لو تزوجت فأخرج الله منك ذرية صالحة تعبد الله آناء الليل وأطراف النهار، فاغتنمي أختي المسلمة هذه الفرصة وهي كثرة الاستغفار، فإنها من أسباب الرحمة من الله جل وعلا. الوصية الثالثة: يجب أن تكون مثل هذه المواقف عبر للمؤمنين والمؤمنات، عبرة للمرأة المؤمنة ألا تتأخر بعذر الدراسة أو بإكمال الدراسة، فإن المرأة المؤمنة جعلها الله جل وعلا حرثاً للمؤمنين، لكي تبني الأسرة المسلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى النكاح والتناسل والتكاثر، فقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث النكاح: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة). الوصية الرابعة: لا تيأسي من رحمة الله، فأكثري من الدعاء أن يسخر الله لك زوجاً صالحاً، وأحسني الظن بالله، فإن الله على كل شيء قدير. الوصية الخامسة: أوصي الشباب الأخيار الذين يلتمسون رحمة الله ورضوان الله أن يفرجوا هموم أمثال هؤلاء من النساء، إن في النساء صالحات قانتات، إن في النساء خيرات دينات ولكن بُلين بكبر السن، فإما بسبب ولي أو بسبب منها، فتجد وليها لا يرغب كل زوج ويماطل في زواجها، وإما أن يكون السبب منها كحال هذه السائلة. فأوصيكم إخواني في الله أن تفرجوا هموم أمثال هؤلاء، فإنه من احتسب الأجر في أمثال هؤلاء فلعل الله أن يخرج منهن ذرية صالحة، فإن العبد إذا احتسب الأجر عند الله فإن الله يجزيه على حسن نيته، فاحتسب الأجر عند الله، فليس السن هو المهم، ولكن المهم كل المهم الصلاح والديانة والاستقامة وشراء مرضاة الله جل وعلا بتفريج كرب مثل هذه، فإن المؤمنة إذا لم تجد من يحصنها قد تتعرض للحرام والنفس ضعيفة والشهوات كثيرة، فاحتسب الأجر عند الله. عبد الله: إذا علمت بامرأة صالحة أنها لا تجد من يخطبها لكبر سن فاحتسب، فلعلك أن تخرج من الدنيا ولك صحيفة عمل أنك تزوجت لا لجمال ولا لمال ولكن لوجه الله الكبير المتعال، أن تخرج من الدنيا بحسنة من حسنات مؤمنة تفرج عنها كربها، وهذا أمر يتساهل فيه الكثير، فالبعض يبحث عن الشابات والجمال، هذه كلها متع زائلة وفانية، ولعلك أن ترزق بامرأة كبيرة عاقلة يكون من ورائها خير كثير، فإن الله ثبت قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بـ خديجة وهي أكبر منه سناً رضي الله عنها وأرضاها، جاءها ذعراً مرعوباً مرهوباً فقالت له: [كلا والله ولا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق] فثبّت الله قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه المرأة الصالحة، لما كانت كبيرة السن عاقلة، فالمرأة الكبيرة لها عقل، ولعل الإنسان أن يأجره الله على نيته فيكون منها ذرية صالحة، فاحتسبوا الثواب في أمثال هؤلاء، وكذلك احتسبوا الثواب في المطلقات والأرامل. إن الإنسان إذا علم أن هناك مطلقة أو أن هناك امرأة صالحة أرملة ابتلاها الله بزوج سيئ فطلقها وأهانها، وتستطيع أن تتزوجها، فاحتسب عند الله، فهذه هموم وغموم من نوى فيها الخير آجره الله جل جلاله، فاحتسبوا أيها الأحبة في الله الزواج يكون للدنيا والآخرة، فما كانت للدنيا فلذة ساعة وألم دهر، ولكن ما كان للآخرة فلذة الدنيا والآخرة، وسعادة الدنيا والآخرة، والتجارة الرابحة، نسأل الله العظيم أن يلهمنا السداد والرشاد. والكلمة الأخيرة التي أحب أن أوجهها، فأوجهها لكل ولي امرأة بأن يتقي الله جل جلاله فيها، اتقوا الله في النساء فإن الله حملكم أمانتهن، ليتق الله الوالد، وليتق الله الأخ، وليتق الله كل ولي امرأة، ولا يبق متمسكاً بأمور قد لا ترضي الله جل وعلا من العصبيات ونحوها، فإنها قد تحول دون زواج المؤمنين والمؤمنات. بعض النعرات التي لا ترضي الله وهي من أمور الجاهلية كالفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، فالكل من التراب وإلى التراب. فإن المرأة إذا حبسها وليها بدون حق وماطل في زواجها حتى عنست وربما تعرضت للزنا لاشك أنه يحمل ذنبها بين يدي الله جل جلاله، والله إن هموم الليل والنهار التي تعيشها كثير من النساء المظلومات من أوليائهن يحملها الأولياء على ظهورهم، فاتقوا الله يا عباد الله! إنها مسئولية عظيمة، وكل إنسان يعلم أن أخته قد تأخر زواجها أو أن ابنته قد تأخر زواجها فعليه أن يتقي الله فيها، وكم من هموم وغموم يسلطها الله على أمثال هؤلاء لأنهم لم يتقوا الله في النساء، فاتقوا الله إخواني في هذه الأمانة العظيمة، والمسئولية الجليلة الكريمة، وليخرج الأب بهذه الأمانة بما يرضي الله جل جلاله، نسأل الله العظيم أن يوفقنا للسداد، وأن يكرمنا بحسن العاقبة في المعاد، والله تعالى أعلم.

طلب زيادة وقت المحاضرة

طلب زيادة وقت المحاضرة Q فضيلة الشيخ! قد كنا بانتظارك من بعد صلاة المغرب ونرجو منك زيادة الكلمة وإعطاءنا وقتاً وإن كان فيه شيء عليك من التعب، ولكن قد اجتمعنا لنسمع منك، وأصحاب المباريات لا يقبلون أن ينقص زمن اللعب، فنحن والله أولى بذلك، لا سيما وأننا في ليل الشتاء، وليل الشتاء طويل فنرجو من فضيلة الشيخ أن يكرمنا من وقته جزاه الله خير الجزاء؟ باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلا أحب في المحاضرة أن يكون الحديث لي وحدي، بل يكون هناك طرف للأسئلة، علَّ أن يكون الأجر للجميع، فمن سأل له أجر مثل أجرنا، وهذا من صنائع المعروف، أسأل الله العظيم أن يكتب خطاكم وأن يقرن بطيب الجنة مسعاكم، لا خيبكم الله، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل كل خطوة خطوتموها درجة في الجنان، موجبة للروح والريحان والحب منه والرضوان. أما أنا فبين أيديكم، وما جئت إلا شوقاً إليكم، فأسأل الله أن يدخلنا بهذا الشوق والحب فيه إلى الجنان، وأن يمتعنا بها وإياكم في الرضوان، وما يمنعني أن يكون هناك مشاركة في الأسئلة، وهذا أفضل من أن يكون الحديث مني وحدي.

توجيه إلى من حرم قيام الليل وصيام النهار

توجيه إلى من حرم قيام الليل وصيام النهار Q من صنائع المعروف تلذذ العبد بالخلوة مع الله تعالى، وأنا عبدٌ قد حُرمت قيام الليل وصيام النهار، رغم أن الشتاء ربيع المؤمن فما توجيهك لي ولإخواني المسلمين؟ A أخي في الله: ما ألذ العبودية لله، فلقد ذهبت من الدنيا حلاوتها ومضت طلاوتها ولم يبق إلا مناجاة الله، لقد تغير الزمان وكثرت الفتن، ولم يبق إلا الأُنس بالله الواحد الديان، إن مناجاة الله خاصة إذا هدأت العيون وسكنت الجفون ولم يبق إلا الحي القيوم، إنها ساعة وأي ساعة هي الساعة التي دمع عليها الأخيار آخر الدموع من الدنيا، فقال قائلهم: والله لا أبكي على فراق الدنيا فما غرست فيها الأشجار، ولا أحبها لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار ولكن لمكابدة الأسحار وظمأ الهواجر. ما ألذ الساعة التي يقوم فيها ولي الله من حبه وزوجه؛ لكي يناجي الله جل جلاله، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن العبد إذا قام في الليل من عند زوجه لكي يتعبد ويتذلل لله ويناديه ويناجيه، يقول الله: يا ملائكتي عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه وفراشه؟ قالوا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك، قال: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي). ما ألذها من ساعة حين يقف العبد بين يدي الله جل جلاله وقد رمى بالدنيا وراء ظهره يناجيه ويناديه بذلك الكلام العظيم، حين يقرأ القرآن فينقله القرآن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ينقله مع أهل النعيم والرضوان المقيم، ينقله إلى مراتع جنات الخلود مع المقربين الشهود، وكأن نسماتها تحركت. ما ألذها من ساعة حينما يتلذذ العبد بكلام الله جل جلاله، إنها ساعة الصدق، فلا تراك عين ولا تسمعك أذن، ولا يعلم بك أحد إلا الله جل جلاله. ما ألذها من ساعة، والله لو أن العبد صدق مع الله جل وعلا وابتدأ قيام الليل لربما بزغ عليه الفجر وهو لا يشعر بنفسه، وأذكر عن الوالد رحمة الله عليه أنني تذاكرت معه في قراءة القرآن في الليلة الواحدة: هل يختم الإنسان القرآن في ليلة واحدة؟ وأحرجته وألححت عليه في السؤال، قال: والله يا بني لقد كنت أخرج من المسجد بعد العشاء وأستفتح قيام الليل وفي ركعة واحدة لا أشعر إلا وأني في آخر القرآن عند السحر، من لذة مناجاة الله جل جلاله، إنها اللذة التي لا يعلم حلاوتها إلا من ذاقها. جرِّب فوالله إنك ستحس بحقارة الدنيا وأن هناك متعة غير متعتها، ومع هذا كله فعاقبة السجود وعاقبة الركوع إذا صار الناس إلى الهجود رضوان الله الواحد المعبود، مع هذا كله لربما بزغ عليك الفجر وأنت قائم بين يدي الله في شدة البرد أو ضيق الحر فلم تنفتل من السجدة الأخيرة إلا ربما تنفتل من ذنوبك كيوم ولدلتك أمك، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن العبد إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه -في إحدى الروايات- ثم سلم إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). قيام الليل هو دأب الصالحين الذين عرفوا قيمة الآخرة وقيمة الدنيا، مزارع للآخرة يشتري العبد بها رحمة الله في ركعة أو سجدة أو في تسبيحة أو استغفار، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا هذه اللذة، وأن يجعلنا من أهلها وأن يميتنا عليها، والله تعالى أعلم.

ثمار الأخوة

ثمار الأخوة حين تنبني الأخوة على أساس العقيدة، فإنها تؤتي ثمارها اليانعة في الدنيا، والتي تتمثل في الإيثار، والمناصحة، وغيرها، ثم بعد ذلك تؤتي ثمارها الأخروية، والتي قلّما يتنبه إليها من يحرص على مثل هذه الخصلة.

الأخوة صلة بين المؤمنين

الأخوة صلة بين المؤمنين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأسأل الله العظيم أن يجزي أخانا أبا محمد كل خير ومن تسبب في هذا الاجتماع الطيب، وأسأله تعالى أن يوفقنا جميعاً فيه لما يحبه ويرضاه من صالح القول والعمل. إخواني في الله: الأخوة في الله وشيجة بين المؤمنين وصلة بين عباد الله المتقين، جمعت القلوب على طاعة الله، وألفت بين الأفئدة في سبيل مرضاة الله، وهي أوثق عرى الإيمان، فما آمن عبد بالله عز وجل إلا أحب أحباب الله واتجه قلبه لمحبة إخوانه في الله، ولذلك بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الأخوة الصادقة لا تكون إلا لمن ذاق حلاوة الإيمان، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله) فقلوب المؤمنين أحبت رب العالمين وأحبت أحباب رب العالمين وأولياءه المتقين، وسارت إلى الله وإلى سبيل محبة الله بموالاة أولياء الله وأحباب الله. ومن هذا الأساس والمنطلق برئت قلوب المؤمنين من حمل الضغائن على إخوانهم، وبرئت قلوب المؤمنين من إيجاد الشحناء بينهم، ولو تأملت في كتاب الله عز وجل لوجدت نصوص الكتاب والسنة تدعوك دعوة صادقة لتكون مع أخيك ولأخيك، لكي نكون عباد الله إخواناً؛ ولكي تنتشر بيننا خصال الإيمان الصادقة التي انتشرت بين أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما وجدت أخوة أصدق من أخوة أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم لبعض؛ ولذلك أثنى الله عز وجل عليهم وبين في الكتاب فضلهم، وجعلهم قدوة لنا، ووصف الأخيار التابعين لهم بإحسان أنهم على هذا المنهج. وقال جل شأنه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10]. سبحان الله! أخوة الإيمان تبقى حتى بعد الوفاة، تبقى بينك وبين المؤمنين فتذكر أموات المسلمين بالخير فتترحم عليهم، وتسأل لمحسنهم أن يزداد إحساناً ولمسيئهم أن يشمله الله جل وعلا عفواً من لدنه وغفراناً، ومن تدبر القرآن وجده يهدي إلى هذه المحبة ويأمر بها ويحث عليها، ولذلك بين الله تبارك وتعالى فضل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما وصفهم بقوله {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فمن سمات الإخوان في الله والأحباب في الله أنهم رحماء وبينهم الرحمة التي هي نابعة من الإيمان، فالمؤمن حليم رحيم.

أحق من ترحمه أخوك في الدين

أحق من ترحمه أخوك في الدين وأحق من ترحمه أخوك في الدين الذي قد تبلغ أخوته في الدين علواً وشرفاً فوق أخوة الحسب والنسب، ووالله ما دخل الإيمان إلى قلب عبد إلا أعز إخوانه في الله، وإن بعض الصالحين -يعلم الله عز وجل - أنه يحب أحبابه في الله وإخوانه في الله أكثر من محبته لإخوانه في الحسب والنسب؛ لأن الأخوة في الله عز وجل نابعة من عقيدة ونابعة من إيمان ونابعة من شعور، ولذلك توعد الله عز وجل من أراد قطع وشائج الأخوة في الله بأشد الوعيد، ولذلك جاء هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين فضل هذه الأخوة حينما حذر من قطعها، فلذلك نهى الإسلام عن القطيعة وحرم أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث ليال، فمع أخوة الإسلام لا تستديم الخلافات أكثر من ثلاث ليل وإن كان ولا بد فثلاثة أيام، أما الزائد عن ذلك فهو إثم وسيئة وخروج عن منهج الله، وخلاف للأخوة في الله، وهذا يدل دلالة واضحة على عظيم شأن الأخوة في الله عند الله، ثم بين فضلها حينما حرم على العباد أن يسعى بعضهم بين بعض بالقطيعة فبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله تبارك وتعالى أعد لكل من قطع بين إخوانه المحبة بالنميمة أن الله أعد له فتنة القبر وعذاب القبر -والعياذ بالله- قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبرين المعذبين: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنز من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) ما هي النميمة؟ هي نقل الأحاديث بين العباد لإفساد المودة بينهم، فلذلك توعد الله صاحب هذا الخلق الذي اعتدى على أخوة الإسلام توعده بهذا الوعيد الشديد، وبين الله تبارك وتعالى العكس أن من سعى في العكس وهو جمع القلوب على طاعة الله، وتأليف الإخوان على منهج الله ومحبة الله أن الله يحبه، قال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114]. و (عظيماً) من الله ليست بالهينة (من يفعل ذلك) أي: من يفعل الصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله {فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} [النساء:114] ولذلك كم هي خطوات عزيزة عند الله عز وجل إذا خطاها المؤمن للجمع بين المفترقين والتأليف بين عباد الله المؤمنين. المسلم يجمع بين المفترقين من أجل طاعة الله ومرضاة الله ولا يعرف القطيعة، والمسلم أحرص ما يكون على تأليف قلوب إخوانه وأحبابه على طاعة الله ومرضاة الله. فهذه من الأمور التي تعين على وشيجة الأخوة في الإسلام، إنها الوشيجة التي تنفع العبد بإذن الله يوم لا ينفع مال ولا بنون، فقد يبتلى الإنسان بسيئة من السيئات تثقل بها كفة السيئات -والعياذ بالله- فينجيه الله عز وجل بشفاعة أخ له في الله. ولذلك قال تعالى في كتابه العزيز لما ذكر عن أصحاب النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]. قال بعض العلماء: لأنهم يرون المؤمنين يشفع بعضهم لبعض.

كونوا عباد الله إخوانا

كونوا عباد الله إخواناً والله إن لذة العيش إذا صفيت القلوب من الضغائن، ولذة الحياة إذا خلت القلوب من الأحقاد والحسد والبغضاء، ففيمَ التحاسد؟! وفيمَ التهاجر؟ وفيمَ التقاطع وفيما التدابر، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي أهل الإيمان وينادينا فيقول: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً)؟ لا تحاسدوا؛ لأن الحسد طريق الفساد، ولا تباغضوا؛ لأن أهل الإيمان لا يعرفون البغضاء، ولا تدابروا؛ فالمؤمن لا يولي دبره إلى أخيه كناية عن القطيعة، ولكن كونوا عباد الله إخواناً، أمر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نكون عباداً لله في الله إخواناً، وكل واحد منا يتوجه إليه هذا الحديث، كن مع عباد الله أخاً لهم في الله ولله.

الحاجة إلى الأخوة في الله

الحاجة إلى الأخوة في الله كل منا مأمور أن يكون أخاً لأخيه صادقاً في أخوته ومحبته، وهذه الأخوة لها ثمرات طيبة ومن أعظمها وأجلها وأكرمها عند الله، حينما تكمل نقص أخيك وحينما تكون عوناً لأخيك على طاعة الله ومرضاة الله، كل منا والله ولو كان عالماً يحتاج إلى من يناصره، يحتاج إلى من يؤازره، يحتاج إلى من يكون قريباً منه يذكره بالله إذا نسي، ويعينه على ذكر الله إذا غفل، كلنا نحتاج إلى ذلك. ووالله إني لمن أحوج الناس أن أجد أخاً صادقاً يذكرني بالله إذا نسيت، ويعينني على ذكر الله إذا غفلت، فمن منا الكامل؟! فلذلك من أجل نعم الله بعد الهداية وجود الإخوان الصادقين، كلنا سيعاشر أخاه ولكن والله شتان بين عبدين، عبدٌ إذا ذكر في المجالس قيل: نعم فلان والله. نِعم الأخ ونِعم الأخوة، ونِعم الحبيب ونِعم المحبة، سيقال عنك ذلك إن كنت على كمال الأخوة في الله وإلا -والعياذ بالله- العكس بالعكس. فكن رحمك الله ذلك الأخ الموفق ولن تكون كذلك إلا إذا ابتدأت من أسس أهمها: براءة الصدر للمسلمين. صدرك لا تدخل فيه غلاً على مسلم وإياك أن تضع رأسك وتسلم روحك لربك وفي قلبك غل على مسلم، ووالله إن بعض الصالحين يأرق في ليلته ويتأخر نومه وهو يجاهد قلبه على إنسان أخطأ عليه حتى ينام وقلبه مرتاح، ويقول: إن خطأه لعله يقصد كذا وكذا، ولعله يقصد كذا وكذا، والله لو أن كل واحد حاول من الليلة أن يبيت سليم الصدر للمسلمين لوجد والله حلاوة الإيمان. هذه الضغينة التي تدخلها في قلبك أو لا سمح الله يدخلها الإنسان في قلبه قد تطفئ نور الإيمان، وقد تحدث قسوة في القلب، وقد تحدث صدوداً وإعراضاً عن الرب، فقد يستهين الإنسان باحتقار مسلم، وقد يستهين الإنسان بازدراء مسلم وهو عند الله عظيم. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فلا تستخف بالمسلمين، وإياك وسوء الظن بعباد الله المؤمنين، كن ذلك الرجل الذي إذا ذكرت مسلماً كأنك تذكر نفسك لنفسك؛ فإن الله تعالى يقول: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} [النور:12] الله أكبر! نزل المؤمن منزلة النفس، فإذا أردت أن تعرف كمال إيمانك فانظر إذا ذكر أخوك بالغيب، إذا نزلت نفسك منزلته فاعلم أن الله أعطاك إيماناً، وإذا كان العكس فكان كلما ذكر للإنسان أخوه لم يأبه أن يذكر بسوء أو غير ذلك فليبكِ على نفسه، فإن الله وصف المؤمنين بهذه الصفة والله أعلم بخلقه من خلقه بأنفسهم، فهذه قضية مهمة وهي: سلامة الصدور وبراءتها من الإحن، وإياك ثم إياك أن تمسي وتصبح إلا وأنت نقي السريرة محسن الظن بالعباد، وإذا قيل لك فلان أو فلان فقل: أنا المخطئ، أنا الذي مني التقصير، أنا الذي أحتاج إلى من يسد ثغرتي ولمن يجبر كسري، وكذلك يكمل نقص العيب فيّ. المؤمن دائماً يتهم نفسه؛ فالمؤمن في نفسه له شغل عن ذنوب العباد. ولكن هناك أحوال خاصة قد يجب فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين، فهذه مستثناة، كأن يكون إنسان على بعد عن طاعة ومنهج الله، يفسد بين عباد الله، أو إنسان حاد عن صراط الله المستقيم عقيدة أو سلوكاً أو خلقاً، فهذا له حكمه المستثنى، وإنما قضيتنا الأصلية وكلامنا في الأصل، وهو ما ينبغي أن يكون للمسلم الذي لم تثبت عليه شائبة تشوبه في دينه وخلقه.

قضايا تتعلق بالأخوة ينبغي الإلمام بها

قضايا تتعلق بالأخوة ينبغي الإلمام بها ثم هناك قضايا ينبغي أن نلم بها وهي:

من شواهد عهد النبوة في الأخوة

من شواهد عهد النبوة في الأخوة ومن شواهد عهد النبوة لما جاء أهل النفاق فأورثوا الشحناء والبغضاء بين الأوس والخزرج وقال الأوسي: يا للأوس! وقال الخزرجي: يا للخزرج! فثاروا إلى السلاح حينما تذاكروا يوم بعاث، هذه الضغينة التي كانت بينهم حركها ذلك اليهودي قاتله الله وعامله بما يستحق، وهو شاس بن قيس اليهودي لما حركها وبلغت تلك الصيحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يجر رداءه لكي يتدارك أخوة الإسلام، اشتغل بثوبه يجر رداءه من أجل أن يدرك هذه الأمة الطاهرة، فجاءهم وهم يريدون أن يقتتلوا، يا للأوس! وياللخزرج! كل منهم ينادي أخاه للفتنة والضغينة، فشاء الله عز وجل أنه نادى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس فاجتمعوا، فرقى المنبر وتلا آيات من الكتاب عليه الصلاة والسلام في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران:100 - 101]. سبحان الله! أساليب ربانية تحرك هذه القلوب وتدل على أن بيننا صفاء ومودة عظيمة. صفاء ومودة بماذا؟ بعقيدة الإيمان التي هي أقدس شيء وجد على وجه الأرض: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران:101] استفهام إنكاري وأسلوب رباني رفيع في معالجة الداء: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّه وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ِوَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] ثم بين لهم أهمية الأخوة، ثم أوجد لهم الأمل: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} [آل عمران:101] كأنه يقول لهم: ارجعوا واعتصموا بالله واتركوا هذا الخلاف: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] ثم يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:102 - 103]. يقول بعض العلماء: إن ذكر الاعتصام بعد الإسلام والوصية بالإسلام يدل على أن من آكد الفرائض بعد التوحيد والإيمان تحقيق الأخوة في الله، هذه من آكد الفرائض بعد الإيمان، ولذلك قال الله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] هذه العقيدة والأساس والأصل: ((وَاعْتَصِمُوا)) [آل عمران: 103] هذه ثمار العقيدة وفروع العقيدة ولازم العقيدة. ما دمنا أننا أهل إيمان ماذا نفعل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]. يقول الوالد رحمة الله عليه في تفسيرها: يمتن بجمع القلوب قبل النجاة من النار قال الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] ولذلك السياق له تأثير، يعني: ذكر الشيء قبل الشيء يدل على أهميته؛ لأن العناية بالبداية تدل على فضل الشيء المبتدأ به. فالمقصود: قيل إنه أراد أن يبين خطر الفرقة، وهذه الآيات ما إن تلاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أقوام قد غلت قلوبهم من الأحقاد والذكريات الأليمة من ذلك الخبيث الذي أشعل نار الفتنة، ما إن تلاها وإذا بتلك العيون تدمع من خشية الله، قاموا يتباكون ويعانق بعضهم بعضاً من شدة أثر القرآن في قلوبهم، ما استطاع أحد منهم فرموا السلاح وأقبلوا يتعانقون ويبكون من شدة أثر القرآن في قلوبهم فرضي الله عنهم وأرضاهم، نعم والله القوم! نعم والله العبد الذي ما إن تبلغه الآية من كتاب الله، أو تبلغه الوصية من وصايا الله إلا وجدته أسبق الناس إلى فعلها والعمل بها! جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل.

ثبوت الأخوة باتساع الصدور

ثبوت الأخوة باتساع الصدور إذاً: لا بد لهذه الأخوة أن تثبت ولكنها تحتاج إلى رجال صادقين، تحتاج منا أن تتسع صدورنا إذا حصل أي خلاف أو شقاق، فلا نعين أهل الخلاف والشقاق على الخلاف والشقاق، وإنما قول بالحسنى وابتغاء لمرضاة الله جل وعلا، وإحسان لا إساءة، وجمع لا تفريق، وتأليف لا شتات، فهي وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن رحمة الله أن الغالب في أهل الإيمان مهما وقع بينهم من الخلافات، ومهما وقع بينهم من الشقاق؛ فإن صدورهم رحبة، أهل الإيمان -غالباً- مهما يقع بينهم فإن صدورهم رحبة. وأذكر ذات مرة أن شابين كانا دعاة في بلدهما، وكان بينهما من العداوة والفرقة شيء كثير، وحصل ما حصل وكنت لا أعرفهما، فجاء شخص وأخبرني وشاء الله أنهما اجتمعا في المدينة في مناسبة من المناسبات فدعوتهما -وهذه أقصها لكي أبين أن القلوب لا زال فيها خير- وكان بينهم من القطيعة والتهم وبينهم من الشقاق الشيء الكثير، فشاء الله أني انفردت بأحدهما وذكرته بالله عز وجل، وبينت له ما للعفو وللصفح من خير، وما للإسلام من مقصد في جمع القلوب إلى آخره، ورهبته بالله، كيف يكون هذا من هذه القلوب البريئة؟! يقسمون المسلمين وكل ذلك لمصالح شخصية، وكل ذلك لأشياء لا تمت إلى الإسلام بصلة، كل يتهم الآخر، وكل منهما ينابذ الآخر، كلمت الأول وكلمت الثاني ثم جمعتهما مع بعضهما، فشاء الله أنني رغبتهما بالصلح قبل أن يصطلحا وبينت لهما الخير والفضل في الذي يبدأ قبل الآخر، ووالله بمجرد أن انتهيت من الحديث وكل منهما يهجم على الآخر يريد أن يكون هو البادئ بالسلام، يريد أن يكون هو الذي يعفو ويبكي ويقول له: سامحني! وكل منهم يحس أن التقصير منه، وببداية الأمر كل منهما يحس أنه هو صاحب الكمال، لكن إذا قرعت قلوب أهل الإيمان بقوارع التنزيل عرفت قدر نفسها؛ ولذلك لا يعرف إنسان قدر نفسه بشيء مثل خشية الله، خشية الله إذا دخلت إلى القلب جعلت صاحبها في الحضيض وجعلت تتهمه بكل تقصير. فلذلك -سبحان الله عجبت!! - فما تمالكت نفسي في موقف عجيب! كان بينهما من القطيعة والتهم الشيء الكثير وكل منهما يحاول أن يسبق الشخص الآخر وجمع الله قلوبهما، ونسأل الله أن يجمعها إلى يوم الدين، ويجمع قلوبنا أيضاً معهم على طاعته ومرضاته، المقصود أن هذا يدل على أن القلوب فيها خير.

العفو عمن ظلمك

العفو عمن ظلمك إذا وقفت في موقف بينك وبين أخيك فاعلم أنك بين الجنة والنار، واعلم والله أنه إذا أساء إليك أخوك أنك أولاً وقبل كل شيء ممتحن من الله، نحن بحاجة إلى من يغذي قلوبنا عند حصول الفتن، فقد تحصل بعض الخلافات فلا يوجد أحد كامل، فرب يوم من الأيام يزل أخوك بكلمة أو تخرج من فمه زلة، أو يذكر أمراً من أمور الجاهلية؛ فما العمل؟ جاء الإسلام بالعلاج، جاء بالعلاج حينما ذكرك بأنه ينبغي عليك أن تعامل الله عز وجل وأن ترجو الله والدار الآخرة. وكيف ترجو الله والدار الآخرة؟ ترجو الله والدار الآخرة حينما تقول لأخيك: أنا عاف عنك لوجه الله. هذه الكلمة لها ثقل عند الله. كأنك تقول: أنا لا أعفو إلا من أجل أنني إذا لقيت الله أجد عنده حسنة هذا العفو، لوجه الله أي: من أجل وجه الله عز وجل. ولذلك ثبت في الأثر وقد حكاه بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134] ورد في الأثر أن الله تبارك وتعالى يقول: (من كان أجره على الله فليقم - في عرصات يوم القيامة- فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا يقوم إلا من عفا عن ذنب). وهذا من أسمى ما يكون المنهج؛ لأن منهج التشريع كماله أن يضع المشرع فرضاً واحتمالاً بأن تقع خلافات، فالشريعة حببت الأخوة وذكرت ثمارها في الدنيا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي في طاعة الله، وذكرت ثمارها في الآخرة من الشفاعة، وجاءت بالفرض المحتمل وهو فرض الخلافات، فعالجت المختلفين، وأيضاً عالجت من خارج المختلفين، عالجت المختلفين حينما أمرتهم أن يقولوا التي هي أحسن، وعالجت من خارج المختلفين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] كأنهم ما خلقوا إلا من أجل الأخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] عالجت من الخارج وعالجت من الداخل ثم كذلك حببت فيما عند الله عز وجل من الأجر، والفضل والثناء وحسن الذكر. ووالله لن يتسع صدرك لأذية مؤمن يؤذيك فترجو رحمة الله ويتسع صدرك وتقول: أنا عاف لوجه الله إلا رفع الله قدرك، ففي الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) لا تظن أنك إذا عفوت ذليل، لا، صحيح أن الذلة للمؤمن مستحبة: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] أقوام ليل وصوام نهار لا. {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54]. هذا أول شيء، كيف أذلة على المؤمنين؟ بمعنى أنه إذا أساء إليه الغير لا يقابل الإساءة، بل يذل له؛ لأنه يأتيه الشيطان ويقول له كيف تترك؟ أنت ضعيف أنت جبان أنت تخاف، يقول: نعم ضعيف جبان أمام لا إله إلا الله، أريد أن أنتقم لكن بيني وبينه كلمة " لا إله إلا الله " لا أستطيع أن أضرب مسلماً، وهذا يدل على كمال الإيمان، يدل على أن الإيمان قد توغل إلى أعماق ذلك الفؤاد وذلك القلب.

إبليس وتفريق قلوب المؤمنين

إبليس وتفريق قلوب المؤمنين إن هناك أعداء أعظمهم عدونا إبليس الذي أقسم على تفريق هذه القلوب، هذا العدو دائماً يأتيك بالضغائن وبالمنغصات التي تنغص الأخوة، ولذلك يقع الخطأ من بعض إخوانك - مثلاً - يمر عليك ولا يسلم لكونه مشغول البال، فيأتيك الشيطان فيقول: فلان لا يحبك، فلان يكرهك، فلان يخالفك، فلان كذا وكذا، وهكذا وحتى تتربى أو يتربى في ذلك القلب الحقد على أخيه المسلم؛ فلذلك يحذر المسلم إذا جاءته وساوس الشيطان أو ألمت به خطرات ذلك العدو اللدود برئ إلى الله وضرع إلى الله فقال: أعوذ بالله، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] قل لعبادي، أي: قل لأهل الإيمان، قل للذين يرجون لقائي، انظر أسلوب التشويق، ووالله بمجرد ما تقرأ بداية الآية: (قل لعبادي) كأنها تشعر بأن الذي يتخلق بهذا الخلق عبد صادق لله. قل يا محمد لعبادي الذين يرجون لقائي ويرجون محبتي، قل لعبادي وينسبهم إليه جل شأنه مثلما قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان:63]. يقول بعض العلماء: من أجل الأوصاف وصف العبد بالعبودية لله، ولذلك لما أراد الله أن يشرف نبيه قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] فرفعه وشرف قدره، كذلك أهل الإيمان شرفهم فقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] إذا جاءك إنسان بضغينة أو جاءك فقال لك: فلان يقول كذا وكذا، فهناك حسن وهناك أحسن ما قال: يقولوا حسنى، بل: يقولوا التي هي أحسن أفعل التفضيل، يدل على أنك لا تبادل الإساءة بالإساءة؛ لأنه إذا أساء الغير فمن حقك أن ترد الإساءة بالإساءة، ولكن الأحسن أن ترد الإساءة بالإحسان: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] يقول تعالى مبيناً فضل عباده المتقين: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17] من هم يا رب؟: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18].

وصية في الأخوة

وصية في الأخوة إخواني! هذه وصية أقولها لأننا تمزقنا، أقولها لأننا تفرقنا، لأنه دخلت بيننا دواخل كثيرة وأصبحنا والله نعايش آلاما، أصبح الإنسان في بعض الأحيان يشتكي أموراً والله قد لا تحصل بين أهل الدنيا، وتعتبر من أهم الأمور الموجبة للقطيعة فكيف بأهل الإيمان؟ لماذا هذه الشحناء ولماذا هذه البغضاء؟ هل يتصور إنسان مسلم أخاه لله وفي الله سمته سمت صالح يمر ولا يسلم عليه؟ والله إنه لأمر لا يمكن أن يحتمله قلب، لا أتحمل إنساناً مسلماً يمر سمته الصلاح ولا يسلم علي أو لا أسلم عليه، أعتبرها كأنها جريمة، وهي ليست جريمة في الشرع بل السلام مندوب ومطلوب، ولكن هذه الأمور من دعائم الإيمان، وهذا يدل على ضعف الإيمان في القلوب، ولذلك ينبغي أن نحيي هذا الأمر، والله تبارك وتعالى بين أنه يوجد في كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه ما يجمع القلوب، ولذلك ليس هناك أخوة أصدق من أخوة أهل الإيمان، وليس هناك أخوة أصدق من أخوة المسلمين بعضهم مع بعض، فلذلك إخواني! أمامنا كتاب الله الذي هو الحبل بيننا والرابطة لنا، عليها نجتمع، وعليها نأتلف، ومن أجلها نقول، وبها نصول ونجول. هي كلمة الله؛ كلنا قد رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً. ما المانع أن يهش المؤمن لأخيه إذا لقيه وأن يسأله عن حاله، وأن يتفقده ولو لم يكن يعرفه؛ لأن ذلك من أدعى ما يكون من وشائج الإيمان. تصور لو أن إنساناً غريباً نزل بين المسلمين -وهو مسلم- فوجد هذا يسلم عليه، ووجد هذا يهش له ويبش، كيف يكون أثر الإيمان؟ يزداد إيماناً ويزداد ثباتاً. لكن، نخشى والله أن نكون حجر عثرة أمام المهتدين إلى طاعته، والله نخشى من ذلك، ولذلك عندي وصية أخيرة أوصيكم بها ونفسي، وأوصي الدعاة والمربين والإخوان بها. الشباب المهتدون الذين هم في بداية الطريق إلى الله، أوصيكم يا إخوان، وأوصيكم أن توصوا إخوانكم بهم خيراً، والله إنهم أمانة في أعناقنا، الشاب إذا ابتدأ في الهداية يكون عنده طاقة عجيبة من الإيمان فأقل شيء قد يؤثر عليه، وأقل تصرف من الصدود أو الإعراض أوالاحتقار أو النظر إليه كأنه حديث عهد بجاهلية، يكون له أثر لا يعلمه إلا الله، وقد انتكس البعض -والعياذ بالله- وهو في ميزان سيئات من كان السبب في انتكاسته والعياذ بالله، فإياك أن تكون رحمك الله ذلك الرجل الذي يكون حجر عثرة في طاعة الله ومرضاة الله. افتح صدرك لعبد يريد أن يقبل على الله وإذا لم تنفتح صدورنا لأمثال هؤلاء التائبين المنيبين المنكسرين لرحمة رب العالمين فلمن تنفتح؟ وأقسم بالله العظيم أنني أعرف بعض المجالس للتائبين حديثي التوبة أجد فيها من الرقة والخشوع وحلاوة الإيمان ما لا أجده في بعض الأحيان في مجالس بعض طلاب العلم، أقولها عن تجربة! وجدت فيهم من الصدق ومن حلاوة الإيمان شيئاً عجيباً، وفيهم خصال عجيبة من الإقبال على الهداية وتحس كأنه يريد أن يبتلعك من شدة ملازمتك، فبعض الأحيان يتضايق بعض الشباب يحس أنه دائماً وراءه وراءه يسأل ويقول: ما هذا الرجل؟ فسرعان ما ينفر منه، لا. إياك أن تنفر منه، يعطيك بعضه أعطه كلك، يعطيك شيئاً يسيراً أعطه شيئاً كثيراً، فوالله ما وجدنا في ذلك إلا كل خير، ومن فتح لهم صدره فإنه مرحوم برحمة الله، وهو الموفق وهو السعيد، فالله تعالى يعاتب نبيه من فوق سبع سماوات على أعمى جاء يريد من يهديه إلى سواء السبيل، وهو لم يهتد يريد من يهديه، عاتبه الله من فوق سبع سماوات، سبحان الله! فكيف بمن اهتدى؟ {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3] إلى الآن ما اهتدى {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:3 - 4] يعاتبه الله عز وجل في ذلك وهو ما اهتدى فكيف بمن اهتدى؟ ولذلك والله أخشى في بعض الأحيان منهم، أخشى أن أحدهم يكون سبباً في طريق لي إلى النار إذا قصرت معه، والله لا أقولها مبالغة، أخشى أن تخرج مني فلتة يغضب الله عزوجل عليّ بها أو يمقتني الله عز وجل بشاب يمتلئ قلبه من الإيمان، يريد أن يتوجه إلى الله فآتيه بكلمة تثبطه عن طاعة الله، أو آتيه بكلمة تحقره أو آتيه بكلمة أقتل فيه روح الإيمان والحماس في طاعة الله، هذه وصية أقولها عن معاناة الشباب حديث العهد بطاعة الله، افتحوا لهم صدوركم، وحببوهم واشرحوا لهم الصدور. فبعض الإخوان لا يألف إلا لإخوان لهم قدم سابقة في الهداية، والله ما ندري من المقبول ولا ندري من المحروم والأمور مردها إلى الله، فلا تحتقر عبداً يريد أن ينيب إلى الله؛ فإن الله عز وجل نهى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض عن مجالس أمثال هؤلاء فلذلك هذه وصية أقولها عن معاناة عاناها بعض الشباب واشتكى من ذلك. فرفقاً رفقاً يا دعاة الإسلام، ورفقاً يا هداة الإسلام، ورفقاً يا أساتذة، ورفقاً يا معلمين، رفقاً يا مربين، فكل مسلم مطالب أن يرفق بأمثال هؤلاء المهتدين، وأن يحس بأنه على خير، إذا جلس مع مثل هؤلاء أشعره بأنه قد أصاب خيراً، وأنه قد أصاب رحمة من رحمات الله، وينبغي أن تشعره أنه في بداية طريق خاتمته السعادة الحقيقية ونهايته الفوز برضوان الله تبارك وتعالى. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين الذين حققوا الإيمان صدقاً، ونسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتحابين في جلاله الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله إنه ولي ذلك والقادر عليه. وختاماً جزى الله من تسبب في هذا المجلس المبارك كل خير، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

النصيحة للعاصي

النصيحة للعاصي Q كيف أنصح أخي إذا رأيته على خطأ؟ A نأخذ بوصية الشيخ حماد، يقول: إذا حضر الهرس بطل الدرس، كيف تنصحه أولاً: إخلاص، أسلوب حسن، ووقت مناسب، وإن شاء الله وبإذن الله عز وجل تأتي النتيجة، يعني تحاول أن تخلص وأن يكون الأسلوب حسناً والوقت مناسباً، فبإذن الله عز وجل يكون هناك أثر، غالباً بعد انتهائه من المعصية أو الخطأ انصحه حتى تعرفه بقيمته تقول له: ما الذي استفدت الآن؟ فهذا إن شاء الله إذا صدق العبد مع الله صدق الله معه. والله تعالى أعلم. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

جوانب من حياة الشيخ في طلب العلم

جوانب من حياة الشيخ في طلب العلم Q كثير من الإخوة يرغبون أن يتكلم الشيخ عن حياته في طلب العلم؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: أما طلبي للعلم فأسأل الله العظيم أن يجزي الوالد كل خير، وأحمد الله تبارك وتعالى أن هيأه لي وسخره لي، وما كان العبد ليصيب ذلك لولا فضل الله، كان رحمه الله حريصاً على أخذنا إلى مجالسه في الحرم وإحضارنا في دروسه في البيت، وكنت من الصغر أحياناً أنام في حجره في الحرم رحمة الله عليه؛ لأنه كان يدرس بعد الفروض كلها عدا فرض العصر يكون في درسه في البيت. فلما بلغت الخامسة عشرة أمرني أن أجلس بين يديه وأن أقرأ عليه دروس الحرم فابتدأت معه بسنن الترمذي وتعرفون بداية واحد مثلي بداية ضعيف، يعني: أمام جمع من الناس في داخل الحرم، ولكنه أراد رحمة الله عليه أن يشحذ الهمة وكان يحسن الظن بي كثيراً، وأسأل الله عز وجل ألا يخيب ظنه فيّ، فابتدأت بقرءاة سنن الترمذي ثم انتهيت منه، فابتدأ بالموطأ وختمته عليه، ثم بعد هذا ابتدأت بسنن ابن ماجة، وتوفي رحمه الله ولم يكمله ونسأل الله أن يكتب له أجر إكماله هذا بالنسبة للدرس الأول الذي بعد المغرب. ثم يأتي طالب ويقرأ عليه درساً في اللغة، ثم طالب يقرأ عليه درساً في الفقه، وكنت أحضر معه، وبعد العشاء قرأت عليه صحيح مسلم حتى ختمه ثم ختمه الختمة الثانية وتوفي في آخرها. ومن غريب ما يذكر أنه توفي عند باب فضل الموت والدفن في المدينة، وأذكر أنه ذكر في آخر مجالسه حديث فضل الدفن في المدينة وهذا الحديث قد قرأته عليه قرابة أربع مرات في صحيح البخاري، وكذلك في صحيح مسلم ولا أذكر أنه دعا إلا في آخر مجلس من حياته وكان صحيحاً ليس به بأس، فبعد أن ذكر الفضل وذكر أقوال السلف رحمهم الله، قال: وأسأل الله جل وعلا أن لا يحرمنا ذلك فأمن الحاضرون، ولا زلت أذكرها حتى قلت: من تأمينك مثل آمين في الحرم من كثرة الحضور رحمة الله عليه في درسه، فكنت حافظاً لذلك المجلس لأنني أعرف في العادة يمر على هذا الحديث وما دعا. ثم في الفجر كان يقرأ بعد صلاة الفجر التفسير حتى تطلع الشمس، وأما بعد صلاة الظهر فقد كنت أقرأ عليه صحيح البخاري حتى ختمته، ثم أيضاً ابتدأ قراءة ثانية فتوفي ولم أكملها عليه. وأما بالنسبة لقراءتي الخاصة عليه، فقرأت عليه في الفقه: قرأت عليه متن الرسالة حتى أكملته، وقرأت عليه في بداية المجتهد من مذاهب العلماء والفقهاء شيئاً كثيراً من مسائلها وكنت أحررها وكان رحمه الله واسع الباع في علم الخلاف، ويذكر الأدلة لكن كان عنده ورع في الترجيح، وأما بالنسبة لعلم الأصول: فقرأت عليه لكنه كان رحمه الله لا يحب كثرة الجدل الموجود في علم الأصول -كما تعرفون أن علم الأصول يقوم على المنطق في كثير من مسائله- فكان إذا دخلت معه في المنطق يقول: قم -يطردني- لأنه كان يرى تحريم المنطق وهذا قول لبعض العلماء وإن كان اختيار بعض المحققين منهم شيخ الإسلام بالتفصيل. كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله: وابن الصلاح والنووي حرما وقال قوم ينبغي أن يعلما والقولة المشهورة الصحيحه جوازه لكامل القريحه ممارس السنة والكتاب ليهتدي به إلى الصواب المقصود: أنا أدلل بهذه الكلمة ما استوعبت معه جانب الأصول من ناحية المنطق والخلافات، وكان هناك بعض المشايخ ممن له قوة باع في المنطق، قرأت عليهم بعض المسائل التي أرجو من الله تعالى أن يكون فيها تعويض لبعضها. أما بالنسبة للمصطلح: فقرأت عليه بعض المنظومات منها: منظومة البيقونية، وكذلك طلعة الأنوار، وكذلك قرأت عليه في تدريب الراوي جزء منه رحمة الله عليه. وأما السيرة فكان له درس في رمضان يقرأ فيه البداية والنهاية وكان رحمه الله في التاريخ شيء عجيب، أذكر أن الشيخ: ابن عثيمين يقول لي: والدك يحفظ البداية والنهاية. قالها عن معرفة رحمة الله عليه، كان يلم ومعرفته بالتاريخ والأنساب عجيبة، وهذا العلم الحقيقة قصرت فيه ولم آخذه، ويعلم الله عز وجل ما كان يمنعني منه إلا خشية أن الإنسان يأتي ويقول: إن هذه القبيلة تنتهي إلى كذا فيتحمل أوزار أنساب أمم هو في عافية عنها. لكن الحمدلله في الفقه والحديث والعلوم التي أخذتها عليه - إن شاء الله - غناء عن غيرها. جوانب من طلب العلم: كان رحمه الله قوياً في طلب العلم، وكان لا يقبل كل طالب علم -يعني: لا يحتضن أو يضم كل طالب علم إليه- لا يضم إلا الفذ الصابر، وذلك له أثر لأنه هو بدايتة كانت بهذه الطريقة، كان رحمه الله من المعروف عنه يقول لي العم محل إجماع عندنا في القرابة: أن والدك رحمة الله عليه ما عرفت له صبوة إلى الحرام من الصبا وكان معروفاً لا يعرف ضياع الوقت، وكان وهو ابن تسع عشرة سنة يرتحل إليه في علم رسم القرآن من إتقانه رحمة الله عليه، ونزل عند بعض مشايخه وكان لا يأتي لقرابته إلا بقدر ما يسلم ويؤنسهم ثم ينطلق إلى دروسه. هذا كشاهد على صبره في طلب العلم وأنه لا يقبل كل أحد، أذكر منه -رحمه الله- أنه يذكر عن بعض مشايخه أنه سهر الوالد سهر في الليل وهو يراجع درسه في القرآن أيام ما كان يحفظ، أظن أنه استظهر القرآن وهو لم يتم الحادية عشرة من عمره، المقصود أنه سهر الليل في مراجعة حزبه ثم لما صلى الفجر ارتاح قليلاً فمر عليه شيخه -تعرفون التعليم في البلاد خاصة في قضية التحفيظ هذه لها طابع خاص وفيه من الضرب والتأديب شيء لا يخطر على البال- فلما نام بعد صلاة الفجر مر عليه شيخه وركضه برجله وقال: له يا مخيتير ما بلغت الساعة التي تنام، ما بلغت من العلم ما يؤهل لك أن تنام مثل هذه الساعة. يقول: فقمت من ساعتي أراجع حفظي، يعني: من شدة الضبط والتحرير، وكان عنده همة وكان من أهم الأمور التي رأيتها فيه أنه لا يحب ضياع الوقت، يمكن أن يقبل كل شيء إلا ضياع الوقت، يدخل البيت أول ما يستفتح يصلي ما كتب له، ثم -والله يا إخوان- ينقلب على فراشه والكتاب في حجره، آتيه بمشكلة معضلة يلتفت إليّ فقط والكتاب في حجره، ماذا تريد؟ أقول: كذا وكذا، يقول: افعل كذا وكذا ثم يلتفت إلى الكتاب. همة عجيبة، لما هاجر من البلاد وخرج -رحمة الله عليه - خرج بكتبه وعزت عليه الكتب في شدة البرد وضعها على جراب من جلد، يقول: إنه لما حملها وكثرت تفسخ معه جلد ظهره، ومع ذلك عزت عليه الكتب أن يفرط فيها، فالأولون الحقيقة كان لهم همة. وذات مرة كأني أعتذر من كثرة المشاغل علي معه رحمة الله عليه ما كنت أفارقه أحمد الله تبارك وتعالى وأشكره، ولو أني الطالب المهمل والتلميذ المقصر كان رحمة الله عليه في آخر حياته لا أفارقه حتى إذا جاء ينام لا أفارقه حتى يرتاح، وأسأل الله أن يتولى عني حمد هذه النعمة، فأنا أحقر في حمدها ومقصر في شكرها، كنت أعتذر أحياناً بالتعب فذات مرة كنت أراجع مسألة فتعبت، قال: سبحان الله! والله يا بني! لقد كنت أوقظ الفتيل لأقرأ المسألة فيمتلأ الدخان في أنفي حتى لا أعي ما أقرأ - من شدة الدخان- يقول: فأطفئ الفتيل ثم أوقده ثم أطفئه ثم أوقده إلى قرابة منتصف الليل حتى أستظهر المسألة، فأنت الآن في مصباح وفي براد وفي كذا وفي كذا يعني: يحقر منه. وإذا أخذ كتاباً وقرأ نسي الدنيا وما فيها، قصة طريفة تخبرني بها الوالدة: ذات مرة كان يقرأ في كتابه فجيء له بحليب فبرد الحليب فوضع الدفاية الصغيرة حتى يسخن الحليب، ثم جلس يقرأ، طبعاً فار الحليب واشتعل ناراً ودخن في الغرفة وما انتبه له إلا الوالدة من الغرفة الثانية وهو جالس يقرأ في كتابه، كان عنده انصراف عجيب، إذا أقبل إلى العلم أعطاه كله، وإذا أعطى لك المسألة يعطيها عن تحرير، وقل أن يقدم على الشيء إلا وهو يحسنه، أما الشيء الذي لا يحسنه ما يقدم عليه رحمة الله عليه. أما الجوانب التي يحفزني فيها في طلب العلم فمن أهمها: كان يعتني بجانب الإخلاص ويعلم الله كم له من كلمات، والله إلى اليوم في قلبي كلمات يسيرات لكن كانت تقرع القلب، وكان يحرص أن يكون العلم هذا لوجه الله، إنه لا يراد به إلا ما عند الله عز وجل، وهذا جانب في الحقيقة أحوج ما يكون إليه طالب العلم، وهو بداية النجاح والفلاح والتوفيق في طلب العلم. الأمر الثاني: من الأمور في طلب العلم، أنه يعتز ويفتخر إذا جئت تسأل ويعطيك الوقت، والله أحياناً يكون مريضاً وأذكر أن بعض الدروس كان يأتيه الطلاب وهو في الحمى رحمة الله عليه ومع ذلك لا يعتذر وينزل ويصبر، حتى أذكر أنه مرض فجئته بالطبيب بعد ذلك، قال الطبيب: كيف أعالجه وهو جالس -وليس متصور- يقول كيف هذا جالس؟ كان عنده صبر وجلد وتحمل من أجل العلم، ومع ذلك لا يعد نفسه شيئاً رحمة الله عليه، أسأل الله عز وجل أن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء. وكان دائماً ينبه على قضية أن العلم مشاع، وأنه لا يحتكر، وأن المقصود به نشره وبذله، وكان يقول: إذا جاء السائل إن كنت نائماً فأيقظوني، وإن كنت بين الأهل فآذنوني ولا تمنعوا السائل عني، ولو كان من أحقر العباد، والله يأتيه الرجل من البادية مرقع الثياب، يقول: أين الشيخ؟ عندي فتوى نقول: عندك فتوى نذهب نوقظه من النوم في الظهيرة وينزل ولا يمل ولا يسخط ويجيب له سؤاله، ويأتي الرجل من علية القوم ورفعة القوم يقول: أريد أن أودعه لأنني مسافر نقول له: نائم لا نستطيع أن نوقظه، كان من يريد العلم أو الفائدة لا يضن به عليه، في الحقيقة حياته سجل. أما بالنسبة للقراءة العامة في الجامعة فكما هي معلومة عند الجميع. ولولا إلحاح الإخوان والله ما كنت أريد أن أتكلم بهذا ولكن نسأل الله أن ينفع بها.

أن تقول نفس يا حسرتا

أن تقول نفس يا حسرتا في هذه المادة يعرض الشيخ لآيات في كتاب الله تصور حال العصاة، وتحذرهم من الوقوع فيما يندمون منه يوم القيامة، مع بيان حكم هجران الأهل بسبب المعاصي، وأسباب التردي في المعاصي، والعلاج للخروج من هذه الحال، وبيان الأسباب التي تلين القلوب.

وقفة مع سورة الزمر

وقفة مع سورة الزمر الحمد لله الذي يقبل توبة التائبين, ويمحو بفضله وعفوه وحلمه إساءة المذنبين, الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء وهو أرحم الراحمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الأمين, صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين, وصحابته الغر الميامين, وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين, وحشرنا وإياكم معهم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين, أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخواني في الله! آية من كتاب الله، وكلمة عظيمة جليلة كريمة من كلام الله, وموعظة بليغة من مواعظ الله, ما وقف أمامها مذنب إلا رجع إلى ربه وتاب, ولا تفكر فيها ولا تدبر مسيء مخطئ إلا أناب, آية من الكتاب أخذت القلوب إلى رحمة الله رب الأرباب, جاءت هذه الآية بين ثنايا تلك السورة الجليلة العظيمة الكريمة التي سماها بعض العلماء رحمهم الله بسورة التوحيد والإخلاص, استفتحها الله رب العالمين ببيان نعمته ومنته على العالمين, فشهد الله أنه أنزل على رسوله ذلك الكتاب المبين, ثم انتقلت تلك الآيات بعضها تلو بعض, تقرر معالم التوحيد وتدل على عظمة الله الحميد المجيد, انتقلت تلك الآيات لكي ترسم مناهج الحنيفية وتبطل شعارات الوثنية والجاهلية, ثم ما هي إلا آيات حتى أخذت القلوب إلى الدار الآخرة فذكرت العباد بيوم المعاد, وذكرت كيف يتفرق الآباء والأولاد, وكيف يخسر الآباء أبناءهم, والأمهات بناتهن, وكيف يفرق بين العزيز وأخيه, وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه, وحكمت بأن هذا الفراق هو الخسارة التي لا تطاق {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] يوم فارق الأب ابنه فراقاً لا لقاء بعده, وفارقت الأم ابنتها فراقاً لا لقاء بعده {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]. فرجفت القلوب من خشية ربها، وأنابت إلى الله خالقها من عظيم ما وقر في مسامعها, أن يفرق بين الحبيب وحبيبه، فأصابتها خشية الله فما هي إلا آيات حتى أتتها رحمات الله, فذكر الله بأهل الجنان, وما هم فيه من الروح والريحان, ومنازل العفو والصفح والرحمة والرضوان, يوم هم في غرف مبنية بعضها فوق بعض قد أصابهم من الله ما أصابهم من الرحمة المرضية. ثم انتقلت تلك الآيات العظيمة وأنت تعيش بينها في تلك السورة الجليلة الكريمة فذكرت تلك القلوب الغافلة، وذكرت القلوب المنتبهة, فبينت أحوال القلوب وكيف حالها تجاه أمر الله علام الغيوب, وذكرت أن هناك قلوباً رقيقة لا تحتمل كلام الله حتى تجل من خشية الله, إنها القلوب التي قُرعت بكلام الله فاقشعرت جلودها من خشية الله {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر:23] فما أحلى كلام الله في قلوب أولياء الله, وما أطيب تلك القلوب يوم تفتحت لكلام الله, وما أسعد تلك الجوارح يوم خشعت وسكنت وذلت لجلال الله. ثم انتقلت تلك السورة العظيمة فضربت معالم الحنيفية، وأقامت الدلائل على العقيدة المرضية, ضربت مثل الموحدين ومثل المشركين والوثنيين في أصدق العبارات وأبين الدلائل والعظات, ثم وقفت تلك الوقفة العظيمة التي لما قرأها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رقت قلوبهم لها وأذعنت لجلالها، إنها الوقفة التي نعى الله عز وجل فيها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم إلى الملأ فأخبر أنه ميت وأنه إلى الله صائر, يوم أن نعى الله عز وجل نبي الهدى إلى الأمة والملأ فأخبر أن لا خلود وأنه سينتقل من هذا الجوار إلى جوار الله الواحد القهار. ثم أخبر أن هذه السنة سيتبعه عليها خلائق, لا يعلمهم إلا الله ولن يستطيع أحد أن يفوتها, ولن يستطيع أحد أن ينجو منها {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] إنها الآية التي إذا قرأها المؤمن هانت عليه الدنيا وعلم أن أيامه فيها قليلة, وأن حياته فيها محدودة, وأن ساعاته معدودة, يوم يحس أن أفضل الخلق وأشرف العباد وأحبهم إلى الله قد صار إلى الله فكيف بمن سواه؟! {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وإذا بالقلوب تتساءل: فما الذي يكون؟ وما الذي يحدث لهذا الكون؟ فأخذ الله عز وجل بمجامع القلوب إلى ذلك اليوم المشهود واللقاء الموعود، إلى تلك المشاهد العظيمة فعبر عنها في آية واحدة كريمة, وإذا بالقلوب تنتقل إلى مشهد من المشاهد بين يدي الله علام الغيوب, إنه المشهد الذي تطول فيه الخصومة, إنه المشهد الذي يعظم فيه السؤال والحكومة, إنه مشهد ديان يوم الدين, يوم يأتي الله لفصل القضاء، يوم يحكم الله بين العباد ويؤذن للأشهاد: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] يوم يأتي الصغير والكبير, يوم ينكشف الجليل والحقير, يوم يسأل عن الخردلة والقطمير والنقير. {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] يوم يخاصم الابن أباه, وأخته وأخاه, يوم يخاصم الزوج زوجه, وصاحبته وبنيه, إنه اليوم العظيم الذي تطول فيه الخصومة بين يدي الله الجليل العظيم {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] يوم تنقطع المعاذر، وتغص الحناجر، وتخشع القلوب، وتعنت الوجوه للحي القاهر.

مواعظ وعظات من سورة الزمر

مواعظ وعظات من سورة الزمر ثم انتقلت تلك الآيات الكريمة في عظات عظيمة حتى وقفت مع المذنبين، ووقفت مع المسيئين المخطئين يوم ثقلت أحمالهم من الذنوب, وعظمت إساءتهم عند الله علام الغيوب, فنادتهم نداء الرحمات، وفتحت أمام أبوابهم المغفرات فناداهم الله فاطر الأرض والسماوات نداءً يهز القلوب، ويعظم رجاءها في الله علام الغيوب, يوم يحس العبد بعظيم إساءته, وجليل ذنبه في حق ربه, فإذا بالأبواب تفتح، وإذا بالنداء يقرع القلوب والأسماع, ألا يخيب الرجاء في الله جل جلاله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] يوم زل اللسان, وزل الجنان, وأخطأت الجوارح والأركان, يا من حملتم ذنوبها, يا من عظمت عليكم إساءتها؛ إني لها وكفى بالله لها, يوم يحس العبد بطول غربته, وبعده عن ربه وعظيم إساءته فيناديه الغني الحليم، ويناديه الجليل الرحيم: ألا تيئسوا من رحمة الله أرحم الراحمين. علم الله جل جلاله أن ليس للذنوب أحد سواه, وأن ليس للعيوب أحد عداه, فناداهم وهم في الذنوب غارقون, ودعاهم وهم في الإساءة يتهافتون, ثم بين جل جلاله أن هذا النداء قد وقتت أوقاته، وحددت ساعاته ولحظاته، فقبل الفوات قبل الممات, قبل الفوات قبل الفوات، وقبل الممات قبل الممات: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يناديهم لكي يتداركوا, لكي يقبلوا ويجذبوا, لكي يقبلوا على الله جل وعلا وينيبوا {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] إنها النفس الظالمة, إنها النفس الآثمة, إنها النفس الظلومة الغاشمة التي ما تركت باباً من الذنوب إلا قرعته, ولا باباً من الإساءة إلا ولجته, أن تقول: يا حسرتى!! وما أعظم الحسرة إذا خسر أصحابها, وعظمت خسارة أربابها, وخرجوا من الدنيا صفر اليدين من رحمة الله! ما أعظمها من خسارة إذا طويت الصحائف باللعنات! ما أعظمها من خسارة يوم يطبع على القلوب! يوم يتأذن غضب الله علام الغيوب؛ من عظيم الإساءة وعظيم الذنوب, ما أعظمها من خسارة يوم لا يستطيع الرجوع، يوم لا تنفع المعذرة ولا تغني الدموع, يوم يتقطع القلب من الألم، ويعتصر من شديد الندم! أن تقول نفس ومتى تقول؟ حين تضع آخر أقدامها من أعتاب هذه الدنيا وتستقبل الدار التي هي غريبة عليها, يوم تنقطع المعاذر, وتغص السكرات في الحناجر, ويصير العبد ذليلاً حقيراً إلى الله الواحد القاهر: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى} [الزمر:56] يا حسرتى يوم طال السهر، يا حسرتى يوم ضاعت الأعمار, يا حسرتى على الساعات واللحظات, يا حسرتى على الليل والنهار, يا حسرتى على أصحاب لم ينفعوا, يا حسرتى على أحباب لا يشفعون, يا حسرتى على عمر مضى وزمان ولّى وانقضى, يا حسرتى إذا كشف الديوان بخطيئة اللسان وزلات الجنان, يا حسرتى يوم يعرض على الله حافياً عارياً, يا حسرتى إذا عرض الشباب وما فيه من خطأ وصواب, ولم يفقد العبد فيه زلة ولا حسنة بين يدي الله رب الأرباب, يا حسرتى على ثلاثين عاماً أو أربعين أو خمسين أو ستين حين يلقى العبد بها الله رب العالمين. {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] ذهب الليل فما تمتعت عيني بالبكاء فيه من خشية الله, ذهب الليل وما تمتعت قدمي بالوقوف بين يدي الله, يا حسرتى يوم يذهب العمر دون وجود الغنيمة والذخر, يا حسرتى يوم مضى ليله وطلعت شمسه ولم تنعم يداه بالسجود بين يدي الله, يا حسرتى على صلاة أضعتها, يا حسرتى على زكاة منعتها, يا حسرتى على أيام أفطرتها, يا حسرتى على ذنوب فعلتها, يا حسرتى على خطايا تلبست بها, يا حسرتى إذا كشف الديوان وعظم الوقوف بين يدي الله الواحد الديان! يا حسرتى وهل تغني الحسرات؟! يا حسرتى وهل يؤذن بالرجوع عند الممات؟ يا حسرتى يوم لم أشكر النعم, يا حسرتى يوم لم أشكر الله على دفع النقم, يا حسرتى يوم لم يلهج لساني بذكره, يا حسرتى يوم لم يتلذذ لساني بشكره, يا حسرتاه يوم فاز الفائزون, وغنم الغانمون, وجئت صفر اليدين مما هم فيه يتنعمون, يا حسرتى يوم فاز الصالحون بالدرجات, وسموا إليها بنفوس عاليات أبيات, ووقفت في الأخريات أنظر إليهم بتلك الحسرات, يا حسرتى لو كنت مطيعاً على ما فرطت في جنب الله إذ كنت مستطيعاً, يا حسرتى يوم يلفظها اللسان ويعتقدها الجنان فيخرج كل حرف منها من كل عضو وأركان. يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله لعظيم حقه عليّ, وجليل منته لديّ, فكم أنعم وتفضل وكم وهب وأجزل, سبحانه العلي الأكمل. يا حسرتى يوم لم أعظمه حق تعظيمه, ولم أمجده حق تمجيده, يا حسرتى على التفريط في جنب الله, يوم فتحت لي أبواب الخيرات فقلت: هيهات هيهات!! ما زالت الأعمار والبقيات {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يقولها المذنبون, ويوقن معناها المسيئون المخطئون. يا حسرتى ولو كان العبد مطيعاً, يا حسرتى ولو كان العبد خيراً ديناً مستقيماً؛ ولذلك سمى الله ذلك اليوم المشهود واللقاء الموعود بيوم التغابن؛ لأنه ما من نفس إلا وهي في غبن ولو كانت من نفوس الصالحين, في غبن أن لم يفوزوا بالخيرات, ولم يستكثروا من الطاعات, في غبن أن لم يفوزوا بالرحمات ولو كانوا على خيرات وحسنات. {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] فويل لذلك اللسان الذي تمتع بالسخرية من أولياء الرحمن, إنها الكلمة التي يقولها من زل لسانه وخاب جنانه، وأساءت جوارحه وأركانه, يا حسرتى يوم ضحكت من المطيعين, واستهزأت بعباد الله الصالحين, يا حسرتى يوم نظرت إليهم وهم ذاهبون إلى المساجد فقلت: إلى أين يذهبون؟! يا حسرتى يوم رأيتهم مع كل راكع وساجد فقلت: لماذا يتعبون؟! يا حسرتى إذ لم أقدر الله حق قدره, فاستهزأت بعباده واستخففت بأمره. {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] وما زالت آيات هذه السورة الكريمة الجليلة العظيمة تهز كيان المؤمنين, وتوقظ عباد الله الغافلين, إنها سورة الزمر، سورة التوحيد والإخلاص, ما من آية من آياتها إلا وتحتاج وقفة معها. سورة تهز القلوب والمشاعر, سورة تحيي القلوب والضمائر, سورة تعيش فيها مع أهل النعيم في نعيمهم فكأنك في الجنان تقطف من ثمراتها, وتنال ما فيها من خيراتها, وتعيش مع أهل الجحيم في دركاتهم, فكأن زفير جهنم لتلك القلوب بين آذانهم. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى: اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت العظيم ألا تجعلنا من أهل هذه الكلمة, اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من أهلها, اللهم إنا نعوذ بك أن تنطق ألسنتنا بها, اللهم حرمها على ألسنتنا، اللهم حرمها على ألسنتنا، وأخرجنا من الدنيا وأنت راض عنا, اللهم إنا نسألك فعل الخيرات, وترك الفواحش والمنكرات, قبل أن يدهمنا الممات, يا حي يا قيوم، يا فاطر الأرض والسماوات. اللهم استر عوراتنا, اللهم آمن روعاتنا, اللهم أمِّن يوم الوعيد خوفنا, اللهم استر عوراتنا فيه, اللهم آمن روعاتنا فيه, اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك, اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك, اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك, اللهم لا تمنع عنا بذنوبنا عظيم عفوك عنا يا ذا الجلال والإكرام. اللهم إنا نسألك حبك وحب كل شيء يقربنا من حبك, نسألك فعل الخيرات، وترك الفواحش والمنكرات, وحسن الختام عند الممات يا فاطر الأرض والسماوات, اللهم حرم وجوهنا على النار, اللهم حرم وجوهنا على النار، اللهم حرم أجسادنا على النار يا ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام, والملك الذي لا يضام, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها وأشرفها لحظة الوقوف بين يديك, اللهم اجعلها أسعد اللحظات, اللهم استر لنا فيها العورات, واغفر لنا فيها السيئات, وارفع لنا الدرجات, اللهم أكرمنا بعدها فوراً بالدخول في الجنات يا ذا الجلال والإكرام, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

إرشاد من يهجر أهله في المأكل والمجلس بسبب بعض المعاصي

إرشاد من يهجر أهله في المأكل والمجلس بسبب بعض المعاصي Q أنا شاب قد أهجر أهلي في المأكل والمجلس بسبب بعض المعاصي كالتلفاز وغيرها, وأخرج لصلاة الفجر ولا أرجع إلا بعد منتصف الليل, فانصحني جزاك الله خيراً إلى الطريق المستقيم؟ A الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد: فاعلم أخي رحمك الله أن لأهلك عليك حقاً ولزوجك عليك حقاً, وكون الأهل في إساءة وذنب لا يدعو ذلك مثلك أن يذنب وأن يسئ, إن هجر النساء في الفرش باب من أبواب الإساءة, ولا يجوز فعله إلا إذا ترتبت على ذلك المصلحة الشرعية, ولذلك أخبر الله تعالى أن اللاتي يخاف نشوزها أنه ينبغي عظتها وزجرها, فإن لم تتعظ فإنها تهجر في المضاجع بقدر, وإذا كان الإنسان يديم هجر أهله حتى يخشى وقوعهم في الزنا فإن ذلك لا يجوز؛ لأن المفسدة لا تدرأ بالمفسدة, والشر لا يدفع بالشر, وكونهم أخطئوا فيما بينهم وبين الله لا يوجب لك أن تخطئ في حقهم, ولذلك قال الله عن الوالدين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فأمر الابن أن يؤدي حق الوالدين مع كفرهما وشركهما, فاستنبط العلماء من هذا دليلاً على أن الإنسان إذا أساء إليه الغير أن ذلك لا يفتح له باب الإساءة للغير, أعطهم حقهم كاملاً. وأما ما بينهم وبين الله فأوصيك بأمور: ذكرهم بالله, واستدم نصحهم وتوجيههم إلى صراط الله, فهذا هو الذي عليك, وأما ما عدى ذلك فلست عليهم بمسيطر, إن عليك إلا البلاغ والله يتولى العباد, والله تعالى أعلم.

الأسباب التي تلين لها القلوب

الأسباب التي تلين لها القلوب Q بسم الله الرحمن الرحيم، يقول السائل: إني أمر بحالة عظيمة من قسوة القلب, فأسألك يا شيخ أن تدعو لي. ويقول الآخر: هلا وضحت بعض الأمور التي من خلالها يجد العبد لذة العبادة بين يدي الله تبارك وتعالى؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قلوباً رقيقة لذكره وشكره, اللهم إنا نسألك قلوباً ترضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام, نسألك أن ترقق قلوبنا, وأن تعيذنا من قسوة القلوب. أما ما سألت عنه -أخي في الله- من قسوة القلب, فإن من أعظم الأسباب التي تلين لها القلوب: أن يكثر الإنسان من الدعاء, ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله جل وعلا أن يعيذه من القلب القاسي, ففي الحديث الصحيح أنه قال: (اللهم إني أعوذ بك من عين لا تدمع, ومن قلب لا يخشع, ومن دعاء لا يُسمع, ومن علم لا ينفع, أعوذ بك من هؤلاء الأربع) فسل الله أن يعيذك من قسوة قلبك. أما الثانية: فابحث عن الأسباب التي قسا بها قلبك, فتش عن ذنوبك بينك وبين الله, وفتش عن حقوق الله التي أضعتها, وحدوده ومحارمه التي جاوزتها وانتهكتها, فلعل صلاة أضعتها صعدت إلى السماء فقالت: ضيعك الله كما ضيعتني. فاستغفر الله ثم تب إلى الله وأنب إليه جل جلاله. أما الأمر الثالث بعد الدعاء والبحث عن الأسباب التي تقسي القلوب من حقوق الله: كذلك حقوق العباد, فقد يكون هناك مظلوم ظلمته, أو محروم حرمته, فرفع كفه إلى ربه جل وعلا فاستجاب الله دعوته, وقال الله لدعوته: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) فأصابتك دعوة الرجل الصالح, فاسأل الله عز وجل أن يغفر لك, وأن يذهب عنك ذنوب ما كان من آثار ذنوب العباد وظلمهم, وفتش عن حقوق الناس فيما بينك وبين أهلك وأولادك وزوجك وجيرانك وأرحامك, فتش عن نفسك فلابد من وجود أمر: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] فاتق الله في نفسك وفيمن ولاك الله من أهلك وولدك وغيرهم. الوقفة الرابعة: خذ بالأسباب التي ترقق القلوب ومن أعظمها أن تكثر من ذكر الآخرة, فالقلب لا يقسو إلا من الدنيا, والدنيا لا يذكرها الإنسان إلا إذا طال أمله وأصبح يؤمل فيها الآمال, ولا يطول أمل الإنسان إلا من طالت غفلته عن الآخرة والعياذ بالله, ولا تطول غفلة الإنسان عن الآخرة إلا إذا قلل من ذكرها, فأصبح العلاج أن تكثر من ذكر الآخرة, فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, فهذه من أعظم الأسباب: قصر الأمل في الدنيا, فإنه يعين على رقة القلوب, وكثرة ذكر الموت والبلاء, وقرب المصير إلى الله جل وعلا, كل ذلك مما يرقق القلوب. ومما يرقق القلوب: أن تشيع الجنائز، وأن ترى ما هي سائرة إليه من عذاب أو جوائز, أن تشيع الجنائز وتعيش مع أهلها حتى إذا غادروها نظرت إليها وحيدة فريدة قد تولى عنها الآباء والأبناء والإخوان والأصدقاء, فأصبحت رهينة القول والعمل، فدعاك ذلك إلى أن تنيب إلى الله جل وعلا فيرجف قلبك من خشية الله, وتذهب عنه القسوة. ثم كذلك مما يعين على رقة القلوب: زيارة المرضى، والنظر في أحوالهم, واسمع بأذن واعية إلى ما هم فيه من الآلام والأسقام، وسل الله العافية, انظر إلى تلك الأجساد التي كانت تتمتع بالصحة والعافية، رجل كالجبل, فيضربه الله بنقمة من النقم يخر صريعاً لا يستطيع أن يبرح مكانه, لا إله إلا الله ما أعظم سطوة الله بالعباد! ولذلك النظر في نقم الله في العباد وبلاياه وما ينزله بهم وهو الحكم العدل جل جلاله من أعظم الأمور التي ترقق القلوب, فإن هذا الأمر إذا رأيته خفت أن تكون لك عاقبة مثل عاقبة هذا الرجل, فإن العبد تراه غنياً ثرياً ظالماً غاشماً حتى يضربه الله بمرض في قلبه أو في مخه أو في قدمه, ولا يستطيع أن يبرح فراشه، يئن كما يئن الطفل الصغير, ينسى أهله, ينسى أولاده, ينسى ماله, والله لو خير في لحظات شدة الألم بين جميع التجارات التي جمعها في حياته لدفعها، وأصبحت نفسه أحقر ما تكون وأهون ما تكون عليه, فلذلك ينبغي للإنسان أن يقف في هذه المواقف لكن لا يقف بقلب غافل، بل يقف وهو معتبر, متبصر مدكر. كذلك أيضاً مما يرقق القلوب: الإحسان إلى الناس, الإحسان إلى الأيتام، إلى الأرامل, ابحث عن جيرانك, فإن وجدت فيهم أرملة فاقتحم العقبة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:12 - 16] ثم تكون بعد ذلك من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة, كن منهم بهذا القلب الرقيق, هذه من الأمور التي تعين على رقة القلوب, تأتي إلى الأرملة في شدة حاجتها فتعطيها مالاً من عنائك, وكد يدك، وهو عزيز عليك تعطيه احتساباً لوجه الله جل وعلا, في ظلمة ليل أو ضياء نهار, ويريد الله أن تلك اللحظة تفتح فيها أبواب السماء فترفع تلك الأرملة لك كفاً فتستجاب دعوتها, فأحسن إلى الناس فإن الإحسان إلى الناس من الأمور التي ترقق القلوب, وقلّ أن تجد إنساناً كريماً جواداً محسناً إلا وجدته أرق الناس قلباً, ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الراحمين يرحمهم الله. كذلك أيضاً: خذ اليتيم وامسح برأسه, فإن اليتيم فقد أباه, ويعيش في هذه الحياة بدون أب, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المسح على رأس اليتيم من الحسنات والقربات؛ لأنك لما تمسح على رأسه تسد الثغرة التي في قلبه, لما تمر يدك على ذلك الرأس الذي فقد الحنان وعاش في هذه الحياة كأنه وحيد, فتشعره كأنك أباً ثانياً، فإن هذه المسحة تقع عند الله بمكانة، والله يحب الحسنة ويحب الخير ويشكره, ولا يضيع العرف بين الله والناس, لا ينسى الله جل وعلا الحسنات, ولا ينسى ما يكون من العبد من إسداء الخير إلى البريات, فأحسن إلى الناس فإن ذلك مما يعين على رقة القلب. نريد رقة القلب ونحن أبخل الناس يداً! ونحن أكثر الناس تكبراً وتعنتاً! ونحن أفظ الناس وأغلظهم قولاً! لا شك أن هذه الأمور تحتاج إلى مجاهدة وإلى عمل صالح وإلى قربة, ولذلك وصف الله المؤمنين بماذا؟ قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] المؤمن ذليل لكن هذه الذلة عزة عند الله عز وجل, لما تكون سهلاً ميسراً يرق قلبك, لكن لما يأتي الإنسان فيتعاظم على الناس, ويفتخر عل الناس، ويتعالى على الناس لا يزال يهوي -والعياذ بالله- في سفال حتى يمقته الله جل وعلا, وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) والعياذ بالله. فنسأل الله العظيم أن يرزقنا رقة القلوب, والله تعالى أعلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

سبب نزول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم.

سبب نزول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ... ) Q ما سبب نزول الآية الكريمة: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] وما المناسبة لهذه جزاك الله خيراً؟ A الأصل في هذه الآية من قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] أن أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تعاظموا ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الذنوب والزنا والمحرمات وغيرها, فأنزل الله هذه الآية, رغبهم فيها في التوبة، وأخبرهم أن الله عز وجل سيمُن عليهم إذا أنابوا بالرجوع والتوبة, هذه الآية الكريمة بين الله جل وعلا فيها سعة رحمته, حينما ظن بعض الأصحاب أن الذنوب لا تشملها تلك الرحمة الواسعة، فهذا هو أصل نزول الآية. وأما بالنسبة للآية التي ذكرناها فهي مرتبة على آية قبلها، وهي أن الله أمر بالإنابة, وحذر من لم ينب أنه ستمر عليه مثل هذه اللحظة التي يبكي فيها على تفريطه في جنب الله, والله تعالى أعلم. أما المناسبة: فالمناسبات بين الآيات للعلماء فيها وجهان: من أهل العلم من قال: لا ينبغي أن يبحث عن المناسبات بين آيات السور؛ لما في ذلك من التكلف, والله يحكم ولا يعقب حكمه, ويقول وما أصدق ما يكون من قوله, فالله جل وعلا لا يسأل عما يفعل, ولا يقال: لماذا قال كذا؟ ولماذا جاءت آية كذا بعد كذا؟ فإن الذي تكلم بالقرآن هو العظيم الرحمن, وهذا الكلام إذا صدر من عظيم فإن فيه من الحكم والأسرار ما لا تدركه العقول, فيه من الحكم والأسرار وحسن البيان وكماله ما لا يعلمه إلا الله جلا وعلا, فلا يستطيع العبد مهما بلغ من العلم أن يدرك حقائق المناسبات بين السور والآيات, ولذلك شدد بعض العلماء رحمهم الله في ذلك، وكان السلف رحمهم الله في تفسير القرآن يتوقفون على قدر المعاني لا يزيدون ولا ينقصون, والمناسبات بين السور والآيات حدثت بعد السلف بعصور. ولكن قال بعض العلماء: يجوز أن تذكر بعض اللطائف، ولا يعتبر ذلك توقيتاً للورود, بمعنى: لا تقول هذه الآية جاءت من أجل كذا بعد هذه الآية، ولكن تقول: من الحكم والفوائد كذا وكذا. فاعلم رحمك الله أن من كمال منهج المشرع أنه إذا أمر بشيء فإنه ينبغي أن يضع تقديراً أن الشيء يطاع أو يعصى, فإن أطيع وعد بالمثوبة، وإن عصي رهب بالعقوبة, فالله جل وعلا فتح أبواب الإنابة، ولما كانت النفوس البشرية منها من يسابق فينال الرحمة، ومنهم من يتقاعس فينال النقمة؛ فلذلك كان لوجود هذه الآية نوع من التأثير، وهو أن النفس الضعيفة التي لا يفيد فيها الترغيب سيأتيها أسلوب الترهيب, فأول الآية ترغيب: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] هذا ترغيب, فالنفوس التي ينفعها الترغيب تتأثر, ثم جاء النوع الثاني وهي النفوس التي لا تقرع ولا ينفع فيها الترغيب، وهي النفوس التي تزجر وترهب فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:54 - 55] {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر:56] فهذا من أبلغ ما يكون في حسن البيان, وكمال التوضيح من العظيم الرحمن، والله تعالى أعلم.

نصيحة للذين يتوبون من المعصية ثم يعودون لها وبيان أسباب الهداية

نصيحة للذين يتوبون من المعصية ثم يعودون لها وبيان أسباب الهداية Q كثير من التائبين عندما يعودون إلى الله تبارك وتعالى ما إن يلبث حتى يعود إلى عصيانه لربه تبارك وتعالى, فماذا تنصح هؤلاء الإخوان بارك الله فيكم؟ ثم ذكر أيضاً سؤالاً: ما هي الأسباب المؤدية للهداية؟ A إن من أعظم النقم وأشدها على العبد في الدنيا والآخرة مصيبة الدين, تلك المصيبة التي إذا حلت ونزلت فلا يجبر كسرها إلا الله جل جلاله, ولذلك في الدعاء المأثور: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) ومن أعظم المصائب أن يعرض العبد عن الله جل وعلا, فإنه قد يعرض إعراضاً يحرم الله عليه بعده أن يقبل أبداً, ولذلك من أخوف وأخطر ما يكون على العبد بعد أن يذوق حلاوة الإيمان أن يعرض عن الله العظيم الديان, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الانتكاسة, وأن يعيذنا منها وأن يثبتنا وإياكم على الصراط المستقيم إلى لقائه. ومن أعظم الأسباب التي ينبغي أن يتنبه لها كثير من الإخوان: أنه ينبغي على الإنسان إذا التزم أن يلتزم بصدق, وإذا اهتدى أن يهتدي بحق, وأن يأخذ بالدين كله لا بجزئه, وأن يأخذ بهذا الالتزام كلاً لا بعضه, فإذا جاء لهذا الدين يأخذه كاملاً، فإنه إن أعرض عن أمر من أوامر الله لا يأمن الضلال كما قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [والله لا يبلغني شيء من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره إلا فعلته، إني أخاف إن تركت شيئاً من سنته أن أضل] فهذه من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يتنبه لها. الحرص على الأخذ بأوامر الشرع كاملة, يأمرك الشرع أن تحفظ جوارحك فعليك أن تحفظها, يأمرك أن تحفظ أركانك فعليك أن تحفظها, يأمرك أن تعطي فتعطي, يأمرك أن تمنع فتمنع, وإذا قال هذا حلال فهو حلال, وهذا حرام فهو حرام, حينما تأخذ بالدين كاملاً يتغلغل إلى سويداء قلبك, وتأتي الساعة التي يصبح هذا الدين أعز عليك من الطعام والشراب, عليك أن تأخذ بالالتزام كاملاً، ولازم ذلك أن تبحث عن أوامر الدين, وكلما جاءك أمر من الله ورسوله تقل: سمعت وأطعت غفرانك ربنا وإليك المصير. الصحابة رضوان الله عليهم لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم واستجابوا جاءت استجابتهم على أحسن وأصدق، وأبهى وأكمل وأجمل ما تكون عليه الاستجابة, فتحوا قلوبهم لهذا القرآن, وكان الواحد منهم تخرجه آية واحدة من ماله لوجه الله جل جلاله, التزام حق، أخذ بالدين بصدق, والله يقول: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:170] الدين يريد جهاداً ويريد أخذاً {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] يحتاج إلى عزيمة، يحتاج إلى رجولة, فإن الله لما أثنى على أهل طاعته قال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:37] ما كسرتهم تجارة الدنيا، ولا أهانتهم الدنيا ولكن وضعوها تحت أقدامهم, ووضعوا الدين نصب أعينهم, فمن حمل هم هذا الدين وأخذه كلاً بمجرد ما يأتيه أمر عن الله فيقول: لبيك. يأتيه النهي عن الله يقول: كففت وانزجرت. ولو كان شيئاً يهواه في نفسه وفي أهله وولده لا يبالي, إذا فعل ذلك فقد أصاب رحمة الله, فلا يزال يستجيب لأمر تلو أمر حتى يحبه الله محبة يتأذن بهداية لا ضلال بعدها, وقد يتأذن له برحمة لا عذاب بعدها, ولذلك كلما وجدت الشاب الصالح يقبل على هذا الدين بصدق كلما وجدت آثار الإسلام في جوارحه، وفي أركانه، حتى وجهه عندما تراه تراه يتلألأ ويشرق من هذه الطاعة. فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل, الكثير يلتزم ولكن التزام ماذا؟ في الصور؟! في الظواهر؟! في القوالب والقلوب غافلة عن الله جل جلاله؟ الالتزام يحتاج إلى صدق, يحتاج إلى إنابة حقة, فمن التزم للعبة أو هوى أو شهوة أو جلوس مع أصحاب, أو التزم بطريقة فيها فكاهة وتندر وأصبح يجلس مع أصحابه فإذا ضحكوا ولعبوا استأنس، حتى إذا ذهبت الفكاهة واللعابة جاءت السآمة والملل, فأصبح يحن ويئن إلى الجاهلية الأولى، وفي هذا يقول الله جل جلاله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] على حرف، أي: آخر درجة بحيث لا يبقى له إلا شعرة واحدة إما إلى جنة أو إلى نار {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] حينما يأتيه شيء في الإسلام يهواه يقول: هذا هو الإسلام، فتراه يلتزم ويستجيب {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. نسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من هذا، إن أصابته فتنة، والفتنة إما تكون شبهة أو شهوة, فلذلك الوقفة التي نحتاج أن نقولها: الالتزام يحتاج إلى عمل, كثير من الشباب التزموا ولكن تأتيهم أوامر الله ورسوله فيصرفونها إلى غيرهم, وأضرب أمثلة كثيرة, الشاب تجده على استقامة والتزام ولكن ما إن تأتي فتنة لا يستطيع أن يعف عنها لسانه, ولا يعف عنها جنانه, ولا تعف عنها جوارحه وأركانه, فأين الالتزام؟ الدين فيه ابتلاء وفيه اختبار وفيه تمحيص, وأخبر الله جل وعلا أن من صبر على هذا الالتزام والتمحيص أن الجنة نصب عينيه هداية ورحمة من الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت:69] أي: لوجهنا ومن أجلنا {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} [العنكبوت:69] أي: والله لنهدينهم {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الذين أخذوا بالدين بصدق. فالمقصود أن الكثير يلتزم ولكن التزاماً هشاً، حتى إن الرجل إذا جاءته الفتنة في لسانه وجنانه يقول: ما أستطيع أتركها! وتجده يلتزم فينهى عن أمر حرمه الله ورسوله ولا يستطيع أن يتركه, ويقول: ما أستطيع! فأين الالتزام؟! فمثل هذا لا يأمن أن ينتكس, من يلتزم التزاماً هشاً يعبث به الشيطان، وقد يأتي إلى شعبة من شعب قلبه يفضي فيها إلى صميم فؤاده والعياذ بالله, ولذلك قد يقال للإنسان: يا أخي! عف لسانك عن عوام المسلمين, فضلاً عن العلماء والدعاة؛ هذا أمر من أوامر الله أن نعف ألسنتنا, ابحث عمن يصون لسانه عن أذية العلماء اليوم, مع الالتزام والديانة والاستقامة, تقول له: يا أخي! من كمال دينك وخوفك من ربك ورجائك لرحمته أن يكون عندك ورع تخاف به وتخشى به من لقاء الله جل وعلا, حتى كان العلماء يتكلمون في الجرح والتعديل وقلوبهم ترعد من خشية الله جل جلاله, مع أنهم يقولون ذلك غيرة على الدين, يخافون أن شعبة من شعب القلب تذهب وتقول الجرح والتعديل تشفياً وغيظاً, فيكون ذلك ذنباً في عباد الله المؤمنين. المقصود أننا نحتاج إلى وقفة نعيد فيها النظر في هذا الالتزام, هل الالتزام في الأشكال والصور والمعادن خاوية تأتيها الأوامر وهي في السحيق والهاوية؟ نحتاج إلى وقفة مع هذه القلوب حتى تعرض على رحمة الله علام الغيوب {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] من حب الله ورسوله، يغيروا ما بأنفسهم، من الليلة تجعل في قلبك أن تأخذ بهذا الدين كاملاًَ, إن جاءك أمر تجعله نصب عينيك, وأقسم بالله العظيم إنك لن تعظم لله أوامره ونواهيه, ومن الليلة جرب إذا جعلت في قلبك أن تأخذ بالدين كاملاً، وأن تغار على حدود الله وحرمات الله غيرة كاملة فإن الله سيجعل لك من الحب والود وهيبة في قلوب العباد على قدر ما هبته سبحانه وتعالى. كان الإمام مالك رحمة الله عليه إمام دار الهجرة إذا جلس السائل بين يديه يرعد من هيبته رحمة الله عليه, كان مهاباً حتى إنه يفتي الفتوى وقد لا يستطيع السامع أن يسمع، ولا يستطيع أن يقول له: أعد عليّ يا إمام؛ من الهيبة التي وضعها الله له في قلوب العباد. ويقول الإمام محمد بن الحسن: لقد جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد، والله ما وجدت الهيبة التي وجدتها لما جلست بين يدي مالك. هذه الهيبة يقول فيها أحد أصحاب الإمام مالك مقالة مشهورة: [ولا نظن ذلك إلا لشيء بين مالك وبين الله]. كان يعظم الله ويهاب الله ويخاف الله, ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما عظموا الدين وهابوه غرس الله في قلوب الأعداء خوفهم ورعبهم, فنسأل الله العظيم أن يرزقنا الالتزام الحق, وأن يجعلنا من أهل الولاية الصادقة التي يحبها ويرضاها, والله تعالى أعلم. أما أسباب الهداية فنجملها في أمور: أولها وأعظمها: الدعاء, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى) اسأل الله الهدى. الأمر الثاني: أن تأخذ بالأسباب، ومن أعظمها تلاوة كتاب الله, والوقوف عند عظات الله, تحلل حلاله وتحرم حرامه, وتتبع شرعه وأحكامه ونظامه دون زيادة ولا نقص, دون غلو ولا شطط, ولا إجحاف ولا اعتساف, فإذا رزقك الله عز وجل ذلك تمسكت بالدين ورأيت حلاوة الهداية, فإن الله يقول عن هذا الكتاب العظيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] الكتاب الذي بين أيديكم يحمله الصغير والكبير، ولكنه عظيم القدر عند الله {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أقوم في العقيدة, أقوم في السلوك, أقوم في الأخلاق, أقوم في الأحكام, حتى مع أهلك وولدك في ساعة عسرك ويسرك, حتى إذا طلقت المرأة يقول: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ما ترك شيئاً إلا جاءت فيه الهداية على أجمل صورها وأبهى حللها, الهداية بكتاب الله. النقطة الثالثة: الهداية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قراءة المتأمل المتدبر, وقف مع تلك السيرة العطرة النظرة, وتلك المواقف الجميلة التي تذكرك بالإيمان بالله جل جلاله, وتحيي في قلبك معالم التوحيد والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى, اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر من

المشكلات الزوجية وعلاجها

المشكلات الزوجية وعلاجها الزواج نعمة من الله ومنة امتن بها على عباده، تغض به الأبصار، وتحصن به الفروج، وقد جعل الله بين الزوجين مودة ورحمة لا تقارن بنعيم في الدنيا، غير أنه قد تطرأ على هذه الحياة الجميلة منغصات تسبب تعكيرها، وتؤدي إلى مشاكل تجعل من تلك الحياة السعيدة حياة ضنكة وتعيسة. فلابد للمؤمن التقي من البحث عن الأسباب والبحث عن علاجها؛ حتى تكون حياته سعيدة لا تشوبها شائبة أو يعكر صفوها مشكلة.

نعمة الزواج وأثر التدين في سعادة الأسرة

نعمة الزواج وأثر التدين في سعادة الأسرة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: إخواني: الزواج نعمة من نعم الله ومنة من مننه عز وجل، جعله الله تبارك وتعالى آية شاهدةً بوحدانيته، دالةً على عظمته وألوهيته، فيه السكن والرحمة، وفيه العفة للإنسان عن الحرام، والبعد عن إصابة الفواحش والآثام، الزواج وما الزواج؟ الذي تغض به الأبصار عن محارم الله، وتحفظ به الفروج عمَّا لا يرضي الله، هذه النعمة يجد فيها عبد الله الراحة والسكن، ويجدها رحمة من الله تبارك وتعالى إذا ترسّم هدي الكتاب، وأقام نفسه على مناهج الصواب. الزواج إنما يكون نعمةً حقيقيةً يحفظ الإنسان بها دينه ويعصم بها نفسه عن الفتن، ويجد الراحة والسرور والدعة، إذا كان الزوج قد ترسّم هدي الكتاب والسنة وكانت الزوجة -كذلك- قد ترسّمت هدي الكتاب والسنة، فعاشر كل واحد منهما الآخر عشرةً صالحةً طيبةً مباركة مبنيةً على الشيمة والوفاء، مبنية على الذمة وحفظ العهود والمواثيق. إن ترسّم الزوجين لمنهج الكتاب والسنة هو الطريق الحقيقي للسعادة الزوجية الحقيقية، فما من بيت من بيوت المسلمين يترسّم فيه الزوج وتترسّم فيه الزوجة هدي الكتاب والسنة إلا وجدت السعادة قد ضربت أطنابها في رحاب ذلك البيت المسلم، والعكس بالعكس، فمتى تنكب الزوجان أو تنكب أحدهما عن هدي الكتاب والسنة فانحرف عن صراط الله المستقيم، واعوجَّ عن هدي الدين القويم، عندها تنتهك حدود الله وتغشى محارم الله. إذا نسيت تلك الآيات العظيمة وتلك العظات البليغة التي وعظ الله عز وجل بها كلا الزوجين، إذا رميت وراء الظهور وأصبح الزوج لا يبالي بأوامر الشرع ونواهيه، يخبط خبط عشواء في عشرته لأهله وزوجه، وأصبحت الزوجة لا تبالي بحقوق الله عز وجل في العشير، وأصبحت لا تبالي بأوامر الكتاب والسنة، عندها تفتح أبواب المشاكل على ذلك البيت المسلم، وعندها تغشى حدود الله فلا يبالي الزوج بما يقوله ولا تبالي الزوجة بقولها، ولا يبالي الزوج بما يفعله ولا تبالي الزوجة بفعلها. إذا كان ذلك فإنك تدمع الدمعة الحارة على ذلك البيت المسلم؛ لأنه ما من عبد ينحرف عن منهج الكتاب والسنة في عشرته لأهله إلا أذاقه الله نكد الحياة وتنغص عليه العيش، وإذا فتحت المشاكل أبوابها على ذلك البيت المسلم فإن الإنسان يصيب الشقاء بعينه ويجد مرارة الحياة فتدمع الزوجة حين لا تنفع الدموع وتندم حين لا ينفع الندم، ويدمع الزوج حين لا تنفع الدموع ويندم حين لا ينفع الندم. نعم. متى نسي كتاب الله، وغشيت حدود الله، وانتهكت محارم الله؛ ذاق الزوج سوط عذاب لا رحمة فيه، وأصبحت هذه الحياة التي كان من الفرض أن تكون حياة السعادة والراحة والدعة، إذا بها حياة جحيم لا يطاق. وليت هذه المشاكل تقتصر على الزوج والزوجة، ليتها يعاني عناءها الزوج والزوجة؛ لأن بلاءها كان بسببهما، ولكن البلاء كل البلاء إذا تفشت هذه المشاكل فسرت إلى أب الزوجة وأمها، وإلى أب الزوج وأمه ثم إلى الأخ والأخت، ثم إلى الخلان والإخوان ثم الضحية البريئة تلك القلوب البريئة قلوب الأبناء والذرية، عندها تنظر إلى ذلك الابن الذي خلفته تلك الزوجة الظالمة أو ذلك الزوج الظالم، تنظر إليه وقد دمع دمعة حارةً من صميم قلبه وفؤاده لما يرى من تنكد العيش أمام أبيه وأمه، يبكي ولكن لا راحم لبكائه ويشتكي ولا أذن تصغي لشكواه. إخواني: إذا فتحت أبواب المشاكل فإن القلوب تصطرع بفتحها، حتى إن العبد إذا بلي بالمشاكل الزوجية يحار حتى في صلاته ولا يستطيع عبادة ربه، كل ذلك مرارة يقاسيها وحرارة يعانيها كل من تنكب عن صراط الله واعوج عن هدي الله. إنها المشاكل التي لا ترحم صغيراً ولا كبيراً، ولا تعرف جليلاً ولا حقيراً، إذا سرت في الأسر سرت كَسُرى النار في الهشيم لا رادع لها ولا موقف لها إلا رحمة من الله يتدارك بها عباده، إنها المشاكل التي أصبحت تعج بها بيوت المسلمين تلك البيوت الطيبة الطاهرة المباركة التي كانت معروفة بالسعادة والهناءة والراحة، أصبحت تعج بتلك المشاكل وتشتكي إلى الله صباح مساء من كلام لا يطيب لسامعه وكذلك أفعال لا ترضي من يراها. كل ذلك -إخواني- هموم وغموم نعانيها، ونجد مرارتها في القلوب و Q ما المخرج من هذه الفتن والمحن؟ لقد كانت بيوت المسلمين بيوتاً مليئةً بالراحة والدعة والسكون، حتى إنك قلَّ أن ترى قاضياً يفصل في قضية بين زوج وزوجه، كانت بيوت المسلمين إذا وقعت فيها المشاكل طفئت نارها في مهدها، وجدت عقولاً ورجالاً ووجدت نساءً بررةً صادقين يعرفون كيف يتصرفون ويحسنون التعامل مع هذه الفتن العظيمة والمشاكل الأليمة. فلما تنكب العباد عن صراط الله وحاد الخلق عن طريق الله، جاءت هذه المشاكل بخيلها ورجلها، وأصبحت أُسر المسلمين تعاني هموماً وغموماً لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، حينما فقدنا زوجاً يحفظ الذمم وحينما فقدنا زوجةً تحفظ حقوق العشير، وحينما فقدنا أماً تحفظ ابنتها وأباً يرعى ابنه، حينما فقدنا رجالاً صادقين صالحين يقربون المفترقين ويجمعون شمل المتباعدين، حينما فقدنا قلوباً رحيمة يؤلمها إذا رأت بيوت المسلمين تشتت سعت بتلك الخطوات العزيزة عند الله عز وجل، حينما فقدنا أولئك الصادقين وتنكدت الحياة وتغير الحال، فأصبح بعد رجال الصدق رجال الكذب، حتى أن الرجل إذا بلي بالمشكلة مع زوجته وجد صديقاً لا يذكره بربه ولا يصبره على شكواه، وجد من يلهب ضميره إلى الشكوى ويلهب قلبه إلى الأذية والإضرار، ووجدت الزوجة من يعينها على الإضرار ويعينها على الشقاق والأذية. فلما تغيرت الحياة وتغير الناس بعد صلاح، وأصبحت الحياة على هذه الصفة، لم يكن من العجيب أن تعج مشاكلنا وأن تُملأ دور القضاء من هذه المشاكل المؤلمة المحزنة، حتى إنك إذا دخلت سمعت صراخاً وعويلاً، امرأة تناشد زوجها وتسب عشيرها، وزوجاً يناشد زوجه ويسب أهله وعرضه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون. أهذه الأمة الطاهرة المباركة؟ أهذه الأمة التي تأدبت بكتاب الله، وكان لها أكمل منهج وجد على الأرض سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أتعيش هذه الآلام؟ أتعيش هذه الأحزان والأشجان؟

أثر الإعراض عن كتاب الله على الحياة الزوجية

أثر الإعراض عن كتاب الله على الحياة الزوجية أحبتي في الله: من هذا كله نخلص إلى أهمية هذا الموضوع، أهمية طرحه، ومناقشته، أهمية فتح أبوابه لكي نعرف خباياه ولنأخذ من ذلك المعين الطيب المبارك؛ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدواء وأي الدواء، والعلاج وأي العلاج من {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] من كتاب مبارك أنزله الله لكي نتدبره ونعرض عليه همومنا وغمومنا، فوالله ما من أمة أصابها حزن أو أصابتها مصيبة في دينها فعرضتها على كتاب ربها إلا وجدت علاجاً صالحاً لدائها وبلائها. والسؤال ما هذه المشاكل؟ وكيف سيكون حديثنا عنها؟ لي في هذه المشاكل ثلاث نقاط: النقطة الأولى: ما هي أسباب هذه المشاكل؟ والنقطة الثانية: ما هو علاجها ودواؤها؟ والنقطة الثالثة: كيف يتصرف الزوج؟ وكيف تتصرف الزوجة؟ وكيف يتصرف القريب والصديق إذا بلي بإنسان بلي بهذه المشاكل؟ ومن الله أستمد العون والتوفيق. أما المسألتان الأوليان ما هي أسباب المشاكل، وما هو علاجها في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأجمعهما في حديث واحد. هذه المشاكل كل من نظر إليها وتدبر فيها وجدها ترجع إلى سبب واحد، جميع المشاكل الزوجية إذا تدبرت فيها ونظرت إليها نظرة المتأمل وجدتها تعود إلى سبب واحد، هذا السبب منه تولدت ومنه خرجت ونشأت، وما هو هذا السبب؟ هذا السبب هو: الإعراض عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي عناه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] وعيد من الله، ما من عبد يريد الزواج أو يقع في الزواج وينحرف عن هدي الكتاب والسنة إلا أذاقه الله من الحياة الضنكة على قدر إعراضه عن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لقد أدب الله الزوجة وأدب الزوج في القول وأدبهما في العمل، ورسم منهجاً سوياً وطريقاً قويماً وصراطاً مستقيما لا يضل ولا يزيغ عنه إلا هالك.

المعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان أساس السعادة الزوجية

المعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان أساس السعادة الزوجية لو أن كل زوجٍ وكل زوجةٍ أرادت أن تدخل إلى بيت الزوجية، سألت: ما هي حقوق الزواج في كتاب الله؟ وما هي حقوق الزواج في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ لو أن الزوج والزوجة سأل كل واحد منهما: ما هو هدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في عشرة الأزواج؟ لقد رسم هذا الكتاب الحياة الزوجية السعيدة في آية واحدة وهذا من إعجاز القرآن، جمع لك السعادة الزوجية في آية واحدة لو أن كل زوج عمل بهذه الآية والله ما وقعت مشكلة زوجية. وما هي هذه الآية؟ يقول الله تبارك وتعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] إعجاز في اللفظ والبيان، إما أن تمسك بمعروف أو تسرح بإحسان، وصية من الله من فوق سبع سماوات، إذا أردت أن تعاشر وإذا أردت أن تدخل إلى بيت الزوجية فضع نصب عينيك هاتين الكلمتين، إما أن تمسك بمعروف وإما أن تسرح بإحسان. ولذلك لا إمساك بإضرار: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231] ولو أن الأزواج أمسكوا بمعروف أو سرحوا بإحسان والله ما قامت مشكلة، إن أمسكها أمسكها مؤمناً صادقاً صالحاً براً سوياً في قوله وعمله، هذا هو المعروف الذي أمر الله به، وإن سرحها سرحها بإحسان، سرحها وهو لا ينسى ما بينه وبينها من العهود والمواثيق. ولذلك Q ما هو الإمساك بمعروف الذي أمرنا الله تبارك وتعالى إذا أمسكنا النساء أن نمسكهن على صفته؟ المعروف إذا أردت بيانه وأردت حقيقته في عشرة الأزواج؛ فانظر إلى سيرة النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فوالله ليس هناك زوج أبر ولا أوفى ولا أكمل سيرةً وهدياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاشر أزواجه، سيرة عطرة، والله إن بعض الأحاديث حينما تقف أمامها قد يستولي عليك الحزن من واقعك.

أمثلة توضح حقيقة المعاشرة بالمعروف

أمثلة توضح حقيقة المعاشرة بالمعروف هذه ثلاثة أمثلة، ولو أننا استعرضنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته التي تفسر هذا المعروف لأخذنا جلسات وحق لهذه السنة أن تأخذها: المثال الأول: تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنى إليه الإناء فيه الشراب فيقسم عليَّ أن أشرب قبله -هل أحد أقسم على زوجته يوماً من الأيام أن تشرب قبله؟ - قالت: فإذا شربت قبله أخذ الإناء فوضع فمه على المكان الذي وضعت فمي فيه -صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين- ثم يؤتى بالعرق من اللحم -العظم من اللحم- فيقسم عليَّ -يحلف بالله أنها تأكل قبله؛ لأنها كريمةٌ بنت كرام لا ترضى أن تتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترضى إلا إذا أقسم عليها، فيقسم عليها بالله أن تأكل قبله-قالت: فأنهسه فيأخذ العظم ويضع فمه حيث وضعت فمي) صلوات الله وسلامه عليه. من منا يفعل ذلك ولو يوماً واحداً يجبر به قلب تلك المرأة المسلمة التي بين يديه؟ هل أحد منا طبق هذه السنة؟ ولذلك لما بعد الناس عن هذه الرحمة ولما فقدت الرحمة في الحياة الزوجية أصبحت الحياة حياةً جافةً، أصبحت بيوت المسلمين لا تجد فيها الرحمة والحنان الذي يجب وينبغي أن يكون من أهم سمات الزوجية، ولذلك وصف الله الزوجة بأنها سكن ورحمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] المودة والرحمة طبقها النبي صلى الله عليه وسلم على أكمل صورة ومنهج. الصورة الثانية والمثال الثاني: الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم براً رحيماً في معاشرته لأهله، تقول رضي الله عنها: (أتى الحبشة يلعبون بالحراب في المسجد يوم العيد، فأحببت رؤياهم فقمت لأنظرهم وراء ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم -رسول الأمة يقوم على قدميه وساقيه من أجل صبية تنظر إلى قوم يلعبون- قالت رضي الله عنها: فهو يقول لي: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد، ثم تقول رضي الله عنها: فاقدروا قدر الصبية الجهلاء). يعني كم جلس من الوقت فما تذمر ولا قال: أنا أقف لك، ولا استحيا ولا تكبر صلوات الله وسلامه عليه، من منا يوماً من الأيام، لا نقول يقف لأجل أن تنظر امرأته إلى من يلعب! لكن نقول: يحرص -ولو يوماً في الشهر أو يوماً في السنة- على أن يدخل السرور إلى أهله، نعم فقدنا هذه السيرة العطرة، فقدنا الإحسان إلى الأهل ونريد حقوقنا كاملة، نمنع أزواجنا من العشرة الطيبة المباركة ونريد حقوقنا كاملة، ولذلك ليس غريباً لما فقدنا وشائج هذه الرحمة التي فعلها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن نرى الحياة المؤلمة. أما المثال الثالث: فقد جاء الأسود بن يزيد هذا التابعي الجليل إلى أم المؤمنين عائشة -والحديث في صحيح البخاري - قال لها: (كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وما هو حاله؟ قالت رضي الله عنها: يكون في خدمة أهله) أي: إنه إذا رأى أهله بحاجةٍ إلى المساعدة وإلى المعاونة ساعدهم صلوات الله وسلامه عليه. هل يوماً من الأيام كلفنا أزواجنا أمراً فوقفنا معهم وتأسينا بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاشرنا بالمعروف على أكمل صورة ومنهج، أين أولئك البررة الأوفياء الذين يحسنون معاملة الأزواج، ويحسنون معاملة الزوجات، حتى تملك القلوب بإحسانهم ومودتهم وعطفهم وحنانهم؟! لا يمكن لهذه الحياة الزوجية أن تستقيم إلا بالرحمة، ولقد عرف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فطبقه فكان من أهم سماته في عشرته أنه كان حليماً رحيماً بأهله وزوجه. ومن هنا -أحبتي في الله- لو أن الأزواج عاشروا بالمعروف أو سرحوا بإحسان لما بقيت هذه المشاكل، انظر في أي مشكلة زوجية إما أن تجد زوجاً لا يعاشر بمعروف أو تجد زوجةً لا تعاشر بمعروف، أو تجد زوجاً يمسك ولا يطلق ويسرح بإحسان، أبداً لن تخرج عن هذه الثلاث القضايا التي هي محور كل مشكلة زوجية، إذا عرفنا أن أساس المشاكل يرجع إلى هذا السبب العظيم، فالمخرج والعلاج أن نقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في معاشرته لأهله وزوجه، وأن نستلهم منها هذه المواقف الطيبة المباركة، وهذه الأخلاق الزاكية العطرة، حتى نخلف في قلوب من نعول ونخلف في قلوب زوجاتنا تلك المحبة التي تقوم عليها بيوت المسلمين، وتلك العاطفة التي تبنى عليها بيوت الزوجية السعيدة. وكما عرفنا أن الإعراض عن الكتاب والسنة هو السبب الرئيسي لوجود هذه المشاكل فكيف نفصل هذا الإعراض؟

أسباب المشكلات التي تسبق الزواج

أسباب المشكلات التي تسبق الزواج نظرت إلى الأسباب التي توجب المشاكل الزوجية فوجدتها أسباباً عديدة ولكنني سأختار بعض هذه الأسباب وأقسمها على قسمين: القسم الأول: أسباب تسبق الزواج. القسم الثاني: أسباب تكون في الزواج. أما الأسباب التي تسبق الزواج.

الإكراه على الزواج بمن لا يرغبه أحد الطرفين

الإكراه على الزواج بمن لا يرغبه أحد الطرفين فأولها: إكراه الزوج على الزواج وإكراه الزوجة على الزواج بمن لا يريد ولا يرغب، لأن إكراه الزوج على الزواج وإكراه الزوجة على الزواج ممن لا ترغبه ولا تحبه، ضرب من الخطأ بيّن، إن العشير إذا عاشر من لا يحب عشرته فإنه نافر عنه من أول لحظة، ولا يمكن لبيت زوجية أن يقوم وقد وجدت النفرة بين الزوج وزوجته، لا يمكن أن تستقيم بيوت الزوجية والرجل كاره لزوجته وكذلك المرأة كارهةٌ لزوجها. لذلك ينبغي على كل ولي امرأة أن يتقي الله عز وجل فيها، وألا يزوجها إلا لمن فيه الصلاح والدين وترغبه المرأة، فإذا اعترضت المرأة على الزواج فينبغي عليه ألا يستعجل وأن ينظر في اعتراضها، فإن كان له سبب وعذر يقبل شرعاً فالحمد لله وحيهلاً، وأما إذا كان لا تعذر فيه شرعاً فينبغي عليه إحسان المعاملة حتى تقبل على ذلك الزوج وترضاه، وهذا السبب قد بين النبي صلى الله عليه وسلم علاجه وبين دواءه فقال فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: (البكر تستأذن وإذنها صماتها والثيب تستأمر) وفي رواية عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والثيب أحق بنفسها من وليها) كل هذا لكي يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تستقيم بيوت المسلمين ولا يستقيم الزواج إلا إذا كان الزوج قد رضي من تزوجها وكذلك الزوجة.

سوء التربية

سوء التربية السبب الثاني الذي يسبق الزواج ويكون قبل الزواج: سوء التربية، إن الشخص إذا نشأ نشأة غير مستقيمة، وقصَّر الأب أو قصرت الأم في تربية ابنها وابنتها؛ فإن الذي يجني عواقب سوء التربية هو ذلك الابن بعد سنين طالت أم قصرت، قل لي بربك: إذا كان الابن ينشأ في بيت مليء بالخصام والسباب، إذا نشأ الابن على يد أب لا يحسن معاملة زوجته ولا يحسن بِر زوجته، فظاً غليظاً مؤذياً لا يتقي الله والرحم، كيف سيكون حاله وكيف سيتصرف مع أهله؟ لا شك أنه سيعامل أهله بمثل ما عامل به والده أهله. فلذلك -أحبتي في الله- تربية الأبناء وتربية البنات تربيةً صالحةً مستقيمةً أمرٌ من الأهمية بمكان. وحسبي أن أذكر صورة عجيبة تعتبر من أهم الأسباب التي توجب فساد الزوج على زوجه والزوجة على زوجها، هذه الصورة أن بعض الآباء إذا أراد ابنه أن يدخل على امرأته جلس معه وأعطاه أشنع صورة عن المرأة ونفره من زوجته، وقال له: لن تستقيم لك حياة الزوجية إلا إذا عبست في وجهها وضربتها وآذيتها، وإياك أن تفعل وإياك أن تفعل، فيلقنه ويجعل الزواج في نظره شراً لا بد منه، ما الذي تنتظر من هذا الابن؟ ما الذي ينتظر من ابن دخل بهذه الأفكار؟ وكذلك الأم، ويا للأسف! حينما فقد المسلمون أمهات صالحات، بدلاً من أن كانت المرأة تجلس مع ابنتها تصبرها وتعللها وتبين لها حقوق بعلها، وتهديها إلى الصراط السوي في معاشرة زوجها، لما تغيرت الأمهات وأصبحت الأم تلقن ابنتها الأفكار الرديئة، يا ابنتي إياكِ أن تخضعي له إياكِ أن تكوني ذليلة إياكِ إياكِ، ثم تكون النتائج بعد ذلك على رأس الزوج والزوجة، والله ثم والله ما من أب يربي ابنه على ذلك وما من أم تربي بنتها على ذلك إلا لقيت ربها ولقي الأب ربه بجميع الأوزار التي ترتبت على كلامه، والله ما من مشكلة نتجت عن ذلك الكلام الخاطئ إلا وسيحمل وزرها أمام الله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]. فلذلك إذا كان الأب لا يحسن تربية ابنه فإنه تكون النتائج والعواقب الوخيمة على تلك الزوجة المظلومة، وإذا كانت الأم لم تحسن تربية ابنتها فإنها ستكون العواقب الوخيمة على ذلك الزوج المظلوم. لذلك -أحبتي في الله! - علاج هذه المشكلة وعلاج هذا السبب بينه النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعا إلى تربية الأبناء والبنات حتى رغب شرع الله في التربية الحسنة قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن، وأدبهن فأحسن تأديبهن، إلا كن له حجاباً من النار) فإذا ربت الأم ابنتها على الكلام الطيب وخرجت تلك البنت سويةً في أفكارها، مستقيمةً في نظرتها؛ فإنها سرعان ما تطبق ذلك في عشرتها لزوجها، لقد ربت أمهات -وأي أمهات- بناتهن على الإحسان إلى الزوج وكانت تلك البنت وفيةً بارةً، ولها مثل أجر ابنتها في إحسانها إلى زوجها، ولذلك بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبل الجنة أن تحسن المرأة عشرة زوجها، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) لذلك أحبتي في الله! تربية الأبناء والبنات أمر من الأهمية بمكان.

المغالاة في المهور

المغالاة في المهور أما السبب الثالث الذي يعتبر من أسباب المشاكل الزوجية السابقة: فالمغالاة في المهور، والمغالاة في كلفة الزواج. إذا تكلف الزوج وأصبح يعاني من ذلك المال الذي دفعه مهراً لزوجته، ويعاني كذلك في كلفة زواجه من امرأته، فإنه سيدخل إلى بيت الزوجية مثقلاً بالديون وهمومها، مثقلاً بالديون وغمومها، وكيف تنتظر من إنسان مثقل بالدين أن يحسن العشرة لزوجه وأهله، لذلك فإنه ما من إنسان يبذخ في زواجه، إلا وجدت العاقبة السيئة لذلك البذخ، والزوج إذا دفع مالاً كثيراً في زواجه من امرأته نظر إليها وكأنها خادمةٌ اشتراها، وقدمت عليه إذا دفع مالاً كثيراً يحس أن له حقاً كبيراً على الزوجة، ومن هنا إذا حصل من الزوجة أي خطأ فإنه ينظر إليه وكأنه جريمة لا تغتفر، ومن هنا ينشأ سبب هذه المشاكل، فلا يمكن أن يتنازل عن حقه بعد ذلك العناء وبعد ذلك المال الباهظ الذي دفعه في زواجه. لذلك -أحبتي في الله- أشار النبي صلى الله عليه وسلم وأشار هدي السلف إلى علاج هذه المشكلة، حينما بيَّن صلى الله عليه وسلم: (أن أبرك النساء أيسرهن مئونة) ولذلك قال بعض العلماء: من الدلائل التي يُظن فيها البركة للزوجين في زواجهما، ويُظن أن تبقى تلك العشرة؛ أن يبتدأ الزواج بكلفة يسيرة، فإذا ابتدأ الزوج زواجه بكلفة يسيرة بارك الله له في زواجه، أما إذا ابتدأه بالإسراف والبذخ وحارب الله من أول ساعة في زواجه فما الذي تنتظر؟!! لذلك -أحبتي في الله! - الإسراف في المهور والمغالاة فيها، والمغالاة في حفلات الزواج؛ كل ذلك يعين على المشاكل ويفتح بابها ويهيئ لدى الزوج عاملاً نفسياً للانتقام من زوجته والتضييق عليها، فينبغي للمسلم الذي يراقب الله ويرجو البركة في زواجه من الله أن يبتعد عن الإسراف والبذخ.

أسباب المشاكل التي تقع بعد الزواج

أسباب المشاكل التي تقع بعد الزواج أما الجزئية الثانية: ما هي أسباب المشاكل التي تقع بعد الزواج؟! فهناك عدة أسباب:

التدخل في شئون الزوجين

التدخل في شئون الزوجين ومن أسباب المشاكل الزوجية -بل من أعظمها وأهمها- والتي تنشأ بعد دخول الزوج على زوجته: تدخل الغير في شئون الزوج والزوجة، فإذا تدخل الغير في شئون الزوج والزوجة، فإنه حينئذٍ يعاني الزوجان من المشاكل. ولذلك إذا أراد الله عز وجل أن يرحم الزوج أو الزوجة فإنه يكرمها بأن لا يدخل أحد بينهما، كم من نساء صالحاتٍ طاهراتٍ وكم من رجال صادقين مباركين وقعوا في مشاكل مع زوجاتهم لم يعلم بها أحد غير الله عز وجل، ولذلك من سداد العبد وصلاحه وكذلك من سداد المرأة وصلاحها ألا يدخل الغريب بينهما، ولذلك كان من الخطأ البين تدخُّل الأب في شئون ابنه، وكذلك تدخل الأم في شئون ابنتها، فيجلس كل واحد منهما يتعقب الزوج والزوجة يسأله عن أمور قد لا يحل له السؤال عنها، وهو مسئول بين يدي الله عز وجل عن كشف تلك العورة والسؤال عن ذلك العيب الذي لم يأذن الله عز وجل به. وإذا أراد الله أن يصلح حال زوجين فإن الله تعالى يقطع عنهما كل غريب يدخل بينهما. إذا أردت أن تعرف حكمة الرجل في معاملته لزوجه فانظر إليه في أسراره مع أهله، إن وجدته كتوماً لا يخبر أحداً، يعول على الله ويشتكي إلى الله ويعلق الرجاء في الله، ويحسن إدارة الأمور بنفسه متوكلاً على ربه معتمداً عليه فظن به خيراً. وكذلك المرأة الصالحة لا تأذن لأحد أن يدخل بينها وبين زوجها، ولذلك تحاول رغم أذية زوجها لها ألا يعلم قريب ولا أحد بما جرى بينهما، وهذا قمة في الوفاء وقمة في العشرة الصالحة السوية والعكس بالعكس. لما أصبحت الأمهات وأصبح الآباء يتدخلون في شئون الأزواج والزوجات، وكل منهما يدلي برأيه ويحاول أن يتعقب وأن يفسر الأمور ويحملها على غير ما ينبغي، لما كان ذلك وقعت المشاكل وعانينا منها. لذلك أحبتي في الله! لنتقي الله في التدخل في أمور الزوجين. وهناك مسألةٌ أيضاً: بالنسبة للأصدقاء في تدخلهم في شئون أصدقائهم، حتى في شئون الإنسان مع زوجه، هذا أمر لا يجوز ولا يحل شرعاًَ لإنسان يؤمن بالله واليوم الآخر إلا أن يأذن له ذلك الزوج ويدخل على وجه الإصلاح لا على وجه الإفساد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حينما بيَّن خطر ذلك فقال: (لعن الله من خبب امرأةً على زوجها، ولعن الله من خبب زوجاً على زوجته) لعن الله من أفسد زوجاً على زوجته، فالمسئولية عظيمة، إذا جاءك الإنسان يشتكي فينبغي عليك أن تعول وأن تحس أنك أمام عورة وأنك أمام أمر ينبغي ستره، فعوده الصبر وحاول قبل أن يتكلم أن تذكره بالله، وأن تعوده على التوكل على الله، وأن تكون مشاكله بينه وبين زوجه، وعوده الصبر والتأسي واذكر له من قصص السلف ما يثبت جنانه وفؤاده. إنك إن فعلت ذلك كان لك خيراً في الدنيا والآخرة، فرحم الله رجالاً صادقين ونساءً صادقات ثبت الله بهن قلوب الأزواج والزوجات، أولئك الأصفياء البررة الذين يوصون بالصبر ويوصون بالتحمل واحتساب الأجر. لقد أوجد الله عز وجل رجالاً صادقين كادت الأسر أن تتمزق لولا نصائح منهم قيمةً، ولولا الله ثم نصائح منهم قيمة وكلمات منهم مباركة سديدة، أولئك الذين عناهم الله عز وجل بقوله {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] التواصي بالصبر من كانت فيه هذه الخصلة فهو من الناجين لا محالة إذا كان الرجل يصبَّر صديقه على زوجه ويسليه في محنته ومشكلته، فإنه من أهل الخير ومن الذين عناهم الله عز وجل بالنجاة.

سوء الظن بين الزوجين

سوء الظن بين الزوجين السبب الثاني من أسباب المشاكل التي تقع بعد الزواج: سوء الظن بين الزوج والزوجة؛ الزوج يدخل إلى بيت الزوجية ولا يحسن الظن بامرأته إما في معاملتها أو في تصرفاتها، فإذا كان من هذا الصنف الذي لا يحسن الظن بزوجته فإنه سرعان ما يفتح على نفسه وعلى غيره باب المشاكل، وقد تنشأ المشاكل العظيمة التي قد تفتك بأسرة الزوج وكذلك أسرة الزوجة بسبب سوء ظن أحد الزوجين بالآخر، إذا تصرفت الزوجة وأخطأت أي خطأ فسره الزوج على أنها تكرهه وعلى أنها تبغضه، ولا يلتمس المخرج، ولذلك ينبغي -إذا كنت حكيماً تريد العافية من المشاكل- إذا رأيت الخطأ من الزوجة فأنت تحمله المحمل الحسن، وإذا بلغ الأمر أقصاه وأصبح الإنسان لا يجد مخرجاً فليقل: زلة غفر الله لي ولها، هذا أقصى ما يكون، فإن الله عز وجل بشر العافين عن الناس بخير عظيم، وإذا لم يكن العفو عن الأهل فعمن تعفو؟ إذا لم تتسع صدورنا عن زلات الزوجات والأهل فلمن يتسع الصدر؟ فإذا لم تتسع الصدور للقرابة فلمن تتسع؟ ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما أوصى بالنساء خيراً، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استوصوا بالنساء خيراً). فمن حفظ وصية رسول الله حفظه الله تبارك وتعالى، ومن ضيع وصية الله ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيعه الله، فينبغي للرجل أن يصبر على زوجته وأن يتحمل أذاها، وأن يذكر أن عند الله عز وجل له جزاءً. فإذا ساءت ظنون الزوج وساءت ظنون الزوجة بزوجها فتح كل واحد منهما على الآخر باب المشاكل وعانى منها. وعلاج ذلك أن نترسم هدي الكتاب حينما نهانا عن إساءة الظن بالمؤمنين، فقال جل وعلا في كتابه المبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية الكريمة: في هذه الآية دليل على أن المظاهر ليست قطعية الدلالة على الجواهر، فقد ترى من المرأة تصرفاً عجيباً لكن هذا التصرف لا ينمي على أنها قاصدة السوء، والعكس بالعكس كذلك أيضا.

سوء المعاشرة

سوء المعاشرة أولها: سوء المعاشرة من الزوجين أو أحدهما، فإذا أساء الزوج عشرة زوجته وأصبح لا يبالي بالكلام الذي يقوله ولا يبالي بالفعل الذي يعمله، عندها تبدأ المشاكل، وعندها يراقب كل من الزوجين الآخر في كلامه وتصرفاته، ولذلك ندب الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين وحثهم في كتابه المبين على الكلام الطيب في عشرة الأزواج: أن يعاشروهم معاشرةً طيبة وصية من الله تبارك وتعالى، يقول جل شأنه وتقدست أسماؤه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] قال بعض السلف وهو قول مأثور عن ابن عباس وغيره: {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] أي ولداً صالحاً. ولذلك قالوا: إن الزوج إذا صبر على أذية زوجته وعاشرها بالمعروف مع أذيتها وإساءتها قد يرزقه الله منها ولداً صالحاً، وقد ذكروا عن رجل من السلف الصالح رحمه الله أنه دخل عليه طالب من طلابه فرأى ابناً باراً فعجب ببره فلما خرج الابن قال ذلك العالِم الجليل: أتعجب من بره؟ قال: إي والله، قال: والله لقد عاشرت أمه عشرين أو ثلاثين عاماً ما تبسمت في وجهي يوماً قط فصبرت فعوضني الله ما ترى، وعن بعض السلف -وهو أبو زيد محمد القيرواني رحمة الله عليه إمام جليل من أئمة العلم والدين- أنه كانت امرأته فظةً غليظةً تؤذيه بلسانها، فلما أكثرت عليه اشتكى طلابه وقالوا له: كيف تصبر عليها؟ وكيف تعاشرها بالمعروف وهي تسيء إليك؟ فقال رحمه الله -أقوام يعرفون كيف يعاملون الله-: إني أعاشرها بالمعروف، وأما قولها فبلاء لعلي أصبت ذنباً فعوقبت بها، فلو طلقتها لعاقبني الله عقوبة أشد منها. فلذلك كان السلف رحمهم الله يعاشرون بالمعروف مع إساءة الزوجة وإعراضها، فأصدق معاشرة من الزوج لزوجه وأصدق معاشرة من الزوجة لزوجها إذا أساء إليها، لن تكون معاشراً بالمعروف إلا إذا كانت زوجتك تسيء إليك، ولن تكون المرأة معاشرة بالمعروف الحق الذي تؤجر عليه من الله ويعظم فيه ثوابها إلا إذا كان زوجها يسيء إليها، فالمعاشرة الكاملة بالمعروف التي يعظم ثوابها عند رب العالمين إذا كانت الإساءة من الزوجة، فعلاج هذه المشكلة وهي سوء المعاشرة أن يعاشر الزوج أهله بالمعروف وأن يصبر ويتحمل. جاء عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد آذته امرأته بسبابها وشتائمها، فجاء إلى عمر لعله أن يشتكيها إليه، فلما وقف بباب عمر في الظهيرة سمع امرأة عمر تسب عمر فعجب وقال: إذا كان هذا أمير المؤمنين فما حال عقيل؟! فرجع من ساعته ورآه عمر فناداه فقال: يا عقيل! ما شأنك؟ قال: خيراً يا أمير المؤمنين، قال: عزمت عليك أن تخبرني، قال: يا أمير المؤمنين! ما هو إلا أن فلانة آذتني وأسمعتني ما أكره فقلت: آتي أمير المؤمنين وأشتكي إليه، فلما وقفت بالباب سمعت امرأة أمير المؤمنين تسب أمير المؤمنين، فقلت: إذا كان هذا أمير المؤمنين فكيف بـ عقيل؟ فقال عمر رضي الله عنه: يا عقيل! إنها امرأتي ترضع صغيري وتغسل ثوبي فأنا أمسكها من أجل ذلك. يعني: إذا ذكرت لها المعروف وإذا ذكرت لها الإحسان غفرت إساءتها، وهذا معنى لطيفٌ مستنبطٌ من الحديث الشريف الذي ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً -لا يفرك: أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن كره منها خلقاً أحب منها آخر). ولذلك كان من وصايا الحكماء: أن الإنسان إذا رأى الزلة غفرها بما هو أعظم منها، فإذا وجد كلامها غير مستقيم، أو تسبه أو لا تحسن الخطاب معه غفر لها ذلك بإحسانها في طعامها وشرابها وتذكَّر من يسيء بالقول الذي هو أشد، وإذا كانت تسيء بالقول الذي هو أشد فتذكر من يسيء ويؤذي الأبناء، ثم هكذا فما من مصيبة إلا وهناك ما هو أعظم منها. ومن حكمة الله تبارك وتعالى أنه ما من زوج يصبر على أذى زوجته إلا كانت له العاقبة، بعض الأزواج بلوا بزوجاتٍ آذينهم أذية عظيمة فصبروا، فمنهم من رزقه الله هداية زوجته وأصبحت في شجن وحزن وندم لا يعلمه إلا الله، وأصبحت تستحي منه وتخجل منه خجلاً شديداً، ومنهم من يعوضه الله عز وجل بصلاحها وصلاح أبنائها، فالخلف من الله مضمون، وما من إنسان يصبر ويعاشر بالمعروف مع إساءة الزوجة وأذيتها إلا كان له من الله أجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). فمن أراد أن يكون من الأخيار فليحسن إلى زوجته ويكرمها. ولذلك أثر في كثير من قصص العلماء والصالحين أنهم كانوا مبتلين بإساءة زوجاتهم وكانوا على وفاء وتذمم وصبر. فلذلك -أحبتي في الله! - من أراد أن ينجو من تلك المشاكل التي تقع بسوء المعاشرة؛ فعليه بالصبر والتحمل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً خاصة الزوج؛ لأن الرجل فضله الله على المرأة بالقوة، ولذلك أعطاه من الصبر والتحمل ما لم يعطه للزوجة، فإذا بلي الزوج بزوجة لا تحسن معاشرته فعليه بالصبر والتحمل.

علاج المشاكل الزوجية

علاج المشاكل الزوجية أحبتي في الله: ما هو علاج هذه المشاكل؟ كيف تتصرف الزوجة؟ وكيف يتصرف الزوج إذا وقف أمام المشكلة؟ وهذه هي النقطة الثالثة.

الابتعاد عن أسباب المشكلة

الابتعاد عن أسباب المشكلة الأمر الثالث: ابتعد عن أسباب هذه المشكلة، فإذا دخلت البيت -لا سمح الله- فوجدت خصاماً وشجاراً أو خطأً ما فاخرج من البيت ولا تبق فيه لأن الشيطان يستزلك، وقد يجرك إلى كلمة تودي بهذا البيت إلى كارثة قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53]. فاخرج من البيت أو غير من حالتك فاذهب وتوضأ وصلِّ وادخل إلى غرفتك، المهم لا تبق أمام ذلك الموقف، إلا المواقف التي تحتاج إلى فصل، والمواقف التي تحتاج إلى حل في حينها فحينئذٍ استلهم من الله الصواب، ثم امض ولا حرج ولا عتب عليك، وهذا أمر من الأهمية بمكان.

الالتجاء إلى الله عز وجل

الالتجاء إلى الله عز وجل إذا بلي إنسان بمشكلة، فأول ما ينبغي عليه اللجوء إلى الله تبارك وتعالى، ولذلك يقول بعض العلماء: من دلائل الفرج أن تجد العبد إذا أصابه الكرب توجه إلى الله عز وجل، فإذا وجدت الزوجة قد تغير خلقها أو جئت في قضية اختلفتما في الرأي فاستخر الله عز وجل وادع في صلاتك واسأل الله تبارك وتعالى أن يشرح صدرك وصدرها للخير، فأول ما ينبغي اللجوء إلى الله. وهناك لطيفةٌ عجيبة، كنت أقرأ في القرآن في سورة البقرة -وكثيراً ما تمر هذه السورة- فمن عجيب ما يلفت النظر أن الله تعالى ذكر مشاكل الطلاق وجاء بينها فقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] كأنه ينبه على أن هذه المشاكل تنشأ من ضعف الصلة بالله تبارك وتعالى، ومما يدل على أن الدعاء والتعلق بالله عز وجل مفتاح الفرج في المشاكل الزوجية قول الحق تبارك وتعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:89 - 90] فبين تعالى أنه أصلح له زوجه ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا} [الأنبياء:89] فدل على أن الدعاء مفتاحٌ في صلاح الزوج والزوجة. وهكذا المرأة إذا تنكر عليها زوجها فلتقرع باب ربها وتشتكي إلى الله: اللهم أصلح لي زوجي، والزوج يقول: اللهم أصلح لي أهلي. وتجد من تلك الدعوة منحة من الله لا يخيب صاحبها، فوالله ما من عبد يتعلق بالله فيخيب في تعلقه أبداً، وما من إنسان يلهمه الله أن يدعوه في كربه إلا كان موفقاً مجاباً.

الاتصال بالعلماء

الاتصال بالعلماء الأمر الثاني: إذا نزلت بك المشكلة أو بالمرأة فأوصيك وصيةً، أن تتصل بالعلماء، فاستشر أول من تستشير العلماء حتى تعرف، قد تكون المسألة متعلقة بالدين والشرع تحتاج إلى أن تتصرف تصرفاً شرعياً واجباً عليك، فاتصل بأحد العلماء، وقد كان الناس في خير وكانوا يسألون العلماء في كل صغير وكبير، وكان العالِم إذا خرج من المسجد يخرج بخلية نحل من كثرة الناس، كان الناس يتعلقون بهذا الدين ويتعلقون بالعلماء الربانيين تعلقاً -والله- أشد من تعلقهم بالآباء والأمهات، فلما فقدت هذه الوشيجة وأصبحنا نستشير ونسأل ونذهب إلى إنسان لا دين له ولا أمانة، فما الذي يتوقع من هذا الإنسان؟ وقد يذهب إلى إنسان غشاش لا يتقي الله في بيوت المسلمين. فلذلك ينبغي أن تتصل على العالِم، وكن نقياً صادقاً فيما تقول، أميناً فيما تنقل، وأنصف المرأة من نفسك وقل: وقع كذا وكذا وكذا يا شيخ فنورني، ودلني ماذا أصنع. والله ما من إنسان يُجلُّ أهل العلم ويكون على صلة بالعلماء إلا بلَّغه الله الخير في أمره، وهذا أمر مهم جداً أن ترجع للعلماء. فرضنا أنك في مكان لا يتيسر فيه العالِم أو اتصلت ولم يوجد العالِم، فاذهب إلى كبار السن من أهل العقول الصائبة والآراء المستقيمة، واعرض عليه مشكلتك وبين له ما تعانيه واستشره: شاور أخاك إذا نابتك نائبةٌ يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تبصر ما دنى ونأى ولا ترى ما بها إلا بمرآة العيب الذي في العيون ما تستطيع رؤياه إلا بمرآة، قد تظن أنك أنت المحق وأنت المبطل، أو أنك المبطل وأنت محق، فأين ومن الذي يدلك على هذا العيب؟ غيرك من أهل العقول المستقيمة الذين نور الله بصائرهم وأبصارهم، ولا يخلوا مجتمع -إن شاء الله- من وجود أمثال هؤلاء، فارجع إلى عالِم أو ارجع إلى إنسان من أهل العقل والرزانة أو إنسان يجمع صفتين: الدين؛ لأن الدين يستلزم الورع. والأمر الثاني: الأمانة، فيكون أميناً وليس خائناً. فإذا وجدت ذلك فعض عليه بالناجذ واسأله عما جدَّ وطرأ عليك.

واجب المحيطين بالزوجين تجاه مشاكلهما

واجب المحيطين بالزوجين تجاه مشاكلهما الأمر الثاني: أما واجبنا نحن أمام إنسان نراه يعاني من المشاكل فهو: أن ندله على ما سبقت الدلالة عليه في المحاضرة. الأمر الثاني: ينبغي أن تتوفر فينا صفات أهل الإيمان كالتصبير، فكثير منا لا يحسن المعاملة مع أصدقائه، يحاول إذا جاءه صديقه يقول له: والله اليوم قالت المرأة كذا وكذا فيقول له: المرأة تقول كذا وكذا!! امرأتك تقول كذا وكذا!! هل أنت رجل؟! هل كذا؟!! وكذلك المرأة تأتيها المرأة مسكينة متألمة من موقف فتقول: كيف تسكتين؟ ولماذا كذا؟! هذه الأنفس التي لا تراقب الله عز وجل فتثير الضغائن بين المسلمين هذا لا ينبغي، أين أولئك الحكماء الحلماء الرحماء؟ أخي المسلم: والله لن تكون مسلماً حقاً -إذا جاءك أخوك يشتكي من امرأته- إلا نزلت هذه المرأة كأختك، نزلها كأختك وانظر الضرر الذي سيجري وسيكون عليها، وعندها تعرف أين الصواب، وتعرف ما الذي تقول وما الذي تنصح به أخاك؛ لأنها أختك في الدين، كيف تحرض الزوج عليها؟ ولذلك بعض النساء حرمن التوفيق وبعض الرجال حرم التوفيق فلا يحسن حين يرى الزوج أو يرى الزوجة في انفعال وغضب؛ لا يحسن معاملته، فالنار لا تطفأ بالنار والمفاسد لا تطفأ بالمفاسد، ولكن النار تطفأ بالماء، والطيش يطفأ بالحكمة، والاستعجال يطفأ بالأناة. أحبتي في الله: لنتق الله في الأزواج، كلمةٌ طيبةٌ منك تقولها للزوج تصبره. وأذكر أن أحد العلماء جاءه رجل في مشكلة زوجية فقال له: يا أخي أخيرك بين أمرين: إما أن تصبر عليها ووالله إني لأرجو لك عند الله أجراً عظيماً، وإما أن تسرحها وتطلقها بعد إذ أعيتك الحيلة فحينئذٍ تكفى شراً بليت به، فقال له: يا شيخ! كيف أمسكها وأنا أعاني من كذا وكذا؟ وذكر الأشياء التي يعاني منها؟ فقال له: يا أخي تصور هذه المرأة لو كانت أختك، فجاءتك يوماً من الأيام تحمل متاعها على ظهرها وتسوقه إلى بيت أبيها وإخوانها، هل ترضى ذلك؟ وما موقفك من ذلك؟ أتحب أن تعامل أخواتك بهذه المعاملة؟ قال: لا، قال: فعامل نساء المؤمنين كذلك. فلذلك -أحبتي في الله- واجبنا عظيم حينما نسلي الزوج والزوجة بالصبر والسلوان، قل للزوجة وللزوج: من هذا الكامل؟ لو أن الأم إذ جاءتها ابنتها صبرتها وسلتها لصلحت أحوال كثيرة، ولكن الذي يقع هو العكس، فإن كلاً منهم يحرض ابنه ويحرض ابنته ومن ثم نبكي على الأضرار. أحبتي في الله! إخواني في الله! إن علاج هذه المشاكل بالرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعي كل واحد منا مسئوليته تجاه إخوانه وتجاه أبنائه وبناته. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح منا ومنكم ما ظهر وما بطن، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم تدارك برحمتك بيوت المسلمين من هذه المشاكل، اللهم اقسم لها رحمة ترحم بها من عذاب، اللهم اكشف تلك الغمة وذلك البلاء عن بيوت المسلمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا من الظالمين، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

مسائل حول تعدد الزوجات

مسائل حول تعدد الزوجات Q وردت أسئلة كثيرة حول مسألة تعدد الزوجات، ولها جوانب وأحد جوانبها يقول: هل الأصل تعدد الزوجات أو الأصل أن يكون للرجل زوجة واحدة؟ ثم بعض السائلين يشتكي من المشاكل التي تحدث بينه وبين زوجته وما يحدث بعد ذلك من تفككٍ بسبب رغبته في الزواج من زوجة ثانية، وبعض الزوجات تشتكي من سوء المعاملة عندما يتزوج الزوج زوجة أخرى، وأمثال ذلك من المشاكل التي تحدث من التعدد وبسببه، فنرجو -حفظكم الله- أن توضحوا حكم الله في هذه المسألة وهي مسألة تعدد الزوجات وما يتعلق بها، وما يمكن أن يحدث بين الزوجين بسببها؟ A أما تعدد الزوجات فقضية بيَّن الله حكمها وفصَّل فيها من فوق سبع سماوات، شرعٌ بينه الله في كتابه وشرعه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه القضية لا تحتاج إلى قول بعد قول الله تبارك وتعالى، والمؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر لا يسعه إلا الرضا بما أمر الله تعالى به، وحينئذٍ نقول قد بين الله تبارك وتعالى مشروعية التعدد في كتابه فقال سبحانه وتعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] وبناءً عليه يجوز للإنسان أن يطلب التعدد، وهو مقصود شرعاً لما فيه من تكثير سواد هذه الأمة المباركة، وإيجاد النشء الصالح وتربيته للقيام بواجبه ومسئوليته في طاعة الله وعمارة الكون بتلك الطاعة. إذا تبين هذا فلن تكون المرأة مؤمنة، ولن يكون الرجل مؤمناً إلا إذا رضي بكتاب الله وبحكم لله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. فالمرأة المؤمنة الصالحة البرة المتقية تعي هذه القضية، قضيةٌ حكم الله فيها بكتابه وبين حكمها بكلامه -سبحانه- حكماً لا إشكال فيه ولا غموض ولا لبس فيه، فلا إيمان إلا بالتسليم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. إذا ثبت هذا واستقر، فإن الإسلام دين عدل لم يأمر الزوج أن يطلق عنانه بطلب الزوجات وتكثيرهن إلا بشروط وقيود بينها الله تبارك وتعالى بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] فإذا كان الرجل براً وفياً عادلاً مستقيماً، فإنه لا حرج عليه أن يعدد، فالله أذن له، ولن تكون المرأة مؤمنة حقاً إلا إذا رضيت بحكم الله عليها، وإذا أصبحت تضار الزوج وتضيق عليه وتؤذيه وتعنته، فوالله إن في رضاها بحكم الله دخن. يا أمة الله! لمَ تخافين من حكم الله تبارك وتعالى؟ ولمَ تمنعين عن هذه الأمة المباركة نسلاً صالحاً يعمر الكون بطاعة الله ومحبة الله؟ إنه لمن الشجى والأسى أن تدخل علينا العادات الغريبة، فتؤذي عبد الله وأمة الله في قضية بيَّن الله عز وجل حكمها من فوق سبع سماوات. الزواج إذا كان بتعدد وكان الذي عدد الزوجات رجلاً عادلاً مستقيماً، فلا حرج ولا عتب ولا غضاضة على المرأة، وكم من امرأة رضيت بالتعدد فأظهر الله فضلها به، كانت صالحةً طيبة مستقيمة ما عرف الزوج فضلها وصلاحها إلا لما تزوج غيرها فحمد أخلاقها وآدابها وعرف فضلها وشهد لها بالخير. لذلك -إخواني في الله- لا ينبغي للإنسان أن يكون بعيداً عن منهج الشرع، ويغفل عن قضية حكم الله فيها من فوق سبع سماوات، والمرأة المؤمنة الصادقة في إيمانها ترضى بحكم الله عز وجل، وإذا كانت المرأة تخشى من هذه المرأة التي يراد إدخالها عليها أنها سيئة في خلقها سيئة في أدبها، فلا حرج عليها أن تقول لزوجها: لا أرضى بفلانة وأرضى بغيرها إن كانت برة مستقيمة، فلذلك ينبغي للمرأة الصالحة المستقيمة أن ترضى بحكم الله، وأن نرضى جميعاً بحكم الله، أليس عائشة الصديقة بنت الصديق قد تزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أنتِ أمام هذه البرة الطاهرة المستقيمة العفيفة، وإذا كانت هذه أم المؤمنين الطاهرة المطهرة المزكاة من فوق سبع سماوات قد شرع الله التعدد عليها، فلم هذه الغضاضة؟ ولماذا هذا الحزن؟ يا أمة الله: القضية قضية حياة زوجية مستقيمة وليست بقضية عنت وتضييق وحرج. كذلك لو أن كثيراً من النساء تفكرن في الموضوع، وكذلك كثير من الرجال فكروا فيه لوجدوا أنه مجرد وسوسة يؤثر الشيطان بها على القلب، وإلا فالمسلمون من قرون عديدة يعددون، وبالتعدد اجتمعت الأرحام واجتمعت الوشائج على اختلاف القبائل والأنساب، وكان في التعدد من الخير ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فكان البيت الواحد إذا أصيب بمصيبة أتت لها بيوت لا تحصى كثرةً، فهذا كله من خيره. فلذلك لا ينبغي لإنسان أن يعترض على حكم فصَّل الله فيه من فوق سبع سماوات، ولا ينبغي للمرأة أو للرجل أو لأي شخص كائناً من كان أن يؤثر في هذا الحكم، أو يحاول أن يوجد ضعفه أو يلتمس فيقول: قد تغير الزمان فيتغير الحكم بتغير الزمان، بل ينبغي علينا أن نكون مؤمنين حقاً كما أمرنا الله أن نكون. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهب لقلوبنا رحمةً تجعلنا على التسليم والإذعان الذي يرضيه عنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

حكم طاعة المرأة زوجها في غير معصية الله

حكم طاعة المرأة زوجها في غير معصية الله Q عندما يطلب الزوج من زوجته الاستقامة وترك بعض المحرمات، كمشاهدة المسلسلات ورؤية التلفزيون أو غيره من الآلات الفاسدة الجامعة لبعض المفاسد، فترفض الزوجة الانصياع لذلك وتحدث المشاكل الزوجية، فما توجيهكم حفظكم الله لهؤلاء الزوجات ولغيرهن من أخواتنا المسلمات؟ A الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن محور هذا السؤال يدور حول قضية الطاعة للزوج، ذلك أن الزوج قد يطلب من زوجته أن تطيع الله تبارك وتعالى، فلا تستجيب لذلك الأمر ولا تصغي له، والسؤال: ما الذي ينبغي فعله؟ والجواب: أنه ينبغي على المرأة أن تتقي الله عز وجل وأن تكون على استجابةٍ لزوجها إذا دعاها لمحبة الله ومرضاته، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أنه يجب على المرأة أن تطيع زوجها بالمعروف، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -والذي تقدمت الإشارة إليه- أن المرأة إذا أطاعت زوجها واتقت الله عز وجل في بعلها فإنها تدخل الجنة من أي أبوابها شاءت، وهذا يدل على أن حرمان الزوجة من الجنة مرتبط بطاعتها لزوجها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما خطب يوم العيد قال: (تصدقن يا معشر النساء فإنكن أكثر حطب جهنم، قالت امرأة: ولم يا رسول الله؟ قال: بكفركن، قلنا: يكفرن بالله؟ قال: وإنما يكفرن العشير). فالمقصود أنه ينبغي للمرأة أن تكون مطيعةً لزوجها مصغيةً إليه، خاصةً إذا أمرها بطاعة الله ومرضاته والعكس بالعكس، فإنها إذا عصت زوجها في أمرها بطاعة الله تبارك وتعالى فقد خرجت عن هدى الله المستقيم وطريقه القويم وهي آثمة شرعاً، ولذلك قال بعض العلماء: إذا أمر الزوج زوجته بطاعة الله فلم تطع الله ونهاها عن معصية الله فلم تتق الله عز وجل بترك تلك المعصية أثمت من وجهين: الوجه الأول: عصيانها لربها بفعل تلك المعصية. والوجه الثاني: عصيانها لزوجها بعدم الاستجابة له إذ أمرها بطاعة الله. فلذلك ينبغي للزوجات أن يتقين الله تبارك وتعالى وأن يبتعدن كل البعد عن معصية الزوج إذا أمر بطاعة الله، ولا خير في امرأة لا تقدر لزوجها إذا أمرها بطاعة الله قدره وتستجيب له، إنها لمن نعم الله تبارك وتعالى على المرأة المسلمة أن توفق بزوج يدعوها إلى طاعة الله ومحبته، والله تعالى أعلم.

إذا اجتمع حق الزوجة وحق الأم فأيهما يقدم؟

إذا اجتمع حق الزوجة وحق الأم فأيهما يقدم؟ Q هناك مشكلة أخرى كثر السؤال عنها ولها وجهان: ألا وهي علاقة الرجل بزوجته وأمه، فكثرت الأسئلة حول هذه العلاقة فأسئلة تقول: إن بعض الأزواج يهملون أمهاتهم لصالح زوجاتهم، أي إنهم يجورون في معاملتهم لأمهاتهم من أجل زوجاتهم، والعكس أيضا، فطائفة أخرى تشتكي بأن بعض الأزواج يهملون زوجاتهم ويخلون بحقوقهن من أجل أمهاتهم، وبعض الأمهات يتدخلن في شئون أبنائهن وزوجاتهم، ويفتحن أبواباً للمشاكل كبيرةً، وطائفة أخرى تقول: إن أمهات الزوجات يتدخلن في إيجاد مشاكل زوجية وأمور خلافية بين الأزواج؟ A هذا السؤال يدور حول قضية مهمة وهي أن الزوج قد يقع بين خيارين: بين بِر الوالدة وكذلك طاعة الزوجة أو الإحسان إليها في أمر ما!! فيقف بين هاتين القضيتين: الأم ترغب شيئاً ما والزوجة ترغب شيئاً خلافه أو لا ترغب في ذلك الشيء الذي ترغبه الأم، كيف يتصرف المؤمن أمام هذين الخيارين المتناقضين؟ فبعض الأزواج يفضل رأي الأم مطلقاً ويصغي لها حتى إلى درجة أنه يضيِّع بسببها حقوق زوجته، وبعض الأزواج -أيضا- يفضل رأي الزوجة ولو كان على حساب بِر الوالدين. فهاتان قضيتان هامتان يقف المسلم أمامهما: القضية الأولى بِر الوالدين وهو فرض لازم على المكلف ولازم على الزوج، إذا أمرته أمه أو أمره أبوه في غير معصية من معاصي الله عز وجل وجب عليه أن يطيع، وكذلك الزوجة لها حق حسن العشرة فلذلك أقول: ينبغي للسائل أن يوازن بين رأي الأم ورأي الزوجة فلا تخلو القضية من أمرين: الحالة الأولى: إما أن تكون قضيةً شرعيةً قد فصل الله حكمها من فوق سبع سماوات، فلا خيار للأم ولا للزوجة، بل طبق ما أمرك الله بتطبيقه، إذا وقفت في الخيار وكان الخيار في قضية شرعية واجبة أو نهي عنها، فقدم أمر الله وشرع الله سواءً كان مع الأم أو كان مع الزوجة. الحالة الثانية: أن يكون في القضايا التي وسع فيها كفضول الأمور، فحينئذٍ بِر الوالدين فرض لازم وقد تعارض بِرٌ واجبٌ مع أمر قد يكون من المستحبات كالإحسان إلى الزوجات، فلو فرضنا أن أماً دعت ابنها في عصر ذات يوم إلى أن يأتيها لقضاء حاجةٍ تحتاجها وقالت المرأة: إنها تريده لأمر ما من الفضول كالخروج في نزهة ونحوه من فضول الأمور، فحينئذٍ لا إشكال في أنه يقدم بِر الوالدة وطاعتها على تلك الزوجة؛ لأن الله تعالى أوجب على الإنسان أن يبر والديه وهذا فرض، وأما الإحسان في العشرة فإذا لم يصل إلى مراتب الفروض والواجبات فحينئذٍ لا إشكال في تقديم غيره عليه كما قرر العلماء ذلك في المسألة المعروفة بازدحام الفروض، يعني: إذا اجتمع فرضان أيهما يقدم؟ فالمقصود أنه إذا كانت هذه الأمور من الأمور الموسعة فيقدم بِر والدته على حق زوجته. أما إذا كانت من الأمور الواجبة كأن تحتاج المرأة أمراً واجباً عليه كالنفقة والسكنى ونحو ذلك، فحينئذٍ لا إشكال، يبر والدته في غير معصية الله؛ لأنه إذا برها في هذه الحالة التي يضيع فيها حق الزوجة، كان في هذه الحال مطيعاً للأم في معصية الله، فحينئذٍ يقدم حق الزوجة والأبناء والبنات على بره لوالدته. إذاً إما أن نقول: تكون القضية شرعيةً، فيعمل بوفق الشرع، هذه الحالة الأولى. والحالة الثانية أن تكون قضيةً موسعاً فيها فحينئذٍ يقدِّم الفروض على المستحبات، وإذا اجتمعت الفروض كان التقديم فيها كما سبق بيانه والله تعالى أعلم.

مواقف من الآخرة

مواقف من الآخرة الموت هو المصير المحتوم الذي أوجبه الله على كل حي في هذا الكون، وهو مصيبة، ولكن المصيبة العظمى والأدهى ما بعد الموت: من سؤال منكر ونكير، ومن بعث وحساب، مشي على الصراط. فالاستعداد لما بعد الموت أمر مطلوب، وذلك بالعمل بما يرضي الله سبحانه وتعالى، واجتناب معاصيه، وتذكر الآخرة وأهوالها، فإنه عامل مساعد على الاستقامة على دين الله جل وعلا.

ساعة الاحتضار وحال العبد عندها

ساعة الاحتضار وحال العبد عندها الحمد لله الذي خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وإليه المآب والمرجع يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فيا إخواني في الله! وقفات ولحظات مع البرزخ والدار الآخرة، لقطات وومضات مع السفينة الماخرة إلى ذلك اللقاء المشهود، واليوم الموعود إلى لقاء رب العالمين وملك يوم الدين مواقف تهتز لها قلوب المتقين، وتَجِلُ لها أفئدة الخاشعين المتقين. الآخرة ما الآخرة؟ هي التي أقضت مضاجع الصالحين، فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، عرفوا ربهم وعظّموا خالقهم ووجلت أفئدتهم من هيبة المقام بين يديه. الآخرة ما الآخرة؟ وما أدراك ما الآخرة؟ هي التي حرمت الأخيار لذة النوم والكرى، وانفطرت لها أفئدة المتقين العابدين، فساروا إلى الله حثيثاً، أما الأموال فبذلوها لوجه الله، وأما جاه الدنيا فسخروه لمحبة الله، الآخرة لا يعرف حقها وقدرها إلا من عرف عظمة الله وعرف هيبة الموقف بين يدي الله وقد تحدثت عنها آيات التنزيل فما تركت للعبد من قيل الآخرة التي بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن السعيد فيها سعيد، وأن المحروم فيها شقي طريد. أول منازل الآخرة وأول وقفة لنا معها، هي في تلك اللحظات التي يلقي العبد فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، أول منازل الآخرة: إذا وجل الفؤاد من لقاء الله تبارك وتعالى، وتهيأ للرحيل، فساعة الرحيل أول موقف يراه العبد من الآخرة، هناك حيث تبدو المعالم واضحة، هناك حيث تنتاب السكرات، وتعلو الزفرات، وتفيض العين بالعبرات، ويَجِلُ العبد من خشية الله تبارك وتعالى، إنها الساعة التي يؤمن فيها الكافر، ويوقن فيها الفاجر، يلقي العبد فيها نظراته على الأبناء والبنات، على الإخوان والأخوات، على الأصحاب والخلان، على الأحباب والإخوان، يُلقي آخر النظرات مودعاً وإلى ربه منتقلاً. أول موقف من مواقف الآخرة إذا حانت ساعة الفراق {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:29 - 30] فهناك حيث يزول الغرور، ويبدوا للعبد هول البعث والنشور هناك حيث تزول عن العبد سكراته، وتذهب عنه آماله وطموحاته، تتنزّل عليه ملائكة الله تؤذنه بالرحيل من الدنيا هناك حيث يبكي العبد بكاء الندم، رب! ارجعون، رب! ارجعون {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون:10] ينادي بقلب متقطع، ونفسٍ متقطعة من الحنين والألم، عرف قدر الأيام والليالي، وعلم أن الله لم يخلقه عبثاً، وأنه لم يُوجد في هذه الحياة سدى، هناك حيث يُوقن العبد بلقاء ربه.

تبشير الملائكة للمؤمن عند حضور أجله

تبشير الملائكة للمؤمن عند حضور أجله إن أسعد اللحظات وأعزها على المؤمن إذا دنت ساعة الرحيل، تلك الساعة التي لا كرب بعدها على المؤمن أبداً، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما طفقت سكرات الموت عليه، قالت فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا كرب على أبيك بعد اليوم) لقي الحبيب حبيبه، ولقي المؤمن من كان يتمنى لقاءه، كم اشتاق إلى لقاء الرحمن! وكم اشتاق للنقلة إلى دار الجنان! في تلك الساعة حيث تتنزل ملائكة الرحمن على ذلك العبد الصالح، تبشره بما عند الله من المثوبة، فيحب لقاء الله، فيحب الله لقاءه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا حضر العبد الموت، تنزلت عليه الملائكة فبشرته بما عند الله من المثوبة فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه)، إن العبد إذا دنت ساعته، وحانت قيامته، وبدت سكراته وزفراته، عندها إما محسن سعيد بربه، وإما مسيءٌ شقي بعمله. دخل أبو حازم رحمه الله على سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان: يا أبا حازم! كيف القدوم على الله؟ فقال رحمه الله: أما المحسن فكالمسافر يقدم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يقدم على سيده. إن المؤمن إذا بدت له معالم الآخرة، تنزلت عليه الملائكة فبشّرته بما عند الله من العفو والرضوان؛ فثبتت له الجنان وأورثت في القلب حباً وأورثت في القلب لهفاً وشوقاً إلى لقاء ملك الملوك إلى لقاء رب العالمين، واشتاق القلب إلى الجنان وإلى لقاء الصديقين والشهداء والصالحين، بشرته بلقاء الله، فأحب لقاء الله، وقد بيّن الله تبارك وتعالى تلك اللحظات وقص بيانها في التنزيل، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. إذا حضر الموت للمؤمن وجد الحزن والشجا على فراق أبنائه، نظر إلى أبنائه فخاف عليهم العالة والفقر من بعده، خاف ألا يجد اليد الأمينة التي ترعاهم بعده، وخاف أن يجدوا من ضنك الدنيا وشدتها، فعند ذلك يحزن قلبه ثم يلتفت ويقلب عينه، ليرى ما أمامه في الآخرة فيخاف أهوالها وشدة نكالها، فعند ذلك يبشر بالأمرين، ألا تخافوا مما أنتم قادمون عليه، ألا تخافوا من لقاء الله، وألا تحزنوا على فراق الأبناء والذريات، عجبٌ والله! إن الله تبارك وتعالى تكفل للمطيع أن يرعى ذريته، حتى من بعد فراقه للدنيا، ولذلك انظروا إلى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يبعثه الله تبارك وتعالى مع عبدٍ من عباد الله الصالحين، لكي يرفع جداراً، فيقول ذلك العبد الصالح قاصاً للنبي خبره: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] قال بعض المفسرين: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) إنه الجد السابع لهما، الله أكبر! صلاح العبد يحفظ الله عز وجل به الذرية إلى سابع ابن من النسل، فالله وفيٌ لعبده بعهده، ومن أوفى من الله عهداً؟ إن الطاعات والقربات ومحبة رب البريات والإقبال على الله في هذه الحياة والتقرب إليه في اللحظات والحركات والسكنات له موقع عند الله تبارك وتعالى عظيم لا يعرفه العبد إلا إذا لقي ذلك الرب الذي تعبّده، وذلك السيد الذي أطاعه، فيعرف ثمرة الطاعات إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة. إن أول بشائر الرحمات وبشائر الفوز بالجنات تتنزل على العبد إذا اشتدت عليه الكربات وبدت في السياق الحسرات، وحشرجت في النفس ما تجده من أنين السكرات، حينئذ يتنزل من الله على العبد من البشائر والرضوان، لذلك لا يعرف العبد قيمة هذه الساعات وهذه اللحظات إلا إذا رأى هذا الموقف الأول من مواقف الآخرة، عندها يبكي على ساعات الليل والنهار بكاء الحرقة والندم عندها يعرف قيمة هذه اللحظات التي متّعه الله عز وجل بها، وأكرمه بما أكرمه به من نعمه.

القبر أول منازل الآخرة وحال السلف عند تذكره

القبر أول منازل الآخرة وحال السلف عند تذكره أما الموقف الثاني من مواقف الآخرة: هي تلك اللحظات التي يُدلّى فيها العبد إلى قبره، ويُوسد في لحده وشقه، وعندها تبدو حقائق الأمور للعبد، فأول ما يرى العبد الملكين حينما يقعدانه في ذلك المضجع. قف على القبر فانظر إلى ذلك الميت المسجى، ثم انظر إليه إذا تدلى، ثم انظر إليه إذا صف إلى القبلة، فعندها تعلم أن للحياة خبراً وشأناًَ، إن القلوب المؤمنة تعي حقائق هذه المواقف، فبعد تلك الضجعة أهوالٌ لا يعلمها إلا الله ونعيم وسرورٌ ومننٌ من الله تبارك وتعالى لم تخطر للعبد على بال. إخواني في الله! تهيئوا وتجملوا لهذا اللقاء الأكبر بالصالحات، حتى إذا أُضجع العبد إلى قبره وأوسد في لحده جاءه ذلك العمل الصالح، فرآه فقال: من أنت فوالله لوجهك الذي يأتي بخير؟ فيقول له: أنا عملك الصالح. نعم، إنها الكلمات الطيبات، من ذكر للرحمن وتلاوة للقرآن، والتعبد إلى الله عز وجل بالطاعات والقربات، هذه الأعمال التي يجد العبد آثارها إذا لقي الله جل وعلا وحيداً فريداً في قبره، موسَداً في لحده، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله كلما تذكروا ضجعات القبر أورثهم ذلك الخوف وأورثهم المسارعة إلى قيام الليل وصيام النهار، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. ثبت في الحديث الصحيح عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا وقف على القبر بكى، وكان إذا ذُكرت له الجنة والنار لم يبك مثل بكائه للقبر، فقالوا له: (تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتذكر القبر وتبكي، قال: أخبرني خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن القبر أول منزل من منازل الآخرة). إنها كلمات صادقة من نبيٍ كريم فالقبر أول منزلٍ من منازل الآخرة، فتفكّر أخي في تلك الليلة الأولى إذا أضجعت في تلك اللحود وحيداً فريداً بالأعمال والأقوال تذكر أخي تلك الليلة! أول ليلة تمر عليك في القبر تذكرها فإن لها في قلوب المؤمنين وقعاً، إن لها في قلوب الصادقين أثراً، إن لها أثراً يدفع إلى الطاعات ويجعل العبد في جدٍ واجتهاد من المرضاة، تذكر أول ليلة في القبر، وحفز النفس للقاء الله، وتهيأ وتجمل بالعمل الصالح لعلك أن تصيب من رحمة الله ما يكون لك سبب في النجاة من ذلك الهول. ورد عن المروزي رحمه الله -صاحب الإمام أحمد - أنه قال: أتيت في ليلة من الليالي، فسرت حتى آخر الليل، فلما أردت أن أنام قمت فصليت ركعتين ثم أوترت ونمت، قال رحمه الله: فرأيت في نومي رجلاً يقول: من أنت فقد آذيتني رحمك الله ليلتي؟ لأنه كان نائماً على القبر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه نهى عن الجلوس على القبر)، فقال المروزي لصاحب القبر: من أنت؟! فقال: أنا مقبور تحتك، فقال: حدثني عن الآخرة، فقال له: إنا في دار علم لا عمل عندنا، وأما أنتم ففي دار العمل ولا علم عندكم، والله لو تعلم ما لركعتيك هاتين عند الله؛ لكانت لك خيرٌ من الدنيا وما فيها. ولو كشف الله لنا عن تلك القبور وما فيها من الأهوال، وما فيها من سعادة أهل السعادة ما فيها من نظرة النعيم لأهل الطاعات والقربات، ما فيها من نفحات رب العالمين، ورحمات ملك يوم الدين؛ لهانت -والله- على العبد الدنيا. جاء في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالبكاء)، إن الذي يعلم حقائق القبور هو رب العالمين، ممتِّع الصالحين برحماته، ومهين العاصين بعقوبته ونكاله، لذلك إخواني فتلك هي المحطة الثانية التي يراها الإنسان إذا حُط فيها تبينت وتبدت له معالم الآخرة. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد الصالح إذا سُئل من الملكين، فأجاب -بتثبيت الله عز وجل له -فتح له في قبره، ومُد له مد بصره، فيقول: يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة)، يقول ذلك حنيناً إلى لقاء الله وشوقاً إلى رحمة الله؛ لأنه علم أن ما وراء هذا القبر أعز وأسمى عند الله عز وجل.

موقف البعث والنشور

موقف البعث والنشور أما الموقف الثالث فموقف عصيب رهيب يلي القبر وهو: موقف الحشر والنشر، وقد بينه الله تبارك وتعالى بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:68 - 70] إذا بدت تلك الصيحة، خرجت الأمم جماعات وأرسالاً، ينادي منادي الله: يا أيتها العظام النخرة! يا أيتها الأجساد البالية! فتخرج من تلك القبور، فلو رأيتها لعَظُم عليك موقعها، وقد بيّن الله تبارك وتعالى أحوال الصادقين والكاذبين في لقاء تلك الساعات، فقال جل من قائل: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] فهذه صيحة للجميع وزجرة واحدة: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:14] الساهرة هي: أرض المحشر، أرضٌ لم تعمل عليها خطيئة قط، يخرج العبد للقاء الله وحيداً فريداً، لكي يلقى الله عز وجل بقوله وفعله.

موقف الحساب وشدته

موقف الحساب وشدته وأما الموقف الرابع فقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبره، فهو ما بعد نفخة الصور، وما بعد هول البعث والنشور، وهو الموقف للحساب، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (إن الله تبارك وتعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، فينزل العرق في الأرض سبعين ذراعاً) فلو تذكّر الإنسان ذلك الموقف عندما يكون واقفاً بين يدي الله تبارك وتعالى ليس له ظلٌ إلا العمل الصالح، ليس له شفيع ولا موجب لذهاب ذلك الهم والغم سوى عمله الصالح، وتلك الطاعات والقربات، فهي التي تزيل عن العبد لفح شمس يوم الدين، وتزيل عنه همه وغمه، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله جل وعلا يجعل ذلك اليوم على العبد المؤمن كأنه ساعة واحدة {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يمر على العبد كاللحظة الواحدة إذا كان مؤمناً. إن هذه المواقف ليس فيها شفيع ولا عملٌ تتبدى به عند لقاء الله عز وجل أجلّ وأسمى من فعل الطاعات والتقرب إلى الله تبارك وتعالى بها، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ذكر الله تعالى من أخبار عباد الله الذين جدّوا واجتهدوا في مرضاة الله بأنهم بعيدون عن تلك اللفحات، حيث قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103] إذا لقي العبد تلك الشدائد ثم وجد من تيسير الله عز وجل فذلك بفضل الله أولاً، ثم بصلاح قوله وعمله. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أُظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) المحبة في القلوب أوجبت للعبد في ذلك الموقف الرهيب العصيب شفاعة بين يدي الله عز وجل، فكيف بمن جد في الطاعات وشمّر في المرضاة؟!

المرور على الصراط وحال المارين عليه

المرور على الصراط وحال المارين عليه وأما الموقف الخامس من مواقف هذه الدار فهو: الاجتياز على الصراط -أي: المرور على الصراط-، فمن شدّته وهوله ما يجعل العبد داعياً لنفسه أن يُعد العدّة للقاء ربه في ذلك اليوم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يضرب الصراط على متن جهنم، وينادى العباد: أن مروا عليه، وكل يمر بقدر عمله) وصح في الحديث -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تقول النار: جُزْ يا مؤمن، جز يا مؤمن، فقد كاد نورك يطفئ لهبي) نور الطاعات نور القربات نور الصلاة نور ما تحبب به إلى الله تبارك وتعالى في ليله ونهاره، إنها الطاعات التي بقيت بعد الممات شافعة وموجبةً لنجاة العبد بين يدي الله تبارك وتعالى. وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يزال المؤمن في هم وغم وكرب، حتى يخلِّف جسر جهنم وراء ظهره) هذا الجسر الذي ورد أن العبد يجوزه حتى يصل إلى منتصفه فتخطفه كلاليب النار والعياذ بالله، بذنبٍ أصابه أو بحدٍ انتهكه، فالله عز وجل أراد أن يُطهره بالنار من ذلك الذنب بسبب نفاق في قلبه أو رياءٍ في عمله، أو نفسٍ أراق دمها، أو حُرمة انتهكها أو زنية أصابها، أو كأس خمر شربها، يعذب بالنار على قدر تلك الإساءة ويُكبكب فيها -والعياذ بالله- على قدر ما أصاب من حدود الله دعوى الأنبياء في تلك الساعة الرهيبة: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم. ومن صفات هذا الصراط: أنه أرقّ من الشعرة، وأحد من السيف، يمرُّه المؤمن كالبرق الخاطف بسبب تلك الطاعات التي تحبب بها إلى الله تبارك وتعالى، إن من عمَّر الليالي والساعات واللحظات بذكر الله تبارك وتعالى وبمحبة الرحمن، واشتغل بذكر الديان، وأصبح يراقب الله في حركاته وسكناته، كل ذلك يشفع له من تلك الأهوال وينجيه من ذلك الفزع، ولن يخيب عند الله سعيه، ولن يضيع عند الله عمله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] كيف يضيع الله من كفل الأيتام وقام على الأرامل ورعى ضعفة المسلمين؟ كيف يضيع الله من فرّج الكربات؟ كيف يضيع الله عبداً فرّج الكربات وتنافس في المرضاة وتسابق إلى الطاعات؟! كيف يضيع عند الله سعيه؟ أم كيف يضيع عند الله عمله؟ إخواني! إن التجارة مع الله رابحة، فلنعدها للقاء الله. إن ذكر هذه المواقف ليست قصة تذكر، وليست موعظة تمر؛ ولكنها لكي تحرك النفوس للقاء الله، وتحركنا أن نتذكر ونتبصر فيم يمضي الليل والنهار؟ فإلى متى ونحن عن الله غافلون؟ وإلى متى ونحن عن رحماته بعيدون؟ إلى متى ونحن عن هذه المواقف المفزعة المرهبة غافلون؟ إن هذه المواقف توقظ القلوب النائمة وتنبه القلوب الحائرة للمسير إلى العلي الكبير، تنبهها من هذه الغفلة التي طفقت بسبب وساوس الشيطان وخطراته، فكم للشيطان من مصائد أعدها لأولياء الله المتقين من التسويف في التوبة والتأخير في الإنابة والحوبة. لذلك إخواني! أدعوكم إلى التفكر في مثل هذه المواقف، والقرآن قصة حقيقية، ذكر الله تبارك وتعالى فيها مشاهد الآخرة وقص فيها خبرها، يعيها ويتذكر بها ويتبصر بها من أحيا الله قلبه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. سئل رجل من السلف -وكان رجلاً صالحاً مجداً في طاعة الله تبارك وتعالى، فكان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ولا يأتي ثلث الليل الآخر إلا وهو قائم بين يدي الله يتهجد- قالوا له: كيف أصبت هذه النعمة العظيمة من الله تبارك وتعالى؟ فقال: صورت نفسي أنني في نزعات الموت، فقلت: يا نفس! ما تشتهين؟ فقالت: أشتهي أن أرجع إلى الدنيا فأزداد من صالح العمل، ثم صورت نفسي كأنني في ضجعة القبر، فقلت: يا نفس! ما تشتهين؟ فقالت: أشتهي أن أرجع إلى الدنيا فأزداد من صالح العمل، ثم صورت نفسي وقد حُشرت ونشرت وبُعثت بين يدي الله عز وجل ووقفت، فقلت: يا نفس! ما تشتهين؟ فقالت: أشتهي أن أرجع إلى الدنيا، وأزداد من صالح العمل، فقلت: يا نفس، هذه الدنيا وهذه الأمنية التي ترضَين، فجدي واجتهدي في مرضاة الله تبارك وتعالى. فانظر كيف كان السلف يشغلون القلوب بذكر الآخرة؛ لأن ذكر الآخرة حياة للقلوب، وتدعوها إلى المسير إلى الله، وتدعوها إلى أن تكون واعية، لم خلقها الله عز وجل وأوجدها؟ إذا وعت ذلك، حينها تستريح نفس المؤمن بطاعة الله تبارك وتعالى وتنفر من معصيته. إن هذه المواقف ذكرها حياة للقلوب، ودعوة للإقبال على علام الغيوب إن ذكر الآخرة دعوة لكي نحيي القلوب بذكر الله تبارك وتعالى، ونعمُر الأيام والليالي بمحبة الله قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه} [الحديد:16] إلى متى والإنسان في غفلة؟ إلى متى وهو في تسويف من طاعة الله؟ مهما بلغنا من الطاعات فإن وراءنا طاعات وقربات، والله أجل وأعظم مما نتصور إن وراءنا من الخيرات والطاعات التي فتح الله عز وجل أبوابها وسهل السبيل إليها لهذه الأمة ما لم نصبه وما لم نصل إليه في يوم من الأيام. إخواني في الله! ذكر هذه المواقف فيه دعوة لنا أن نقبل على الله تبارك وتعالى، وآخر ما يوصى به العبد من ذكر هذه المواقف: أن تكون الآخرة زاجرة له عن حدود الله وعن كل ما لا يُرضي الله تبارك وتعالى، إن الذي يعي حقائق الآخرة ويعلم أنه سيرتحل في السفينة الماخرة للقاء الله عز وجل بعيدٌ عن محارم الله التي بينه وبين ربه، وعن محارم الله التي بينه وبين عباد الله تبارك وتعالى، أما اللسان فقد كبح جماحه عن أن يتعدى حدود الله، وأما الأعضاء فقد سخرها في محبة الله ومرضاته. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بذكر الآخرة، وأن يجعل أسعد اللحظات وأعزها وأشرفها لحظة الوقوف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

عدة الداعية

عدة الداعية الدعوة إلى الله مسئولية كل من ينتسب إلى الإسلام بحسب جهده وعلمه، ومما ينبغي للداعية أن يتسلح به أثناء دعوته إلى الله: الإخلاص، والعلم، والأخلاق العالية الحسنة، كما أن عليه أن يترفق بالناس عند دعوتهم.

الدعوة إلى الله أمانة في أعناقنا

الدعوة إلى الله أمانة في أعناقنا الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أصحابه الغر الميامين، وعلى من اهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة في الله! أيُ شيءٍ أعظم وأجل وأكرم من رضوان الله على عبده؟ هذا الرضوان الذي شهد الله جل جلاله أنه أكبر من كل شيء، فقال سبحانه: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (أن أهل الجنة إذا نزلوا في منازل الجنة، ورأوا نعيمها، وذاقوا لذتها وسرورها، وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفورٌ شكور، قال الله جل وعلا: ألا أزيدكم؟ فيقولون: ربنا أعطيتنا وأعطيتنا، فيقول الله جل جلاله: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً). إذا رضي الله على عبده أرضاه وسدده ووفقه، وجعل السعادة بين عينيه، ولذلك كتب الله لأوليائه بسعادة الدنيا والآخرة. وأحب العباد إلى الله وأكرمهم عليه -سبحانه- من تمسك بدينه والتزم بشريعته، الذي أحب الله من كل قلبه وظهرت آثار هذه المحبة في جوارحه. أسعد الناس بالله، من عرف الله؛ فهابه واتقاه، والتزم حدوده جل في علاه، ولقد اصطفى الله جل وعلا لهذه السعادة أحب الخلق إليه، وأكرمهم عليه، وهم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. اصطفى الله الأنبياء والرسل، فجعل من دلائل حبه لهم أن حمّلهم الأمانة، وقلّدهم المسئولية، فجعلهم أمناء على وحيه ودينه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. لقد حمل رسل الله أمانة الله إلى عباده، على نورٍ من الله، يرجون رحمته، فأدوا رسالته، وبلغوا أمانته، وقرت عيونهم برضوان الله عليهم، ثم اصطفى الله جل جلاله لختم هذه الصفوة -خير خلقه وأفضل رسله وأكرمهم عنده سبحانه- نبينا صلى الله عليه وسلم. اختاره الله جل جلاله خاتماً للأنبياء والمرسلين، وهدىً لعباده المتقين، ما ترك باب خيرٍ إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشدٍ إلا هدانا إليه، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف -بإذن الله- عن العباد الغمة، ووقف أمام الأمة يوم حجة الوداع، فأشهد الله من فوق سبع سماوات أنه بلغ رسالته، وأدى أمانته، ورجع إلى طيبة الطيبة، ففاضت روحه ولقي الله جل جلاله، حمل هذه الأمانة من بعده الصحابة الكرام، الأئمة الأعلام، الذين هم القدوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حملوا هموم الدعوة، هموم الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالة الله جل جلاله، وأحس كل صحابي أنه مسئولٌ أمام الله عما سمعته أذنه وأبصرته عيناه ووعاه قلبه، فنشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السنن والآثار، وحدثوا بالسيرة والأخبار، ففتح الله بها قلوباً غلفاً وأذانٌ صماً وأعيناً عمياً، وقادوا إلى صراطٍ مستقيم. حمل الصحابة رضوان الله عليهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة، وبلغوا الرسالة، فكانوا خير قدوةٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله. كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم -في علمه وحلمه وعمله ودعوته- هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وما زالت الأمة تحمل هذه الأمانة وهذه المسئولية، جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، ووقفنا -أيها الأحبة في الله- في هذا الزمان، بعد أن مضت قرونٌ عديدة وأزمنةٌ مديدة بيننا وبين رسول الأمة صلى الله عليه وسلم. وقفنا أمام هذه الشريعة الغراء، بعد أن ذاق من شاء الله رحمته، ذاق لذة الهداية وطعم العبودية لله والولاية، فأخذ يتساءل: كيف أبث هذا الخير، وأدعو الناس إلى الإحسان والبر، فما من مسلم يهديه الله إلى صراطه المستقيم ويذوق لذة هذا الدين إلا تمنى أن الأمة كلها تشاركه في هذا الخير الكثير من ذاق حلاوة الإيمان ولذة العبودية للرحمن تمنى أن هذه الأمة كلها تشاركه هذا الخير، ولذلك يرد Q كيف السبيل؟ ما هو الطريق الأمثل للدعوة إلى الله وتبليغ رسالته؟

أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله

أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله على الداعية إلى الله أن يعلم علم اليقين أن أول ما يجب عليه، أن يخلص لله جل جلاله، ما كان لله دام واتصل، وما من داعية إلى الله يخلص في قلبه إلا أظهر الله له التوفيق والسداد في جوارحه وأعماله، وفتح الله أبواب الخير أمام دعوته وكلماته ومواعظه؛ لأن الله سبحانه يحب ما كان خالصاً لوجهه، ولا يرضى من الأقوال والأعمال إلا ما أريد به وجهه. من كان لله كان الله له، ومن وطئت قدماه سبيل الدعوة إلى الله، مفرغ القلب من كل شيءٍ سواه، ملأ الله قلبه بالحكمة والنور والتوفيق والسداد، وجعل الله البركة والخير في قوله وعمله. فقبل كل شيء: أن يخلص الإنسان، فإذا تكلم سأل نفسه: لمن يتكلم؟ وإذا خطب أو وعظ أو ذكّر: هل هذا الكلام لله، أو لأحدٍ سواه؟ فالوقفة الأولى: أن يخلص الداعية في عمله لله: إن الله سبحانه مطلعٌ على القلوب والضمائر، مطلع على من يريد وجهه ومن يريد حظوظ الدنيا، ومن أراد الإخلاص لله، فليعلم أن التجارة مع الله رابحة، وأنه إذا سلك سبيل الإخلاص، فلم يتكلم بكلمة إلا خطها الملك الأمين الحافظ؛ لكي يراها العبد أمام عينيه يوم القيامة حجةٌ له لا عليه. من أراد أن يدعو إلى الله، فليعلم أن هذا الدين لله وليس لأحدٍ سواه، لا يدعو للدنيا ولا يدعو رياءً، لا يدعو ليمدح أو يثنى عليه، ولكن لله جل جلاله، فلا يقف أمام الناس إلا وقلبه معمورٌ بالله، فطوبى لقلوبٍ آمنت وأسلمت وأخلصت، فنظر الله إليها -يوم تكلمت ووعظت وقالت- أنها تريد وجهه، وتريد أجره ورضوانه ورحمته، وما ضرتنا إلا حظوظ من الدنيا ساقتنا عن سبيل الله إلى سبيل من سواه {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. الداعية الموفق نظر إلى ما عند الله، فعلم أنه باقٍ وما عند سواه فانٍ زائل {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].

الدعوة إلى الله على بصيرة

الدعوة إلى الله على بصيرة الوقفة الثانية: الدعوة إلى الله على بصيرة وحكمة يهتدي به الداعية ويهدي به من وراءه. العلم الذي به يستنير قلب الداعية، وينال به البصيرة {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57] فمن كان على بينةٍ من الله اتضح له الحق، فأحبه والتزمه ودعا إليه، ومن كان جاهلاً بالله وبشرعه ضل وأضل، ومن علامات الساعة وأمارتها: (أن يتخذ الناس رءوساً جهالاً، سئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا). فأول ما ينبغي على الداعية: العلم إن على كل داعية أن يبتدئ دعوته بمجالس العلم ورياض الجنة ويسير في طريق طلب العلم، ويحب العلماء يتزود منهم وينتفع بهم، ويلتمس رحمة الله جل جلاله، فالعالمُ الرباني إمامٌ للداعية يهتدي به بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. إذاً: لا بد للداعية من وقفة مع طلب العلم، ينتهل فيها من المعين الصافي؛ من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا تعلم وعلم واستنار قلبه، أمكنه أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره. لا دعوة بالجهل، والداعية إذا كان جاهلاً ضل وأضل وراءه؛ فيهلك وتهلك به أمم، فيحاسبه الله جل وعلا عليها. فحريٌ بطالب العلم والداعية إلى الله، أن يجد ويجتهد في طلب العلم، وليعلم أن سبيل الدعوة والتذكير بالله والهداية إليه تحتاج إلى سلاح ونورٍ وبصيرة، لا يمكن أخذ ذلك كله إلا عن طريق العلماء الأمناء الثقات الأثبات. إذا جلس الداعية في مجالس العلم وأحب العلماء والتزم بسبيلهم وحرص على الاستفادة منهم، وتأدب ورأى حرمتهم؛ فإن الله يوفي له كما وفى لعلمائه الذين ائتمنهم على دينه. ما من داعيةٍ إلى الله يحب أهل العلم ويلتزم بحلقهم وينتفع بعلومهم؛ إلا وجدت آثار ذلك كله في دعوته؛ فيقيض الله له من يأخذ من علمه وينتفع به ويتأدب معه كما كان حاله مع العلماء. العلم لابد منه، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57] قالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يدعو الناس ويدلهم على الدين إلا بعد البصيرة والبينة من رب العالمين. قال بعض العلماء: قل إني على بينة، أي: حجةٌ ومحجة، حجة: يعرف بها الحق من الباطل والهدى من الضلال، ومحجة يسير عليها حتى تنتهي به إلى الجنة.

ضرورة اقتران علم الداعية بعمله

ضرورة اقتران علم الداعية بعمله الوقفة الثالثة: لابد للداعية إلى الله أن يوطن نفسه من بداية دعوته على العمل، فالدعوة إذا كانت نابعة من إنسان ذاق حلاوة العمل بالعلم، وذاق لذة المعاملة مع الله، أمكنه إذا ذكّر الناس ووعظهم أن يذكرهم بشيءٍ ذاق حلاوته ولذته، أما فاقد الشيء لا يعطيه. الداعية إلى الله الذي قرن علمه بالعمل يضع الله له البركة في قوله وعمله، فإن الناس تنظر إلى قول كل قائل وعمله، فإذا وافق القول العمل أحبه الناس وتأثروا بكلامه إذا وقف أمام الناس يحدثهم ويعظهم وضع الله عز وجل لمواعظه أثراً نافعاً في قلوب الخلق فوق ما يرجو ويؤمل. إذا تحدث عن الإخلاص لله كان أخلصهم لله، وإذا تحدث عن الطاعات والقربات كان أسبقهم إليها، وأحبهم لها، وأكثرهم مداومةً عليها، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك عاتب الله من قبلنا، أنهم حملوا التوراة ثم لم يحملوها فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً، فمقتهم الله جل جلاله حينما قالوا بما لم يعملوا. قال بعض السلف: (كونوا دعاةً وأنتم صامتون، قالوا: وكيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: ادعوا الناس بأخلاقكم وأقوالكم وأعمالكم قبل أن تدعوهم بتذكيركم). فالذي يدعو الناس بأخلاقه وأقواله وآدابه وشمائله؛ تتأثر الناس بدعوته، ولن يكون ذلك إلا بالعمل، لن يكون ذلك إلا إذا رأى الناس آثار السنة وأخلاق الإسلام في الداعية إلى الله، سواءً كان خطيباً أو واعظاً أو مذكراً أو معلماً، ونسأل الله العظيم أن يوفقنا إلى القول والعمل، فإنها من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، حتى قال بعض العلماء: لن يكون العبد هادياً مهدياً إلا إذا قرن العلم بالعمل.

تحلي الداعية بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم

تحلي الداعية بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الوقفة الرابعة: الدعوة إلى الله تحتاج إلى تأسٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أعظم ما ينبغي أن يتحلى به المسلم أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الأخلاق التي إذا نظرها المسلم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة، وشمائله الجليلة النضرة، هذه الأخلاق التي نراها في أكمل صورها وأجمل حللها في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في عسره ويسره، وفي منشطه ومكرهه.

طلاقة الوجه وسلامة الصدر

طلاقة الوجه وسلامة الصدر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيةً إلى الله خرج إلى الناس طليق الوجه، دائم البشر والسرور صلى الله عليه وسلم، ما كان يلقى الناس مكفهر الوجه أو عابساً أو محتقراً لهم، بل كان يلقاهم صلوات الله وسلامه عليه بالوجه الطليق والقول الرقيق، قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسمَ في وجهي). فالداعية إلى الله، يتحلى بمثل هذا الأدب النبوي الكريم. كان يخرج صلى الله عليه وسلم لأصحابه نقي السريرة والقلب، ليس في قلبه غل ولا حسد ولا بغضاء على المسلمين، إنما كان يخرج لهم بالمحبة والصفاء والمودة والإخاء صلوات الله وسلامه عليه. لن نستطيع أن نهدي الناس إلا إذا سلمت صدورنا من آفات القلوب، لن نستطيع أن نأخذ بمجامع قلوب الناس إلا إذا سلمت سرائرنا وضمائرنا من الحقد على عباد الله، وسوء الظن بهم، ولن يكون الداعية كما ينبغي أن يكون عليه الداعية إلا بمجاهدة القلب، فإذا خرج إلى المسلمين أحب لهم ما يحب لنفسه، وكره لهم ما يكره لنفسه؛ لعلمه أن الله يحب منه ذلك. إذا لم يسلم صدرك ولم يكن نقياً لإخوانك المسلمين، أظهر الله ما في قلبك في فلتات لسانك وزلات جوارحك وأركانك، وقد قال بعض العلماء: ما أسر عبدٌ في قلبه سريرة إلا أظهرها الله في فلتات لسانه، أو في جوارحه وأركانه. فالذي يريد أن يدعو إلى الله ينبغي له أن يجعل في صدره السريرة النقية للناس التي تتمنى لهم الخير، فإذا قوي هذا الباعث في القلب دعاه إلى أن يبذل كل ما يستطيع لهدايتهم ودلالتهم على الخير وتحبيبهم في طاعة الله جل جلاله.

التواضع

التواضع ومن الأمور التي كان يتحلى بها عليه الصلاة والسلام: التواضع، فلا يرى الداعية نفسه أنه فوق الناس، وإنما يتواضع لهم، يتواضع للصغير والكبير والجليل والحقير، والناس عنده في كفةٍ واحدة، من حيث التواضع وتوطئة الكنف، وقد ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يَألفون ويؤلفون). ما أجمل الدعوة إذا جمل الله الداعية بالأخلاق والتواضع والحلم وتوطئة الكنف! إن كريم الأصل كالغصن؛ كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى. كان صلى الله عليه وسلم يقف لصغار المسلمين وكبارهم وشبابهم، لن يستطيع الداعية أن يكون موفقاً في دعوته إلا إذا حرص على أخلاق الإسلام وآداب النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت مع الصحب الكرام. وإذا وفق الله الداعية لهذه الأخلاق والآداب أحبه الناس، فإذا كانت أخلاق الداعية وآدابه وشمائله وتصرفاته تدل على حبه للناس وتوطئته للكنف أحبه الناس. إنما يتواضع الداعية ويكون قريباً من الناس؛ لأن حوائجهم عنده، فالضال ينتظر منه الهداية بإذن الله عز وجل، والمهموم والمغموم ينتظر منه الكلمة التي تبدد -بإذن الله- الهم والغم، والحائر والتائه ينتظر منه التوجيه والإرشاد حتى تذهب الحيرة ويذهب التيه، فإذا به يلتزم بدين الله عز وجل. فإذا جاء هذا الحائر أو التائه إلى الداعية ووقف أمامه، فرأى من آدابه وشمائله وتواضعه وحبه الخير للناس ما يشجعه على الاقتراب اقترب ودنا وأنصت وأحب، وتمنى أنه معه وعلى سبيله ونهجه الذي يسير فيه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

سعة الصدر

سعة الصدر ومن الأمور التي ينبغي للداعية أن يحرص عليها وأن يكون محافظاً عليها: سعة الصدر. فالداعية تواجهه مواقف حرجة، يأتيه السفيه بسفهه، والطائش بطيشه والغاوي بغوايته، فيتسع صدره للناس حتى يستطيع أن يسع الناس بهذا الحلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن سعوهم بأخلاقكم). فالداعية إلى الله إذا كان واسع الصدر لزلات أهل الزلل وخطيئات أهل الخلل؛ أحبه الناس وتأثروا بدعوته، وأصدق شاهدٍ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه عندما قسم غنائم حنين، وجاءه ذو الخويصرة فجذبه وقال له: يا محمد! اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل!) ما تذمر عليه الصلاة والسلام، ولا أمر بقتله ولا سبه أو شتمه، فما كان عليه الصلاة والسلام سباباً ولا شتاماً ولا لعاناً، ولكن كان رحمةً للعالمين، صلوات الله وسلامه عليه.

تسلح الداعية إلى الله بالصبر

تسلح الداعية إلى الله بالصبر من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يحرص عليها في دعوته: التضحية والصبر والتحمل. إن الدعوة إلى الله تحتاج من الداعية أن يصبر، ولن يستطيع أن يصبر إلا إذا صبره الله عز وجل، فالصبر من أجل النعم التي يمتن بها الله عز وجل على عباده، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أعطي عبدٌ عطاءً أفضل من الصبر). يصبر الداعية في تبليغ رسالة الله، وقد يفاجأ بما يوجب السآمة والملل، فيصبر ويحتسب الأجر عند الله، ولا يقتصر هذا الأمر على الداعية في مسجده أو الخطيب في جمعته، بل إنه يشملك وأنت أمام الابن أو البنت أو الزوجة أو أمام القريب، إذا رأيت منه الصدود والإعراض، أو رأيت منه السخرية والتهكم، تعلم أن هذا البلاء الذي ابتلاك الله به قد يكون لحكمةٍ منه سبحانه وتعالى، فتصبر ولا تتضجر أو تمل أو تسأم، ولكن وطن نفسك على الصبر، فلعل الله -لحكمة- أن يؤخر عنك هداية الأخ أو الأخت أو القريب. إلخ، حتى يكون ذلك أصدق شاهدٍ على صبرك على طاعة الله. قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، فهناك من هو أطيب الطيبين في صبره وتحمله، وهناك من هو دون ذلك، فلا تسأم، بل كرر الدعوة، واقرع القلوب مرةً بعد مرة، واعلم أن هذه الكلمات والنصائح والتوجيهات في ميزان حسناتك، فلو عدت المرة بعد المرة لم تسأم ولم تمل؛ لعلمك أن الله يرضى عنك عند تكرارها، ولعلمك أن الله يحب منك الصبر والتحمل، فتصبر وتصابر وترابط على طاعة الله جل جلاله، تتحمل مهما سمعت ومهما رأيت، فسيأتي اليوم الذي تقر فيه عينك على الصبر الذي صبرك الله، ولن تقف موقف ابتلاءٍ فتهان فيه من أجل الله إلا أقامك الله مقاماً أعز منه وأكرم، فمن أهين في الله جل جلاله -كأن يسخر منه أهله أو أقاربه- فإن الله يعزه ويكرمه، ويأتي اليوم الذي تقر فيه عينه، فيرى فيه بشائر صبره، وحسن عاقبة مرابطته في طاعة ربه. لقد صبر أهل الدنيا على الدنيا وما ملوا، وصبر أهل الباطل على باطلهم فما سئموا ولا تضجروا، وأنت على الصراط المبين، والسبيل المستبين، وفي رحمة أرحم الراحمين، فأنت أحق بالصبر منهم. ألا ترى إلى التاجر كم يصبر ويتحمل ويجد من الجهد والتعب وأذية الناس! وهو في تجارته يتحمل، ويتحمل لعلمه بالأرباح التي تكون في الأخير، فتعامل الله جل جلاله، لئن سمعت سخريةً من ساخر، فاحمد الله جل جلاله أن تغيب عليك شمس ذلك اليوم وقد أهنت في ذات الله سبحانه وتعالى، وإذا سبك أو عابك أو شتمك غويٌ أو ضال، فاعلم أن هذا الشتم والسب مكتوب في صحيفة عملك، فلا يزيدك إلا صبراً وتحملاً واحتساباً عند الله وثواباً وأجراً، والله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملاً. ومن أعظم الإحسان: أن تصبر في ذات الله جل جلاله، فلقد ضحى أهل الباطل، فترى النصراني يدعو إلى نصرانيته وهو في الأدغال فلا يستوحش أو يسأم، ولا يمل أو يتكدر، وأنت على صراط الله، وفي سبيلٍ يحبه الله، فأنت أولى بالصبر منه. فهذه أمور ينبغي أن يجعلها الداعية نصب عينيه، واعلم رحمك الله أن الصبر يختلف، فلا تتوقع من الله عز وجل أن يبتليك بشيءٍ تألفه، لا، بل قد يأتيك الابتلاء بشيءٍ لا تألفه، فأنت في دعوتك إذا كنت في بيتك أو في خطبتك أو موعظتك أو درسك وتعليمك، قد يسلط الله عليك من الابتلاء ما يوجب السآمة والضجر بما لم يكن في حسبانك، فما عليك إلا أن تعلم أن الله رقيب وحسيب، وتعلم أن الله معك عندما صبرت لوجهه واحتسبت الأجر عنده سبحانه وتعالى. لقد نعمت وقرت عيون الصابرين حينما سمعوا قول الله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] فمن علم أن الله يحبه إذا صبر وثبت على صبره ازداد صبراً وثباتاً، وتكمل محبة الله لعبده على قدر كمال صبره، فعندما كمل صبر النبي صلى الله عليه وسلم كملت محبة الله جل جلاله له. لقد أوذي عليه الصلاة والسلام فانطلق إلى الطائف يريد دعوتهم وهدايتهم إلى سبيل الله، فأغروا به السفهاء، وقد وقف أمامهم يدعوهم بدعوة الله ويهديهم إلى صراطه، فقال له القائل: أما وجد الله رسولاً غيرك؟ وقال الآخر: أنا أمزق ثيابي إن كان الله بعثك، ثم أغروا به السفهاء -صلوات الله وسلامه عليه- فانطلقوا يرمون بالحجارة خير خلق الله، وأحب عباد الله إلى الله! فانطلق وهم وراءه يرمونه بالحجارة حتى آوى -عليه الصلاة والسلام- إلى الظل من شدة التعب والنصب. نعم أوذي عليه الصلاة والسلام، وسمي: الساحر والكاهن، والأبتر، والصابئ، والأفاك، ومات وهو سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وسلم. مضت تلك الأيام وما مضى ثوابها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. فيا من يريد الدعوة إلى الله! اجعل نصب عينيك مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم شج في وجهه، وكسرت رباعيته، وسالت دماؤه على وجهه، ويقول: (كيف يفلح قومٌ شجوا وجه نبيهم) والله لا تضجر، ولا سئم، بل زاده ذلك ثباتاً على دين الله وتمسكاً بصراطه حتى أتاه الموت وقد رضي الله عنه وأرضاه، فما من إنسانٍ يصبر لله إلا أقر الله عينه بحسن العاقبة، فلن تجد داعية يبتلى ويصبر إلا وجد الثمار اليانعة والعواقب الحميدة. على الداعية إلى الله أن يعلم أن توجيه الناس ودلالتهم إلى الخير مقام شريف، واعلم أنك إذا وقفت أمام الناس واعظاً أو مذكراً أو هادياً، فأنت تقف في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليكن أول ما يكون منك أن تحمد الله جل جلاله، وأن تقول: يا رب! من أنا حتى تجعلني مذكراً وهادياً ودليلاً إلى سبيلك؟! فلتحمد الله على نعمته وتشكره على فضله. ثانياً: أن تعلم علم اليقين، أنه إذا أراد الله أن يرضى عنك في دعوتك جعل أتباعك كثيرين، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن أكون يوم القيامة أكثرهم تابعاً) فالداعية الموفق يحرص على أن يكون أكثر الناس أتباعاً، وهذا يحتاج منه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تحبب الناس في دعوته، وترضي الناس عن قوله وعمله، فيرضي الله أولاً، ثم يرضي عباد الله بعد ذلك.

رفق الداعية إلى الله بالمدعوين

رفق الداعية إلى الله بالمدعوين على الداعية إلى الله أن يلتزم بالقول الحسن والأسلوب الذي فيه رفقٌ بالناس، فإن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، ما بعثه صخاباً ولا لعاناً ولا سباباً، إنما بعثه لكي يكون رحمةً للأمة ولكل من اتبعه، فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما؛ وكان صلى الله عليه وسلم رفيقاً بالأمة، فكل ما كان من تشريع أو أمر فيه ضيقٌ على الأمة إلا سأل ربه أن يخفف وأن يلطف بعباده. فينبغي على الداعية إلى الله أن يلتزم هذا النهج في تحبيب الناس للخير، وهذا يحتاج منه إلى القول الطيب، وأن يكون في دعوة الناس حليماً رحيماً رفيقاً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه). وإذا أراد الله أن يحرم الداعية التوفيق، سلّط عليه الشيطان فأزله بلسانه، فاتجه إلى الناس ساباً أو شاتماً أو كاشفاً لعوراتهم أو مبدداً لأعمالهم، حتى ينفر الناس من دعوته. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن منكم منفرين) فليتق الله الداعية، ولا يكن حجرة عثرة في قبول الخير. ينبغي أن يأخذ الناس باللطف واللين، وعليه أن يعرف كيف يخاطب الناس، وكيف يقرع القلوب، وكيف يوجه، وكيف يدل، وإذا لم يجد في نفسه ذلك، فليسأل العلماء ما هو السبيل. وإذا أراد الله أن يوقف الإنسان على أكمل هديٍ في التوجيه، فإنه يوقفه ويحبب إلى قلبه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح: (عندما بال الأعرابيُ في المسجد، طفق الصحابة يريدون أن يؤذوه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه، فلما قضى بوله وأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام: إن هذه المساجد لم تبنَ لهذا) فلو كان عليه الصلاة والسلام أخذه بالعنف والشدة لأضر به وأضر ببيت الله عز وجل. انظر إلى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رأى من المحسن الإساءة كيف تحمله، وأخذه بحلمه ورفقه، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد فتح مكة، هيأ أصحابه، وغيّب عن قريشٍ خبره، فكتب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه وأرضاه- إلى قريشٍ كتاباً يحذرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت المرأة ومعها الكتاب، فنزل جبريل من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر، فبعث عليه الصلاة والسلام علياً، فأدرك المرأة في الروضة، فقال لها: أخرجي لي الكتاب، فأنكرت، فقال لها: إن لم تخرجيه لأجردنك، فتنحت عنهم وأخرجت كتاب حاطب رضي الله عنه من تحت شعرها، فأخذ علي الكتاب، وأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) تصوروا مثل هذا الموقف، صحابي يكتب بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعدائه، وفعل ذلك على غرة دون علمٍ من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، (فلما وقف عليه الصلاة والسلام على الخبر، وقرأ الكتاب واستبان الأمر، وحاطب أمامه، قال: يا حاطب! ما حملك على هذا؟) ما الذي حملك على أن تكتب لقريشٍ بهذا الأمر؟ هل سبه أو شتمه؟ لا، بل يسأله عن العذر أولاً؛ لكي يعلم ما الذي دفعه إلى ذلك (قال حاطب رضي الله عنه: والله -يا رسول الله- ما فعلت ذلك حباً للكفر، ولا إيثاراً له عن الإسلام، ولكنني رجل لا عشيرة عندي، وإني أخاف على قومي، فأحببت أن أتخذ يداً عند قريش، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم). قد ترى من رجل بعض الزلات والهنات، فاذكر ما لهذا الرجل من الحسنات أو المواقف الطيبة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عظم الله -من فوق سبع سماوات- لـ حاطب موقفاً شهده، نصر به الإسلام، فما كان ربك نسياً. فينبغي على الداعية إلى الله أن يأخذ الناس بالتي هي أحسن إلى السبيل الأقوم والهدي الأكمل والأجمل بلسانه الطيب وكلماته الرقيقة. وما من إنسان يحرص على الدعوة بالأسلوب الطيب والكلمات الطيبة إلا وضع الله له الأثر؛ فإن الكلام الطيب حسن الوقع والأثر في القلوب، فالطيب لا ينبت إلى طيباً، ولا يأتي إلا بالطيب، والله عز وجل قال: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100]. فاتقوا الله، فكلما كان الإنسان في دعوته يخرج منه الكلمات الطيبة ويأخذ بمجامع قلوب الناس بالتي هي أحسن؛ كلما نفع الله بدعوته. أيها الأحبة في الله: الحديث عن الدعوة يطول، ولكن أحب أن أنبه على أن الدعوة إلى الله لا تقتصر على منبر، ولا تقتصر على تعليم أو توجيه في مكانٍ جامع، بل أنت داعيةٌ إلى الله في كل لحظة وفي كل طرفة عين ما دمت منتسباً للإسلام ومتبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلم أنك إذا جئت بين قومٍ ضلوا السبيل، وأنت مهتدٍ بسبيل الله، فاعلم أن العيون تلحظك، وأن الناس ينظرون إليك كقدوة وإمام وداعية إلى الخير. علينا أن نعلم أن الدعوة ليست محجورة أو محصورة على الخطبة أو الموعظة، أو على من يخطب أو يعظ، بل أنت داعية إلى الله في كل كلمة تقولها وتهدي بها إلى صراط الله، لو قلت لابنتك: اتق الله، فأنت داعيةٌ إلى الله، ولو قلت لابنك: خف الله، فأنت داعيةٌ إلى الله، ولو أمرت بأمرٍ أمر الله به أو نهيت عن نهيٍ نهى الله عنه، فأنت داعيةٌ إلى الله.

إكثار الداعية من ذكر الموت والآخرة

إكثار الداعية من ذكر الموت والآخرة أختم هذه الكلمات بأمرٍ عظيم ما وفق الله له الداعية إلا كان له خير الدنيا والآخرة، هذا الأمر العظيم الذي لا ينال إلا بتوفيق الله ذي العزة والجلال، هذا الأمر العظيم الذي إذا وقر في القلب أتبعه الإنسان العمل، ألا وهو كثرة ذكر الآخرة. ينبغي للداعية إلى الله أن يعلم أنه إلى الله صائر، وأنه منقلبٌ إلى الجنادل والحفائر، فإن وجد ثمار دعوته، فرمقته العيون، وأصغت إليه الأسماع، فليعلم أن الله يحاسبه، وأن الله سائله، وأن الله موقفه بين يديه، وقائلٌ له: عبدي ماذا أردت بهذا؟ فإن قال: أردت وجهك وما عندك -وكان صادقاً- قال الله: صدقت، وقالت الملائكة: صدقت، وقال الله: اذهبوا بعبدي إلى الجنة. إذا أحس الداعية إلى الله أن له موقفاً بين يدي الله هانت عليه الدنيا وما فيها. إذا أكثر الداعية من ذكر الموت والبلاء وقرب المصير إلى الله جل وعلا، هانت عليه الدنيا وما فيها وأصبحت كلماته ومواعظه للآخرة، فنفع الله به وانتفع. أيها الأحبة في الله! نقول ونعمل، وبين يدي الله نسأل، ولسنا ندري أهذه الأمم التي وراءنا تقاد إلى روضة جنة أم إلى حفرة نار. فنسأل الله العظيم بعزته وجلاله أن يجعلنا ممن أراد وجهه وأراد ما عنده، ونسأله جل وعلا أن يعمر قلوبنا بإرادة وجهه الكريم. اللهم إنا نسألك الفقر إليك، والغنى بك، والتوكل عليك، وصدق اللجوء إليك. اللهم املأ قلوبنا بحبك وحب كل شيءٍ يزيدنا من حبك، واجعل جوارحنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، نسألك عيشة السعداء، وميتة الشهداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأسأله تعالى أن يجعل هذا كله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

وصايا تقوي الهمة في طلب العلم

وصايا تقوي الهمة في طلب العلم Q إذا بدأ طالب العلم طلبه للعلم فإنه يجد العزيمة والهمة في ذلك، ولكن بعد فترة تصيبه الفترة والخمول؟ فهل يؤثر ذلك في إخلاصه؟ وما هو سبب ذلك الخمول؟ A هذا الفتور ابتلاءٌ وامتحان من الله عز وجل، فإذا ابتدأ طالب العلم في طلبه للعلم فإن الله عز وجل يمتحنه ويختبر صبره، فيجد شيئاً من الفتور والضعف، والله عز وجل من حكمته أنه يجعل للعلم في أوله لذة وحلاوة حتى يتمنى طالب العلم أنه عالم بين العشية والضحى، بسبب ما يجده من حب للعلم، لكن الله سبحانه وتعالى لابد وأن يختبر صبرك وإيمانك وصدقك في العزيمة والرغبة فيما عند الله عز وجل، فيبتليك بالفتور. وقد يكون هذا الفتور بسبب الذنوب والمعاصي، نسأل الله السلامة والعافية، فما على طالب العلم إذا وجد مثل هذا إلا أن يتضرع بالدعاء لله عز وجل أن يعينه ويوفقه ويثبته، فكم من طالب علم ابتلي بمثل هذه الابتلاءات، فصبر وصبره الله عز وجل حتى جاءته العاقبة الحسنة، فالذي أوصي من وجد الفتور، أوصيه بأمور: أولاً: الاستغفار، فإن الله تعالى يقول: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]. فإذا أراد طالب العلم أن يصرف الله عنه الفتور وما يجد في نفسه من الضيق فليكثر من الاستغفار؛ لأنه معذب، والعذاب لا يرفع إلا بالتوبة والرحمة من الله عز وجل. أما الأمر الثاني: أن يبحث عن عالمٍ يشحذ همته، فيوصيه ويقرع قلبه بقوارع التنزيل، وبما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور التي تحيي في النفس حب الخير والإقبال عليه، وتشحذ الهمة بطلب العلم أكثر. ثالثاً: أوصيه بكثرة قراءة سير السلف الصالح، فإنك ما أصبت بضعف أو فتور في طلب العلم فتقرأ سيرة عالم إلا خشع قلبك، وصدقت عزيمتك، وأحببت أن تكون مثله؛ لأن الله جبل قلوب أهل الخير على حب الخير والشوق إليه، فإذا قرأت سيرة العالم العامل تأثرت، فإذا لم تجد كتباً بحثت عن عالم تجلس معه يحدثك عن سير العلماء وما لاقوا من البلاء، فسافروا وتغربوا عن الأوطان والأهل والولدان، ونحن اليوم تأتينا فتن أخرى من الملهيات والمغريات والشواغل، فلكل زمانٍ بلاؤه، فعلى طالب العلم أن يعلم أن هذه الأمور تنصرف بحسن الظن بالله عز وجل وقراءة مواقف العلماء الصادقين؛ لأنها تسلي وتقوي العزيمة كما قال الله عز وجل: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] قال العلماء: فيه دليل على أن القصص تثبت القلوب، فإذا أحس طالب العلم أن قلبه يريد أن يضعف ثبته بسير الصالحين وسير العلماء العاملين الأئمة المهديين، فزاده ذلك عزيمةً على الخير، وثباتاً على الخير. ومما يقوي الهمة: تذكر حسن العاقبة، فإن لأهل العلم وطلاب العلم مراتب ومنازل، فمن كان أكمل صبراً وأكمل وثباتاً كانت عاقبته أعظم. ويقول بعض العلماء: قل أن تجد إماماً يصل إلى درجة عالية في العلم إلا وجدت صفحات صدره على أكمل ما تكون، فإذا جاء البلاء وانصب عليك بقوة، فاعلم أنك صبرت بقوة كان فتح الله عليك بقوة وبكثرة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] فكل من يصبر يكون إمام هدىً وداعيةً إلى الخير على قدر صبره، ومعنى الآية: أنه إذا كمل الصبر كمل فتح الله على العبد، فبمقدار تعبك ونصبك وجدك واجتهادك وثباتك يكون فتح الله عليك، فاصبر وصابر واحمد الله جل جلاله. وانظر إلى أهل المعاصي وهم يسهرون عن المعاصي ويصبرون عليها حتى يتعلمون الشرور والآفات، فكيف وأنت على طاعة الله جل جلاله؟! إنك تجد بعض أهل الفساد يتغرب عن أهله ويبتعد عنهم ويعاني من المشقة ما الله به عليم، وهو في مخدرات ومعاصٍ ومنكرات، نسأل الله السلامة والعافية، أما أنت فتخوض غمار رحمة الله جل جلاله، فعليك أن تعرف قدر النعمة التي أنت فيها. المشكلة أن كثيراً من طلاب العلم يأتيهم الضعف بأسبابٍ من أنفسهم، وهذه هي البلية، فلو أن كل طالب علم أحس بضيق نظر إلى نفسه وقال: أنا حينما أخرج من بيتي إلى مجلس هذا العالم، أليس الله عز وجل يكتب لي خطواتي وحركاتي وسكناتي أنفاسي وجهدي؟ فلو حدث نفسه بذلك لهانت عليه الدنيا وما فيها من تعبٍ ونصب، فأي طاعة أو قربة تريد أن يثبتك الله عليها فاستشعر أن الله يسمعك ويراك وأنه يرضى عما تعمل؛ فإذا جلست في مجلس ذكر وأنت تعلم أن الله يرضى عن جلوسك ويحب أن يراك بين العلماء وبين طلاب العلم، وأن الله يحب أن يراك ساهراً في العلم، مذاكراً له منتفعاً به، إذا علمت أن الله يحب منك ذلك كله أحببت العلم وصبرت عليه، ما الذي جعل السلف الصالح رضوان الله عليهم يكتحلون السهر وتتقرح أقدامهم في الأسفار والمشقات والمصاعب، يتغربون عن الأوطان ويرون الموت وهم يخوضون البحار والفيافي والقفار لطلب الحديث؟ إنما فعلوا ذلك كله لأنهم علموا أن هذه المشقات والمتاعب كلها في ميزان الحسنات، إذا شعرت بسآمة وملل فما أتتك إلا من الغفلة؛ لأن من غفل عن أنه يعامل الله، لن يستطيع السير والصبر. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، ألا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا. ربنا هب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من عاداك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

التدرج في طلب العلم على ضوء ما يقرره العلماء

التدرج في طلب العلم على ضوء ما يقرره العلماء Q فضيلة الشيخ! ما الكتب التي تنصح الداعية بقراءتها في الأصول والفقه والعقيدة والتفسير؟ A خير ما يوصف به من أراد أن يتعلم العلم النافع، وأن يهتدي إلى الصراط المستقيم، فليلتزم بكتاب الله، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] فالله عز وجل جعل هذا الكتاب هادياً لأقوم السبل، فإذا أردت أن تتعلم فأول ما تسأل عنه: ماذا قال الله، وقال رسوله عليه الصلاة والسلام؟ تبحث عن الأساس، فكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هما السبيل الأقوم والصراط الذي لا نجاة للعبد إلا بهما، وهما الصراط الذي تسأل الله في كل صلاةٍ تصليها بين يديه، وتقف بين يديه حين تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وليس هناك صراط مستقيم إلا صراط القرآن. قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] قالوا: هو كتاب الله جل جلاله، فالذي يريد أن يدرس العقيدة والفقه والحديث ويدرس الأحكام فعليه أن يبدأ أولاً بكتاب الله عز وجل، وإذا بدأ بكتاب الله، فإنه يصيب السداد والرشاد على أتمه وأكمله. ما ضرنا اليوم إلا الاشتغال بالفروع عن الأصول، وتجد الشخص إذا أراد أن يخطب خطبة أو يحضر موعظة يبحث عن كتب معينة فيها كلمات وأساليب وألفاظ وعظية معينة، وقلَّ أن تجد من تنعم عينه بكتاب الله جل جلاله، ولو أن كل داعية قبل أن يدعو وقف أمام كتاب الله وسأل نفسه قبل أن يتكلم، ماذا قال الله وماذا قال رسوله صلى الله عليه وسلم لكان خيراً له، فإذا جاء يبث للناس بث لهم كلاماً من كتاب الله، حتى وإن لم يأتِ بالآيات أتى بمضمونها وبما فيها من دلائل وحجج: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] فلا أصدق من الله قيلاً: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58] فأكمل ما يكون الهدي والاهتداء في الكتب والرسائل والمسائل كتاب الله جل جلاله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يكون الفقيه أو المعلم ملتزماً بكتاب الله، فيأتي إلى الباب وينثر حجج القرآن والسنة ودلائلهما، وما كان عليه سلف الأمة بينة ومحجة واضحة، فإذا وفق الله طالب علم بهذا فإنه سيوفق كما وفق سلفه، وقد كان بعض العلماء يقول: من أراد التوفيق على أتم ما يكون، فلينظر إلى حال السلف رضوان الله عليهم. السلف لم يتجاوزوا كتاب الله، بل كانوا مع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل منهم إذا أراد أن يتكلم فأول ما يبحث في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يقدموا بين يدي الله ورسوله. جاءت امرأة إلى الشافعي -رحمه الله برحمته الواسعة- وسألته عن حجية السنة، فقالت: لماذا السنة حجة ودليل؟ قال لها: أنظريني ثلاثة أيام -وهنا وقفة: انظروا إلى أمانة السلف وإلى علمهم، لم يتسرع بالإجابة، بل قال: أنظريني ثلاثة أيام، أتعرفون لماذا ثلاثة أيام؟ لأنه كان -رحمه الله- يختم كتاب الله في ثلاثة أيام، ومعنى قوله: أنظريني ثلاثة أيام، أي: سأعرض ما سألتي عنه على كتاب الله حتى أعلم ماذا يقول الله- ثم في اليوم الثالث -في وقت السحر- كبّر رحمه الله عندما قرأ قوله تعالى: {َمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فجاءت المرأة فأخبرها بالآية التي هي من أقوى الحجج -وإن كان كتاب الله فيه حجج أخرى، لكن: {َمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وهناك حجج أخرى موجودة {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] فـ الشافعي رحمه الله أراد أن يعرض القرآن كاملاً، فوجد أقوى الحجج والآيات وأدمغها في الدلالة على حجية السنة، فأهم ما يتواصى به طلاب العلم -بل الناس جميعاً- الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ففي العقيدة ترجع إلى ما قال الله وما قال رسوله صلى الله عليه وسلم، انظر إلى كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله برحمته الواسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- تجده مشبعاً بآيات الله وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد عجبت في بعض الأحيان عند بعض المسائل التي يختارها رحمه الله، تكاد المسألة لا تتجاوز ألفاظ الآية، وهذا والله لا شك أنه توفيق، ثم انظروا كيف وضع الله له القبول، وكيف نفع الله به الناس، فكلما كان الإنسان ملتزماً بالكتاب والسنة وكان مهتدياً بهديهما، نفع الله بقوله. ولا يعني ذلك أن نرجع مباشرة إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ونترك العلماء، قال الإمام ابن القيم: نصٌ من كتابٍ وسنةٍ وطبيب ذاك العالم الرباني لا يكفي الكتاب والسنة، بل لابد من دليلٍ وهادٍ يهدي إليهما، ويبين ناسخ القرآن من منسوخه، ويبين حججه ومحجته، وهو العالم العامل. ليرجع طالب العلم إلى العلماء ويفهم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريقهم، فالله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] اسألوا أهل الذكر، فمن عرف بحب كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولزومهما، فهو العالم الذي تنعم به العيون، وهو العالم الهادي إلى صراط الله، الدال على طريق الله الذي ينتهي بمن اتبعه وسلك سبيله إلى الجنة. أما الكتب: ففي كل علم مراتب ومتون ذكرها العلماء يتدرج فيها طالب العلم، والأفضل لطالب العلم إذا أراد أن يتعلم أن يأخذ بصغار العلم قبل كباره، فإذا أراد أن يقرأ العقيدة فليرجع إلى شيخه ليختار له الكتاب الذي يقرؤه عليه، ابدأ -مثلاً- بكتاب التوحيد ثم تدرج حتى تصل إلى العقيدة الطحاوية، ويتدرج في المتون في الفقه، فيبدأ -مثلاً- بعمدة الفقه للإمام ابن قدامة، ثم المقنع، ثم الكافي، ثم المغني، ويتوسع بعد ذلك حتى يبلغ درجة الاجتهاد، ويبدأ في أصول الفقه بالورقات، ثم يتوسع بعدها إلى الروضة، ثم المستصفى ثم المطولات، وهكذا في الحديث، يبدأ بما صح من الصحيحين كعمدة الأحكام فيحفظها ويبدأ بالأحاديث الجامعة كالأربعين النووية، ثم بعد ذلك يتوسع بعد عمدة الأحكام وينتقل إلى المحرر، ثم ينتقل إلى بلوغ المرام، ويتوسع بعد ذلك في متون الحديث على حسب ما يقره له علماؤه ومشايخه، والله تعالى أعلم.

تعيير الناس الداعية بفساد أقاربه

تعيير الناس الداعية بفساد أقاربه Q فضيلة الشيخ! إذا كان بيت الداعية على غير استقامة وأصبح يعير لذلك في حيه إذا أراد أن يدعو إلى الله، فما هي الوصية في هذا الأمر؟ A الداعية إلى الله يدعو إلى الناس بقوله وعمله، ولو كانت بيئته وأهله وقبيلته وأمته التي خرج منها ضالة بعيدة، فلا يضره ذلك شيئاً، ما ضر عكرمة كفر أبيه. فالداعية إلى الله يبحث عن رضوان الله، ولا يلتفت إلى ما يقوله الناس، فلست بمسئولٍ عن قرابتك إذا بلغتهم رسالة الله على وجهها، فالرسول عليه الصلاة والسلام قد وقف أول موقف في الجهر بالدعوة، فكان أول من سفهه ورد عليه على الأشهاد عمه أبو لهب، (فقال له: تباً لك، ألهذا جمعتنا) فأنزل الله من فوق سبع سماوات غيرةً على نبيه، قال سبحانه وتعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] فجعله في تبابٍ إلى يوم القيامة، وجعله يوم القيامة في أعظم التباب وأشد النكال، نسأل الله السلامة والعافية. فالذي يريد أن ينظر إلى أهله وجماعته وإخوانه أو أحدٍ يقول له: كنت وكنت، وفعلت وفعلت، فإنه لن يستطيع أن يدعو، فلا عليك من كلام الناس إذا وجدت الحلاوة وأردت أن تعامل الله وأن تشكر نعمته عليك، فعاجل ما تنتظره من عظيم الأجر عند الله؛ أن تؤذى في ذات الله جل جلاله. يقول بعض العلماء: من دلائل القبول للداعية أن يؤذى في بداية دعوته. ولذلك بمجرد ما يأتي الداعية يريد أن يتكلم يقول له قائل: اسكت فمن أنت؟ أنت الذي كنت تفعل وتفعل، اسكت فمن أنت حتى تتكلم، فأبوك ليس بعالم، ولا جدك، فما عليك من سخرية الساخرين وتهكم المستهزئين، وعليك برضوان الله رب العالمين. فهذا لوط عليه السلام أوذي بزوجه، وهذا إبراهيم عليه السلام أوذي بأبيه، وأوذي نوحٌ عليه السلام بابنه، ويقول العلماء: ما ذكر الله هذه القصص إلا لكي تكون سلواناً لكل داعيةٍ إلى الله ولكل هادٍ يهدي إلى صراط الله، فعليك أن تبحث عن مرضاة الله جل جلاله ولا تلتفت إلى غيره، وأسأل الله العظيم أن يصرف عنا قول الناس وضرهم، وأن يجعلنا ممن أراد وجهه وابتغى ما عنده. قال الله تعالى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]. فمن أراد الوجاهة عند الله فليصبر على طعن الناس فيه وفي زوجته وأهله وولده، قد يأتي الداعية يريد أن يدعو فينتشر بين الناس أن زوجته ليست بملتزمة، وأن أولاده ليسوا بملتزمين، فما دام أنه نصحهم ووعظهم وذكرهم بالله فهو على خير، ولا يضره كلامهم شيئاً وإذا صدق مع الله وبلغ رسالته إليهم، فقد أعذر إلى الله، وذلك لا يمنعه من تبليغ رسالة الله إلى عباده، والله تعالى أعلم.

وصايا لمن وضع له القبول بين الناس

وصايا لمن وضع له القبول بين الناس Q إذا وجد الداعية القبول لدعوته، فإنه يجد لذلك ارتياحاً وفرحاً وانشراحاً فهل يقدح ذلك في إخلاصه؟ A الله المستعان، ينبغي على الداعية ألا يلتفت إلى الناس، فلو أن الأمة كلها أحبت العبد والله ساخطٌ عليه فماذا ينفعه؟ وإذا رضي الله عن العبد والأمة كلها ساخطةٌ عليه فلا يضره ذلك. إذا كان العبد لله ورضي الله عنه، نعمت عينه وإن كان الناس كلهم بمعزلٍ عنه، ولكن إذا وجد القبول، فليعلم أن عليه -أولاً-: أن يشكر الله جل جلاله مقلب القلوب والأبصار، فيقول: يا رب! ما زلت تُنعمُ علي، وما زلت تتفضل علي، فأنت صاحب الفضل أولاً وآخراً، ولا يعتقد أن لسانه أو كلماته ومحاضراته ودروسه تغني له من الله شيئاً، ولو شاء الله في طرفة عين أن يسلب من قلوب العباد حبه لسلبه، فهو على كل شيءٍ قدير، ولو شاء الله في طرفة عين أن يقلب العباد كلهم على حبك وإجلالك وهم في سخطٍ لك لفعل، فالله على كل شيءٍ قدير. فينبغي على الداعية ألا يلتفت إلى الناس، بل ينظر ويراقب الله جل جلاله، حتى إذا علم أن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بهذه النعمة أجلَّ نعمة الله، ومن عرف نعم الله شكرها وحفظها وحافظ عليها وقام بحقوقها. فعلى الداعية إلى الله إذا رأى القبول أن يثني على الله بما هو أهله، وأن يعلم أن هذا القبول كله مسئوليات وتبعات وأمانات يحملها على ظهره في الدنيا ويسأل عنها بين يدي الله جل جلاله، فلو سأله الله: قد وضعت لك القبول، فماذا قدمت لي؟ فماذا يقول وبماذا يجيب؟ ثانياً: ألا يأمن من مكر الله فتزل قدمٌ بعد ثبوتها، فإن الله مطلعٌ على قلبه، فإن رأى في قلبه أنه لا يميل إلى الناس ثبته ووفقه وسدده، والله على كل شيءٍ قدير، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) أنت بكلماتك ومواعظك لا شيء، فإذا كنت تظن أن كلامك ومواعظك وحسن بيانك هو الذي جمع الناس حولك، فما صدقت ولا بررت، فكم من بليغ هو أبلغ منك ولا يجد ربع ما تجده، وكم من فصيح هو أفصح منك، ويجد ثُمنَ أو عُشرَ معشار ما تجده، ولكن الفضل كله لله. فأول ما ينبغي على الداعية أن يوطن نفسه على حب الله وإجلاله وشكره والثناء عليه. ثالثاً: إذا أحس الإنسان أن النعمة نعمة الله وأن الفضل كله لله؛ خاف من الله جل جلاله أن يكون استدراجاً، فإن الله يستدرج العبد من حيث لا يحتسب، فعليه أن يتقي الله فيما يقول ويعمل، فيأخذ بهذه الأمة التي وضع الله له القبول فيها إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا إلى مجده وإلى شخصه والثناء على نفسه، ولا يحتكر هذه النعمة، فيخون الأمانة ويضيع عباد الله على حساب ما يكون له من حظوظ، بل ينبغي أن يصوغ القلوب كلها لله، وفاءً وشكراً لنعمة الله جل جلاله عليه. انظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى بأم عينيه القبول في الأرض؛ قام حتى تفطرت قدماه من طول القيام، وقالت له أم المؤمنين: (يا رسول الله! أوتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) فينبغي على الداعية أن يجعل كل ما عنده -ممن التزم سبيله وسار على نهجه- على صراط الله، فالله معك لئن أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، ووفيت له في دعوتك، فهذه من الأمور التي ينبغي أن يتواصى بها، فإذا وجدت في حيك ومسجدك القبول بين الناس، فصغ عباد الله لله، وارجُ الثواب من الله، فإنك إن فعلت ذلك شكر الله سعيك، وأعظم أجرك، ورفع ذكرك، وأحسن العاقبة لك في الدنيا والآخرة. ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، ونسأله تعالى ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يصرف عنا فتنة الرياء، وفتنة السمعة والثناء، وأن يجعل أقوالنا خالصة لوجهه حتى نقف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

التفصيل بين طلب العلم وغيره من العبادات التفرغ لطلب العلم وإتقانه إولى

التفصيل بين طلب العلم وغيره من العبادات التفرغ لطلب العلم وإتقانه إولى Q فضيلة الشيخ! هل الأولى أن يصرف العبد أغلب أوقاته في العبادة والنوافل، أم الأفضل أن يعكف على طلب العلم والدعوة إلى الله؟ A هذا أمر يختلف باختلاف الناس، فإذا كان الإنسان يستطيع أن يفرغ نفسه لطلب العلم ويعطي العلم حقه من الحفظ والفهم والإتقان ويخرج للأمة إمام هدىً، على بصيرةٍ من الله ونورٍ يخرج إلى الناس لكي يسد لهم ثغرةً من ثغور الإسلام، فإن تعلم العقيدة أتقنها، وعرف ما فيها، وأقام الناس على الصراط السوي في العقيدة، وذب عن الإسلام فردّ الشبهات والضلالات، وقام لله بحقه، وإن تعلم الفقه تعلم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف الحلال والحرام، وعرف الشريعة والأحكام، وقام بذلك على أحسن وجه وأتقن أتم الإتقان وأكمله، فهو على خيرٍ عظيم، وهو بخير المنازل يوم القيامة؛ لأن العلم هو أشرف ما يطلب، وأفضل ما يكون، وهو أفضل من العبادة. أما إذا كان الإنسان قد فتح الله عليه في العبادة ويريد أن يجمع بين العلم والعبادة فهذا شيءٌ طيب، ولكن الأفضل والأكمل أن يتقن العلم، وأن يفرغ نفسه للعلم ولضبط العلم حتى يسد الناس ثغرة هذا العلم وخاصةً في هذا الزمان الذي قل فيه العلماء، وكلما فقدت الأمة عالماً قل أن تجد من يخلفه. كانت القرون الماضية إذا مات عالم خلف للأمة علماء فعندما توفي زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه -الصحابي الجليل العالم العامل العابد القانت- وبلغ الخبر أبا هريرة رضي الله عنه بكى، وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً -فقد كان زيد رضي الله عنه أعلم الناس بكتاب الله أعلمهم بالحلال والحرام، وأعلمهم بما في القرآن من حدود، وأعلمهم بأوامر الله ونواهيه- ولعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس خلفاً من زيد). لأن ابن عباس لزمَ زيداً، وقد كان يأتي في شدة الظهيرة وينام على بابه، ويأتي في ظلمة السحر وينام على باب زيد، إعظاماً لكتاب الله، وإجلالاً لأهل كتاب الله -رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الأمة والإسلام خير الجزاء- فخرج بحراً حبراً للأمة وعالماً من علماء المسلمين، فكان العلماء إذا ماتوا وفقدوا خلفوا من ورائهم أمة، ولكن اليوم إلى الله المشتكى! فكون طالب علم يحتسب عند الله أن يتقن ثغر العلم، وأن يلتزم بالتعلم وبحلق العلم، ويحب العلماء، ويحرص على مجالسهم والاستفادة من علومهم، فهذا من أفضل ما يكون، فقراءة العلم والنظر في كتب أهل العلم عبادة، والتفكر والتدبر في المسائل ومناقشتها ومناظرتها بنية الوصول إلى الحق عبادة، ولا تزال في عبادة ما كتبت وسمعت وتعلمت ومشيت، فأي مقامٍ مثل هذا المقام؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله -وإذا سهل الله فلا تسأل- له به طريقاً إلى الجنة) يقول العلماء: أقرب السبل إلى الجنة طلب العلم، فنحن نقول: إذا كان الإنسان يستطيع أن يتفرغ للعلم ويعطي العلم كليته ويجعل له حظاً من قيام الليل ومن صيام النهار وحظاً من العبادة والبكاء والخشوع والقراءة في سيرة السلف الصالح، فقد جمع بين الحسنيين، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.

أفضلية الجمع بين طلب العلم والدعوة إلى الله

أفضلية الجمع بين طلب العلم والدعوة إلى الله Q فضيلة الشيخ! ما هو الأفضل للداعية: أن يعكف على طلب العلم حتى يبلغ الحد الذي يؤهله ليكون داعية، أم يجمع بين طلب العلم والدعوة؟ A الأفضل والأكمل أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، أن تجعل لك وقتاً لطلب العلم، ووقتاً للدعوة إلى الله، وطلاب العلم يختلفون، فهناك من هو قليل العلم، لا ينبغي أن يشغل نفسه بالدعوة حتى يتسلح بالعلم، وهناك من هو في بيئة تحتاج إلى كل كلمةٍ منه، وتحتاج إلى العلم القليل الذي عنده، فينبغي عليه أن يؤدي رسالة الله، وأن يتكلم بما عنده من الخير ويبثه للناس. كان بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الليالي ذوات العدد، فيمكث عنده، فيقول عليه الصلاة والسلام: (انطلقوا إلى أهليكم فعلموهم) فإذا كان الإنسان في بيئة تحتاج إليه، وتحتاج إلى مواعظه وتذكيره وإلى خطبه، فليحرص على أن يجعل لهم حظاً من ذلك ونصيباً، فإن الله سائله عن ذلك، ولا ينتظر حتى يكمل طلب العلم، بل يبذل ما عنده من العلم والتوجيه حتى يعذر إلى الله عز وجل بتبليغ رسالته وأداء أمانته. والأفضل أن يجعل له وقتاً من الأسبوع للدعوة، فيخرج مثلاً يوم الخميس أو الجمعة حسب المستطاع له، ولن نستطيع أن نضع للناس برنامجاً أو طريقة؛ لأن وضع البرامج في هذا من الخطأ، فقد يناسبُ قوماً ولا يناسبُ آخرين، ولكن اتق الله وسدد وقارب، فلن تزال بتوفيقٍ من الله ما سددت وقاربت، والله تعالى أعلم.

ساعدوا أهل كوسوفا

ساعدوا أهل كوسوفا لقد ربط الله عز وجل بين المسلمين برابطة الإسلام، وجعلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وما نراه اليوم من تكالب الأعداء على أمة الإسلام، وتداعيهم عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، ليؤذن باتحاد المسلمين وتعاطفهم وتراحمهم فيما بينهم، والتناصر بالنفس والمال والدعاء على قدر الاستطاعة.

وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر

وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: أحب في الحقيقة أن أذكر الإخوان جميعاً بأمرٍ مهم لابد من العناية به، خاصةً في هذه الأيام، وهو ما أصاب إخواننا الألبان في كوسوفا، وهم الآن في أشد الحاجة إلى معونة إخوانهم المسلمين، والوقوف معهم، فإن الله جمع بالإسلام بين المسلمين، وألّف بين أرواحهم، وجعلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن كمُل إيمانه وإسلامه كان مع أخيه كالجسد الواحد، يتألم بآلامه! ويفرح بأفراحه! وإن المسلم ليأرق ويتألم وهو في مشرق الأرض لأخيه في مغربها؛ لأن أخوة الإسلام أعز من أخوة النسب، وأعز من كل أخوة، وإن الله ليرضى عن المسلم الذي تدمع عينه، ويتقرح قلبه لإخوانه المسلمين؛ لأن هذا الألم والحزن يدل على كمال الإيمان والرحمة التي أودعها الله في القلوب، ومن رحم أخاه المسلم رحمه الله في الدنيا والآخرة.

النصرة بالمال والدعاء

النصرة بالمال والدعاء وهذه هيئات الإغاثة، والمؤسسات الخيرية، أسأل الله العظيم أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتسديده، وأن يلهمهم الصواب والرشد، لقد فتحت ذراعيها للمعونة والمساعدة، قد تزور إنساناً غنياً تقول عنده كلمة، تأمره فيها بنصرة هؤلاء الضعفاء، يكتب الله لك بها رضاه إلى يوم تلقاه، (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، تأتي إليه وتذكره بهؤلاء الضعفاء، والله سبحانه وتعالى جعل أبواب الجنة خاصةً في الكربات، فقد تكون الكربات سبباً في دخول الجنة، فكم من متكلم في مثل هذه الحوادث والنكبات يكتب الله له رضاه بكلمات! وكم من كلمات حرّكت القلوب فكفكفت دموع اليتامى، وجبرت قلوب الثكالى، كتب الله عز وجل بها مثاقيل الحسنات! فاحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى، تكون المساعدة بالمال وبكل ما يستطيع الإنسان، تجب علينا نصرتهم ومعونتهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فالمسلم أخو المسلم! ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في هذا الأمر وجب علينا أن نستشعر هذا الأمر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استنصر، وأنه رفع يديه وكفه إلى الله مستغيثاً مستنصراً. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تجعل لإخواننا في كوسوفا وفي كل مكانٍ من كل همٍ فرجاً، اللهم اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية. اللهم ثبت أقدامهم، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم. اللهم اعطف قلوب عبادك عليهم يا حيُ يا قيوم! اللهم اجبر كسرهم، وارحم ضعفهم، وفرج عنا وعنهم يا حيُ يا قيوم! اللهم إن نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أن تدمر الكافرين ومن أعانهم. اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم أحصهم عدداً، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تغادر منهم أحداً، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وسلم المسلمين من شرورهم، يا حيُ يا قيوم! يا حيُ يا قيوم! يا حيُ يا قيوم! إنك على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله.

وجوب النظر في أحوال المسلمين والشعور بالمسئولية

وجوب النظر في أحوال المسلمين والشعور بالمسئولية فالواجب علينا أن نتذكر وأن ننظر في أحوال إخواننا، وأن نحس بالمسئولية، والواجب الذي يحتمه علينا ديننا، ويفرض عليه إسلامنا أن يحس المسلم بما أصاب إخوانه من هذه الأذية، وهذا الاضطهاد والظلم والعسف والجوع الذي ضيعت فيه حقوقهم! وانتهكت فيه أعراضهم! وسفكت فيه دماؤهم! ولا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم! الواجب على المسلم أن يبذل كل ما يستطيع، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ لنصرة إخوانه المسلمين، وهذا أمر محتم يوجبه علينا إسلامنا وديننا أن نرى هؤلاء المسلمين يشردون ويقتلون، وما نقموا منهم إلا الإسلام، والله لا الأرض، ولا المال، ولا النسب، ليس هناك إلا الإسلام! والمسلم العاقل الواعي يدرك هذه الحقيقة، فليس هناك أي أمر يؤذون من أجله إلا الدين، وما نقموا منهم إلا الإيمان بالله عز وجل، في تلك البقعة التي قلَّ أن يوجد فيها مسلم. حنق أعداء الله -شتت الله شملهم، وفرق جمعهم، وجعل بأسهم بينهم- كيف يكون الإسلام في عقر تلك الدار التي قل أن يوجد فيها مسلم! ويبقى هذه القرون وهذا الردح من الزمن! وهذه الأمة تفتخر بإسلامها، متمسكةً بدينها، تحس أنها مرتبطة بالدين! مرتبطة بأعز شيء! وهي اليوم تقف في أمس الحاجة إلى رحمة ربها أولاً وقبل كل شيء، ثم رحمة إخوانهم من المسلمين، الله الله إخواني في الله!

مسئولية طلاب العلم والخطباء تجاه إخوانهم المضطهدين

مسئولية طلاب العلم والخطباء تجاه إخوانهم المضطهدين على طلاب العلم والأئمة والخطباء أن يعتنوا بهذا الأمر، لا يجوز خذلان المسلم، ومن خذل أخاه المسلم خذله الله في الدنيا والآخرة، والمصائب والنقم تحل سنين إذا خذل بعضهم بعضاً، والله يرفع البلاء على المسلمين إذا كانوا متراحمين متعاطفين، يعطف بعضهم على بعض. كان بعض العلماء يمرض إذا سمع بكارثة نزلت على المسلمين في صقع من الأرض، وكان بعضهم ربما يمرض حتى يعاد مما يجد من الأسى والحزن، ونحن لا نبدي الخور والضعف، فالله يعلم بما يسكن قلوبنا من الثقة بالله جل جلاله، وخير ما تنصرون به إخوانكم أولاً قبل كل شيء ألا تنسوهم من صالح الدعاء، فإن الدعاء حبل متين، ولا يستهن الإنسان بدعوة، فلعل الله أن يجعل دعوتك تفتح لها أبواب السماء يكتب لك أجرها. فأنت إذا قلت اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، كتب الله لك كل ما يكون من هذه الدعوة، فتكون معهم بالدعاء، في سجودك وبين الأذان والإقامة وفي الأسحار. تصور أن هذه المرأة المنكوبة المكلومة المفجوعة المفزوعة أنها أمٌ لإنسان! أو أنها أخت! أو أنها بنت! ماذا يكون حال الإنسان؟! أليس بيننا وبينهم الإسلام؟ أليست هناك وشيجة أعز وأعظم من وشيجة النسب؟ لو أن إنساناً من ذي قرابتك أصابه عشر ما أصابهم لتقرح قلبك! وشعرت بالأسى والحزن فكيف بإخوانك في الله والإسلام؟! فالله الله أيها الأئمة والخطباء وطلاب العلم أن توجهوا الناس وتذكروهم، وأن تعظوهم بهذه الحقوق، ومن نصر مسلماً نصره الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك أعز من أن نعتز بديننا، وأن نشعر أن بيننا وبين إخواننا حقاً عظيماً يحتم علينا الوقوف بجوارهم.

رسالة إلى تاجر

رسالة إلى تاجر التجارة نعمة أنعم الله بها على عباده، يصون الإنسان بها نفسه عن مذلة السؤال، ويكفي بها نفسه وأهله؛ لكن الله جعل للتجارة ضوابط وشروطاً تضبط تداول الأموال بين الناس، فمنع منها ما فيه ضرر على الفرد أو المجتمع، فعلى التاجر -إذا أراد البركة في تجارته- أن يلتزم بضوابط الشرع في البيع، وأن يشكر نعمة الله عليه، فيخرج زكاة ماله، ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويصل رحمه؛ فهذه أمور تزيد من بركة التجارة، وتحقق رضوان الله على العبد.

أهمية التجارة في الإسلام

أهمية التجارة في الإسلام الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: الحمد لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المباركة من هذا الشهر المبارك الكريم، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأسأله بمنه وكرمه كما أكرمنا بهذا الاجتماع في هذه الدار، أن يجمعنا في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. بادئ ذي بدء أشكر من كان له الفضل -بعد الله عز وجل- في هذا اللقاء، وشكر الله لكم مسعاكم، وقرن بطيب الجنة ممشاكم؛ حيث أقبلتم على هذه الروضة من رياض العلم، التي نتدارس فيها ما ينبغي على المسلم في تجارته مع الله عز وجل وتجارته مع الناس. أيها الأحبة في الله: التجارة نعمة من نعم الله عز وجل، وهي مهنة شريفة كريمة، ولو لم يكن في شرفها إلا أن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم عمل بها يوماً من الأيام، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تاجر في مال خديجة رضي الله عنها وأرضاها. هذه التجارة تولاها الأخيار على مر القرون والأعصار من صحب النبي الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، تولاها أبو بكر صديق هذه الأمة، وكان تاجراً ونعم التاجر، وكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عن الجميع. وكان عبد الرحمن له في التجارة ثلاثة مواقف عظيمة جليلة: أولها: أنه قدم إلى المدينة -وهو من أهل الهجرتين رضي الله عنه وأرضاه- فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: يا عبد الرحمن! هذا مالي، أشاطرك هذا المال نصفه لك ونصفه لي، ولي زوجتان انظر إلى أجملهما وأحسنهما أطلقها وتنكحها من بعدي. فقال عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه: بارك الله لك في مالك، دلني على السوق. كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم همة عالية، ونفوس طاهرة زاكية، فاستغنى عبد الرحمن بالله ففتح الله له أبواب الغنى، أقبل على السوق فتعب ونصب، وكان تاجراً أميناً صادقاً وفياً براً في تجارته ومعاملته؛ ففتح الله له أبواب الرحمة؛ فكان له من الخير ما كان. الموقف الثاني الذي كان له: أنه كان ممن يجهز جيش النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، فصدق فيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح). أما الموقف الثالث: فهو أن إحدى أمهات المؤمنين خشعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت وفاته صلوات الله وسلامه عليه؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (يحفظكن من بعدي الصادقون) فكان عبد الرحمن رضي الله عنه وفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أزواجه من بعده، فكان يتحمل نفقاتهن ويكثر الإحسان إليهن، فيا لها من تجارة عادت عليه بخيري الدنيا والآخرة! التجارة نعمة من الله وشرف للإنسان، وأي شرف أن يأكل من كد يديه وعرق جبينه! الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، حينما سُئل عن أطيب الكسب؟ فقال: (عمل الرجل بيده). الإسلام دين عمل، ودين جد واجتهاد، ودين سعي وتحصيل، وليس بدين خمول ولا كسل، فشحذ الهمم إلى هذا العمل المبارك، يصون الإنسان به وجهه عن ذل السؤال وشدة الحال، ولذلك كان من أعظم الأمور بلية على العبد أن يتعلق أو تتعلق حوائجه بالناس. ذكروا عن إبراهيم بن أدهم -عابد من العباد، ورجل من الأخيار الصالحين من سلف هذه الأمة رحمة الله عليهم أجمعين- أنه كان في سفينة فتحركت الرياح وكادت السفينة أن تغرق، فسلم الله ولطف، فلما نجوا من الكربة قال قائلهم: يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة؟ قال: لا والله، إنما الشدة الحاجة إلى الناس. الشدة حاجة الإنسان إلى الناس فإنه يريق بها ماء وجهه، ويذهب بها كرامته، وينال بها شدة الحياة وقسوتها، فإذا فتح الله على العبد أبواب رحمته، ويسر له من عظيم منته ونعمته، فوجد كسباً طيباً يريق به عرقه لكي يحصل به طيب رزقه؛ فهي نعمة من الله عظيمة.

البيوع نوعان مباحة ومحرمة

البيوع نوعان مباحة ومحرمة وقد بين الله عز وجل أن هذه التجارة تنقسم إلى قسمين: تجارة مباحة، وتجارة محرمة. أما التجارة المباحة: فقد أشار الله عز وجل إليها بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]. وأما التجارة المحرمة: فقد أشار إليها باختصار في قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]. قال بعض العلماء: إن الذي أحل الله من البيع أكثر من الذي حرم. ولذلك لما أراد أن يبين سبحانه الحلال قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ما فرق بين بيع وآخر، ولم يقل: أحل الله بيع البيوت ولا بيع الدواب ولا بيع الأطعمة، ولا الأكسية ولا الأغذية، ولكن قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]؛ حتى يعلم المسلم أن الأصل في البيوع أنها حلال ومباحة، حتى يدل الدليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على حرمتها. فعمم الله -جل وعلا- في الحلال، لكن لما أراد أن يحرم قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، قال بعض العلماء: في هذا دليل على سماحة الإسلام ورحمة الله بالعباد؛ حيث جعل الحلال أكثر من الحرام. والذي حرمه الله إما لضرر على الإنسان أو ضرر على الناس، أو ضرر على الاثنين، أو لمقصد شرعي يعلمه الله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].

تحريم البيوع يرجع إلى أربع قواعد أساسية

تحريم البيوع يرجع إلى أربع قواعد أساسية لقد أجمع العلماء على أن التجارة المحرمة أصولها تعود إلى أربعة أمور: أولها: أن يكون الشيء محرماً بذاته. وثانيها: أن يكون محرماً لوجود الربا. وثالثها: أن يكون محرماً من أجل الغرر. ورابعها: أن يتضمن شروطاً فيها الربا أو الغرر أو هما معاً.

تحريم البيع لوجود الغرر والخداع

تحريم البيع لوجود الغرر والخداع هناك نوع ثالث من المحرمات في التجارة، فمن أسباب تحريم التجارة: الغرر. الغرر باختصار -والكلام فيه يطول-: هو المخادعة، يقال: غره إذا خدعه، بمعنى أن البيع يتضمن شيئاً من المخاتلة التي يخدع فيها المشتري، مثلاً: يعطيه شيئاً يحتمل أن يقع ويحتمل ألا يقع، مثل: (سحب الأرقام)، يعطيه أرقاماً معينة، يقول له: اسحب منها رقماً، فإن كان رخيصاً فهو لك، وإن كان غالياً فهو لك. لكن الإسلام يقول: هذا البيع محرم؛ لأن الإنسان قد يدفع ماله، ويظن أنه يحصل على الغالي، فإذا به قد حصل على الرخيص؛ فيندم ويتألم ويغبن في حقه، ويكون ذريعة لأكل الأموال بالباطل، والشريعة تريد من المشتري إذا جاء يشتري ومن البائع إذا جاء يبيع أن كلاً منهما يكون على بينة وعلم، لا تريد الغش ولا تريد الخداع؛ لأن هذا يفسد القلوب. ولذلك قال: إذا كان المبيع مجهولاً أو كان الثمن مجهولاً لا يصح البيع، مثلاً: قال له: بعني هذه السيارة. قال: بعتك. قال: بكم؟ قال: نتفق فيما بعد، فهذا لا يجوز، لابد أن يحدد بكم يكون البيع؛ لأنه ربما أخذتها منك على أننا نتفق، وقيمتها في ظني عشرة، فتقول: هي باثني عشر أو ثلاثة عشر أو أربعة عشر؛ فتتقطع أواصر الأخوة؛ وتحصل النزاعات والخلافات بين المتبايعين. إذن: الشريعة لا تتدخل إلا إذا وجد الضرر أو وجد موجب الفساد. وبيوع الغرر كثيرة جداً، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة، فما معنى بيع الملابسة والمنابذة والحصاة؟ فمن صور بيع الملامسة: في الجاهلية لم يكن هناك أماكن، ورفوف لعرض البضائع وإنما كانوا يفرشون بضاعتهم على الأرض، فيأتي المشتري والبائع يعرض -مثلاً- ثوباً، ويريد المشتري أن يقلب الثوب، فيقول له البائع: لا تقلب الثوب، أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع؛ لأنه قد يكون العيب موجوداً داخل المبيع؛ فإذاً لا يريد الشرع أن يدفع المشتري شيئاً دون أن يكون على بينة من أمره. فنخرج من هذا كله: إلى أن الشريعة حرمت البيع إذا كان هناك ضرر، أما إذا لم يكن هناك ضرر، ولم يكن هناك ما يوجب تحريم البيع؛ فالأصل حل البيع وجوازه.

تحريم البيع لحرمة عين المبيع

تحريم البيع لحرمة عين المبيع أما تحريم عين المبيع فإن الله له حكمه سبحانه وتعالى، يقول هذا حلال وهذا حرام، {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، ملك العباد وما ملكوا، فقد يحرم الشيء لذاته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من البيوع المحرمة في خطبته حينما فتح مكة -صلوات الله وسلامه عليه- في يوم أعز الله جنده، ونصر فيه عبده وصدق فيه وعده -سبحانه وتعالى- فدخل عليه الصلاة والسلام إلى مكة متواضعاً متخشعاً متذللاً لربه سبحانه وتعالى. ولما كان اليوم الثاني -وكان اليوم الأول الناس هم في الحر، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وفتحها- قام خطيباً صلوات الله وسلامه عليه، وعليه عمامته السوداء ممسكاً بعضادتي الباب، فقال في خطبته: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام). أربعة أمور ذكرها: الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام. هذا النوع من التحريم في الشريعة راجع إلى ذات الشيء المبيع، بمعنى أن المبيع لا يصلح أن تدفع الثمن بمقابله. الميتة: أكلها ضرر وأذية، ولا يمكن أن ينتفع بأجزائها، وهي نجسة؛ ولذلك حرم الله بيعها، فلا تباع بذاتها ولا بأعضائها وأجزائها، إلا ما استثنى الشرع منها وهو جلد الميتة إذا دبغ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ فقط طهر). من أمثلة هذا النوع الموجود الآن ويخفى على الكثير: تحريم بعض الدواب الميتة، قد يُؤخذ مثلاً ثعبان ويحنط، وهو ميت فيباع، إذا نظرت إلى هذا البيع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم بيع الميتة)، إذا تأملت ونظرت وتدبرت وتفكرت هذا الثعبان إذا حنط ودُفعت فيه المبالغ الباهظة والكثيرة، التي تسد الرمق، ويكون فيها الخير لو أنفقها الإنسان في مجالات أخرى، أي مصلحة في دفع هذا المال الكثير لحيوان يحنط ويجسم؟! فإذاً تحريم الشرع فيه الحكمة البالغة لمثل هذا، لكن لو أن الحيوان ذُكي وحنط فلا حرج؛ لأنه أصبح طاهراً، وفي هذه الحالة يزول معنى النجاسة الموجودة فيه، وإن كان بعض العلماء يعده ممنوعاً من جهة المصلحة؛ لعدم وجود المصلحة في بقائه. إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر؛ فالله حرم الخمر لكونه يفسد العقول ومقاصد الشريعة والأديان السماوية حفظت على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم، فأي شيء يمس هذه الأمور الخمسة فإنه يعتبر في هذه الحالة محرماً، فالخمر تمس العقل الذي يكون الإنسان مرتقياً به عن مرتبة البهيمة؛ فحرم الله بيعها. ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فتح الطائف، وكان له صديق في الجاهلية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أنعم الله عليه بفتح الطائف فجاءه بهدية، وكانت الهدية عبارة عن قربتين من خمر، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهديته -وكان صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً رحيماً، لا يعنف ولا يقهر الإنسان في وجهه، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه! - نظر إليه وقال: أما علمت أن الله حرم الخمر -يعني تعطيني هذه من باب الهدية، أما عندك علم أنها حرام-؟! قال: لا. فقام رجل -وكان جالساً- فسارَّ صاحب الهدية -بمعنى كلمه سراً في أذنه-، فقال صلى الله عليه وسلم: بم ساررته -ما الذي قلت؟ - قال: أمرته أن يبيعها -ما دام النبي صلى الله عليه وسلم لا يريدها، وهي محرمة في الشرع- فقال صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها -وفي رواية: بيعها-). تبيعها؟! فمن الذي يأخذها؟ ومن الذي يستفيد منها؟ فحرم الله مثل هذا البيع لهذا.

قواعد فرعية تتعلق بتحريم البيع

قواعد فرعية تتعلق بتحريم البيع فهذه أربعة قواعد للتجارة المحرمة، وقد يرد التحريم لأمر يتعلق بالوقت أو بالزمان، أو بصفة تتعلق بالبائع أو بالمشتري، فيحرم الله من أجل الوقت كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فحرم الله البيع في هذا الوقت؛ لأن الوقت مستحق لما هو أهم وأجل، وإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة فتجارة الآخرة مقدمة؛ لأن الله خلق الخلق من أجل هذه التجارة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. فإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة؛ قدمت تجارة الآخرة على تجارة الدنيا؛ فحرم البيع؛ لكن لا لذاته وإنما لعارض يعرض على ذلك البيع، وقد يحرم الله التجارة بسبب قطع أواصر الأخوة والمحبة، وتشتيت المجتمع وتفريقه، وإيجاد الشحناء والبغضاء. ومن هنا نعلم ترابط الشرع، أنه يربط بين العبادة والمعاملة، فكما أن المسلم يكون في مسجده عابداً لربه كذلك في دكانه وتجارته. أما المثال على تحريم المنع بالتجارة؛ بسبب كونها تفسد أواصر الأخوة وتقطعها؛ وتكون سبباً في إيجاد الضرر: فتحريم الله لبيع النجش. وبيع النجش: أن يزيد الإنسان في السلعة وهو لا يريد شراءها؛ فإنه إذا فعل ذلك خدع أخاه وخذله وآذاه، وجعل تجارته وسيلة للإغرار؛ فخرجت عن المقصود الأسمى والأسنى وهو نفع الناس؛ صارت التجارة حرباً وأذية وبلاء فقال الشرع: لا. لماذا؟ لأن هذا النجش يفضي إلى الأذية بالغير، والإسلام يريد من المسلم أن يكون على محبة وصفاء ونقاء لإخوانه المسلمين؛ فحرم الله النجش. حرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ حتى لا يقطع أواصر المحبة: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) لأنه إذا قال المسلم: هي بعشرة. قال الآخر: عندي سلعة أجود منها أو مثلها بتسعة أو بثمانية. فكان في ذلك حنقاً للبائع، كيف يدخل بينه وبين من يريد منه تجارته أو بيعه، فحرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن التجارة أصبحت قاطعة لأواصر الأخوة؛ ممزقة لمعاني المحبة. فقد يحرم الله عز وجل البيوع والمعاملات لأمر خارج، أما القواعد الأربع التي ذكرناها فهي لذات البيع ولأصل البيع، فإذا وجدت في البيع هذه الأربعة كانت محرمة، والقواعد الأربع هي: - تحريم عين المبيع. - الربا. - الغرر. - الشروط المتضمنة للربا أو للغرر أو لهما معاً.

نعم المال الصالح عند الرجل الصالح

نعم المال الصالح عند الرجل الصالح التجارة نعمة من الله، وإذا صارت في طريقها المحمود فهي خير عاجل، خير من الله لعبده، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم التجارة في كلمتين هما أساس الخير حيث قال: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح) أما قوله: (نعم المال الصالح) أي: نعم ما يكون من مال إذا صلح ذلك المال من الخبث وهو الحرام، ولن نستطيع أن نعرف صالح الأموال من فاسدها إلا بالرجوع إلى العلماء، والاهتداء بهدي كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. لذلك: أوصي إخواني التجار، بل نتواصى جميعاً أن نقف عند حدود الله، فإذا قال العالم: لا يجوز؛ فقل: سمعنا وأطعنا. وإذا قال: يجوز؛ فقل: الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث. فالمال الصالح يتوقف على حكم من الله بصلاحه، وقد بينا المحرمات. والجملة الثانية في قوله: (عند الرجل الصالح)، والرجل الصالح المراد به: من أصلح الله سريرته وأصلح الله علانيته، فإن الرجل إذا باع بيعه واتقى الله في بيعه، فهي شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بصلاحه، وهذا خير للتاجر الصالح: أن يظفر بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم له بكونه صالحاً، (عند الرجل الصالح) فالرجل الصالح هو الذي يسلم من الدخل في قلبه، فإذا جاء إلى دكانه أو إلى بقالته أو إلى متجره أو إلى محل عمله دخل وقلبه نقياً للمسلمين، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإن بلغ ذلك فقد نصح لله ورسوله ولعباده المؤمنين. أن يدخل بنية صافية، وقلب نقي زاكٍ، يحب لإخوانه ما يحب لنفسه. فهذا جرير اشترى فرساً، وأعجبه هذا الفرس، فكانت قيمة الفرس بالمال، فجاء إلى بائع الفرس وزاده في المال، ثم ذهب وركب الفرس فأعجبه، فرجع ثانية وزاده في المال، ثم ركب مرة ثالثة فأعجبه فجاء إلى الرجل وزاده، فنظر إليه الرجل -كأنه يظن أن جريراً به شيء في عقله- فقال جرير رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصيحة لكل مسلم) فلن أغشك، رأيت أن فرسك هذا يستحق أكثر فلذلك زدتك. فهذه الوصية الأولى: أن يكون الإنسان صالحاً في قلبه وباذلاً النصيحة للمسلمين. الوصية الثانية: الصدق في وصف المبيع، في الثمن الذي تدفعه، عدم المبالغة، عدم الكذب، عدم الحلف الكاذب الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يذهب البركة، قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). فكل بيع تبتاع أو تبيعه للغير فأنت بين أمرين: بين قوله عليه الصلاة والسلام (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما -وقوله-: وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). فنسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن صدق وبر، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لمن وفق لهذه السماحة، فقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).

الرضا بالقليل من الربح دليل القبول والبركة

الرضا بالقليل من الربح دليل القبول والبركة قال بعض العلماء: السماحة في البيع أن ترضى بالقليل من الربح، لا تبالغ، ولذلك ذكر عن عبد الرحمن بن عوف أنه قيل له: كيف أصبحت غنياً وقد قدمت المدينة فقيراً؟ فذكر كلمة يقول عنها بعض العلماء: هي كنز في التجارة، فقال رضي الله عنه: (كنت إذا أعطيت أقل الربح رضيته؛ فبارك الله لي). يقول بعض العلماء: هذا كنز التجارة. وتوضيح لذلك قالوا: لأنه إذا رضي بأقل الربح رغب الناس في بيعه؛ فيقبلون على بضاعته؛ لأن ربحه قليل، فيشتهر بين من يشتري منه. كذلك أيضاً: إذا اشترى الناس منه نفدت منه السلع، فصار يشتري من غيره، فيحبه من يأخذ منه لكثرة أخذه ممن يبتاع إليه، فأصبح محبوباً بين من يبيع له وبين من يشتري منه، فلذلك يقولون: هي كنز من كنوز التجارة. الأمر الثاني قالوا: إنه إذا رضي بقليل الربح وقعت البركة، ولذلك الإسلام لا يحرج عليك أن تبيع الذي اشتريته بعشرة بألف، فلا يحرج عليك، وأما ما يقوله بعض المتأخرين -هداهم الله وأصلحهم-: من أنه لا يجوز المبالغة في الربح، ليس هناك دليل على تحديد نسبة معينة في الأرباح، هذا في أصل الشرع؛ لكن أجاز العلماء لولي الأمر أن يتدخل في التسعير عند وجود المصلحة، إذا وجدت المصلحة فله أن يسعر ولا حرج، لكن نحن نقول: كون الشخص يشتري بعشرة ويبيع بمائة، فهذا مباح: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ما دام أن نفسك طابت أن تشتري بمائة فلا حرج. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عروة البارقي -أحد الصحابة رضي الله عنه- يوماً من الأيام: (خذ ديناراً واشتر لنا من هذا الجلب شاة. فأخذ عروة الدينار، فذهب إلى الجلب فوجد شاة بنصف دينار، فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم. فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك له في صفقة يمينه) فكان لو اشترى تراباً ربح فيه رضي الله عنه، وهذه من معجزاته عليه الصلاة والسلام. الشاهد أنه اشترى بنصف دينار وباعه بدينار، وهذا يدل على جواز ربح المائة بالمائة. لكن يقول العلماء: السماحة والبركة والخير في عدم التضييق على الناس، فالله عز وجل قد ينعم على الإنسان ويأخذ الأرباح الباهظة، لكن لا يأمن أن يسلط الله على ماله بلاءً، ولا يأمن أن يسلط الله عز وجل على ماله نقمة، ولكن إذا اتقى الله عز وجل ورضي بقليل الربح؛ فتح الله له أبواب البركة؛ فأصبح ربح الواحد كالعشرة. فليس المهم أن يأخذ الإنسان المائة ولا الألف ولا الألفين، ولكن المهم البركة، والبركة تكون في الأموال، وتكون في الأولاد، وتكون في الأرزاق والأقوات، ولذلك قالوا: ربما أن الإنسان يكون له ولد واحد يضع الله فيه البركة عن عشرة وعن عشرين، وربما يكون له عشرة من الولد ليس فيهم بركة نسأل الله السلامة، حتى يتمنى أنه ما ولد له ولد -نسأل الله السلامة والعافية-. فالمهم البركة، فقد تأخذ العشرة ويضع الله فيها بركة الألف، وقد تأخذ العشرة فيصلح بها دين العبد ودنياه وأخراه، يتصدق منها، ويصل الرحم، ويغنم منها في أمور بيعه وتجارته. فالمقصود: أن هذه من دعائم الخير: الصدق في المعاملة، النقاء في القلوب، الرضا بالقليل كما أثر عن هذا الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه.

الحذر من المشتبهات في البيع

الحذر من المشتبهات في البيع كذلك هناك أمور ينبغي أن ينبه إليها، وهي: أن البيع منه الحلال ومنه الحرام ومنه المشتبه، وهو الذي يقع الإنسان به في الشبهة ولا يدري أحلال هو أو حرام؟! فإذا وقفت أمام الشبهات فاحتط لدينك، واستبرئ لدينك؛ يسلم لك دينك؛ وتسلم لك آخرتك،؛ ويعوضك الله خيراً مما فقدت، ولذلك قالوا في الحكمة -وتروى مرفوعة، ولكن الصحيح عدم ثبوتها-: (ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه). فقد تقف أمام بيع أو تجارة أو معاملة، ولكن فيها شبهة، والنفس غير مطمئنة، وتسأل العلماء فتجد هذا يحلل وهذا يحرم؛ فتقع في لبس من أمرك؛ فحينئذ الأتقى لربك، والأنقى لصدرك، والأعظم لأجرك أن تدعها لله، فإن تركت باباً فتح الله عليك أبواباً، وإن تورعت عن شيء فتح الله لك غيره، فما عامل أحد الله عز وجل فخاب.

شكر النعمة وأنواعها

شكر النعمة وأنواعها الوصية الأخيرة التي أختم بها هذا المجلس المبارك: أن الله عز وجل وعد المحسن على الإحسان إحساناً، فمن نعم الله على التاجر أن يفتح له أبواب رحمته، فيشرح صدره بشكر نعمة الله عز وجل باللسان وبالجنان وبالجوارح والأركان. فإياك أن تدخل متجرك أو تخرج من محلك إلا وأنت تثني على الله حق ثنائه! وقل: يا رب! كنت وضيعاً فرفعتني، وكنت فقيراً فأغنيتني، وكنت ضائعاً فآويتني، فلك الحمد الذي أنت أهله، فإن الله تأذن بالمزيد لمن شكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]. وأوحى الله إلى نبيه نوح أن اشكرني فقال: يا رب! كيف أشكرك وشكرك نعمة تستحق الشكر؟ قال: أما وقد علمت أنك لن تستطيع شكري فقد شكرتني. ما دمت تعتقد أنك لن تصل إلى شكر النعم على الحقيقة فقد شكرتني، هذا شكر القلوب: أن تعتقد اعتقاداً جازماً أنه ليس بالذكاء ولا بالشطارة ولا بالفهم، ولكن بفضل الله ورحمته، ما فتح الله من رحمة لا يستطيع أحد أن يغلقها، وما قفل من أبواب لا يستطيع أحد أن يفتحها سبحانه لا إله إلا هو!

النوع الأول: شكر النعمة بالقلب

النوع الأول: شكر النعمة بالقلب فأول شيء: شكر نعم الله من جهة الجنان، أن تعتقد فضل الله عليك، ولذلك من اعتقد فضل الذكاء وفضل الفهم والشهرة أن لها أساساً في ربحه وتجارته؛ لا يأمن من مكر الله به، ولذلك انظر إلى قارون {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص:78] فلما قال ذلك، خسف الله به وبداره الأرض، فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة. فاشكر نعمة الله عز وجل عليك، اعلم أنك الفقير الذي لا غنى لك عن الله، وأنك الغني بالله وحده لا بالذكاء ولا بالفهم.

النوع الثاني: شكر النعمة باللسان

النوع الثاني: شكر النعمة باللسان الأمر الثاني: شكر اللسان، وهو التحدث بنعمة الله، فاذكر ما كنت فيه وما كنت عليه، واجمع أبناءك، ولينظر الله إليك يوماً من الأيام وأنت مع أهلك وأولادك تقول لهم: يا أبنائي! كنت فقيراً فأغناني ربي، وكنت ضائعاً فآواني ربي، وكنت جائعاً فأطعمني ربي، وعارياً فكساني ربي، فله الحمد الذي هو أهله. فطوبى لك ونعمت عينك إذا نظر الله لك يوماً وأنت جالس مع ولدك تتحدث بنعمة الله عليك! هذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان العقلاء والحكماء وكبار السن دائماً يجلسون مع أبنائهم، يذكرون ما كانوا فيه من شدة وبلاء؛ حتى يعرف الأبناء ويعرف الصغار ما كان فيه الكبار؛ فيدركوا فضل الله عز وجل عليهم.

النوع الثالث: شكر النعمة بالجوارح

النوع الثالث: شكر النعمة بالجوارح النوع الثالث من الشكر: شكر الجوارح والأركان، اقتحام العقبة بفك الرقبة، وإطعام ذي المسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، الإحسان إلى الناس؛ فإن العبد إذا أحسن، أحسن الله إليه، فإذا نظر الله إليك فقد شكرت نعمته وشكرت منته، فأطعمت الجائع وكسوت العاري.

الصدقات الخفية أكثر ثوابا وأعظم أجرا

الصدقات الخفية أكثر ثواباً وأعظم أجراً اجعل بينك وبين الله صدقات، واجعل هذه الصدقات خفية؛ فإن الله يحب العمل الخفي، ولذلك ذكروا عن زين العابدين -سيد من سادات التابعين وعلمائهم المجتهدين رحمة الله عليه- أنه كان إذا جن عليه الليل حمل على ظهره الطعام إلى بيوت الأرامل والأيتام رحمة الله عليه، وهو إمام في العلم والورع والزهد والصلاح رحمة الله عليه، حتى إنهم لما أرادوا أن يغسلوه ويكفنوه خلعوا ثيابه من أجل أن يغسل، فوجدوا ظهره متشحطاً من أثر الدقيق الذي كان يحمله على ظهره رحمة الله عليه. فكان يحسن ولكن كان في الخفاء، لم يحسن أمام الناس، ولم يحسن ليقال: إنه كريم. لا، فإن العبد إذا أحسن أمام الناس على رياء منه وسمعة؛ سمع الله به يوم القيامة، فيأتي العبد بحسناته وأجوره بين يدي الله فيسأله الله: ماذا أردت عبدي؟ فإذاً لابد أن تكون للإنسان صدقات خفية. نعم تستطيع أن تربح الألف والعشرة الآلاف والعشرين والثلاثين من أي باب خير كان، ولكن الأكمل والأجمل والأعظم أجراً أن تخطو في ظلمات الليل بثيابك، وتغبر قدمك في طاعة الله؛ فإنها خطوات عزيزة عند الله جل جلاله، وتقرع أبواب الأيتام والأرامل؛ حتى تصيب صالح دعائهم، فلعلك في لحظة من اللحظات تطرق فيها باباً تكون أبواب السماء مفتوحة، فيدعى لك بالخير، ويكون لك به حسن العاقبة في دينك ودنياك وآخرتك؛ فإن الله لا يضيع دعوات الأيتام والأرامل. وكم من محسن كريم عاش الأيتام والأرامل على يديه! ويا لها من نعمة عظيمة إذا مات الإنسان فافتقدت الأرامل أثره! ولذلك لما توفي علي زين العابدين، فقده ثلاثون -وفي رواية ستون- من بيوت الضعفة ممن يطرق عليهم في ظلمات الليل أبوابهم، فعرفوا أنه علي زين العابدين رحمة الله عليه. اجعل بينك وبين الله صدقات خفية، أما الظاهر فجزاك الله عنه خيراً: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ} [البقرة:271] (خير): بمعنى أخير، أي: أعظم أجراً وأكثر ثواباً لكم، لأن هذا ينمي عن حب الله عز وجل وإرادة وجه الله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} [الإنسان:9 - 11] حتى إن القرآن لم يسكت، بل ذكر أمنيتهم؛ فقال: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10] وما سكت الله عز وجل عن هذا فقال: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11]. سروا الأيتام؛ فسرهم الله عز وجل يوم القيامة، سرهم الله يوم المساءة، وضاعف لهم من الخير والإحسان لما كان منهم لعباده. واعلم رحمك الله! أن الأيتام والأرامل والضعفاء يزعجون ويقلقون، ولربما تضيق عليك الأرض بسبب سؤالهم، فمن من الأمور التي توسع عليك، شعورك أن الله عز وجل يرحمك برحمته، وأن أي شيء تقدمه ولو كان قليلاً أنه عند الله كثير. وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، سبحان الله! ما قال: اتقوا النار بركعة ولا بسجدة، وإن كان الركوع والسجود يحفظ بإذن الله من النار، ولذلك لا تمس النار مواضع السجود من بني آدم، وهذه من صفات المؤمنين، لكن لما أراد أن يذكر الفضل قال عليه الصلاة والسلام في حديث عدي في الصحيحين (ما من عبد منكم إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم -يعني من الصالحات- وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم -يعني من السيئات- وينظر تلقاء وجه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) يعني نصف تمرة يمكن يحجب الله عز وجل العبد من النار بها، نصف تمرة. ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة طرقت على عائشة رضي الله عنها وكانت معها ابنتان، فاستطعمتها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل بنت تمرة، وأخذت تمرة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين، فأخذت التمرة وأعطتها لها. فعجبت عائشة رضي الله عنها من رحمة هذه الأم! فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فذكرت له ما صنعت. قال: أو تعجبين مما صنعت؟! إن الله قد حرمها على النار بتمرتها تلك). فالإحسان لا يذهب عند الله عز وجل، ولذلك من جاد ساد وأحيا العالمون له بديع حمد بمدح الفعل متصل كم من أناس ماتوا وهم أحياء في الناس! أحياء بأخبارهم الحميدة ومآثرهم المجيدة، وكم من أناس فرجت بهم كربات، فأصبح المكروبون كلما ذكروهم ترحموا عليهم، وهذا هو الذي يبقى، وهذا الذي يراه الإنسان أمام عينيه شكر نعمة الله بالإحسان، وتفقد ضعفة المسلمين. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا وإياكم من أهل البر والتقوى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التستر عن أناس لا توجد عندهم إقامات مشروعة

حكم التستر عن أناس لا توجد عندهم إقامات مشروعة Q التستر أحد الآفات التي يعاني منها مجتمعنا، هل من كلمة في هذا الموضوع عن هذه الظاهرة. A الحقيقة ما دام أنه يوجد طريق مشروع لاستقدام الناس وإعطائهم الإقامات المشروعة والنظامية، بالطريق الذي لا وجه فيه ولا شبهة فلا يجوز لأحد أن يتستر على أحد، وينبغي للإنسان أن يسمع ويطيع؛ لأن هذه الأمور قصد بها مصالح الناس عامة، فكم من جرائم تنتشر في المجتمعات، وإخلالات بحقوق الناس العامة والخاصة والمصالح العامة بسبب عدم معرفة من ورائها؛ لأن الرجل الذي ليست له إقامة نظامية ينام حيث شاء ويذهب حيث شاء ويفعل ما يشاء، ليس له كفيل يتابعه، ليس له إنسان يراقبه ويعرف مدخله ومخرجه ويتحمل مسئوليته. فإذا نظر إلى المصلحة في هذا واندراء المفسدة فلا يشك عاقل أنه ينبغي، بل يجب التعاون في هذا، ولا يجوز -في الحقيقة- التستر على هذا الوجه الذي يضر بمصالح الناس، ويعتبر الإنسان آثماً من وجهين: الوجه الأول: معصيته لولي الأمر فيما ينبغي طاعته فيه. والوجه الثاني: أنه إذا حصل ضرر من هذا الذي يتستر عليه، فإن الإنسان يحمل وزره بين يدي الله عز وجل؛ لأنه أعان على وجوده. فإذا أراد الإنسان أن يعين أخاه على خير، فليذهب ويطرق الأبواب المشروعة لإقامة هذا الشخص بصورة نظامية؛ حتى يكون في ذلك الخير لهذا الشخص؛ وعصمةً لكرامته؛ وأبعد عن الإضرار بمصالح الناس العامة والخاصة.

حكم الأموال التي يأخذها الشخص بوجاهته

حكم الأموال التي يأخذها الشخص بوجاهته Q ما حكم الأموال التي يأخذها الكفيل بوجاهته؟ A الحقيقة نحن ذكرنا هذه الصورة من جهة التزام الكفيل بالوجاهة، هذا يتخرج في بعض الأحوال على شركة الوجوه، كأن هناك شراكة بين الكفيل والعامل فيما هو قريب من هذه الصورة. الآن مثلاً: إذا قال له الكفيل في عمل ما أنا أؤمن لك هذا العمل، ويوجد له فرصة هذا العمل، ويلتزم الكفيل بهذا العمل، كأنه بوجاهته يتحمل مسئولية هذا العمل، حينئذ لا حرج أن يتفق مع العامل على جزء معقول، وبشرط أن لا يجحف فيه بالعامل، حينها لا حرج، لكن إذا فرض عليه من جهة مشبوهة ومحرمة على الإطلاق، يطلقه الشخص ويقول له: ائتني بأربعمائة كل شهر. ولا يتدخل له في أي عمل، حتى لو جاءه من عمل محرم، المهم أن يدفع الأربعمائة أو المبلغ المتفق عليه، هذا هو الذي يمنع منه.

ضرورة توضيح الأسئلة ليسهل على العلماء الإجابة عليها

ضرورة توضيح الأسئلة ليسهل على العلماء الإجابة عليها Q ما حكم بعض الفتاوى التي تكون الفتوى فيها غير واضحة وخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات والشركات العامة؟ A الحقيقة -يا إخوان- هناك أمر مهم أحب أن أنبه عليه في الفتاوى: هناك بعض القضايا من السهل أن يجاب فيها، لكن لما تكون مشهورة وذائعة وموجودة بين الناس بطرق معينة، أحب أن يكون هناك تصور كامل قبل الفتوى فيها، وأنا لأول مرة أسمع بهذا النوع من الفتاوى، لكني أؤكد على أن تكتب صورة كاملة عن واقع هذه المؤسسات والشركات، ولو عن طريق الغرفة التجارية؛ لأني أرى الحقيقة في بعض الأحيان حينما يُسأل بعض العلماء أسئلة، ويجيبون بفتاوى يتأثرون بطبيعة السؤال، خاصة إذا كان هناك شركات ومصانع فيها مصالح للعامة، ربما يأتي الشخص ويسأل سؤالاً عن صورة ما، وينسى أشياء مهمة في السؤال وفي الجواب، فيأتي العالم فيقول: حرام، ما يجوز. فيشيع بين الناس أن هذه الشركة فيها معاملة محرمة؛ فتهضم حقوق الناس. فأنا أرى الأفضل والأكمل أن يكون هناك تصور كامل، وأي قضايا فيها مصالح عامة وترتبط بالمؤسسات والشركات، ممكن عن طريق الغرفة -إن شاء الله- يكون هناك تعاون، يحدد لقاء أو ندوة أخرى نذكر فيها بعض المعاملات الموجودة الآن، وإن شاء الله ما يكون إلا كل خير. وأنا مستعد بإذن الله، والفتوى جاهزة نسأل الله المعونة والتوفيق. ونسأل الله أن يرزقنا الصواب في القول والعمل، فإنه المرجو والأمل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

حكم من يخرج زكاة ماله من السلع الموجودة عنده

حكم من يخرج زكاة ماله من السلع الموجودة عنده Q ما حكم من يخرج زكاة ماله من السلع الموجودة عنده؟ A تاجر الأقمشة يقوم بإخراج زكاة ماله من الأقمشة، تاجر الأطعمة يخرج زكاة ماله من الأطعمة، هذا لا يجوز بإجماع العلماء، كونه يخرج الزكاة من الأعيان لا يجزيه، وعليه إعادة جميع الزكوات. والسبب في هذا: أن الزكاة حق لله، وهذا الحق جعله الله بعينه للسائل والمحروم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] هذا حق، ليس فيه منة حتى قال بعض العلماء: ينبغي على الغني إذا جاء يزكي -قالوا:- لا يرفع يده عند إعطائه الزكاة للفقير، حتى لا يكون فيه منة؛ لأنه حقه، فإذا رفع يده كأنه تفضل على الفقير، قوله تعالى: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] * {لِلسَّائِلِ} [المعارج:25] (اللام) للتمليك، فهو ملك للسائل، فلا يجوز فيه التصرف. تصور يا أخي! لو أنك تعمل في عمل ما أو وظيفة ما، وكان الاتفاق أن تأخذ خمسة آلاف في الشهر، ولما جاء آخر الشهر قال: لن نعطيك خمسة آلاف، بل نعطيك ثياباً، ونعطيك أطعمة وأكياس رز، وأكياس سكر، أترضى؟ لن ترضى، تقول: أريد مالي، أريد حقي. وكذلك هم، كيف ترضى أن إنساناً جعل الله له هذا المال، أو فقيراً قد يريد منه سداد الدين، لا يستطيع أن يسدد بأكياس الأرز ولا يسدد بالقماش ما عليه من الديون؟! الأمر الثاني: أنه ذريعة للتخلص من بعض الأمور الكاسدة التي تكون عند الإنسان وهو يريد أن يتخلص منها. فلذلك: لا يجوز هذا النوع من الزكاة.

عدم إخراج البدل في الزكاة إلا في الذهب بدلا عن الفضة

عدم إخراج البدل في الزكاة إلا في الذهب بدلاً عن الفضة Q هناك فتوى من العلماء أن إخراج زكاة المال من السلع جائز؟! A بالنسبة للذي ظهر من نصوص الكتاب والسنة أنه غير جائز. السائل: يعني أنه لا يوجد من العلماء المتقدمين من أجاز ذلك. لا أحد -حسب علمي- بالنسبة للعلماء المتقدمين من أجاز بإخراج البدل، وإنما المحفوظ: أن يخرج المال بعينه، إن كان من الذهب فمن الذهب، وإن كان من الفضة فمن الفضة، وأجازوا إخراج الذهب بدل الفضة، هذا فقط في المالين، وأما بالنسبة للسلع فالقول: أنه يخرج الزكاة منها، هذا الذي نعرفه من أقوال أهل العلم. هذا الذي أحفظ أنه بالإجماع، ومن عاش فسيرى اختلافاً كثيراً.

حكم استقدام العمال للعمل عنده وعند غيره

حكم استقدام العمال للعمل عنده وعند غيره Q هل يجوز استقدام العمال لغرض تقديم خدمات للمواطنين، ويكون الاتفاق مع العامل -مثلاً- بستمائة ريال في الشهر، ويشترط لدى من يعمل عنده تسعمائة أو أكثر؟ A قضية عمل العامل: الأصل في العمل أن الإنسان إذا استقدم العامل يستقدمه للعمل عنده، أو يستخدم لإقامة عمل عند الغير مبني على كفالته ووجاهته، فإذا كان العامل يقوم بعمل الإنسان في بيته، أو يقوم بعمل التزم به لغيره كبناء عمارة، أو بناء بيت، وجاء بعمال ليشتغلوا، فهذا لا إشكال ولا حرج في جوازه. ويعتبر التعاقد مع العمال مندرج تحت عقد معروف في الفقه الإسلامي الذي هو عقد الإجارة، فحينئذٍ لا حرج، لكن يشترط أن تكون أجرة العامل معلومة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) لا يقول له: سأرضيك، أو سنتفق فيما بعد يعني يجعله على غرر مثلما ذكرنا في البيع، لا، بل لابد من أن يكون على علم وبينة، حتى يكون الأمر لا غرر فيه ولا خلاف، وبناءً على هذا إذا حصل التعاقد على هذا الوجه فهو جائز ومشروع ولا حرج. الحالة الثانية: أن يترك العامل يذهب ويعمل حيث أراد ثم يقول له: اعمل عند من شئت وأتني بمائة أو مائتين. فهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وفيه أذية وإضرار؛ لأن الكفيل ما قام بعمل. فلو قال قائل: الكفيل متحمل بكفالته، ويأخذ لقاء (الفيزة) أو الإقامة التي وفرها لهذا العامل. فجواب هذا: أن (الفيزة) ليست ملكاً للكفيل، وإنما هي ملك للدولة، والدولة لا تأذن بهذا، ولا تأذن باستغلاله على هذا الوجه؛ لأنه يضر بمصالح الناس. العامل إذا ألزمته بقيمة في الشهر ولم يجد عملاً ماذا يفعل، خاصة إذا كان عليه ديون، ربما اضطر إلى السرقة، ربما اضطر إلى الأمور التي تخل بشرفه وتخل بحقوق الناس، وربما يبالغ في أمور قد تنتهي به إلى ما لا يحمد عقباه. فهذا النوع لا شك في حرمته: كونه يقول له: اذهب اشتغل عند من شئت، وأعطني كل شهر مائتين فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من الأمور المحرمة. ومن باب العبرة: أذكر رجلاً كان قد أنعم الله عليه بالمال، ونسأل الله السلامة والعافية- فتح عملاً من هذا القبيل، ونُصح وذكر من بعض العلماء، وشاء الله عز وجل أنه أصر على ذلك العمل ولم يكف عما هو عليه، فنسأل الله السلامة والعافية ابتلي بالداء الخبيث -نسأل الله السلامة والعافية- فأنفق أمواله التي كان يأخذها من هؤلاء الضعفاء، حتى إنه خرج على الناس وهو مجنون نسأل الله السلامة!، كان في غنى وثراء ونعمة، فوالله العظيم إني لأعرفه، نسأل الله السلامة والعافية! نسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه.

حكم بيع السلع المعلبة والتي تتغير بكثرة اللمس

حكم بيع السلع المعلبة والتي تتغير بكثرة اللمس Q هل يجوز بيع علبة مغلقة مكتوب عليها ما بداخلها، ولكن الكتابة لا تغني عن معاينة السلعة؟ A الإجماع قائم على أنه لا يجوز بيع الشيء إلا إذا كان معلوماً. هذه مشكلة: فالتاجر عنده سلعة، وقد تكون بعض السلع لو كشفت لتضرر التاجر، وقد يقول الزبون: لا أريدها. وإذا خفيت حينئذ يُظلم المشتري، فالشريعة بين ظلم البائع وظلم المشتري. مثلاً: الثياب تكون مطوية مطبقة، عرض السلعة له أثر في قبول الزبون، فلو قلنا مثلاً: هذه الثياب لابد أن تفتش وتقلب، فكل من جاء يفتش الثوب ويقول: لا أريده؛ لأن البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، قال: رأيت فما أعجبني، والشريعة ما تلزمني بالشراء. حسناً: الآن سيتضرر البائع بعرض السلعة. فإذا قلنا: يبيع السلعة وهي محفوظة سيتضرر المشتري، فما الحل؟ هناك حل وسط: أن يخرج عينة واحدة من المبيع، ويجعل المشتري يتأمل هذه العينة، إن كان يبيع ثياباً أخرج ثوباً من هذه الثياب، بشرط أن تكون الثياب الموجودة في (الكراتين) أو المغلفة لا تختلف صفتها عن الثوب الذي يعتبر كعينة، إذا فعل هذا -بل يلزم فعل هذا- فحينئذ يصح البيع ولا حرج فيه. أما إذا كانت غير معروفة فلا، لأنه لا يجوز بيع المجهول، ولذلك: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة والمنابذة) لمكان الجهالة، فلابد أن يعرف حقيقة هذا البيع. أما المعلبات فيمكن أن يجعل عينة للمعلبات يعرف بها، أو يجعل مواصفات دقيقة؛ لأن السائل هنا يقول: والكتابة لا تغني عما بداخلها، أما إذا كانت المعلبات مصنعة والكتابة تغني مثل ما هو موجود الآن في كثير من المعلبات، تكون المعلومات واضحة، يكتب عليها -مثلاً- ما بداخلها، يكتب الغذاء الموجود بداخلها والمواد المركبة، يعني الآن الموجود في السوق -في الغالب يعني- معلومات شبه كاملة، فالمعلومات الموجودة على هذه العلب تكفي، ما دام أنه دقيق والغالب فيه، ولذلك العلماء يقولون: حكم الغالب. لأن الغالب وبالتجربة وجدنا أنها صحيحة، تفتح العلبة فلا تجد اختلافاً بين الموجود على المعلبات والموجود بداخلها؛ لأن الشركات طبعاً متابعة ومراقبة، سواء من جهات مختصة أو من جهة الناس أنفسهم للحصول على سمعتهم، وليس من المعقول أن يجعل الكتابة شيئاً، ويكون بداخلها شيء آخر؛ لأن هذا يضر بسمعتهم كثيراً. فنحن نقول: إذا كانت الكتابة واضحة فلا حرج، أما كون الكتابة لا تفي بالغرض، فهذا من النوع المحرم ولا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى بيع المجهول، وبيع المجهول لا يجوز.

حكم من لم يخرج زكاة ماله وما يجب عليه

حكم من لم يخرج زكاة ماله وما يجب عليه Q رجل لم يخرج زكاة ماله لمدة خمس سنوات، فهل يخرج الزكاة لهذه المدة؟ A أولاً: عليه الندم والاستغفار، وأن يحمد الله على العافية، فلو قبضت روحه قبل أداء هذه الزكاة لكانت له شجاعاً أقرع يعذبه الله به في قبره، كما روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار، يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها فأحميت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون - يعني: أسمن ما تكون- تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار). منع الزكاة هذا أمر عظيم جداً، ولو يوماً واحداً، ويحاسب الله عز وجل عن ذلك، الزكاة ينتظرها المحروم، ينتظرها المجنون، ينتظرها المهموم، حق جعله الله في مالك، أعطاك الكثير ورضي منك القليل. فعليه بالتوبة والاستغفار، والمبادرة بإخراج الزكاة قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، وينبغي عليه أن يبادر. الأمر الثاني: عليه أن يخرج الزكاة الآن، يقدرها للسنوات التي مضت، وإذا فعل ذلك وتاب تاب الله عليه. والله تعالى أعلم.

وصايا ونصائح لبائعي الكتب الدينية والأشرطة الإسلامية وللتجار عموما

وصايا ونصائح لبائعي الكتب الدينية والأشرطة الإسلامية وللتجار عموماً Q تجارة بيع الأشرطة الإسلامية والكتب الدينية من الأعمال التي يبتغى بها وجه الله، ما نصيحتكم لأصحاب التسجيلات الإسلامية، علماً أنني منهم ولله الحمد؟ وما نصيحتكم لأصحاب الأموال؟ نرجو التوجيه. A أما بالنسبة للأشرطة والتسجيلات فلا شك أنها قامت بجهد عظيم، وكذلك المكتبات الإسلامية أغنت وأفادت وأجادت وسدت ثغراً عظيماً. أسأل الله العظيم أن يتقبل منا ومنكم ومنهم صالح الأعمال، ولا شك أنها نعمة عظيمة، فما يدريك لعل هذا الشريط أن يخرج الله به عبداً من الظلمات إلى النور، وكم أصلح الله من بيوت! وكم أصلح الله من جماعات بهذه الأشرطة القيمة! ولا شك أن وجود الشريط في هذه الأيام فتح من الله عز وجل، وهذا تبليغ عن الله ونصرة لله عز وجل ولكلمته سبحانه وتعالى. فتجد الإنسان وهو راكب في سيارته يسمع إلى العالم، من كان يتوقع أن عالماً يركب معه في سيارته يحدثه، ويفتيه، ويجيبه، ويجد هذا الخير الكثير وهو جالس في السيارة أو نائم على فراشه! هذا نصر من الله ورحمة، فنسأل الله أن يبقي هذا الخير، وأن يعظم للإخوة أجورهم. أوصيهم بالنصيحة وإعطاء هذا الأمر حقه، والرضا بأجر الآخرة، ولا حرج أن يكون للإنسان حظ من أجر الدنيا، ولكن يجعل الهم هم الآخرة، فإن هذه الكلمات الطيبة والنصائح الغالية والمحاضرات القيمة والندوات العلمية فيها أجر كثير، ومن أعان عليها أُجر كأجر صاحبها. من أعان على خير أجر كأجر صاحبه، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الخادم الأمين الذي يؤدي ما أمره به سيده له مثل أجره)، هذه نعمة كبيرة جداً، فنوصيهم بالإخلاص لله عز وجل. الأمر الثاني: أن يتقنوا هذا العمل، فإن الشريط الإسلامي يحتاج إلى إتقان وإخراج جيد، بعيداً عن التشويش في إلقاء المحاضر، وبعيداً عن الأمور التي تكدر عند سماعه، كما أحثهم على الاهتمام بتنقيته، وتهذيبه وإخراجه بالصورة الحميدة، وكذلك محاولة نشر هذا الشريط بالتشجيع على توزيعه، وكذلك إخبار ذوي الأموال والغنى أن يكون لهم حظ في المساهمة لنشره. وأوصي إخواني التجار أن يكون لهم حظ، اشتر مائة شريط ليوزع في توجيه مشكلة اجتماعية، توجه الناس إلى حلها؛ لأننا نريد ما ينفع الناس، ونريد بهذه المحاضرات تقويم الناس وإرشادهم، والذي ليس عنده إلا الدلالة على طاعة الله، والتقريب إلى محبة الله ومرضاة الله، فعليك بنشر الأشرطة الهادفة التي تعالج مشاكل المجتمع الأخلاقية ونحوها، فإنها تدل على طاعة الله وتقرب منه، فهذا خير كثير. وأسأل الله العظيم أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال.

زكاة السلع المعروضة تكون عند البيع على الراجح من الأقوال

زكاة السلع المعروضة تكون عند البيع على الراجح من الأقوال Q مسألة القيمة الشرائية للمال. A إذا كان الشخص مثلاً عنده سلعة اشتراها بمبلغ وعرضها للبيع، إذا قلنا -مثلاً-: عليه أن يزكي. فهل ينظر إلى القيمة التي اشترى بها أم القيمة التي يعرضها؟ هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، أصح الأقوال عند من يقول بالزكاة على عروض التجارة: أنه ينظر إلى قيمة البيع في يوم حولان الحول، فلو كان حوله أول محرم، ومثلاً لديه سيارات يعرضهن للبيع، وفي اليوم الأول من محرم سنة (1414هـ) كانت قيمة السيارة بناءً على قرب وقتها مائة وعشرين، لكن لما صار في حولان الحول نزلت القيمة -فرضاً إلى الربع- فصارت أقل، فرضنا السلعة بمائة فصارت بخمسين ألفاً، فالعبرة بالقيمة التي ثبتت عليها في العرض للتجارة؛ لأنه يملك هذه القيمة، لأن حولان الحول على هذه السلعة في ذلك اليوم فالعبرة بالقيمة فيه. فحينئذ إذا كان قيمة السلعة مائة ألف بالشراء، وفي حولان الحول أصبحت مائتين، تزكي على مائتين، ولو اشتريت مائتين وأصبحت في حولان الحول مائة تزكي على مائة، فالعبرة بقيمة البيع، وهذا هو أصح الأقوال. ولذلك: هذا القول فيه إنصاف؛ لأن في الحقيقة أنك مالك للقيمة التي هي قيمة السوق في يوم حولان الحول، فكأنها في جيبك، فأنت تزكي مالاً في حكم ما هو مقبوض في اليد، لذلك يعتبر في يوم الحول.

حكم زكاة المصانع وحالتها

حكم زكاة المصانع وحالتها Q ما مقدار زكاة المصانع؟ A المصانع زكاتها فيما يخرج منها، أي: ما يخرج من المصانع إذا كانت تصنع ذوات الأشياء، لأن المصنع له حالتان: الحالة الأولى: إما أن تكون مهمة المصنع أن يصنع الأشياء الموجودة، وتخرج إلى السوق وتباع، فالزكاة في الأشياء الموجودة. الحالة الثانية: أن يكون المصنع مستأجراً للتصنيع، فيكون صاحب المصنع يصنع للناس ويصنع لهم، فتأتي شركة -مثلاً- تعطي المصنع مواد خام من أجل أن يصنع، فحينئذ الزكاة على صاحب المصنع في رأس المال الذي يجنيه من المصنع، بشرط حولان الحول عليه. المصنع له طاقة، هذه الطاقة كل يوم يصنع بألف، الألف تقبض، كل ألف في كل يوم لها حولها، وإن أحب في بداية السنة أن يجمع جميع ما عنده ويزكيه زكاة واحدة فلا حرج، وهذا يقول به طائفة من العلماء، مثل الرواتب، الذي لديه رواتب، فبدلاً من أن يجعل لكل راتب شهر حولاً، يجعل حوله شهراً واحداً، وإذا جاء هذا الشهر جمع ما عنده قليلاً أو كثيراً وزكاه، قياساً على زكاة الغنم، لا يشترط فيها حولاً عن حول. وإن أحب أن يجعل لطاقة كل يوم وكل أسبوع وكل شهر رأس مال، يعني كل عمل ينتجه المصنع تكون القيمة على هذا العمل، بشرط أن يحول الحول على هذه الألف التي هي قيمة الإنتاج. أما آلات المصنع وُعدد المصنع وما في داخل المصنع فهذا لا تجب فيه الزكاة، مثل الثلاجة التي في البقالة لا تجب فيها الزكاة، ومثل الآلات التي تستخدم في المصانع، هذه ليس فيها زكاة؛ لأنها ليست بعرض للتجارة، وإنما المقصود أن يتاجر بما يكون منها من نفع.

حكم زكاة العقارات ومذاهب العلماء فيها

حكم زكاة العقارات ومذاهب العلماء فيها Q نود توضيح مقدار الزكاة في العقارات، علماً بأن الإنسان يشتري أرضاً وقد يبيعها أو يبني عليها مستقبلاً. A إن اشترى أرضاً فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يشتريها بنية البناء، وتظل عنده سنوات بنية أنه إذا يسر الله عليه بنى هذه الأرض، فهذه الأرض ليس فيها زكاة بإجماع العلماء؛ لأنها ليست بعرض للتجارة، وإنما هي قنية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه زكاة)، هذا إذا كان نيته أن تكون عنده لا للبيع. الحالة الثانية: أن ينوي بيعها، يعرضها في السوق أو ينتظر غلاء السوق ويبيعها، فهذه الحالة فيها الزكاة، وللعلماء قولان: قال بعض العلماء: إذا عرضت بيتاً أو أرضاً أو مزرعة للبيع فتجب الزكاة في كل حول. كل سنة تجب عليك، ويبتدئ الحول من نيتك للبيع؛ بشرط أن تمر عليك السنة كاملة وأنت تنوي البيع، فلو في نصف السنة حولت النية للبناء، أو حولتها هبة للغير، أو حولتها للاستثمار -كأن تبنيها- من أجل أن تكون مستودعات، أو تكون مثلاً دكاكين- قالوا: فلا تجب الزكاة، أي أنه لابد من سنة كاملة تعرض. هذا المذهب الأول. والمذهب الثاني: أنه تجب عليك الزكاة إذا حصل البيع حقيقة، وهذا مذهب طائفة من السلف منهم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسعيد بن المسيب، وخارجة بن زيد وغيرهم من العلماء، وهو أصح القولين إن شاء الله: أنه تجب عليه الزكاة إذا باعها لسنة واحدة. ولذلك قد تجد الرجل يعرض الأرض للبيع عشر سنوات ثم يطرأ أن يبنيها لنفسه، فلم يتحقق بيعها أصلاً، ولذلك أصح الأقوال في هذا: أن الأرض تزكى لعام، فإن خرج الإنسان من الخلاف وأحب أن يزكي كل سنة فلن يضيع الله أجر من أحسن عملاً. كيف تزكى؟ المبلغ الذي يقبضه يزكيه، وقد ورد في السؤال: وقد يبيعها أو قد يبني عليها مستقبلاً. فنقول: هذه نية مترددة، إذا كان متردداً بين أن يبيع وبين أن يبني، فلا تجب عليه الزكاة، وإنما تجب الزكاة إذا تمحضت النية، وقصد فعلاً البيع، وثبت على هذه النية.

عدم اختصاص الاحتكار بالأرزاق على القول الراجح

عدم اختصاص الاحتكار بالأرزاق على القول الراجح Q هل الاحتكار في جميع الأموال أم يقتصر على الطعام؟ A هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، بعض العلماء يقول: الاحتكار خاص بالأرزاق، ومنهم من يرى العموم، والذين يرون العموم يقولون: لعموم النص: (لا يحتكر إلا خاطئ) حيث لم يفرق. والحقيقة: مذهب العموم قوي من ظاهر الحديث والرواية، لكن تخصيص العلماء كان من جهة الإضرار، لأن المعنى الموجود في النص هو الإضرار بالناس. ولو احتاط الإنسان أفضل، أعني خروجه من الخلاف أفضل.

حقيقة الاحتكار وحكمه وحالاته

حقيقة الاحتكار وحكمه وحالاته Q ما حكم احتكار البضائع؟ A احتكار البضائع ورد فيه الحديث الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) وورد النهي في أحاديث أخرى منها الحسن ومنها الضعيف، حتى ورد الوعيد الشديد على الاحتكار، لكن العلماء -رحمة الله عليهم- فصَّلُوا: أولاً: الاحتكار -كما هو معلوم- أن يمسك السلعة ولا ينزلها للبيع في السوق وينتظر غلاء الأسعار. هذا الاحتكار له حالات: الحالة الأولى: أن يمتنع من بيعها بسبب عدم وجود رأس المال أو الربح المعقول فيها، مثال ذلك: اشترى طعاماً بمائة ألف، فالمائة الألف هذه قيمة رأس المال في الطعام، وكانت تكلفة جلب هذا الطعام عشرة آلاف، فأصبح رأس المال وتكلفة جلب الطعام مائة وعشرة آلاف، فجاء يقدر الوضع الموجود الآن -قبل شهر رمضان فرضاً- قال: لو بعت فإنني سأحصل على مائة أو على تسعين أو على مائة وخمسة -مثلاً- إذن فيه خسارة، قال العلماء: يجوز الاحتكار في مثل هذا؛ لأنه يتوصل إلى حقه، وليس قصده الإضرار، فلذلك قالوا: نيته ليست مخالفة للشرع، لا يقصد الأذية، والذي يطلبه حقاً من حقوقه؛ فجاز الاحتكار من أجله. الحالة الثانية: أن يجد الربح المعقول، ويمتنع من إخراج السلعة لربح أكثر، أو ينتظر ضيق السوق حتى يتحكم في قيمته، فهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يحتكر إلا خاطئ). فإذا كان يريد غلاء السوق، أو يريد أن يحتكر السوق عنده حتى يعرفه الزبائن، ولا ينطلقون إلى غيره؛ صحيح أنه يبيع ويأخذ قيمة الشيء وينال المال، ولكن نيته آثمة، وإنما الأعمال بالنيات. فلذلك هذا ينطبق على هذا الحكم، ولا يجوز الاحتكار في مثل هذه الصورة.

رحلة غريب

رحلة غريب إن الإنسان مهما طال عمره في هذه الدنيا، فلابد له أن يصير إلى الموت، ومهما عمّر فيها من الدور والقصور، فيوشك أن يفارقها إلى ظلمات القبور، فهي رحلة لكل إنسان يصل بعدها إلى ربه، وكلما زاد ركون المرء إلى الدنيا وإعمارها؛ كلما زاد شعوره بالغربة في حياته الأبدية الأخرى، والتي تبدأ بلبس الأكفان، ومجاورة الديدان.

بداية الرحلة إلى الدار الآخرة

بداية الرحلة إلى الدار الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). رحلة غريب رحلة غريب رحلة غريب. سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني الموت. !! {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]. طويت الصفحات، وصرت في عداد الأموات، كأن لم تكن في الدنيا. القبر!! وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني وكشف الثوب عن وجهي لينظرني. القيامة!! وخرجت من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربها حفاة عراة غرلاً، فلا أنساب ولا أحساب. الحساب!! {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28] * {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]. حطت الرحال، ففريق في جنة الله الكبير المتعال في دار الخلد والإجلال، وفريق في دار الخزي والندامة والعذاب والملامة. {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]. وبدأت الرحلة وبدأت الرحلة. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. إنها بداية الرحلة إلى الآخرة، إنها بداية عظيمة! فتخيل نفسك إذا ضعف جنانك، وثقل لسانك، وكثرت خطوبك، وعظمت كروبك، إذا عرضت عليك عند كشف الغطاء ذنوبك! إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة الدنيا إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها أنه فرط كثيراً في جنب الله إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرط فيها في جنب الله، ينادي: رباه! رباه! {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100]. يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].

القبر أول منازل الآخرة

القبر أول منازل الآخرة ثم نقلت عن الأحباب، وحملت إلى التراب، فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء؟ وأين نخلك المضطرد؟ أين رقاق ثيابك؟ فيا مجاور المهلكات! صرت في محل الأموات. وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني وكشف الثوب عن وجهي لينظرني وأسبل الدمع من عينيه أغرقني فقام محترماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني فلا إله إلا الله! من ساعة نزلت فيها أول منازل الآخرة، لا إله إلا الله! إذ صرت في عداد تلك السفينة الناخرة، واستقبلت الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة أو عيشة نكدة، ونزلت في عداد أولئك الغرباء، بين الأجداث والبلاء، هناك في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أب شفيق ولا أخ يؤانسني أين صديقك المؤانس؟ أين رفيقك المجالس؟ لقد وضعت في القبر على غير وهاد ولا وساد، ولا مقدمة زاد ولا استعداد، فتخيل نفسك في ذلك المكان. فيه الظلام كذا السكون مخيم والروح رُد وجاءني الملكان فلا إله إلا الله! من دار تقارب سكانها وتفاوت عمارها، فقبر يتقلب في النعيم والرضوان العظيم من الرحيم الحليم الكريم، وقبر في دركات الجحيم، والعذاب المقيم. ننادي ولا مجيب، ونستعصم ولا مستجيب، انقطعت الأيام بما فيها، وعاين الإنسان ما كان يقترف فيها. وهالني صورة في العين إذ نظرت من هول مَطْلَعِ ما قد كان أدهشني من منكر ونكير ما أقول لهم قد هالني أمرهم جداً فأفزعني وأقعدوني وجدوا في سؤالهم ما لي سواك إلهي من يخلصني أصبحت في ضيق وكربات، وهم وحسرات، من ظلمات القبور وسؤال منكر ونكير، والخلود في البرزخ إلى يوم البعث والنشور.

بعث الناس من القبور

بعث الناس من القبور ضمت القبور أهلها، وانطوت على من حل فيها، فلما حان الموعد جمعت تلك الأشلاء والأعضاء، ونادى منادي الله عليها أن تخرج إلى اللقاء الموعود واليوم المشهود إلى يوم تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. وخرج الناس من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربهم حفاة عراة غرلاً، فلا أنساب ولا أحساب، ولا جاه ولا عز ولا مال {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:51 - 52]. خرج العبد حسيراً كسيراً أسيراً خرج حقيراً ذليلاً، فلا أحد يكفيه، ولا شيء يواريه، خرج إلى الله حافياً عارياً خرج إلى ربه خرج إلى خالقه خرج إلى جبار السماوات والأرض ووقف أمامه حتى يسأله ويحاسبه {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:52 - 54]. فلا إله إلا الله! من يوم بطلت فيه الملهيات، وزالت فيه المغريات، وعاين العبد فيه الحقائق أمام عينيه، جُمع فيه الناس على أرض واحدة: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]. كيف احتيالي إذا جاء الكتاب غداً وقد حشرت بأثقالي وأوزاري وقد نظرت إلى صحفي مسودة من شؤم ذنب قديم العهد أو طاري وقد تجلى لهتك الستر خالقنا يوم المعاد ويوم الذل والعار فلا إله إلا الله! من أرض لم تطأها قدم غير تلك الأقدام، ولا إله إلا الله! إذا شعت الشمس وتبدد الظلام، ولا إله إلا الله! إذا طال الوقوف بين يديه، ولا إله إلا الله! يوم يرهن العبد بما جناه بيديه. {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]. إنه يوم تجتمع فيه الخصوم، وينصف فيه المظلوم إنه اليوم الذي أعده الله للعباد، فتنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، لحكومة إله الأولين والآخرين.

حال الإنسان عند حلول سكرات الموت

حال الإنسان عند حلول سكرات الموت وتخيل نفسك طريحاً بين أهلك، وقد وقعت في الحسرة، وجفتك العبرة، وثقل منك اللسان، واشتدت بك الأحزان، وعلا صراخ الأهل والإخوان. كأنني بين كل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد تجمع حولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني ويدعى لك الأطباء، ويجمع لك الدواء؛ فلا يزيدك ذلك إلا هماً وبلاءً. وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني وبعدها: تيقنت أن الموت قد فاجأك، وأن ملك الموت قد وافاك، فيئس منك الطبيب، وفارقك الحبيب، فوقعت في الحسرة، وجاءتك السكرة. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. فتخيل نفسك وأنت في نزع الموت وكربه، إذا نظرت ببصرك إلى من هم حولك، فرأيت أمك وأباك وأختك وأخاك، وقد سالت منهم الدموع فلا ترد عليهم جواباً، ولا يستطيع لسانك خطاباً. تلك اللحظة التي يلقي الإنسان فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات، والإخوان والأخوات، يلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من قلبه الآهات والزفرات. واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني ثم اشتد بك النزع والسياق، وقد بلغت الروح التراقي. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29]. وبطلت بعدها كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، وعلمت أن نهاية المطاف: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30]. لا إله إلا الله! من ساعة تطوى فيها صحيفتك، إما على الحسنات أو على السيئات، تتمنى حسنة تزاد في الأعمال، تتمنى حسنة تزاد في الأقوال، تتمنى صلاح الأقوال والأفعال. {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10]. تحس بقلب متقطع من الألم، تحس بالشعور والندم؛ أن الأيام انتهت، وأن الدنيا قد انطوت. وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شرا الكفن وقام من كان أولى الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فتخيل حالك -أيها الغافل- يوم تقلّب على المغتسل بيد الغاسل، قد زال عزك عنك، وسلب مالك منك، وأُخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، ونودي أين المغسل؟! فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وألبسوني ثياباً لا كمام لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني ثم ألبسوك الكفن، وحملت إلى العفن، وأخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، وأسلمت إلى الدود، وصرت رهيناً بين اللحود، وصار القبر مأواك إلى يوم القيامة ومثواك. {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]. في لحظة واحدة أصبح العبد كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، طويت الصفحات، وصرت في عداد الأموات، تذكر كأن لم تكن في الدنيا، كأن عينيك لم تر، وكأن أذنك لم تسمع، وكأن الأرض لم تضرب عليها الخطى. وأخرجوني من الدنيا فواأسفا على رحيل بلا زاد يبلغني وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني

وقوف العبد بين يدي الله

وقوف العبد بين يدي الله إنها المسئولية العظيمة المسئولية الجليلة الخطيرة، إنها مسئولية الآخرة، كل هذه الجموع، وكل هذه الأمم أقيمت في ذلك المشهد العظيم، وذلك اليوم العظيم؛ لكي تنهال عليها الأسئلة، وتعد لها درجاتها ودركاتها بحسب ما تجيب. إنه اليوم الذي جمع الله فيه الأولين والآخرين من أجل السؤال، هناك حيث تغص الحناجر بغصصها، هناك {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]. وأبى الله إلا أن تشخص إلى السماء بعينيك، تنتظر فصل القضاء، تنتظر حكم رب الأرض والسماء، أفي الجنة أم في النار يكون القرار!! وشخصت الأبصار بين يدي الواحد القهار. {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]. ليت شعري إذا أتيت فردا والموازين قد نصبت حيالي والدواوين قد نشرت وجئنا والنبيون يشهدون سؤالي ما اعتذاري وما أقول لربي في سؤالي وما يكون مقالي هناك حيث تقف بين يدي الله، والشهود حاضرة، والعيون إلى الله ناظرة هناك حيث يوقف العبد بين يدي الله جل جلاله، فينادي منادي الله: يا فلان ابن فلانة! قم للعرض على الله. فلا ينادى أحد بأبيه؛ لكي تزول الأحساب والأنساب؛ ويذل العباد بين يدي الله رب الأرباب. {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:108 - 109]. فدعيت أمام الأولين والآخرين، فارتعدت فرائصك من خشية الله، واصطكت القدمان بين يدي الله، وجئت من دارك إلى لقاء الله، وسألك الله عن الأيام التي مضت، وعن السنين والأعوام التي انقضت، سألك عن الشباب وما كان فيه من اللهو مع الأصحاب والأحباب فنشرت بين يديك الأوقات لا تفوت منها لحظة واحدة، فإما لك وإما عليك. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. وعرض عليك الشباب بأيامه وما فيه من الشهوات والملهيات، وكشفت الأستار وتبدت للأنظار، هناك حيث تشهد عليك الليالي بما اجترحت فيها. {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].

مصير أهل السعادة يوم القيامة

مصير أهل السعادة يوم القيامة تذكر حالك وحال قلبك يوم تقف بين يدي الله حافياً عارياً مكشوفاً ذليلاً، مذهولاً متحيراً، قد ترادفت عليك الهموم والكروب، وأحاطت بك الأهوال والخطوب. {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. هناك حيث تحمد عيناً سهرت على طاعة الله، وقدماً طالما انتصبت بالوقوف بين يدي الله، فقلت: رباه! أما ليلي فوقوف بين يديك أناجيك بالقرآن، وأما نهاري فصيام لوجهك يا رحمان، وأما يدي فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم سترت بها من عورات، وكم فرجت بها من كربات، ونفقات أنفقتها لهذا اليوم العظيم، فحسن فيك ظني، فلا تخيبني وقد وقفت بين يديك. {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:111 - 112]. وأما جناني فأسكنته حبك وتوحيدك، فعشت -وأنت الشهيد- أوحدك وأنت الحميد المجيد، ما ناديت أحداً سواك، ولا تعلقت بشيء عداك. ربي! صببت علي البلايا، فعذت بك وحدك ولم أعذ بشيء عداك، وصببت علي الرزايا فصبرت واحتسبت لهذا الموقف بين يديك. وأما لساني فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم ذكرت به مع الذاكرين، وكم أثنيت عليك به مع المثنيين، وكم تلوت به آياتك، اللهم فعلتها وصغتها لوجهك العظيم اللهم فعلتها ابتغاء رضوانك الكريم. {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. وأما رجلي فضربت بها الخطى، اللهم خرجت بها في الظلمات فقمت بها مع القائمين، ونصبتها مع الراكعين الساجدين. وأما يدي فكم رفعتها ضارعة بين يديك. وأما وجهي فقد عفرته بالسجود بين يديك. فيا من خشع لك سمعي وبصري! نجني من هول هذا اليوم العظيم. يا واحداً صمداً بغير قرين ارحم ضراعة عبدك المسكين واعطف علي إذا وقفت مروعاً حيراناً بين يديك يوم الدين ما حيلتي في يوم نشر صحيفتي إذا قيل لي خذها بغير يمين لا حيلة عندي ولا لي موئل إن خانني طمعي وحسن ظنوني يا رب لا تترك عبيدك هالكاً وارحم بفضلك عبرتي وشجوني اللهم مع هذه الحسنات والباقيات الصالحات فالفضل لك جل جلالك، والفضل لك وحدك لا إله غيرك {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111]. فقيل: من شهودك؟ فشهدت الأرض التي أقلتك، والسماء التي أظلتك.

مآل المؤمنين دخول جنات النعيم

مآل المؤمنين دخول جنات النعيم وقال الله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69]. خذوا عبدي إلى جنات النعيم، خذوه إلى الرضوان العظيم، فنال الكتاب باليمين، وصاح أمام العالمين: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24]. ففتحت أبواب الجنان. هذي الجنان تزينت وتفتحت أبوابها فعجبت للعشاق أينام من عشق الجنان وحورها وكرائم الجنات للسباق بل كيف يغفل موقن بعظيم سلعة ربه وبذا النعيم الباقي فهنيئاً لتلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله تناديه، وهنيئاً لتلك الألسن التي عجّت بالدعاء بين يديه تناجيه، اليوم يومها، والنعيم نعيمها، والسرور سرورها. {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31 - 35]. هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باق وليس بفانِ وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحوم طير ناعم وسمان وفواكه شتى بحسب مناهم يا شبعة كمُلت لذي الإيمان لحم وخمر والنسا وفواكه والطيب مع رَوح ومع ريحان فيا لها من لحظات سعيدة! إنها لحظة الفوز العظيم إنها لحظة الزحام على الخلد والنعيم المقيم، وعلى السعادة الأبدية، فكأني بأهل الجنة وقد فتحت أبوابها، وقد ذهلوا من عبقها وأريجها وتربها وترابها! وهيج الشوق فيهم قصورها وحسانها! وخطف الأبصار منهم ديباجها وسندسها وإستبرقها! {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:54 - 60]. فطوبى لمن كانت الجنة مأواه!، وهنيئاً لمن كان هذا أمله وذلك منتهاه!، فيا غافلاً: انتبه! فيا غافلاً: انتبه! فقد جد الرحيل. يا غافلاً عما خلقت له انتبه جد الرحيل ولست باليقظان أألهتك اللذائذ والأماني عن الفردوس والظل الدواني؟ ولذة نومة عن خير عيش مع الخيرات في غرف الجنان تيقظ من منامك إن خيراً من النوم التهجد بالقرآن

عرض الظالمين على رب العالمين

عرض الظالمين على رب العالمين ونادى منادي الله لتلك النفس الظالمة في جنب الله: يا فلان ابن فلانة! أن قم إلى العرض بين يدي الله، فسئل عن ليل طالما في الإثم قضاه، وعن نهار طالما في الباطل أضاعه، فنادى منادي الله: أي حسنة ترجوها عندنا؟ وأي صالحة قدمتها في جنبنا؟ فنشرت الفضائح، وصاح بين يدي الله الصائح: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. فقالت القدم: إلى الحرام طالما مشيت، وفي جنبك -رباه- أسأت واعتديت. وقالت اليد: كم افترفت من الآثام! وكم هتكت وأكلت من الحرام! فما خفت منك -ربي- حقيقة الخوف. وقالت العين: أما أنا فقد نظرت وتمتعت، رباه! متعني بالحرام، واستعان بي في تزيين الفواحش والآثام، وشهدت الفروج بآثامها، والجوارح بخطيئاتها، ثم عرضت على الله مظالمها {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21]. فشهدت الجوارح بآثامها، وعرضت الفضائح بين يدي الله ربها، فقال الله: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه؛ فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني. عصيت الله ألوان المعاصي كأني لست أوقن بالقصاص فما لي لا أنوح على ذنوبي وأبكي يوم يؤخذ بالنواصي {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:40 - 41]. ووقفت تلك النفس الآثمة الظالمة على نار تلظى، وجحيم لا يفنى، وبدا لها مآلها، وتمنت أن لو رجعت لكي تسكن في جنب ربها، فكبكبت على رأسها وجبينها، فهوت في جهنم كالبهائم، وتقلبت بين الدركات والظلمات والحسرات. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:103 - 108]. مضت الشهوات بأهلها، وانقضت النيات بأصحابها، وذاق الهوان بعد المعزة والكرامة، ونزل إلى ذلك الدرك العظيم من الجحيم، فكأن لم يكن مر به نعيم قط.

مآل الظالمين يوم القيامة

مآل الظالمين يوم القيامة روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، وعزتك). فيا سبحان الله! بغمسة واحدة في النار نسي النعيم والسرور، ونسي المرح والحبور، فكيف بمن يكبون على وجوههم مغلولين! النار من تحتهم، والنار من فوقهم عن يمينهم نار، وعن شمالهم نار، فهم غرقى في النار طعامهم نار، وشرابهم نار، ولباسهم نار، ومهادهم نار، تغلي بهم النار كغلي القدور {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21]. أما سمعت بأهل النار في النار وعن مُقاساة ما يلقون في النار أما سمعت بأكباد لهم صدعت خوفاً من النار فانزالت على النار أما سمعت بأغلال تناط بهم فيسحبون بها سحباً على النار أما سمعت بأنفاس لهم حبست عن التنفس من حرارة النار أما سمعت بأجساد لهم نضجت من العذاب ومن غلي على النار {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]. وهوى في تلك الدركات، رهين السيئات، فلا مال ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون، فرق بين الأم وولدها، والآباء وأبنائهم، وفرق بين الأصحاب والأحباب، فراق لا لقاء بعده أبداً، نعيم لا جحيم بعده، وجحيم لا نعيم وراءه {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]. {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51].

فريق في الجنة وفريق في السعير

فريق في الجنة وفريق في السعير وحطت الرحال ففريق في جنة الله الكبير المتعال، في دار الخلد والإجلال، وفريق في دار الخزي والندامة والعذاب والملامة، ووجد المؤمن ما قدم من الإحسان في درجات الجنان في جوار الرحمن مع الخيرات الحسان، وهناك يجد الكافر ما عمل من العصيان، في سموم النيران في جوار الشيطان مع الذل والهوان، ووجد المؤمن النعيم والخلود، ووجد الفاجر عذاباً غير مردود. فهل يستوي الفريقان؟ كلا -والله- لا يستويان. {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:18 - 21]. أخي: تذكر أن لك موعداً مع الموت وسكرته، والقبر وضمته، ويوم القيامة وكربته، والحساب وشدته، ثم إلى جنة أو إلى نار. ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن إن الغريب له حق لغربته على المقيمين في الأوطان والسكن لا تنهرن غريباً حال غربته الدهر ينهره بالذل والمحن سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتفكير والحزن دع عنك عذلي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني كأنني بين كل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد تجمع حولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني

دمعة في الحج

دمعة في الحج إن للحج أهمية عظيمة في الإسلام، وهو مدرسة فيها من العبر والعظات الكثير، وكثير من أعماله عبادات محضة لا تدرك الحكمة منها؛ لكن من أمعن النظر وغاص بفهمه في مناسك الحج ومواقفه؛ فإنه يقف على لطائف يشهد بها ضعف نفسه وحاجته إلى ربه، ويشهد منها كمال مولاه وعظمته، ومغفرته ورحمته، وعزته وجبروته، كما يشهد فيها حقارة الدنيا وقصرها، وأن الراكن إليها مغتر بزخرف منقطع.

وقفات مع الحاج إلى بيت الله الحرام

وقفات مع الحاج إلى بيت الله الحرام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: الحج ركن من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره العظام، دعا إليه رب العالمين، وأوجبه على عباده المستطيعين، نادى به نبيه الخليل، كما قص الله عز وجل خبره في التنزيل، نادى به فأذن، فبلغ الله أذانه، فلما علم عباد الله المؤمنين بذلك الدعاء وذلك النداء، تفتحت له أسماعهم، وتفتحت له قلوبهم، فصاروا له مجيبين ولداعيه ملبين، قطعوا الوهاد وساروا الفيافي وجاوزوا النجاد؛ محبة ومرضاة لرب العباد، ساروا إلى الله ملبين، ولرحمته طالبين، لم يخرجوا للدنيا، وإنما خرجوا لرحمة الله طامعين، وفي جوده وإحسانه وعظيم كرمه آملين، خرجوا إلى الله وقلوبهم مليئة بالإجلال والشوق والحنين إلى عفو الله، خرجوا وما كانت الدنيا نصب أعينهم إذ خرجوا، خرجوا وكلهم أمل في الله تبارك وتعالى أن يناديهم: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور. لذلك أحبتي في الله! ما ضربت قدم على الأرض أشرف عند الله عز وجل ولا أزكى من قدم المطيع لربه، وما وفد وافد يسير على الفجاج أحب إلى الله من وافد على بيته من هذا الركب العزيز الذي فارق كل عزيز. إنه ركب الله ووفد الله القادم على الله، لذلك قصة هذا الركب قصة مليئة بالعبر والعظات، فهو الوفد الذي لله خشع، وفي رحمة الله طمع، إنه وفد الله الذي تذكرك أقواله وأفعاله برحمة الله، أقوام باعوا الساعات واللحظات لكي يتقربوا إلى رب البريات. خرجوا إلى الله تبارك وتعالى بهذه الرحلة التي سطرت في دواوين الحسنات، فأقيلت بها العثرات، ورفعت بها الدرجات، فيا لله! كم فائز منهم برحمة الله! ويا لله! كم سعيد منهم برضوان الله!

الوقفة الأخيرة: حال الحاج عند طواف الوداع

الوقفة الأخيرة: حال الحاج عند طواف الوداع أحبتي في الله! وبعد ذلك -وما بعد ذلك؟ - يسير العبد إلى آخر مرحلة من حجه، وهي: طواف الوداع، وهيا للحظة الأخيرة التي يودع فيها الإنسان بيت الله الحرام، يودع فيها دار السلام، يطوف بذلك البيت لكي يكون آخر عهده بالبيت طوافاً، ولطواف الوداع حلاوة، ولطواف الوداع لذة وطلاوة. طواف الوداع يذكرك بفضل هذه المنازل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان الناس يسفرون من فجاج منى وعرفات) كان الناس يسفرون، يعني: يخرجون إلى ديارهم، ويرجعون إلى أمصارهم من فجاج منى وعرفات (فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً). فإذا طاف الإنسان طواف الوداع طافت به أشجان وأحزان، لأن العبد الصالح من أعظم ما يؤلمه، وأشد ما يجده في دينه إذا فارق الطاعة والعبادة، ولذلك كان بعض السلف إذا كانت آخر ليلة من رمضان جلس يبكي ويقول: ألا ليت شعري من هو المحروم فنعزيه؟ ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه؟ فالإنسان إذا قضى عبادته وانتهى من حجه، فإنه لا يدري أقبل الله حجته أم لم يقبلها، وإن كان الظن بالله حسناً، فوالله لو عاملنا الله بما نحن أهل ما طمعنا في شيء، ولكن هي رحمته، وهو حلمه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته). فما هذه العبادة التي قمت بها؟ وما هذا الموقف الذي وقفته؟ وما هذه الجمرات التي رميت؟ وما هذه الليالي التي بت في جنب نعم الله، وفي جنب منن الله، وفي جنب فضائل الله وإحسان الله بي؟ فتأتي تلك الساعة وهو يحتقر العبادة. إياك ثم إياك أن يأتي وأنت تدلي على الله بالعمل، إياك ثم إياك أن تحس من النفس غرورها، أو يلتهب في النفس شرورها، فتقول: أنت العبد الصالح، ها قد أديت فريضة الله، ها قد فعلت وها قد فعلت. لا، إنها ساعة الفراق التي يمتلئ فيها القلب ذلة لله عز وجل وطمعاً في أن يتقبل الله منك العمل. كان عبد الله بن عمر صحابياً جليلاً، حتى ورد في بعض كتب السير: -كما في الحلية وغيرها- (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة) من صلاحه رضي الله عنه وأرضاه، وكان إذا رأى عبداً يصلي ويكثر الصلاة أعتقه لوجه الله، قالوا له: إنهم يخدعونك بكثرة الصلاة. قال: من خدعنا لله انخدعنا له. هذا الصحابي الجليل حضرته الوفاة فجلس يبكي فجاءه ابنه سالم، وقال: يا أبتاه! ألم تكن كذا وكذا وكذا. يذكره بما كان عليه من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ يعدد فضائله التي فضله الله عز وجل بها حتى أكثر عليه، فقال رضي الله عنه: أجلسوني، ثم قال: يا بني! أتدري ممن يتقبل الله؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] ما عد نفسه شيئاً. إذا كان هذا عبد الله بن عمر، فكيف نحن نطمع بحسناتنا وصالح أقوالنا وأفعالنا؟! وما يدري العبد لعل ذنباً أصابه أوجب عليه سخطاً لا رضا بعده، ولعل كبيرةً أصابها، ولعل عبداً من عباد الله ظلمه بمظلمة لم يقبل الله عز وجل عليه بعدها؟! والأمور مردها إلى الله عز وجل: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105]. لا أحد يدري هل قبل الله العبادة أم لم يقبلها؟! لذلك فإن الإنسان في هذه اللحظات يوصى باحتقار العمل، ولذلك قال العلماء: إن احتقار العمل من مظان القبول. إذا جاءت هذه اللحظة وصدرت عن البيت صدرت وكلك شوق وحنين أن يرحمك الله بقبول الحجة، وناديه وناديه وقل: يا رب! اقبل حجتي، واغفر ذنبي، وضع عني إصري. ادع الله دعاء المضطر ودعاء المستغيث المستجير به جل شأنه. حتى إذا انتهيت من ذلك فاسأل الله أن لا يجعله آخر العهد ببيته، بل تعود مرات ومرات. ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عن بعض السلف: أنه وقف بمزدلفة -في المشعر- وقال: والله الذي لا إله إلا هو! إن لي ثلاثين عاماً أسأل الله ألا يجعله آخر العهد بهذا الموضع، وقد استجاب الله دعوتي، وإني لأستحيي أن أسأله هذا العام. فرجع فقبضه الله عز وجل. ولذلك من طمع في أن الله عز وجل لا يجعلها آخر حجة له فإن الله كريم قد لا يخيبه في طمعه، فاجعل في نفسك حنيناً ألا يجعلها آخر العهد ببيته، وألا يجعله آخر العهد بطاعته. حتى إذا رجعت إلى الديار، وأقبلت على الأمصار عندها تذكر ما بينك وبين الله من العهود، تذكر ما بينك وبين الله من المواثيق، وقل بلسان الحال والمقال: توبة نصوح لا ذنب بعدها إن شاء الله. قال بعض العلماء: من علامة قبول الحج أن يكون العبد بعد الحج أصلح منه حالاً قبل الحج. يا عبد الله! إذا لبيت لله فاعلم أنك قد عاهدت الله على توحيده؛ فإياك أن ترجع -والعياذ بالله- بالله مشركاً، إياك بعد أن ناديته وتشرفت بالوقوف بين يديه أن تستغيث بأحد سواه، أو تستجير بمن عداه، فقد وجدته حليماً رحيماً، ووجدته جواداً كريماً، فإلى أين تفر؟! إلى أين تعرض؟! فلذلك اجعله عهداً بينك وبين الله أن لا معاذ ولا ملاذ ولا منجى ولا ملجأ من الله إلا إلى الله، اجعله عهداً مؤكداً، واجعله عهداً موثقاً أن تكون على طاعة واستقامة إلى أن تلقى الله تبارك وتعالى. إذا كنت بالمعاصي مبتلى فخذها طريقاً إلى التوبة النصوح، خذها حجة تمنعك وتحجبك عن معاصي الله عز وجل، فقد حللت به ضيفاً، وضيف الله يستحيي من الله، فبعد أن أقدمك الله إلى هذه الديار، وتشرفت بذكر العظيم القهار، عندها ترجع عبداً صالحاً تقياً ورعاً. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى حجاً مبروراً! وسعياً مشكوراً! وذنباً مغفوراً! اللهم إنا نسألك أن تيسر لحجاج بيتك الحرام حجهم، اللهم يسر لهم حجهم! اللهم ارحم ضعفهم! اللهم ارحم غربتهم! اللهم ارحم فقرهم! اللهم ردهم إلى ديارهم سالمين غانمين رابحين! اللهم ردهم إلى ديارهم مرداً جميلاً! اللهم ردهم إلى ديارهم مرداً جميلاً! وهب لهم عملاً صالحاً مباركاً جليلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين!! اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تؤمنهم في حجهم بأمنك! اللهم أمنهم في حجهم بأمنك! اللهم أمنهم في حجهم بأمنك! اللهم الطف بهم حضراً وسفراً! اللهم الطف بهم حضراً وسفراً! اللهم ادفع عنهم الوباء! وأزل عنهم الشعث والعناء، واجعلهم في صحة وعافية، وبلغهم رضوانك يا رب العالمين! اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الوقفة السابعة: حال الحاج عند إفاضته من عرفات إلى المشعر الحرام

الوقفة السابعة: حال الحاج عند إفاضته من عرفات إلى المشعر الحرام ثم إلى المشعر وعند المشعر يفيضون إليه بقلوب مغسولة، مليئة بالخشوع مليئة بالإنابة والخضوع، قلوب تعظم الله تبارك وتعالى، كيف وقد حطت الخطايا، كيف وقد غسلت الرزايا. يقفون بالمشعر حتى إذا شاء الله عز وجل لهم وقضوا منسكهم فصلوا فجرهم ووقفوا موقفهم أنابوا وتضرعوا، ورفعوا الأكف إلى الله وقالوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. يحسون بهيبة المشعر وجلال ذلك الموقف، يقفون وكلهم شوق إلى رحمة الله بعد أن أفاضوا وأنابوا إلى ربهم، ولرحمته أصابوا.

الوقفة الثامنة: حال الحاج في منى

الوقفة الثامنة: حال الحاج في منى ثم إلى منى، ومن منى إلى البيت العتيق: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] في هذه الأيام المباركات الأيام المعدودات ذكر وشكر واستغفار وتعظيم للعظيم القهار، أيام منىً أيام الذاكرين أيام الشاكرين، أحسوا بأن الله أصابهم برحمته، وأصابهم بعفوه ولطفه؛ فأخذت الألسن لا تفتر عن ذكره وشكره، وحق لها والله! بعد أن أصابت رحمة الله أن تثني على الله، وكيف لا تثني عليه وقد أعطاها عطاءً هو العطاء في الدنيا؟! فليس هناك عطاء أعظم من أن يغفر الله ذنبك وأن يضع عنك وزرك، وهي المنة التي امتن الله بها على عباده، وامتن بها على خير خلقه صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. وفي منى تلك الساعات الطيبات، تلقى فيها الوجوه مضيئة، تلقى فيها الوجوه مشرقة من آثار العبادة، تلقى فيها إخواناً لك في الإسلام والدين لم يجمعك بهم حسب ولا نسب، ولم تجمعك بهم قربى، بل لم ترهم عينك من قبل قط، ولكن ترى وجهه فتعلم أنه يشهد أن لا إله إلا الله فتحبه وتسلم عليه وتهنئه، تهنئه برحمة الله عليك وعليه. يا أحبتي في الله! أيام منى أيام جمع للمسلمين، لا يليق بالمسلم وهو يسير أمام إخوانه إلا وهو يفشي السلام بين المسلمين ويحسن إليهم بالإجلال والإكرام. إذا ضاعت أخوة الإسلام في أيام منى وأنت مع إخوانك الطيبين المباركين، الذين أصابهم الله برحمته، فأين توجد أخوة الإسلام؟! أحبتي في الله! إنها الأيام الطيبات، أيام تتلذذ فيها الأسماع بالتكبير والتحميد. أين المكبرون؟! أين الحامدون؟! أين المهللون؟! أين الذاكرون؟! ولقد كنا منذ أعوام يسيرة في الحج إذا مضينا إلى الجمرات والله ثم والله لا تفتر ألسنتنا عن ذكر الله: الله أكبر، ترتج بها أسواق منى وترتج منها خيام منى، فأين تلك الصفوة المباركة، ما بالنا قد نسينا شرعنا؟! ما بالنا نظرنا إلى هذا الحج وكأنه طقوس لا معنى لها؟! أحبتي في الله! حق لمن وقف بها، وحق لمن نزل إليها أن يرفع صوته بالتكبير إعظاماً للعلي الكبير، وشكراً للعزيز الغفور.

الوقفة السادسة: فضل يوم عرفة وحال الحاج في هذا اليوم

الوقفة السادسة: فضل يوم عرفة وحال الحاج في هذا اليوم حتى إذا شاء الله عز وجل ما شاء فمضيت بين الصفا والمروة، تنتقل من معلم توحيد إلى معلم توحيد لرب العبيد، حتى إذا شاء الله لك أن تبلغ الموطن المبارك، الذي هو الحج الأكبر، إنه عرفات، وما أدراك ما يوم عرفات؟! يوم تفطرت فيه القلوب لرب البريات، ما طلعت الشمس على يوم أفضل عند الله من يوم عرفة. أخي في الله! إذا طلعت عليك الشمس ذلك اليوم فنادي النفس نداءاً صادقاً، هو يوم واحد، وقد كان من لطف الله وتيسيره أن جعل الموقف بعد الزوال سويعات، فاحتسب عند الله تبارك وتعالى فيها بالدعوات، وادخل إلى عرفات بقلب منكسر لرب البريات، وأصب من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لك. حتى إذا انتهيت من صلاتك، وسمعت المواعظ التي ينبغي لكل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يترسم نهجها، وأن يسير على سبيلها، حتى إذا قضيت ذلك كله سرت إلى الموقف، سرت بذلك القلب المنكسر إلى الله تبارك وتعالى، سرت وأنت تتذكر ذنوباً بينك وبين الله، والعبد يسير إلى الموقف بخطىً ثقيلة؛ حينما يتذكر الذنوب فيما بينه وبين الله، يسير وهو منكسر إلى العلي الكبير، يسير وهو يحس من نفسه أن الذنوب تؤرقه، وأن الخطايا تحطه وتهده. حتى إذا صار إلى موقفه ووقف بين يدي الله تبارك وتعالى نسي الدنيا وما فيها، وأقبل على الله يناجيه ويناديه، بين لوعتين: لوعة الماضي، ولوعة المستقبل؛ أما الماضي فبينه وبين الله حدود طالما جاوزها، ومحارم طالما أصابها، وبينه وبين الله حدود لعباده أصابها، وحقوق لخلقه ضيعها، فإذا صار العبد إلى ذلك الموقف، يصير بذلك القلب الخاشع الذليل، ويا لله ما أعظمه من موقف! لو أن الإنسان استشعر تلك الساعة المباركة، التي يدنو الله عز وجل فيها دنواً يليق بجلاله وعظمته لأهل الموقف، ويقول لملائكته: (ما أراد هؤلاء؟) يقول بعض العلماء: استفهام إجلال وإعظام وإكبار، أي: أي شيء أراد هؤلاء؟ يدل على أن الله سينزل عليهم من رحمته ورضوانه بما لم يخطر على بال، (ماذا أراد هؤلاء؟) أينسى الله تبارك وتعالى؟! {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]. تلك الخطى التي قدمت بها عليه، أينسى إذ تغبر الخطى إليه؟ أينسى الشعث الذي تقربت به إليه؟ حتى إن الإمام أحمد رحمه الله سئل: هل ينظر الحاج في المرآة؟ قال: إن كان ينظر من أجل إصلاح شعره فلا؛ حتى لا يذهب شعثه. يقول بعض العلماء: إن الله تعالى يباهي بشعث الإنسان وغبره، ولذلك استحب العلماء إذا كان الإنسان له إزاراً فاتسخ أو أصابه شيء من القذر أن يقف به، حتى يكون أبلغ في الذلة لله عز وجل، حتى يكون أبلغ في التجرد من الدنيا، حتى يكون أبلغ في أنه يحس بالآخرة، وأنه والله ما قدم لكي يتعالى على عباد الله؛ ولكن ليذل لله حق والله للعبد أن يتذلل له سبحانه، وحق له أن ينكسر لربه تبارك وتعالى. تبارك الله وجل الله فهو أعظم ما فاهت به الأفواه! سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف وإذا لم يذل العبد لربه فلمن يذل؟! ثم ارم بطرفك إلى هذه الأمم التي اجتمعت على عرفات، ذابت أنسابهم، وذهبت أحسابهم، وأصبحوا لا تستطيع أن تفرق بين الغني والفقير، لا تستطيع أن تميز بين الجليل والحقير، أكف إلى الله رافعة، وعيون من خشيته دامعة، وقلوب وأفئدة لجلاله منكسرة، كم فيها من مظاهر تراهم وكأنهم على صفة رجل واحد، ولكن بين بعضهم بعضاً من الفضل والدرجات كما بين السماء والأرض، بماذا؟ بالقلوب. وقفوا في تلك المواقف، وقلوبهم متباينة في الإجلال والإعظام والانكسار، والذكر للعليم القهار؛ لذلك يوم عرفة يوم مشهود، هذا اليوم يذكر بالموقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك إذا وقف العبد بعرفات، ونظر إلى تلك البريات، ونظر إلى تلك الأصوات والصيحات، فسبحان من علم لغاتها! وسبحان من ميز ألفاظها! وسبحان من قضى حوائجها! لا يخفى عليه صوت، ولا تعجزه حاجة، أحد فرد صمد، لا يعييه سؤال سائل! لذلك أحبتي في الله! النظر في حال يوم عرفة يذكر بالله تبارك وتعالى. كان الناس مع الخليفة سليمان بن عبد الملك فجاءت صاعقة وهم وقوف بعرفة، ففزع الناس فزعاً شديداً، وفزع الخليفة سليمان رحمه الله فزعاً شديداً من تلك الصاعقة، فقال له عمر: يا أمير المؤمنين! هذه بين يدي رحمته؛ فكيف بالتي بين يدي عذابه؟! إذا كان هذا والناس وقوف بين يدي الله يرجون رحمته؛ فكيف إذا وقفوا بعرصات يوم القيامة؟! وكما ثبت في الخبر يقول: (لقد غضب الله في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله قط ولم يغضب مثله قط)، وهذا يدل على عظم الموقف بين يدي الله تبارك وتعالى. اللهم سلمنا في ذلك الموقف! اللهم سلمنا فيه بعظمتك يا عظيم! ورحمتك يا رحيم! أحبتي في الله! يوم عرفة وما يوم عرفة! كل من حولك يحرك وجدانه، كل من حولك يحرك إحساسه، إن كان القلب قاسياً فإنه يصير خاشعاً، تسمع هذا يبكي وهذا يشتكي، وهذا يشجي، فتقول: سبحان الله! من لهذه الحاجات سوى الله؟ من لهذه الدعوات غير الله؟ جاءوا إليه من بلاد بعيدة، وقطعوها في أزمنة مديدة، جاءوا بهموم لا يفرجها سواه، وكربات لا ينفسها أحد عداه، جاءوا وكلهم يقين في أنه ليس لحاجتهم أحد غيره؛ وحق لهم ذلك. أحبتي في الله! وما هي إلا لحظات حتى يشاء الله عز وجل للعبد، فينقضي موقفه، وتغيب عليه شمسه، ويأذن الله لأهل ذلك الموقف بالانصراف. وتأتي تلك الساعة العصيبة، والله إنها لمن أمر الساعات في الحج، وأعظم ساعة يتألم الإنسان فيها أثناء الحج، إنها ساعة الانصراف من عرفة، لا يدري هل الله عز وجل قبل دعوته أم لم يقبلها؟! لا يدري هل أجاب الله سؤاله أم لم يجبه؟! لا يدري أمرحوم أم محروم؟! لا يدري أيعطيه أم يحرمه؟! فلذلك يبلغ بالإنسان من الشجن والأسى ما لا يعلمه إلا الله، فهو يقول: أأفيض ربي؟! فهل أنت راضٍ عني، أم لست راضياً عني؟! يناديه بقلب متقطع منفطر، رباه! إن لم ترض عني قبل هذا الموقف فارضَ عني قبل أن أفارق موقفي، يناديه بحسرة، يناديه بقلب متقطع يرجو رحمة الله؛ حتى لا يكون محروماً من عفو الله وفضل الله. أحبتي في الله! تلك ساعة مؤلمة، ساعة تهز وجدان المؤمن، حينما يتذكر أنه ينصرف من ذلك الموقف، ولذلك كان بعض السلف إذا حضرت ساعة النفرة من عرفة والدفع منها يشتد بكاؤه، ويعظم تضرعه إلى الله تبارك وتعالى، وقال بعضهم: والله! لو نادى منادي الله في أهل هذا الموقف: قد غفرت لكم إلا واحداً لعددت نفسي ذلك الرجل. أخي في الله! حتى إذا سرت بين الشعاب وسرت بين تلك الوهاد، فلا إله إلا الله كم يسير عليها عبد غفرت ذنوبه فهو كيوم ولدته أمه! لا إله إلا الله يدفعون من عرفات، دخلوها مثقلين، ليخرجوا منها من الذنوب والخطايا مغسولين! ما أعظمه من موقف، لا إله إلا الله! يسيرون بين تلك الشعاب، يسيرون بين تلك الأودية كيوم ولدتهم أمهاتهم، ما نظر الله إلى سيئات مضت ولا عاملهم بها. فيا لله! كم دعوة كتب لصاحبها سعادة لا يشقى بعدها أبداً! ويا لله! كم دعوة كتب لصاحبها رحمة لا يعذب بعدها أبداً! يسيرون بين تلك الشعاب العزيزة عند الله، بقلوب مليئة بإجلال الله، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يحسون معناها، ويتلذذون حلاوتها، ويصيبون فضلها وبغيتها.

الوقفة الأولى: تذكر فراق الدنيا عند وداع الأهل والأحباب

الوقفة الأولى: تذكر فراق الدنيا عند وداع الأهل والأحباب لذلك أحبتي في الله نسير مع هذه الركاب، وننتقل مع هذه الرحلة مرحلة مرحلة، لماذا عز عند الله شأنهم وارتفع عند الله قدرهم؟ لأن الحاج إلى بيت الله في جهاد وجلاد، من أول لحظة تدخل فيها تلك الكلمة التي تدعوه إلى الإقبال إلى بيت الله يعيش الصراع، هل أحج هذا العام أم أرجئ إلى الأعوام القادمة؟ يعيش أول ما يعيش في صراع مع نفس متخاذلة عن طاعة الله متثابطة، يصارعها يجالدها يجاهدها، ثم مع الزوجات، ثم مع الأبناء والبنات، ثم مع الأموال والتجارات، أأحج أم لا أحج؟ أأنتظر أم أبادر؟ حتى يشاء الله عز وجل أن يختاره في الركاب. فإذا عقدت النفس النية، وعقد القلب العزم على المسير إلى الله، والانتقال إلى رياض رحمة الله، إلى البيت العتيق، حتى إذا صدق عزمه وقوي يقينه؛ عندها تكون أول وقفة لنا مع الحاج إلى بيت الله الحرام. إذا عقدت الحج إلى بيت الله الحرام كانت أول وقفة حينما تشد الرحال، وتعزم على المسير إلى الكبير المتعال. فتقف على الباب لكي تنظر إلى الابن والبنت، لكي تنظر إلى الأخ والأخت، لكي تنظر بدمعة تسح على الخد لفراقهم، حتى إذا أصابت سويداء قلبك تلك الحسرة على فراقهم، إذا بنداء من الأعماق يذكرك بيوم عظيم، يذكرك بساعة للفراق وأي ساعة فراق! تناديك نفسك: يا عبد الله! اليوم تودعهم، وأنت قادر على الوداع بكلمات رقيقات؛ فكيف إذا انقطع الأثر وخسف البصر ونفذ القدر. كيف بك إذا أصبحت أسيراً للمسير إلى الله؟ فلذلك تتحرك في النفس ذكر الآخرة، تتحرك في سويداء القلب تلك العظة البالغة، اليوم تودعهم وغداً يودعونك، واليوم تنظر إليهم وغداً ينظرونك، اليوم تبادلهم الكلمات فمن لك إذا انقطع لسانك، ووجل جنانك، ولم تستطع أن تبيح بما في النفس من حسراتها. فهذه أول وقفة، ومن هذه الوقفة إلى ختام الحج تنتقل من مرحلة إلى مرحلة تذكر بالآخرة؛ فتجيش في النفس عبرتها؛ وتحرك في القلوب خشوعها.

الوقفة الثانية: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج من لبس الإحرام

الوقفة الثانية: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج من لبس الإحرام أما الوقفة الثانية: فبعد لحظات يسيرة فارقت الأهل والإخوان، وودعت الأحباب والخلان، فإذا بأوامر الشرع تأتيك عند الميقات، انزع ثيابك، وتجرد عن مخيطك، واغتسل لحجك وعمرتك؛ فاستجبت ولبيت، وقلت: سمعاً وطاعة. فغسلت واغتسلت وأزلت عنك الثياب. وما إن رفعت الثوب عن الجسد حتى تحركت في النفس أشجانها، وانبعثت في القلوب أحزانها، اليوم أزيل لباسي بنفسي، فكيف بغدٍ إذا أزيل عني لباسي؟! اليوم أرفع ثوبي بنفسي وأجرد عني المخيط، فكيف بي غداً إذا جردت من الثياب، وولجت من ذلك الباب مصيراً إلى رب الأرباب؟! اليوم أغسل نفسي، فكيف بي غداً إذ يغسلونني؟! وكيف بي إذ يكفنونني؟! وما هي إلا لحظات حتى تلبس الإزار وتنزع المخيط، وتنخرط مع تلك الجماعات؛ تلبية توحيداً تكبيراً تمجيداً، لا إله إلا الله! ما أعزها من خُطىً عند الله، وما أكرمها من وفود على الله، منذ أن تجردت من لباسك وأصبحت في عداد المحرمين، كأن هيئتك تقول لك: الآن أصبحت مع المحرمين، وغداً ستصير في عداد المغتربين. كما أن صاحب الإحرام تحظر عليه محظورات الإحرام، فلا طيب ولا متعة من الأمور المرفهة، كذلك إذا أوسد في لحده وأودع في قبره، فكأنه في المرحلة الثانية بعد لبس إزاره وردائه، فالله أكبر! ما أجلها من عظات، والله أكبر! ما أعظمها من آيات، دلت وشهدت بوحدانية رب البريات، فسارت الخطى على تلك الأرض، التي والله ما رفعت قدماً ولا حططت أخرى إلا سطرت في ديوانك، ولقيت بها رباً يبيض بها الوجوه إذا لقيه أصحابها.

الوقفة الثالثة: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج حين يتوجه إلى بيت الله

الوقفة الثالثة: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج حين يتوجه إلى بيت الله حين تسير مع الوافدين في عداد المسافرين، وكأن سفر الحج يذكرك بالسفر الطويل، يذكرك بالمسير إلى العظيم الجليل، سرت معهم فرأيت عبراً لا تنسى، وآيات عظيمة جل من وضعها وعلا، تسير في الركاب فترى في السفر عجباً وأي عجب! تسير مع الأصحاب والأحباب وترى إن نظرت أمامك إلى قفار ووهاد، إلى أشجار وثمار، إلى جبال وأنهار، تذكر بالواحد العظيم القهار. ما تقدمت ولا خطوت إلا وكان في قلبك أثر يذكرك بأن لا إله إلا الله، إنه كون مليء بالعبر، وعبادة تهز كيانك حتى تكون من المعتبرين، فسرت مع الراحلين وسرت مع المغتربين، وما هي إلا أيام حتى وطئت دار السلام.

الوقفة الرابعة: ما ينبغي على الحاج حين وصوله إلى بيت الله

الوقفة الرابعة: ما ينبغي على الحاج حين وصوله إلى بيت الله أخي في الله! تصدع بشكر الله والثناء على الله، فكم من وفود تمنت! وكم من قلوب حنت لكي تدخل البيت الحرام! كم من عيون تمنى أصحابها رؤية البيت الحرام! وكم من أجساد وأرواح طمعت أن تطوف ببيت الله! اخترمتها البحار، والتقمتها القفار، وصارت إلى العزيز القهار، والله تفضل فاختارك من بين العباد حاجاً وافداً، فما أجلها من نعمة وما أعظمها من منة! حتى إذا وطئت بيت الله وطئته وأنت تجل نعمة الله، وتعظم منحة الله، وطئت البيت الحرام وكلك إجلال وإعظام للملك العلام. أي بيت؟! أي مكان؟! أي بلد؟! أي منزل؟! إنه البلد الذي اختاره الله من بين البلاد، صحيح أنه ليس فيه أنهار ولا أشجار ولا فتن من الدنيا بادية، ولكن فيه الروح والريحان، فيه الرضا والغفران، فيه الصفح والإحسان، فيا لله! ما أعظمها من منازل! عظمها الله ورفع شأنها الله، ما أعظمها من منازل! لو أذن لتلك البقاع أن تتحدث، لو أذن لتلك المواضع أن تنطق، فكم عليها من دعوات أجيبت! وكم عليها من هموم فرجت! وكم عليها من أمور نفست،! إنها منازل الله، ومحط رحمة الله، حتى إذا وطئتها وطئتها بقلب يعظمها: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. يا عبد الله! إذا نزلت إلى بيت الله فادخله لله منكسراً، ومن هيبته خاشعاً، ادخله بذلة لله، ادخله بالسكينة والوقار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح في يوم أعز الله فيه أهل دينه، دخل صلوات الله وسلامه عليه مطأطئاً رأسه ذلة لله، حتى إن لحيته تكاد تمس رحل دابته صلوات الله وسلامه عليه؛ ذلة وتواضع لله عز وجل، منازل لا ترفع فيها الرءوس خشية لله، ولا يظهر الإنسان فيها إلا الفاقة والحاجة إلى الله، فيها بيت توجهت إليه القلوب والقوالب، من الصفا، والمروة، ومنى، ومزدلفة، وعرفات، وأي عرفات! منازل مباركات، منازل عند الله جليلة، وأماكن عند الله عظيمة! لذلك أحبتي في الله! إذا دخل الحاج إلى تلك المواطن دخلها بقلب يعظم الله، دخلها وكله ثناء على الله إذ بلغها، وأما إجلالها فكله شوق وطمع في الله أن يرزقه الأدب في جوار بيته المحرم، فما أسعده من عبد رزقه الله عز وجل عفة السمع والبصر! وما أسعده من عبد رزقه الله عز وجل الأدب معه، والأدب مع خلقه، في جوار كعبته وبيته! وما هي إلا لحظات حتى يرى العبد بيت رب البريات، وعندها يخشع القلب لله، ويذل لله تبارك وتعالى، ويبتدئ في طوافه، وينتهي من مطافه حتى يرقى الصفا.

الوقفة الخامسة: أن يتذكر الحاج حال النبي عند ما قى الصفا

الوقفة الخامسة: أن يتذكر الحاج حال النبي عند ما قى الصفا لقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا، فلما رقاها قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). لماذا هلل؟ هلل لأنه بالأمس القريب كان يقف على الصفا يقول لهم -منذراً ومحذراً ومبيناً-: (سلوني من مالي ما شئتم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، فقال له أبو لهب: تباً لك! ألهذا جمعتنا؟!) فبالأمس يكذب وبالأمس يهان وعلى هذا المكان، ويشاء الله عز وجل يوم حجة الوداع أن تأتي مائة ألف نفس تأتمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رقى الصفا تذكر عندما كان يهان بجوار البيت، فكان أول ما لفظ به توحيد الله، فقال: (لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده) تذكر نعمة الله عز وجل، وهذا هو شأن الأخيار، شأن الصفوة الأبرار، إذا أصابهم الله بنعمته، وتفضل عليهم بمنته؛ أجلَّوا الله عز وجل حق إجلاله؛ وعظموه حق إعظامه.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لأهل البلاء بأن لا يقنطوا من رحمة الله

نصيحة لأهل البلاء بأن لا يقنطوا من رحمة الله Q إنني أعيش في حزن وهم وغم بما أعانيه من مرض قد أصابني كم تمنيت الموت! تمر اللحظة تلو اللحظة وأتمنى الموت في اللحظة الأولى قبل الثانية، والشيطان يوسوس لي ويقول لي: افعل كذا كأنه يقول: هل أقتل نفسي أم ماذا أفعل؟ وهل من نصيحة تعيد لي الأمل في الله سبحانه وتعالى؟ A أخي في الله! لمن هذا الكون؟ لمن الأمر كله؟ الأمر كله لله، أنزل بك البلاء وهو أرحم بك من أمك التي ولدتك، أرحم بالخلق منهم بأنفسهم، والله لو علمت رحمة الله تباك وتعالى لامتلأ قلبك رجاءً فيما عند الله عز وجل. أخي! هذا بلاء أنزله الله بك، وأنت مسلم تؤمن بالله واليوم الآخر، ولذلك ليس البلاء أن يصاب المؤمن؛ ولكن البلاء كل البلاء للكافر الذي إذا أصابه البلاء لا يدري أين يذهب، ولا يدري إلى أين يشتكي، هذه الآلام التي تحصل للبعض إنما تكون مؤلمة حقيقة لأهل الكفر الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يدري أين ربه والعياذ بالله! لا يدري أين يذهب! حائر، ولكن المؤمن الصادق في إيمانه يعرف أين يذهب، يعرف من ينادي. لقد بلغ الضر بنبي الله أيوب مبلغه فنادى ربه نداءً صادقا؛ فجاءته رحمة الله {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84]. يقول بعض العلماء: من رحمة الله بعباده أن المبتلى إذا صدع بالدعاء وكان صادقاً فإنه لا يفرج كربه فقط، بل يفرج كربته وزيادة، ولذلك قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] ما معنى: ذكرى للعابدين؟ معناه: إذا عبدت الله ودعوته بدعاء صادقٍ، فإن الله عز وجل يستجيب لك كما استجاب لأيوب. ناده وقل: يا من لك الرحمة التي رحمت بها أيوب! ارحمني، يا من أنت الحليم بخلقك والرحيم بعبادك! أصابني وأصابني، وناد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وأذكر أن بعض الناس أصيب بشيء قريب من هذا، لقد عاش حياة مؤلمة، وشاء الله عز وجل يوم من الأيام أن جاء فاشتكى، فقلت له: يا أخي! الأمر يسير. يقول لي: هل تعرف طبيباً نفسياً يداوي؟ هل تعرف رجلاً يداوي بالقرآن؟ قلت له: لا، أعرف لك من إذا جئته لم تخب في مجيئه، وإن دعوته لم تخب في دعائه. قال: من؟ قلت: الله. قال: سبحان الله! قلت له: لو قلت لك: زيد أو عمرو أو فلان لرفعت رأسك، ولو قلنا: الطبيب الفلاني، ولو قلنا: فلان وفلان، لقلت: أين؟ من يعرفه؟ كيف السبيل إليه؟ فكيف برب الأرباب؟! يا هذا! دعوة الأسحار وما أدراك ما دعوة الأسحار! إذا رفعت إلى العظيم القهار من قلوب تجله، وهو العزيز الغفار، دعوة، وأنت واقف أمام الله عز وجل تناديه بصدق، وتشتكي إلى الله عز وجل. وشخص ثانٍ كان مبتلى بوساوس لا يقر قراره فيها، وشاء الله عز وجل أن يجلس مع بعض أهل العلم، فقوى فيه عقيدته بالله، يقول: فمضيت لأعتمر ودعوت واستجرت بالله عز وجل، والله إني لواقف أدعو وأستغيث بالله في صلاتي بعد انتهائي من طوافي، يقول: والله ما انتهيت من صلاتي حتى وانتهى عني كل شيء. من بيده الأمر كله؟ {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88] ولكن ضعف يقيننا بالله ضعف إيماننا بالله، لم نعرف من هو الله، لم نعرف من هو الذي بيده ملكوت كل شيء، يعلم أنَّاتك، ولا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ونحن ما قدرنا الله حق قدره. الانتحار وقتل النفس هذا لأقوام لا يؤمنون بالله أقوام ضائعين أقوام تائهين، أما المؤمن الصادق فإنه يتلذذ بالبلاء أشد من تلذذه بالعافية، والله تعالى يقول عن أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]. وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه -وأقولها عن الوالد؛ لأنني قد أقولها عن شخص فيظن أنها قصة خيالية- بلي بمرض الحساسية، وتورم عليه جلده، والله مكث ثلاث سنوات ونحن لا ندري أنه مريض، حتى تقرح جسمه رحمة الله عليه. البعض يتلذذ بالبلاء لماذا؟ لأن حسنات وأجور البلاء لا يعلمها إلا الله عز وجل، وإذا وقفت في عرصات يوم القيامة، وثقل ميزانك بهذا الهم والغم، وعظم عند الله أجرك تمنيت والله أن حياتك كلها بلاء: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وبغير حساب من الله ليست بالهينة! فهو شيء لا يخطر على بال. فذلك أخي في الله! أدعوك إلى ربك، أدعوك أن تلوذ بخالقك، أدعوك أن تستجير بمن بيده حياتك وموتك، وبيده غناك وفقرك، وبيده عذابك ورحمتك، ناده واشتك إليه واستجر به، واسأله إحدى الحسنيين؛ إما أن يثبت قلبك ويصبرك على البلاء حتى تصيب من الله رضواناً، ورحمة وغفراناً؛ وإما أن يزيل عنك البلاء بالكلية. ولذلك المرأة التي كانت تتكشف كانت مبتلاة في عقلها، (جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يشفيني أو يعافيني. قال: إن شئت صبرت ولكي الجنة، وإن شئت دعوت لك. قالت: أصبر؛ ولكن ادع الله لي ألا أتكشف) رضي الله عنه وأرضاها؛ ولذلك كانت مبشرة بالجنة وهي تمشي على وجه الأرض. يا أخي! ما يدريك ما في هذا البلاء؟! أخي! لو أن والدتك علمت بما بك؛ تألمت وتأوهت؛ وأحست بمرارة العيش من ألمك، حتى إن بعض قرابة المريض يتألم أكثر من المريض، والله لألم والدتك ورحمة والدتك بك لا تساوي مثقال ذرة من رحمة الله بك، هو يعلم أنك مبتلى، ويعلم أنك تقاسي وتعاني، ولكن يختبر صبرك، يختبر ثباتك؛ ولذلك اثبت وداوم على ذكر الله، وكن مع الله، وكن في راحة وطمأنينة وانشراح صدر مع الله، فوالله ما خاب عبد قرع باب الله. اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تفرج عن هذا العبد كربه، وأن تثبت قلبه، وأن تزيل حسرته، إنك ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

حكم صيام يوم عرفة لغير الحاج

حكم صيام يوم عرفة لغير الحاج Q وماذا عن صيام يوم عرفة؟ A أما صيام يوم عرفة فقد سئل عنه من هو أفضل منا صلوات الله وسلامه عليه فقال: (أحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والباقية) فصيام يوم عرفة مسنون وله فضل، لكن لغير الحاج، أما الحاج فيسن له أن يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر، وقد جاء بها حنيفية سمحاء لا حرج فيها ولا مشقة ولا عنت، فأفطر صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الفطر يقوي على الذكر الذي هو المقصود من يوم عرفة، والصيام منفك، فتقدم العبادة المتصلة على العبادة المنفصلة، ولذلك لم يشرع للمقاتل إذا كان في وجه العدو أن يكون صائماً؛ لأنه بالصيام يضعف عن البلاء المقصود من قتاله. وهكذا بالنسبة لمن وقف في يوم عرفة، فإن مقصوده ذكر الله، فينبغي أن يتقوى وأن يأخذ بالأسباب التي تقويه على ذلك. أما بالنسبة لموافقته يوم الجمعة: فالذي يظهر والذي يستحب للإنسان أن يصوم الخميس والجمعة، وأما السبت فيوم عيد ولا يصام، وقد اجتمع فيه النهي عنه على الانفراد، وكذلك أيضاً كونه يوم عيد، فلذلك يسن للإنسان أن يصوم يوم الخميس والجمعة. والله تعالى أعلم.

حكم تغطية الوجه للمحرمة وكشف شعرها أمام محارمها

حكم تغطية الوجه للمحرمة وكشف شعرها أمام محارمها Q هل غطاء الرأس بالنسبة للمرأة طول الوقت يكون عليها حتى في الخيمة وهي بعيدة عن الرجال؟ وإذا أزالت الغطاء هل يفسد الإحرام، وكذلك حكم تغطية الوجه بالنسبة للمحرمة؟ A المرأة يشرع لها أن تغطي وجهها ورأسها إذا رأت الأجانب أو إذا كان هناك أجانب، أو كانت بين الأجانب، للحديث الصحيح عن أسماء رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (فإذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها) فدل هذا على مشروعية سدل المرأة لخمارها عند مرور الرجال الأجانب، وأما إذا كانت بين محارمها، أو كانت في خيمتها، أو كانت بمعزل عن رؤية الغير لها؛ فإنه يجب عليها كشفها لوجهها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ضمناً، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) فنهاها عن سترها لوجهها. وأما بالنسبة لقولك: هل تكشف؟ نعم، القاعدة تقول: (ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها)، فهي في الأصل يمنع عليها السدل، لكن لمكان الحاجة شرع لها السدل. والقاعدة: إن ما شرع لحاجة يبطل بزوالها، فإذا لم يوجد الأجانب فإنه قد زالت الحاجة؛ فيجب عليها الرجوع إلى الأصل. أما بالنسبة لشعر الرأس فإن المرأة تغطي شعرها وجوباً إذا كانت بين الرجال الأجانب، وأما بالنسبة لمحارمها فإنه يجوز لهم النظر إلى شعرها، ولكن كره بعض العلماء ذلك من السلف وقال: أخشى على محرمها الفتنة. ولذلك من ناحية الأصل لا يجب عليها كشف شعرها، شعر الرأس لا يجب كشفه في الإحرام، الإحرام للمرأة في الوجه والكفين، لحديث ابن عمر الذي سبقت الإشارة إليه، وأما الرأس فإنها تغطيه، وهذا مما يختلف فيه الرجل والمرأة. والله تعالى أعلم.

اندراج طواف الوداع في طواف الإفاضة

اندراج طواف الوداع في طواف الإفاضة Q هل يجوز الجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع، وكيف تكون الصفة في ذلك؟ A نعم إذا أخر الحاج طواف الإفاضة، أو كان عند المرأة عذر الحيض فلم تطف طواف الإفاضة، وطهرت ثم أرادت أن تجمع بين طواف الوداع والإفاضة جاز لها؛ لأن المقصود من طواف الوداع أن يكون آخر العهد بالبيت طوافاً، وهذا يتحقق بطواف الإفاضة، فينوي طواف الإفاضة أصلاً وطواف الوداع اندراجاً، ينويه تحت طواف الإفاضة، فإذا نوى ذلك أجزأه، وسقط عنه طواف الوداع. والله تعالى أعلم.

فضل عشر ذي الحجة وأحكامها

فضل عشر ذي الحجة وأحكامها Q فضيلة الشيخ! لو تحدثت عن العشر الأوائل من شهر ذي الحجة وعن فضلها والعمل فيها، وجزاكم الله خيراً؟ A أما عشر من ذي الحجة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك). فدل هذا على فضل هذه الأيام المباركات، يغتنمها الإنسان في ذكر الله وطاعة الله، ويستكثر فيها من خصال الخير، وإن صامها فحسن صيامها، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح) والعمل الصالح يشمل الصيام، بل إن الصيام من أفضل الأعمال الصالحة وأحبها إلى الله تبارك وتعالى؛ لما فيه من عبادة الصبر؛ ولما فيه -أيضاً- من كسر شهوة النفس. إلى غير ذلك من فضائله. وأما أحكام هذه العشر: فيسن فيها التكبير، قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] قالوا: هي عشر من ذي الحجة، وهو: التكبير المطلق، يكبر الإنسان سواءً كان تكبيره شفعاً أو وتراً: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد. وإن شفع فلا حرج عليه، وقد كان السالف الصالح يحيون التكبير، فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يغدو إلى السوق وليس له حاجة في السوق فيكبر، فيكبر أهل السوق بتكبيره؛ إحياءً لهذه السنة. فينبغي للإنسان أن يحرص على إحيائها، وأن يرفع صوته إحياءً لهذه الشعيرة؛ علّ الله أن يرفعه، فما رفع عبد شعيرة إلا رفعه الله عز وجل بها. ومن أحيا سنة أحياه الله كما أحياها، فلذلك ينبغي إحياء هذه السنن، والحرص عليها والدلالة عليها، وقد كان الناس إلى عهد قريب يكثرون من ذكر الله في هذه العشر لفضلها. قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] قالوا: هي عشر من ذي الحجة؛ لأن الله أقسم بها للدلالة على فضلها وشرفها، فهذا يدل على فضلها. أما أحكامها: فإن الإنسان إذا نوى الأضحية في عشر من ذي الحجة فإنه لا يمس شعراً ولا يقلم ظفراً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن شيئاً من شعره). والله تعالى أعلم.

اختلاف العلماء في المراد بالحج الأكبر

اختلاف العلماء في المراد بالحج الأكبر Q ما المراد بالحج الأكبر الوارد في كتاب الله؟ ولماذا سمي بالحج الأكبر؟ A قيل: هو يوم عرفة، وقيل: يوم النحر. وقول بعض العلماء أن يوم النحر هو الحج الأكبر؛ لأنه يجتمع فيه طواف الإفاضة وكذلك تجتمع فيه الشعائر من رمي الجمار وحلق الرأس والتحلل. وأما يوم عرفة فلأن عرفة هي الحج، ولكن القول الثاني قواه بعض العلماء لاجتماع الفضائل التي لا توجد في غيره. والله تعالى أعلم.

معنى التشريق

معنى التشريق Q ما معنى كلمة: التشريق، المذكورة في أيام التشريق؟ A هذا من تشريق اللحم، لكن الثلاجات أضاعت التشريق، كانوا يشرقون اللحم يقطعونه ويعرضونه للشمس.

عدم وجوب الحج على المديون وإن حج فحجه صحيح

عدم وجوب الحج على المديون وإن حج فحجه صحيح Q إنني رجل عليَّ ديون كثيرة لا أستطيع سدادها، وإنني أملك سيارة كبيرة وأرغب في الحج والعمل بالسيارة، فهل يصح لي الحج وأنا مديون، أفيدوني جزاكم الله خيراً؟ A أما بالنسبة للشخص المديون فإن الأصل فيه أن يقضي دينه، ولا يجب الحج على المديون حتى يؤدي دينه؛ لأنه مطالب بقضاء حقوق عباد الله، وبعد أداء الحقوق يتوجه إليه الخطاب بالحج، فإذا كانت عليه ديون؛ فإنه غير مستطيع للحج، فلا يجب عليك الحج، لكن لو استأذنت صاحب الدين فأذن لك فحججت صح حجك وأجزأك، ولا حرج عليك؛ لأنك استأذنت. وأما إذا كان الإنسان لم يستأذن فإن حجه أيضاً صحيح، ومسألتك التي ذكرتها من كونك ذاهب إلى مكة من أجل التجارة فيها وجه للترخيص؛ لأن ذهابك من أجل التجارة معونة على قضاء الدين، وليس المقصود الحج بأصله، فلذلك لما كان ذهابك متعيناً وأردت أن تصيب الأمرين -الحج والحاجة- فلا حرج عليك، وقد ورد الشرع بالإذن في ذلك، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]. ولذلك ورد في الحديث أنها نزلت في قوم يحجون بنية التجارة، أي: جمعوا بين نية الحج والتجارة، على أن الحج أصل والتجارة تبع. والله تعالى أعلم.

تقديم طواف الوداع عن الرمي مخالف للسنة

تقديم طواف الوداع عن الرمي مخالف للسنة Q هل يجوز أن يخرج الحاج من منى قبل الظهر ويطوف طواف الوداع، ثم يعود إلى منى ويرمي، ثم يخرج إلى بلده؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن السنة المطلوبة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بطواف الوداع، أن يكون آخر العهد بالبيت طوافاً، فإذا طاف الإنسان طواف الوداع ورجع إلى منى لم يكن آخر عهده بالبيت طوافاً، ومن ثم فإنه ينبغي له أن يؤخر الطواف إلى ما بعد الرمي، وهذا قد يرخص فيه البعض من المتأخرين؛ ولكن لا أحفظ دليلاً يدل عليه، بل ظاهر حديث عائشة في الصحيح وغيره؛ أنها قالت: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً) وهذا يدل على تعين المصير إلى البيت. والله تعالى أعلم.

حكم تأخير طواف الوداع إلى ما بعد الخروج إلى جدة ومن ثم العودة إلى مكة

حكم تأخير طواف الوداع إلى ما بعد الخروج إلى جدة ومن ثم العودة إلى مكة Q هل يصح لأهل جدة أن يؤخروا طواف الوداع إلى بعد النزول من الحج بيوم أو يومين -يقصد النزول إلى جدة- حيث يقول: إنني سمعت بعض العلماء يقول: يصح لأهل جدة أن يؤخروا طواف الوداع أي: قبل نهاية شهر ذي الحجة؟ A طواف الوداع يشرع للحاج إذا صدر عن البيت، فلو صدر بعد اليوم واليومين كما ورد في السؤال فلا حرج عليه، سواء كان من أهل جدة أو من غيرهم، بل لو أنه تأخر صدوره إلى آخر شهر ذي الحجة فإنه يطوف طواف الوداع عند صدوره. أما في مسألة النزول فالسائل لم يبين أنه نزول إلى جدة أو غيرها، فنقول: المسألة فيها تفصيل: فإن كان نزولهم إلى مكة يبقون حتى يعقدوا العزم على الذهاب إلى بلدهم وهو جدة، فيطوفون إذا صدروا، وإما إذا كان نزولهم إلى جدة ورجوعهم بعد ذلك إلى مكة لطواف الوداع، فهذا محل نظر؛ لأن النص عام شامل لمن جاور البيت ومن كان بعيداً عن البيت، وتخصيصه بالاجتهاد محل نظر، ولذلك الذي يظهر من ظاهر النص أنه يطوف عند صدوره وانتهائه من حجه، لا يؤخر ذلك إلى نزلة أخرى أو ذهاب آخر. والله تعالى أعلم.

وجوب الإحرام لمن مر بميقات غير ميقاته إن نوى الحج

وجوب الإحرام لمن مر بميقات غير ميقاته إن نوى الحج Q رجل يريد أن يحج من جدة، ولكنه قبل الحج يريد أن يذهب إلى أبها لزيارة بعض الأقارب في شهر ذي الحجة، ويعود إلى جدة ليحرم منها، هل هذا يصح، علماً بأنه قد ارتبط مع جماعة للحج من هنا، فعليه أن يعود إلى جدة؟ A من خرج إلى أبها أو خرج إلى موضع غير جدة قاصداً زيارة رحم أو غير ذلك، ثم قدم وفي نيته الحج؛ فإنه يجب عليه أن يحرم من ميقات يلملم لماذا؟ لأنه يمر بالميقات ناوياً الحج بذلك السفر، صحيح أنه سيمر بجدة، ولكنه يمرها متوقفاً، وهذا السفر إلى جدة ليس أصالة، والمقصود أصالة: أن ينزع منها إلى مكة؛ فلذلك يجب عليه أن يحرم من ميقات أهل أبها، وذلك لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المواقيت: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة). صحيح أنك من أهل جدة، ولكن لما مررت بميقات أبها وما جاورها -وهو يلملم- فإنك أخذت حكم أهلها. والله تعالى أعلم.

جواز الإتيان بعمرة التمتع يوم التروية

جواز الإتيان بعمرة التمتع يوم التروية Q هل يجوز أن آتي بعمرة التمتع يوم الثامن من ذي الحجة؟ A نعم يجوز للإنسان أن يأتي بالعمرة في اليوم الثامن من ذي الحجة، وبعد ذلك يتحلل ولو بتقصير شعره، ثم يلبس مرة ثانية، فإن نزع ولبس ثيابه يعود مرة ثانية ويلبس إزاره ورداءه ويمضي إلى منى، وإلا مضى إلى عرفات إن تأخر إلى يوم عرفة. والله تعالى أعلم.

الموضع الذي يحرم منه من له بيت بمكة وخارجها

الموضع الذي يحرم منه من له بيت بمكة وخارجها Q رجل له بيت في مكة وبيت في جدة وعمله في جدة، يمكث في جدة مع أهله أربعة أيام، وبقية أيام الأسبوع يقضيها في مكة -أيضاً- مع أهله، حيث يذهب بهم من جدة إلى مكة، فمن أين يحرم؟ A هذه المسألة يعتبرها العلماء -رحمهم الله- مسألة المكي الذي يأخذ حكم الآفاقي من وجه، يعني: يعتبر صاحب منزلين، يعتبر آفاقياً من وجه، ويعتبر مكياً من وجه آخر، ومثلوا لها بصاحب التجارة بصاحب المزرعة، أن يكون له -مثلاً- بيت في المدينة وبيت في مكة، فيعطى حكم أهل مكة إن كان بمكة، ويعطى حكم أهل المدينة إن كان بالمدينة. ولذلك أقول: إذا أنشأت نية الحج فإن كنت في جدة أخذت حكم أهل جدة، وإن كنت في مكة أحرمت من مكة وأخذت حكم أهلها، فينظر إلى الحالة التي عقدت العزم فيها على الحج، فيجب عليك الإحرام من موضعك. والله تعالى أعلم.

من اعتمر في رمضان وحج من عامه دون أن يقرن حجة بعمرة لا يكون متمتعا بل مفردا

من اعتمر في رمضان وحج من عامه دون أن يقرن حجة بعمرة لا يكون متمتعاً بل مفرداً Q أريد أن أحج متمتعاً، هل تكفيني العمرة التي أديتها في رمضان؟ A بالنسبة للمتمتع لا يعتبر الإنسان متمتعاً إلا إذا أوقع العمرة في أشهر الحج، وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وتوضيح ذلك: أنك إذا أحرمت بالعمرة في رمضان، وتحللت منها في رمضان، ثم حججت في عامك ذلك دون أن تقرن مع حجك عمرة؛ فأنت مفرد ولست بالمتمتع، هذا إذا وقعت العمرة بكاملها في رمضان. ولذلك أقول: من أحرم في رمضان، لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يوقع العمرة بكاملها في رمضان، وحكمه أنه مفرد كما قلنا. الحالة الثانية: أن يوقع بعض العمرة في رمضان وبعضها في شوال، مثال ذلك: شخص قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان لبى بالعمرة ونوى، ولم يطف ولم يسع إلا صبيحة يوم العيد أو ليلة العيد، فهذه مسألة خلافية عند العلماء رحمهم الله: القول الأول: فمذهب طائفة من العلماء: أن العبرة في الإحرام بالنية، قالوا: إذا أتى الميقات ونوى قبل غروب شمس آخر يوم فهو مفرد، وإن نوى بعد غروب شمس ذلك اليوم فهو متمتع، وهذا مذهب طائفة ومنهم الظاهرية. القول الثاني: في أن العبرة بدخوله مكة، وهو مذهب بعض السلف ومنهم عطاء، فإن دخلها قبل غروب الشمس كان مفرداً، وإن دخلها بعد الغروب كان متمتعاً. والقول الثالث: العبرة بطوافه، فإن طاف وابتدأ الطواف قبل غروب الشمس فهو مفرد، وإن ابتدأ الطواف بعد غروب الشمس فهو متمتع. والقول الرابع: قول الحنابلة والحنفية في أن العبرة بأكثر الطواف. والقول الخامس: قول المالكية في أن العبرة بالتحلل. فهذه خمسة أقوال في المسألة، أصحها -والعلم عند الله-: أن العبرة ببداية الطواف، فإن ابتدأت الطواف في ليلة العيد بعد مغيب شمس آخر يوم من أيام رمضان فأنت متمتع، وإن كان قد وقع بداية الطواف قبل الغروب فأنت مفرد. أما بالنسبة للمتمتع فيشترط ألا يرجع إلى بلده بعد العمرة؛ لأن حقيقة التمتع أن يجمع بين النسكين في سفر واحد، فإذا كان قد رجع من عمرته وأتى بسفر مستقل للحج فهو غير متمتع، وإنما يعتبر مفرداً، ومن هنا أهل جدة لو نزلوا للعمرة ثم رجعوا بعد العمرة وما أقاموا بمكة، ثم حجوا من عامهم فهم مفردون لا متمتعون ولا دم عليهم. والله تعالى أعلم.

أقوال العلماء في كون الرسول صلى الله عليه وسلم أوتر ليلة النحر أم لا

أقوال العلماء في كون الرسول صلى الله عليه وسلم أوتر ليلة النحر أم لا Q هل أوتر الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة النحر؟ A هذه المسألة للعلماء فيها وجهان: يقول بعض العلماء: إنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر ليلة العيد -وهي ليلة النحر-، فلذلك نقول: إنه لا يسن فعل الوتر ليلة العيد، ولأنه ما دام لم ينقل ذلك؛ فإن هذا يدل على أنه لا يسن فعل الوتر. ويقول جمهور العلماء: إنه يسن للإنسان أن يوتر ليلة العيد؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا يا أهل القرآن) ولم يقل إلا ليلة النحر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أوتروا قبل أن تصبحوا)، وقال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) ولم يقل: إلا ليلة النحر، قالوا: فهذه نصوص تأمر بالوتر وتحث عليه، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (إن الله أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر). فلذلك قالوا: هذه النصوص ليس فيها تخصيص، وسكوت الصحابي عن الرواية لا يدل على الإسقاط، إذ قد يكون الصحابي سكت عنه للعلم به، وعدم اطلاع الصحابي لا يدل على النفي أيضاً. ثم أكدوا ذلك بأمر ثانٍ، قالوا: لو أن إنساناً قال: لا يشرع للإنسان أن يصلي سنة الفجر صبيحة يوم العيد، هل هو مصيب أم مخطئ؟ قالوا: لا هو مخطئ، إذاً لماذا الوتر فقط؟ وفي رغيبة الفجر لم ينقل لنا أنه صلاها أيضاً صبيحة العيد. فالذي يظهر -والعلم عند الله-: أن يأخذ الإنسان بالأحوط، وإن أخذ بالقول الثاني فلا حرج عليه، والأمر على السعة: من ترك متأولاً السنة كتب له الأجر، ومن فعل متأولاً السنة كتب له الأجر. والله تعالى أعلم.

حكم مشط الشعر للمحرم

حكم مشط الشعر للمحرم Q هل يجوز للإنسان -رجلاً أو امرأة- أن يمشط شعره وهو محرم، وإن تساقط شعر من رأسه فهل عليه دم؟ A يجوز للإنسان أن يمشط شعره لكن بحيث لا يسقط الشعر، ومن العلماء من منع ذلك لأنه اعتبره نوعَ ترفهٍ، وليس هناك نص يدل على المنع؛ ولكن الأولى والأسلم أن يحتاط الإنسان فلا يمشطه؛ لأنه نوع من الترفه، فلو تركه كان أولى؛ لكن الحكم بحرمة ذلك وتحريمه يحتاج إلى دليل، وقالوا: إنه ليس هناك دليل يدل على المنع من ذلك، والأصل الإباحة. والله تعالى أعلم.

كيفية ذكر الله عز وجل في الحج وتبيين مواضعه

كيفية ذكر الله عز وجل في الحج وتبيين مواضعه Q هل للشيخ أن يخبرنا أو ينبئنا عن مواضع التكبير والتلبية والدعاء في الحج؟ A أما بالنسبة للتلبية فإنه يسن الإكثار منها، ولذلك ورد عند ابن ماجة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يضحى لله -الضحى: أول النهار- يلبي فتغيب عليه الشمس؛ إلا غابت بذنوبه؛ فرجع كيوم ولدته أمه) يعني: إذا استدام التلبية. وورد عنه عليه الصلاة والسلام -أيضاً- عند ابن ماجة أنه قال: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه ويساره من حجر وشجر ومدر حتى تنقطع الأرض) فكل شيء يحب ذكر الله عز وجل من الجمادات وغيرها من مخلوقات الله عز وجل، ولكن ما أعصى الثقلين! فلذلك يسن للإنسان أن يكثر من التلبية على كل حال، أن يستديمها وأن يكثر منها، وهي ذكر مشروع، والسنة أن يرفع صوته بها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الحج: العج والثج) (العج): رفع الصوت وذلك بالتلبية والنسك. وأما (الثج) فهو: نحر الأضاحي، ونحر الهدي لمن كان متمتعاً أو قارناً. فالمقصود: أن الإنسان ينبغي أن يكثر من التلبية. وأما التهليل والتكبير فهو جائز للحاج فله أن يهلل يوم عرفة، كما ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عرفة فمنا الملبي، ومنا المهلل، ومنا المكبر) فدل هذا على أنه يسن أن يذكر الله بالتلبية وأن يذكره بالتهليل وأن يذكره بالتكبير. والله تعالى أعلم. لكن بالنسبة للتكبير يكبر عند رمي الجمار، ويكبر مع كل حصاة؛ لأنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكبر أيام منى، وذلك إحياءً لذكر الله في ذلك الموضع المبارك، كما أمر الله تعالى بذلك في قوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]. فينبغي للحاج أن يشتغل بالذكر والتكبير في هذه الأيام، وهذه السنة -كما قلنا- أضاعها والله كثير. فإذا مضيت في شوارع منى وفي أسواقها فارفع صوتك، فما جعلت منى إلا لأجل هذا التكبير، تكبر الله تحمد الله تهلل الله تجل الله عز وجل حق إجلاله. والله تعالى أعلم.

حكم تكرار الموجب للدم مع اتحاد الجنس واختلافه

حكم تكرار الموجب للدم مع اتحاد الجنس واختلافه Q هل يتكرر على الحاج الدم مع تكرر موجبه كأن ترك واجباً أو غيره؟ A هذه المسألة فيها تفصيل: إذا كان الواجب أو المحظور وترك الإنسان شيئاً متحداً من جنس واحد، مثلاً في محظورات الإحرام: لو تطيب فإنه لا يخلو إما أن يكرر هذا الموجب مع اتحاد الجنس، أو يتعدد الموجب، فقولك: وجوب الدم إذا ارتكب الإنسان محظوراً من جنس واحد وكرره؛ وجبت عليه فدية واحدة، مثلاً: تطيب أربع مرات، تطيب المرة الأولى الساعة الثانية، والمرة الأخرى الساعة الثالثة، ثم الرابعة فالخامسة، فإذا كان لم يفتد عن الطيب الأول فإنه يفتدي بفدية واحدة عن الأربع؛ لأنها من جنس واحد، كما لو جامع في نهار رمضان أكثر من مرة في يوم واحد؛ فإن عليه كفارة واحدة. هذا بالنسبة إذا اتحد الموجب، وأما إذا اختلف النوع، ومن أمثلة ذلك: أن يكون أصاب طيباً وحلق شعراً وقلم أظفاراً؛ فللشعر فدية وللطيب فدية ولتقليم الأظفار فدية؛ لأن كل نوع منها مستقل. أما لو اتحدت الأسباب، وكانت من جنس واحد؛ فإنها -ولو تعددت- تجب فدية واحدة، ويجب -أيضاً- دم واحد. والله تعالى أعلم.

حكم من دخل مكة أيام الحج للعمل ثم أحرم منها وحج

حكم من دخل مكة أيام الحج للعمل ثم أحرم منها وحج Q أنا من سكان جدة، وذهبت للعمل في مكة يوم السابع من ذي الحجة، وفي صبيحة يوم عرفة أحرمت من منى بنية الحج مفرداً، فهل يصح ذلك؟ A هذا فيه تفصيل: إذا كان الشخص قد خرج من جدة للعمل بمكة في أيام الحج، فلا يخلو حال خروجه من حالتين: إما أن يخرج وفي نيته أن يحج ذلك العام، فحينئذ يجب عليه أن يحرم من جدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ) فهذا أنشأ الحج من هذا الموضع؛ فوجب عليه الدم في هذا الموضع. وإما أن يكون قد خرج من جدة وهو على إحدى حالتين: الحالة الأولى: أن يقول: لا أريد أن أحج، وليس في نيتي الحج. الحالة الثانية: متشكك، كأن يكون لا يدري هل يسمح له أو لا يسمح. ففي هاتين الحالتين يجوز له الدخول، فإذا عقد العزم أحرم من موضعه الذي عزم فيه، ولا دم عليه. والله تعالى أعلم.

حكم من وقف بعرفات ثم سافر ولم يتم بقية المناسك

حكم من وقف بعرفات ثم سافر ولم يتم بقية المناسك Q ما حكم من حضر عرفة وجمرة العقبة، ثم سافر إلى بلده بدون أن يأتي بباقي المناسك؟ A باسم الله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: اعلموا رحمكم الله! أن المقصود من الحج أن يحقق الإنسان طاعة الله عز وجل، ويترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم بفعل المناسك على الوجه الذي يرضي الله، ومن ثم فإنه من الخطأ كل الخطأ التساهل في المناسك، والنظر إلى وجود جبرانها، ولذلك كان من الخطأ ترك المبيت ورمي الجمار. فمن فعل هذا فقد ارتكب ذنباً بتركه المبيت، وهل ذلك لكل ليلة بحسبها، أم أن جميع الليالي تعتبر ليلة واحدة؟ للعلماء في هذا وجهان. أما الأمر الثاني فعليه دم أيضاً على ترك رمي الجمرة؛ لأن رمي الجمار في باقي أيام التشريق التي تلي يوم العيد واجب ما عدا يوم النحر، الذي يخير الإنسان فيها بين التعجل والتأخر. وبناءً على ذلك فإنه يلزمه دم. وهنا مسألة أحب أن أنبه عليها: بعض الناس يفعل المحظورات، فيقال له: لا شيء عليك إلا أن تذبح دماً. لا، من ترك واجباً من واجبات الحج عليه أمران: أحدهما: التوبة والندم والاستغفار، وهذا أمر مهم جداً يُغفل كثيراً في الفتاوى، نقول: عليه الندم والاستغفار، لأنه ترك أمراً أوجب الله عليه فعله. أما الأمر الثاني: ضمان ذلك الحق، وذلك بالدم الذي يسمى: دم الجبران، فليس كون وجود الدم يعفي الإنسان من حصول الإثم عليه، ينبغي على الإنسان أن يتوب إلى الله وأن يستغفر الله، وإذا قصر في واجب من واجبات الحج دون أي عذر، فعليه أن ينيب إلى الله، وأن يستغفر الله؛ لأنه نوعُ استخفاف بشعيرة من شعائر الله. والله تعالى أعلم.

حلاوة الإيمان

حلاوة الإيمان الإيمان بالله تعالى له حلاوة ولذة، وهذه الحلاوة لا يذوقها كل أحد، بل يذوقها من توفرت فيه ثلاث خصال، وهذه الخصال الثلاث جاءت في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي: محبة الله ورسوله أكثر مما سواهما، والمحبة في الله، وكراهة العودة إلى الكفر، فمن توفرت فيه هذه الخصال فإنه يشعر بحلاوة الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو الواحد المعبود، والذي من أجله كان الوجود.

الإيمان سر سعادة القلوب

الإيمان سر سعادة القلوب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وبالحق أرسله، فأحيا الله به القلوب، وأنار به السبل والدروب، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ما آذنت شمس بغروب. أما بعد: إخواني في الله! ليس هناك نعمة أعظم من نعمة الإيمان، وليس هناك منة من الله تبارك وتعالى أجل ولا أعظم من منة التوفيق لطاعة الرحمن، الإيمان الذي هو أعظم قضية وأعظم شيء من أجله كان الوجود، الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو الواحد المعبود، من أجله كان الليل والنهار، ومن أجله كان العشي والإبكار، ومن أجله خلقت السماوات والأرض، ومن أجله كان الحساب والسؤال والعرض، الإيمان الذي ما من لحظة من لحظات حياتك، وما من برهة من زمانك إلا وهي مذكرة بهذه القضية العظيمة، ما من حركة في هذا الوجود وما من سكون في هذا الكون إلا وهو يذكرك بالواحد العظيم المحمود، يذكرك بالله الذي لا إله إلا هو المعبود. قبل ساعات يسيرة كنا في ضياء النهار، وفي هذه اللحظة العجيبة نعيش في هذا الظلام الدامس، وفي هذا الليل البهيم العابس، وهو يذكرك بالله، ويذكرك بأن لا إله إلا الله، هذه السماوات في هذا الليل البهيم قد أشرقت كواكبها واستنارت نجومها لكي تدلك على هذه القضية العظيمة، فبعد ساعات يسيرة إذا بالليل يذكرك بالله، ويؤذنك بأن لا إله إلا الله حتى إذا حان أفوله ودنا ذهابه وزواله فجاء ضياء الفجر وانفجر، وشع ضياء الشمس في الأفق وانتشر، وإذا بدليل جديد يذكر بالعظيم الحميد. الإيمان الذي كل شيء في هذا الوجود يحققه ويصدقه ويدل عليه، يشهده الإنسان في جميع أحواله وفي جميع أطواره، آيات الزمان وآيات المكان تهديك إلى توحيد العظيم المنان؛ لذلك -أحبتي في الله- ما خلق الله الإنسان إلا من أجل الإيمان، ولا أوجده الله عز وجل إلا من أجله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ما خلق الإنسان إلا لكي يعمر قلبه بتوحيد الواحد الديان، وأسعد لحظة في الحياة والعمر تلك اللحظة التي يحس فيها العبد أنه مؤمن حقاً بالله عز وجل، إن أسعد لحظة في الحياة إذا مُلئ القلب يقيناً بالله عز وجل، وأصبح الفؤاد يعيش مع الإيمان في كل حركة من حركات الإنسان وسكونه، إنه اليقين بالله والإيمان به. السعادة والشقاء الفلاح والطلاح الربح والخسارة النجاة والهلاك، فما بين العباد وبين الله قضية أعظم من هذه القضية، ولا بين الله وبين العباد شيء يُتقرب به إلا بعد هذا الأساس العظيم، فأعظم ما يَعتني به المؤمن في هذه الحياة هو تغذية قلبه بالإيمان بالله، فما دخل الإيمان قلباً إلا انشرح لله، ولا دخل الإيمان صدراً إلا اطمأن بذكر الله، وليس هناك ساعة أبهج من تلك الساعة التي عرف فيها العبد ربه، ودنا فيها من خالقه فعمَّر قلبه بتوحيده وذل العبودية له سبحانه وتعالى. هذا الإيمان الذي هو الباب الوحيد بينك وبين الرحمن، له لذة وأثر في القلوب، هذه اللذة هي حلاوته وطلاوته، ما أصابها مؤمن إلا ذاق حلاوة الالتزام، ولا وجدها مؤمن إلا أصاب محبة الرحمن، إن هذه الحلاوة تحتاج من المؤمن -أولاً- إلى جهاد صادق وسير حثيث في طاعة الله ومرضاته، وكل حلاوة لها لذة عند الإنسان بقدر ذلك الشيء الذي يذوق حلاوته، فإذا كان الشيء الذي تُذَاقُ حلاوته هو أعظم الأشياء وأجلها عند رب الأرض والسماء، فهي الحلاوة التي لا ألذ منها؛ إنها حلاوة الإيمان ولذة الطاعة والعبودية للرحمن، التي تجد الإنسان فيها ومعها إذا أصابته الضراء صبر، وإذا أصابته السراء شكر حلاوة الإيمان التي إذا ذاقها الإنسان نسي كل لذة من معاصي الله إنها حلاوة كانت سبباً في هجران الشهوات وترك الفواحش والمنكرات، والتذلل لله رب الكائنات، فما أعظم سلطان الإيمان على القلوب، وما أجل حلاوة الإيمان في القلوب.

علامات حلاوة الإيمان

علامات حلاوة الإيمان إن لحلاوة الإيمان أمارات وعلامات دل عليها نبينا المصطفى، وحبيب ربنا المجتبى صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار) ثلاث خصال تحتاج إلى رجال متذللين متعبدين للكريم المتعال، خصلة بينك وبين الله، وخصلة بينك وبين أحباب الله، وخصلة بينك وبين دين الله وشرعه، هذه الثلاث الخصال يعرضها المؤمن على قلبه في كل زمان ومكان، فإن وجدها في فؤاده وفي نفسه أحس بلذة الإيمان، وإن نقصت هذه الخصال نقصت لذة الإيمان في قلبه لا سمح الله.

كراهة الانتكاس والخوف منه

كراهة الانتكاس والخوف منه إذا وفق الله الإنسان بتحقيق هذه الخصلة الثانية من خصال حلاوة الإيمان وهي: الحب في الله، والبغض في الله جاءت الثمرة الثالثة وهي: (أن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُلقى في النار) أن يكره الانتكاسة، ولذلك إذا دخل الإيمان إلى قلب العبد وصدق في هذا الإيمان، فإن من أبرز الدلائل على صدقه خوفه من الانتكاسة، وكلما وجدت الشاب يخاف من الانتكاسة والرجوع والحور بعد الكور، فإن ذلك دليل على إيمانه، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يخافون النفاق، وقال بعض السلف: (والله ما عرضت قولي وعملي على القرآن إلا اتهمت نفسي بالنفاق) وقال آخر: (والله ما عرضت نفسي على القرآن إلا عددتها من الراسخين في النفاق). الخوف من الانتكاسة يشمل حالتين: الحالة الأولى: الخوف من الكفر، وهو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار) ولو قيل للإنسان: أتكفر بالله أو تلقى في النار؟ لاختار أن يلقى في النار على الكفر بالله، وهذا لأن الإيمان عمر قلبه وتغلغل في فؤاده. نسأل الله العظيم أن يبلغنا وإياكم هذه الدرجة، وأن يجعلنا وإياكم في هذه المنزلة، فإن الإنسان لا يأمن من سوء الخاتمة: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف:99] فهذا استفهام يدل على أن الإنسان مهما كان على صلاح لا يأمن من مكر الله، ولذلك قال بعض العلماء: (كلما ازداد الإنسان صلاحاً وتقوى لله عز وجل، كلما كان أخوف من أن يعود على عقبه فيكون خاسراً) فهذه الخلة وهذه الخصلة تدل على إيمان الإنسان؛ لأنه لما عمر قلبه وذاق حلاوة الإيمان خاف من الضد، ولا يخاف من الكفر إلا المؤمن الصادق في إيمانه، ولذلك نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت إلى لقائه، وأن يجعل الإيمان الذي لامس قلوبنا في زيادة إلى لقائه وألا يبتلينا بالانتكاسة. والحالة الثانية هي: (الخوف من نقصان الخير)، ولذلك قال بعض العلماء: (من رزقه الله طاعة كقيام الليل وصيام النهار فأصبح يتردى فيها وينتقص فعليه أن يجاهد في الرجوع إليها؛ فإنه لا يؤمن عليه أن يخذله الله عز وجل فيرجع على عقبه خاسراً والعياذ بالله) ولذلك ينبغي للإنسان المؤمن أن يراقب نفسه دائماً في طاعة الله، فإذا كان على خصلة من خصال الخير لا يتركها مهما كان الأمر، والله تعالى يبتلي الإنسان؛ فإن كنت في قيام الليل سخر لك بعض المشاغل وابتلاك ببعض الشواغل، فإن كنت صادقاً في الإيمان وثبت عليها أذاقك بعد ذلك حلاوة الثبات، وقد قال إن بعض العلماء: (إن الإنسان إذا أطاع الله وتقرب إليه بخصلة من خصال الخير فجاءه الشيطان بفتنة، فليعلم أن الله يمتحنه في تلك الخصلة) فما من إنسان يمتحن في خصلة من الطاعات ويثبت عليها بعد امتحانه إلا ذاق حلاوتها إلى لقاء الله غالباً، وقد قال بعض السلف: (جاهدت نفسي في الصلاة عشرين عاماً فتلذذت بها أربعين عاماً) عشرون عاماً والوساوس والخطرات وشواغل الدنيا تأتيه من كل حدب وصوب، وهو صابر محتسب حتى أذاقه الله حلاوة الصلاة فزالت عنه جميع تلك الخطرات، ولذلك الشاب الملتزم في أول التزامه تأتيه من الوساوس والخطرات مالا يعلمه إلا الله عز وجل، فإذا صبر وصابر واحتسب زالت عنه كما يزول الليل بضياء النهار، وفي بعض الأحيان تزول عنه في لحظة لا يشعر بها، وإذا بقلبه أكمل ما يكون انشراحاً وطاعة لله عز وجل.

المحبة في الله

المحبة في الله الخصلة الثانية: (المحبة في الله) أوثق عُرى الإسلام بعد الإيمان: الحب في الله والبغض في الله عز وجل. ما هي أسباب المحبة الصادقة؟ ومتى تعلم أنك تحب لله وتعادي لله؟ قال بعض العلماء رحمهم الله: (لن تكون المحبة لله وفي الله إلا إذا كان السبب الباعث إليها هو الله عز وجل) يقولون: يُحب العبد لله إذا نظرت عينه من العبد ما يُرضي الله أو سمعت أذنه من العبد ما يُرضي الله؛ ولذلك إذا كان الإنسان كاملاً في إيمانه ودخل في أي مكان فرأت عينه عبداً لله في طاعة أحبه، وهو لا يعرف اسمه ولا نسبه، ولربما تكون تلك اللحظة التي رآه فيها على طاعة الله هي أول لحظة رآه فيها. من كمال الإيمان: أن يكون السبب الباعث والداعي إلى المحبة هو الله والدار الآخرة؛ ولذلك هذه العلامة من علامات الإيمان حتى قال بعض العلماء: (إذا أراد الإنسان أن يختبر كمال إيمانه فليختبره بالحب في الله والعداوة في الله) وهذا شيء مشاهد مجرب، جرب يوماً من الأيام لو دخلت المسجد وكان القلب في نشوة من الإيمان فتلتفت يميناً فترى المصلي فتحبه، وتلتفت شمالاً فترى قارئ القرآن فتحبه، وتنظر أمامك فترى إنساناً يذكر الله فتحبه، وهذا من كمال الإيمان، وإذا كان قلبك في ضعف من الإيمان ودخلت المسجد على تلك الحالة دخلت وأنت في سهو وغفلة، ولذلك تجد أحباب الله وأولياءه يجمعهم مجلس كهذا حتى إذا انصرفوا سلم بعضهم على بعض وعانق بعضهم بعضاً؛ لأنهم يعلمون أن الذي حضر هذا المكان يريد الله والدار الآخرة، فما حضره أحد إلا أحبه مؤمن ووالاه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] فالله ألف بين القلوب بالإيمان. وليس هناك جامعة جمعت بين العباد أطهر وأصدق وأعظم تأثيراً من جامعة الإيمان، التي جمعت في أول الإسلام بين المهاجرين والأنصار، وجمعت في حاضر الإسلام بين عباد الله الأخيار، قلوب تجتمع على إيمانٍ بالله وطاعة لله ورسوله، فنعم القلوب ونعم ما اجتمعت عليه، الناس يجتمعون على الشهوات والملهيات، ولكن من ذاق حلاوة الإيمان يجتمع مع إخوانه على طاعة الله ومحبته، فالدليل الصادق على المحبة في الله أن يكون السبب الداعي إليها طاعة الله ومرضاته. وقرر بعض العلماء أن الناس في الحب في الله والعداوة في الله على مراتب: فبعض الناس يكون في أعلى مرتبة من المحبة في الله والعداوة في الله، وبعض الناس دون ذلك، ومهما اجتمع الأخيار على قاعدة الحب في الله والموالاة في الله فبين بعضهم بعضاً في هذه القاعدة كما بين السماء والأرض، ولذلك كلما اجتمعت القلوب على طاعة وكانت صادقة في المحبة في الله كلما كانت الألفة بينها، وكثير من الأخيار أول ما اجتمعوا على الحب في الله وكان اجتماعهم صادقاً في الموالاة لله عز وجل، كانت قلوبهم أخشع ما تكون لله عز وجل، ولو نظر الإنسان إلى مجالسه الأولى عند بداية هدايته كيف كانت تلك المجالس، وكيف كان العبد يجلسها قبل أن يجلسها وهو ضعيف إيمان ثم إذا قام منها قام وهو أكمل ما يكون إيماناً. لذلك فإن الإنسان إذا أحب أخاه في الله ينبغي أن يراقب أحاسيسه ومشاعره في هذه المحبة، ولذلك قال بعض العلماء: (إن الشيطان قد يدخل على الإنسان من باب المحبة في الله، تبدأ محبة في الله ثم تنقص يوماً فيوماً حتى تصبح محبة للدنيا والعياذ بالله) فينبغي لك -أيها الإنسان- إذا أحببت أحداً في الله أن تراقب قلبك كل يوم في تلك المحبة، ولتعلم أنك مأجور على تلك المحبة التي هي من أعمال القلوب، ولن يدعك الشيطان طرفة عين فلربما يكون حبيبك في البداية حبيباً لله عز وجل، فترى يوماً من الأيام غناه أو ترى حسبه أو نسبه أو جاهه فيدخل الشيطان بشعبة من شعب القلب فيفسد تلك المحبة من تلك الشعبة، فتكون البداية رحمة والنهاية عذاب والعياذ بالله. ينبغي للإنسان -إذا أحب في الله وأراد أن يذوق حلاوة الإيمان بسببها- أن يكون صادقاً في هذه المحبة، وألا يجلس مع أخيه في الله إلا وهو يرجو الله والدار الآخرة. ولهذه المحبة الصادقة لوازم ذكرها العلماء في خصلتين: الخصلة الأولى: أمر بالمعروف، والخصلة الثانية: نهي عن المنكر، وكل إنسان مهما كان على طاعة واستقامة ومحبة فهو يحتاج إلى إخوانه؛ يحتاج إلى من يُذكره بالله إذا نسي، ويثبته على طاعة الله إذا ذكر، فمن لوازم المحبة في الله أن يعين الأخ أخاه على طاعة الله ومحبته، بل إن بعض العلماء قال: (إن الإنسان لو قال لأخيه: إني أحبك في الله، ثم رأى من أخيه تقصيراً -ولو في ذكر الله- حاسبه الله عن ذلك التقصير والسكوت عنه). فالمحبة في الله أمر يحتاج إلى تصديق وتحقيق، فلا يكفي قول بعضنا لبعض: إني أحبك في الله، المحبة في الله شهادة على عروة وثقى من عرى الإسلام ينبغي أن تُغذى بطاعة الله ومرضاته. وقد ذكر الله عز وجل لهذه المحبة آثاراً طيبة؛ من أعظمها: أنها تعين على طاعة الله ومحبته، وأشار إلى ذلك بقوله عن نبيه موسى قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:25 - 35] فالأخ في الله يعينك على ذكر الله وطاعته الله. ومن ثمرات الأخوة في الله: أنها أعظم معين على البعد عن محارم الله وحدوده، ولذلك الإنسان إذا حدثته نفسه بشهوته أو حدثته نفسه بأمر بينه وبين الله أن يفعله من معاصي الله فما عليه إلا أن يجلس مع أخ في الله يرهبه من عذاب الله، ويذكره ببطشه الله عز وجل وعقوبته.

محبة الله ورسوله

محبة الله ورسوله الخصلة الأولى: بينك وبين الله عز وجل وهي: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) والكلام في محبة الله والرسول صلوات الله وسلامه عليه ينحصر في أمرين وثالثهما هو الثمرة. أما الأمر الأول: فإن العلماء رحمهم الله يقولون: كل محبة من العبد لها سبب، وهذا السبب إما أن يكون دنيوياً محضاً، أو أخروياً محضاً أو جامعاً بين الدنيا والآخرة؛ ولكن محبة الله عز وجل جمعت هذه الثلاثة الأسباب، فمحبة الله تكون لسبب ديني محض وهو: نجاتك في الدنيا والآخرة، وتكون لسبب دنيوي محض فلا سعادة في الحياة إلا بطاعة الله. ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد وتكون جامعة بينهم بما ذكرنا. أما محبة الله فقد قال العلماء رحمهم الله: إن الأسباب كلها تهيأت من أجلها، فلو أن إنساناً أحب والده لعظيم إحسانه وجليل يده عليه وكريم امتنانه، فكيف بالله جل وعلا الذي ما من طرفة عين إلا وأنت ترفل في نعمة منه لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى؟ إن كانت المحبة للإحسان فأين أنت من إحسان الله؟ وإن كانت المحبة للنعم فأين أنت من نعم الله؟ وإن كانت المحبة لدفع النقم فأين أنت من النقم التي دفعها الله؟ تفكر وتدبر لو أنك في يوم من الأيام قد ضاقت بك السبل وتعسرت عليك الأسباب في دين أو كربة أو هم من الدنيا أو حاجة، فاحتجت إلى من يعينك ويساعدك، وإذا برجل وفي يدنو منك في تلك الساعة العصيبة فمد لك يد المساعدة، وأعطاك ما تحتاجه، لو أن عبداً فعل ذلك لأسرك بمعروفه، ولأصبحت تتحدث بذلك المعروف وتثني عليه ليلاً ونهاراً، وعشياً وإبكاراً، وتثني عليه أمام أبنائك صغاراً وكباراً، فأين نعم الله؟ وأين منن الله؟ كم من كربة فرجها الله عنك، وكم من كربة في ظلمات الليل جاءك السقم والمرض وحولك الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، فتألمت وتأوهت، ونظرت يميناً ويساراً فلم تجد معيناً سواه، ولا مجيراً عداه، ولا مغيثاً غيره جل في علاه، فقلت: رباه! رباه! فناديته بقلب لا يعرف سواه، وتعلقت به سبحانه وتعالى، وفي لحظة واحدة آتاك رحمته، وأسداك منته، ففرج عنك الكرب الذي تألمه، وأزال عنك البلاء الذي تجده، فهل ذكرت معروفه يوماً من الأيام؟ وهل أثنيت عليه أمام الأنام؟ وهل ذكرت فضله تبارك الله رب العالمين؟ أحبتي في الله! ليس هناك محبة أصدق من محبة الله عز وجل، وليس هناك أحد يحب على الحقيقة كمحبة العبد لربه، ومهما أحببت شيئاً فأنت مغالٍ فيه إلا الله تبارك الله رب العالمين، فإنك مهما أحببته وأجللته، ومهما أعظمته وأكبرته، فأنت المقصر في حقه سبحانه وتعالى. محبة الله عز وجل لها أمارات ولها دلائل وعلامات بيّنها العلماء رحمهم الله، ومن أحسن من عبر عن تلك المحبة أحد العلماء رحمهم الله بقوله: (تحصل محبة الله بفعل واجباته وترك مخالفته، فإذا تهيأ للعبد ذلك كان محباً لله) إذا اجتمعت الخصلتان في العبد -فعل فرائض الله وترك محارم الله- فهو حبيب الله عز وجل. قال بعض العلماء: (يستدل على محبة العبد لله بتوفيق الله عز وجل للعبد لطاعته) وبمقدار ما يقصر العبد في الواجبات وبمقدار ما يقع في فعل المحارم والمنكرات كلما كان ذلك نقصاناً في محبته لله عز وجل، ولذلك ما استقرت محبة الله في قلب عبد إلا وجدته أنشط ما يكون لفعل فرائض الله، وأبعد ما يكون عن حدود الله ومحارم الله عز وجل، فمن أحب الله انتظر في كل لحظة أمراً من أوامره حتى يلبي ذلك الأمر، وانتظر في كل لحظة من لحظاته نهياً من النواهي حتى يتقرب إلى الله عز وجل في ترك ذلك المنهي. لذلك أحبتي في الله! دلائل محبة الله في هذين الأمرين، وفي تحقيق هاتين الخصلتين: فعل فرائض الله وترك محارم الله، وكلما وقف الإنسان أمام فرضٍ من فرائض الله أو أمام حدٍ من حدود الله فليعلم أنه ممتحن في محبة الله عز وجل. أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي -بعد محبة الله- أشرف مأمول وأعظم محصول، من وفقه الله لمحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد وفقه لطريق من طرق الجنة، فما أحب عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعطش لسنته وتلهف لاتباع أثره، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه هي الطريق الوحيد إلى الجنان والفوز بالرضوان؛ ولذلك كما قال بعض العلماء: (إن الله أقفل كل السبل المفضية إليه إلا سبيلاً واحداً وهو الطريق الذي اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم) وقد أشار الله عز وجل إلى هذا المعنى في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] إذا أردت أن تعرف مقدار محبة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى حرصه على السنة علماً وعملاً ودعوة وتطبيقاً؛ ولذلك قال العلماء: (أصدق الناس في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل السنة، العاملون بها الداعون إليها) فإذا أردت أن تعرف صدق محبة الإنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى خصاله وانظر إلى خلاله، وزِنها بخلال النبي صلى الله عليه وسلم وبآدابه، فإن وجدته يترسم نهجه ويقتفي أثره ويتعطش لمعرفة سنته، فوالله إنه الحبيب ونعم الحبيب، والقريب من الله ونعم القريب؛ لذلك فإن أول ما يعتني به المؤمن الصادق في محبة النبي صلى الله عليه وسلم معرفة السنن والبحث عنها والحرص على العمل بها وتطبيقها، والدعوة إليها ما استطاع لذلك سبيلاً. حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما توضأ إلا وتذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ولا مد كفه بالماء ولا أدارها على عضو إلا وهو كأنه يلاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه يتوضأ كوضوئه ويغتسل كغسله، حتى إذا دنا من صلاته وعبادته تذكر هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في قيامه في قراءته في ركوعه في سجوده في دعائه فأخذ يحدوه ويقتفي أثره حذو القذة بالقذة، والله إنه لتوفيق للعبد إذا أراد الله له خيري الدنيا والآخرة أن يلهمه محبة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. حتى إذا أصاب الإنسان هذه الخصلة الكريمة وهي محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، جاءت الثمرة المباركة، فصار لا يمسي ويصبح إلا وقلبه معلق بالله، يقوم لله، ويقعد لله، ويتكلم لله، يراقب الله في حركاته في سكونه في أنفاسه في كلماته، ويترسم كل شيء فيه محبة الله حتى إذا بلغ إلى هذا المقام الشريف وهذا المنزل المنيف وأصاب محبة الله عز وجل، وأصاب رضوان الله سبحانه وتعالى، عندها تأتي الثمرة الثانية التي هي ثمرة محبة الله عز وجل، قال بعض العلماء: (ما أحب مؤمن ربه إلا تعلق بالله في كل شيء يفعله ويقوله) ولذلك أُثر عن القاضي الإمام الجليل الحافظ ابن دقيق العيد رحمة الله عليه: أنه قضى في قضية فراجعه رجل قضى عليه الإمام في تلك القضية، فقال له الرجل: والله ما أنصفتني، ولقد جُرت في حكمك، فقال الإمام الحافظ رحمة الله عليه: أتقول ذلك؟ فوالله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل) وهذا إنما يكون من كمال المحبة لله عز وجل؛ ولذلك ذكر بعض العلماء في شرح هذا الحديث: (إن المؤمن إذا عمر قلبه بمحبة الله جاءت الثمرة الثانية وهي أن يحب حبيب الله ويعادي عدو الله، يصبح قلبه ويمسي لا يُقرب إلا من قربه الله، ولا يبعد إلا من أمره الله عز وجل بإبعاده، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وأن يحب الرجل لا يُحبه إلا لله).

كيفية الحصول على حلاوة الإيمان

كيفية الحصول على حلاوة الإيمان أحبتي في الله! ما اجتمعت هذه الخصال الثلاث في عبد من عباد الله إلا ذاق حلاوة الإيمان، ولا وفق الله عز وجل عبداً لتحقيقها وتحصيلها إلا كان من أحبابه وكان من خاصة أوليائه. ولذلك السؤال الأخير: كيف السبيل للوصول إلى هذه المحبة؟ وكيف الطريق للوصول إلى هذه الحلاوة التي نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يذيقنا وإياكم تلك الحلاوة وألا يسلبنا إياها إلى أن نلقاه؟ أعظم سبيل لتحصيلها وأقرب طريق للوصول إليها: طريق الدعاء، بأن تسأل الله حلاوة الإيمان، وأن يذيقك لذة العبودية للرحمن، فما دعا عبد ربه إلا استجاب، وما سأل سائل ربه إلا أعطاه الله عز وجل وبلغه مراده؛ ولذلك قال الله في كتابه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وما حصَّل عبدٌ طاعة من طاعات الله إذا استعصت بشيء مثل الدعاء. أما الأمر الثاني: فهو تحصيل الأسباب التي ذكرناها، والتي من أعظمها: الفقه في الدين ومعرفة سبيل الطاعة لرب العالمين، فمن جمع الله له بين الحسنيين ورزقه هذين الأمرين فإنه لا شك سيصيب حلاوة الإيمان ويكون من الموفقين لطاعة الرحمن. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن ترزقنا حلاوة لا مرارة بعدها، وإيماناً لا كفر بعده، وسعادة لا شقاء بعدها، ورحمة لا عذاب بعدها، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.

الأسئلة

الأسئلة

التحذير من سماع الأغاني

التحذير من سماع الأغاني Q أرجو من فضيلتكم أن تدلوني على وسيلة أترك بها سماع الأغاني؟ A أما الغناء فهو محرم، ودلت على حرمته دلائل الكتاب والسنة، أما الكتاب فإن الله عز وجل قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6] قال عبد الله بن مسعود: (والله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء! والله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء! والله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء)، وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث البخاري: (يأتي في آخر الزمان أقوام يستحلون الحر -وهو الزنا- والحرير والمعازف والقيان، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين) نسأل الله السلامة والعافية. والغناء ينبت النفاق، وما من إنسان استمع إلى شيء منه إلا أمات الله قلبه على قدر ما استمع من تلك الأغاني الداعية إلى المحارم المقربة من الآثام والمظالم الغناء يطيش بعقل المؤمن ويورثه خفة في عقله وطيشاً في لبه، نسأل الله السلامة والعافية، لا يعين على ذكر الله وهو مما يصد عن ذكر الله وطاعة الله، فإذا أراد الإنسان أن يكون مؤمناً حقاً فما عليه إلا أن يصدق في تركه، وأما ما يعينك على ذلك الترك فتذكر أخي في الله ذلك السمع ومن شقه، تذكر لو أن الله عز وجل غار على هذا السمع فسلبك، إياه فأصبحت أصماً والعياذ بالله تذكر لو أن الله عز وجل أوقفك بين يديه فسألك عن نعمة السمع، فجئت بهذه العيوب والذنوب؛ فلذلك ينبغي للإنسان أن يبتعد عن الغناء، وأن يتعاطى الأسباب المعينة على الابتعاد عنه، والله تعالى أعلم.

أسباب الخشوع في الصلاة وموانعه

أسباب الخشوع في الصلاة وموانعه Q عندي حالة لا تعجبني، وهي: أن الخشوع لا يأتيني في الصلوات المفروضة، ولكني أحس به أحياناً في أداء النوافل؟ A أما الخشوع في الصلاة فهو لذتها وحلاوتها، وليس للإنسان إلا ما عقل من صلاته، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه أن الفلاح لا يكون إلا بالخشوع في الصلاة، وأعظم الأسباب التي تعينك على الخشوع سبب أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46] قال بعض العلماء: (في هذه الآية دليل على أن كثرة ذكر الآخرة أعظم معين على الخشوع في الصلاة). وقد يكون هناك سبب يمنعك من الخشوع؛ إما مظلمة بينك بين الله سلبك الله بها الخشوع في الصلاة كإتيان حدٍ من حدود الله أو حرمة من محارم الله في سمع أو بصر أو لسان، وقد تكون غيبة لمسلم، وقد تكون عداوة للمسلم، فآذنك الله بها بحرب. أما السبب الثاني الذي يسلب الخشوع فهو: الاشتغال بالدنيا، وشرود الذهن أثناء الوقوف بين يدي الله عز وجل، وانصرافك عن استشعار عظمة وهيبة المقام بين يديه، فإياك ثم إياك واشتغال النفس بالدنيا إذا دخلت إلى المسجد، ذكروا عن بعض السلف: (أنه صلى بالناس عشرين عاماً ما سها في صلاة قط، فسئل عن ذلك فقال: والله الذي لا إله إلا هو، ما دخلت المسجد وفي قلبي غير الله) من أراد الخشوع بمجرد أن تطأ قدمه المسجد؛ يدخل وليس في قلبه إلا الله، هذه المساجد بيوت الله اختارها الله لذكره، واصطفاها للإنابة إليه بتمجيده وشكره، فإذا دخلها الإنسان خلّف الدنيا وراء ظهره، فإذا أردت الخشوع فاجتهد في تحصيل هذه الأسباب، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم حلاوة الخشوع والإخلاص فيها، والله تعالى أعلم.

وسائل ترك المعاصي الخفية

وسائل ترك المعاصي الخفية Q أطلب من فضيلتكم موعظة لي ولإخواني عن معاصي السر، فإني أحس أني من الراسخين في النفاق، وإني أحب الله ورسوله فادع الله لي بالخير والثبات والإعانة على طلب العلم؟ A ما ذكرته -أخي في الله- من بلاء السر، فإن الله عز وجل قد يبتلي الإنسان ببعض المعاصي والذنوب الخفية التي بينه وبين الله عز وجل، ولذلك لا يكون الإنسان خائفاً من الله حقيقة الخوف ويخشى الله عز وجل حقيقة الخشية إلا في مثل هذه المواطن، وليس هناك أحد منا إلا وبينه وبين الله هنات وزلات، وعورات وخطيئات، ولكن تذكر قدرة الله وسلطانه عليك ونعمته التي أسداها إليك واجعل ذلك شعوراً يدعوك إلى الحياء من الله والخجل، والخوف من الله تبارك وتعالى والوجل. إذا أُرخيت عليك، الأستار وغابت عنك الأنظار، فاعلم أنه لم يغب عنك نظر العظيم القهار، ولو أن إنساناً استشعر عظمة الله عز وجل وهو يقارف الذنوب ويتلبس بالعيوب لهانت عليه شهوته، ولذلت عليه معصيته، والمعين والمثبت من ثبته الله، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم الخشية الصادقة، فإن العلماء يقولون: الخشية الصادقة هي خشية الغيب، وأما خشية الشهادة فهي خشية يشترك فيها كثير من الناس، ولكن الخشية الصادقة هي الخشية التي تكون بالغيب، حينما تتيسر لك المعصية، وليس لك عليها حسيب ولا رقيب إلا حسيب الله العليم المجيب، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووجهه الكريم أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، ومن أهل خشيته في الغيب والشهادة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم الغش في الامتحانات الدراسية

حكم الغش في الامتحانات الدراسية Q أحد الإخوة التزم قريباً، ثم يسأل فيقول: كنت أخذت الكفاءة عن طريق الغش في الامتحان قبل أن ألتزم، والآن أنا في السنة الأولى الثانوية ولا أستطيع أن أواصل دراستي إلا بالغش، فما نصيحتكم لي؟ A الغش في الامتحان وغيره أمرٌ محرم، وهو داخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أنس في الصحيح: (من غشنا فليس منا)، وفي رواية: (من غش فليس منا) فهذا النص عام يشمل كل غش سواء كان في الامتحان أو في غيره، وعليه فإن الطالب إذا غش في امتحانه فهو آثم في غشه، وينبغي لك أن تتقي الله عز وجل، ولذلك ما من إنسان ينال الشهادة بهذا الطريق إلا كان محروم التوفيق؛ بل إنه لا يؤمن إذا كان الإنسان أخذ الشهادة بدون حق أن يكون غير مستحق للمرحلة التي وصل إليها. وجزم بعض العلماء من مشايخنا على أنه: إذا كان الإنسان قد غش وكانت هذه الوظيفة تتوقف على المعلومات الموجودة في الاختبار أن يكون حافظاً لها عالماً بها ولم يكن كذلك ونال شهادته على هذا الوجه؛ فإنه لا يؤمن عليه أن يكون آكلاً للمال الحرام والعياذ بالله؛ لأنه واضع نفسه في غير موضعه، ومدعٍ لما ليس له، فلذلك ينبغي أن يحذر من هذه الخصلة التي تدل على ضعف الإيمان في القلب، وتدل كذلك على عدم صلاح الإنسان وكمال تقواه لله عز وجل، فالمؤمن الصالح أبعد ما يكون عن الغش والكذب والخداع، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الذي سبقت الإشارة إليه، ولذلك قال بعض شراح الحديث في قوله: (من غشنا فليس منا) أي: ليس على هدينا ولا على سنتنا، والله تعالى أعلم.

نصيحة لحفاظ كتاب الله

نصيحة لحفاظ كتاب الله Q نحن مجموعة من الطلبة نحفظ القرآن الكريم في أحد المساجد، فنرجو منك أن تبين لنا، الطريقة السليمة في حفظ القرآن الكريم، وكيف نتعامل مع شيخنا وزملائنا أثناء التلقي والطلب؟ A يا حافظ القرآن! ويا من شرفك الله عز وجل بالجلوس في تلك المجالس المملوءة بذكر الرحمن! أول ما ينبغي أن يعتني به من وفقه الله لتلك المجالس وكان من أهلها: أن يخلص لله عز وجل، فإذا خرجت إلى حلقة التحفيظ خرجت وليس في قلبك إلا الله الحفيظ، خرجت وأنت ترجو رحمة الله، وتتلقف رضوان الله في كل خطوة تخطوها، وفي كل قدم ترفعها وتضعها، فإنك إن فعلت ذلك أعظم الله أجرك وبارك الله لك في علمك. أما الخلة الثانية التي ينبغي أن يتخلق بها من جلس في مجلس القرآن: أن يجل ذلك المجلس، فيبكر إلى مجالس التحفيظ وألا يقصر في ذلك، فإن التأخر عن مجالس الذكر ومجالس العلم يدل على نقص أدب الإنسان مع ذلك العلم؛ ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله أكمل ما يكونون أدباً في مجالس العلم حتى كان طالب العلم منهم يسبق شيخه قبل أن يخرج من منزله لطلب العلم، وكان ابن عباس رضي الله عنهما ينام على عتبة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه. إذا جلست في ذلك المجلس فاستشعر عظمة ذلك الكتاب الذي بين يديك، واستشعر نظر الله عز وجل إذ ينظر إليك، وتذكر أن هذا الكتاب الذي بين يديك يطالبك بالآداب، ويسألك أن تتخلق بأخلاق أولي الألباب، فتكون على أكمل ما يكون عليه الطلاب، فتكون على وقار وخشوع وخشية لله عز وجل، تحس كأن الله يخاطبك، واعلم أن كلام الله هو أعظم رسالة على وجه الأرض، فإذا وفقك الله عز وجل لهذا الشعور جاءت الآثار حينما تتأدب فتكون متأدباً في صوتك في مجلس الحفظ متأدباً في حديثك مع شيخك، مراعياً لحرمته ومكانته؛ فإن وفقك الله عز وجل لذلك فقد وفقك الله لخير كثير. يا طالب العلم! لن تكون خير الطلاب إلا إذا كنت أكملهم أدباً، وينبغي لك أن تنافس غيرك في الأدب، فأحب الطلاب إلى الله أكملهم أدباً مع شيخه، وأكملهم رعاية للحرمة مع عالمه الذي يتلقى عنه، فاحفظ حرمة ذلك الشيخ، واحفظ حرمة من تحفظ القرآن على يديه. هناك قصة لطيفة للإمام الشافعي حاصلها: (أنه جاءه رجل عامي وهو جالس في مجلس العلم وقد مد رجليه، فقبض الإمام الشافعي رجله، واستوى في مجلسه مع أصحابه حتى جاء ذلك العامي، فلما جلس هابه الشافعي، ثم لما مضى وانصرف مد رجليه وعاد إلى الحالة الأولى، فعجب طلاب الشافعي من ذلك الصنيع، فقرأ في أنفسهم ذلك التعجب، فقال لهم: إن هذا الرجل أخبرني -كان الشافعي يوماً من الأيام يشرح حديث ابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار) أن الكلب لا يشغر رجله ليبول إلا إذا كان بالغاً، فلما قال هذه المقالة للإمام الشافعي اعتبرها الإمام الشافعي فائدة، وإن الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة، فكيف بمن يعلمك كلام الله عز وجل، وكيف بمن يعلمك القرآن؟ فاحفظ ذلك الحق لمن تتعلم على يديه. أما الأمر الأخير: فالصبر على أذية المعلم، إذا آذاك المعلم فاصبر على أذاه؛ فإن الله قد يبتليك بإنسان فظ غليظ لكي يبتلي صبرك، وهنا قصة لطيفة -هي خاتمة هذا الأدب- عن أحد العلماء الفضلاء: سمع بعالم قدم من الهند إلى دمشق، فخرج هذا العالم من بلدته حتى جاء إلى دمشق في الليل، فسأل عن بيت ذلك العالم فدل على بيته، فجاء وقرع الباب في السحر قبل الفجر، ففتح العالم بابه، فوجد ذلك العالم الضيف، فسأله: ما الذي تريد؟ قال: أتيت لكي أتلقى العلم عنك، فأخذ ذلك العالم الباب وأغلقه في وجه ذلك العالم الذي جاء لطلب العلم -وكان يوماً شديد البرد- فما كان من ذلك الطالب إلا أن جلس على عتبة الباب حتى أذن الفجر، فلما أذن الفجر خرج العالم من بيته، فوجد الطالب نائماً على عتبة الباب، فأخذه واحتضنه وقال: والله ما أردت إلا أن أختبر صبرك على العلم، فأخذه واحتضنه وكان من خيار طلابه. فالعلم يحتاج إلى صبر، فلذلك إذا رأيت زلة أو أذية من عالم أو ممن تحفظ القرآن على يديه فاصبر ابتغاء مرضاة الله، والله تعالى أعلم.

جلسة مع طلبة العلم

جلسة مع طلبة العلم إن لأهل العلم وطلابه فضائل خصهم الله عز وجل بها في الدنيا والآخرة، وما ذلك إلا لعظيم ما فعلوه وقدموه من حفظ الكتاب والسنة، وتبليغها وتعليمها الناس، فمن حمل العلم فإن عليه أن يفقه ما يحمل، ويعرف واجبه نحو ما يحمله، ثم إن الله يؤتيه ثمرات ذلك في الدنيا والآخرة، فاظفر بطلب العلم تربت يداك!

من فضل العلم في الدنيا والإخلاص فيه

من فضل العلم في الدنيا والإخلاص فيه الحمد لله حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه، يليق بجلال ربنا وعظمته وكماله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفع من قالها يوم لقائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، ومن سار على نهجه ومنواله. أما بعد: فأحييكم بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن القلوب لتطمئن، وإن الصدور لتنشرح حينما تسمع عن شباب أحبوا العلم وأحبوا أهله، وحرصوا على أن يتسلحوا بهذا السلاح العظيم، يبتغون من فضل الله الكريم، إنها لنعمة من الله إذا شرح صدر عبده لطلب العلم، فحببه إلى قلبه، وجعل أشجانه وأحزانه في رياض الجنة، لا يرتاح ولا يطمئن إلا بمجلس يسمع فيه كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكي يخشع من ذلك قلبه، وتعمل به جوارحه، ويدعو الناس إلى ما علم وعمل، والدنيا فانية ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وطالب علم انتفع بعلمه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علماً وحكمة فعمل بهما وعلَّم) فنال الدرجات وفاز بالمحبة والمرضات، فلقي الله يوم يلقاه راضياً عنه. إذا هدى الله العبد إلى الصراط المستقيم، وحببه في هذا الدين، وأراد أن يتمم عليه النعمة ويزيده من فضله شرح صدره للعلم والعمل: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). هذا العلم لا يحبه أحد إلا ناله خيره، ونال من بركته التي وضعها الله فيه، فإن الله عز وجل وصف كتابه بالبركة: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] فهذه البركة والخير في هذا العلم إذا شرح الله صدر العبد فأحبه وأحب أهله فلابد وأن يصيب من الخير على قدر حبه، ومن حيل بينه وبين بلوغ مراتب العلماء ولكن اطلع الله على قلبه أنه يحبهم وأنه يتمنى أن يكون له لسان صدق مثل ما أوتوا بلغه الله درجاتهم، قال: (يا رسول الله! المرء يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: أنت مع من أحببت) فمن أحب العلماء وأحب طلاب العلم الصالحين الأتقياء حشره الله مع العلماء، ومن أحب العلماء وأحب أن يتمثل بهم وأحب أن يكون له من الخير ما لهم. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذه المحبة خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفقنا بها إلى سلوك العلم والعمل. أيها الأحبة في الله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) والله يؤتي الحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] العلم بصيرة، ومن آتاه الله العلم أبصر الحق وعرفه فلم تلتبس عليه السنة بالبدعة، وتتضح له بذلك المحجة، ويستمسك بفضل الله عز وجل بالدليل والحجة.

حسن خاتمة أهل العلم

حسن خاتمة أهل العلم ومن ثمرات العلم يقول العلماء: قلّ أن يخلص أحد في العلم ويرى ثمرة العلم في عمله ودعوته للناس إلا حسنت خاتمته. ولذلك وجدنا من عاجل ما أعطى الله العلماء حسن الخاتمة في هذه الدنيا، ومن منّا لا يتمنى حسن الخاتمة؟! فإن الأمور بخواتيهما: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) اللهم إنا نسألك العافية، فيحرص الإنسان على هذا العلم حتى يحسن الله به خاتمته، ذكر عن بعض السلف أنه لما حضرته الوفاة بكت ابنته فقال: أي بنية! أتبكين عليَّ وقد أفتيت عن الله فأمرت بأمره ونهيت عن نهيه؟! يعني: هل يخذلني الله عز وجل بعد أن شرفني بحمل العلم فأمرت بأمره ونهيت عن نهيه؟ لا، والله! لا يخزيك، ولما قالت فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه! قال صلى الله عليه وسلم: لا كرب على أبيك بعد اليوم) فالعلماء تحسن خواتمهم، وكم رأينا -والله- من أهل العلم -الصادقين الذين حرصوا على العمل بالعلم والدعوة إليه والإخلاص فيه- من حسن الخاتمة لهم! وكم رأينا من بشائر الخير! فهذا كله من عاجل ما يضعه الله عز وجل للعبد، وهو من خاتمة ما يكون له في الدنيا.

الله يصرف قلب صاحب العلم إلى الآخرة

الله يصرف قلب صاحب العلم إلى الآخرة كذلك من ثمرات العلم النافع: أن الله يصرف قلب صاحبه إلى الآخرة ويزهده في هذه الدنيا، ولذلك تجد العلماء أغنى الناس بالله جل جلاله، جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله برحمته الواسعة، فجلس في مجلس الحسن وكان غنياً ثرياً، فلما قام من مجلس الحسن أرسل إليه بخمسة آلاف درهم -خمسة آلاف درهم في أيام الحسن شيء عظيم وكبير- ثم أرسل له بثياب وقطن، ثم جاء إلى الحسن ودفعها إليه في بيته قال له الحسن: عافاك الله ضمّ إليك دراهمك وثيابك وقطنك، فإنه ما حدث أحد بما حدثت به فأخذ ما أعطيت إلا كان يوم القيامة لا خلاق له؛ لأنه يريد ما عند الناس ولا يريد ما عند الله جل جلاله. ويجعل الله الآخرة أكبر همك ومبلغ علمك، دائماً تفكر بآخرتك، وهذا شأن العلماء! تجد العالم دائماً يتذكر مثل هذه الساعة وهو في القبر وهو في اللحد، يتذكر وهو قائم بين يدي الله يسأله عن علمه ماذا عمل به، فإذا كان خالياً دمعت عيناه من خشية الله وقال: اللهم إني أسألك أن تلطف بي، اللهم اجعل علمي حجة لي لا حجة عليَّ، يحس بالآخرة في قلبه فينصرف، وتنصرف همته كلها إلى الآخرة، ولذلك عندما تقرأ في سير السلف الصالح وأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم تحس أن هذه الثمرة قد عجلها لهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، ومن خاف من الآخرة أمّنه الله فيها، فإن الله لا يجمع للعبد بين خوفين وأمنين، فإما خوف في الدنيا وأمن في الآخرة، أو العكس، ولذلك لما قيل لبعض السلف وقد اجتهد في العبادة: أتعبت نفسك، قال: راحتها أريد. فالذي يتعب اليوم ويخاف اليوم يأمن غداً. الله أعلم كم ضمت اللحود أقواماً وجلت قلوبهم من خشية الله! فإذا فيها النعيم والرضوان المقيم، الله أعلم كم ضمت اللحود الآن من أئمة ودواوين للسلف وعلماء للأمة علم الله منهم أنهم خافوا الآخرة فأمّنهم اليوم وهم فيها! وذكرهم بصالح الدعوات وقد ولوا ومضوا، فهذه عاجل ثمرات الدنيا.

الله يزكي طالب العلم

الله يزكي طالب العلم كذلك من ثمرات العلم في هذه الدنيا: أن الله سبحانه وتعالى يزكي أهله، وإذا زكىّ الله عبداً بارك له، الله تعالى لا يزكي العبد بحسبه، ولا يزكيه بنسبه، ولا يزكيه بنومه، ولا يزكيه بماله: (فرب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) وما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ضيق من الدنيا، وما كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم إلا معرضاً عن هذه الدنيا، فالله لا يزكيك بهذه الدنيا، ولكن يزكي بما وقر في القلب وصدقه العمل.

الله يقذف في قلوب الناس حب طالب العلم

الله يقذف في قلوب الناس حب طالب العلم وثمرات هذا العلم: أن الله يقذف في قلوب الناس حبك، فإذا أخلصت الآن، وحرصت كل الحرص على الأدب مع العلماء ومع من تتلقى عنهم قيض الله لك من تصرف الناس ومعاملتهم معك ما تقر به عينك، ويطمئن به قلبك، وتبهج به نفسك، والله! ما رأينا طالب علم تأدب مع علمائه ومشايخه إلا رأينا آثار ذلك في طلابه، وما رأينا فظاً غليظاً سيئاً جافياً متجافياً عن الحق إلا رأينا مكر الله به كما مكر بمن كان على شاكلته ممن سبقه. فإياك ثم إياك أن تغفل عن هذه الثمرة الكريمة! أن يزكي الله علمك، فيجعل لك بين الناس القبول والمحبة والرضا، وهذا -كما ذكرنا- بالإخلاص، ثم بذكر الله جل جلاله، ثم بالحرص على الأدب مع أهل العلم، فيفتح الله لك عز وجل من فضله، فترى ثمرة العلم في الدنيا، وترى بأم عينيك ما كنت تفعله مع مشايخك من الإجلال والتقدير في طلابك، ومن يأخذ العلم عنك؛ فما {جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] والله جل جلاله يقول في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]. فمن كان في رياض العلم متأدباً تعلوه السكينة والوقار، وإذا سأل عرف عن أي شيء يسأل، وإذا تكلم عرف أين يضع لسانه، وحفظ لأهل العلم حقهم وقدرهم، وأخذ يختار النماذج الكريمة من السلف الصالح وطلاب العلم الأحياء الذين يرى فيهم وقار العلم وسمته، والأدب مع العلم فتخلق بهذه الأخلاق؛ زكاه الله جل جلاله، والله إن القلوب لتسر حينما ترى نماذج من طلاب العلم في السكينة والوقار يذكرون بهدي السلف الصالح! وإن القلوب لتتقرح وتتألم حينما ترى عكس ذلك! كذلك أيضاً: إذا زكاك الناس وشهدوا لك بالخير كان من عاجل البشرى لك في الدنيا يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه) الله أكبر! لو نودي باسمك في السماوات العلى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، اللهم اجعلنا ذلك الرجل! الله ذو العزة والجلال الذي بيده ملكوت كل شيء ينادي باسمك! إذا صلح قولك وعملك، ورأى الله منك هذه المحافظة على الحقوق والواجبات! (نادى يا جبريل! إني أحب فلاناً) لا، والله! ما أحب الله للدنيا، وما أحب للأحساب والأنساب، ولكن أحب للدين والإخلاص. وانظر إلى الأسلوب (إني) وهو للتوكيد والإثبات- (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال صلى الله عليه وسلم: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) فإذا تكلم وضع الله البركة في قوله، فكم من تائب أناب ومهتدٍ اهتدى بإذن الله عز وجل بتذكيره ووعظه! فترجع إلى قومك وعشيرتك وقد وضع الله لك القبول، من عامل الله كان الله له. فمن الآن وطِّن نفسك على أن يحبك الله، فترى هذه الثمرة العاجلة في الدنيا فتقول: يا رب! أحمدك وأشكرك والفضل كله لك، إذا أحبك الله عز وجل ووضع لك القبول فهذه ثمرة الدنيا؛ فيزكيك الناس ويشهدون لك بالخير والفضل ويترحمون عليك، ويذكرونك بصالح الدعوات، ما ذكرت إلا أثنوا عليك ودعوا لك بالخير، وهذا من عاجل البشرى، ولذلك من ذكره الناس بصالح الدعاء كان هذا من عاجل البشرى، والعكس بالعكس! فعلى المسلم أن يحرص على توطين نفسه بالأصول التي تفضي إلى هذه الثمرة الكريمة.

التوفيق في طلب العلم

التوفيق في طلب العلم فتأتي بعد ذلك الثمرة الثالثة: وهي التوفيق في العلم، إذا أخلصت وأكثرت من ذكر الله جل جلاله فكنت ممن يقوم الليل، ويصوم النهار، ويستغفر ربه قائماً وقاعداً، يذكر الله على كل حاله، فإن الله يفتح لك أبواب التوفيق، وقلّ أن تجد طالب علم كثير الذكر لله إلا وجدته موفقاً في طلب العلم، وبارك الله له في جوارحه، وبارك الله له في ليله ونهاره فأحبه الله، وإذا أحب الله العبد عصمه من فتنة الشهوات، وحفظه مما يقذفه الشيطان من الشبهات، فأصبح على البصيرة والنور والهدى وعلى الصراط المستقيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] فيجعل الله للعبد بهذا السبب العظيم نور التقوى. فإذا أخلصت وذكرت الله جل جلاله وفتح لك أسباب التوفيق كان من أعظمها وأجلها أن توفق للعالم الرباني الذي أخذ العلم عن أهله، فابحث عن من زكا في علمه وقوله وعمله، وأخذ هذا العلم عن العلماء الصالحين الذين ورثوا علم الكتاب والسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم زكَّى حملة العلم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله). فإذا أراد الله أن يوفقك في طلب العلم حبب إلى قلبك العالم العامل، ورزقك العالم الرباني الذي يذكرك بالله منظره، ويدلك على الله عز وجل مخبره، يدلك على عالم تلتزم به حجة بينك وبين الله جل جلاله، قال الإمام الشافعي رحمه الله: (رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله)، لما رأى من مالك رحمه الله حبه للكتاب والسنة، وحرصه على النص، وعلى الاهتداء بهدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين، رضيه حجة بينه وبين الله جل جلاله، فإذا وفقك للعالم فقد أخذت مفاتيح العلم، والعالم الرباني يدل على الله جل جلاله، يدل على الله بقوله وعمله وسمته … وإذا أردت أن تنال ثمرة العلم على أتم الوجوه وأكملها فالزم ذلك العالم محافظاً على حقه، مستديماً لما له عليك من واجب حبه وتقديره وإجلاله وإكرامه، فإن العقول السلمية أجمعت -والحكماء أجمعوا- على أن من أجلّ شيئاً وأحبه انتفع به. ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يجعل علمه مقروناً بالأدب والإجلال والتقدير، ولذلك قال موسى بن عمران للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] وهذا شيء من التذلل والتواضع للعلماء، وهذا يدل على أنه ينبغي لطالب العلم أن يشعر العالم بالتقدير والإجلال؛ لأن تعظيم العلماء وإجلالهم تعظيم لشعائر الله. فإذا رزقت هذا العالم العامل فاحرص على أن تكون أفضل طلابه، واحرص بارك الله فيك على أن لا تقع عينه منك على شيء يشينه! واحرص وفقك الله على أن لا يسمع منك ما يؤذيه! واحرص بارك الله فيك على سؤال الله أن يجملك وأن يجعلك خير الطلاب! فإن العالم يحرص على نفع خير الطلاب وأفضلهم. وإياك أن تزدري العلماء! إياك ثم إياك أن تزدري من حمل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم! بل اجعل في قلبك حبهم وودهم وتقديرهم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. فإذا عاشرت العالم وكنت معه فكن معه بمشاعرك وأحاسيسك، فإياك أن تضيق عليه في قول! أو تحرجه في مسألة! أو تعييه في وقت هو وقت راحته واستجمامه، وتحرص على الأدب معه فيما يأمرك به وينهاك، فإنه إن كان متقياً لله أمرك بأمر الله، ونهاك عما نهى الله عز وجل عنه. كان العلماء يوصون طلاب العلم دائماً بالعمل، فإذا سمعت العالم يدلك على سنة فاحرص على العمل بها، وإذا دلك على خير احرص على تطبيقه، وإياك أن تتعذر بالعجز أو الكسل، إذا سمعته يذكر سنة في الصلاة أو في الطهارة أو في حجك وعمرتك فاحرص على تطبيقها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإن كل كلمة تسمعها من هذا العالم من العلم إما حجة لك أو حجة عليك، لو أن طالب العلم كلما جلس في مجلس علمه شعر أن هذه الكلمات وهذه الجمل التي تقال له في هذا المجلس إما حجة له أو حجة عليه، فإنه -والله- يشفق على نفسه من الهلاك، كل كلمة وكل جملة إن عملت بها كانت حجة لك، وإن تركتها كانت وبالاً وحجة عليك. جاء رجل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وأخذ يسألها المسائل ثم رجع لها بعد حين وسألها عن مسائل ثم رجع لها ثالثة وسألها عن مسائل فقالت له ذات يوم: (أي بني! أكل ما سألتني عنه عملت به؟ -أي: هذه السنن التي سألتني عنها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عملت بها- فقال الرجل: لا يا أماه!، وجلس يشتكي من التقصير والعجز والكسل، فقالت: يا بني! لِمَ تستكثر من حجج الله عليك؟ هذا العلم الذي تسمعونه في المحاضرات والدروس والمجالس، بل حتى لو مررت على حلقة عالم وسمعت سنة -والله- أنها حجة لك أو حجة عليك، وخاصة إذا تغرّبت عن بلدك وعن الأهل والأوطان والأحباب والخلان؛ فاعلم أن هذا العلم سيسألك الله عنه إن سألك أهلك وعشيرتك فضيعتهم، إن الله سائلك عن هذه الحجج التي تسمعها، فكما تغربت من أجل أن ترجع إليهم عالماً حاملاً احرص على ضبط كل سنة وكل مسألة، وهذا من دلائل التوفيق، هذه ثمرة الإخلاص. والله! ما أخلص أحد في طلب العلم إلا فتح الله له من أبواب رحمته، ويسر له من العلماء ومن العلم الذي يتعلمه على قدر إخلاصه وزاده الله من فضله، فيحرص طالب العلم على هذا الأمر العظيم، وهو أن يعمل بكل ما علم وأن يطبق ذلك على أتم الوجوه وأكملها.

محبة كل ما يقرب إلى الله وبغض كل ما يبعد عنه

محبة كل ما يقرب إلى الله وبغض كل ما يبعد عنه أما الأمر الثاني: فمن أخلص لله جل جلاله وتوجه إلى الله سبحانه أحب كل شيء يذكره بالله، ونفر من كل شيء يبعده عن الله سبحانه وتعالى، وإذا أصبح العبد يأنس بكل شيء يقربه إلى الله كثر ذكره لله سبحانه، فتجده كثير التلاوة لكتاب الله، كثير الاستغفار من ذنبه والاسترحام لربه، فيصبح في ذكر دائم لله جل جلاله، ومن ذكر الله ذكره الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] ولذلك لهجت ألسنة العلماء بذكر الله وخشعت قلوبهم لما عند الله سبحانه وتعالى. فإذا أخلصت أصبحت أقوالك كلها لله بذكره سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وما شقي الأشقياء إلا بالغفلة عن الله، وإذا أراد الله أن يهلك عبداً من عباده جعله من الغافلين، وإذا غفل قسا قلبه، وإذا قسا قلبه ساء وأظلم، وإذا ساء وأظلم تحركت الجوارح إلى الظلم والظلمات، نسأل الله السلامة والعافية! فأهم ما يكون للإنسان أن يكون كثير الذكر لله جل جلاله، ولذلك تجد العلماء العاملين الأئمة المتقين جميع أقوالهم وأفعالهم مقرونة بأمر الله ونهيه، لا يتقدمون إلا إذا أمرهم الله، ولا يتأخرون إلا عن شيء يعلمون أن التأخر عنه فيه مرضات الله، وتلك أمارات التقوى! وذلك سبيل الهدى! قال بعض السلف في تعريف التقوى: أن لا يفقدك الله حيث يحب أن يراك، وأن لا يراك حيث يحب أن لا يراك. فإذا أكثر الإنسان من ذكر الله عز وجل طاب عيشه، ولذلك تجد العالم يقرأ العلم بلسانه، والله أعلم كم من مثاقيل الحسنات في ميزانه! الله أعلم هذه الكتب التي ألفها العلماء والأئمة الصلحاء الأتقياء من سلف هذه الأمة كم لهم فيها من أجور! وكم لهم فيها من حسنات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى! ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ علي: (فوالله! لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ومن أكثر ذكر الله جل جلاله فإن الله سبحانه يبارك له في عيشه وفي حياته.

أن يرزق الله العبد التقوى

أن يرزق الله العبد التقوى أيها الأحبة في الله! ثمرة العلم! وما ثمرة العلم؟! فهي أطيب الثمرات، وأعظمها وأجلها وأكرمها؛ لأنها من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم شيء على الله في هذا الوجود كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى رفع قدرهما وأحبهما، فإذا أراد الله عز وجل أن يكرم العبد بأطيب الثمار وأحبها في الدنيا والآخرة ذاق حلاوة العلم. ثمرة العلم ثمرتان: ثمرة عاجلة، وثمرة آجلة. أما الثمرة العاجلة: فإن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يرزق العبد علماً نافعاً رزقه الإخلاص، وقذف في قلبه نور التقوى، فأصبح علمه لله، وقوله لله، وأفعاله وحركاته وسكناته لله جل جلاله، وعندها يطيب عيشه، فما طاب العيش إلا بالله، قال الحسن البصري رحمه الله: (لا يزال الرجل بخير؛ إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله). أول ثمرات العلم في هذه الدنيا الإخلاص، ومن عرف الإخلاص عرف الأمر الذي من أجله خلق الله الخليقة وأوجد هذا الكون، بل الأمر الذي من أجله أظلم الليل وأضاء النهار، ومن أجله كان العشي والإبكار، من عرف الإخلاص عرف الله جل جلاله. فأول ثمرات العلم التي جناها العلماء: أن الدنيا هانت عليهم فتوجهوا إلى الله وحده، إن أصابتهم سراء شكروا وإن أصابتهم ضراء صبروا فعاشوا الحياة الآمنة المطمئنة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وعد الله جل جلاله الذي لا يخلف الميعاد أن من عمل الصالحات أن يحييه الحياة الطيبة، وما طابت الحياة على أتمّ صورها وأكمل حللها وأجملها وأجلّها إلا لأهل العلم، فترى الرجل منهم مرقع الثياب! حافي القدمين! لكنه غني بالله جل جلاله، ما اشتكى يوماً ربه إلى الناس، وتجده يتوسد الأرض ويلتحف السماء راضياً مرضياً، وتجد غيره يرفل في نعيم الدنيا، وهو في هم وغم وكرب ونكد لا يعلمه إلا الله عز وجل. أول ثمرات العلم: أنه يوجهك إلى الله، فتعلم الله بأسمائه وصفاته، وعندها يطيب عيشك، تعلم أن الأمر كله لله، وأن الأمور كلها مردها إلى الله؛ فتهون عليك الدنيا بما فيها، وتحب الله بصدق المحبة، وتتوجه إلى الله بصدق التوجه، ومن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن تقرب إلى الله فإن الله يفتح له من أبواب رحمته، وإذا فتح الله أبواب رحمته لا يستطيع أحد أن يغلقها كائناً من كان، وإذا نشر للعبد من بركته وخيره لا يستطيع أحد أن يقبض ذلك الخير كائناً من كان. دخل سليمان بن عبد الملك إلى بيت الله الحرام وفيه علم من أعلام المسلمين وإمام من أئمة الدين عطاء بن أبي رباح رحمه الله برحمته الواسعة، هذا الإمام الذي كان ينادي المنادي في الحج ويقول: لا يفتي الناس إلا عطاء لعلمه وفضله، كان عطاء في ذلك المسجد يومها فأخذه سليمان وطاف معه، ثم قال: يا عطاء! سلني حاجتك؟ ما هي حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله جل جلاله -إني لأستحي أي من الله-، فلما خرجا من المسجد قال: يا عطاء! سلني حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! أن يغفر الله ذنبي، قال: ليس ذلك بيدي، قال: ماذا تريد أن أسألك؟ قال: سلني حاجتك من الدنيا، قال: يا أمير المؤمنين! إني لم أسألها من يملكها أفأسألها من لا يملكها! كان العلماء رحمهم الله علماء بحق. فأول ثمرة العلم: الإخلاص والتوجه إلى الله، ولذلك قال الله جل جلاله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] سكنت في قلوبهم خشيته، وسكنت في قلوبهم محبته سبحانه وتعالى، فأصبحت حياتهم كلها لله، لا يسأمون ولا يملون ولا يضجرون من شيء فيه محبة الله جل جلاله، فأول ثمراته في الدنيا هذا المقام العظيم الذي هو روح الإسلام ولبه يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه).

من ثمرات العلم في الآخرة

من ثمرات العلم في الآخرة أما ثمرات العلم في الآخرة، فأمرها إلى الله علام الغيوب، الله أعلم ماذا ينتظر العلماء في موازين حسناتهم وأجورهم من السنن التي دلوا عليها، وحبّبوا فيها، وعلموها عباد الله، وحرصوا على أن يهتدوا بهديها، وأن يربوا الناس عليها! الله أعلم كم لهم من الأجور والثواب والحسنات والدرجات! الله وحده هو الأعلم، وهو سبحانه لا يضيع أجورهم ولا سهر الليالي وتعب النهار والكدح في طاعة الله ومرضاته: والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فالمعروف يدوم ويبقى، والخير والبر أبداً ما ينسى!

إذا مات لا ينقطع ذكره في الدنيا

إذا مات لا ينقطع ذكره في الدنيا ثمرات الآخرة من أعظمها: أن العلماء إذا ماتوا وكانوا في قبورهم فمن عاجل ما يجدون الرحمات التي تغشاهم في قبورهم، لا ينقطع ذكرهم ولا خبرهم، خاصة إذا قيض الله لهم طلاباً صالحين يذكرونهم بالخير، قال الإمام أحمد رحمه الله الرحمة الواسعة لأحد أبناء مشايخه: أبوك -أي: وهو ممن علمني وانتفعت بعلمه- أحد الستة الذين أدعو لهم في صلاتي) ما ذكروا وهم في قبورهم إلا ترحم عليهم، ويذكرون بالجميل! ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل!

تغشى العالم الرحمات إلى قبره

تغشى العالم الرحمات إلى قبره كذلك أيضاً: تغشاهم الرحمات، ويرون في قبورهم ما يكون لهم من الأجور التي من بعد موتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -وذكر منها-: أو علم ينتفع به) فهم يموتون وما ماتت مكارمهم، ماتوا وما ماتت مآثرهم، فهي منقوشة في الصدور! والتلميذ البار إذا ذكر شيخه ترحم عليه ودعا له، ومن ذلك: أني رأيت الوالد رحمه الله -وكان قد تتلمذ على الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله- أكثر من مرة ما ذكر الشيخ إلا فاضت عيناه بالدمع، وطأطأ رأسه ثم دعا له وترحم عليه، وكان يقول: ما رأيت بعيني عالماً ملؤها مثل الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة! وتجده يقول إذا ذكره: نعم! نعم العلم والعمل، مما رأى من شيخه من العلم والعمل، ووالله! إذا ذُكِرَت سيرته -لا أبالغ- إذا بالشيخ يسكت فتجد الدمعة تذرف مما يذكر من جميله وإحسانه، وهكذا كان رحمه الله برحمته الواسعة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علمه وورعه وصلاحه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

اليقين بالله

اليقين بالله أعظم زاد للسائر إلى الله عز وجل اليقين بالله، فهو المثبت على صراط الله حتى يلقى العبد ربه، فإذا ادلهمت الخطوب، واحلولك الظلام، وعبست في وجهك الأيام، تصدى لذلك اليقين بالله، فصار الحزن فرحاً، والضيق سعة، والعسر يسراً. فأعظم باليقين للمؤمن من دواء، وأنعم به من شفاء.

فضل الذكر والذاكرين

فضل الذكر والذاكرين الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، ومن فطر القلوب على المحبة واليقين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم المبارك إلى يوم الدين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله! أحمد الله تبارك وتعالى أن جمعني بكم في هذا البيت المبارك من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل التفرق من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. أيها الأحبة في الله! ما أطيب المجالس إذا طُيبت بذكر الله، وما أطيب الساعات واللحظات إذا عُمرت بطاعة الله، وما الذي يأخذه العبد من هذه الدنيا غير مجلس جلسه لذكر الله أو خصلة طاعة بينه وبين الله، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر مجالسنا ومجالسكم بذكره، والإنابة إليه وحبه وشكره. وفي المؤمن وفاء لربه وحب لخالقه، فما ذكِّر بالله إلا انشرح صدره، ولا ذُكر الله عنده إلا اطمأن قلبه، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله يقولون: إذا أراد الإنسان أن يعرف مقدار إيمانه بالله، فلينظر إلى حال قلبه إذا جلس في مجالس ذكر الله، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل دلائل الإيمان في تلك المجالس تفوح من ذكره وشكره. أيها الأحبة في الله! وأطيب ما تطيب به المجالس أن يعرف العبد ربه، فالحديث عن الله حديث يحرِّك القلوب إلى الله، ويشوِّق أرواح المؤمنين إلى حب الله، وما ذكِّر مؤمن بالله إلا تعلق قلبه بالله، ولذلك قلوب المؤمنين موصوفة بالهجرة إلى رب العالمين، فقوالبها في الأرض ولكنها في السماء، فلا تنظر إلى آية من آيات الله إلا ذكرت الله، وكم نثر الله عز وجل في هذا الوجود من الشواهد والدلائل التي تدل على أنه الواحد المعبود! وكم نثر الله عز وجل في هذه الأرض وهذه السماوات من عبرٍ وحجج وآيات شهدت بأنه فاطر الكائنات! الحديث عن الله هو أجلُّ الأحاديث وأطيبها عند الله، الحديث عن الله يطيب لكل مؤمن يؤمن بلقاء الله، وكلما عرف العبد ربه هابه وخافه، وكلما اقترب الإنسان من الله أحبه واشتاق إليه، وكم غرس الله في قلوب المؤمنين من حبه، والتعلق به، تبارك إله الأولين والآخرين. حديثنا اليوم عن خصلة من خصال المؤمنين، وخلة لعباد الله المحسنين، خلة قامت لها السماوات والأرض، وشهدت بها سماوات الله وأرضه، ألا وهي (اليقين بالله)، فكل ما في هذا الكون ليله ونهاره، صباحه ومساؤه، يذكرك فيقول لك بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله. ما أظلم الليل إلا وذكرك بمن أظلمه، ولا أضاء النهار إلا وذكرك بمن أضاءه، ولا جاءت ظلمة الليل تغطي ضياء الشمس، وتلألأت -في ظلامه- كواكبه إلا قالت بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله. يقبل الليل على النهار فلا يختلط الليل بالنهار، ولا يختلط منه عشيٌ بإبكار، تبارك الله الواحد القهار، كل ما في هذا الكون يقودك إلى اليقين، حتى تتعلق بإله الأولين والآخرين، وصدق الله عز وجل إذ يقول في كتابه المبين: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20].

الأنبياء واليقين

الأنبياء واليقين اليقين هو خُلق أنبياء الله وعباده الصالحين، رفع الله به درجاتهم، وكفَّر به خطيئاتهم، وأوجب لهم الحب منه والرضوان، والصفح من لدنه والغفران، إنه اليقين بالله الذي وقف معه نبي الله آدم أبو البشرية جمعاء، وقف عليه الصلاة والسلام في موقف أليم إذ أحس بالذنب في حق ربه الكريم، وقد بدت له سوءته، فطفق هو وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، فجاءه اليقين بالله فنادى ربه وناجاه، فغفر الله ذنبه، وستر عيبه وكفَّر خطيئته، هذا اليقين الذي دخل به يونس بن متى عليه السلام بطن الحوت في ظلمات ثلاث، لا يراه إلا الله، ولا يطلع على خبيئة قلبه من الآلام والحسرات سوى الله، فناداه وناجاه، وتقرب إليه جل في علاه، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فناداه بهذا النداء وكله يقين بأن الله سيرحمه، وناجاه بهذه النجوى وكله يقين بأن الله سيلطف به، فأخرجه الله من الظلمات إلى رحمة فاطر الأرض والسماوات، هذا اليقين الذي وقف به أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد أصابه الضر والبلوى، وعظُمت عليه الشكوى، فنادى ربه جل وعلا، فناداه وناجاه بقلب لا يعرف أحداً سواه، ففرج الله عز وجل كربه، ونفسَّ همه وغمه، ورد عليه ما افتقده. هذا اليقين الذي وقف به الأنبياء والمرسلون في أشد الشدائد، وأعظم المكائد، فكان الله عز وجل بهم رحيماً، وبحالهم عليماً، ففرج عنهم الخطوب، وأزال عنهم الهموم والكروب. وقف موسى عليه الصلاة والسلام البحر أمامه والعدو وراءه ومعه أمة خرجت ذليلة لله، مستجيبة لأمر الله، فوقف أمام البحر فلما قال له بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] قال واليقين معمور به قلبه ومليءٌ به فؤاده: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، كلا؛ لا أُدرك ولا أُهان ومعي الواحد الديان، ففي طرفة عين تنزلت أوامر الله {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] وإذا بتلك الأمواج المتلاطمة العظيمة تنقلب في طرفة عين إلى أرض يابسة، وإذا به على أرض لا يخاف دركاً فيها ولا يخشى، قال الله عز وجل: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:61 - 63]، سبحان الله! بحر عظيم؛ وفي طرفة عين تنقلب أمواجه إلى صفحة لا يجد فيها رذاذ الماء، ويضرب لهذه الأمة المستضعفة الموقنة بالله جل وعلا طريقاً في ذلك البحر لا يخاف دركاً ولا يخشى، كل ذلك باليقين بالله.

اليقين أعظم زاد

اليقين أعظم زاد سار الصالحون على نهج الأنبياء­، واتبع آثارهم عباد الله المهتدون، فما نزلت بهم خطوب، ولا أحاطت بهم كروب، إلا عاذوا بالله علام الغيوب، والمؤمن في كل زمان ومكان يحتاج إلى هذا اليقين بالله، تحتاجه إذا عظمت منك الذنوب، وعظمت منك الإساءة في حق الله، تحتاجه وأنت مع أهلك وولدك، وتحتاجه وأنت مع عدوك، وصديقك، ولذلك كان لزاماً على كل من يحب الله أن لا يمسي ويصبح وفي قلبه غير الله، وإذا أراد الله أن يحبك وأن يصطفيك ويجتبيك ألهمك أن يكون قلبك متعلقاً به جل جلاله، إذا أردت أن يحبك الله كمال المحبة، فلا تمسينّ ولا تصبحنّ وفي قلبك غير الله وحده، تدور أحزانك وتدور أفراحك مع الله، وجميع شُعب قلبك منيبة إليه، فكم في عباد الله من أناس ملئوا قلوبهم بحب الله واليقين به، فكان الله معهم، ومن ذكر الله ذكره الله، ومن ذكره الله فالأمن له كل الأمن. لذلك كان من منازل العبودية ودلائل الإنابة إلى الله أن توقن بالله الذي لا إله إلا هو، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: واليقين من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. فمن قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن الله يمتحنه باليقين. ذكروا عن رجل من أهل العلم أنه كتب كتاباً في تفسير القرآن العظيم، وكان فقيراً، فخرج إلى إخوانه وخلانه من العلماء يستشيرهم، فأشاروا عليه برجل عنده المال والثراء، فقالوا له: اذهب إلى فلان يعطك المال فتنسخه، فاستأجر رحمه الله سفينة، وخرج في البحر حتى إذا مشى وأراد ذلك الثري ليعينه بالمال، فسخَّر الله له رجلاً يمشي على شاطئ البحر، فأمر قائد السفينة أن يركبه معه، فلما ركب الرجل معه سأل العالم وقال له: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: المفسِّر؟ قال: نعم، قال: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إني ذاهب إلى فلان، أريد منه أن يساعدني في نسخ كتابي. فقال له الرجل: بلغني أنك فسَّرت القرآن؟ قال: نعم، قال: سبحان الله! ماذا قلت في تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟ ففسر العالم الآية، وفهم مراد الرجل، فقال لقائد السفينة: الآن ترجع بي إلى بيتي، فرجع رحمه الله إلى بيته وكله يقين بالله عز وجل أن الله سيسد فقره، وأن الله سييسر أمره، فما مضت إلا ثلاثة أيام وإذا برجل يقرع الباب، فلما فتح الباب، قال له: إني رسول فلان إليك، بلغه أن عندك تفسيراً للقرآن يحب أن يراه، فأعطاه ذلك الكتاب الذي خرج من أجل أن يعرضه عليه، فرجع الرسول بالكتاب، فنظر فيه ذلك الثري فأعجبه، فأمر أن يوضع في كفة وأن يصب الذهب في كفة وأن يُبعث بذلك إلى الإمام. ما وثق أحدٌ بالله فخيبه الله، ولا أيقن عبد بالله جل جلاله إلا كان الله له، فكم من أمور نزلت بالإنسان وخطوب أحاطت به ولم يجد غير الله مجيباً ولا مفرجاً. فاليقين بالله هو حلاوة الإيمان، وألذُّ ما تكون الساعة إذا عُمرت القلوب باليقين بالله عز وجل لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يعمرون القلوب باليقين. وقد قرر العلماء رحمهم الله: أن الله يبتلي الإنسان باليقين في موضعين: أحدهما: وجود الحاجة، وثانيهما: وجود الغنى، ولذلك قال بعض العلماء: إذا أردت اليقين فكن أفقر الخلق إلى الله، مع أن الله أغنى ما يكون عنك. فاجعل فقرك إلى الله، فإنه يسد فقرك ويسد حاجتك وعوزك، ولذلك ما عُمر قلب إنسان في أية مصيبة أو أية نازلة بالله إلا كفاه الله، ترى المؤمن يفقد سمعه ويفقد بصره، ويفقد قدمه، ويفقد ماله، وتقول له: كيف أنت؟ يقول: الحمد لله في نعمة من الله، من اليقين الذي عُمر في تلك القلوب فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم باليقين به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل اليقين.

التوبة واليقين

التوبة واليقين أحبتي في الله! أول موقف من مواقف اليقين: موقف التوبة الصادقة، ولذلك ما من إنسان كثرت ذنوبه وأراد أن ينيب إلى الله إلا امتحنه الله باليقين، وكلما عظمت ذنوب الإنسان ينبغي أن يقف بيقين أعظم منها بالله الرحمن. ولذلك ذكروا عن رجل أنه كان كثير الذنوب، كثير الخطايا والعيوب، فجاءه رجل يذكره بالله، وكان هذا الرجل كثير النصح له، فلما أكثر عليه نصحه ذات يوم قال له: إن الله لا يغفر لك، فاستفاق من غفلته وانتبه من منامه، وقال له وهو على يقين بالله: سأريك كيف يغفر الله لي ذنبي، فخرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة تائباً إلى الله فطاف بالبيت فخرَّ ميتاً بين الركن والمقام. فما أيقن الإنسان بالله عز وجل وخيبه الله سبحانه، ولو أنه جاء إلى الله بذنوبٍ بلغت عنان السماء وقلبه عامر باليقين بالله ما خيبه الله، قتل رجل مائة نفس، آخرها عابد من العبّاد، فلما قتله جاء إلى رجل من أعلم أهل الأرض في زمانه، وقال له: هل لي من توبة، فإني قتلت مائة نفس؟ فقال له ذلك العالم: وما الذي يمنعك من التوبة ثم أمره أن يخرج إلى قوم صالحين، وأن يهاجر إلى الله رب العالمين، فخرج من قرية السوء إلى تلك القرية الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه قد قتل مائة نفس فأرسل الله إليهم ملكاً فأمرهم أن قيسوا ما بين القريتين -عزت عند الله خطواته إليه في آخر حياته، تائباً إلى الله عز وجل، ونظر الله إلى قلبه وهو معمور باليقين- فأوحى الله إلى قرية الصالحين أن تقاربي، وإلى قرية السوء أن تباعدي. وإن دلّ هذا فإنما يدل على أنه ما أيقن أحد بالله فخيبه الله. فخير ما يوصى به الإنسان من منازل اليقين أن يقوي يقينه بالتوبة إلى الله، وما أكثر عبدٌ التوبة والإنابة إلى الله إلا تحاتت ذنوبه فازداد إيمانه وقوي يقينه.

اليقين عند المصيبة

اليقين عند المصيبة الحالة الثانية التي يظهر فيها يقين الإنسان: إذا نزلت به المصيبة، ولذلك يصاب المؤمن في نفسه، ويصاب في أهله، ويصاب في ولده، وتأتيك تلك الساعة، يأتيك ذاك الخبر المزعج المؤلم على قلبك وفؤادك، فتُخبر بابن فقدته، أو ابنة أو أب أو أم أو صديق عزيز عليك وفيٌّ لديك، فتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وقلبك كله يقين أن الخلف والعوض من الله رب العالمين، فسرعان ما يكون من الله لطفه، وسرعان ما يكون من الله عطفه. فما ألذ اليقين، إذا نزلت المصائب بعباد الله المؤمنين، والله! ما أُصيب إنسان في نفسه أو في أهله وولده أو في ماله أو في أي شيءٍ عزيز عليه واعتقد في قلبه أن الله يعوضه إلا عوضه الله عز وجل، فيجب ألا يكون في قلب الإنسان مثقال ذرة من سوء الظن بالله، ولذلك الشيطان أحرص ما يكون في مثل هذه المواقف، وتجد المؤمن إذا أصابته المصيبة يأتيه الشيطان من كل حدب وصوب لكي يخيب ظنه بالله، يقول له: لو كنت مؤمناً ما ابتلاك الله بفقد ولدك، ولو كنت مؤمناً ما ابتلاك الله بفقد ابنتك، ولو كنت مؤمناً! ما ابتلاك الله بفقد مالك، ولو كنت ولو كنت ولكن ما أحسن عبد ظنه بالله فخيبه الله أبداً، إياك أن يدخل إلى قلبك مثقال ذرة من سوء الظن بالله عز وجل، فلعلك عندما تفقد المال تخرج منك كلمة تثني بها على الله فيحبك الله حباً لا يسخط عليك بعده، وقد يرفعك الله بهذه الكلمة إلى درجة لا تبلغها بكثير صلاة ولا صيام. ذكر رجل أنه في ذات يوم من الأيام دخل على أبيه وهو في هم وغم، فلما نظر إليه سأله، فإذا به قد أصابه دين، يقول هذا الرجل -وكان من عباد الله الصالحين، ومن الشباب الأخيار-: فكان دين والدي بمقدار عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفاً، وكان مالي عشرون ألف تعبت عليها حياتي وأنا أجمع هذا المال؛ لكي أبني مستقبلي، فلما نظرت إلى ما أصاب أبي ذكرت وصية الله بالوالدين، وذكرت وصية الله بالإحسان إليهما، فقلت في نفسي: لو أنني أعطيته هذا المال الذي أملكه، فجاءني الشيطان وقال لي: تعبك ومالك ومستقبلك يضيع في هذه اللحظة، يقول: فأصبحت في صراع هل أعطيه أو لا أعطيه! فقررت أن أعطيه، قال: فذهبت فأخذت المال وكلي يقين بأن الله سيعوضني عني، فوضعت الخمسة عشر ألفاً بين يديه، وأنا على يقين بأن الله لا يخيبني، يقول: فلما وضعتها بين يديه فاضت عيناه بالدمع وقال: أسأل الله العظيم أن يفتح لك أبواب فضله، يقول: فقمت من عنده، وما مضت إلا أيام قليلة فدُعيت إلى مناسبة فيها رجل من الأثرياء، وكان يبحث عن رجل يقوم على أمواله، فقال الرجل الذي استضافه: لن تجد أصلح من هذا الرجل الذي أمامك، يقول: فأخذني وكيلاً على ماله، وكانت أول صفقة لي من ذلك المال في أول بيعة مائتا ألف ريال، فرحمة الله عز وجل ولم يخيبه سبحانه. ولربما أن الإنسان قد يصاب بفقد البصر، فيسترجع ويحمد الله عز وجل، فيعوضه الله إيماناً في قلبه، ويقيناً بربه، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واشتكت إليه ما تجده من فقد عقلها والمس الذي أصيبت به في نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك، قالت: أصبر ولي الجنة) فكانت امرأة مبشرة بالجنة وهي تمشي على وجه الأرض، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لأصحابه: (هل أريكم امرأة من أهل الجنة؟ انظروا إلى هذه المرأة السوداء) رضي الله عنها وأرضاها. ما أيقن أحد بالله عز وجل فخيبه الله سبحانه وتعالى، فاليقين بالله هو حلاوة الإيمان.

دلائل اليقين

دلائل اليقين

جعل الإنسان الآخرة نصب عينيه

جعل الإنسان الآخرة نصب عينيه الدليل الثاني على دلائل اليقين: فهو أن يجعل الإنسان الآخرة نصب عينيه. فكما أن اليقين يكون بالفرج، يكون كذلك بيقين الإنسان أنه إلى الله صائر، وأنه منقلب بين الجنادل في الحفائر، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحركون القلوب باليقين بالآخرة، ولقد ذكر الله عز وجل في كتابه أن من أيقن بالآخرة صحت عبادته وكملت زهادته، فقال جل ذكره: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46].

عدم صرف الحب والخوف لغير الله

عدم صرف الحب والخوف لغير الله إن اليقين بالله له دلائل، وهذه الدلائل تجدها في نفسك، وتجدها في قلبك، ومن أعظمها: أنك لا تمسي ولا وتصبح وفي قلبك أحد أحب إليك من الله، فإذا أمسيت وأصبحت وأخوف ما يكون في قلبك هو الله، وأحب ما يكون في قلبك هو الله فاعلم أن الله قد أعطاك اليقين، فلا تمسي ولا تصبح وفي قلبك حب لغير الله أكثر من حبك لله، وتمسي وتصبح وليس في قلبك خوف من أحد إلا الله جل وعلا. لذلك ما انصرفت شعبة من شعب المحبة والخوف إلى أحد غير الله إلا نقص يقين الإنسان، ولذلك قد يصيبك الله عز وجل ببلية لا قدَّر الله، فتصاب في نفسك، فتضيق عليك الأرض بما رحبت، حتى إذا بلغ بك الأمر غايته فاعلم أن اليقين عند الضيق، ولذلك كان يقول بعض العلماء: (كلما اشتد البلاء كان اليقين أكمل في الإنسان، وكان الفرج قريباً). قد ذكر الله في ذلك قصتين، القصة الأولى: الثلاثة الذين خلفوا، فقال سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118] وهذا من بلاغة القرآن: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118]؛ لأن الإنسان قد تكون نفسه ضيقة ولكن الأرض واسعة عليه، وقد تكون الأرض ضيقة عليه ولكن نفسه واسعة، فقد تجد أعداءه كثيرين، أو تجد البلايا تحيط به في أمواله وأهله وأولاده، ولكن نفسه منشرحة وقلبه متسع ويقينه بالله عظيم، فهذا ضيق الخارج، ولكنه منشرح الداخل، وقد يكون ضيقاً في داخله موسّعاً في خارجه، فتجده من أغنى الناس ولكن في داخل قلبه من الأمراض النفسية والضيق والكبت والهم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية، إذاً الضيق إما من الخارج وإما من الداخل، فالله أشار إلى هؤلاء الثلاثة جاءهم الضيق من الناحيتين: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118] لكن: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فجاءهم الفرج. فكلما اشتدت عليك المصائب وأحاطت بك الديون والغموم والهموم فاعلم أن الله قريب منك، ولذلك انظر إلى الكفار عبدة الأصنام يعبدون غير الله عز وجل ويستغيثون ويستجيرون بغيره، فإذا أصابهم الضر قالوا: لا إله إلا الله، فكشف عنهم وفرَّج الله كربهم. فكلما قوي يقين الإنسان واشتدت عليه المصائب والمصاعب والمتاعب فليعلم أن الفرج قريب فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم باليقين به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل اليقين الذين أوجب لهم درجات النعيم.

التعلق بغير الله ينافي اليقين

التعلق بغير الله ينافي اليقين أيها الأحبة في الله! الكلمة الأخيرة عن اليقين كلمة تقطع قلوب المؤمنين، كلمة تدل على بعدنا عن الله وطول غربتنا عن داعي الله وجهلنا بعظمة الله عز وجل، فكم من أناس بيننا إذا نزلت بهم الشدائد وأحاطت بهم الهموم والغموم تعلقوا بغير الله والعياذ بالله! وكم من أناس بيننا يقولون: لا إله إلا الله؛ ولكن يعظمون الأسباب ويحبونها أشد من حبهم لله، فكم من مريض أصابه المرض ظن أن طبيبه يداويه وأنه يعافيه ويشفيه، فنقص الإيمان من قلبه على قدر ما فات من يقينه، وكم من مديونٍ ظن أن عبداً يفك دينه ويقضي حاجته فخيب الله ظنه وقطع رجاءه، فأصبح فقيراً صفر اليدين من اليقين به جل جلاله. لذلك لا يليق بالإنسان أن يعلق رجاءه بغير الله، والله تبارك وتعالى إذا امتحن الإنسان باليقين فتعلق بغير الله، فإن الله تبارك وتعالى يمكر به، ومن مواطن المكر بالإنسان أن يصرف قلبه لغير الله عز وجل، ولذلك تجد بعض من يستعين بالسحرة وبالمشعوذين -والعياذ بالله- يمهلهم الله جل جلاله، ويستدرجهم بتفريج الخطوب والكروب حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، والله ثم إنه -والله- إذا أراد الله بك الضر فلن ينجيك منه أحدٌ سواه، ولذلك استحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل مؤمن إذا وضع خده ليسلم نفسه للموتة الصغرى أن يقول الدعاء المأثور: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك). فلا يظن الإنسان أن أحداً ينجيه من الله عز وجل، ولذلك أول ما يفكر فيه الإنسان إذا نزلت به المصيبة أو حلّت به بلية أن يتجه إلى الله وحده لا شريك له. وقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع تلك المرأة الضعيفة، مع صبي ضعيف في وادٍ، -أمره الله بالهجرة إليه- غير ذي زرع، لا أنيس به ولا جليس، فكان صلوات الله وسلامه عليه مستجيباً لأمر ربه مسلَّماً لخالقه كما وصفه الله في كتابه، فجاءته تلك المرأة الضعيفة وتعلّقت به بعد أن حطَّ رحالها وتركها وصبيها، فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فأعرض عنها عليه الصلاة والسلام كأنه يقول لها: أنت تعلمين لمن أدعك فمضى إلى الوادي، فجرت وراءه وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فنظر إليها ثم أعرض عنها، ثم في المرة الثالثة، تعلقت به وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فقال: لله، قالت: إذاً لا يخيبنا الله، فوقع ما وقع لها ولصبيها فاستغاثت بالله عز وجل واستجارت في شربة ماء لها ولطفلها، ففجّر الله عز وجل الماء من تحت قدم صبيها. فمن أيقن بالله عز وجل في أي شدة أو أي خطب فإن الله لا يضيعه. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه وصفاته أن يرزقنا وإياكم حلاوة اليقين، وأن يرزقنا وإياكم كمال الإيمان بالله رب العالمين. اللهم إنا نسألك يقيناً لا يخالطه شك، ونسألك إيماناً لا يخالطه شرك، ونسألك الصدق في حبك والشوق إلى لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

عصاة الموحدين

عصاة الموحدين Q عندما أقوم بدعوة بعض الشباب إلى الله والعودة إلى الله، يقول محتجاً بالقدر: أنا من عصاة الموحدين، فماذا نرد على هؤلاء، جزاكم الله خيراً؟ A أقول كلمة واحدة: هل تضمن أن تموت على التوحيد؟ إذا كان حرم الله العبد التوفيق باستجابة داعيه على معصية من المعاصي، فلا يُؤمن -والعياذ بالله- أن يأتي يوم من الأيام وقد سلب الإيمان من قلبه؛ لأن الشيطان يستدرجه، فمعصية تلو معصية حتى يسلب -والعياذ بالله الإيمان- فلا يأمن مكر الله، ولذلك ينبغي للإنسان ألا يقول هذه الكلمة، ولكن يقول: أنا المسيء وأنا المذنب، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فلا ينبغي للإنسان أن يحتج بالقدر، ولا يحتج بعصاة الموحدين. وأما عصاة الموحدين، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن منهم من يتغمده الله برحمته ويدخله الجنة دون سبق عذاب ولا حساب، كما في حديث ابن عمر في الصحيحين: (يوقفه فيقر بذنوبه، فيقول: يا عبدي! سترتها عليك في الدنيا وهأنا أسترها عليك اليوم). نسأل الله أن يسترنا وإياكم بستره. وأما القسم الثاني منهم: فيشاء الله بعدله أن يدخلهم النار، واللحظة الواحدة من النار تطيش معها العقول، فإن (أهون أهل النار عذاباً، من وضع في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، يظن أنه أشد الناس عذاباً في النار) فالشاهد: أنهم يتقلبون في عذاب النار على قدر ما عصوا الله عز وجل، وقد تكون زنية واحدة تردي الإنسان في عذاب الله عز وجل بما ينسى معه نعيم الدنيا وما كان فيها من سرور، ولكن نسأل الله أن يلطف بنا وبكم وأن يعصمنا وإياكم بعصمته. وأما الأمر الذي ينبغي أن ننبه عليه: أنه لا ينبغي لأحد أن يحتج بالقدر ولا بالشفاعة، فيقول: أنا من عصاة الموحدين، فإن ذلك لا يأمن على صاحبه أن يستدرجه الله فيختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله! والله تعالى أعلم.

بين الجد والمزاح

بين الجد والمزاح Q لي صديق كثير المزح كثير الضحك قليل النصيحة لي، وإذا ذكرته بالله جل وعلا فهو يكثر من المزح ولا يتقبل مني ذلك، فكيف السبيل إلى الخلاص من هذا الداء العضال؟ A أما المزاح فهو يكون بقدر، والله عز وجل جعل شريعتنا شريعة رحمة، لا شريعة عنت ولا حرج، فإذا أراد الإنسان أن يمزح فليمزح بقدر، ولذلك شبه العلماء المزح بالملح الذي تضعه في الطعام، فإذا كثر الملح فسد الطعام، وإذا كان طعاماً بدون ملح لم يكن للطعام طعم، الحياة هكذا، لابد من وجود المزح لكن بقدر، وقد صوّر الشاعر ذلك بقوله: أفد طبعك المكدود بالجد راحةً ويَجِمَّ وعلله بشيءٍ من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح فينبغي علينا أن نعلم أن المزح ينبغي أن يكون بقدر، وكان بعض العلماء يقولون: إن من دلائل صلاح الإنسان وخيريته وجود الطرفة فيه؛ لأن أهل الصلاح فيهم تواضع، والمزح يدل على نوع من التواضع، إذا كان بقدر، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (والله! لئن وليتموها علياً ليحملنَّكم على السنة، وفيه دعابة). وهذه الدعابة موجودة في الأخيار، ومن قرأ تراجم العلماء وسير الصلحاء وجد هذا موجوداً فيهم؛ ولكنهم كانوا إذا جاءت الطرفة فتحوا لها قلوبهم ولكن بقدر، وإذا جاءت الشدة وجاءت المحنة وجاء الجد شمَّروا عن ساعد الجد. فاقبل من أخيك أن يمزح، ولكن إذا جاء وقد الجد ووقت ذكر الله عز وجل فلا تقبل أن يسخر ويمزح، ولذلك كان الإمام محمد بن سيرين يمازح أصحابه؛ وكان إماماً من أئمة التابعين، كان يقال عنه سيد من سادات التابعين، وأوصى أنس بن مالك رضي الله عنه الصحابي الجليل أن يغسله محمد بن سيرين، هذا الإمام الجليل، يقول أحد جيرانه: كان إذا جن عليه الليل سُمع بكاؤه من القرآن من بيته، وإذا أصبحنا سمعنا الضحك من الغرف. فكان يمزح مع أصحابه حتى يسمع ضحكه، رحمة الله عليه. لأن أهل الصلاح دائماً قلوبهم سليمة، لكن من كان عنده الكبر والغرور فلا يمزح، وتجد الذي عنده نوع من الترفع على الناس ما عنده طرفة، وقلَّ أن تراه يبتسم، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكون وسطاً، فلا إفراط ولا تفريط. وأما ما ذكرته من كونه يمزح أثناء الجد، فهذا يدل على موت قلبه والعياذ بالله! فإذا وجدت الرجل تذكره بالله فيتبسم ويضحك ولا يقيم لآيات الله وزناً، فمثل هذا حري به أن يبكي على قلبه -نسأل الله أن يعافينا وإياكم من موت القلوب- فقد كان السلف الصالح رحمهم الله من حياة قلوبهم إذا قيل للواحد منهم: اتق الله! يبكي، فكيف بهذا يضحك أو يمزح؟!! ولذلك إياك أن تجلس مجلس موعظة وتسمع الموعظة وتحدثك نفسك بأي طرفة؛ لأن ذلك فيه استخفاف بما عظَّم الله، ولذلك كانوا يقولون: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أجبن عند اللقاء، ولا أكثر عند الطمع، فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) وفي قراءة واحدة وهي قراءة حفص: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:66]، ولكن في بقية القراءات: (إِن يُعْفَ) حتى العفو يعني جعله بمثابة الاستبعاد لهم (إِن يُعْفَ عن طائفة منكم نعذب طائفة) ولذلك قال الناظم: لـ عاصم قراءة لغيرها مخالفة إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة فالمقصود: أنه لا ينبغي للإنسان إذا حضر وقت الجد والتذكير بالله أن يمزح، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس مع أصحابه بعد صلاة الفجر فيتحدثون بشئون الجاهلية فيتبسم صلوات الله وسلامه عليه، وجلس ذات يوم فذكر الجنة، وقصَّ عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري: (أن رجلاً يشتاق إلى الزرع في الجنة فيقول: أريد أن أزرع، وإذا به في لحظة واحدة قد جمع له الحب، وفي لحظة واحدة قد اخضر، وفي لحظة واحدة قد جنى ثمره، فإذا به قائم بين يديه -هذا غرس الجنة- فلما أبى؛ لأنه يحب الزرع فقال رجل من قريش: أما هذا فلن يكون إلا أنصارياً -لأن قريشاً ليس عندهم زراعة- فضحك صلوات الله وسلامه عليه) قال: هذا الذي يحب الزرع في الجنة لن يكون إلا واحداً من الأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم. المقصود: أنه ينبغي للإنسان أن يعلل نفسه بالطرفة، والقلوب لها إقبال وإدبار، وإذا استدامت الموعظة فقد تمل، ولذلك قال بعض الصحابة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة؛ مخافة السآمة والملل). والله تعالى أعلم.

ثمرات الحب في الله

ثمرات الحب في الله Q ما هي الثمرات التي يجنيها العبد عندما يحب أخاه في الله سبحانه وتعالى؟ A أما الثمرات فاعلم حفظك الله أنك إذا وجدت قلبك يتجه إلى الصالحين ويرتاح للصالحين فأول ثمرة: أن هذا دليل على الإيمان؛ لأنه لا يحب المؤمن إلا مؤمنٌ، ولا يحب الصالحين إلا صالح، ولا يطمع في مجالس الصالحين إلا موفق، فاحمد نعمة الله عز وجل على ذلك، هذا أول دليل على الإيمان، ولذلك كان من كمال الإيمان، الحب في الله والبغض في الله وذاق حلاوة الإيمان من أحب في الله ووالى في الله وعادى في الله. أما الأمر الثاني: إذا أحببت في الله فمن ثمرات المحبة أن تجني من أخيك صلاحه، فإن كان أفضل منك اقتديت به، وإن كان مثلك نافسته، وإن كان دونك دعوته، هذه من ثمرات الحب في الله تكون قريباً من إخوانك، ولذلك تجد الشباب الصالحين يحرصون على هذه الثلاث الأحوال: إن وجدوا من هو فوقهم تمثلوا به، وإن وجدوا من هو مثلهم نافسوه، وإن وجدوا من هو دونهم دعوه إلى الزيادة فتجدهم أقرب ما يكونون إلى طاعة الله عز وجل، وما فقدنا لذة الأخوة في الله إلا حينما أصبحت مجالسنا معطلة من ذكر الله، وأصبحنا نحب في الله ولا يتشبه بعضنا ببعض في الصلاح وفي العفة وفي الخير وفي الاستقامة، إذا قلت لأحد: إني أحبك في الله وكان أفضل منك حاول أن تكون مثله، وأن تتأسى به، سواءً في كلامه أو في أفعاله، أو غير ذلك من الخصال التي وفقه الله إليها من الصلاح. الأمر الثاني: ما تجنيه في آخرتك: فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه المحبة من أعمال القلوب، وأنها بينك وبين الله عز وجل فإذا قدمت عليه يوم القيامة، أظلك بها يوم لا ظل إلا ظله ولذلك فاعلم أن أمور الدنيا الخفية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل يأبى الله يوم القيامة إلا أن يظهرها أمام العيان: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10]، فانكشف ما في قلبك أنك تحب أخاك في الله فأبى الله إلا أن يظهرك أمام الناس؛ لكي تظل في ظله يوم لا ظل إلا ظله. ولذلك أوصي إخواني بالحب في الله، وهذه المحبة ينبغي علينا أن نؤدي حقوقها، فلا تغتب أحداً، ومن الغيبة التي بلينا بها الآن قول البعض: شباب الصحوة فيهم شباب الصحوة يفعلون شباب الصحوة يقولون شباب الصحوة كذا وكذا، يا أخي هؤلاء إخوانك في الله! هؤلاء أقوام يحبون الله ورسوله! واحمد الله عز وجل أن الله متعك بزمان ترى فيه الصلاح في الشباب، فينبغي علينا أن نحفظ حقوق الأخوة في الله، وأننا مهما سمعنا من بعضنا من الأخطاء والنقائص ينبغي أن يكمِّل بعضنا نقص بعض، وأن يشد بعضنا من أزر بعض، وأن يكون فينا الحب الذي يرضي الله ورسوله، وأن نكون إخوة في الله كما أمر الله، ولذلك تجد الأخوة في الله على مراتب من أعلاها: من كان يسد من أخيه الخلة، ويستر له العورة، ويحرص على جمع القلوب وائتلافها، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. ولذلك أوصي بتحقيق الأخوة التي ترضي الله، فإنها خالدة باقية إلى لقاء الله، كما أخبر الله بقوله: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، ولذلك أبى الله إلا أن يبقي أخوة الإسلام حتى بعد الوفاة، (وإذا مات فاتبعه) فجعل من سنن المرسلين تشييع الموتى وتشييع الجنائز، يُوضع الإنسان جثة بين إخوانه كلهم يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، كل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل الأخوة في الله، كلهم يشفعون ويدعون، حتى إذا قام الأربعون غفر الله عز وجل ذنبه، كما ثبت في الحديث الصحيح، ولا يقف الأمر عند هذا، ويذهبون معه حتى يوضع في القبر، ويأبون أن ينصرفوا من القبر حتى يقول قائلهم: اللهم ثبته عند السؤال؛ لأن أشد ما يكون في القبر عند أول لحظة وهي لحظة السؤال، فكان هذا من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (استغفروا لأخيكم)، لأخيكم!! انظروا كيف! (واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)، كأنك أنت الذي تعيش هذه الحالة وتعاني هذا الكرب، وجعل الله لك فيها من الأجور قيراطين وغير ذلك من الفضل، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم حب المؤمنين. وأختم هذه الكلمة بمناسبة المحبة في الله بواجب الائتلاف على طاعة الله عز وجل، وأنه ينبغي على كل واحد منا إذا قام من هذا المجلس حق عليه أن يحب إخوانه في الله، وأن نذكر هذه العروة التي جمعت بيننا، وأن لا تفرق بيننا الأقاويل ولا التراهات ولا الشائعات، وينبغي أن تُقبل قلوبنا على محبة فاطر الأرض والسماوات. والله إنه لمن نعم الله أن تحدث الفتن بين بعض الأخيار؛ ولكي يظهر الله المعادن البريئة، لكي يظهر الله بعض القلوب البريئة التي تحب لإخوانها ما تحب لنفسها، وتتألم وتتأوه لأي شيء يحدث لهم. فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم صدق المحبة فيه، وأن يغرس في قلوبنا وقلوبكم حب المؤمنين والائتلاف على طاعة رب العالمين. والله تعالى أعلم.

علاج العجب والغرور

علاج العجب والغرور Q ما هو السبيل إلى طرد خاطر العجب من القلب؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن العجب داء قاتل ما بُلي به إنسان إلا هان عند الله عز وجل، ولذلك ذكر الله عز وجل في كتابه أنه أهلك من ظلم، وأخبر أن سبب هلاكهم هو الغرور، فلذلك ينبغي للإنسان ألا يغتر، فإذا أنعم الله عليك بالمال فاكسر نفسك للكبير المتعال، وإذا أنعم الله عليك بالصحة فتذكر منّة الله عز وجل عليك بها، وأثن على الله عز وجل بما هو أهله، ولذلك كان أنبياء الله ورسله أعرف الناس بالله، وكان الواحد منهم إذا أعطاه الله نعمة خاف ألا يقوم بشكرها، فإذا كان عندك ذكاء أو فهم أو مال أو غنى أو جاه أو غير ذلك فلا تغتر، فكم من إنسان اغتر بماله فأتلفه الله بذلك المال، وكم من إنسان اغتر بصحته فمكر الله عز وجل به وجعل عاقبته من صحته التي اغتر بها وبالاً عظيماً، ألا ترى الرجل الشجاع يغتر بشجاعته حتى يسلط الله عليه من هو أقوى منه فيعاديه ويظن أن شجاعته تنقذه فتهلكه تلك الشجاعة، إياك أن تغتر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الأمة إيماناً يظهر لله عز وجل الفاقة والحاجة، وكان يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فلا تغتر بذكاء ولا بفهم ولا بحول ولا بقوة. ولذلك ذكروا عن الإمام الماوردي رحمه الله -وهو إمام من أئمة العلم- له كتاب ثلاثون مجلداً في خلاف العلماء في الفقه دخل يوماً من الأيام المسجد وحدثته نفسه فقال: هل هنا مسألة في الفقه لا أعرفها؟ فاغتر بنفسه، فدخل إلى الدرس، فلما جلس بين طلابه، أرسل الله إليه امرأة معها صبية قد قاربت البلوغ فجاءت ووقفت على ذلك العالم الجليل فقالت له: يا شيخ! هنا مسألة في الحيض، فسألته عن مسألة من حيض هذه الصبية يقول: وإذا بي لا أحسن من الفقه شيئاً، فخذله الله، وحرمه فضله؛ لأنه اعتقد أن الفضل له، وظن أن ذكاءه وفهمه هو الذي ينجيه أو يعوِّل عليه، فأرسل الله إليه هذه المسألة البسيطة من مسائل الطهارة، يقول: فلم أدر لها جواباً، فأصبح الطلاب لما رأوا الشيخ أصابه الدهش لم يستطع أن يجيب، مندهشين وما استطاع أحدهم أن يقول: يا أمة الله! جواب المسألة كذا وكذا، فلما يئست المرأة من الجواب انصرفت، فلقت طالباً من طلابه المبتدئين، كان في بداية دخوله للمسجد، قالت له: أصلحك الله صبية أصابها من الحيض كذا وكذا، فما الحكم؟ قال: الحكم كذا وكذا، قالت له: أنت خير من هذا الذي جلس. فالإنسان إذا اتكل على حوله وقوته وذكائه خذله الله عز وجل وأذكر عن بعض الصالحين أنه قال: دخلت إلى اختبار إحدى المواد وكنت أظن أنه لا أفهم مني، وليس هناك مسألة في هذه المادة إلا وسأجيب عليها، يقول: فلما وضعت الورقة بين يدي وإذا بي لا أحسن من المادة حرفاً واحداً، يقول: فأصابني من الرعب ما الله به عليم، يقول: والله! إني في شدة البرد أتفصد عرقاً مما أصابني، يقول: فلما وجدت ما وجدت علمت أنني أُتيت من قبل نفسي، فاستغفرت الله وتبت إليه، وفي لحظة واحدة كأن لم يكن بي بأس، فشرح الله صدري وأجبت في خلال نصف ساعة عن الأجوبة كلها. فالإنسان إذا اغتر بنفسه فليعلم أن الله سيمتحنه، ولذلك انظر! ما من غني يغتر بماله إلا سلّط الله عليه مصيبة في المال وما من عالم يغتر بذكائه إلا سلّط الله عليه حرمان التوفيق في علمه، وما من مهتدٍ يغتر بهدايته إلا سلب الخشوع وسلب الإنابة إلى الله، فالمهم أنه لابد أن يبتلى؛ لأنه يظن أن الفضل له. ولذلك كان السلف رحمهم الله يخافون من الغرور، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يدخل ويحمل الحطب على ظهره أمام الناس في سوق الكوفة وهو أمير الكوفة رضي الله عنه وأرضاه؛ لكي يكسر نفسه، ولما أصاب الغرور عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- حمل الحطب على ظهره؛ لكي يهين نفسه. فلا ينبغي للإنسان أن يغتر بحوله وقوته، ولكن ينبغي عليه أن يتعلق بحول الله وقوته، ولذلك من الدعاء المأثور ومن ذكر الله الذي هو كنز من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله). والوقفة الأخيرة مع الغرور، بأي شيء تغتر والأمور بعواقبها؟! هل أحد كشف لك عن الغيب فتعلم أن هذا الصلاح عاقبته حسن الخاتمة؟!! بل تأمل ذلك الذي كفر نعمة الله عز وجل واغتر بعلمه، فسلبه الله سبحانه وتعالى نعمه فانسلخ من آياته وكان من الغاوين والعياذ بالله! وكذلك أمية بن أبي الصلت لما كان آية في الفهم والعلم والذكاء، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنه حسده واغتر بنفسه فكان من الهالكين والعياذ بالله! ما الذي يدعو الإنسان إلى الغرور وهو لا يضمن العاقبة؟! الأمر الثاني: إذا قمت في الصلاة وأعجبك القيام أو أعجبك من نفسك الصيام، فتذكر أن العبرة بالقبول، فهل تعلم أن الله قبل طاعتك؟!! وهل تعلم أن الله قبل عبادتك؟!! فهذا أمر من الأهمية بمكان: علاج الغرور أن تنظر إلى العاقبة. أيضاً مما يكسر الغرور في النفس: إذا أعطاك الله نعمة المال أوصيك أن تزور الفقراء. وإذا أعطاك الله نعمة الصحة أوصيك أن تزور المرضى، تزور المستشفيات ولو يوماً واحداً، حتى ترى المريض الذي يتأوه من قدمه فتقول: الحمد لله الذي عافاني في قدمي، والذي يتأوه من سمعه وبصره فتعلم أن الصحة لا تغني عنك من الله شيئاً، وتجد الرجل من أشد ما يكون عافية وقوة وفي طرفة عين يبتليه الله بالبلاء فيصير من أضعف عباد الله عز وجل، وتجده ذليلاً حتى في كلامه إذا تكلم. فلذلك ينبغي للإنسان أن يسلم الأمر لله، وأن يعتقد صدق الاعتقاد أنه لا حول ولا قوة إلا بالله. والله تعالى أعلم.

معنى حديث: (أنا عند ظن عبدي بي)

معنى حديث: (أنا عند ظن عبدي بي) Q يذنب البعض ذنوباً كثيرة فإذا نُصح استشهد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي) فكيف يكون الرد على هؤلاء، جزاكم الله خيراً؟ A لو أحسن الظن بالله ما عصى الله عز وجل، وقوله عليه الصلاة والسلام: يقول الله تعالى: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، هذا في سكرات الموت، فمن حضرته سكرات الموت وتخبطته الشياطين عند الموت فأحسن ظنه بالله كان له من الله فوق ما يرجو ويأمل. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل من عباد الله الصالحين، ذكره وسمَّاه وقد نسيت اسمه الآن، يقول: كان رجلاً كثير الخوف من الله عز وجل، حتى يقولون: إنه لما مرض مرض الموت أُخذ -أكرمكم الله- بوله إلى الأطباء، وكان الأطباء يعرفون بعض الأمراض بألوان البول، فلما رآه الطبيب قال: هذا المريض قطّع الخوف كبده، أو مزق الخوف كبده، وهذا من كثرة خوفه من الله عز وجل، فتوفي هذا الرجل الصالح، يقول فرؤي بعد الممات، كما حكى شيخ الإسلام ذلك، رؤي بعد مماته، فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، فقال: ما هذا يا عبدي ألم يبلغك أني أنا الغفور الرحيم؟!! أي: لماذا تخافني هذا الخوف وقد بلغك أني أنا الغفور الرحيم؟ وذكر أيضاً بعض العلماء: عن رجل من أهل العلم أنه توفي، وكان هذا العالم يتساهل في بعض الأمور، وكانت عنده زلات بينه وبين الله عز وجل، يقول: فكان يحسن الظن بالله عز وجل، فلما حضره الموت، يقول: أحسن الظن بالله تبارك وتعالى وكان عند موته يكثر من الاستغفار والتوبة ويسترحم ويستعطف الله عز وجل عليه، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يُتوفى، فرؤي بعد مماته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال: يا عبدي ألم تفعل كذا وكذا؟ قال: يا رب! ما هكذا بلغنا عنك، -هو عالم من أهل العلم- قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني عنك أن رحمتك تسبق عذابك، قال: قد غفرت لك ذنبك. فحسن الظن بالله عز وجل من الأمور المطلوبة، لكن ينبغي أن يقرن حسن الظن بالخوف، والله جعل أهل النجاة على جناحين، إذا كُسر أحدهما فإن الإنسان على عطب وهلاك، الخوف والرجاء، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وما ذكر الله الجنة إلا أتبعها بالنار، وما ذكر النار إلا أتبعها بالجنة، حتى نكون على جناحي السلامة، ولذلك الخوف والرجاء كحافتي الطريق، إن بالغ في الخوف رده إلى الرجاء، وإن بالغ في الرجاء رده إلى الخوف، فمن غلب رجاؤه فإنه على هلاك، كمن يفعل المعاصي ويقول: إن الله غفور رحيم، فهذا يُخشى عليه أن يمكر الله به، وأن يستدرجه من حيث لا يحتسب، ولكن يقول: إن الله غفور رحيم، اللهم إني ظلمت نفسي، ويبكي ويندم ويظهر لله عز وجل الخوف، فإن هذا من كمال الأدب مع الله، وأيضاً إذا قوي خوفه يقرن بذلك حسن الظن بالله تعالى. والله تعالى أعلم.

خطورة الذهاب إلى السحرة

خطورة الذهاب إلى السحرة Q ما هي نصيحتك لمن يذهب إلى السحرة والمشعوذين والعياذ بالله؟ A أعوذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صرف الله قلب الإنسان في أي مصيبة، إلى أحد سواه فليعلم أن الله قد خذله، فإذا أصبت بمصيبة ووجدت شعبة من شعب قلبك تنصرف إلى أي شيء من دون الله فاعلم أن الإيمان ناقص، ولذلك إذا نزلت بك مصيبة -ولو كان عندك قدرة على دفعها- فليكن عندك يقين أنه لا حول لك ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإياك أن تعتمد على مالك أو على قوتك أو على قدرتك، ولكن اعتمد على الله وحده لا شريك له، فكيف بالسحرة والمشعوذين؟!! والله! لن يغنوا عنك من الله مثقال ذرة من خردل، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يشفيك، وهو الذي يعافيك، وهو الذي يهمُّك وهو الذي يزيل همّك، وهو الذي يغمُّك وهو الذي يزيل غمك، فاعتقد ذلك في الله وحده لا شريك له. أما السحرة فإنهم لا يضرون أحداً إلا بإذن الله، وكم من ساحر خيب الله ظنه، وقطع سحره، وجعله وبالاً عليه، فكن قوي اليقين بالله عز وجل، سبحان الله! يذهبون إلى السحرة والمشعوذين ويخسرون الأموال والأوقات ويعلقون القلوب بمن لا يسمن ولا يغني من جوع، وكل الأمر يقف عند لحظة واحدة يدعو فيها ربه ويستغيث بالله جل جلاله فيفرج عنه، ثم يتركون الله الذي بيده النفع والضر ويستغيثون بمن عداه! نسأل الله السلامة والعافية، فنعوذ بالله العظيم رب العرش الكريم من هذا البلاء. والله! ما حضر الموت إنساناً يعتقد أن الساحر ينجيه من عذاب الله أو ينجيه من همه وغمه من دون الله إلا كان مشركاً والعياذ بالله! خرج من الدنيا والجنة عليه حرام، فمن نواقض لا إله إلا الله أن تعتقد النفع والضر فيمن عدا الله، ولو كان الإنسان من أصلح عباد الله فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، فكن قوي اليقين بأنه لا ينجيك من الله إلا الله، فلا أحد يغني عن أحد من الله شيئاً. أذكر ذات مرة رجلاً نحسبه من الصالحين، كان عنده في مزرعته رجل ساحر، ولم يكن يعلم بأنه ساحر، فكان هذا الساحر يسهر الليل ويفعل بعض الأفعال المريبة، فانتبه له بعض العمّال الذين معه، فأخبروا صاحب المزرعة، فجاء إلى هذا الساحر واكتشف أمره، فقال له: لن تبق عندي لحظة واحدة، فقال له الساحر: سأضرك، قال: لو علمت أنك تضر وتنفع من دون الله ما أخرجتك من مزرعتي، وبيني وبينك الله الذي لا رب سواه، خرج هذا الساحر، يقول الأخ: الحقيقة أصابني بعض الخوف من هذا الساحر، يقول: وشاء الله عز وجل أنني تلك الليلة جلست أتضرع إلى الله، يقول: وما جاءني النوم، وأنا أقوم وأصلي، والله إنها لعبرة، ففي فجر ذلك اليوم صلى الفجر وذهب إلى دراسته، يقول: فمررت بحي وإذا بالناس مجتمعة، في السكة والطريق، ما بكم؟ يقولون: حادث، يقول: ليس من عادتي أنزل وأرى الحوادث، وأنا ذاهب إلى الدراسة، يقول: فنزلت وإذا بصاحبي قد ضُرب على الأرض والدم يسيل من أذنه ومن أنفه ميتاً على الأرض، ما أحد يغني عن أحد من الله شيئاً، ولكن المشكلة أننا ما قدرنا الله حق قدره، ولا عظمنا الله حق تعظيمه، ولا التجأنا إلى الله حق اللجأ. فليكن الإنسان على يقين بأنه لا ينفعه ولا يضره أحد من دون الله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188]. فنسأل الله العظيم أن يصرف قلوبنا وقلوبكم إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

كيف تنال محبة الله عز وجل

كيف تنال محبة الله عز وجل Q ما هي السبل الموصلة إلى محبة الله جل وعلا؟ A أعظم السبل وأجلها: كتاب الله عز وجل. فمن أكثر تلاوة القرآن والتدبر في آياته فإنه سرعان ما يحب الله عز وجل، والله ما وجدت محبة الله في قلب الإنسان بشيء مثل التلذذ بكلام الله عز وجل، ولما كان الصحابة رضوان الله عليهم مع القرآن في الليل والنهار وجدوا حلاوته ووجدوا لذة المحبة لله عز وجل. الأمر الثاني الذي يعين على حب الله: أن تحب الله من نعمه، وأن تنظر في صباحك ومسائك ما ترفل فيه من النعم. انظر إلى هذه النعم المغدقة عليك في الصباح والمساء، يقول الأطباء: إن قلب الإنسان فيه نسبة من مادة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) لسقط ميتاً من ساعته، فما هذا اللطف وما هذه الرحمة وما هذا العطف من الله عز وجل، فانظر إلى نعمة الله عليك، تمر على العباد فترى فيهم المريض، ترى فيهم المبتلى، والفقير والضعيف، والله عز وجل أغناك وكفاك وآتاك الصحة والعافية ومنَّاك، فكيف لا تحبه وأنت ترفل في نعمه؟!! سبحان الله! ولله المثل الأعلى، لو أن واحداً منا في يوم من الأيام احتاج إلى أمر بسيط من أمور الدنيا، فجاء رجل فقضى لك هذه الحاجة بعد أن ضاقت عليك الأرض، وأصبحت في شدة ماذا يكون؟ يأسرك بهذا المعروف، حتى إن بعضنا إذا جاء يجلس مع أولاده أول ما يتكلم يقول: فلان فعل معي كذا وكذا جزاه الله خيراً، إذا جلس مع جماعته: فلان فعل معي كذا وكذا جزاه الله خيراً، لكن هل جلست مع أولادك يوماً من الأيام تقول: كنت فقيراً فأغناني الله، وكنت ضعيفاً فقوَّاني الله، وكنت مريضاً فشفاني الله، هل أحد منا فعل هذا؟! فعليك أن تحب الله من هذه النعم التي ترفل فيها صباحاً ومساءً، فالبصر مثلاً، لو تعلم ما فيه من اللطف والرحمة من الله، إذ نوَّر لك هذا البصر لأحببت الله صدق المحبة. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن أحب الله صدق المحبة، وأن يورثنا هذه المحبة التي تعلقنا به وحده لا شريك له. ولله المثل الأعلى، فكم تحب وتكن لوالديك من عطف وبر فإنه لا يأتي مثقال ذرة من عطف الله وبره بك. فلذلك خير ما يوصى به الإنسان أن ينظر إلى نعم الله التي يرفل فيها صباح مساء، فإذا دخلت إلى بيتك تقول: الحمد لله إذا أكلت، الحمد لله إذا شربت، الحمد لله إذا قمت وإذا وقفت تقول: الحمد لله، وتتذكر من لا يستطيع الوقوف، إذا جلست تقول: الحمد لله وتتذكر من لا يستطيع الجلوس، إذا نمت تقول: الحمد لله الذي كفاني يومي حينما تتذكر المهموم والمغموم والمحروم، والله عز وجل أعطاك ما أعطاك، فتقول: يا رب لك الحمد، فتحبه صدق المحبة وتتعلق به جل جلاله. العقل، من الذي حفظ لك نور العقل؟ من الذي حفظ لك نعمة العقل؟ وأنت ترى من فقد العقل ومن يعيش الآلام النفسية حائراً في فهمه وعقله، والله صان لك هذه النعمة. فلذلك النعم تقود وتدل على محبة الله. أيضاً: إجلال الله. فإنك إذا نظرت إلى ملكوت الله وآياته المنثورة في الكون تحبه، فالشمس سخرها لك، والقمر والنجوم والأرض وكل خيرات هذه الأرض أغدقها الله عز وجل عليك، الطعام يقاد إليك على أمواج البحار، ولو شاء الله أن تلتقمه البحار لالتقمته، ويقاد إليك بين السماء والأرض بالطائرات من فجاج بعيدة، كتب الله لك رزق هذا الطعام الذي تطعم، فكيف لا تحبه؟! تقاد إليك الثمرات من المزارع والبساتين، وكتب الله أن عبدي فلاناً يطعمها في الساعة الفلانية واللحظة الفلانية، كل ذلك لماذا؟ من أجل أن تحبه، فكيف لا تحبه؟! يقود إليك هذه النعم والمنن والآلاء كي تقود قلبك وقالبك إليه جل جلاله، فلا ترفل بنعمة إلا ولسانك يلهج من صميم قلبك: اللهم لك الحمد الذي أنت أهله. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا نحصي ثناءً عليك) أي: لا نستطيع أن نشكرك حق شكرك، ولا نستطيع أن نذكرك حق ذكرك، بماذا؟ بهذه النعم. فنسأل الله العظيم أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بهذا كله، وأن يرزقنا وإياكم حبه الصادق. والله تعالى أعلم.

وسيلة دفع الوساوس الشيطانية

وسيلة دفع الوساوس الشيطانية Q تأتيني الكثير من الوساوس والشبهات في العقيدة، وفي اليقين بالله، وفي اليوم الآخر، وفي الإيمان، ويأتيني الشيطان ويصور لي ذات الله عز وجل والعياذ بالله، ويجعلني أتفكر في ذاته، فما نصيحتكم لي حفظكم الله؟ A خسئ عدو الله، وكلما تجده في نفسك من الوساوس المردية والخواطر المهلكة فاعلم أنها من الشيطان، وما العلاج؟ يلتفت عن يساره ويقول بيقين كامل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وأول ما أوصيك به أن تعوذ بالله جل جلاله وتفر إليه من هذه الوساوس. وأذكر أن رجلاً كان قلبه مبتلىً بهذه الوساوس والعياذ بالله! وأكثر من الشكوى، فقلت له: يا أخي! أتشتكي إلي وأنا عبد ضعيف وعندك العلاج! قال: كيف؟ قلت: يا أخي اعرض أمرك على الله، وإن من أغرب ما وجدت من الهموم والمصائب التي يصاب بها الموسوس -والعياذ بالله- ما وجدت في هذا الرجل، فشاء الله عز وجل، أن قلت له: يا أخي! ما يمنعك أن تعتمر، وتطّرح بين يدي الله عز وجل وتبكي وتناجي الله عز وجل في عمرتك، وتقبل على الله، فالله إذا نظر إليك وأنت مقبل إليه فإنه سيفرج عنك ما أنت فيه، فأقبل على الله، وشاء الله عز وجل أن لقيته بعد شهر، وإذا بذلك الوجه قد تغير، قد أسفر وأنور، إي والله الذي لا إله إلا هو! فقلت: ما الخبر؟ فتبسم وقال لي: جزاك الله كل خير، قال لي: أُبشرك، ذهبت لاعتمر، وكان هذا في يوم الخميس فاعتمرت في سحر الجمعة، وتضرَّعت إلى الله عز وجل، يقول: والله! إني عند المقام وأنا في ركعتي الطواف أبتهل إلى الله عز وجل، وبمجرد أن سلمت كأنني غُسلت بماء، وما كأن بي شيئاً وإلى ساعتي هذه ولا أجد شيئاً مما كان. وكان أحد الإخوة مبتلىً -والعياذ بالله- في نفسه، وبلغ به من الضر ما الله به عليم، وفي هذه السنة أذكر أنه حج، وكنت -والله- أرثي لحاله، وكان معه بعض الأخيار يشفق عليه، فشاء الله عز وجل أنني لقيته بعد الحج، وإذا بالوجه قد تغيّر والحال قد تغيّر، فقال لي: أبشرك يا شيخ! الذي كنت أجده الحمد لله لا أجد منه الآن شيئاً، قلت: كيف؟ قال: سبحان الله العظيم! في يوم عرفة ذكرت ما أنا فيه وذكرت قوله -عليه الصلاة والسلام-: (أن تعبد الله كأنك تراه) يقول: ذكرت همومي وغمومي، وحصل عندي يقين أنه لا ينجيني إلا الله وحده لا شريك له، يقول: فبكيت وتضرعت، يقول: سبحان الله! وإذا بجسمي له حرارة عجيبة، يقول: وإذا بها لحظة واحدة كأن لم يكن بي من بأس. فمن أيقن بالله، كفاه الله والمشكلة أننا ما قدرنا الله حق قدره، وما عظّمنا الله حق تعظيمه، فهذا الكون بآثاره ودلائله وشواهده كان بكلمة (كن) فكان، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل:77]، ولربما يسلط الله عليك هذه الوساوس؛ لكي يمتحن إيمانك، يأتيك الخبيث ويقول لك: من هو الله الذي تعبده؟ ومن هو الله الذي تفعل لأجله؟ فقل له: اخسأ عدو الله، ويكون عندك يقين بأن وسوسته لا قيمة لها، والمشكلة أن البعض يأتيه الوسواس -والعياذ بالله- فيعظم أمر الوسواس، لكن أنت انظر إليه محتقراً له؛ لأن الله وصف الباطل بأنه لا جذور له: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم:26] كماذا؟ {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] فكل الوساوس تدفعها كلمة واحدة، ما هي؟ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، كلمة تخرج من القلب وليس كلمة هكذا يقولها، بل وهو يحس أنه لا ينجي من هذا الكرب إلا الله وحده لا شريك له. فنسأل الله العظيم أن يرزقنا هذا اليقين، وأن يعجل لك بالفرج من لدنه، إنه هو أرحم الراحمين. والله تعالى أعلم.

المعصية واليقين

المعصية واليقين Q كيف يكون المسلم على يقين دائم بالله إذا كان يذهب بعض الأوقات لفعل المعاصي، والعياذ بالله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإنه ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بالله عز وجل، ومهما فعل من المعاصي فليعلم أن الله لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي) فينبغي على الإنسان إذا اقترف الذنوب والمعاصي أن يحسن الظن بالله جل جلاله، وأن يصدق في التوبة، فإنه من صدق مع الله صدق الله معه. فخير ما يوصى به الإنسان إذا كثرت ذنوبه أن يكثر التوبة، صحيح أنك إذا أذنبت نقص اليقين في القلب، والعياذ بالله، وكل ذنب بين الإنسان وبين الله ينقص اليقين، وبقدر الذنب والجريمة ينقص ذلك اليقين، ولذلك خير علاج لمن بلي بالذنوب أن يكثر من الاستغفار، ومن أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية. فأوصيك -أخي في الله- أن تكثر التوبة والاستغفار، والله تعالى أعلم.

تذبذب اليقين

تذبذب اليقين Q أنا رجل يرتفع يقيني بالله عز وجل تارة، ويقل أخرى، وهكذا دائماً تكون حالتي، وأنا رجل شيخ ممن يقوم الليل، ولكني لا أحس بحلاوة ما أفعل، ولا أبكي من خشية الله جل وعلا، فأرشدنا إلى سبب ذلك، بارك الله فيك؟ A أما ما ذكرت من اختلاف قلبك بالإقبال والإدبار، فهذا من حكمة الله عز وجل بالعباد، فالقلوب لها إقبال وإدبار، فإذا أقبل قلبك على الله فاستكثر من خصال الخير، فجد واجتهد في الطاعات، وإذا أدبرت نفسك عن الله فاحفظ فرائض الله، وسأوصيك بأمور: أولها: أن تتفقد نفسك، فإن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلعلّ ذنباً بينك وبين الله حال بينك وبين القبول من الله، ولعلّ ذنباًَ بينك وبين الله حرمك اليقين بالله، فأول ما يفكر فيه الموفق أن ينظر كيف حاله مع الذنوب، فإن وجد ذنباً استغفر الله وتاب منه، وعقد العزم على عدم الرجوع إليه. وأما ما ذكرته من قيام الليل وعدم وجود الخشوع، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإن قيام الليل من أهم الأسباب التي تعين على خشوع القلوب، ومن قام الليل ولم يجد لقيامه خشوعاً فليبك على نفسه وليطرَّح بباب ربه وليستعذ بالله من قسوة قلبه، وليعلم أن بينه وبين الله حائلاً، إما ذنباً من عقوق أو معصية أو قطيعة رحم أو أكل مالٍ ظلماً أو هتك ستر الله أو نحو ذلك من المعاصي، فأول ما يفكر فيه أن يتفقد نفسه، وأن يحاول قدر استطاعته أن يتوب إلى الله، فإن الله تعالى يقول: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، وكان العلماء رحمهم الله إذا أعيتهم المسألة وأصبحت شديدة عليهم أكثروا من الاستغفار، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (إن كانت المسألة ليستغلق عليَّ فهمها -فيما معنى كلامه- فلا أزال أستغفر الله حتى أبلغ ألف مرة ثم يفتح عليَّ فيها). فعليك أن تكثر من الاستغفار، فإذا قمت في الليل فاجعل ليلك مطية للاستغفار، فإن الله يرحم من يستغفره، ويلطف به: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]، فنسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من هذا البلاء، وأن يرزقنا وإياكم اللذة في مناجاته وذكره. والله تعالى أعلم.

السعادة

السعادة إن السعادة أمر يبحث عنه وينشده كل إنسان، ولكن من الناس من بحث عن السعادة في المال، والبعض بحث عنها في اتباع الشهوات وفعل المحرمات، ولكن هؤلاء كلهم -في الحقيقة- لم يجدوا السعادة؛ لأن السعادة قد جعلها ربنا جل وعلا في طاعته وذكره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فليسع الإنسان إلى طاعة الله، لكي يتذوق السعادة في حياته الدنيا وفي الآخرة.

من هو السعيد

من هو السعيد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! من هو السعيد الذي امتلأ قلبه بذكر الله؟ من هو السعيد الذي إذا أمسى وأصبح ليس في قلبه غير الله جل جلاله؟ من هو السعيد الذي أسعده الله في نفسه فاطمأن قلبه بذكره ولهج لسانه بالثناء عليه؟ من هو السعيد الذي أقر الله عينه بالطاعات، وأسرَّه بالباقيات الصالحات؟ من هو السعيد الذي أسعده الله في أهله وماله وولده فرأى قرة العين وحمد الله سبحانه وتعالى على القليل والكثير؟ من هو السعيد الذي أسعده الله بين الناس، فعاش طيب الذكر، حسن السمعة، لا يذكر إلا بخير، ولا يعرف عنه إلا الخير؟ من هو السعيد الذي إذا وقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقف بقلبٍ ثابت ولسانٍ ذاكر، وقد رضي عن الله وأرضاه الله؟ من هو السعيد الذي إذا ذهبت ساعته وحانت قيامته تنزلت عليه ملائكة ربه تبشره بالروح والريحان والرحمة والغفران وأن الله راضٍ عنه غير غضبان؟ من هو السعيد الذي ختم له بخاتمة السعداء فكان آخر ما نطق به من الدنيا: لا إله إلا الله؟ من هو السعيد الذي أسعده الله في قبره، وأقر عينه في لحده، حتى إذا أدخل في ذلك القبر وعوتب في ذلك اللحد وسئل -إن ثبت الله له الجنان واللسان- فقال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فنادى منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، ففرش له من الجنان، وفتح له منها يأتيه من الروح والريحان، فقال السعيد: يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة، شوقاً إلى رحمة الله وحنيناً إلى عظيم ما ينتظره من فضل الله؟ من هو السعيد الذي إذا بعث من قبره وخرج إلى حشره ونشره خرج مع السعداء، فتتلقاهم الملائكة {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]؟ من هو السعيد الذي إذا دنت الشمس من الخلائق، وأذل الله فيه كل عزيز، وأخرس ناطق، واشتد لهيبها وعظم حرها وذهب العرق في الأرض سبعين ذراعاً فاشتد الخطب، فإذا به في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؟ من هو السعيد الذي إذا وقف بين يدي ربه وقف موقف الكريم، فأعلى الله شأنه وأنطق بالخير لسانه، ونادى الله عليه بالبشرى بالجنة؟ من هو السعيد -أيها الأحبة في الله- الذي ينتهي مآله ويكون قراره إلى الجنة دار السعداء ومنزل الأتقياء؟

أسباب السعادة

أسباب السعادة أيها الأحبة في الله! إنها السعادة الحقيقية التي يتمناها كل عبدٍ صالح إنها السعادة الحقيقية التي إذا فتح الله لك أبوابها لم يستطع أحدٌ أن يغلقها عليك.

حسن الخلق ونقاء القلب والسريرة

حسن الخلق ونقاء القلب والسريرة أيها الأحبة في الله! إذا أراد الله أن يسعد العبد بين الناس أسعده بحسن الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم)، وأخبر صلى الله عليه وسلم (خير المؤمنين وأكملهم إيماناً أحسنهم أخلاقاً)، فإذا أراد الله أن يسعدك طيَّب شمائلك وأخلاقك، فأحبك الناس من قربك وفعلك، من رزقه الله حسن الخلق عاش سعيداً، ومات حميداً، ورضي الناس عنه وشهدوا له بكل خير، ولربما بقي حياً بعد موته في الذكر الجميل، فالأخلاق والآداب الطيبة ومعاشرة الناس وتوطئة الكنف من أعظم أسباب السعادة. إذاً: مما ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يكون سعيداً مع المسلمين أن يكون نقي القلب والسريرة، فلا سعادة إلا إذا أخرج العبد من قلبه الشحناء والبغضاء، والحسد واحتقار الناس، وآفات القلوب جميعها، وأسلم لله قلبه، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه غلاً على مسلم، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه الحسد أو البغضاء أو الشحناء، لقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بالجنة فانطلق مع هذا الرجل عبد الله بن عمرو بن العاص، وبات معه ثلاث ليالٍ ليرمق عبادته، وينظر أقواله وأفعاله، فلم يجد كثير صيام ولا قيام! ثم قال له في اليوم الثالث: (إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة فكنت هو، فأخبرني عن أرجى عملٍ تعمله، فقال ذلك الصحابي المبشر بالجنة وهو يمشي على وجه الأرض قال: أما إنه ليس عندي كثير صيامٍ ولا قيام، ولكني لا أمسي وأصبح وفي قلبي غلٌ على مسلم). إن القلوب إذا تغيرت، والنفوس إذا تبدلت، أظهر الله ما في السرائر على الظواهر. ومن أسر سريرة الخير أظهر الله للناس خيره، ومن أسر سريرة السوء والشر أظهر الله للناس عورته. فأول ما ينبغي على الإنسان لكي يكون سعيداً مع الناس: أن ينزع من قلبه الحسد والبغضاء، وإياك أن تحتقر مسلماً لقلة ماله أو مركزه أو وظيفته، فالمسلمون جميعاً يجب أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وترضى لهم ما ترضى لنفسك، وينبغي أن تحسن بهم الظن كما ينبغي عليهم أن يحسنوا بك الظن أيضاً، فإذا سلم صدرك سلمت جوارحك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ووالله لن يصلح القلب إلا بالسلامة لله عز وجل من أذية المؤمنين. وإذا أردت سعادة مع الناس: فعليك أن تسلم الناس من لسانك، فلا يسمعون منك إلا الطيب؛ لأن المسلم طيب سلم لله لسانه وجنانه وجوارحه وأركانه. ولقد وصف الله أهل الجنة بأنهم طابوا، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويسلمون عليهم، ويقول الله عز وجل: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] فلما طابت أقوالهم وأفعالهم كانوا من أهل الجنة، فمن أراد أن يكون من السعداء فليحفظ لسانه عن الناس، وإذا أراد أن يعيش بين الناس عيشةً هنية رضية فليحفظ لسانه عن عورات المسلمين وأذية إخوانه المؤمنين، وأن يعطي إخوانه المسلمين من الكلام ما يحب أن يأخذه منهم. كذلك من أسباب السعادة مع الناس: الحرص على مجالستهم ومباسطتهم ومؤانستهم، فإن ذلك من أسباب السعادة، فإن من نعم هذه الدنيا التي ينعم الله بها على عباده الصالحين مجالس الذكر والخير، فإذا جلست مع الناس فتفقد أحوالهم، فإذا رأيت المهموم بدلت همومه بكلمةٍ طيبة، وإذا رأيت القلق الحيران أرشدته في حيرته ووجهته من غفلته وذكرته بالله، فإنها كلماتٌ طيبات يعظم أجرها في الدنيا وفي الآخرة بعد الممات. من أراد أن يعيش سعيداً مع الناس حرص على أمرهم بالخير ودلالتهم عليه، فإذا فعل ذلك طيب الله ذكره ومجالسه، وقذف في قلوب الناس حبه وحب الجلوس معه، حتى ولو كانوا من جيرانك الأقربين إذا زرتهم وتفقدت أحوالهم، فإن رأيت تقصيراً كملته، وإن رأيت عيباً دللتهم ونبهتهم عليه، وأرشدتهم إليه، وأخذت بمجامع قلوبهم إلى الله، واحتسبت الأجر عند الله.

الدعاء

الدعاء أيها الأحبة في الله! لا تنال السعادة إلا بتوفيق الله جل جلاله، فأول ما ينبغي على من أراد أن يسعده الله في الدنيا والآخرة فعليه أن يكثر من الدعاء بأن يسأل الله عز وجل أن يحييه حياة السعداء، وأن يميته موتة الشهداء، وأن يرزقه مرافقة الأنبياء، فإن الله كريم، فلا تستكثر على الله أن يسعدك في أهلك ومالك وولدك، فإن الله مقلب القلوب والأحوال، وكم من شقي قلبه الله سعيداً في طرفة عين! فالله على كل شيءٍ قدير. ولذلك جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الكفر فأسلم في آخر لحظة، ثم حمل سيفه فقاتل وجاهد في سبيل الله فاستشهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً). فالسعادة من الله، وإن فتح لك الله بابها فلا يستطيع أحد أن يغلقه عليك {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2] فأكثر من الدعاء، وإذا نظر الله إليك وأنت تفتقر إليه بأن يرحمك فإن الله سيجزيك ويجيب دعوتك، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا السعادة، وأن يتأذن لنا ولكم بالخير والزيادة.

قراءة القرآن وسير الأنبياء والسلف الصالح

قراءة القرآن وسير الأنبياء والسلف الصالح كذلك من أسباب السعادة: أن يكثر الإنسان من تلاوة القرآن، فإن الله جل وعلا أسعد أهل القرآن، فطوبى ثم طوبى لمن جعل الله القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، وسائقه وقائده إلى رحمته ورضوانه. من أسباب السعادة: قراءة سير الأنبياء، والتدبر والتأمل فيها، وكثرة النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان مفوضاً الأمور كلها إلى الله، يحتسب الأجر من الله سبحانه وتعالى. من أسباب السعادة: قراءة سير السلف الصالح من العلماء العاملين والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم من الأخيار والصالحين، فإن ذكر الصالحين والنظر إلى أحوالهم وما كانوا عليه من الاستقامة والثبات على الحق والخير وحبه مما يقوي القلوب على طاعة الله وعلى مرضاته.

حضور حلق الذكر

حضور حلق الذكر فمن أسباب السعادة التي ييسر الله عز وجل بها للعبد سبيلها: طلب العلم وغشيان حلق الذكر، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن مجالس الذكر: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). فمن أمارات السعادة وأسبابها ودلائلها: أن يوفق الله العبد لحب مجالس العلماء وغشيان حلق الذكر. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم سعادة الدين والدنيا والآخرة. اللهم إن نسألك سعادةً لا نشقى بعدها أبداً، اللهم إن نسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلوبنا، وتصلح بها أحوالنا، اللهم إنا نسألك رحمة تتأذن لنا بها منك بالمزيد، وتؤمننا بها يوم السطوة والوعيد يا ذا الأمر الشديد! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

صلاح الأبناء واستقامتهم على الخير

صلاح الأبناء واستقامتهم على الخير وإذا أراد الله أن يسعد العبد أسعده في أولاده، فرأى قرة العين في الولد عند صلاحه، وهذا إنما يكون بكثرة الدعاء للأولاد في أوقات الإجابة أن يرزقهم الصلاح والاستقامة على الخير والفلاح، قال الله عن عباده الصالحين: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قرة العين، وأن يجعل أبناءنا وبناتنا سبب سعادة لنا في الدنيا والآخرة، فإن الولد من أعظم أسباب السعادة، فإذا أردت أن ترى السعادة في الولد فانظر إلى الولد الصالح، فإنك إن نسيت الله ذكرك! وإن ذكرت الله أعانك! وإذا كنت على طاعةٍ ثبتك. والولد الصالح أمنية الأخيار والصالحين، لذلك قال الله عن نبيه لما سأله: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] ولا تطيب الذرية إلا بالصلاح والاستقامة على الخير والفلاح، ولكن من الآن ابدأ في تربيته بدعوته للخير؛ لأنك إن أقمته على طاعة الله من صغره أقر الله عينك في كبره، من تعب الآن بأمر أولاده بالصلاة وتحبيبهم إلى طاعة الله والتقوى والزكاة أقر الله عينه في الكبر، فمن أخلص لله في الصغر مع أبنائه أقر الله عينه عنه في كبره، ومن تساهل معهم وفرقهم فإنه قد ضيع حق الله فيضيعه في ولده، ووالله لن ترى والداً ووالدةً أهملا أولادهما بعد أمرهم بطاعة الله وحثهم على مرضاته سبحانه وتعالى إلا جاء اليوم الذي يبكي فيه كل واحدٍ منهما بكاءً شديداً، ولذلك قلّ أن تجد والدين فرطا أو ضيعا إلا وجدت الأولاد يعقون عند الكبر، نسأل الله السلامة والعافية. فمن أسباب السعادة في الأولاد تربيتهم على الصلاة والطاعة والخير والبر، يقول بعض العلماء: إن الولد إذا تعوّد من الصغر على الأمر والحث على الصلاة، وفي كل يوم خمس مرات وأنت تقف على رأسه وتتابعه في صلاته وعبادته، أصبح عنده شعور لا يزول إلى الأبد بالذل لك، والسمع والطاعة، والامتثال بأمرك، ولذلك قلّ أن تجد ذريةً يحاسب والداها على الأمر بالخير إلا وجدتهم عند الكبر مطيعين محبين ممتثلين يهابون الوالدين؛ لأن الله لا يجزي بالإحسان إلا الإحسان، ومن وفّى لله في نعمة الولد وفّى الله له، وأقر عينه عاجلاً وآجلاً.

بذل المال وإنفاقه في وجوه الخير

بذل المال وإنفاقه في وجوه الخير من أسباب السعادة: أن يسعدك الله في مالك، ومن أسباب السعادة في المال بذله في طاعة الله سبحانه وتعالى، فمن أنفق لله أنفق الله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يا أسماء! أنفقي ينفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك) من رزقه الله المال الصالح الذي أخذه من حله وكسبه كسباً طيباً حلالاً، ووفقه لتفريج الكربات، وتكفيف دموع الأرامل واليتامى والثكالى؛ فإن الله يسعده في ذلك المال، فإن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع عن العبد البلايا والرزايا، وقلّ أن تجد عبداً كثير الصدقات إلا وجدت الله سبحانه وتعالى يلطف به من حيث لا يحتسب. فيا إخواني! الحرص ثم الحرص على الإنفاق! وعلى إدخال السرور على الضعفاء والفقراء والمحتاجين، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً. ومن أنفق لله بارك الله له في ماله، وجعل هذا المال قرة عينٍ له في الدنيا والآخرة، فعليكم بالحرص على الصدقات؛ لأن الحرص على الإحسان إلى الضعفة والبائسين والمحتاجين من أجلّ نعم الله عز وجل على العبد، ولذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب) قال بعض العلماء: إنها تحجبُ البلاء؛ لأنه إذا كانت تطفئ غضب الرب فمعنى ذلك: أن العبد يحفظ من البلاء. ثم إن الإحسان إلى الناس سببٌ في الدعوات الصالحة، فقد تأتي إلى أرملةٍ ضعيفة أو مسكينٍ أو يتيمٍ أو بائس فتحسن إليه، وتتفقد حاله فتقضي حاجته، فينظر وإذا به عاجزٌ عن شكرك ورد جميلك فلا يملك إلا أن يرفع كفه إلى الله سائلاً أن يشكرك، فلربما غفرت ذنوبك وسترت عيوبك وفرجت كروبك، قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يّسر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة). فمن أعظم أسباب السعادة في المال: كثرة إنفاقه، ولذلك قال بعض العلماء: إن المال الصالح عند العبد الصالح طريق إلى الجنة. في الحديث الصحيح: (أن امرأة جاءت إلى عائشة وكان معها ابنتان، فاستطعمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها فأطعمتها ثلاث تمرات -ولربما كانت التمرة الواحدة قوتاً للإنسان يومه كله- فأخذت هذه الأم تمرتين فأعطت كل بنت تمرة، ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أن تأكلها، فاستطعمتها إحدى بناتها، فأطعمتها تلك التمرة ولم تأكلها، فعجبت عائشة رضي الله عنها وأرضاها! فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبر المرأة، فنزل الوحي من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: أتعجبين مما صنعت؟! إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك) هذه -والله- هي السعادة حينما تنفق لله، وأي مالٍ أخرجته مخلصاً لوجه الله عز وجل تحتسب به ما عند الله، فإن الله يخلفه عليك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله يخلف عليك بالبركة في مالك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).

بر الوالدين والإحسان إليهما

بر الوالدين والإحسان إليهما وكما أن السعادة تكون في النفس بالاستقامة تكون في الأهل والمال والولد، فإذا أراد الله أن يسعدك في قرابتك رزقك رضا أقرب الناس إليك ورزقك الرضا من أقرب الناس إليك وأعظمهم حقاً عليك، فإذا أراد أن يسعدك رزقك رضا الوالدين، فمن أعظم أسباب السعادة: رضا الوالدين، ومن أرضى والديه رضي الله عنه، وكم من ابنٍ بار فتحت أبواب السماء لدعواتٍ مستجابةٍ من والديه، وكم من ابنٍ بار فتح الله أبواب الخير في وجهه عندما أرضى الله في والديه، قال صلى الله عليه وسلم: (رضي الله على من أرضى والديه، وسخط الله على من أسخط والديه) وفي الحديث: (يا رسول الله! أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله). فمن أعظم أسباب السعادة بر الوالدين، والله تعالى إذا أراد أن يسعد الإنسان جعل قلبه معلقاً برضا والديه، فإذا كانا حبيبين نظر إليهما نظر الرحمة فيرحمهما عند المشيب والكبر، ورزقه الله انكسار القلب وهو يرى والده في آخر هذه الدنيا ضعيفاً سقيماً كبيراً، فألهمه بره والإحسان إليه، ونظر إلى أمه وهي ضعيفةٌ سقيمة في آخر أعتاب هذه الدنيا، فأحبها من كل قلبه، واشتغل ببرها بسائر جوارحه، ينتظر رضاها الصباح والمساء والعشي والإبكار، حتى يتأذن الله له بتمام الرضا، فكم من حوادث ووقائع رأى أهلها السعادة بفضل الله وحده ثم ببر الوالدين. إذاً: بر الوالدين من أعظم أسباب السعادة، حتى ولو كانا ميتين، فإن كثرة الترحم عليهما والاستغفار لهما والصدقة عنهما من أسباب السعادة، ولذلك قال الرجل: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ -من رحمة الله أنه لم يقفل عليك هذا الباب الكريم وهو رضا الوالدين، حتى بعد موتهما- قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) والله لن ترى عبداً يبرُ والديه من أهل الإيمان إلا وجدته سعيداً قرير العين عن الله جل جلاله.

أثر الإيمان في سعادة العبد

أثر الإيمان في سعادة العبد إذا أراد الله أن يسعد العبد كان أول ما يوفقه إليه هو الإيمان بالله جل جلاله، فمن عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ورزقه الله سلامة الإيمان واستقامة الجنان وصوَّب الأمور كلها للواحد الرحمن، واعتقد من قرارة قلبه ألا ملجأ ولا منجى ولا مفر من الله إلا إليه. السعيد الذي ملأ الله قلبه بالإيمان فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، لا تتبدل أحواله ولا تتغير هدايته، قد جعل الجنة والنار نصب عينيه، فهو يعمل للجنة ويفر من النار. إذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه انشراح الصدر بذكره وطمأنينة القلب بالإنابة إليه وشكره، فالذاكرون الله كثيراً والذاكرات هم السعداء، وإذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، فأصبح لسانه لا يفتر عن ذكر الله جل جلاله، وأصبحت ساعاته وحركاته وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، ينتقل من طاعةٍ إلى طاعة، ومن برٍ إلى بر، ومن خيرٍ إلى خير، لا يسأم ولا يمل، وقلبه متعلق بالله سبحانه وتعالى. سعادة المؤمن في ذكر الله، ولقد سبق المفردون (قالوا: يا رسول الله! من هم المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) فإن كلمة واحدة من ذكر الله قد تسعدك إلى لقاء الله، وذكر الله سبحانه وتعالى عظيمٌ عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فمن أكثر من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وصوَّب الأمور كلها لله فقد كملت سعادته وعظمت هدايته.

الرضاء بقضاء الله

الرضاء بقضاء الله إذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه الرضا بقضائه، فوالله لو لبس مرقع الثياب وعاش فقيراً مدقعاً فإن الله يملأ قلبه بالغنى، فإن ابتلي وهو يشكر ربه ويحمده يحس أنه لا أسعد منه حينما رضي عن الله، ولو رأى مصائب الدنيا وأهوالها ونكباتها فإنه سيعلم أن الأمور كلها لله سبحانه وتعالى، فلا يضيق عليه قلب، ولا يسأم ولا يمل، ولا يشتكي الرب إلى الخلق، ولا يشتكي من سقمه ولا من مرضه لعلمه أن الله ابتلاه، فيحب أن يري الله من نفسه ما يحب ويرضى، ويحب أن يسمع الله من لسانه ذكره وشكره والإنابة إليه سبحانه، فمن أمسى وأصبح راضياً عن الله أرضاه الله، وكم من غني ألبسه الله ثوب الغنى والعافية، ومع ذلك تنصب عليه الأموال صباح مساء، ولو سألته عن حاله لقال: إني في همٍ وكربٍ وغم! المال لا يأتي بالسعادة، ولو كان المال يأتي بالسعادة لكان أسعد الناس قارون، كانت مفاتيح خزائنه تنوء بالعصبة القوية عند حملها، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. المال لا يأتي بالسعادة، وكم من غنيٍ كريم أبكاه ماله فطال بكاؤه! وكم من غنيٍ أشقاه ماله فما نال السعادة بعد شقائه! السعادة لا تكون إلا بالرضا عن الله، والعلم اليقيني أننا ملكٌ لله، فإذا علم العبد أنه لله توسع عليه ضيق الدنيا، وزال همها وغمها، فأبدله الله الفرح والسرور والكرامة، ومن ظن أن السعادة في الأموال فإنه قد أخطأ. حدثني الوالد رحمه الله: أن رجلاً كان غنياً ثرياً، أنعم الله عليه بالنعمة، ووسع عليه بالرزق، قال رحمه الله: لما اشتد الحال بالناس اشترى صفقةً من الطعام، وكانت صفقةً كبيرة، قال رحمه الله: فدخلت عليه وقد أخبره رجل أن سعر الطعام الذي اشتراه قد ارتفع إلى أضعافٍ كثيرة، فلم يتحمل الفرحة فسقط ميتاً على دفتره، قال: ومضت الأيام، وتبدلت الأحوال، فدخلت على رجلٍ من أهل المدينة في كرائم نعمه وقد اشترى صفقةً من نفس الطعام، قال: والله فأتاه الخبر بأن سعر الطعام قد انخفض، فلم يتحمل الصدمة فسقط ميتاً. فقال: سبحان الله! عجبت لرجلٍ يموت عند الغلاء فرحاً، ورجلٌ يموت عند الرخص حزناً!! فالسعادة ليست في المال، فوالله كم من غنيٍ ثري يتمنى أنه كالفقير! وكم من غنيٍ ثري أبكته زوجته بسبب المال وأبكاه أولاده وأقاربه بسبب المال! فلم أر السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد ولربما رأيت الرجل فقيراً مدقعاً قليل المال ولكن الله أغناه بالإيمان والرضا، فإذا دخلت عليه قلت له: كيف حالك؟ قال: الحمد لله، في نعمةٍ من الله وفضل. وكم من قويٍ في البدن قد أنعم الله عليه بالعافية، ومع ذلك سلبه الرضا في قلبه، فإذا سئل عن حاله اشتكى وبكى! وكم من مريضٍ فقيرٍ طريح الفراش قد يكون مشغولاً في مقعده، تسأله: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله، لأن الله ملأ قلبه بالرضا! إذا أراد الله أن يسعد العبد أسعده أولاً في نفسه، وظهرت دلائل السعادة بالتوبة والإنابة إلى الله، والبكاء على ما سلف وكان من الذنوب والعصيان، فيسأل الله -دائماً- العفو والغفران، وسيصلح الله من حاله ويبدل من أفعاله ومقاله إلى خيرٍ وبر. ثم تأتيك السعادة في الهداية والإنابة إلى الله والرجوع إليه سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلام} [الأنعام:125].

الأسئلة

الأسئلة

أسباب قسوة القلوب

أسباب قسوة القلوب Q إن الله تعالى يقول: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] وإن الناظر في أحوال الناس يرى أن القلوب بدأت تتحجر ولا تخشع، ولا العيون تدمع عند سماع آيات القرآن، فهلا ذكرت لنا موعظة لتلين قلوبنا وتدمع أعيننا، وما هي أسباب قسوة القلوب؟ A لا حول ولا قوة إلا بالله! والله المستعان! إن الوعظ والتذكير مسئولية عظيمة، وتذكير الناس ووعظهم ليس بكلمات تذكر فقط، بل تحتاج إلى حضور قلب، وأحتاج قبل أن أعظكم أن أعظ نفسي، وأحتاج قبل أن أذكركم أن أذكر نفسي، والله من أصعب الأسئلة عليَّ وأعظمها عليَّ أن يقال: عظنا! من أنا حتى أعظ؟! الكل يحث ويذكر بالله جل جلاله. كم من أناس كانوا معنا في العام الماضي، أين هم الآن؟ كم من أناس كانوا في نعمة وأصبحوا في نقمة! فالليل يذكر بالله، والنهار يذكر بالله، وكل شيءٍ في هذا الوجود إلا وهو يعظكم، ما من شيء منذ طلوع الشمس إلى غروبها إلا وهو يذكرك بغروبك من الدنيا وخروجك منها، فقط موقف تقفه إذا دنت الشمس من الغروب، أتتأمل تلك الساعة، كانت الشمس في قوتها ووهجها، يسقط الناس من حرارتها، وإذا بها عند الغروب قد أسلمت لله وذلت له جل جلاله، فإذا بذلك الشعاع ينكسر، وإذا بتلك القوة تنحسر وتنفطر، وإذا بها تؤذن بالغروب، يذكرك الله جل جلاله أن هذه النعمة التي تعيشها -إن كنت في قوتك- ستزول وتنتهي وتسلم الروح له جل جلاله، كل شيءٍ يذكر بالله، ولكي تكون قلوبنا حية فلنتأمل في كل شيء، بيتك الذي تدخله ومسكنك الذي تسكن فيه الآمن الجديد الجميل وإذا به يصير إلى هدم وإلى حالة أسوأ مما كان عليها، يجدده الليل والنهار، ويغيره العشي والإبكار، فكل شيء يذكر بالله جل جلاله، يوم أن توجه نظرة في هذا الوجود إلا ويصيبك شيء من التأمل. أما قسوة القلوب فمن آثار الذنوب، وكل الذي يصاب به الإنسان هو بسبب الذنوب، فعليك ألا تقول وتعمل إلا خيراً، وعلى المسلم أن يتذكر قول الله عز وجل: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8]. ثقل الموازين بالطاعات والحسنات، وليتذكر الإنسان لماذا خلق؟ ولماذا أوجده الله؟ فكل لحظة ينبغي أن تسخرها لهذا الأمر فتسبح وتحمد وتهلل وتكبر وتذكر الله جل جلاله لعل الله أن يثقل موازينك، فكم من كلمة يسيرة من ذكر الله جل جلاله ثقل الله بها الميزان ورفع بها الدرجات. فعلى المسلم أن يكون دائماً ذاكراً لله سبحانه وتعالى، فمن عبرة إلى عبرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] وإذا حاول المسلم تغيير ما في قلبه من شر إلى خير فإن الله يوفقه ويسدده إلى كل خير، وهذه من الأسباب التي تزيل قسوة القلب، كذلك من الأسباب كثرة تلاوة القرآن، ولو أن الإنسان لا يحفظ إلا الفاتحة فليكررها؛ لأن قراءة القرآن من أعظم أسباب لين القلوب، وكم من حافظٍ للقرآن إذا تلاه كتبت لها ملايين الحسنات، إن هذا مما يلين القلوب بالله جل جلاله. كذلك أيضاً مما يلين القلوب لذكر الله سبحانه وتعالى: أن يبتعد الإنسان عن الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصبر نفسه على الخير. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته. اللهم إننا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم تب علينا في التائبين، وارحمنا برحمتك وأنت أرحم الراحمين. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم ألا يفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وأجر مرفوع، وعمل صالح مقبول مبرور. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

من علامات قبول الأعمال

من علامات قبول الأعمال Q إذا عمل الإنسان عملاً صالحاً، فما هي علامات قبول هذا العمل؟ وكذلك إذا تاب، هل هناك علامات لقبول توبته؟ A أما بالنسبة لأمارات القبول فهو غيبٌ لا يعلمه إلا الله سبحانه، الله وحده هو الذي يعلم من المقبول وغير المقبول، كان علي رضي الله عنه إذا كانت آخر ليلة من رمضان صاح وبكى، وقال رضي الله عنه: (ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه، ومن هو المحروم فنعزيه) فقد يكون الذنب سبباً لعدم قبول العمل، فنسأل الله أن يتقبل منا ومنك. انظروا إلى نبي الله الخليل حبيبه وصفيه عليه الصلاة والسلام، لما بنى القواعد من البيت وهو في العمل الصالح يقول: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، فكان يسأل الله القبول. ومن أمارات القبول: أن الإنسان يكون حاله بعد الطاعة أفضل من حاله قبل الطاعة. ومن علامات القبول: أن الإنسان بعد الطاعة يحسُ بانشراحٍ لعمل طاعةٍ للرب، فأنت -مثلاً- إذا تبت إلى الله ثم وجدت بعد ذلك انشراحاً لزيارة أرحامك، فتخرج من صلة رحمك لينسأ لك في أثرك، ويبسط لك في رزقك، ويزاد لك في عمرك، فتخرج تحتسب الأجر من الله، وما أن تفرغ من بر الوالدين إلا وصدرك ينشرح، فبدلاً من أن تذهب إلى بيتك لتذهب إلى محاضرة أو مجلس ذكر أو موعظة، فتجد أن الطاعات تتبع بعضها بعضاً، فلا يزال العبد المقبول يدخل في رحمات الله جل جلاله من بر إلى بر، ومن طاعة إلى طاعة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. ومن علامات قبول الأعمال الصالحة: ظهور آثارها على العبد، فإن الصلاة لها أثرٌ عظيم، ومن ذلك أنها تحفظ صاحبها -بإذن الله- من الفحشاء والمنكر، فإذا خرج المصلي من المسجد يغض بصره عن محارم الله، ويكف لسانه عن أذية المسلمين، ويحفظ فرجه عن حدود رب العالمين، فليعلم أن صلاته -إن شاء الله- مقبولة، تجده بعد فعل الطاعة، إذا جاء دافع الشهوة يقول: أعوذ بالله! أعوذ بالله! فيخشى ويخاف، فمثل هذا يرجى له القبول، ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، والله أعلم.

تحذير من القنوط من رحمة الله

تحذير من القنوط من رحمة الله Q أنا شاب ظاهري الصلاح، ولكن أحس بقسوةٍ في قلبي وأحب فعل الطاعات وأعزم على فعلها، ولكن سرعان ما أقع في المعصية، وأجد تأنيباً من نفسي، حتى أني أخشى على نفسي من القنوط واستحواذ الشيطان على قلبي، فهل من علاج لهذه المشكلة؟ A لا زال الخير موجوداً في قلبك ما دمت أنك تندم وتتألم، وأبشر بالخير، وكل من عصى الله وابتلي بالمعصية فإن الله إذا أراد به خيراً ألهمه حسن الظن بالله، فإذا ابتليت بالمعصية -ولو مئات المرات أو آلاف المرات- فتب إلى الله، فإن الله يفرح، والله يحب منك أن تقول: اللهم إني تائبٌ إليك، ويفرح بذلك -وهذا أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم- فرحاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى: (لله أفرح بتوبة عبده) فإذا ابتليت بالمعصية إياك أن تقنط! واعلم أنه لو بلغت ذنوبك عنان السماء، واستغفرت الله لغفرها لك ولا يبالي، ولو أتيت بقراب الأرض خطايا وتبت إلى الله توبة نصوحاً أتاك الله بقرابها مغفرة ولا يبالي. وانظر هذا النداء: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] الذين أسرفوا، فمهما بلغت ذنوبك، فأحب ما يكون من العاصي أنه بعد المعصية يتوب إلى الله عز وجل، وإذا تبت إلى الله فإنك تغيظ الشيطان، والذي أوصي به: من وقع في أي ذنب بعد التزامه وهدايته ألا يقنط، فإن الشيطان يقول له: إن الذنب منك ليس من غيرك، وأنت الآن ملتزم ومطيع فكيف تفعل هذه المعصية؟ أنت لا خير فيك ولو كان الله يحبك ما جعلك تعصيه، فالشيطان خبيث، فإذا قال ذلك فقل: اخسأ عدو الله، فإن رحمة الله واسعة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق منك حينما قال: (لله أفرح بتوبة عبده) فتتوب إلى الله من ذلك، واعلم أن هذا الذي تفعله من توبة تغيظ به إبليس، فما أوصيك إلا بحسن الظن بالله، وأن تعلم أن الله يحب منك التوبة، ونسأل الله العظيم أن يتوب علينا وعليكم وهو أرحم الراحمين. والله تعالى أعلم.

كيفية بر الوالدين بعد موتهما

كيفية بر الوالدين بعد موتهما Q كيف تكون الصلاة على الوالدين بعد موتهما؟ A الصلاة تطلق على معنيين: الصلاة التي هي الصلاة على الميت، ومن حق الوالد على ولده أن يشهد جنازته وأن يصلي عليه وأن يدعو له في هذه الصلاة؛ لأن هذا من أقرب الدعاء؛ لأن الشفقة والحنان الذي بينه وبين والديه تدعوه إلى الدعاء بإخلاص وصدق. أما المعنى الثاني: وهو الذي فسّر به جمعٌ من شراح الحديث: أن الصلاة بمعنى، الدعاء، ومنه قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي: ادع لهم، ولذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة عليهم والاستغفار لهم) قيل: من باب عطف الخاص على العام، فالاستغفار نوعٌ من الدعاء، فعطف الاستغفار لفضله وشرفه، فأفضل ما تقول أن تقول: ربِّ اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيرا. سبحان الله! كلمة يسيرة، ولربما يكون الوالد أو تكون الوالدة الآن في قبرها وهي أحوج منك إلى دعوة. البر أصدق ما يكون بعد الموت؛ لأنك لا تحابي ولا تجامل، وبرك من الأمور الكريمة الطيبة التي وجدنا من آثارها الحميدة وعواقبها الحميدة خيراً كثيراً. إن كثرة الدعاء للوالدين بعد الممات من الأمور الجليلة الكريمة؛ لأنه قد يكون في كربة وفي ضيق من ضيق القبر ينفس الله عنه، بفضله سبحانه ثم بدعائك كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وذكر منها- ولد صالح يدعو له) فتذكر لو أنك أنت الميت ما فتر لسان الوالد ولا فتر لسان الوالدة من الدعاء لك، فلا تشغلك الدنيا عن والديك، وما الذي تخسره وأنت جالس تقول: رب اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيراً، وتسأل الله لهما أن يوسع لهما القبر، وأن يهون عليهما السؤال في القبر، وأن يهون عليهما الحساب، واعلم أنك -والله- ما ذكرتهما بدعوةٍ صالحة وهم في القبور وضيقها إلا سخر الله لك من يدعو لك كما دعوت لهما وخاصةً الأم؛ لأن حقها كثير، وفضلها كبير، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك). كثرة الدعاء للوالدة والترحم عليها بقولك، اللهم اغفر لها اللهم ارحمها اللهم سامحها اللهم اغفر لأبي اللهم ارحمه اللهم تُب عليه اللهم سامحه اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ونحو ذلك من الدعوات الطيبة، والله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولربما تقول: اللهم افسح لأبي في قبره ونور له فيه، فيفسح له في قبره إذا دعوت بهذه الدعوة، أو ربما تسأل الله لوالديك رحمةً في القبر فيستجيب الله لك، فالله الله في كثرة الدعاء للوالدين والاستغفار لهما. وكذلك الصدقة عنهما مستحبة؛ لأن سعداً رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها -يعني: ماتت ولا أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم) فأوصاه أن يتصدق عنها فتصدق سعد رضي الله عنه ببستانٍ كامل عن أمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكانت التمرة الواحدة يتغذى منها الرجل يوماً كاملاً، فما بالك ببستانٍ كامل؟!! قدّمه للآخرة ورآه قليلاً يسيراً أمام فضل أمه عليه، وقد كان من أبر الناس بأمه رضي الله عنه وأرضاه. فعلى الإنسان أن يحرص على الدعاء وألا يغفل عن الوالدة، ونحن كلنا فينا غفلة إلا أن يرحمنا الله برحمته، فيحرص الإنسان على كثرة الدعاء للوالدين وخاصةً بعد الموت، بأن يترحم عليهما، وأن يجعل لهما شيئاً من صدقة، ينظر إلى مكهول أو إلى أيتام ويجعل لهم قسطاً في الشهر، فيأخذ من طعامه ويجعلها صدقة جارية على والديه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وهذا هو الذي ينفع، والمعروف لا يبلى، والخير لا ينسى، ومن زرع خيراً وجده، ومن التزم بالمعروف أحبه الله. نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. والله تعالى أعلم.

من مقومات السعادة الزوجية

من مقومات السعادة الزوجية Q كيف يكون الرجل سعيداً مع زوجته، مع العلم أني سعيدٌ مع زوجتي، لكنها -بطبعها- قليلة الكلام، وأنا أجد في نفسي السآمة والملل عندما لا تتحدث معي، فما هي مقومات السعادة الزوجية؟ A الحقيقة أنه لا سعيد إلا من أسعده الله، وإذا أراد الله أن يسعد الزوج بزواجه والزوجة بزواجها رزقهما الدعاء قبل الزواج، وقبل أن يتحمل المسئولية ويبتلى بالأمانة يلهج بالدعاء، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك له في زوجته وأهله وأن يصلح بعله، ولذلك قال الله عز وجل عن نبيه زكريا: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَه} [الأنبياء:90] فالذي أصلح لزكريا وأصلح لمن قبله يصلح لك زوجك، فأعظم أسباب السعادة: كثرة الدعاء. الأمر الثاني: حسن النية في الزواج، ألا يتزوج الإنسان لشهوته، ولكن يتزوج لكي يعف نفسه عن الحرام ويبتعد عن الفواحش والآثام، ويأخذ بينه وبين الله أن يبارك له في هذه الزوجة فيغض بصره عما حرم الله، ويحصن فرجه عما نهاه الله عز وجل عنه، وإذا حسنت نيته بارك الله له فيه؛ لأنه يكون له عبادة طاعةً. ومما يعين على السعادة الزوجية: الاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في تألفه ومودته ومحبته لزوجه وتواضعه وإخلاصه وجميع شمائله. كان صلى الله عليه وسلم خير زوجٍ لزوجه، يقول صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) فشهد -وهو الصادق- صلى الله عليه وسلم أنه خير الناس لأهله وزوجه. كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت لا يدخل وفي قلبه على أهله شيء، حتى كانت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها تقول: (كان إذا دخل لا يدخل من وجه الباب). وكان إذا دخل عليه الصلاة والسلام ابتدأ بالسواك حتى لا تشم منه إلا رائحة طيبة؛ لأنه طيب قد طيبه ربه، فكان يتفقد المشاعر والأحاسيس. كان إذا خرج عليه الصلاة والسلام إلى الأمة وقف على منبره فأخشع القلوب لربها، وقاد جحافل الإيمان لنصرة القرآن والدين صلوات الله وسلامه عليه، فكانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا دخل إلى بيت الزوجية دخل أكرم بعل وأكرم زوج على أهله صلوات الله وسلامه عليه، دخل بشيءٍ من الألفة والمحبة، لا يدخل وهو يشعرهم أنه عظيم وكبير، وإذا هو بذلك وتلك الألفة يرسم النموذج العالي للزوج، فالحياة الزوجية تحتاج إلى شيءٍ من الحذر وإلى شيء من التوقي وتلمس المشاعر، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينادي عائشة رضي الله عنها ويقول: (يا عائش!) يرخم مع النداء حتى إذا نادى لها رضي الله عنها وأرضاها. وما عاب طعاماً بين يديه قط صلوات الله وسلامه عليه، ولا سب ولا شتم امرأة، بل ولم يسئ إلى أحدٍ بلسانه صلوات الله وسلامه عليه، إن وجد خيراً حمد الله ورد الجميل بأجمل منه، وإن وجد غير ذلك شكر وصبر وذكر الله جل جلاله. يأتي إلى أم المؤمنين ويقول لها: (هل عندكم طعام؟ قالت: لا والله، قال: إني إذاً صائم) ولو أن رجلاً منا نادى وقال: هل عندكم طعام؟ فقالت امرأته: لا ما عندنا طعام، لأقام الدنيا وأقعدها فضيق الله عليه، وأساء فرأى عاقبة السوء فما سميت السيئة سيئة إلا لأنها تسيء إلى صاحبها، وإذا جرحت مشاعر الأهل بالسيئة ساءتك السيئة التي خرجت من لسانك. كان يحذر صلوات الله وسلامه عليه في كلامه وخطابه وندائه، وإذا وضعت عائشة رضي الله عنها الطعام والشراب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- إذا به يقسم عليها أن تشرب قبله صلى الله عليه وسلم، فتشرب قبل نبي الأمة وأحب الخلق إلى الله صلى الله عليه وسلم. إن كريم الأصل من طاب وطابت شمائله وآدابه، الرجال العظماء والفضلاء لا يرتفعون إلا بالتواضع فالزوج إذا دخل إلى بيت الزوجية وهو يرى نفسه أنه فوق المرأة والمهيمن والمسيطر فإن هذا ينعكس على مشاعره وأحاسيسه، يدخل كما دخل نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، ويعاشر كما كان يعاشر صلوات الله وسلامه عليه، فإذا جاءت المناسبات والأفراح أدخل السرور على أهله وعلى زوجه. ففي الصحيحين: لما قام الأحباش يلعبون يوم العيد في المسجد، سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله أن تنظر إليهم فما كسر خاطرها صلى الله عليه وسلم وما قال لها: أقف لك وأنا نبي الأمة حتى تنظري؟ بل قام صلى الله عليه وسلم ونعم القيام قيامه، فوقف ووقفت أم المؤمنين تنظر إليهم وهم يلعبون من وراء ظهره صلوات الله وسلامه عليه، فيقول: (هل فرغت؟ تقول: لا بعد، فيقول: هل فرغت؟ تقول: لا بعد) فانظر إلى طيب وقوفه! وانظر إلى إصرارها وطول وقوفها موقفها رضي الله عنها وأرضاها! تعلم رحمته وشفقته، تقول له: لا بعد، لا بعد، تجملت من الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعمره صلوات الله عليه في الستينات وهي صبية، وتقول: اقدروا قدر الصبية الجهلاء. الواحد منا يريد من زوجته أن تكون موطأة الكنف كثيرة الإحسان والتبعل لزوجها، ولكن لا ننظر ما الذي قدمناه لزوجاتنا، وبمجرد أن يفكر الواحد منا في حسن العشرة جاءه الشيطان من شياطين الإنس أو الجن، فأقام له الدنيا وأقعدها، وقال له: إن أحسنت إلى زوجتك فإنها تؤذيك في مستقبلك، إنك إن تواضعت لها ركبتك، وإن تذللت لها أهانتك، فلا يزال القلب يمتلئ بسوء الظن في الأهل حتى لا يستطيع الإنسان أن يتواضع لأهله، نسأل الله السلامة. ومن الناس من يدخل بيته يدخل بيته وهو دائم الأذية شديد الصراخ كثير الكلام، حتى إنك لتعجب والله من الرجل منا إذا جلس مع الناس تبسم وتهلهل وجهه وتحبب إلى الناس، ولربما جاءه رجل فأساء إليه فيسعه بحلمه ويبدي له الصبر، ولكن ما إن يدخل إلى بيته -نسأل الله السلامة والعافية- إلا كشر عن أنيابه وغير وجهه فأضر وآذى أهله، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أولئك من خيراكم) أي: الذين يضربون نساءهم، فخيار الأمة خيارهم للأهل. ما الذي نريد؟ نريد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الهدي الكريم الذي جمعه الله في آيةٍ واحدة: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فالكلمة الطيبة تلمس المشاعر والأحاسيس. ومما يوصى به لاستقامة بيت الزوجية وسعادته: أنك تتذكر دائماً أنك لست الأولى بالفضل، وهذه من الحكم المعروفة المأثورة وهي: أن الرجل الكريم لا تطيب شمائله إلا إذا تواضع للناس ألا تستوجب على الناس شيئاً، ولذلك أي إنسان أعطاه الله نعمة وأحس أن له فضلاً على الناس؛ تعالى على الناس وأهانهم وأذلهم وظلمهم حقوقهم، نسأل الله السلامة والعافية، لقد كان بعض العلماء يقول: إذا حضرت المسجد فرأيت الناس قد اجتمعوا قلت: فضل عليَّ لهم أنهم جاءوا، فلا يرى أنه ذاك العالم الذي جاء الناس لعلمه. وللرجل القوامة على المرأة كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ولكن هناك آداب وشمائل زين الله بها أهل التقوى، فإذا لم نكن طيبين بأخلاقنا وشمائلنا لأهلنا فلمن نكون؟!! وإذا لم تكن بيوتنا مبنية على المحبة والألفة فأين تكون الألفة والمحبة؟!! ومهما بدرت من زوجتك إساءة فاصبر عليها، وانظر لنفسك بعين النقص، فلا تحس أن لك كمالاً على الناس، فإذا دخلت البيت ووجدتها قد طبخت طعاماً، قلت لها: جزاك الله كل خير، وقلت الكلمة الطيبة: بارك الله فيك، أحسن الله إليك، هذه الدعوات الصالحة تجد أثرها وخيرها عليك في بيتك (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، فاحمد الله أنك وجدت امرأةً تطبخ لك، وكم من امرأةٍ تمردت على زوجها بسبب سوء أخلاقه، وإذا رأيتها غسلت ثوبك أو أحسنت إليك أو جاءتك بالشيء، قلت لها: جزاك الله كل خير فتثني عليها أمام أولادها، حتى يجلونها وتقابلك هي بالإجلال، فإذا بأولادك يحبونك ويحبونها، ويكرمونك ويكرمونها، وإذا بالبيت تنتشر فيه الرحمة، وينتشر بين أهله الحب والود الذي ينبغي أن تقوم عليه بيوت المسلمين، وأما إذا أصبح الرجل يرى أنه ذلك المستحق للاحترام، وأن أقلّ خطأ من المرأة لا يغفر، وأنه إذا زلت بلسانها قام فسبها وشتمها وربما أمام أولادها. من أعظم العيب وأقبحه أن تكون المرأة بنت خمسين أو ستين سنة وإذا بزوجها يكفكفها أمام أولادها! من أقبح العيب والله أن يكسر خاطرها ويهين كرامتها أمام أولادها! وهذا والله ليس من العشرة بالمعروف. راقب أفعالك وتصرفاتك، فالسعادة تحتاج منك إلى ثمنٍ كبير، وإلى تضحية، كان الصالحون يتأذون من زوجاتهم، ويضطهدون فلا يسمع منهم إلا الخير، وقيل: إن زكريا عليه السلام كانت امرأته تشتمه وتهينه، ومع ذلك كان صابراً، فالمرأة ابتلاء من الله، ولربما يبتليها الله بك حتى بالاحتقار. كان هناك عالم من علماء المدينة، قال لزوجته ذات يوم -وقد كانت تهينه- تعالي إلى المسجد وانظري فجاءته إلى المسجد ونظرت وإذا بالأمة قد أصغت إليه، فالمرأة لأنها تنظر إلى زوجها بعينٍ ناقصة تهين زوجها، فالمقصود: أنه لا بد من الصبر، ومن التحمل واحتساب الأجر، يبتليك الله بزوجتك لدرجةٍ في الجنة لا تبلغها بكثرة صلاة ولا صيام. عندما تدخل إلى البيت فإن سمعت خيراً قلت: الحمد الله الذي رزقني زوجة تخاف الله، وإذا رأيتها غير ذلك، قلت: اللهم لا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اهدها، اللهم أصلحها. يقولون عن رجلٍ من العلماء: أنه دخل عليه أحد طلابه، فوجد عنده ابناً باراً عجب من بره، فقال له: أتعجب من بره؟ والله لقد عشت مع أمه عشرين أو ثلاثين عاماً ما تبسمت في وجهي قط، فصبرت فعوضني الله ما ترى. الذي يريد السعادة يدخل إلى بيته بقلبٍ واحد، ما رأى من خيرٍ شكره، ويشعر أهله بأنه زوج كريم، فعندما تضع زوجتك الطعام فتشكرها، فيسمعك أولادك فيعتادون شكر الناس على الإحسان، وإذا رأوك كريماً مع زوجتك تعلموا كيف يعيشون مع الناس كراماً؛ لأن البيت مدرسة، وعلينا أن نتقي الله في أفعالنا وأقوالنا وخاصةً أمام الأبناء والبنات. فالسعادة الزوجية لا تكون ولن تكون إلا إذا عرف المسلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطبقه وسار على نهجه واحتسب الأجر عند الله عز و

أسباب تعين على قيام الليل

أسباب تعين على قيام الليل Q إن من أسباب السعادة أن يوفق العبد لقيام الليل، وإني كلما حاولت القيام لا أستطيع رغم بذل الأسباب، فهل من كلمة توجهها إليَّ؟ A قيام الليل من أجلّ الطاعات وأشرف القربات التي يرحم الله بها المؤمنين والمؤمنات، وانظر إلى نصوص الكتاب والسنة وما فيها من الدلائل العجيبة التي تدل على فضل هذه العبادة؛ لأن الله أوحى لنبيه وأمره بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]، فكان أول ما أمره أن تنتصب قدمه بين يدي الله في جوف الليل، وقد نامت العيون وهدأت الجفون، وقام العبد بين يدي الله يتلو كتاب الله ويرجو رحمته، فهي ساعات الصالحين، وأمنية المتقين، وشعار عباد الله المفلحين. ما رزق أحد قيام الليل إلا أفلح ونجح وربحت تجارته في الدنيا والآخرة: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما العبد إذا كان في جوف الليل وقام ليتهجد وترك زوجته وحبه، فقال الله: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟ فيقولون -والله أعلم- يرجو رحمتك ويخشى عذابك، فيقول الله: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي). قيام الليل خيرٌ كثير، فهو شأن الصالحين وعباد الله المفلحين، ما حبب قيام الليل إلى عبد إلا رزقه الله عز وجل الصلاح والفلاح، وكم من دعوةٍ استجيبت في ظلمات الليل! قال: (يا رسول الله! أيُ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر) جوف الليل الأظلم، إذا نامت العيون، وهدأت الجفون. ثم إن هذه العبادة تربي في الإنسان الإخلاص لله جل جلاله، فلا أحد يراك ولا يعلم بك إلا الله، وإنما تتقلب بين يديه، وهذه العبادة تعين الإنسان على كثيرٍ من الخير إذا أصبح، فمما يعين على أمور الدنيا إحياء الليل في طاعة الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءته فاطمة -كما في الحديث الصحيح- تسأله خادماً: قال لها: (أولا أدلك على خير من ذلك؟ إذا آويت إلى فراشك، تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرينه أربعاً وثلاثين، فذلك خيرٌ لكِ من خادم) فإن هذا الذكر من المجرب أنه إذا تركه الإنسان وجد أثره في رزقه وحاله. فذكر الله في الليل فيه خير كثير، ثم إن الإنسان إذا أصبح يتلألأ وجهه من نور الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور، والصدقة برهان) فمن أكثر من قيام الليل تلألأ وجهه بنور العبادة {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] أي: سيما نور العبادة، قال بعض السلف: (كان الرجل من الصحابة إذا أصبح كأن وجهه الشمس من نور العبادة). يتقلب بين يدي الله في جوف الليل، فلا يزال العبد بخير إذا أقام الليل وذكر الله في ليله وفي جوف الليل الأظلم سأل الله في الساعة التي تستجاب فيها الدعوة. وأما بالنسبة لأعظم الأسباب التي تعين على ذلك فأعظمها وأجلها وأولها: كثرة الدعاء، بأن يرزقك الله عز وجل قيام الليل. والأمر الثاني: أن تكثر من تلاوة القرآن، فإن القرآن يحبب في الطاعة كلها وبالأخص في قيام الليل. ثم إن مما يعين على قيام الليل: علم الإنسان بعظيم أجره وجزيل ثوابه، فإن الركعة في جوف الليل الأظلم لها أجر كبير، خاصةً إذا كانت على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأطال قراءة القرآن، وتلذذ بمناجاة الحليم الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: وهذا أحد الصحابة قرأ سورة الكهف، فجاءت سحابةٌ أو غمامة، فقال رسول الله: (اقرأ فلان فيك السكينة تنزلت لقراءة القرآن) وإذا نزلت السكينة على العبد ثبت الله قلبه، ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يحافظ على قيام الليل إلا وجدته في الصباح غالباً مأموناً من الفتنة بإذن الله عز وجل. فاحرص بارك الله فيك على هذا الخير. أما ما يمنع الإنسان من قيام الليل: قال سفيان الثوري رحمه الله: (أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل ستة أشهر). فإن عقوق الوالدين وقطيعة الرحم -نسأل الله السلامة والعافية- والغيبة والنميمة وسب الناس واحتقارهم من أعظم الآفات التي تحول بين المهتدي والهداية، وكم من شابٍ مهتدٍ التزم بدين الله، فكان في بداية هدايته عفيف اللسان والجنان والجوارح والأركان، فكان من أكمل الناس إيماناً، ولما غيّر غيّر الله ما في قلبه، فأصبح يتكلم في زيدٍ وعمرو وينتقص زيداً وعمراً، ولربما تكلم في عالمٍ أو داعية أو نحو ذلك، فبلي بالفتنة على قدر ما أصاب من الذنوب. فليتق الله الإنسان وليتفقد نفسه، فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. نسأل الله العليم أن يرزقنا السداد والرشاد. والله تعالى أعلم.

صدق اللجوء إلى الله سبب في الهداية

صدق اللجوء إلى الله سبب في الهداية Q من ظن أن السعادة في إشباع الرغبات والشهوات والإعراض عن طاعة الله، ثم علم بعد ذلك أن السعادة في غير ما سبق، فكيف يترك هذه المعاصي، مع أنه شُقي بها دهراً طويلاً وهو يظن أنه يحسن العمل؟ A أخي في الله! إذا أراد الله لعبده خيراً رزقه قوة الرجاء والإيمان به سبحانه وتعالى، فالشيطان قد قعد لك على طريق التوبة، يقول لك: لم تتوب؟ ولم تترك هذه المعاصي ما دمت قد ألفتها؟ ولكن والله ثم والله -وأقسم موقناً بالله- أنك إن صدقت مع الله صدقك الله، وأنك إن تركت شيئاً لله أبدلك الله خيراً منه. فمن ابتلي بالشهوات والفتن والملهيات ثم أعرض عنها لله وفي الله فإن الله لا يخيبه، وسيعوضه إيماناً يجد حلاوته في قلبه وحاله، وسيجد عاقبة ما فعل من الخير. أخي في الله! لا تيأس ولا تظن أن هذه المعاصي والفتن تمنعك وتحول بينك وبين الله، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي) فالرجاء واليقين في الله سبحانه وتعالى، كم من أناس نعلمهم وقد أسرفوا في المعاصي ولكن الله منّ عليهم في آخر اللحظات بقلوب أقبلت بالصدق واليقين، فبدل الله أحوالهم، فلا إله إلا الله كيف بدلت سيئاتهم حسنات! وكيف تأذن الله بغفران الخطيئات وزيادة في الدرجات {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] لا تعجز، وكن قوي الإيمان بالله جل جلاله. وإني أعرف رجلاً كنت معه وهو في السبعين من عمره، حدثني وهو صائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه كان مبتلىً بشرب الخمر -أعاذنا الله وإياكم- منذ كان عمره الخامسة عشرة حتى بلغ الأربعين، فدخل ذات يومٍ على طبيب فوجد أن الخمر قد استنفذ جسمه والعياذ بالله، فقال له الطبيب: يا فلان! لا دواء لك وذلك بسبب الذي كنت فيه، فوقف المريض عاجزاً حائراً، قال: فلما قال لي ذلك كأنني انتبهت من المنام، وقلت له: ليس عندك علاج؟ قال: نعم، ليس لك علاج عندي، قال: فنزلت من ساعتي تلك، وأعلنتها توبةً لله، وصليت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلقت إلى بيتي فلبست إحرامي تائباً إلى الله، ومضيت إلى مكة -وكان بينه وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام- قال: فلما وصلت إليها في ظلمة الليل قبل السحر أديت العمرة، ولما فرغت منها التجأت إلى الله وبكيت وتضرعت، وقلت: يا رب! إما أن تشفيني وإما أن تقبض روحي وأنا تائب، فشعرت في نفسي أن شيئاً يحركني إلى أن أشرب من ماء زمزم، فنزلت إلى زمزم، فأخذت دلواً ومن شدة الظمأ شربته كاملاً، فلما شربت هذا الدلو إذا ببطني تتقلب، فشعرت بالقيء -أكرمكم الله- فانطلقت فلم أشعر إلا عند باب إبراهيم وقد قذفت ما في بطني وإذا بها -أكرمكم الله- قطعٌ من الدم مظلمة، فلما قذفتها شعرت براحة عظيمة، وشعرت بعظمة الله جل جلاله، وأيقنت أنه من التجأ إلى الله لا يخيب، وأن الله بيده من الخير ما لم يخطر على بال. يقول: فرجعت مرةً ثانية في يقينٍ أكثر وإيمانٍ أعظم، فدعوت وابتهلت وسألت الله وبكيت بين يديه، وقلت: يا رب! إما أن تشفيني وإما أن تتوفاني على هذه التوبة، قال: فإذا بنفسي تحدثني بزمزم مرةً ثانية، فشربت الدلو مرةً ثانية، وحصل لي ما حصل في المرة الأولى، فانطلقت حتى بلغت الباب فقذفت -أكرمكم الله- فإذا بالذي قذفته أهون من الأول، ثم رجعت مرةً ثالثة، وإذا بي بإيمانٍ ويقينٍ أكثر -لأنه نظر إلى عظمة الله وجلاله وقدرته سبحانه وتعالى- دعوت وابتهلت، فإذا بي أشعر أنني أحب الشرب، فنزلت وشربت من زمزم مرة ثالثة فتحرك بي كما في الأولى، فقذفت فإذا به ماء أصفر. قال: فشعرت براحةٍ عجيبة ما شعرت بها منذُ أن بلغت، ثم رجعت ودعوت الله سبحانه وتعالى وابتهلت إليه فألقى الله عليَّ السكينة فنمت وما استيقظت إلا على أذان الفجر، فقلت: والله لا أفارق هذا البيت ثلاثة أيام، فما زال يبكي، ويسأل الله العفو والمغفرة، ويشرب من ماء زمزم. قال: ثم رجعت إلى المدينة بعدها، فلما استقر بي المقام أتيت إلى الطبيب المداوي، فوقفت عليه، فنظر في وجهي فإذا به قد استنار -والحمد لله- من الهداية، فلما جاء كشف عليّ اضطربت يده وهو لا يصدق ما يرى، ثم التفت إلي وقال لي: يا عبد الله! إن الله قد أنعم عليك بشيء عظيم، يعني: هذا الشيء الذي أنت فيه -بعرف الأطباء- لا يمكن أن يصل إليه طبيب، ولكن الله هو الذي تولاك، ثم استقام هذا الرجل من ذلك الوقت لمدة ثلاثين عاماً، يقول لي: وأنا أحدثك اليوم صائمٌ وأنتظر من الله حسن الخاتمة. وقد توفي رحمه الله على خير. منذُ الخامسة عشرة إلى الأربعين وهو يشرب الخمر، وأنتم تعرفون فتنة الخمر وبلاءها، ومع ذلك تاب إلى الله فتاب الله عليه، لا إله إلا الله! والله أعلم كم من أبواب رحمةٍ فتحها على المعذبين، الله أعلم كم من أبواب برٍ وإحسان أغدقها على عباده الموقنين، أيقن بالله وثق بأن الله سبحانه وتعالى سيعطيك فلن يخيب الله رجاءك. من هذا الذي وقف بباب الله فطرده عن بابه؟ ثق ثقة تامة أنك عندما تعلنها توبة إلى الله، فإن الله يحب منك ذلك، ووالله ما دعوت ربك ورجوته، وملأت قلبك بحبه إلا أراك الله السعادة في الدنيا والآخرة، فقد قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً) ويفرح بتوبة التائبين سبحانه، رغم أن العبد مذنب ومخطئ ومسيء، ولكن الله يفرح بتوبته! ما أرحمه وما أكرمه سبحانه لا إله إلا هو! يفرح بتوبة التائبين، والتوبة لنا فلن نبلغ ضره فنضره أو نبلغ نفعه فننفعه (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، ونسألك أن تتوب علينا وعلى عبدك هذا وعلى جميع عبادك المؤمنين. اللهم تب علينا في التائبين، وانشر لنا من رحمتك يا أرحم الراحمين، واغفر لنا إنك أنت خير الغافرين. والله تعالى أعلم.

تحذير المسلمين من فتنة النظر إلى ما حرم الله

تحذير المسلمين من فتنة النظر إلى ما حرم الله Q يظن كثير من الناس أن السعادة تحصل بالنظر إلى الأفلام والمسلسلات، وسماع الأغاني وغيرها، عن طريق القنوات الفضائية والدشوش، ولهذا ربما يتفاخر الناس في المجالس بما يشاهدونه بالدش أو عن طريق التلفاز وهذا معلومٌ؛ لأنه لم يعد يخلو منه بيت، حتى ظن بعض الآباء أنه لا يمكن أن يعيش في بيته بدون هذه الدشوش، أو بدون مشاهدة الأفلام عن طريق الفيديو أو غير ذلك. فنرجو من فضيلتكم تصحيح هذا الظن، وبيان انعكاسه وآثاره على المجتمعات الإسلامية؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: أولاً: لا ينبغي أن يعمم الإنسان في الحكم، أو يقول: إن كثيراً من البيوت فيها كذا وكذا، لا زال -ولله الحمد- الخير موجوداً، ولا يزال في الناس بقية خير، والخير موجود إلى قيام الساعة، ولقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يوجد المنافقون والمرجفون، وكان يرى ابتلاء المؤمنين؛ لكي يظهر صدق الصادقين، وثبات الموقنين، ويظهر -والعياذ بالله- فساد المفسدين: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة} [الأنفال:42]. ثانياً: ليعلم كل من ابتلي بالنظر إلى ما حرم الله أن الله سائلك عما ترى، ومحاسبك على نعمة البصر التي أنعم بها عليك، الله أعلم كم من كفيفٍ للبصر يتمنى لحظةً يرى فيها أهله وولده! الله أنعم عليك بهذه النعمة وهو سائلك ومحاسبك ومجازيك بين يديه، فعليه أن يتقي الله في نفسه؛ وأرجو من الله ألا يكون فينا من ابتلي بهذا الشيء، ونسأله أن يحيينا على السلامة، ولا نزكي أنفسنا على الله فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن. هذا البلاء وهو بلاء النظر، سواء كان في رؤية هذه الأشياء أو في غيرها، فلربما يفتن الإنسان في بصره وهو في طريقه إلى مسجده، فعليك أن تعلم أن البصر نعمة، وأنه لن تزول قدمك بين يدي الله حتى يسألك عن جميع ما أبصرت عيناك، وتراها أمام عينيك في يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. ثم اعلم -أخي في الله- أن النظر يؤثر على القلب، وإذا تعرض العبد للفتنة فقد يزيغ قلبه فلا يهتدي أبداً والعياذ بالله، فاحذر من الفتن، فلربما فتنةٌ واحدة تهلك الإنسان دهره كله، نسأل الله السلامة والعافية، وإياك أن تقول: إنها لحظات يسيرة! وساعات قليلة! فإن الله سبحانه وتعالى إذا غضب على عبدٍ أهلكه: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] الله يغضب على البصر والجوارح والأركان، يغضب على بصرك إذا نظرت إلى الحرام، ويغضب على لسانك إذا تكلمت بالآثام، ويغضب بسبب جوارحك وأركانك إذا اقترفت الحرام، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد ما بين المشرقين في نار جهنم) وفي روايةٌ له: (يهوي بها في النار سبعين خريفاً). كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوفاً على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر على المسلم أن يحمد الله إذا نجاه من ذلك الجهاز، ثم إذا تساهل في ذلك وأدخله على أهله وأولاده فإن الله يحاسبه وسيقف بين يدي الله في كل فتنة أدخلها على أهله وولده، والله لن تزول قدمه بين يدي الله حتى يتعلق به أولاده، ويقولون: يا رب! سل أبانا كيف أدخل علينا هذا البلاء؟ ولربما نظر الولد -وهو حديث السن- إلى نظرةٍ واحدة فتنت قلبه إلى الأبد. إن الشهوات أضرارها عظيمة، ومن زلق في الشهوات هلك، فعلى المسلم أن يعلم أن الأولاد أمانة في عنقه، والله عز وجل سائله عنهم ومحاسبه بين يديه عنهم، وإذا أشقى ولده بالسوء والفتنة فإنه يحمل وزره بين يدي الله عز وجل: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، فعلى المسلم أن يتقي الله ويحمده على العافية، فكم من أمور تسر بها العيون من ذكر الله وطاعته وتربية الأولاد على الخير. إن هذه الأشياء التي يفتخر بها ويبتهج بها وهي -والله- شقاء وبلاءٌ وعناء، وهذا الذي يراه من المعصية والسوء والدعوة إلى الإثم بلاءٌ على العبد في دينه ودنياه وآخرته. فينبغي على المسلم أن يتقي الله في نفسه وفي أهله وولده، وأن يحفظ هذه الرعية التي استرعاه الله إياها، قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راعٍ وهو ومسئول عن أهل بيته). فليتق الله كل من ابتلي بهذا البلاء، وإذا كان مبتلىً ولا بد فليحفظه عن أولاده وعن زوجته، حتى لا يبتلى بغضب الله عز وجل عليه، وحتى لا يحمل أوزارهم. نسأل الله العظيم بعزته وجلاله وعظمته وكماله في هذه الساعة المباركة أن يمن بالهداية على ضال المسلمين، اللهم اهد قلوبهم واشرح صدورهم، اللهم أصلح شباب المسلمين.

الحياة الطيبة

الحياة الطيبة إن للحصول على الحياة الطيبة أسباباً، ألا وهي التوبة من المعاصي، واستشعار النعمة، وفعل الفرائض، وترك النواهي، فبفعل هذه الأسباب يصبح العبد قريباً من الله عز وجل، حينها سينال الحياة الطيبة، وسيعيش السعادة الحقيقية بقربه سبحانه. ومن أهم الثمرات للحياة الطيبة استجابة الدعاء، فلنحرص على الحصول على هذه الحياة الطيبة.

التوبة واستشعار نعم الله من أسباب الحصول على الحياة الطيبة

التوبة واستشعار نعم الله من أسباب الحصول على الحياة الطيبة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده فاطر الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى والمجتبى لخير الرسالات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم تتفطر فيه الأرض والسماوات. أما بعد: أيها الأحبة في الله! الحديث عن الحياة الطيبة هو الحديث الذي ينبغي أن يعيشه كل واحد منا؛ لأن الحياة إما للإنسان وإما عليه، تمر ساعاتها ولحظاتها وأيامها وأعوامها على الإنسان، وتقوده إلى المحبة والرضوان؛ حتى يكون من أهل الفوز والجنان، أو تمر عليه فتقوده إلى النيران، وإلى غضب الواحد الديان. الحياة إما أن تضحكك ساعة لتبكيك دهراً، وإما أن تبكيك ساعة لتضحكك دهراً، الحياة إما نعمة للإنسان أو نقمة عليه، هذه الحياة التي عاشها الأولون وعاشها الآباء والأجداد، وعاشها السابقون، وصاروا إلى الله عز وجل بما كانوا يفعلون، الحياة معناها كل لحظة تعيشها، وكل ساعة تقضيها، ونحن في هذه اللحظة نعيش حياة إما لنا وإما علينا، فالرجل الموفق السعيد من نظر في هذه الحياة وعرف حقها وقدرها، فهي والله حياة طالما أبكت أناساً فما جفت دموعهم، وطالما أضحكت أناساً فما ردت عليهم ضحكاتهم ولا سرورهم. أحبتي في الله! الحياة الدنيا جعلها الله ابتلاءً واختباراً وامتحاناً تظهر فيه حقائق العباد، ففائز برحمة الله سعيد، ومحروم من رضوان الله شقي طريد، كل ساعة تعيشها إما أن يكون الله راضياً عنك في هذه الساعة التي عشتها، وإما العكس والعياذ بالله، فإما أن تقربك من الله، وإما أن تبعدك من الله، وقد تعيش لحظة واحدة من لحظات حب الله وطاعته تغفر بها سيئات الحياة، وتغفر بها ذنوب العمر، وقد تعيش لحظة واحدة تتنكب فيها عن صراط الله، وتبتعد فيها عن طاعة الله؛ تكون سبباً في شقاء الإنسان في حياته كلها، نسأل الله السلامة والعافية. فهذه الحياة فيها داعيان: داعٍ إلى رحمة الله ورضوان الله ومحبته، وأما الداعي الثاني: فهو داعٍ إلى ضد ذلك، من شهوة أمارة بالسوء، أو نزوة داعية إلى خاتمة السوء، والإنسان قد يعيش لحظة من حياته يبكي فيها بكاء الندم على التفريط في جنب ربه، يبدل الله بذلك البكاء سيئاته حسنات، وكم من أناس أذنبوا، وكم من أناس أساءوا، وكم من أناس ابتعدوا وطالما اغتربوا عن ربهم، فكانوا بعيدين عن رحمة الله، غريبين عن رضوان الله، وجاءتهم تلك الساعة واللحظة وهي التي نعنيها بالحياة الطيبة؛ لكي تراق منهم دمعة الندم، ولكي يلتهب في القلب داعي الألم؛ فيحس الإنسان أنه قد طالت عن الله غربته، وقد طالت عن الله غيبته؛ لكي يقول: إني تائب إلى الله، ومنيب إلى رحمته ورضوانه! وهذه الساعة ساعة الندم هي مفتاح السعادة للإنسان، وكما يقول العلماء: إن الإنسان قد يذنب ذنوباً كثيرة، ولكن إذا صدق ندمه وصدقت توبته بدل الله سيئاته حسنات، فأصبحت حياته طيبة بطيب ذلك الندم، وبصدق ما يجده في نفسه من الشجا والألم، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحيي في قلوبنا هذا الداعي إلى رحمته، وهذا الألم الذي نحسه من التفريط في جنبه. أحبتي في الله! نريد من كل واحد منا أن يسأل نفسه سؤالاً عن الليل والنهار، كم يسهر من الليالي؟! وكم يقضي من الساعات؟! كم ضحك في هذه الحياة؟! وهل هذه الضحكة ترضي الله عز وجل عنه؟ وكم تمتع في هذه الحياة؟! وهل هذه المتعة ترضي الله عز وجل عنه؟ وكم سهر؟! وهل هذا السهر يرضي الله عنه؟ وكم وكم؟ يسأل نفسه أسئلة، وقد يبادر الإنسان ويقول: لماذا أسأل هذا السؤال؟ نعم! تسأل هذا السؤال؛ لأنه ما من طرفة عين ولا لحظة تعيشها إلا وأنت تتقلب في نعمة الله، ومن الحياء والخجل مع الله أن نستشعر عظيم نعمة الله علينا، وأن نحس أننا نطعم طعام الله، وأننا نستقي من شراب خلقه الله، وأننا نستظل بسقفه، وأننا نمشي على أرضه، وأننا نتقلب في رحمته، فما الذي نقدمه في جنبه؟ فليسأل الإنسان نفسه. يقول الأطباء: إن في قلب الإنسان مادة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) مات في لحظة، فأي لطف وأي رحمة وأي عطف وأي حنان من الله يتقلب فيها الإنسان. يسأل الإنسان نفسه عن رحمة الله فقط: إذا أصبح الإنسان وسمعه معه، وبصره معه، وقوته معه، فمن الذي حفظ له سمعه؟ ومن الذي حفظ له بصره؟ ومن الذي حفظ له عقله؟ ومن الذي حفظ له روحه؟ فليسأل نفسه من الذي حفظ عليه هذه الأشياء؟ من الذي يمتعه بالصحة والعافية؟ هاهم المرضى على الأسرة البيضاء يتأوهون ويتألمون، والله يتحبب إلينا بهذه النعم، يتحبب إلينا بالصحة، بالعافية، بالأمن، بالسلامة، كل ذلك فقط لكي نعيش هذه الحياة الطيبة.

من أسباب الحصول على الحياة الطيبة فعل الفرائض وترك النواهي

من أسباب الحصول على الحياة الطيبة فعل الفرائض وترك النواهي إن الله تعالى يريد من عبده أمرين: الأمر الأول: فعل فرائضه. والأمر الثاني: ترك نواهيه وزواجره، ومن قال: إن القرب من الله عز وجل فيه الحياة الأليمة أو فيه الضيق، فقد أساء الظن بالله، والله! إذا ما طابت الحياة في القرب من الله فلن تطيب بشيء سواه، وإذا ما طابت بفعل فرائض الله وترك محارم الله فوالله لا تطيب بشيء سواه، ويجرب الإنسان متع الحياة كلها فإنه والله لن يجد أطيب من متعة العبودية لله؛ بفعل فرائض الله وترك محارم الله. أنت مأمور بأمرين: إما أن يأتيك الأمر: افعل أو لا تفعل، إذا قمت بفعل أي شيء في هذه الحياة فاسأل نفسك: هل الله عز وجل أذن لك بفعل هذا الشيء أم لم يأذن لك؟ فالأجساد والقلوب والأرواح ملك لله، ينبغي للإنسان إذا أراد أن يتقدم أو يتأخر أن يسأل نفسه، هل الله راضٍ عنه إذا تقدم؟ فليتقدم، أو الله غير راضٍ عنه؟ فليتأخر، فوالله ما تأخر إنسان ولا تقدم وهو يرجو رحمة الله إلا أسعده الله.

السعادة الحقيقية في القرب منه سبحانه

السعادة الحقيقية في القرب منه سبحانه إن السعادة الحقيقية والحياة الطيبة تكون بالقرب من الله، القرب من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، فالأمر أمره، والخلق خلقه، والتدبير تدبيره، ولذلك تجد الإنسان دائماً في قلق وتعب، تجد الشخص يتمتع بكل الشهوات، ومع ذلك تجده من أكثر الناس آلاماً نفسية، وأكثرهم قلقاً نفسياً، وأكثرهم ضجراً بالحياة، واذهب وابحث عن أغنى الناس تجده أتعب الناس في الحياة، لماذا؟ لأن الله جعل راحة الأرواح في القرب منه، وجعل لذة الحياة في القرب منه، وجعل أنس الحياة في الإنس به سبحانه وتعالى. والصلاة الواحدة يفعلها الإنسان من فرائض الله، بمجرد ما ينتهي من ركوعه وسجوده وعبوديته لربه فإنه ما يخرج من مسجده إلا ويحس براحة نفسية، والله لو بذل لها أموال الدنيا ما استطاع إليها سبيلاً، إذاً الحياة الطيبة في القرب من الله، والحياة الهنيئة في القرب من الله، إذا ما طابت الحياة بالقرب من الله فبمن تطيب؟

عوائق القرب من الله

عوائق القرب من الله هناك ثلاثة عوائق تمنعك من القرب من الله: أولها: الشهوة التي تحول بينك وبين القرب من الله. ثانيها: سوء الظن بالله. ثالثها: الشيطان الذي أخذ على نفسه العهد أن يبعدك من الله عز وجل. فأما الشهوة: فهي لذة ساعة وألم دهر شهوة اللهو واللعب الذي وصف الله عز وجل به هذه الحياة الدنيا أنها لهو ولعب، ولكن كم من أجساد لهت ولعبت وهي الآن تتقلب في عذاب القبور! وكم من أجساد لهت ولعبت ترى الآن الضنك في ضيق القبور! وكم من أناس الآن تضيق عليهم اللحود، هؤلاء يتمنون لحظة واحدة من ذكر الله وطاعته. لن تعرف قيمة هذه الحياة ولا حقيقة هذه الشهوة التي دعت إلى معصية الله، إلا إذا جاء وقت فراق هذه الحياة، ولن تجد ندماً أصدق من ندم الإنسان إذا ودع هذه الحياة، وسيعرف الإنسان حقيقة الشهوة التي هي أول العوائق إذا فارق الحياة، وبمجرد أن تأتي لحظة الفراق تبكي بكاء الندم، ويقول الإنسان -ولو كان صالحاً-: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، يتمنى -ولو كان صالحاً- أن يرجع؛ لكي يزيد من صحيفة العمل، ولا يغتر الإنسان ويقول: إن هذه الساعة بعيدة؛ لأنه شباب، فكم من حوادث أخذت أناساً في عز الشباب وزهرته، وشدة النشوة واكتمال العمر، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعرف حقيقة هذه الشهوة، والله عز وجل لم يحرمنا من الشهوة، ولا منعنا من اللذة، بل جعل للشهوة موضعاً ومكاناً معيناً، أميناً سليماً نقياً، ولا يأذن لك أن تضع الشهوة في غير هذا المكان. أما الأمر الثاني من العوائق فهو: سوء الظن بالله، وبعض الناس إذا قلت له: أقبل على الله! يقول لك: يا أخي! لماذا تضيق عليّ؟! دعني أتمتع بالحياة! دعني أسهر وأتمتع بسهري، وأذهب وآتي وأتمتع بذهابي دون قيود أو حدود! يحس أن الحياة الضنكة والأليمة إذا اقترب من الله!! فوالله ثم والله! أنه لا أطيب من القرب من الله! ومن أراد أن يجدد لذة القرب من الله فليزدد من طاعة الله عز وجل، وليزدد من الصالحات، وليزدد من الأعمال التي تحبب إلى الله عز وجل، وتدعوه إلى مرضاته؛ حتى يحس ساعتها بلذة العبودية لله تبارك وتعالى. أما الأمر الثالث الذي يعيق الإنسان عن طاعة الله ومحبته فهو: الشيطان الرجيم، وهذا الشيطان على نوعين: شيطان إنس، وشيطان جن، فمن أراد القرب من الله عز وجل فعليه أن يفر من شياطين الإنس وشياطين الجن، أما شياطين الإنس فهم الذين يزهدون في طاعة الله، وييئسون الإنسان ويقنطونه من رحمة الله، فينبغي للإنسان ألا يصغي إليهم، وليعلم أن الصديق الصادق في محبته ومودته وخلته، هو الذي يهدي إليه عيوبه، ويدعوه إلى محبة ربه وذل العبودية لخالقه. وأما شيطان الجن فهي الوساوس التي يقذفها في قلب الإنسان، ويقول له: انتظر فلا زال في العمر بقية، ولا تعجل، وتمتع بهذه الحياة، تمتع بالشهوات فيها، واسهر ما شئت من الليالي، وافعل ما شئت من لذات هذه الحياة، فإن الحياة طويلة، ولا يزال يمنيه ويسليه حتى يسلمه إلى عاقبة الردى، نسأل الله جل وعلا أن يعصمنا وإياكم من ذلك.

كيفية اجتناب عوائق القرب من الله

كيفية اجتناب عوائق القرب من الله إخواني في الله! الحياة الطيبة متمثلة في ظل مخالفة هذه الثلاثة الأمور، أما داعي الشيطان فيستبدله الإنسان بداعي الرحمن، وأما شياطين الإنس فيستبدلهم بدعاة الخير من الصالحين وعباد الله المتقين، وأما سوء الظن بالله فيبدله بحسن الظن بالله عز وجل. أما إبدال داعي الشطان بداعي الرحمن؛ فاعرض نفسك على كتاب الله عز وجل، واجعل لك كل يوم جلسة مع القرآن، لا يحس الشاب أن هذا القرآن نزل لغيره، والله إنك مخاطب بالقرآن شئت أم أبيت، اقتربت أو بعدت، وكل إنسان يوم القيامة سيأتي هذا القرآن حجة له أو حجة عليه، لا يقول الإنسان: إن هذا القرآن لغيره، القرآن لك وأنت المخاطب به ولو كنت من أبعد الناس عن طاعة الله، فأنت مخاطب بهذا القرآن، وسيكون هذا القرآن حجة لك أو حجة عليك، واستبدال هذا الداعي وهو كتاب الله عز وجل ففيه طمأنينة القلوب، وانشراح الصدور، والله تعالى يقول في كتابه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فاعرض نفسك على كتاب الله لتعيش في رحمة الله إذ يخاطبك عز وجل، واعرض نفسك على داعي الله عز وجل بتحقيق ما أمر الله به في القرآن، وترك ما نهى الله عز وجل عنه في كتابه. وأما إبدال دعاة السوء بدعاة الخير فالجلوس مع الصالحين، وغشيان حلق الذكر التي لا يشقى بهم جليس، فزيارة الصالحين، والأنس بهم ومحبتهم خير للإنسان في الدنيا والآخرة، والله هم القوم ونعم القوم، ما جلس إنسان مع رجل صالح إلا وجد منه الخير: لا يدعوه إلا لصلاح دينه ودنياه وآخرته، وأما قرين السوء فعلى العكس من ذلك، فهو الذي يدعو إلى محارم الله، ولو سأل الإنسان نفسه عن أي معصية فعلها لوجد وراءها داعي سوء، ووجد وراءها شيطان الإنس الذي حبب وسهل في الوصول إليها. فيستبدل الإنسان الأشرار بالأخيار، ويقول للأخيار: أريد الجلوس معكم، أريد الأنس بكم، فيزورهم ويجلس معهم، ولذلك قد يأتي الرجل إلى مجلس من مجالس الذكر فيجلس مع الصالحين جلسة واحدة، وقد تكون هذه الجلسة سبب في نجاته من النار، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله إذا أنزل أهل الجنة في الجنة، وتمتعوا بما هم فيه من النعيم، قالوا: يا ربنا! كيف نتنعم في الجنة وإخواننا يعذبون؟) إخوانهم من؟ أناس كانوا معهم ولكن كانت عندهم سيئات، مثلاً: رجل كان مع الصالحين ولكن عنده سيئات كأن يشرب الخمر، أو يزني، أو يفعل أي شيء من المحرمات -نسأل الله السلامة والعافية- فشاء الله أنه لم يتب من هذه الأشياء، لما جاء في يوم القيامة وأدخل النار، فإذا دخل ذلك الرجل الصالح -الذي جلس معه- الجنة يقول: يا رب! كيف أتنعم بنعيم الجنة وأخي يعذب؟ فيأذن الله عز وجل بالشفاعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يزال الرجل يشفع حتى يشفع للرجل الذي جلس معه لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل)، لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل توجب للإنسان الشفاعة، فهذه من ثمار الجلوس مع الصالحين. ومن ثمار الجلوس مع الصالحين: أن القلوب والصدور تنشرح وتطمئن بذكر الله عز وجل، ولذلك تجد الإنسان إذا جلس مع الصالحين يقوم ونفسه معلقة بالسماء، معلقة بطاعة الله، يريد أن يفعل أي خير يقربه إلى الله، والله ما جلس الإنسان مع صالح موفق إلا دله على الله، وهذا والله هو الصديق، الذي تقوم من عنده وحالك أصلح من حالك قبل الجلوس معه، بعض الناس مبارك إذا جلست معه تقوم من عنده وقلبك معلق بالله، وفؤادك وروحك تريد رضوان الله، لا تريد إلا شيئاً يدلك على الله، ولا تريد إلا خصلة من خصال الخير تقربك إلى الله، ومجلس واحد من ذكر الله عز وجل قد يجعل الإنسان يغير حياته كلها، إذا صدق في عبوديته لله، وتأثر بما يقال له من أوامر الله ونواهيه. المقصود أن الجلوس مع الصالحين يعتبر من أهم الأسباب التي تدل الإنسان على ربه، والجليس الصالح هو الذي إذا نسيت الله ذكرك، وإذا ذكرت الله أعانك، والكلمة الطيبة من الرجل الطيب تستطيب بها القلوب، والنصيحة الصالحة من الرجل الصالح يصلح الله بها الأحوال، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم مجالس الصالحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن مجالس الصالحين تغشاها الملائكة، وهي حلق الذكر التي تحفها الملائكة إلى السماء، ويطيب بها وقت الإنسان وتطيب بها حياته. وأما استبدال سوء الظن بحسن الظن فهذا أمر مهم جداً لكل إنسان، فالله تعالى فوق ما تظن من الرحمة، إن تقربت منه شبراً تقرب منك ذراعاً، وإن تقربت منه ذراعاً تقرب منك باعاً، وإن أتيته تمشي أتاك هرولة، كل واحد ينبغي عليه أن يكون عنده شعور وعلم أنه لا أرحم به من الله عز وجل. والله لو أن الإنسان حمل ذنوب هذه الحياة كلها وجاء في لحظة واحدة تائباً إلى الله، منكسراً بين يدي الله، يرجو رحمة الله، والله! لا يخيبه الله من رحمته، ولا يقنطه من روحه سبحانه وتعالى، فهو أكرم من سئل، وأعظم من رجي وأُمل، وفي قصص التائبين عبر، فإن الإنسان قد يتوب من ذنوب الحياة ويجعل الله عز وجل توبته في لحظة واحدة موجبة لغفران حياته كلها، ولذلك أصدق شاهد أن بعض الحجاج يقدم على الله عز وجل في هذه البلاد الطيبة، وعمره سبعون سنة وهو لا يعرف الله عز وجل، يعيش في معاصٍ وذنوب وسيئات، فيأتي إلى الله عز وجل في آخر عمره تائباً منيباً، لا تتمالك عينه الدمعة. وهذه قصة أحد هؤلاء: كنت مع رجل من كبار أهل المدينة، وقال لي: في حج هذه السنة حصلت عبرة، يقول: كان هناك أحد أصدقائنا نخشى الجلوس معه من كثرة معاصيه، وكثرة ما يفعل والعياذ بالله من المعاصي، يقول: فشاء الله عز وجل في آخر حياته قبل الحج أن ابتلاه الله بمرض، فدخل المستشفى وأجريت له عملية، فخرج من المستشفى منهوك القوى، في حالة لا يعلمها إلا الله عز وجل، يقول: فجلس فترة النقاهة بعد العملية -وهذا قبل الحج بشهر تقريباً- فارتاحت واطمأنت نفسه، فشاء الله عز وجل مع المرض وما له في الإفاقة من المرض إلا أيام قليلة، واقتربت أيام الحج، وإذا به يصيح على أبنائه وهو رجل ثري في نعمة وجاه، يصيح على أبنائه ويقول: أريد الحج! قالوا: يا أبانا أنت ضعيف ومريض، وما تستطيع أن تحج وفيك عملية، قال: أريد الحج! فما كان من أبنائه إلا أن أعانوه على الحج، وكانت معه امرأته، فشاء الله عز وجل أن قدم إلى جدة، ومضى في اليوم السابع يريد الحج، وفي طريقه إلى مكة إذا به يتأوه ويتألم من قلبه، تقول زوجته حاكية عنه: جلس يقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم تقول له امرأته: ماذا بك يا فلان؟ قال لها: الموت، ثم قال: لا إله إلا الله وسقط ميتاً في ساعته. هذا إن دل على شيء فإنما يدل على سعة رحمة الله، هذا الرجل حياته كلها بعيدة عن الله، وما انتقم الله عز وجل منه، والله قادر وهو جالس على المعصية أن يخسف به الأرض، فوالله لو أذن الله للأرض أن تنتقم من العاصي لخسفت به في لحظة واحدة، الله مالك الملك، له العزة والكمال والجلال، كل شيء في هذا الكون تحت أمره وقهره وملكه، سبحان الله! يعصيه الإنسان ومع ذلك يعطيه الصحة، ويمكنه من لذة المعصية، وهو قادر أن يسلب منه الروح في لحظة واحدة، ويستره وهو يفعل المعصية. فسبحانه ما أحلمه! فهذا يفعل المعصية في عافية وصحة وستر! ثم مع ذلك يدعو الإنسان ويقول له: هلم إلى رحمتي، هلم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، عبدي! ما أريد منك إلا لساناً طيباً وعملاً طيباً، ما أريد منك غير هذا. كذاب من يقول: إن القرب من الله فيه ضيق! لا والله، فالله لا يريد منك إلا كلاماً طيباً وفعلاً طيباً، وعقيدة ترضيه، ثلاثة أشياء فقط: قلب صالح نقي من الشوائب، ولسان طيب تقول به الكلام الطيب، وجوارح تسخرها في الشيء الطيب، لا شيء غير هذا أبداً، بدل ما كان الواحد يسب الناس، ويحتقر الناس، ويتكلم على الناس أصبح يتكلم بكلام طيب، ويحترم الناس، بدل ما كان يفعل الأمور التي لا تليق بأتفه الناس إذا به يحترم نفسه، ويفعل الأفعال التي تليق به كمسلم يؤمن بلقاء الله عز وجل، لا شيء غير هذا. ما عندنا في الطاعة والشيء الطيب إلا هذه الثلاثة الأشياء: صلاح العقيدة، وصلاح القول، وصلاح العمل، ومن فعل هذه الثلاثة الأشياء عصمه الله عز وجل إلى أن يلقاه، وأوجب له حبه ورضوانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. إذا أتيت بهذه الثلاثة الأشياء أقسم الله عز وجل أن يحييك الحياة الطيبة، ولذلك لن تجد إنساناً يطيع الله ثم يخاف من غيره، وجرب فالخوف لا يأتي إلا من معصية الله. فهذا الرجل حياته بعيدة عن الله، ويقسم لي رجل كبير السن وأعرفه في المدينة، وهو الآن في آخر حياته، ووالله لما قص لي القصة كانت دمعته على عينه، يقول لي: -سبحان الله! ما أحلم الله! وما ألطف الله! أن ختم له هذه الخاتمة الحسنة في آخر حياته!، على أي شيء يدل هذا؟ يدل على رحمة الله-: ليس هناك داعٍ لسوء الظن بالله، والشيطان يأتي الإنسان ويقول له: أنت فعلت وفعلت والله لا يغفر لك أبداً! وبمجرد ما يفعل الإنسان المعاصي -ولو عظمت- ويقول: اللهم إني تائب إليك! إذا بالله عز وجل يبدل تلك المعاصي حسنات، قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]. هذا الكلام الذي نقوله لنا جميعاً، ليس لأناس وأناس، فالكلام لنا جميعاً؛ لأن المفروض أن يكون المؤمن في كل لحظة قريباً من الله، وليس أحد هناك إلا وهو يعصيه، وليس أحد هناك إلا وهو يذنب، فنحن مطالبون دائماً بهذه الثلاثة الأشياء التي توجب الحياة الطيبة.

ثمرات الحياة الطيبة

ثمرات الحياة الطيبة

من ثمرات الحياة الطيبة: الاستقامة

من ثمرات الحياة الطيبة: الاستقامة أما الخصلة الثانية التي يجنيها صاحب هذه الحياة الطيبة فهي: خصلة الاستقامة، وهذه الخصلة ثمرتها أن أصحابها إذا شاء الله عز وجل أن يتوفاهم وهم عليها فما ما من إنسان إلا وهو سيخرج من هذه الدنيا قريباً أو بعيداً، وما أحد يضمن أن يقوم من مجلسه هذا، فلا بد من لحظة وهي: لحظة الفراق، فمن ثمرات الاستقامة الطيبة والعمل الصالح أن الإنسان إذا حانت ساعة قيامته، ودنت ساعة فراقه في هذه الحياة، كانت أطيب ساعة عنده ساعة لقاء الله عز وجل، فالناس عند الموت يخافون إلا صاحب الحياة الطيبة، إذا جاءه الموت يحس أنه في حنين وشوق إلى الله عز وجل، ولذلك تجد أصحاب الحياة الطيبة إذا دنت منهم سكرات الموت تجدهم في انشراح نفس وطمأنينة وراحة بال، وبعضهم يسلم الروح وهو يتبسم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، ممن حسنت خاتمته وكان من الذين قيل لهم: ((لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)) [الأعراف:49] ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [النحل:32] نسأل الله العظيم أن يجعل أسعد لحظة لنا في هذه الحياة، لحظة فراقها والخروج منها. فهذه من الثمرات التي يجنيها الإنسان، وينبغي للإنسان أن يجتهد قدر استطاعته في هذه الأمور التي ذكرناها: صلاح الباطن، وصلاح الظاهر، وصلاح القول والعمل، لا تتكلم إلا وأنت تعرف أن الله يرضى عن كلامك، ولا تعمل إلا وأنت تعلم أن الله يرضى عن عملك، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأترك المجال للأسئلة، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله. جزى الله شيخنا الفاضل خير الجزاء على هذه الكلمة التي أحيا بها قلوبنا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

من ثمرات الحياة الطيبة: استجابة الدعاء

من ثمرات الحياة الطيبة: استجابة الدعاء من ثمرات الحياة الطيبة: أنك إذا أقبلت على الله فهناك خصلة عجيبة وكريمة، ولو خسرت ما خسرت، لو خسرت الأصحاب والليالي الطيبة، فإن هناك شيئاً لم تخسره، وهو الله جل جلاله، إذا أقبلت على الله وفعلت هذه الثلاثة الأشياء: عقيدة صالحة، وقولاً طيباً، وعملاً طيباً، فلا ترفع كفك وتقول: يا رب! إلا أجاب الله دعوتك، ولا قلت: أسألك إلا أجاب الله سؤالك، ولذلك ورد في الحديث: (أن العبد إذا كان صالحاً أصبح معروفاً في السماء)؛ لأن العمل الصالح يصعد إلى الله عز وجل، فإذا صعدت منك الكلمات الطيبة فأنت دائماً تقول: لا إله إلا الله، أستغفر الله، وتذكر الله، وتتكلم بالكلام الطيب، وتحسن إلى الناس، وتفعل الأعمال الصالحة، إذا بالأعمال الصالحة تصعد، فإذا بكثرة الأعمال الصالحة تحبك بها الملائكة، ويجعل الله حب الملأ الأعلى لك في السماوات، فإذا جاء كرب من الكروب: جاءتك مشكلة، أو جاءك شيء تخافه، فقلت: يا رب! قالت الملائكة في السماء: صوت معروف من عبد معروف. وهذا الصوت معروف من عبد معروف، من هو؟ إنه المطيع لله عز وجل، عبد بلغ به أنه إذا دعا الله استجاب الله دعاءه، ما الذي ينقصه في هذه الحياة؟! إذا أصبحت في لحظة بعبوديتك الخالصة وطاعتك الصادقة لله، وقلت: يا رب! أجاب الله دعاءك، فأي مقام، وأي منزلة وأي شرف أصبحت فيه؟ هذا هو العز، وهذا هو الجاه، وهذه هي الحياة الطيبة التي ينبغي لكل إنسان أن يفكر فيها، وأن يجتهد في تحصيلها. فأكرر وأقول: أن الضيق كل الضيق في معصية الله، والسعة كل السعة في رحمة الله والقرب من الله عز وجل، ونسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى أن يرزقنا هذه الحياة الطيبة!

الأسئلة

الأسئلة

صور التكاسل عن أداء الصلوات وعلاجه

صور التكاسل عن أداء الصلوات وعلاجه Q إني أتكاسل عن أداء بعض الصلوات أحياناً فما العلاج؟ A التكاسل عن أداء بعض الصلوات علاجه أن تدعو الله عز وجل أن يجعلك من المصلين الذين هم على صلاتهم يحافظون، وعلى صلواتهم دائمون، وأن تتذكر لقاء الله عز وجل وحساب الله لك عن هذه الصلاة؛ لأن الله سيسألك عن هذه الصلاة، وسيحاسبك عن هذه الصلاة، فإذا علمت أن الله سيسألك عنها فإن هذا يدعوك إلى المحافظة عليها، وأسعد الناس في الصلاة من بكر إليها، والناس في الصلاة على مراتب: منهم من يبكر إليها، ومنهم من يأتيها عن دبر، وكل يفوز برحمة الله على قدر ما هو سابق إليه من رضوانه، فعليك أن تبادر إلى فعل الصلاة، والتكاسل عن الصلاة بتأخيرها يكون على صور، منها: أولاً: عدم الصلاة مع الجماعة، وهذا فيه إثم وعقوبة، فإذا سمعت منادي الله يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فاجعل نصب عينيك فعل الصلاة، ولذلك كان الصحابة إذا أذّن المؤذن والسكين في اللحم ما يتم قطع اللحم حتى يصلي؛ وهذا من كمال الإجابة لله عز وجل. الصورة الثانية من التقاعس عن الصلاة: تأخير الصلاة، يأتيك الشيطان ويقول لك: العشاء بقي له وقت، ليس هناك داع أن تذهب إلى المسجد، بل في بعض الأحيان يأتيك الشيطان يقول لك: لماذا تذهب إلى المسجد؟ أنت ترائي الناس؟ تريد الناس أن يقولوا عنك: إنك مصلٍ، يريد أن يخذِّلك عن طاعة الله، فاعقد العزم واذهب، وستحس في اليوم الأول أن الأمر ثقيل وقلبك ضيق، وفي اليوم الثاني يتسع، واليوم الثالث والرابع تصبح الصلاة مع الجماعة مثل الطعام والشراب اللذين لا صبر لك عنهما. كان بعض السلف إذا فاتته الصلاة يبكي كالطفل، ذكروا عن بعض السلف قال الراوي: خرجت من صلاة العصر فوجدت الناس مجتمعين، فقلت: ما بهم؟ قالوا: فلان فاتته صلاة العصر يعزونه في صلاة العصر التي فاتته، يقولون له: مصيبة أصبت بها لما فاتتك صلاة العصر، فاتتك درجات وأجور، يعزونه لأنها مصيبة في الدين، فانظر رحمك الله! تفوته صلاة واحدة ومع ذلك يعزونه، بينما في وقتنا من تفوته صلوات كثيرة. نسأل الله السلامة والعافية! وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

وسائل الحصول على الخشوع في القلب

وسائل الحصول على الخشوع في القلب Q هل من طريقة لكي يدخل الخشوع إلى قلبي؟ A الطريقة المختصرة هي أن تدعو الله عز وجل، قل: اللهم إني أسألك قلباً خاشعاً، والله عز وجل بيده الخشوع، في لحظة واحدة يكون القلب أقسى ما يكون وإذا بالله عز وجل يقذف في قلبك نور الخشوع، وإذا بك ما تسمع آية إلا وتخشع، ولا تسمع أحداً يقول لك كلمة من كتاب الله إلا خشعت لها، ولذلك تجد بعض الناس إذا اهتدى بمجرد ما يسمع القرآن يتعلق بالله عز وجل، ما يتحمل، لو تلوت عليه آية من كتاب الله يبكي من كمال خشوعه، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فمن حرم الخشوع فقد حرم خيراً كثيراً، ونسأل الله أن يجعل قلوبنا وقلوبكم خاشعة لله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]. فالمقصود إذا أردت الخشوع فأول شيء تقوم به هو أن تدعو الله، ثاني شيء إذا أردت الخشوع أن تزور الصالحين، وثالث شيء أن تغشى المحاضرات والندوات الطيبة، ورابع شيء أن تقرأ القرآن وتتأثر بالقرآن، وبإذن الله ستجد الخشوع، نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم خشوع القلب وخشوع الجوارح، والله تعالى أعلم.

دوام المراقبة لله عز وجل من أعظم الوسائل لترك المحرمات

دوام المراقبة لله عز وجل من أعظم الوسائل لترك المحرمات Q لقد ابتليت -أعاذني الله من هذا البلاء- بمشاهدة (أفلام الفيديو) الخليعة، وقراءة المجلات الماجنة والفاضحة، وأحاول التخلص من هذا، فما ترشدوني، وهل من وسيلة للتخلص من هذا البلاء، وجزاكم الله خيراً؟ A الله المستعان، الله أكبر، سبحان الله! لو تصور هذا الإنسان أنه واقف بين يدي الله عز وجل في عرصات يوم القيامة، وقال الله له: أما تستحيي يا عبدي؟! أما ترى الأعمى الذي لا يبصر وأنا نورتك بهذا البصر تنظر به إلى محارمي؟ وهذه المعصية قد يراها الإنسان معصية واحدة فقط أو مشهداً واحداً مقطعاً معيناً من (فيلم) يدعو إلى محارم الله، قد يغضب الله عز وجل على العبد غضباً لا رضا بعده -نسأل الله السلامة والعافية-، وقد ينطفئ نور الإيمان في القلب فيصبح القلب مظلماً إلى أن يلقى الله عز وجل، المعاصي خطيرة يا إخوان! المعاصي تميت القلوب، وتطفئ منها نور الإيمان، الله الله! إذا جئت يوم القيامة ووقفت بين يدي الله عز وجل، وعرضت عليك هذه المشاهد ما تخرم منها مشهداً واحداً، وقلعت هذه العين بمسامير النار، وكحلت بكحل النار، وقد يجد الإنسان لمشاهدتها لذة لكنها حسرة وندامة يوم القيامة، ثم يسأل الإنسان نفسه سؤالاً صادقاً، يا أخي! اسأل نفسك: ما الذي جنيته من هذه المشاهد؟ ما هي الثمرة؟ وما هي الفائدة؟ رأيت وتمتعت، لكن ما هي العاقبة؟ نظرت في الصحيفة حتى إذا جئت في عرصات يوم القيامة، عرض عليك الكتاب، وإذا فيه هذه النظرة التي لا ترضي الله عز وجل عنك. يقولون عن رجل: إنه كان من طلاب العلم، وكان مع أحد العلماء، فذات يوم كان هناك غلام نصراني -والعياذ بالله- كافر، وكان الغلام له صورة جميلة، ففتن به طالب العلم ونظر إليه، فلما نظر إليه نظرة جاء الشيخ ورآه ينظر، فقال له: لماذا تنظر؟ فكف الطالب، فقال الشيخ للطالب: والله لتجدن أثر هذه السيئة ولو بعد حين، يعني: سيعاقبك الله عليها ولو في آخر حياتك، يقول هذا الطالب: فما زلت أنتظر هذه العقوبة، فمكثت عشرين سنة -وهذه القصة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين- يقول: مكثت عشرين سنة وأنا أنتظر العقوبة، وإذا بي في ليلة من الليالي نمت -وهو حافظ للقرآن- فأصبحت فأنسيت كتاب الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية. فالذنب قد يستهين به الإنسان في جنب الله لكنه عظيم، ولذلك قال بعض السلف: (لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت)، النظرة الواحدة قد تدمر حياة الإنسان كلها، نظرة واحدة إلى الحرام! فالله الله يا أخي في الله، أنا لا أقنطك من رحمة الله، ولا أيئسك من روح الله، ولكن أبشر بكل خير، أريد منك دمعة تدمعها على ما فات من هذه الأفلام، أريد منك أن تجلس يوماً لوحدك في الغرفة وتتذكر وتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي خسارة بليت بها؟! الله أعطاني البصر وهذه النعمة فنظرت بها إلى الحرام! كم من (فيلم) نظرت؟ وكم من مشهد رأيت؟ كيف ألقى الله؟ فتحترق من داخل قلبك حتى تدمع، ولعل هذه الدمعة تغسل ذنوب العمر، أريد منك هذه الدمعة وأنت خالٍ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشَّر من دمع هذه الدمعة أن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، عندما قال في السبعة -نسأل الله أن يجعلنا الله وإياكم منهم- الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) أي: من خشية الله عز وجل، فادمع هذه الدمعة. الأمر الثاني: أوصيك أخي! أن تقلع عن هذه المعاصي، وأن تبتعد عنها، والله سيعينك، والله ما عقدت في نفسك أنك تتوب عن شيء إلا وفقك الله، والشيطان يأتيك ويقول: لا. أنت فعلت كذا، وأنت رأيت كثيراً، فلا توبة لك، يقنطه، والله لو غرق الإنسان في المعاصي من أخمص قدمه إلى شعر رأسه وأحسن الظن بالله، فإن الله يهديه ويوفقه. فهذان الأمران اللذان أدعوك إليهما: ترك المعصية، والندم على ما كان منك فيها وحسن الظن بالله، وأسأل الله العظيم أن يبدل سيئاتك حسنات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

كيفية التعامل مع رفقاء غير الصالحين

كيفية التعامل مع رفقاء غير الصالحين Q أريد أن أتوب إلى الله، وقد سلكت طريق الصلاح والهداية، ولكني أكون ساعة مع الصالحين وأكثر الأوقات مع الشباب غير الصالحين، ولا أستطيع أن أتركهم؛ لأنهم معي في كل وقت، فماذا أفعل يا شيخ، دلوني على الطريق، جزاكم الله خيراً؟ A أولاً أهنيك بنعمة الله عز وجل عليك بالتوبة، فإن الله لا يمن بالتوبة إلا لمن أحب، ولا يقذف الله التوبة والندم في قلب إنسان إلا وهو يحبه سبحانه وتعالى، وبداية الخير كما يقول العلماء: الندم، والتوبة باعث من بواعث الندم، أو ثمرة من ثمرات الندم، فمادام أنك قد تبت وأقبلت على الله عز وجل فازدد إقبالاً على الله عز وجل، وانظر إلى الراحة النفسية التي وجدتها في الإقبال على الله، أما أصحابك فأوصيك بأمرين: الأمر الأول: إذا جاءوك فما المانع أن تكون لهم مشعل هداية، ذكّرهم بالله، أوصيك أخي في الله! إذا جلست معهم أن تذكرهم بالجنة والنار، وذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم بالليل والنهار الذي يتقلبون ويتنعمون فيهما، وادعهم إلى طاعة الله، وما يدريك لعل النصيحة تخرج من قلبك، فيشرح الله بها صدر إنسان لا يصلي ولا يطيع، فيكون في ميزان حسناتك، بعض الشباب موفق إذا دخلت الهداية في قلبه لا يرتاح حتى يدخل الناس في هداية الله عز وجل، بعض الناس مبارك عندما يذوق طعم الهداية لا يرتاح حتى يبلغها عن الله عز وجل إلى غيره، وهذا والله من خير الناس وأعلاهم منزلة، فإذا أحب الله عز وجل وذاق لذة الهداية أحب أن يعطيها لكل إنسان، فيذهب إلى إخوانه الذين كانوا معه قبل الهداية لكي يقول لهم: إني وجدت الراحة في القرب من الله، يذكرهم بالله عز وجل، يا أخي! عندك سلعة غالية، وكلمة ثمينة، وحياة طيبة، انظر إلى الأخ الذي لا خير فيه يأتي ويجلس معك فيقول: يا فلان ما رأيك أن تسهر معنا في هذه الليلة، فالسهر على البحر فيه وفيه وفيه! المهم أنه يحسِّن ويزين لك معصية، لماذا لا تقول له: يا أخي! ما رأيك لو ذهبنا إلى المسجد؟ ما دام أنه يعرض عليك سلعة الهلاك والفساد، فلماذا لا تعرض عليه سلعة النجاة والصلاح، قل له: يا أخي! ما رأيك أن تجرب مرة واحدة أن نذهب إلى المسجد، قد توفق وتأخذ شخصاً عاصياً إلى جلسة من مجالس الخير، فيشرح الله صدره ويكون في ميزان حسناتك، هذه تجارة رابحة، ولربما أن الله يغفر ذنوبك حينما تهدي الناس إليه. جربوا يا إخوان! هذا دينكم ودين آبائكم وأجدادكم، إن تبليغ الدين شرف والله لك، ليس بعيب ولا ذلة ولا مهانة أن تبلغ الرسالة، بل شرف لك، هذا دينك ودين آبائك، ليس بعيب أن تطيع الله، وليس بعيب أن تذل لله، ولكن العيب كل العيب أن نأكل من طعامه وأن نشرب من شرابه وأن نكفر نعمته، هذا هو العيب والله، والعيب كل العيب أن يظل الإنسان يكفر بنعمة الله عليه، ويدعو إلى معصية الله، أما أن تدعو إلى طاعة الله فهو شرف، ذكِّر قرناء السوء بالله عز وجل، قل لهم: والله إن الحياة التي أنتم تعيشونها كنت أعيشها وأجد العذاب، ما وجدت الراحة إلا في القرب من الله، واعرض عليهم سلعة الله. الأمر الثاني: إذا لم يطيعوك فادع الله لهم بالهداية واجتنبهم وسيعوضك الله خيراً منهم، اعلم أنك ما تركت شيئاً لله إلا عوضك الله خيراً منه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعينك على البعد عنهم، وأن يهديهم إن كان الله أراد لهم الهداية، وإلا صرف قلوبهم عنك، وصرف قلبك عنهم إلى الأخيار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

معنى حديث: (لن تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع)

معنى حديث: (لن تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع) Q ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها: عن عمره فيما أفناه)؟ A هذا الحديث يعتبر جزءاً من حديث يدل على مشهد من مشاهد الآخرة، وهو مشهد السؤال، فالناس على قسمين: مؤمن وكافر، أما الكافر فبمجرد موقفه في عرصات يوم القيامة يختطف والعياذ بالله إلى النار، وأما المؤمن: فهو يمر في بلاء وضيق في عرصات يوم القيامة على قدر صلاحه وطلاحه، فإن كانت عنده ذنوب كبيرة، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حاسبه الله عز وجل بتلك الذنوب، ومن الحساب موقف السؤال، فالمؤمنون الذين هم القسم الثاني أيضاً على ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: طائفة لا تسأل عن شيء ومباشرة يأمر الله بدخولها إلى الجنة، وهم السبعون الألف الذين هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يأذن الله بدخولهم إلى الجنة دون سبق حساب ولا سؤال ولا عذاب، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. وأما الطائفة الثانية: فطائفة عظمت حسناتها والله أحبها مع وجود الأخطاء، فيسترها الله عز وجل في عرصات يوم القيامة، كما في حديث ابن عمر: (أن الله يدني العبد فيقول: يا عبدي فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ يقول: بلى يا رب، ويقول: فعلت كذا وكذا؟ فيقول: بلى يا رب! فيقول: سترتها عليك في الدنيا وها أنا أسترها عليك اليوم). وأما القسم الثالث فهو قسم يفضحه الله عز وجل، فهذا المشهد من مشاهد السؤال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) ومنها ما ورد في السؤال: (عن شبابه، وفي رواية: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه)، العمر الذي هو لحظات الحياة قلَّت أو كثرت، يسأل الإنسان فتعرض عليه أيام الدنيا يوماً يوماً، تعرض عليك في عرصات يوم القيامة يوماً يوماً، وكل يوم يعرض عليك ساعة ساعة، وكل ساعة تعرض عليك بالثواني، تسأل عنها ثانية ثانية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، يعني: إذا كان الحساب عن العمر دقيقاً فاعلم أنه الهلاك، ما يشك أحد أبداً أن الله لو دقق عليه الحساب هلك؛ لأن نعم الله عظيمة والإساءة موجودة ولو كان الإنسان فيه صلاحاً وخيراً. فيعرض عليه هذا الشباب، وتعرض عليه الصحة، وتعرض عليه اللحظة، والثانية الفلانية من الساعة الفلانية، من يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا من عام كذا وكذا، فيقال: في اللحظة الفلانية فعلت كذا وكذا، وجلست مع أصحابك فقالوا: كذا، فقلت: كذا وكذا، وإذا بالكلام تذكره كاملاً ما تخرم منه حرفاً واحداً، فيعرض على الإنسان وما ينسى مثقال خردلة، فتوضع موازين القسط ليوم القيامة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، عرصات يوم القيامة مشهد عظيم شيبت رءوس الصالحين وأقضت مضاجعهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، ولذلك العبّاد الصالحون عندما يتذكرون مثل هذه المواقف ما يتحمل أحدهم، فيكثرون من الأعمال الصالحة لعل الله عز وجل أن ينجيهم من كربات ذلك اليوم، فيتعبون الآن ولكن لراحة الغد. فالمقصود أن الله يعرض عليك هذه اللحظات، ويعرض عليك هذه الساعات، ومن الناس من يعرض الله عز وجل عليه حسناته، فيقول له: عبدي في يوم كذا وكذا فعلت كذا وكذا، فيقول: بفضلك يا رب! فيقول: عبدي في يوم كذا وكذا جلست مع الصالحين في ساعة كذا، فيقول: بفضلك يا رب! فيقول: في يوم كذا وكذا زرت أخاك في الله، في يوم كذا وكذا وصلت الرحم، في يوم كذا وكذا تصدقت على مسكين، أعنت أرملة، فعلت كذا فيقول: بفضلك يا رب! بفضلك يا رب! فيقول له: ادخل الجنة، يعرض الله عز وجل عن إساءتك، والله فعال لما يريد يحكم ولا معقب لحكمه، من يستطيع يوم القيامة على رءوس الأولين والآخرين أن يقول: يا رب لا تدخل فلاناً الجنة؟! ما أحد يستطيع أبداً، إن رحمك الله فلا معذب، وإن عذبك فلا راحم، من يستطيع أن يتكلم؟! تأمل ملائكة الله الملك الواحد منهم لو بسط جناحه لسد الأفق، مع ذلك يسكت ولا يستطيع أن يتكلم ذلاً لله عز وجل، مع ما أعطاهم الله عز وجل من البسطة في الجسم، فيخنس أمام عظمة الله عز وجل، ويذل أمام قهر الله عز وجل في ذلك اليوم العظيم، مع أن الملائكة لم تذنب لكن من عظمة الله عز وجل وهيبة السؤال سكتت، هذا من عرصات وأهوال يوم القيامة، تسأل عن كل الأفعال، وعن جميع الأقوال، تعرض على الإنسان كاملة لا ينسى منها مثقال خردلة، نسأل الله أن ينجينا وإياكم من ذلك الموقف، وأن يجعل حسابنا وحسابكم يسيراً وألا يجعله عسيراً، والله تعالى أعلم.

صيام يوم عاشوراء يكفر صغائر الذنوب وكبائرها

صيام يوم عاشوراء يكفر صغائر الذنوب وكبائرها Q هل صيام يوم عاشوراء يكفر كل الذنوب كما في حديث ابن عباس؟ A هذا الحديث قيده بعض العلماء بصغائر الذنوب، وقالوا: إن كبائر الذنوب موقوفة على التوبة النصوح، والذي يظهر من ظاهر الحديث أنه يشمل صغائر الذنوب وكبائرها، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، وليس هناك ما يقيده من النصوص، والذي يظهر إن شاء الله أنه يكفر صغائر الذنوب وكبائرها، وليس ذلك بعزيز على الله، والله تعالى أعلم.

عدم الالتفات إلى المستهزئين والعاقبة للمتقين

عدم الالتفات إلى المستهزئين والعاقبة للمتقين Q فضيلة الشيخ: أنا صاحب قلب قاسٍ، وأريد أن أتوب ويلين قلبي، وأريد أن أحيا حياة سعيدة طيبة، ولكن أخشى الاستهزاء من الآخرين، فماذا أفعل، وما هو الحل جزاكم الله خيراً؟. A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأبشر أخي في الله! بكل خير ترجوه من الله عز وجل، ما دمت أنك تحس أن قلبك قاسٍ، وتجد من نفسك الندم من هذه القسوة فهذه بداية خير، والله تعالى لا يورث الإنسان الندم إلا وهو يريد منه أن يتحرك إليه سبحانه وتعالى، وأوصيك أخي في الله! أن تجتهد في الإقبال على الله عز وجل، وألا يمنعك سخرية الساخرين ولا استهزاء المستهزئين عن طاعة رب العالمين، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والله ما تطيع الله عز وجل إلا أورث الله هيبتك في القلوب، فاليوم الأول يستهزئون، واليوم الثاني يضحكون، واليوم الثالث إذا بالقلوب قد تغيرت، وجرب وستجد ذلك، وقد وجدنا هذا، أول شيء يستهزئون بك لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: (قولوا: لا إله إلا الله) استهزءوا به، ولما قال الصحابة: (أحد أحد) اُستهزئ بهم، ولما قال الصالحون: (إنا إلى الله تائبون منيبون) اُستهزئ بهم، ولكن ما هي العاقبة؟ ما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة؟ إنها رضوان الله عز وجل، ولذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يستهزئون به، وسموه الساحر، والمجنون، والأفاك الأثيم، وتوفي وهو سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه، فالعبرة بالعواقب، وهذا الاستهزاء يكفر الله به ذنوبك، ويجعله الله عز وجل رفعة لدرجاتك، فما عليك من الاستهزاء والسخرية، ويوم القيامة تجتمع عند الله الخصوم، وكما استهزءوا بالمطيعين لله فيستهزئ بهم المطيعون: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36]. فأبشر أخي بكل خير، وأقبل على الله عز وجل، إذا استهزأ بك الأشرار فسيبدلك الله محبة الأخيار، وإذا استخف بك البعيدون عن الله فسيعظمك ويحبك القريبون من الله، وشتان ما بين الفريقين، وشتان ما بين الطائفتين، والله تعالى جعل جنده هم الغالبون وهم الفائزون، وهذا وعد لن يخلفه الله عز وجل، فأبشر بكل خير، قال بعض السلف: (والله ما قام عبد لله مقام ذل إلا أقامه مقاماً أعز منه) يعني: إذا التزمت وأطعت الله وسخر منك الناس، فسيقيمك الله مقاماً يجلك فيه الناس، ولذلك تجد الشخص إذا رأى شاباً ملتزماً مستقيماً فإنه يحس في قرارة قلبه أن هذا الشاب الملتزم شيء كبير، ووالله حتى العصاة ينظرون إلى أهل الطاعة نظرة إجلال، وكم مرة سمعت بأذني من أناس عصاة يقولون: يا شيخ نتمنى أن نكون مثل الأخيار، نتمنى أن نكون مثل هؤلاء الصالحين الذين نجد فيهم الوقار والسكينة والقرب من الله، نتمنى أن نكون مثلهم، فالمرة الأولى استهزاء، والمرة الثانية سخرية، ولكن العاقبة للتقوى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم ألا يجعلنا ممن حجبه استهزاء الناس عن طاعة رب الناس، فانج بنفسك قبل أن يدهمك الأجل وتستنفد الأمل، وعندها لا ينفع الإنسان إلا ما قدم من صالح القول والعمل، والله تعالى أعلم.

فضل صيام عاشوراء

فضل صيام عاشوراء Q ما فضل صيام يوم عاشوراء الذي نحن على أبوابه الآن؟ A ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر فضله: أنه احتسب على الله عز وجل أن يكفر عاماً كاملاً عن الإنسان، فصيام يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة؛ فينبغي للإنسان أن يجتهد في صيامه، والأفضل والسنة أن يصوم التاسع والعاشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) فيصوم الإنسان غداً وما بعد غد، وهو يوم الخميس والجمعة، والله تعالى أعلم.

الثبات على الهداية

الثبات على الهداية إن الهداية نعمة من الله عظيمة، ومنة منه جليلة، فبالهداية ينال الإنسان مرضاة الله سبحانه، وبالهداية تكون الراحة والطمأنينة في الدارين، لذلك يضطرب الجنان من خشية الله؛ خوفاً من تبدل الأحوال، وتقلب القلوب، وسوء العاقبة والمآل، ولا يكون الحفاظ عليها إلا بمعرفة الأسباب التي تعين على الثبات على هذه النعمة العظيمة التي امتن الله بها على عباده.

نعمة الهداية وأهميتها

نعمة الهداية وأهميتها الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ما أظلم الليل وأضاء النهار. أما بعد: إخواني في الله! كم هي نعمة من الله عز وجل عظيمة، ومنة من الله تبارك وتعالى جليلة؛ تلك النعمة التي أخرج بها العبد من الظلمات إلى النور، وأنقذه من مزالق الهوى والردى والشرور! أيُّ ساعة تلك الساعة التي أقبلت فيها القلوب والقوالب على الله، أيُّ ساعة تلك الساعة التي عرف العبد فيها سيده ومولاه، أيُّ ساعة تلك الساعة التي انفطر فيها الفؤاد من خشية الله! أيُّ ساعة تلك الساعة التي أقبل العبد فيها على الله تبارك وتعالى من بعد إدبار وأحسن من بعد إساءة! ما أعظمها من ساعة تلك الساعة التي نادت فيها النفس اللوامة، وانبعثت في النفس أشجان وأحزان؛ تُذكر العبد بعظيم نعمة الله جل وعلا عليه وجليل منته لديه، فانتبه من الغفلة، واستيقظ من المنام، وأقبل على الملك العلام أيُّ ساعة تلك الساعة التي لا يستطيع العبد شكرها ولا الوفاء بعظيم حقها، حُرِمتها أمم فهوت في مهاوي الردى والشرور، وأكرمك الله جل وعلا بالإقبال عليه، فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، نعمةً منك وحدك لا شريك لك، فلك كما ينبغي أن تُحمد عليها. إخواني! إن القلوب الصادقة تتقطع لهفاً وشوقاً للثبات على هذه النعمة، تريد البقاء في الطريق إلى الله تريد الثبات على سبيل الله تريد البقاء على هذه الهداية التي رُحمت بها من عذاب الله تبارك وتعالى تريد أن يثبت القدم؛ ولذلك يضطرب الجنان من خشية الله خوفاً أن تتبدل الأحوال أو تسوء العاقبة والمآل؛ لذلك تتساءل القلوب الصادقة، وتتلهف شوقاً وحنيناً لمعرفة الأسباب التي توجب ثبات القدم في السبيل إلى رب الأرباب تريد من يهديها ويدلها إلى العلاج الناجح لذلك البقاء تريد أن تثبت على هذه الهداية إلى لقاء الله جل وعلا، استجابةً لأمره وطاعة له سبحانه إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فحفظوا وصية الله وأرادوا تطبيقها، فاشتاقوا وتلهفوا لكي يكرمهم الله عز وجل بالبقاء والثبات على الهداية.

أسباب الثبات على الهداية

أسباب الثبات على الهداية

البعد عن المحارم

البعد عن المحارم من أسباب ثبوت القدم على الهداية واستجلاب الولاية: بُعد العبد عن محارم الله وخوفه وخشيته لله عز وجل، إن تنكب العبد عن صراط الله جل وعلا له أسباب تدعو إلى ذلك، وأعظمها: الميل إلى الهوى، وإيثار الشهوات والشبهات؛ فإذا استدمن القلب حديث النفس الداعية إلى محارم الله تنكب ذلك القلب -والعياذ بالله- عن صراط الله، فينبغي للعبد إذا وجد في نفسه الوساوس والخطرات أن يستعيذ ويستجير ويستغيث بالله سبحانه وتعالى من شرها وضرها. إذا أراد العبد أن تثبت قدمه على الهداية، فليبتعد عن تلك المحارم الموجبة لضعف الإيمان في القلب، وأن يحاول قدر استطاعته إذا وجد من النفس دواعيها أن يكبح جماحها بالخوف من الله تبارك وتعالى، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

مجالسة الصالحين والأخيار

مجالسة الصالحين والأخيار ومن أسباب الثبات على الهداية: معاشرة الصالحين والأخيار، فإن الجلوس معهم والأنس بهم من أعظم الأسباب الموجبة للهداية، وكذلك الحرص على زيارتهم والتأدب بأخلاقهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله عز وجل غفر لعبد جلس في مجلس ذكر مرة واحدة فقال: (وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فالجلوس مع الأخيار وزيارتهم من أهم الأسباب الموجبة للثبات على الهداية، فينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على الجلوس معهم، فلو سألت القلوب يوماً: من الذي دعاها لمحارم الله؟ من الذي زين لها الشبهات والشهوات، ومهد السبيل لمحارم الله؟ لوجدت وراء ذلك قرين السوء والعياذ بالله! فهو الذي زين كأس الخمر وجعلها ألذ إلى النفس حتى أعرضت عن الله حين شربتها؟ وهو الذي حبب إليك الزنا وقربك منه ومهد السبيل إليه، فهؤلاء هم شياطين الإنس والجن؛ فينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على البعد عمن لا خير فيه، والله إذا أراد أن يثبت قدم عبده على الهداية؛ دعاه إلى كراهية الأشرار، وجعل قلبه لا يرتاح لهم ولا للجلوس معهم؛ ولذلك بلغت الهداية ببعضهم أنه يقلق إذا مر عليه من عصى الله خشية أن يذكره بمعصيته. إخواني! إن كثيراً ممن أكرمهم الله بالهداية قد يتساهلون في هذا الأمر العظيم، فتارة تجدهم يجلسون مع من لا خير فيهم ويتساهلون في ذلك، ووالله إنه لخطرٌ عظيم! فمن تعرف على الله وامتلأ قلبه بالإيمان بالله، فإن قلبه لن يسكن فيه غير داعي الله ومحبته، ولذلك لن يجتمع في قلب عبد محبة الله ومحبة عدوٍ لله أبداً، ولن تدخل محبة الله إلى قلب عبد أدخل معها شريكاً يضادها؛ لأنه إما أن تكون محبة لله خالصة تنتفي معها محبة ما سواه إلا أن يكون حبيباً لله، وإما العكس والعياذ بالله! فينبغي للإنسان أن يحذر من الجلوس مع الأشرار؛ لأن الجلوس والضحك واللهو معهم من الأمور التي توجب للعبد الردى وتورده موارد الشهوات والهوى؛ ولذلك من تعود على مجاملة الأشرار فلا يلومنّ إلا نفسه.

قراءة القرآن

قراءة القرآن ومن الأسباب الموجبة للهداية: كثرة تلاوة القرآن، فإن القرآن شفاء القلوب والأرواح، وكثرة تلاوة القرآن -خاصة أثناء قيام الليل- من أعظم الأسباب الموجبة للثبات على الهداية، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الأمة إيماناً، فقد تفطرت قدماه في القيام بين يدي الله في جوف الليل؛ فمن حبب الله إلى قلبه قيام الليل ثبتت له تلك القدم على الهداية، فتعود -أخي في الله- على قراءة القرآن في ليلك ولو جزءاً واحداً تتقرب إلى الله جل وعلا به، فإننا نجلس الساعات الطويلة في مجالس اللغو واللهو، ونسهر إلى ساعات متأخرة من الليل، ووالله لو بذلت ربع معشار تلك الساعات لأصابتك من الله نفحة ورحمة قد تكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة. إنه يعز على الإنسان لو أنه قام ربع ساعة بعد صلاة العشاء، يقلب فيها ذلك القلب أمام تلك الآيات الطيبة، وإن تيسر للعبد أن يقوم آخر الليل، فإنه أكمل وأجمل له في عين ربه، فينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على قيام الليل، فإن قيام الليل من الأمور الموجبة لثبات القدم على الهداية؛ لأن العبد إذا قطع ليله في تلاوة القرآن تأثر في صباحه بذلك القيام، قال بعض السلف: (والله ما حفظت قيام الليل إلا وجدت أثر ذلك في علمي وعملي في يومي ونهاري) إنها دعوة لأن نحيي الليل وخاصة في الأسحار، فحق على الله عز وجل أن يثبت تلك الأجساد الطيبة الطاهرة التي تقلبت في جوف الليل بين يديه، فحرام على تلك العيون التي سحت بالبكاء في جوف الليل أن تمسها النار، وحرام على تلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله أن يمسها عذاب الله وعقوبته، وحرام على تلك السواعد الطيبة الطاهرة التي أكرمها الله بقيام الليل فانتصبت بالسجود بين يدي الله عز وجل أن ترى النار أو تمسها. وجماع الخير كله: تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله ثبت الله قدمه على الهداية، وأوجب له الولاية، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، أسأل الله العظيم، رب العرش الكريم -بأسمائه الحسنى وصفاته العلى- أن يثبت أقدامنا، اللهم إنا نعوذ بك من الضلال بعد الهدى، ومن العمى بعد البصيرة، ونعوذ بك من الحور بعد الكور، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

طلب العلم الشرعي

طلب العلم الشرعي السبب الخامس من أسباب الثبات على الهداية: طلب العلم، فطلب العلم يجعل العبد أكمل العباد إيماناً بالله ومعرفة به سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الله جل وعلا وعد أهل العلم بالخير كله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، فإذا اتجهت في سبيل طلب العلم، واتجهت إلى حلق العلماء تريد أن يكرمك الله بالعلم، فاعلم أن الله أراد بك خيراً، وحاشا لعبد أراد اللهُ به خيراً أن يُقلّب قلبه على الشر أبداًَ، لذلك تجدوا أكمل الناس ثباتاً على الهداية طلاب العلم، وأعرفهم بالله وأصدقهم في معاملته وأرجاهم له بعد العلماء، فقد صقلت قلوبهم روحانية الكتاب والسنة أولئك الذين جلسوا مجالس الذكر فحفتهم الملائكة فنجوا من شرور الشياطين ووساوسهم وخطراتهم؛ فكانوا أكمل العباد ثباتاً على طاعة الله عز وجل ومرضاته، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). حقيق بأولئك الأخيار الذين قضوا الليل والنهار في قراءة تلك الكلمات العطرة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت الله أقدامهم أولئك الذين احتسبوا عند الله أن يُسقطوا الإثم عن الأمة بأن جندوا أنفسهم دعاة وهداة وعلماء، يعلمون الخير ويهدون إليه. هنا إشكال يرد كثيراً وهو: أن بعض طلاب العلم -والعياذ بالله- خاصة في هذه الآونة الأخيرة قد ينتكس عن طلب العلم، فما هو السبب في كونه ينتكس -والعياذ بالله- عن الهداية؟ و A أن المراد بطالب العلم الذي أراد الله له الثبات هو طالب العلم الصادق مع الله في طلبه، المتأدب مع العلماء؛ ولذلك لن تجد إنساناً يستجمع خصلتين: الصدق في طلب العلم، والأدب مع العلماء إلا وجدته عالماً في عاقبة أمره، والعكس بالعكس والعياذ بالله! فينبغي للإنسان أن يجند نفسه لسلوك سبيل العلم علَّ الله أن يثبت بذلك قدمه على الهداية.

محبة العلماء والجلوس بين أيديهم

محبة العلماء والجلوس بين أيديهم السبب الرابع من أسباب الثبات على الهداية: محبة العلماء وغشيان حلق الذكر، فإنهم هم القوم الذين لا يشقى بهم جليس، ومن أحب رياض العلماء وداوم الجلوس فيها تقرباً إلى الله وتحبباً إليه؛ ثبت الله قلبه على الهداية، وثبت قدمه في السبيل المفضي إلى رحمة الله ورضوانه، فلا تجد إنساناً يحافظ على مجالس العلماء، ويحافظ على حلق الذكر إلا كان قلبه في انشراح عظيم، ونفسه في طمأنينة عظيمة بذكر الله جل وعلا وشكره والثناء عليه. لقد جعل الله العلماء هداة مهتدين، جعلهم ورثة للأنبياء، وجعل الخير في اتباعهم والاقتفاء لآثارهم، ومن أحب قوماً حشر معهم؛ فمن أحب العلماء حشره الله مع العلماء، ومن تطفل على حلق الذكر راجياً رحمة الله بيض الله وجهه في الدنيا والآخرة وثبت له القدم حين تزل الأقدام.

الاستجابة لداعي الكتاب والسنة

الاستجابة لداعي الكتاب والسنة السبب الثالث من أسباب الثبات على الهداية: الاستجابة لداعي الكتاب والسنة، فإذا أتتك الآية من آيات القرآن، وأتاك الحديث من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم أو إقراره أو عمله، تلهفت نفسك شوقاً للعمل به، فإنه ما من عبد يدمن الطاعة لله عز وجل ورسوله ثم تزل قدمه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] إخواني! لأنه ما من إنسان يسعى جهده في تطبيق أوامر الشرع، والتزام أوامر الكتاب والسنة إلا ثبّت الله قدمه على الهداية. فلتتأثروا بمواعظ القرآن كلام الرحمن، واغسلوا القلوب بذلك الدواء النافع والعلاج العظيم، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68]. من تأثر بمواعظ القرآن وانكسر قلبه خشية للرحمن، فإن الله يثبت له الجنان، ويجعله على استقامة وطاعة لله عز وجل؛ ولذلك ما عرف عن إنسان حريص على اتباع السنة وتطبيقها -في نفسه وولده وأهله- أن قلبه ينقلب عن طاعة الله يوماً من الأيام؛ لذلك -إخواني- انتهجوا هذه المناهج الكريمة، وتعرضوا لنفحات من الله ورضوان، وذلك إنما يكون بالتأثر بآيات القرآن. لقد كان السلف الصالح من أقوى العباد وأكملهم استجابة لأوامر الكتاب والسنة، فصلحت لهم الأحوال، وأوجب الله لهم حسن الخاتمة والمآل؛ فمن تغذى قلبه بمحبة الكتاب والسنة، فإن الله تبارك وتعالى يثبت قلبه؛ لأن القرآن طريق الهداية الأول الذي لا هداية إلا عن طريقه. قال الله في محكم كتابه: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] فدل هذا على أن الوحي طريق الهداية، وأن العبد إذا اهتدى بالوحي دعاه ذلك للثبات على سبيل الله وطاعته ومرضاته، وكذلك السنة؛ فهي نور على نور، ورحمة على رحمة، فمن اقتفى آثار النبي الكريم هداه الله تبارك وتعالى وثبت الله قدمه على الهداية، قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] اتبعوا هذا النبي الكريم لعلكم تهتدون، فكل من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان متأثراً بأقواله وأفعاله فإنه يحب السنن، ويحب تطبيقها والتزامها وكلما سمع سنة كان جل همه أن يطبقها، فذلك هو العبد الذي أوجب الله له الهداية والثبات. إخواني! ينبغي للإنسان أن يُغذي قلبه بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم محبة تدعوه أن يؤثره على كل شيء حتى على نفسه التي بين جنبيه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... ) فإذا كان العبد يحب الله من كل قلبه، ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم محبة تدعوه إلى المتابعة الصادقة المجردة من الهوى، فإنه لا شك أنه من أسعد العباد وأفوزهم بالهداية، ولذلك لما تأثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بآثاره واهتدوا بهديه كانوا أكمل الأمة ثباتاً على الحق؛ اكتمل لهم الإيمان عندما تأثروا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يدمنون تطبيقها، ولا يطمئن الرجل منهم إلا بالتزامها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فقد تأثروا بتلك السنة حتى كان الواحد منهم يحب الطعام الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك -إخواني- ينبغي للإنسان أن يُغذي قلبه بمحبة السنن والآثار والسير على نهجها والاقتفاء بآثارها.

سؤال الله الهداية والثبات عليها

سؤال الله الهداية والثبات عليها أول تلك الأسباب وأعظمها: أن يتوجه العبد إلى الله جل وعلا بقلب صادق منكسر بين يديه يسأله الثبات على الهداية، فإن الدعاء حبل متين من الله عز وجل؛ من استمسك به نجا، ومن استعصم به أغاثه الله جل وعلا إذا استغاث، وأجاره إذا استجار، فالله بيده الهداية والضلال، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، هو الذي يعطي ويمنع؛ فإن أعطى فلا مانع لما أعطى، وإن منع فلا معطي لما منع. إن أول طريق للبقاء على الهداية والثبات عليها: أن يتوجه القلب إلى الله بصدق وإخلاص، فما من عبد يسأل الله بصدق أن يثبت قدمه وقلبه على الهداية إلا كان حقاً على الله أن يثبته، فسلوا الله الثبات على الهداية فذلك شأن الأخيار ودأب الصالحين الأبرار، وقد حكى الله جل وعلا دعاءهم في محكم كتابه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. أولئك الأقوام الأخيار علموا أن الهداية منحة من الله، وعطية منه جل شأنه، لا سبيل للبقاء عليها ولا طريق للدوام عليها إلا إذا صدق العبد في سؤال الله ذلك، وقد دلت دلائل السنة على ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أهدى العباد لربه وأتقاهم وأشدهم خشية لله عز وجل- كثيراً ما يسأل الله الهداية، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى) فكان يسأل الله الهداية. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول بين السجدتين: (اللهم اهدني وارحمني، وعافني وارفعني، واجبرني ... ) إلى آخر الدعاء المأثور، فمن تعلق بباب الله ولجأ إلى جنابه، وصدق في دعائه بسؤاله أن يثبت قلبه على الهداية، فحقٌ على الله أن يُعطيه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم ... ) وعد من الله أن يهدي من سأله الهداية. إخواني! من الذي أنقذ القلوب من تلك الظلمات؟ فإن أقواماً ما عرفوا الله في حياتهم كلها! وما وقفوا يوماً من الأيام ببابه يسألونه الهداية، ومع ذلك تكرم وتفضل ووهب سبحانه، أليس خليقاً به جل وعلا إذا تعلقت ببابه، ولذت بجنابه، وأظهرت الفاقة إليه أن يثبت لك القدم على سبيله؟! فهو الحقيق بأن يهب ذلك، لذلك؛ وإني أدعوكم إلى الله جل وعلا في مظان الإجابة التي ثبتت بها النصوص الصحيحة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فسلوه الثبات على الهداية في الأسحار، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود؛ فإن الدعوة تقرع بابه، وتنزل إلى رحابه طالبة من عظيم فضله ومنه وكرمه. فأول أسباب الثبات على الهداية: أن تدمن سؤال الله أن يثبت قلبك على الإيمان، وأن يذيقك حلاوة طاعته وذكره وشكره.

تقوية شجرة الإيمان بالله في القلب

تقوية شجرة الإيمان بالله في القلب أما السبب الثاني وهو أجلها وأعظمها: تغذية القلوب بالإيمان بالله؛ لأنه ما من قلب يقوى اعتقاده في الله جل وعلا إلا ثبت ولم تزل قدمه أبداً؛ ولذلك قال بعض السلف: "ما عرف سوء الخاتمة لإنسان مستقيم في عقيدته" فإذا تغذت القلوب بالإيمان بالله، وتعرفت على الله جل وعلا حق المعرفة -عن طريق ذلك الكتاب المبين وتلك السنة العطرة النضرة- أوجب ذلك لها الثبات على طاعة الله جل وعلا. تعرفوا على الله، فإن القلوب التي تعرف الله لا تجحده، ولا تُعرض عن الله أبداً، ولذلك إذا نزل الإيمان إلى جذور القلوب اهتدت إلى علام الغيوب: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11]. من ازداد في إيمانه، وزاده الصباح والمساء معرفة بمن يقلب الليل والنهار، وبمن له العشي والإبكار؛ دعاه ذلك للثبات على الهداية، وأن يكون الله أحب إليه من كل حبيب، وأرجى لقلبه من كل مرجو. إخواني! لا يمكن أن يثبت القدم إلا إذا عظم الإيمان بالله تبارك وتعالى، وهذا الكون محراب التفكر والتأمل والنظر، فقد جعل الله عز وجل فيه الدلائل الناطقة بوحدانيته، والشاهدة بعظمته وألوهيته، فإنك إن نظرت أمامك وجدت دلائل عظمته، وإن نظرت وراءك وجدت دلائل قدرته، وإن نظرت عن يمينك ويسارك ومن فوقك وتحتك -بل لو نظرت في نفسك- لوجدت دلائل عظمته وشواهد رحمته، فإذا تغذى القلب بالإيمان بالله عز وجل فإنه سيرسخ في البقاء على طاعة سيده ومولاه.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة للمرأة المسلمة

نصيحة للمرأة المسلمة Q نرجو توجيه نصيحة للمرأة المسلمة؟ A يا نساء المؤمنين! إن الله أدبكن فأحسن تأديبكن، ورباكن فأحسن تربيتكن، إن الله تعالى وعد المحسنات منكن أجراً عظيماً، ووعد العباد بأنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى على أيديكن تتربى الأجيال، فأوصيكن بتقوى الله عز وجل التي هي سبب التوفيق لكل خير في الدين والدنيا والآخرة، وأوصيكن أن تتقين الله في محارم الله، وأن تحاول الواحدة جل أمرها أن تحرص كل الحرص عن البعد عن الفتن والمحن، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين، فلا تعرضن أنفسكن لمحارم الله جل وعلا. لتحاول كل واحدة أن تكون صادقة مع الله عز وجل في تربية الأبناء والبنات، فإن صلاح الأم صلاح للمجتمع، ولكُنَّ في السلف الصالح من نساء النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، لكُنَّ في نساء النبي صلى الله عليه وسلم تلك النماذج الطاهرة، فأوصيكن بقراءة سيرة السلف بقراءة سيرة الصالحات الطاهرات اللاتي عمرن الكون بطاعة الله جل وعلا، وبإخراج الرجال الصادقين في طاعتهم ومحبتهم لله جل وعلا. إن صلاح الأم صلاح للأمة، فكم وجدنا من العلماء العاملين والرجال الصادقين الصالحين من كان السبب في صلاحه أمه، حتى قالت أم سفيان الثوري رحمها الله قولتها المشهورة: (يا بني! اطلب العلم أكفك بمغزلي)، فلذلك أختي المسلمة! فاحتسبي عند الله تربية الأجيال على طاعته ومحبته. كما أوصيكن بالأزواج خيراً، ولتكن الواحدة منكن -على قدر استطاعتها- معينة لزوجها على محبة الله ومرضاته، فكم من نساء صالحات طاهرات كن سبباً في صلاح الأزواج، وكم من نساء صالحات طاهرات ثبت الله بهن القلوب على الهداية، ألم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم المؤمنين خديجة ذَعِرَاً مرعوباً مرهوباً فقال لها: (لقد خشيت على نفسي) فمن الذي ثبته بعد الله؟ من الذي قال له تلك الكلمات الطيبات؟ إنها تلك المرأة الصالحة التي عرفت ربها واتقت الله في بعلها، فقالت له المقالة الصادقة: (كلا، والله لا يخزيك الله). وأحذركن من تلك النماذج السيئة التي بليت بها الأمة في هذا العصر. الله! الله! أن ترغبن عن تلك الصالحات الطاهرات، وأن تستبدلن بسيرهن العطرة ومواقفهن النضرة بسير الماجنات الداعرات، الله! الله! أن تؤثر عليكن الكثرة الداعية إلى محارم الله، البسي جلبابك واحفظي حياءكِ، واتقي الله عز وجل في ليلكِ ونهارك، واعلمي أن جمالكِ في الحجاب الذي به استترتي، وبالقلب الذي تضمينه بين جنبيكِ، ليس الجمال جمال الصورة بمثل جمال القلوب التي هي محط نظر الرحمن، ومحط رحمته وصلواته، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). كم نحن بحاجة إلى تلك النماذج الطاهرة الطيبة الصالحة التي تُذكِرُ بالنساء الصالحات وتجدد لنا المآثر الكريمة من سلفنا الصالح، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح الأحوال، وأن يحسن العاقبة والمآل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

وسائل التخلص من الرياء

وسائل التخلص من الرياء Q كيف يمكن أن يتخلص من الرياء؟ A لا أعرف سبباً يعين على التخلص من الرياء مثل الأمرين اللذين سبقت الإشارة إليهما، أولهما: الدعاء، فتسأل الله أن يجعلك مخلصاً، قال الله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46]. الأمر الثاني: تذكر الآخرة هذان الأمران. من أهم الأسباب التي تعين الإنسان على الإخلاص وترك الرياء، ولذلك لا تجد إنساناً قلبه معمور بالآخرة ثم يكون مرائياً، والعكس بالعكس؛ فما من إنسان يغفل عن الآخرة إلا وجدته والعياذ بالله مرائياً في قوله وعمله، ومرائياً في ظاهره وباطنه. ومن الأمور التي تعين على الإخلاص وترك الرياء: إعظامك للمثوبة عند الله عز وجل، فإذا علمت أن الله سبحانه وتعالى يتقبل منك القليل ويجزيك عليه بما لم يخطر لك على بال دعاك ذلك إلى الإخلاص؛ لأن العبد إذا عظم الله دعاه ذلك إلى إحسان المعاملة مع الله عز وجل، ونسأل الله أن يكرمنا وإياكم بالإخلاص لوجهه.

وسائل التخلص من العجب

وسائل التخلص من العجب Q أنه إذا قام جزء من الليل يعجب بنفسه وعمله، فهل هذا من الرياء؟ A العجب داء وبلاء عظيم، وقد قال بعض السلف: (لئن أبيت نائماً وأصبح نادماً، أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً) بماذا تعجب؟ من الذي وفقك للقيام؟ من الذي صرف عنك الهوى والشهوات التي لو أطبقت عليك ما استطعت أن تتخلص منها إلا أن يرحمك الله؟ من الذي أعانك بالصحة والعافية؟ من الذي حبب لك أن تقوم بين يديه؟ من الذي سهل لك السبيل؟ وماذا تساوي هذه الركعات والسجدات التي تسجدها وتركعها بين يدي الله مقابل نعم الله عز وجل عليك؟ فاحتقر العبادة، وما تقدمه في جنب الله، فالله لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، والله جل وعلا لن نبلغ نفعه فننفعه، ولن نبلغ ضره فنضره: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً). تذكر من هم أكثر منك إيماناً، تذكر العلماء الراسخين في العلم الذين أوجب الله لهم درجات لم تخطر لك على بال، تذكرهم واحتقر نفسك. فمن وصايا العلماء: (أن الإنسان إذا بلي بداء عالجه بضده) فإذا بليت بالعجب، عالج ذلك العجب باحتقار العمل، وإذا كان الإنسان معجباً بالطاعة فعليه أن يعاشر الأخيار حتى يحتقر طاعته في جنب طاعتهم، وأن يكثر من حضور حلق الذكر حتى يتأثر بالعلماء فيحتقر صلاحه في جنب صلاحهم. والله تعالى أعلم.

نصيحة لطالب العلم

نصيحة لطالب العلم Q رجل لم يستفد من طلبه للعلم خلال ثلاث سنوات؛ وذلك لأنه لا يسير على منهج واحد، فكيف يصحح مسيره في طلب العلم؟ A إذا أردت أن تصحح مسيرك في طلب العلم، فعليك: أولاً: بالإخلاص لله عز وجل؛ وثق ثقة تامة أنك ستعطى من العلم على قدر إخلاصك، فإذا تكلمت تكلمت لله، وإذا عملت عملت لله، والسلف الصالح -رحمهم الله- عندما صدقوا مع الله في طلب العلم هانت عليهم الأسفار، وهانت عليهم مشاق الليل والنهار، كل ذلك عندما أخلصوا لله عز وجل، وقد قال بعض العلماء موصياً ابنه: (يا بني! أخلص لله يأتك العلم). أذكر أني ذات مرة كنت مع الوالد -رحمه الله- في المكتبة، فجاء لكي يضع تفسير القرطبي ففاضت عيناه من الدمع، ثم قال لي: يا بني! لقد كنت أحلم أن أرى القرطبي بعيني، وكنت شغوفاً بجمع كتب العلم وعلم جدك بذلك، فقال لي: يا بني! أخلص لله تأتِ كتب العلم إليك، قال: فهأنذا عندي ثلاث نسخ منها، أليست هذه نعمة؟ قلت: بلى، والله إنها لنعمة، فمن أخلص لله في طلب العلم أعطاه الله العلم. ثانياً: عليك أن تحاول قدر استطاعتك أن تأخذ العلم عن العلماء؛ لأن كثيراً من طلاب العلم -خاصة في هذا الزمان لا يأخذون العلم إلا من الكتب، نعم الكتب فيها خير ولكن يفوتهم من الخير ما لم يخطر لهم على بال، العلم يؤخذ من صدور الرجال، يؤخذ حينما تزاحم العلماء بركبتيك وتتعرض لرحمة الله بالتواضع في الجلوس في حلق الذكر، فتكون خطواتك وأنفاسك وسمعك وبصرك في سبيل الله؛ لأنك تقرأ وتكتب وتسمع، وتفكر في مسائل العلم، فالعلم لا يؤخذ من السطور كما يؤخذ من الصدور؛ ولذلك قال بعض العلماء في شرح الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء؛ ولكن يقبضه بموت العلماء) قال بعض العلماء: (في هذا دليل على أن العلم يؤخذ عن الرجال)؛ لأنه لو كان العلم يؤخذ عن الكتب ما قال: ينتزعه انتزاعاً، ولكن قال: (بموت العلماء) فدل على أن العلم مربوط بالعلماء، ولذلك أوصي كثيراً طلاب العلم أن يكونوا حريصين على أخذ العلم من العلماء، قالوا: (من كان شيخه الكتاب، فخطؤه أكثر من الصواب) فإن الإنسان لا يأمن من تحريف المطبعة أو من الفهم السقيم، فلربما يفهم الشيء على غير ظاهره، وكذلك أيضاً قال بعض العلماء من مظنة الفهم في العلم: (أن الإنسان يوفق للجلوس أمام يد العالم) ومن المجرب أنك إذا جلست في مجالس العلماء وجدت من التيسير في طلب العلم ما لم تجده لو جلست تقرأ وحدك، فالمقصود: إن من أسباب عدم ثباتك أنك تطلب العلم من الكتب، وهذا ظني، والله أعلم. الأمر الأخير الذي أوصيك به: بما أنه تبين لنا أن طلب العلم يؤخذ من العلماء؛ فينبغي أن تتخير العالم الذي هو أهل لأن يؤخذ العلم عنه، وقد قال عبد الله بن مسعود -كما ورد في صحيح البخاري-: (أيها الناس! إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) إذا كنا في تجارة الدنيا نترقب ونحاول أن نجد التاجر الصادق في معاملته، فقل لي بربك، كيف بتجارة الآخرة؟ فينبغي للإنسان أن يتخير العالم العامل الذي يذكره بالله عز وجل في قوله وعمله، ويعينه في الثبات على طلب العلم، والله تعالى أعلم.

حكم قراءة القرآن نظرا في التهجد

حكم قراءة القرآن نظراً في التهجد Q هل يجوز قراءة القرآن نظراً في قيام الليل إذا لم يكن القائم يحفظ القرآن؟ A نعم، يجوز ذلك طلباً للمصلحة المترتبة على القراءة، واحتج العلماء لجواز ذلك بما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر مولاها أن يقوم بها الليل بالمصحف، والله تعالى أعلم.

وسائل معينة لحفظ كتاب الله

وسائل معينة لحفظ كتاب الله Q إن حفظي للقرآن رديء جداً، وإني أحاول بشتى الطرق أن أحفظه، فهلا أرشدتني إلى طريق يسهل عليَّ حفظه؟ A أول طريق هو: الدعاء، وما من مصلحة من مصالح الدنيا والآخرة تدرك بشيء مثل الدعاء، فأوصيك، فإن الله تبارك وتعالى هو القادر أن يهبك الحفظ وأن يسلبك إياه. الأمر الثاني: أن تأخذ بالأسباب المعينة على الحفظ، وأعظمها وأساسها: الإخلاص لله عز وجل، تفقد نفسك، فلربما كانت نيتك فيها دخن، حاسب نفسك علَّ الله سبحانه وتعالى أن يكرمك بإعادة النظر الذي يوجب لك صلاح النية، وإذا صلحت النية أعان الله عز وجل العبد على مقصوده. الأمر الثالث: أن تتوخى الأسباب، وذلك بأن تحاول كثرة التكرار والترداد. الأمر الرابع: اختيار الآيات القليلة، فالإنسان إذا أراد أن يحفظ يتخير آيات قليلة ولا يستعجل الحفظ، فقلة الشيء الذي تقرؤه وكثرة تكراره يوجب لك الحفظ ويكون حفظك قوياً. اكتب قليلاً إن أردت تحفظ وعظم الحروف إن أردت تلفظ فالإنسان إذا أراد أن يحفظ القرآن يكون القدر الذي يريد أن يحفظه قليلاً، وأن يدمن التكرار في حفظ ذلك. الأمر الخامس: كثرة المراجعة وخاصة عند قيام الليل. ومن أهم الأسباب التي أوصى السلف الصالح رحمهم الله بها والتي تعين على الحفظ: البعد عن محارم الله عز وجل؛ لأنهم يقولون: إن المعاصي شؤمها عظيم على العبد؛ ولذلك إذا نزلت في الديار والأعمار محقت بركتها والعياذ بالله! فينبغي على الإنسان أن يبتعد عن المعاصي ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي ذلك يقول الشافعي رحمه الله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي والله تعالى أعلم.

قضاء صلاة الوتر

قضاء صلاة الوتر Q أريد أن أقوم من الليل؛ ولكن النوم يغلبني، فماذا أفعل إذا فاتني الوتر؟ هل أقضيه من النهار؟ وكيف أستطيع المواظبة على قيام الليل؟ A بالنسبة لقضاء الوتر: فإن السنة أن يقضيه الإنسان إذا فاته بالليل بعد طلوع الشمس إلى الزوال؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من فاته حزبه من الليل فقرأه بين طلوع الشمس إلى زوالها؛ كتب له كأنما قرأه من ساعته) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ومن السنة أنه إذا قضى الوتر أن يشفعه بركعة واحدة، فإذا كان وتره ثلاثاً شفعه بواحدة حين يكون أربعاً؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاته قيامه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة) قال العلماء: لأن سنته في قيام الليل كانت إحدى عشرة ركعة، فكان يشفع ركعة الوتر فتمت بذلك الركعة الثانية عشرة، فهذا يدل على أن وتر النهار يشفع. ومن الفوارق أيضاً: أنه لا يقنت في وتر النهار بخلاف وتر الليل، والله تعالى أعلم. أما المحافظة على قيام الليل فهناك سبب من أهم الأسباب التي تدعو إلى قيام الليل؛ وهذا السبب هو تذكر الآخرة، فمن أحب أن يُحافظ على قيام الليل فعليه ألا يغيب عن ذهنه ذكر الآخرة، وذكر الآخرة هو السعادة بعينها من تذكر أنه ستمر عليه مثل هذه الساعة وهو ضجيع اللحد والبلاء، رهين بالقول والعمل؛ فإنه تهون عليه الدنيا وما فيها من تذكر أنه سُيغلق عليه في تلك الظلمة والحفرة، وأنه لا يجد إلا هاتين الركعتين أو هذه التسبيحة والاستغفار؛ دعاه ذلك إلى أن يهون عليه النوم، فيتقلب بين يدي الله عز وجل راكعاً ساجداً: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] من علم أنه ستمر عليه مثل هذه الساعة واللحظة، لا يجد مؤنساً ولا شفيعاً، ولا يجد موجباً لذهاب الهم والغم إلا العمل الصالح؛ دعاه ذلك إلى أن يكون جل همه أن يديم الطاعة ليلاً ونهاراً، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] كان السلف الصالح رحمهم الله من أكمل الأمة ذكراً للآخرة، فقد كان أحدهم إذا أراد أن يضطجع لكي ينام تذكر النار، فقام يتقلب وهان عليه ذلك المضجع، وآخر إذا جاء لكي ينام وشعر بالدفء والراحة تذكر ضجعة القبر فوجل فؤاده واضطرب جنانه، وسهل عليه أن يقوم في شدة البرد أو في شدة الحر لكي يتوضأ وينتصب بين يدي الله بركعة أو سجدة يرجو بها رحمة الله عز وجل ورضوانه، والله لو أن أهل القبور سُئلوا عن أعز شيء يتمنونه، لتمنوا تسبيحة أو استغفاراً يزاد في صحيفة العمل. نسأل الله العظيم أن يكرمنا وإياكم بذلك.

تحديد وقت السحر وما يفضل فيه من العمل

تحديد وقت السحر وما يفضل فيه من العمل Q ما هو وقت الأسحار؟ وما الأفضل فيه: القيام أو الاستغفار والتسبيح؛ لأن الله تعالى قال: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]؟ A وقت الأسحار هو ما قبل الفجر مباشرة، ويطول ويقصر بحسب طول الليل وقصره؛ ولذلك كان أفضل قيام الليل قيام الثلث الآخر من الليل وهو الذي ينزل فيه الله تعالى -نزولاً يليق بجلاله وعظمته- لكي يبسط موائد رحمته وفضله، فيقول: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟). إن من الأفضل أن يجمع الإنسان بين الصلاة والاستغفار فيقوم الليل ويستغفر في قيام الليل، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (من أفضل العبادة: ركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل) فهذا يدل على فضل إحياء ذلك الوقت بالعبادة، فإذا جمع الإنسان بين الخيرين فهو الأفضل؛ لأنه تحصيل لأمرين دل الشرع على فضلهما، والله تعالى أعلم.

المحبة في الله وثمارها

المحبة في الله وثمارها Q كيف تكون المحبة في الله، وما فضلها؟ A المحبة في الله هي بمعنى أن يكون السبب الباعث على محبتك للإنسان هو أن الله يحبه، وذلك يكون حينما ترى عليه الآثار الموجبة لمحبة الله، فعلى سبيل المثال: ترى عبداً محافظاً على الصلاة؛ فتحبه لمحافظته على الصلاة، وترى إنساناً من طلاب العلم، فتحبه لطلبه للعلم، فالصلاة وطلب العلم يحبهما الله عز وجل، فإذا كان السبب الباعث على المحبة ما يحبه الله ويرضاه، فتلك هي محبة في الله. أما آثارها: فالتواصي بالحق؛ والله عز وجل قد نفى الخسارة عن أهلها فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] فالأخ في الله هو الذي إذا نسيت الله ذكرك، وإذا ذكرت الله أعانك. إن من سعادة المؤمن أن يهيئ الله له أخاً صالحاً يعينه على طاعة الله. ومن آثارها وفوائدها: أنها سبب للثبات على طاعة الله، فهذا نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام يحمله الله النبوة التي هي أعز وأكرم شيء يكرم به العبد، ومع ذلك ماذا يقول؟ قال الله تعالى مخبراً عنه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:25 - 34] نبي من أنبياء الله يتمنى أن يعطيه الله أخاً صادقاً يعينه على ذكر الله. إنك تجد من أخيك الصادق خيراً كثيراً حتى في أمور الدنيا؛ كأن يحفظ لك الأسرار، ويحاول أن يكون لك نعم العون بعد الله. إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيه شمله ليجمعك عندما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "والله لا أبكي على فراق الدنيا، ولكن أبكي لأني لم أجد في الحياة خِلاً خليلاً، صادقاً صديقاً في مودته ومحبته". وهذه الأوصاف لا توجد إلا في الإخوان والأحباب في الله. وأما ثمراتها في الآخرة فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عنه تعالى أنه قال: (وجبت محبتي للمتزاورين فيَّ، والمتحابين فيَّ) وفي الحديث الآخر القدسي عنه تعالى أنه يقول: (أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) وقال الله في محكم التنزيل: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] ولله در الشاعر إذ يقول: انظر إذا آخيت من تؤاخي فما كل من آخيت بالمؤاخي نسأل الله العظيم أن يكرمنا وإياكم بذلك. ومن ثمراتها: أن يُظل العبد في ظل الرحمن، كما في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه في حديث السبعة: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه).

عقوق الوالدين من أسباب ضعف الإيمان

عقوق الوالدين من أسباب ضعف الإيمان Q أنا رجل وفقني الله عز وجل للاهتداء قبل سنتين، وفي هذه الأيام أشعر بالتقصير، فأرجو توجيه نصيحة لي؟ A كما سبق وهو السؤال نفسه؛ لكن أذكر بعض الإخوان أنه أصابه شيء من هذا، وكان طالب علم يقول: أجد في نفسي قسوة لا أدري ما سببها، وأجد في نفسي أنه تمر عليَّ الآيات التي تبكي من خشية الله عز وجل ومع ذلك لا أتأثر، فقلت له: يا أخي! أسألك -واصدق معي في جوابك- كيف حالك مع الله؟ حق الله أمران: فعل الفرائض وترك المحارم، فكيف أنت في فعل الفرائض وترك المحارم؟ قال: والله لا أنكر من نفسي شيئاً، ولا أقول ذلك تزكية لنفسي. فقلت: الحمد لله، هذا حق الله، فلننتقل إلى حق العباد، كيف أنت مع والديك؟ إن بيني وبين أبي نوع من سوء التفاهم، لا أستطيع أن أُحسن الكلام معه، ولا أستطيع أن أُحسن بره، فقلت: يا أخي! من هنا جاءك البلاء، فإنك عندما عصيت الله في بر الوالدين أوجب لك تلك القسوة، فحاول إصلاح حاله، قال: فما مضت إلا ثلاثة أيام حتى تغير حالي، يقول لي: والله حتى حفظي تغير، عندما أحسن في بر الوالدين، بر الوالدين ليس شيئاً هيناً، الله تعالى يذكر عبادته ويقرن بر الوالدين بها: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] حتى قص علينا شرائع من قبلنا فذكر بر الوالدين فيها: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] بر الوالدين من أعظم الأسباب التي توجب للعبد سعادة الدنيا والآخرة، إذا بلغ ببر الوالدين أن يوصي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه -الذين هم أكمل الأمة إيماناً واتباعاً له- يوصيهم إذا رأوا أويس القرني أن يدعو لهم. إن كثيراً من الشباب الذين أكرمهم الله بالهداية ربما يلاحظون على الوالدين بعض التقصير، فيسيئون إليهما، ولربما يبلغ الحال إلى ما فيه سخط الله عز وجل وغضبه؛ فإذا أردت أن يذهب الله عنك ما تجد فعليك أن تتفقد أوامر الله ونواهيه، ثم عليك أن تتفقد حقوق العباد، وأولها حق الوالدين وتفقد -أيضاً- من تحت يديك من العمال أو الموظفين، تفقد جميع من ولاك الله أمره، حتى أبناءك انظر إلى معاملتك لهم، فقد تجد أسباباً أوجبت لك ذلك التغير، واعلم أنه ما من هم يصيبك إلا ووراءه سيئة أو خطيئة أوجبته: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، والله تعالى أعلم.

دعوة الوالدين

دعوة الوالدين Q ما هي الطريقة التي تجعل والدي مهتدياً؟ A أولاً: اعلم أنه ليس هناك أفضل من الدعاء، فعليك أن تدعو لأبيك في صباحك ومسائك أن يهديه الله إلى سواء السبيل. ثانياً: أن تأخذ بالأسباب الموجبة لهدايته؛ وذلك بكثرة تذكيره بالله عز وجل. ثالثاً: ينبغي عليك أن تتوخى الأسلوب المؤثر، فإن الأب يتأثر بنصيحة ابنه إذا جاءت بأسلوب طيب مؤدب، وقد علمنا الله تعالى الأدب مع الوالدين في دعوتهم، فهذا نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما دعا أباه قال الله تعالى حاكياً عنه ذلك عندما قال له أبوه: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47] مع أنه آذاه وقال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47] منهج رباني يبين لنا أنه ينبغي للابن أن يحسن الأدب مع أبيه ولو كان كافراً. يقول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فينبغي عليك أن تحرص كل الحرص على أن تكون متأدباً في دعوة أبيك حتى يرى أن الهداية أثرت فيك، فإذا أقبلت عليه أظهرت له السرور والمودة، وكل ذلك طلباً لهدايته والعكس بالعكس، فكثير من الإخوان لا يحسن معاملة الوالدين ولا النصح لهما، وتكون النتائج على خلاف ذلك؛ ولذلك ما من إنسان يحسن الأدب مع والديه إلا تأثر الوالدان بنصحه، فينبغي لك بعد الدعاء أن تدعو الوالدين وأن تحسن الأدب في الدعوة. رابعاً: أن تتوخى الأسباب المؤثرة، فإذا حدث أمر يحبه والدك فذكره بنعمة الله عز وجل عليه، وكذلك -لا قدر الله- إذا حصلت مصيبة ذكرته بشديد عذاب الله وعظيم نقمته.

من أسباب الانتكاس

من أسباب الانتكاس Q بعض الشباب الذين اهتدوا بسبب مجالستهم للشباب الملتزمين، الآن نلاحظ عليهم بعض الانتكاس، فماذا نفعل؟ A هذا الانتكاس له أسباب؛ ذلك أننا نجد كثيراً من الشباب يقولون: كنا في بداية الهداية نحس براحة نفسية، وكنا نحس بإقبال على الخير، وتلهف وشوق إلى رحمة الله، ولكن سرعان ما نفقد ذلك، وسرعان ما تتغير القلوب بعد فترة معينة، فما هو السبب في ذلك؟ يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] إن كثيراً من الشباب لو نظر في حاله عند بداية الهداية وحاله الآن لوجد البون شاسعاً؛ لقد كنا في بداية الهداية تتفطر قلوبنا شوقاً لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكنا نحسن الأدب مع العلماء، ونحسن الأدب في الحديث، وكنا نراقب الله في أقوالنا وأفعالنا، ولكن غيرنا فغير الله علينا، نعم. عندما تغيرت تلك المجالس التي كانت مليئة بذكر الله ومليئة بالتذكير والتواصي بالحق عندما تغيرت إلى القيل والقال، وفي أمور لا يحبها الله ولا يرضاها -من غيبة ونميمة- أدى ذلك إلى تغير الحال؛ فينبغي أن ننظر في حالنا. إن بعض الشباب إذا أصاب لذة الهداية لربما يغتر إلى درجة أنه يخطئ العلماء، وقد يجترئ على القول على الله بدون علم. هذه الأمور هي التي أظلمت بها القلوب وتنكبت بها الأقدام في الدروب وحادت عن طريق علام الغيوب؛ لأن الإنسان إذا كان صادقاً مع الله صدق الله معه، فينبغي لنا أن نتواصى بأمر مهم يضيعه كثير من الشباب؛ وهو عدم الغرور. ينبغي للإنسان -دائماً- أن يكون محتقراً لنفسه ولو كان أكمل الناس هداية، وينبغي أن يحس أنه بحاجة إلى رحمة الله وعفوه. كما أن بعض الشباب الذي له قدم سابقة في الهداية قد يتعالى على إخوانه المتأخرين في الهداية، وقد يفعل أموراً توجب انتكاس قلبه والعياذ بالله! فالمقصود: أن السبب في تغير الأحوال هو تغير القلوب، فبعد أن كانت خاشعة أصابها نوع من القسوة، وأصبحت في غفلة عن ذكر الله، فبُليت من السقم والمرض بقدر ما أصابها من ذلك، فينبغي للإنسان أن يراجع نفسه ويحاول قدر استطاعته أن يكون هادياً صادقاً في هدايته، وأن يحاول احتقار نفسه، ومهما صدر منك لا تنظر إلى من هو أسفل منك؛ بل انظر إلى من هو فوقك، وسابق غيرك في الطاعات وتنافس معه في الصالحات، فذلك يدعو العبد إلى الثبات على الهداية، والله تعالى أعلم.

التقوى وحسن الخلق

التقوى وحسن الخلق تقوى الله تبارك وتعالى: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله وتخشى عذابه، وهي نور يقذفه الله في قلب العبد، فيحمله هذا النور على أمرين: أولهما: أداء فرائض الله على الصفة المطلوبة، وثانيهما: اجتناب محارم الله على ما أراد الله تعالى. وهذه التقوى تلازم صاحبها في كل مكان، وهي خير زاد للمسلم الذي ينتظر لقاء الله.

التقوى خير وصية وخير زاد

التقوى خير وصية وخير زاد الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاطر الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه، وآتاه الآيات البينات والحجج الواضحات، صلى الله عليه وعلى آله، ومن سار على نهجه ومنواله إلى يوم تتفطر فيه الأرض والسماوات. أما بعد: فخير ما يوصى به المسلم تقوى الله عز وجل، وهي الوصية التي وصى الله بها الأولين والآخرين، وخص بها عباده الأخيار من الأنبياء والمرسلين، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ وَصيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]. وتقوى الله نورٌ يقذفه الله في القلوب، وسرٌ بين العبد وربه لا يعلمه إلا الله علَّام الغيوب، الله أعلم بمن اتقى، وأعلم بمن صلح وتزكى، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].

معنى التقوى ولوازمها

معنى التقوى ولوازمها وتقوى الله أن تعبد الله على نور من الله ترجو رحمة الله، وتخشى عذاب الله، وهذا النور يحمل العبد على أمرين عظيمين ما كانا في عبد إلا أحبه الله: أولهما: أداؤه لفرائض الله على الوجه الذي يرضي الله. وثانيهما: خوفه وخشيته من حدود الله ومحارمه، وكلما كمل تقوى العبد كلما وجدته أسبق إلى الخيرات، وأعف عن الحدود والفواحش والمنكرات، وكلما كمل هذا النور في القلوب كلما كان هذا العبد متعلقاً بربه، قريباً من طاعته، بعيداً عن حدوده ومعصيته. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بهذه الوصية العظيمة تأسياً بكتاب الله، وسَيراً على نهج رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم إلى يوم الدين، ولذلك لما جاءه الرجل وهو يريد السفر، قال: (يا رسول الله! إني أريد السفر فزودني، قال: زودك الله التقوى) فما وجد النبي صلى الله عليه وسلم زاداً يقذفه في سمع ذلك المؤمن إلا أن يدعو له أن يزوده الله التقوى، وأي زاد ذلك الزاد الذي شهد الله عز وجل أنه خير زاد، كما قال سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]. قال بعض العلماء: قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] فيه دليل على أنه ما خرج عبد بخصلة بعد الإيمان أحب إلى الله من تقوى الله عز وجل، وتقوى الله يربيها المسلم في قلبه بقراءة كتاب الله جل وعلا، وتدبر تلك الآيات، والنظر في تلك الكلمات العظيمات، والمواعظ البالغات، التي تقرب القلوب إلى ربها، وتحببها في طاعة خالقها، وتجعلها أعف ما تكون عن حدود الله جل وعلا ومحارمه. وما كمل تدبر العبد للقرآن إلا كمّل الله تقواه، ولذلك صدّر الله كتابه بقول: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] فأخبر أن هذا القرآن والكتاب يهتدي به المتقون، وينتفع به الصالحون جعلنا الله وإياكم منهم، فخير ما يتواصى به الأخيار تقوى الله جل وعلا. وتقوى الله تكون مع الإنسان وهو بين الناس، وتكون مع الإنسان وهو وحيد وفريد، وبين أهله وولده، ومع الأزواج والزوجات، ومع الأبناء والبنات. التقوى تكون مع الإنسان خالياً، فلربما ملكت قلبه ففاضت عيناه من الدمع، فحرم الله تلك العين على النار، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة إلا ثلاثة أعين -وذكر منها- عين بكت من خشية الله) فتكون التقوى مع العبد فريداً وحيداً، ولربما انفرد في ليلة لكي ينام، وأضجع شقه لكي يرتاح، حتى إذا أراد أن ينام تذكر حدود الله وحقوقه، فأشفق على نفسه من تقوى الله جل وعلا، ودمعت عيناه وهو لا يشعر، فأظله الله بتلك الدموع في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). قال بعض العلماء: وقلَّ أن يكون لعبد إلا إذا كان فيه تقوى لله جل وعلا، وتكون تقوى الله مع الإنسان وهو بين أهله وأولاده، يأمرهم بطاعة الله، ويحببهم في مرضاة الله، ويأخذ بتلك القلوب البريئة إلى محبة الله ومرضاته، ويجعلها على خير ما يكون عليه الابن وعلى خير ما تكون عليه البنت، يتقي الله وهو بين أهله وأولاده، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه جاءه النعمان وقال: يا رسول الله! إني نحلت بعض ولدي نحلة، وقالت أم فلان: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته ذلك؟ قال: لا، يا رسول الله! قال: اذهب فأشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور) وفي رواية: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). فتقوى الله تكون مع المسلم حتى وهو مع أولاده، في حركاته معهم وسكناته، وتفضيله لبعضهم على بعض، فيتقي الله فيهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم، وفي إدخال السرور عليهم، وفي تأمينهم، وغير ذلك من الحقوق التي فرضها الله عز وجل عليه، والتي إذا أداها على أتم الوجوه جعله الله على منبر من نور يغبطه عليه الأنبياء والشهداء، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، الذين يعدلون في أهليهم وما ولُّوا). كذلك تكون تقوى الله عز وجل مع المسلم وهو في تجارته، في بيعه وشرائه، وأخذه وعطائه، لا يمكن أن تقبض يده على مال، إلا وقد اتقى الله جل وعلا حين يأخذه، ولا يمكن أن تبذل يده شيئاً من المال إلا وقد اتقى الله جل وعلا وهو يبذله، يتقي الله جل وعلا؛ لأنه يعلم أن الله يحاسبه على كل شيء جنته يداه، وعلى كل شيء أعطته يداه، فتقوى الله تدخل مع العبد في جميع شئونه وأحواله. ولذلك قالوا: من أوصى بتقوى الله فقد أوصى بالدين، بل أوصى بجامعة الخير، كما قال الإمام الحافظ ابن عبد البر: جماع الخير كله تقوى الله، وما وصَّى نبي ولا عالم إلا استفتح وصيته بقوله: أوصيك بتقوى الله جل وعلا. ولذلك هي الوصية العظيمة التي ينبغي للمسلم أن يستشعرها في جميع شأنه وأحواله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من عباده المتقين، اللهم إنا نسألك أن تقذف في قلوبنا نورها، وأن تجعلنا من أهلها إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم خروج الدم من المتوضئ

حكم خروج الدم من المتوضئ Q هل خروج الدم ينقض الوضوء، سواءً كان كثيراً أم قليلاً أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها خلاف، والصحيح وهو مذهب الجمهور أن خروج الدم لا ينقض الوضوء لا كثيره ولا قليله، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث) وخروج الدم ليس بحدث وليس له حكم الحدث، والذين قالوا بوجوبه قالوا بالقياس فقاسوا خروج دم الإنسان من سائر البدن على خروج الفضلة، أي: البول والغائط، وهذا قياس مع الفارق، ويجاب عنه بأنه قياس في مقابل النص، والفارق بين الأصل والفرع أن البول والغائط خرجا من المخرج المؤثر، وأما الدم فإنه لم يخرج من مخرج مؤثر؛ فلا ينقض الوضوء. فمن خرج منه الدم يغسل عنه ذلك الدم ثم يصلي؛ فإن كان الدم كثيراً كالنزيف -والعياذ بالله- المستفحل؛ فهذا يصلي ولو نزفت جروحه؛ لأن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه ينزف من الطعنة التي طعن، يوم طعنه المجوسي عليه لعنة الله، وكذلك عباد بن بشر لما كان قائماً على الشعب، فإنه صلى وجراحه تنزف، فلا حرج على الإنسان في هذه الحالة كالمستحاضة تصلي ودمها يجري معها، والله تعالى أعلم.

حكم الإكثار من اللعن

حكم الإكثار من اللعن Q هناك بعض الناس يكثرون من لعن الحيوانات والجمادات، فما حكم ذلك أثابكم الله؟ A لا يجوز الإكثار من اللعن، حتى ولو كان لجماد أو حيوان، وقد تقدم أن اللعنة تغلق دونها أبواب السماء، وترد على صاحبها إذا كان الملعون غير مستحق لها، فلا يجوز للإنسان أن يكثر من اللعن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة) ومعنى قوله (لا يكونون) شفعاء أي: لا يشفعون لأهليهم وقرابتهم وأصحابهم يوم القيامة، (ولا شهداء) أي: يوم القيامة بين يدي الله جل وعلا. فالأمر خطير، فلا يجوز للإنسان أن يكثر من اللعن، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة لعنت دابتها فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصحبنا ملعونة) قال الراوي: فلقد رأيتها تسير -أي: الدابة- ولا يركبها أحد. فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يلعن، واللعن لا خير فيه، وينبغي للمسلم دائماً أن يعوَّد لسانه ذكر الله جل وعلا، والكلام الطيب، فإن اللسان إذا ألف ذكر الله جرى بذلك الذكر، ولو لم يكن في ذكر الله إلا انشراح الصدر، وطمأنينة القلب لكفى، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة في أوقات النهي

حكم الصلاة في أوقات النهي Q هل لأوقات النهي في الحرم المكي والمدني اعتبار أثابكم الله؟ A الحكم فيها على العموم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس) ولم يفرق بين أرض وأرض، وثبت في الحديث الصحيح عن الراوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة) فهذه كلها نصوص عامة، وليس هناك تفريق بين مكة وغيرها، واستثنى بعض العلماء ركعتي الطواف بمكة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بالبيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار) والله تعالى أعلم.

حكم سجدة الشكر

حكم سجدة الشكر Q ما حكم سجدة الشكر لله تعالى؟ A سجدة الشكر أصح الأقوال فيها هو قول الجمهور، وهو أنها مشروعة وجائزة، فلا حرج على الإنسان أن يشكر ربه، فإن الشكر كما يكون بالقول يكون بالفعل، فالشكر له ثلاث حالات: شكر القلب، وأشار الله إليه بقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] وهو أنك لا تمسي وتصبح إلا وأنت تعتقد أنه لا خير إلا من الله جل وعلا، وأنه لا نعمة تعيشها في نفسك ولا أهلك ولا ولدك إلا بفضل الله وحده، لا بحولك ولا قوتك لكن بفضل الله جل جلاله، فهذا شكر القلب: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] أي: اعتقدوا فضله فيها. النوع الثاني من الشكر: شكر اللسان، وأشار الله إليه بقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وهو أن تحدث وتقول: أنعم الله علي فسترني ورزقني وعافاني وأكرمني ورفعني ويسِّر لي؛ فتذكر نعم الله عليك، وتجلس مع أبنائك وبناتك تحدثهم بما كنت فيه من فقر وما صرت إليه من غنى، وبما كنت فيه من مرض وصرت إليه من عافية هكذا، فهذا من شكر الله جل وعلا، وقد قال الله عن هذا الشكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فمن شكر شكر الله له شكره، وبارك له في نعمته، ومن كفر فإن الله غني حميد، من شكر تأذن الله له بالمزيد، ومن كفر فإن الله غني عن العبيد. الأمر الثالث: وهو شكر العمل؛ فمن شكر العمل أن تصلي، فمثلاً: تذكرت كربة من الكربات فرجها الله عنك في صحتك ومالك وأهلك، فما تمالكت إلا أن قمت وتوضأت وصليت لله ركعتين شكراً له على هذا الفضل؛ فهذا من أبلغ ما يكون من الشكر، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] إن آل داود أعطاهم الله الخيرات وبسط لهم من النعم حتى إن الريح تجري بأمر سليمان رخاء حيث أصاب {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:37 - 39] ففتح الله لهم من الخيرات والبركات ما الله به عليم، ثم قال لهم: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً}:سبأ:13] أي: هذه النعم للشكر، ولكي تقيد بحمد الله والثناء عليه، وورد في الأثر أنه لما أوحى الله إليهم: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] ما مرت عليهم لحظة إلا وفيهم عبد قائم يصلي أو ساجد بين يدي الله جل جلاله. فهذا من شكر العمل، فتشكر الله بالصلاة، وتشكره -أيضاً- بالصدقة، فإنه يعطيك المال فتتصدق، وتشكره -أيضاً- حين يأتيك الفقير فتعطيه، تقول: نعم الله أغناني وكنت فقيراً، مثلما ورد في حديث الأعمى، فهذا من شكر النعم، كذلك سجدة الشكر؛ كأن تكون جالساً في يوم من الأيام فجاءتك النعمة أو جاءك الخبر السار، فعظمت نعمة الله في قلبك، فخررت ساجداً لوجه الله جل جلاله، فأثنيت على الله وحمدته، فنظر الله إليك في تلك الساعة التي أصابتك فيها نعمته، أنه أول ما بدا عليك أن شكرت الله جل جلاله، فهذا حال الصالحين، شكر الله بالقول والفعل والجنان. ولذلك إذا كمل شكر العبد كمل بهذه الأمور، وإذا أراد الله بالعبد النقمة سلبه الشكر، قال بعض السلف في قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] قال: من كيد الله للعبد ومكره به، أنه يعطيه النعمة ويسلبه الشكر حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر والعياذ بالله؛ لأنه كلما كفر كلما اشتد غضب الله عليه؛ فيزيده الله نعماً فيزداد كفراً، فيزيده نعماً فيزداد كفراً، حتى إذا جاءته النقمة تأتيه على أكمل ما تكون، نسأل الله السلامة والعافية. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يملأ قلوبنا وقلوبكم وألسنتنا وألسنتكم شكراً له جل جلاله. اللهم إنا نسألك شكر نعمك، ونعوذ بك من زوال نعمك وفجاءة نقمك، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

لا بد من الوفاء بالنذر على حسب النية

لا بد من الوفاء بالنذر على حسب النية Q زوجتي نذرت صيام أربعين يوماً متواصلة إن يسر الله لها أمراً وهذا قبل زواجنا، فصامت قريباً من واحد وثلاثين يوماً في بيت أهلها، ولكنها متقطعة وسبب ذلك أن والديها كانا يمنعانها إشفاقاً عليها، فهل يجب عليها أن تعيد صوم الأربعين يوماً أو تصوم ما بقي عليها فقط؟ أثابكم الله! A هذا فيه تفصيل، إذا نوت في نذرها أن الأربعين يوماً متتابعة فيلزمها أن تستأنف المدة، وتتابع أربعين يوماً فإن قطعها الحيض فلا يؤثر قطعه، فإذا جاءتها العادة أفطرت، فإذا انتهت العادة استأنفت حتى تتم أربعين يوماً، هذا إذا نوت التتابع، أما إذا لم تنوِ التتابع؛ فإنها تبني على المدة الأولى التي هي بضع وثلاثون يوماً، تبني عليه وتكمل الآن بقية الأيام، ولا حرج عليها، والله تعالى أعلم.

حكم تأجير عقار أو غيره مدة طويلة مع احتمال وجود الغبن

حكم تأجير عقار أو غيره مدة طويلة مع احتمال وجود الغبن Q فضيلة الشيخ! سائل يقول: ما حكم الاتفاق على إيجار بمبلغ معين من المال لعقار ما لمدة خمس سنوات على أن يدفع الإيجار سنوياً، لما في ذلك من غبن -ربما- للمستأجر إذا انخفضت أسعار الإيجارات من قابل، أو للمؤجر إذا زادت، فهل مثل هذا العقد جائز؛ خصوصاً أن كلاً منهما حريص على غبن الآخر أثابكم الله؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فتأجير الدور والعقار سنواتٍ عديدةٍ فيه تفصيل عند العلماء رحمة الله عليهم، فمن أهل العلم من أجاز الإجارة مطلقاً سواءً كانت لأمد قريب أو بعيد، ومنهم من فصل فقال: إذا كانت المدة فيها غرر، ويحتمل أن الدار تسقط فيها، أو أن العقار لا يبقى إلى نهايتها فحينئذ لا تجوز الإجارة، كأن يؤجره بيتاً قديماً قل أن يعيش إلى ثمان سنوات فيؤجرة عشرين سنة، قالوا: فهذا لا يجوز؛ لأنه غرر. أما لو أجرها لخمس سنوات كما ذكر في السؤال؛ فليست بمدة فيها غرر، وارتفاع السوق ونزوله في مثل هذا يسميه العلماء الغرر المغتفر؛ أي: أن رب السلعة رضي بغبنها، والمستأجر رضي بزيادتها ونقصها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان) فلا حرج عليهما في هذا العقد، والأصل صحة هذه الإجارة حتى يدل الدليل على المنع منها، وما ذكر من التعليل ليس بذاك المؤثر والموجب لبطلان العقد، وهم بالخيار إن شاءوا دفعوا الأجرة وطالب رب السلعة المستأجر بدفع الأجرة من أول العقد، فقال له: ادفع لي الخمسة آلاف التي هي أجرة لهذا المحل لخمس سنوات، أو خمسين ألفاً أو خمسمائة ألف، وإن شاء قسطها عليه أنجماً، فقال: أؤاجرك داري هذه خمس سنوات كل سنةٍ بمائة أو كل سنة بخمسين على أن يقوم بالدفع في كل سنة، فلا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم.

حقيقة البركة

حقيقة البركة Q فضيلة الشيخ! ما هي البركة؟ وكيف تكون؟ A البركة هي: الزيادة والنماء والخير، فإنه ربما يكون الشيء عندك وهو قليل، فيضع الله فيه البركة، فتجد منه ما تجد من الكثير، وقد جاء في الحديث القدسي وذكره غير واحد منهم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في الجواب الكافي وقد تكلم العلماء على سنده، لكن فيه كلمات عجيبة، يقول فيه الله تعالى: (إني أنا الله إذا رضيت باركت، وليس لبركتي منتهى، وإذا غضبت لعنت، وإن لعنتي لتدرك السابع من الولد) ولذلك ربما تجد نسلاً لا خير فيه، وربما تجد نسلاً مباركاً يخرج منه العلماء والصلحاء والأخيار، كما قال تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73]. فإذا بارك الله في الشيء نفع، وتكون البركة في علم الإنسان وعمله: تكون في علمه فيكون علماً مباركاً مبنياً على الكتاب والسنة والاهتداء بسلف الأمة، فهذا العلم المبارك. والعمل المبارك هو عمل الصالحين، فتجده ما حل في مكان إلا فعل خيراً أو قال خيراً، كما قال تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] قالوا: أي داعيةً للخير. ومن بركة الإنسان أين ما كان، أن لا يجلس في مجلس إلا ذكر الله، أو قال خيراً، أو دل على خير، أو فعل شيئاً من الخير، ولو بكلمة طيبة، هذه من بركات العبد؛ أي: مما وضع الله فيه من البركة، فالبركة في الطاعة والاستقامة والسير على نهج الله، وأساس البركة كتاب الله، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] فالقرآن مبارك، وكلما كملت بركته بالاتباع والتأسي كان الإنسان كثير البركة. والبركة تكون في الأوقات، وتكون في الأموال، وتكون في الأولاد، وتكون في الصحة، وتكون في أشياء كثيرة، تكون في الأموال فربما أن الإنسان يستلم راتباً ألف ريال كأنها عشرة ريال في الجيب تمحق بركتها والعياذ بالله، فما يمكث اليوم واليومين إلا وهو مديون، وربما تجد الرجل راتبه العشرة ألف والعشرين ألفاً لا بركة فيها نسأل الله السلامة والعافية، فما ينتصف الشهر إلا وهو يتدين، والسبب في ذلك المعصية، فالمعاصي والحدود والكبائر تمحق البركة من الأموال، ولذلك كلما أطاع العبد بورك له في ماله والخير {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96]. فأخبر أنه إذا حصلت التقوى فتحت أبواب البركات، فتسلب البركة بمعصية الله في الأموال، وأيضاً البركة تكون في الأعمار، ولذلك تقرأ عن بعض العلماء رحمة الله عليهم من الصالحين أن أعمارهم قليلة، ولكن العلوم والكتب التي كتبوها لا تستطيع أن تزنها بأعمارهم مما وضع لهم من البركة والخير، فالبركة تكون في الأعمار، انظر إلى يومك، فإن استفتحته بهدي النبي صلى الله عليه وسلم بورك لك فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها) فانظر إلى أي بيت من بيوت المسلمين، إذا كانت المرأة بمجرد ما يأتي السَّحَر تقوم وتصلي ما كتب لها، والرجل يقوم ويصلي ما كتب له، ثم صلى الفجر، ثم أقبل الإنسان على معاشه فأفطر أو أصاب طعامه، ثم خرج إلى وظيفته وإلى عمله من الصباح الباكر أصبح طيب النفس مستجم النفس مرتاح القلب، لما تنظر إليه يتبسم، ونور صلاة الفجر في وجهه، وتراه مطمئن النفس مرتاح البال والخاطر. لما تنظر إليه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر وإذا به يقضي ما يقضى في اليومين والثلاثة وهذا مجرب، حتى في الكتابة أو في العلم، جربنا ذلك ووجدناه كما قال صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها) وكان ابن عباس يضرب أبناءه الذين ينامون بعد صلاة الفجر، ويقول: [إنها ساعة تقسم فيها الأرزاق، وتكون فيها البرك] فهذا هو الوقت المبارك. وكما تكون البركة في الزمان، كذلك تكون في المال والولد، فبعض الناس عنده عشرة من الولد، وإذا به يتألم ويتأوه، وكل يوم أحدهم يأتيه بمشكلة وبمعضلة وبفتنة، وبأشياء يشيب منها الرأس والعياذ بالله، حتى يتمنى والعياذ بالله أنهم هلكوا، وهذا موجود نسأل الله السلامة والعافية، وقد يؤذونه بألسنتهم، وقد ينتقصونه فتمحق بركة أبنائه. وبعض الناس تجد عنده ولداً واحداً، وتجد فيه الصلاح والخير والبركة، وهذا الابن سعادة لأبيه، فلا يقوم أبوه ولا يقعد إلا وهو يذكر ابنه، إما بدعوة صالحة أو بخير، مما وضع الله من البركة في هذا الابن، فالبركات تكون في الأبناء وتكون في الأوقات وتكون في الأعمار، حتى في الزوجات، بعض الزوجات مبارك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن الشؤم ففي المرأة والدابة والبيت) فبعض النساء مبارك، فإذا تزوجها الإنسان فتحت عليه الدنيا، وبسط له في الرزق وبورك له في الوقت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن الشؤم ففي ثلاثة) وقالت أم المؤمنين عائشة: [تزوجوا النساء يأتينكم بالأموال] يعني: ففي النساء من هي مباركة وتكون خيراً على زوجها، وهذا لاشك أنه مقرون بالصلاح والخير، وكلما كانت المرأة صالحة كان الخير منها أكثر. كذلك أيضاً تكون البركة في وقت الإنسان كما قلنا، ولذلك ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر رمى جمرة العقبة، ونحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة، وأعطى الحلاق رأسه فحلقه، ثم قسم شعر رأسه، ثم وقف للناس يسألونه، ثم نزل وطاف طواف الإفاضة، ثم مر على العباس واستقى من زمزم وشرب صلوات الله وسلامه عليه، ثم صعد إلى منى وصلى الظهر بها، وهذا لا يكون إلا بالبركة. والآن -الله المستعان- ترمي جمرة العقبة، وتعطي الحلاق رأسك ليحلق وإذا بالساعة عشرة، لم يكن في أيامهم سيارات ولا حافلات، ومع ذلك بورك له صلوات الله وسلامه عليه بأبي هو وأمي، والآن السيارات والحافلات، بمجرد ما تركب الحافلة وتمشي بك قليلاً وإذا به أذن الظهر، وتصل إلا وقد أذن العصر، ثم تذهب وتجدد الوضوء وإذا بالشمس أوشكت أن تغرب، الله المستعان! وهذا من محق البركة. ولذلك الآن تجد البركة محقت من الأزمنة، فتجد الإنسان يعيش السنة كأنها شهر، والشهر كأنه أسبوع، والأسبوع كأنه يوم، واليوم كأنه ساعة، والساعة كأنها طيف من الخيال، وأصبح الإنسان يخشى من محق البركة، ولذلك إذا نزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان، وضعت البركة في الأرض، حتى إن الشاة تكفي أربعين، وهذه مما يضع الله عز وجل من البركات، والبركات تمحق من الناس على قدر ما يكون بينهم من الظلم، وما يكون بينهم من الإساءة والتقصير في حق الله جل وعلا. ولذلك لو تسأل كبار السن عن أمور وقعت قبل عشرين أو ثلاثين سنةً كأنها شيء من المعجزات ولا تكاد تصدق، ولكنها حقائق ثابتة فالله عز وجل وضع البركة بسبب ما كان عليه الناس من التراحم والتواصل، فكانت البركة في الأوقات والساعات واللحظات والخيرات، يوم كان الإسلام وكان أهله، ويوم كان الناس وكانت الحياة طيبة، تعيش في كنف أولئك الأخيار، ربما تأتي إلى الرجل الفقير في باديته تجده فقيراً مديوناً لكن يأتيه الضيف في ظلام الليل، حتى أنه لولا الضيف لنام بدون عشاء، فإذا جاءه الضيف ونزل، فتح قلبه وحيّاه وبيّاه، ثم ذهب واستدان الشاة، ولا يمكن أن ينام ضيفه إلا وشاته قد ذبحت، أو إبله قد نحرت، فالله المستعان! محقت البركة بسبب ما فقد الناس من الرحمة، ونسأل الله عز وجل أن يلطف بنا، ويرحمنا برحمته الواسعة، والله تعالى أعلم.

حكم خروج المعتدة للضرورة

حكم خروج المعتدة للضرورة Q هل يجوز للمعتدة الخروج للطبيب لإجراء عملية ونحو ذلك؟ A بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إذا توفى زوج المرأة عنها فإنه يجب عليها أن تبقى في بيتها أربعة أشهر وعشراً، إلا أن تكون امرأةً حاملاً، فإذا كانت امرأةً حاملاً فإنها إذا وضعت حملها يجوز لها الخروج، وتخرج من عدتها وحدادها، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم في قصة أبي السنابل بن بعكك، وإقراره عليه الصلاة والسلام للمرأة الحامل بخروجها من عدتها بذلك. أما وجوب بقاء المرأة المحد في بيت زوجها فلما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان، لما أخبرته أن زوجها توفي عنها، قال لها عليه الصلاة والسلام: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله) فدل هذا على أنه لا يجوز لها الخروج. أما إذا وجدت ضرورة فإنه يحل لها حينئذ الخروج، فإن كانت العملية التي ذكرت يترتب على تركها إلى حين خروجها من عدتها ضرر أو تؤدي إلى هلاكها أو تلف عضو من أعضائها، فإنه يجوز لها الخروج بشرط ألا يتأتى فعل العملية في بيتها، وذلك لمكان الاضطرار، وقد قال الله جل وعلا: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فحينئذ يجوز لها الخروج، والله تعالى أعلم.

حدود عورة المرأة أمام محارمها

حدود عورة المرأة أمام محارمها Q سائل يقول: ما الذي يجوز للمرأة إظهاره من جسدها أمام محارمها؟ A هذه المسألة -وهي عورة المرأة مع محارمها- كان بعض السلف رحمة الله عليهم يتورعون فيها، حتى أن الإمام أحمد رحمة الله عليه -وهو ذلك الإمام العظيم من أئمة السلف علماً وورعاً- لما سئل: أتكشف المرأة عن صدرها وساقيها لمحرمها كأخيها؟ فقال رحمه الله: لا، إني أخشى عليه الفتنة، فالاحتياط والورع أن المرأة لا تكشف عن صدرها أو عن ساقيها لأخيها، إلا ما كان لحاجة، أو كان عفواً دون قصد، فهذا لا حرج فيه، وأما الكشف عن الصدر وإبداء المحاسن والمفاتن، فإنه ينبغي التورع عن ذلك والبعد عنه؛ لأنه قد يفضي إلى الوقوع في المحظور، والله تعالى أعلم.

فضل حسن الخلق

فضل حسن الخلق Q معلومٌ لديكم فضل حسن الخلق، ولين الجانب والتواضع، ولكن نرى من حال بعضنا عكس هذا الأمر، فهل من نصيحة حفظكم الله؟ A إن الله جل وعلا إذا رزق المؤمن الإيمان كمّل خصاله، وجمّل خلاله، وجعله من عباده الموصوفين بالفضائل، المترفعين عن الرذائل، فمكارم الأخلاق، ومحاسن الأخلاق خصلةٌ من خصال المؤمنين، وخلة من خلال الصالحين، ولذلك أثنى الله بها على نبيه في كتابه المبين، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فأثنى على نبيه عليه الصلاة والسلام بالخلق، وما أعظم الخلق وما أجله عند الله وعند عباده! حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سئل عن أثقل شيء في الميزان قال: (تقوى الله وحسن الخلق) وقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) قال: خيركم، أي: أكثركم خيراً وأرفعكم عند الله قدراً؛ لأن الأخيار هم أرفع الناس قدراً عند الله جل وعلا. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله الصحابة وقد سمت أرواحهم إلى الجنة، واشتاقت إلى رحمة الله جل وعلا عن أعظم ما يدخل المؤمن الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: (تقوى الله وحسن الخلق) فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله جل وعلا وحسن الخلق، أما تقوى الله فبينك وبين الله، وهو غيب لا يعلمه إلا الله، وأما حسن الخلق فبينك وبين الناس، ولذلك من أجل نعم الله عز وجل على العبد حسن الخلق. وقال بعض السلف: إنما أدرك من أدرك لا بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن ببذل الندى وكف الأذى. والمراد بهذه العبارة أن هذا العالم من السلف يقول: إنما أدرك من أدرك، أي: أن الأخيار والصالحين والفضلاء والنبلاء وأهل الخير من سلفنا الصالح ما وصلوا إلى الدرجات العلا بعد الإيمان، إلا ببذل الندى وكف الأذى، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أثقل ما يكون في الميزان، وبذل الندى: الجود والسخاء، وكف الأذى: أساسه الحياء والمروءة الفاضلة التي تمنع الإنسان من أذية إخوانه. فإذا كمل إيمان العبد كمل خلقه، وإذا كمل نبله وفضله كملت آدابه، وأصبح ممن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أقرب الناس منه مجلساً يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) هل قال: العالم أو العابد أو المجاهد؟ لا، قال عليه الصلاة والسلام: (أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) أحاسنكم أخلاقا، أي: أنك لن تنظر إليه إلا وجدته قد أخذ من حسن الخلق بحظ وافر، إن وجدته في السماحة وجدته بلغ منها أعلى مراتبها، وإن وجدته في الجود والسخاء وحسن العشرة وبذل المعروف، وجدته في أعلى مراتبها. ولذلك لن تقرأ سيرة عالم من علماء السلف إلا وجدت حسن الخلق سمة من سماتهم رحمة الله عليهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (أحاسنكم أخلاقاً) ما قال: أحسنكم، أي: الذين كثرت منهم الأخلاق الطيبة، وقال بعض العلماء: قلَّ أن تجد إنساناً كريم الخلق إلا وجدته نقي الصدر؛ لأن مكارم الأخلاق لا تكون إلا بسلامة الصدور، وقلَّ أن تجد إنساناً فظاً غليظاً كثير الجفاء للناس، وكثير الأذية لهم، إلا وجدت في قلبه من الضغينة والبغضاء ما يحمله على ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- لأن الأخلاق ما هي إلا نتيجة عما في السرائر والقلوب. والله جل وعلا إذا اطلع على سريرة الإنسان، ووجدها سريرة صالحة فيها الخير والفضل والنبل، أظهر هذه السريرة لعباده في الأخلاق الطيبة، ولذلك قال: (أحاسنكم أخلاقا) إن آذاه أحدٌ عفا عن أذيته، وإن أحسن إليه رد له الإحسان أضعاف إحسانه، فإن عاشر الناس، إن أحسنوا إليه أحسن إليهم أكثر من إحسانهم، وإن أساءوا إليه اجتنب إساءتهم، وإن نظر إلى عوراتهم سترها، وإن نظر إلى خلاتهم وما هم فيه من الحوائج قضاها وقام بها. وقد أُثر عن علي زين العابدين -ذلك الإمام الجليل من أئمة السلف الصالح علماً وفضلا ًونبلاً رحمة الله عليه- أنه كان إذا جَنَّ عليه الليل وضع اللثام على وجهه، ثم حمل على ظهره أكياس الطعام، ومضى إلى بيوت يعرفها للأيتام والأرامل -رحمة الله عليه- ثم أطعم وسقى واقتحم العقبة، ففك الرقبة، وأطعم ذا المسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، رحمة الله على تلك الروح الطيبة، فلما توفي فقد أكثر من عشرين بيتاً -ممن يقرع عليهم في جوف الليل أبوابهم بذلك الطعام- فعلموا أنه ذلك العالم وذلك العابد، وكان في زمانه آيةً في العلم والصلاح مع ماله من النسب؛ لأنه ابن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الله له بين هذه الخيرات والفضائل، يقول في مدحه الفرزدق: ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم أي: ما جاءه أحد يسأله شيئاً فقال له: لا. وهذا من كمال خلقه وزينها رضي الله عنه ورحمه برحمته الواسعة. فلما أرادوا أن يغسلوه ويكفنوه؛ خلعوا ثيابه فنظروا فإذا ظهره متشحط من الدم؛ بسبب أكياس الدقيق التي كان يحملها رحمة الله عليه. فسلامٌ على تلك القلوب الرحيمة، وسلام على تلك الأخلاق الكريمة، وتلك المعادن الأبية الصالحة التي كانت ترجو ما عند الله، وتريد رحمة الله جل وعلا، كان السلف الصالح رحمة الله عليهم لهم من الأخلاق والفضائل والنوائل ما تضرب به الأمثال. واقرأ في سير الرجال، قد تجد العلم في العالم سمة من سماته، ولكن ما إن يبدأ باب الأخلاق، ويذكر أنه ذلك الرجل المتواضع الكريم السمح، إلا وينفتح قلبك لتلك الخصال، وينشرح صدرك لتلك الخلال وقلت: سبحان الله الكبير المتعال! سبحان من يقسم الأرزاق! ولذلك ورد في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) وإن الله لا يعطي الأخلاق إلا لمن أحب، أما الدنيا فيعطيها لمن أحب ومن كره، أما الأخلاق والفضل والنبل والصلاح، وهذه الخصال التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً) ما معنى الموطئون أكنافا؟ توطئة الكنف في التواضع، بمعنى أنه سهل أن تبلغ حاجتك منه، ويسير عليك أن تأخذ بغيتك من يده الطيبة، ما تجده صعباً بمجرد أن تأتيه، حتى إن بعض الأخيار كان من خيره أنه إذا جاءه الفقير ورأى في وجهه الفقر، عاجله بالعطية قبل أن يسأله الفقير المال، وهذا الكرم والفضل والنبل، وكان بعضهم يستحي أن يذكر الفقير حاجته قبل أن يعاجله بذلك العطاء، فكان الناس على خير كثير. وقال بعض العلماء: لا تكون محاسن الأخلاق إلا برحمة من الله جل وعلا، وأول ما تكون محاسن الأخلاق وكريم الخلال للإنسان برحمة يقذفها الله في القلوب، ومصداق ذلك في قوله تعالى يخاطب نبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] {فَاعْفُ عَنْهُمْ} [آل عمران:159] يعني: أن الإسلام ليس فيه إلا السماحة والعفو ولين الجانب، ولذلك وصف الله المؤمنين مع بعضهم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] فإذا كمل إيمان العبد أصبح لا يستطيع أن يؤذي أحداً من إخوانه المسلمين، لا ترى منه إلا خيراً، بمجرد أن تلقاه أول ما ترى كريم الخصال وطيب الخلال. ولذلك يقول جرير رضي الله عنه وأرضاه: [ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي] وكان صلى الله عليه وسلم لا يعبس في وجوه الناس، ولا يقهرهم، ولا يعرض عنهم، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، وهذه الخصلة في قوله: (الموطئون أكنافا) توطئة الكنف: القرب من الناس. فإذا كنت طالب علم فاقترب من الناس بتوجيهك وإرشادك ولا تتعال بعلمك، ولا تفتخر على الناس بما حباك الله جل وعلا من العلم، بل تكون كما مثَّل العلماء كريم الأصل بالغصن الطيب، فإن الأغصان الطيبة إذا ملئت من الخير والثمرات تدلت للناس. وهكذا كريم الأصل والعبد الصالح، الذي يريد الله به خيري الدنيا والآخرة كلما امتلأ علماً وفضلاً ونبلاً؛ كلما وجدته تدلى للناس، وزاده علمه قرباً من الناس، وأذكر علماءنا ومشايخنا -رحمة الله عليهم- كانوا من ذلك على حظ وافر، وأذكر عن بعض مشايخنا رحمة الله عليه -أكاد أجزم- أن كل إنسان يجالسه يحس كأن هذا الشيخ له وحده، وأعرف أناساً من عامة الناس بعضهم يعتبر ممن يتعاطى الحرف الدنيئة ومن ضعفة المسلمين، ربما جاء إلى ذلك الشيخ وجلس يمازحه ويضاحكه ويجالسه، كأنه جليسٌ من كبراء القوم، وما ذلك والله إلا لصلاحٍ في القلوب، وكلما وجدت الإنسان يتقي الله جل وعلا ويرجو رحمة الله، كلما وجدته يشتري هذه الرحمات بالأخلاق الكريمة خاصة مع ضعفاء المسلمين. ولذلك قال بعض السلف رحمة الله عليهم في سفيان الثوري ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان، سفيان هذا ديوان من دواوين العلم والعمل والصلاح والفقه والحديث، كان إذا دخل الفقراء في مجلسه عزوا وأُكرموا، ورفعوا على الأغنياء والأثرياء والوجهاء، وهذا من كرم سفيان رحمة الله عليه. فهكذا أهل الفضل أكنافهم موطأة. (ألا أنبئكم) أي: أخبركم (بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون) إذا جئت بين الناس يألفك الغني والفقير، الجليل والحقير، يألفك الناس على اختلاف طبقاتهم، الجاهل يألفك والعالم يألفك، من كريم الخصال وكريم الخلال، إذا رأيت الرجل تبسمت في وجهه ثم سألته عن حاله، وتعطي هذه الابتسامة خاصةً لضعفاء المسلمين، فإن الابتسامة لضعفاء المسلمين ابتسامة صدق وحق ورحمة تدل على صلاح صاحبها. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقر

حكم الاستشهاد بآيات القرآن على مواقف محدودة

حكم الاستشهاد بآيات القرآن على مواقف محدودة Q فضيلة الشيخ، ما حكم القذف بالآيات؟ مثلاً: يكذب إنسان على آخر، فيقال له: قال تعالى: {أَلا لَعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فما حكم ذلك أثابكم الله؟ A أما بالنسبة للعنة الله لمن كذب، فإن المراد به ما بعد الآية: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} [الأعراف:45] ولذلك المراد به الكذب على الله بأن له صاحباً وشريكاً؛ أي: الكذب بالكفر، ولذلك الكافرون هم الكاذبون؛ لأنهم ادعوا أن مع الله آلهة، وأن مع الله شريكاً، تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً. فاللعنة للكاذبين مبنية على هذا الوجه، أما إنسان زلت به الكلمة، ويقول له الإنسان: ألا لعنة الله على الكاذبين، فهذا لا يجوز؛ لأنه فيه تعجل وتسرع في أذية المؤمنين باللعن. والسبب في ذلك أنه ربما أخبرك أخوك بأمر يظنه أنه كما أخبر، ثم يتبين أن ظنه خاطئٌ وليس بصواب، فإذا عاجلته باللعنة رجعت إليك اللعنة والعياذ بالله، ولذلك ورد أنّ اللعنة إذا خرجت من فم صاحبها صعدت إلى السماء فغلقت دونها، ثم إلى الأرض فغلقت دونها، ثم ذهبت إلى من لُعن فإن كان مستحقاً للعن أصابته والعياذ بالله، وإن كان غير مستحق رجعت إلى صاحبها الذي ذكرها والعياذ بالله، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة). فلا ينبغي للمسلم أن يكثر من اللعن، وأشد من ذلك أن يعرض بالآيات الكريمة، إلا في مواضع مخصوصة، إذا كان يستشهد فيها بالقرآن بلعن الذين كفروا، أو ذكر بعض مثالبهم ومعايبهم فلا حرج، وهذا شأن العلماء، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (صدق الله وكذب بطن أخيك) فلا حرج أن الإنسان يستشهد ببعض الآيات عند وجود ما يقتضيها أو يتناسب معها، والله تعالى أعلم.

وصايا للدعاة إلى الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وصايا للدعاة إلى الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q فضيلة الشيخ! لو ذكرت لنا القواعد التي يجب أن يعلمها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أثابكم الله؟ A ما أهون السؤال! وما أعظم الجواب! الاستفتاء سهل، ولكن لو يعلم المستفتي أي مسئولية يتحملها المسئول والمفتي لأشفق والله عليه، هذا السؤال يحتاج إلى دروس ويحتاج إلى مجالس، وتريد من مثل الحقير في خمس دقائق أو في عشر دقائق أن يذكر لك ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم إذا ذكرتها وانتقصت منها شيئاً وتعلقت بي بين يدي الله فمن ينجينا؟ -الله المستعان- فيا أيها الأحبة أشفقوا على أخيكم وأشفقوا على السائل، قال الإمام مالك رحمة الله عليه: لوددت أني جلدت على كل فتوى أفتيتها وخرجت من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي. بعض طلاب العلم جزاهم الله خيراً حرصاً منهم على الخير والفائدة قد يبالغون ببعض الأمور، فحبذا لو قلت: ما هي الوصايا التي توصي بها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ ما هي الأمور التي وردت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك ينبغي أن يُنظر في جوهر السؤال، وليس في مظاهر السؤال: الضوابط والقيود، هذا والله لو عرض على واحد من أئمة السلف، يمكن أن يسقط على الأرض مغشياً عليه من هيبة الله جل وعلا. الضوابط والقيود هذه تحتاج إلى إنسان يجلس على الأقل ثلاثة أيام يختم كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار حتى يمر على القرآن ويعرف ما هي ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كاملة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإلى الله المشتكى، وأنتم تحسنون بنا الظن كثيراً. فيا أيها الأحبة: أوصيكم عند السؤال أن تشفقوا على المسئول، وألا يكون هناك مبالغة؛ لو أني ذكرت ثلاثة ضوابط أو أربعة، ربما بالغ بعض طلاب العلم وظن أن هذه هي ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخرج وهو يظن أنه قد حاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن قل: ما هي الوصايا أو ما هو الذي يوصى به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ وهكذا حال السلف رحمة الله عليهم في السؤال، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فما هي وصيتك؟ كيف الطريق إلى أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، هذا ربما يكون أخف، ولو أن المسئولية والتبعة موجودة، نسأل الله أن يلطف بنا وبكم. الله أكبر! من يوم تسير فيه الجبال، وتشيب فيه ذوائب الأطفال، ويعرض على الإنسان فيه حصائل الأعمال والأقوال، لا إله إلا الله! لقد كنا حينما نجالس العلماء الكبار رحمة الله عليهم كانوا ينهونا عن مثل هذه الأسئلة التي فيها القواعد والضوابط، فهذه تحتاج إلى إنسان يدرس ويجلس فترة، مهما كان عالماً وعنده العلم والإدراك، ينبغي أن يحتاط لدين الله ولعامة المسلمين ولطلاب العلم. فالذي أوصيك به ما يلي: أولاً: الإخلاص: فلا تدع إلا وأنت مخلص، والكلمة التي تخرج من القلب تقع في القلب، ويأبى الله أن تتكلم وأنت مخلص لوجهه أن تذهب كلمتك هدراً أبداً، لن تجد إنساناً ينصح بصدق وإخلاص وهو يرجو رحمة الله تعالى، إلا وقعت النصيحة في قلب المخاطب بها، لكن من الناس من ختم الله على قلبه والعياذ بالله، فلا ينفع فيه موعظة، كالأرض الميتة، ومنهم من تحركه الموعظة فتقلب حياته من شقاءٍ إلى سعادةٍ، ومن شرٍ إلى خيرٍ، وهذه هي الأرض الطيبة التي تمسك الماء وتنبت العشب، ومنهم من تهزه الموعظة، والأمر بالمعروف النهي عن المنكر يهزه، بمعنى أنه يقلل شره، وربما يحدث نفسه بالقرب من الخير، فهذه ثلاثة أحوال. فإذا كنت مخلصاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلن تعدل عن إحدى ثلاثة أمورٍ: إما أن تستجاب نصيحتك، وهذا غالب حال المؤمنين، فإنك لن تقف على إنسان يؤمن بالله واليوم الآخر، وتصدق في نصيحتك أو محاضرتك أو موعظتك أو كلمتك، إلا دخلت إلى شغاف قلبه شاء أم أبى، هذا إذا كان مؤمناً، كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] قال بعض العلماء: كلما كمل إيمان العبد، كمل انتفاعه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك تجد بعض الناس ينسى ويقع في المنكر، وبمجرد أن تذكره أو تأتيه بأول الذكرى، تجده ينتفض كالعصفور من خشية الله جل جلاله، وهذا ما ذكروه عن بعض السلف أنهم كانوا إذا قيل لأحدهم: اتق الله جلس يبكي! فهذه أكمل ما يكون من عاقبة المخلص لله في الأمر بالمعروف، أو تنال أقل المراتب وهي أن تقيم حجة الله على العباد. الأمر الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: العلم بما تأمر به وتنهى عنه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فإذا كان هناك علم فإنك على المحجة وعلى الطريق، وأنت صاحب الحجة بإذن الله جل وعلا، فإذا وقع الإخلاص في القلب وجاء العلم الذي هو النور والبصيرة، جاءت خطواتك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أماكنها، فرضي الله عز وجل عن أمرين منك: رضي عن نيتك؛ لأنك تريد وجهه، ورضي عن كلماتك لأنها حق، والله يحب الحق ويدعو إليه. والأمر الثالث: أن يكون هناك الأسلوب، وهي الواسطة، إخلاص، ثم حق يقال، ثم أسلوب يحبب ويقرب، وهذا عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا) وبقوله: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). ويستلزم الأسلوب الرحمة والرفق بالناس، فكلما كملت رحمة الداعية والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بمن يأمره وينهاه، كان أقرب الناس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول عن نبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فإذا كملت رحمة الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فإنه قد أصاب من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حظاً وافراً، ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فوصفه بكونه بالمؤمنين رءوف رحيم. فإذا رحمت المؤمن بأسلوبك وبكلماتك الطيبة، أحبك وأحب الكلام الذي تقوله والذي تدعو إليه، قال بعض العلماء: من لازم الرحمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يقدم أسلوب الترغيب والترهيب وهي الجنة والنار، ويستفتح دعوته بما استفتح به النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الجنة والنار، ولذلك بالمثال يتضح المقال، لو جئت إلى إنسان يشرب حراماً، أو ينظر إلى حرام، أو يفعل أمراً محرماً، فجئت إليه وقلت له مباشرة: يا أخي! هذا حرام، قال الله تعالى، قال رسوله، وهو إنسان -مثلاً- جدلي، أو إنسانٌ عقلانيٌ، كلما ذكرت له أمراً أخذ يسألك ما هي العلة؟ وهذا الحديث من الذي ذكره؟ ولربما يعنت عليك بالأسئلة، فتتعب وتعيي نفسك، ولربما ازداد إصراراً على منكره. لكن تعال إليه، ثم قل له: يا أخي! أما علمت أن وراءك جنة وناراً، أما علمت أن وراءك قبراً، وأن وراءك سكرات الموت، وحساباً، وديواناً تعرض فيه أقوالك وأفعالك، أيسرك وأنت واقفٌ بين يدي الله حسيراً كسيراً أسيراً فقيراً ذليلاً حقيراً عاري الجسد بين يدي الله عز وجل، أنك على هذه المعصية، ماذا يقول؟ لا يستطيع أن يقول لك شيئاً، هل يستطيع أن يُكذب بالآخرة؟ هل يستطيع أن يرد عليك عذاب القبر؟ مباشرة يقول لك: جزاك الله خيراً، ولربما سكت فدخلت الموعظة -على قدر إيمانه- إلى قلبه، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستفتح قوله بهذا كما قالت عائشة: [كان أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار. ولو نزل لا تسرقوا لا تشربوا الخمر ما آمن أحد] لأن النفوس ضعيفة، فأول شيء تبدأ به أن تغرس الإيمان بذكر الجنة والنار، وترقيق القلوب لربها، فإذا استجابت القلوب استجابت من بعدها القوالب: (ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). فإذا وفق الله للإخلاص والعلم كان الذي يريد أن يدعو الناس عنده علم، ثم جاء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة والأسلوب الطيب والأسلوب المقنع، فإن الله سبحانه وتعالى إما أن يجعل للإنسان استجابة ويعظم أجره، وإما أن يكون أقل درجاته أن يقيم حجة الله على عباد الله، فيوم القيامة إذا أوقف الله هذا العبد وسأله عن منكره، قال: ألم تبلغك حجتي؟ قد يكابر؛ لأن الله أخبر أن الذين ظلموا يكابرون، فيقيم الله حجته عليه بك، وهذا من أعظم ما يكون من الشرف والفضل، ولذلك رفع الله قدر الرسل بإقامة الحجة على العباد: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فكملت حجة الله على العباد بالرسل، ثم يقوم مقام الرسل العلماء، ثم يتشبه بالعلماء طلاب العلم، ثم يتشبه بهما صالحو عباد الله المؤمنون الصالحون الأخيار، فهذا أمرٌ ينبغي للذي يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون على إلمامٍ به. والعوامل المساعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: صبرٌ على الدعوة، فإذا جئت إلى قومك أو قريتك أو حيك، أو حارتك تريد أن تنصح أو تذكر أخاك أو زميلك في العمل أو جارك، فلا تحسب أنك بمجرد أن تجلس مجلساً واحداً أو تقول كلمتين أنه يستجاب لك، بل ضع في ذهنك أنك ستبقى إلى أقصى أمد (حتى لو تقول عمر نوح) لا تقدر أنه بمجرد أن تقول له كلمة يستجيب؛ لأن الشيطان يريد أن يمكر بالعبد، فيجعل في قلبك بعد أن يكون عندك العلم والإلمام أنك بمجرد أن تقول يسمع منك، لا أبداً، بل ضع في قلبك الصبر. ولذلك لما أمر لقمان ابنه بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فالصبر يشمل الصبر باستدامة الدعوة، والصبر بتحمل الأذى، فإذا تحلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالصبر كسب النتيجة، ويظهر الصبر في عدة مواقف منها: أنه ربما تأتي وتقول: يا فلان! اتق الله! أمامك جنة ونار اتق الله عز وجل، فربما يعاجلك بكلمة

آفات اللسان

آفات اللسان نعم الله على الإنسان لا تعد ولا تحصى، ومن هذه النعم العظيمة والجليلة نعمة اللسان، ذلك العضو الصغير الذي يتقلب عند الكلام ويقلب الطعام هذا العضو قد يكون سبباً لدخول صاحبه الجنة أو النار، فإن استغله الإنسان في طاعة الله وذكره؛ سلك به طريق الجنة، وإن استغله في الغيبة والنميمة وقول الزور وغيرها؛ قاده إلى النار.

من نعم الله على عبده

من نعم الله على عبده الحمد لله الذي خلق اللسان، وفجَّر منه ينابيع الحكمة والبيان، وهدى إلى الجنان أو إلى دركات الجحيم والنيران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد الديان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى والمجتبى للهداية إلى الجنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه في كل زمان ومكان، وجعلنا وإياكم منهم برحمته ومنه وكرمه إنه هو العظيم الرحمن. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إخواني في الله: الحمد الله الذي منَّ عليَّ وعليكم بالاجتماع في هذا البيت المبارك من بيوت الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمُنَّ علينا جميعاً بأن يكون مجلسنا مجلساً مباركاً مشهوداً بالخير، وأسأله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه موجباً للفوز بعظيم رحمته. أيها الأحبة في الله: إن لله عز وجل على الإنسان نعماً وفضائل عظيمة ومنناً لا يحصيها إلا هو سبحانه وتعالى، ومن هذه النعم والمنن والفضائل والنوائل: أن خلقه وكان معدوماً، وأعطاه وكان بئيساً محروماً. من هذه النعم تلك النعمة العظيمة الجليلة الكريمة يوم خلقه؛ يوم براه فصوره وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، يوم تقلب ذلك المخلوق الضعيف المسكين في ظلمات الأرحام تحت منِّه ولطفه ورحمته، فخلقه وسواه، ومنَّ عليه بالخير وأعطاه، فما أعظم خلقته، وما أدق درايته وقدرته. خلق هذا المخلوق، وجعل في خلقه شواهد وحدانيته، ودلائل عظمته وألوهيته وربوبيته، يوم أطعمه ولا مطعم له سواه، ويوم سقاه ولا يسقي تلك الأحشاء الظامئة أحدٌ سواه. ثم من هذه النعم تلك الأعضاء التي خلقها وصَّورها وأوجدها وبراها، تلك الأعضاء التي وقف أمامها الأطباء والحكماء، فحارت عقولهم في بديع صنع الله! يوم وقف الأطباء والحكماء أمام أسرار عظمته ودلائل وحدانيته وألوهيته! قف أمام ذلك العقل الذي لو أراد الناس أن يدركوا دقائق ما فيه من العلوم المعقدة لحارت في ذلك أفهامهم وعقولهم. قف أمام العين، فسبحان من قذف فيها نور البصر! ولو سلب ذلك النور ما استطاع أحدٌ في الوجود أن يرده. قف أمام السمع فلو سلب الله السمع ما استطاعت أطباء الدنيا أن ترده لحظةً واحدةً. يدٌ سبحان من خلقها وبراها! سبحان من مدَّها وبسطها! جرت فيها الدماء، وصرفت فيها عروقها من الله فاطر السماء، فإن قبضها الله فلا يستطيع أحدٌ سواه أن يبسطها، ولئن بسطها الله فشلت، لن يستطيع أحدٌ لحظةً أن يقبضها، فسبحانه! لا إله إلا هو فتبارك الله رب العالمين. تقف أمام هذه الشواهد، وأمام هذه الدلائل والعلامات الصادقة التي تدل على أنه الواحد، فلئن تحرك الإنسان بهرتك حركته، ولئن نام مضطجعاً حقيراً ذليلاً بهرتك ذلته، فسبحان الله العظيم! لكي يعلم كل مخلوق أنه تحت أمره وتحت خلقه وقدره {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] خلق هذه المخلوقات لكي يقف الإنسان أمامها فيسبح ويمجد فاطر الكائنات! خلق هذه المخلوقات لكي تمتلئ القلوب بتعظيم فاطر الأرض والسماوات، خلقها وفطرها وبراها، فلا يعقب حكمه، ولا يغير صنعه تبارك الله رب العالمين!

نعمة اللسان

نعمة اللسان واليوم -أيها الأحبة- نقف أمام عضوٍ خلقه الله، فجعل خلقته دليلاً على وحدانيته عضوٌ حقيرٌ صغيرٌ، ولكنه جليلٌ وخطيرٌ يقود إلى الروح والريحان وعظيم درجات الجنان عضوٌ حقيرٌ إذا لم يتق العبد فيه ربه هوى، وضل عن سبيل ربه وغوى، إنه اللسان الذي إذا نظرت إليه حارك صنعه، ووقفت أمام بديع صنع الله في خلقته، ولئن سمعت أصواته وأنصت إلى عباراته بهرتك تلك الأصوات وتلك العبارات. خلق الله اللسان لكل ناطقٍ من الحيوان، وجعل لكل حيوانٍ لغته، ولكل حيوانٍ منطقه، فعلم جل جلاله وتقدست أسماؤه كلمات النمل في ظلمات الليل وضياء النهار، وسمع أصواتها، وعلم لغاتها، وقضى حوائجها جل جلاله وتقدست أسماؤه. تقف أمام هذا العضو الحقير، فيستهويك ما فيه من دلائل عظمة الله وشواهد وحدانيته، فلئن أصبحت وسمعت أصوات الطيور، فقل: سبحان الله! ولكل حيوانٍ لغته، ولكل مخلوقٍ عبارته ولهجته، ومع هذا كله لا يختلف عليه صوت من صوت، ولا تشكل عليه عبارة من عبارة، فكلها وسعها سمع الله، وكلها في علم الله عز وجل! أيها الأحبة في الله: يقف الإنسان حائراً أمام هذا اللسان الذي أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه المبين أنه دليلٌ على وحدانية الله رب العالمين، آية آية وما أكثرها! يقول جل جلاله في كتابه محركاً القلوب للتفكر والاعتبار بهذه الآية من آياته: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]؛ ومن آياته التي دلت على وحدانيته وعظمته وألوهيته وربوبيته اختلاف ألسنتكم وألوانكم، خلق الإنسان، وجعل له هذا اللسان لكي يعبر عما في القلب من أشجانٍ وأحزانٍ، لكي يعبر عما في الجنان من أفراح وأتراح خلق هذا اللسان وخلق صاحبه على صفاتٍ لا يعلمها إلا هو جل جلاله. نثر الناس من بني آدم في مشارق الأرض ومغاربها، وجعل لكل قومٍ لسانهم، ولكل أمة لهجتهم، فوقف أمام تلك اللهجات وتلك اللغات علماء اللغات فحيرتهم، ووقفوا أمامها حيارى من عظيم صنع الله جل جلاله! حتى إن اللغة الواحدة كلغة العرب -مثلاً- كم فيها من لهجات قد تفرقت قبائلهم، فأصبحت لكل قبيلةٍ لهجتها، يشب عليها الصغير ويشيب عليها الكبير، فلا إله إلا الله العليم الخبير! هذا اللسان ما خلقه الله عبثاً. هذا اللسان أمره عظيمٌ عند الله الواحد الديان! إنه طريقٌ إلى روح وريحان، أو إلى دركات الجحيم والنيران. هذا اللسان الذي إذا استقام لله جل وعلا استقامت من بعده جوارح الإنسان. هذا اللسان الذي إذا حركه قلبٌ يخاف الله ويخشاه لم تسمع منه إلا طيباً. هذا اللسان الذي إذا أُطلق له العنان هوى صاحبه في دركات الجحيم والنيران. ولقد وصَّى الله جل وعلا عباده المؤمنين بأن يتقوه -سبحانه وتعالى- في هذا العضو، وأن ينظر الإنسان إلى نعمة الله جل وعلا يوم أنطقه، فيستحي من الله أن يسمع منه كلمةً لا ترضيه، ويستحي يوم ينظر إلى الأخرس الذي لا يستطيع أن يعبر عن أشجانه وأحزانه، بينما تفضل الله عليه وأكرمه فأنطق لسانه وأفصح بيانه، فيستحي الإنسان من الله جل وعلا يتقي الله في اللسان. ولذلك وصَّى الله عز وجل عباده المؤمنين أن يتقوه فيما تنطق به الألسنة فقال جل وعلا في كتابه المبين آمراً عباده المؤمنين، وواعداً لهم بعظيم ما يكون من الخير في الدنيا والآخرة إذا اتقوا الله في اللسان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] من اتقى الله في لسانه، فإن الله وعده أن يصلح حاله، وأن يحسن عاقبته ومآله، وأنه يفوز فوزاً عظيماً.

آفات اللسان

آفات اللسان أيها الأحبة في الله: إن لهذا اللسان زلات، وله آفات إذا بلي بها العبد فقد خسر الدنيا والآخرة؛ يوم يصبح الإنسان ويمسي وهو لا يراقب الله ولا يخافه فيما يقوله لسانه يوم يصبح الإنسان ويمسي وقد أطلق للسانه العنان لينتهك حدود الله ويغشى محارمه، ولا يخاف الله في عباده؛ يوم يصبح ذلك اللسان جريئاً على حدود الله ومحارمه، فتخط له في صحائف السيئات زلاته وآفاته! فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قولاً سديداً وعملاً صالحاً رشيداً.

كثرة الكلام في فضول الدنيا

كثرة الكلام في فضول الدنيا الثرثرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله كرهها لعباده المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) كره لكم، وإذا كان الشيء يكرهه الله جلَّ وعلا، فحريٌ بالمسلم أن يتقيه ويدعه، مثل كثرة الكلام في فضول الدنيا، وكانوا يقولون: من دلائل نقص عقل الرجل أو نقص عقل المتكلم، مثل كثرة ثرثرته وحديثه في الدنيا، هذا يدل على نقص عقله؛ لأن العقل يعقل الإنسان عن الكلام في الفضول، فليكن منطق الإنسان منطقاً حكيماً سليماً، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولذلك -قال عليه الصلاة والسلام يبين لنا أن الله إذا رزق العبد حفظ لسانه فلم يتكلم إلا فيما يعنيه، كان ذلك من حسن إسلامه- قال صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

كثرة السباب واللعان

كثرة السباب واللعان ومن آفات اللسان: كثرة السباب واللعن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحبها لا يكون شفيعاً، ولا شهيداً يوم القيامة، كثرة السب واللعن تحرم الإنسان الشفاعة والشهادة يوم القيامة -والعياذ بالله- قال صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) كلما حصل شيء يقول لعنة، كلما وقع شيء تلفظ بلعنة، فإذا كثرت منه اللعنة فإنه لا يكون شفيعاً، ولا شهيداً -والعياذ بالله- يوم القيامة.

النميمة

النميمة كذلك أيضاً من حقوق المسلمين التي تزل بها الألسن، وتحصل بها الآفات: النميمة، وهي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، يوم ينقل ذلك الرجل الذي لا يخاف الله ولا يتقيه تلك الكلمات التي تأجج نار الفتنة والعياذ بالله. تلك الكلمات التي تفرق بين الأحبة والجماعات. تلك الكلمات التي تورث البغضاء والعداوات. تلك الكلمات التي تصطلي بها القلوب بنار الحقد والحسد. تلك الكلمات التي تورث بين الناس المفاسد حتى تسفك الدماء، وتنتهك حدود الله جل جلاله، ألا وهي المشي بين الناس بالقيل والقال، كقولك: فلان يقول فيك كذا وكذا. فإياك أن تكون نماماً! ففي الحديث الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره عن حال من نقل الكلام فأوقع العداوة بين الناس أنه لا يدخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) والعياذ بالله! يقول بعض العلماء في هذه الأحاديث المشتملة على الكبائر: الغالب أن صاحبها لا يوفق لحسن الخاتمة حتى يكون من أهل الجنة. فاتق الله في نقل الأحاديث! المسلم يصلح ولا يفسد؛ إذا علمت أن بين أخٍ وأخٍ عداوة فاتق الله فيما تقوله، قُل الكلام الطيب، حتى إن الإسلام أباح لك أن تقول الكذب لأجل أن تصلح بين هذه القلوب المتفرقة، الإسلام يريد السلامة ويريد اجتماع القلوب، والتآلف والمحبة والتعاطف والتراحم والتكاتف، يريد اجتماع القلوب على طاعة الله جل جلاله، لا يريد الشحناء، ولا البغضاء لا يريد تفكك القلوب وحصول الفتن والمحن، واشتعالها واصطلائها بسعير الشيطان وأعوان الشيطان، ولذلك ينبغي على المسلم أن يخاف الله في حقوق إخوانه. وإذا رأيت إنساناً ينقل إليك كلاماً يوغر صدرك على إخوانك فذكره بالله جل جلاله، وقل: يا فلان! اتق الله فيما تقول، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دعوا لي أصحابي. دعوا لي أصحابي إني أريد أن أخرج نقي الصدر لهم) فلذلك ينبغي على المسلم الموفق إذا جاءه هذا النمام -ذو الوجهين- الذي يريد أن يفرق ويبدد الجماعة والشمل أن يقول له: يا فلان! اتق الله! وإذا كنت في المجلس فسمعته ينقل حديثاً يوغر صدر السامع على أحد فقل له: اتق الله. وقد كانت للسلف مواقف جليلة: جاء رجلٌ إلى بعض السلف وقال له: فلان يقول فيك كذا وكذا، فقال له ذلك العالم الجليل: أما وجد الشيطان رسولاً غيرك؟ الله أكبر! تريد أن تغير قلبي على أخي؟ ما وجدت شيئاً تنقله إلا هذه الكلمات الخبيثة حتى ولو قالها، ما وجد الشيطان وعاءً نتناً ينقل النتن غيرك والعياذ بالله! وجاء رجل إلى الحسن رحمة الله عليه فقال: فلان يقول فيك كذا وكذا، قال: والله لأغيظن من أمره بذلك، اللهم اغفر لي ولأخي. أي: لأغيظن الشيطان الذي أمره أن يقول فيه. اللهم اغفر لي ولأخي. هذه صفحاتٌ مشرقةٌ من قلوب تعامل الله علام الغيوب، من يريد الجنة يشتريها بالأعمال الصالحة، وبسلامة الصدر التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم صاحبها بالجنة، فكان مبشراً بالجنة وهو يمشي على وجه الأرض، لحديث ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة) فاستشرفت تلك العيون تنتظر هذا الرجل المبشر بالجنة وهو في الدنيا، فخرج ذلك الرجل الصالح الموفق فسلم ومضى، فتبعه ابن عمرو رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه يريد أن يفوز بالخير الذي فاز به هذا العبد الصالح، فنام معه ثلاثة أيامٍ يريد أن ينظر كيف دخل هذا العبد الجنة، يريد أن يعرف السبيل الذي أوصل هذا العبد إلى دخول الجنة، فبات معه ثلاث ليال، لا يتحرك حركة، ولا يقول كلمة، ولا يفعل فعلاً إلا وعين ابن عمرو تراقب، حرصاً على الخير، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم قلوبهم معلقة بالجنة، أين طريق الجنة؟ أين سبيل الجنة؟ يبيعون أنفسهم لشراء هذه السلعة الغالية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة:207] من يشري نفسه، أي: يبيعها {وَمِنَ النَّاسِ} [البقرة:207] ليس كل الناس {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة:207] فرآه ثلاثة أيام، يقول: فما وجدت منه كثير صلاة ولا صيام، ولا كثير عبادة، ولكن كان إذا تقلب في الليل وهو نائم، ذكر الله، سبح حمد هلل كبر قلب معلق بالله جل جلاله، قلب سليم، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم هذه القلوب. فلما مضت الثلاث الليالي، ولم ير ابن عمرو عملاً عند هذا الرجل، فقال: يا فلان، إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كذا وكذا، فكنت أنت الرجل، فأخبرني عن أرجى عملٍ تعمله، فقال ذلك الرجل: [أما إنه ليس عندي كثير صلاة، ولا صيام، ولكني لا أمسي وأصبح وفي قلبي غلٌ على مسلم]. فلذلك ينبغي للمسلم الموفق أن يكون قلبه بريئاً، فإذا جاءه ذو الوجهين، أو جاءه من لا يخاف الله ويتقيه يريد أن يقطعه عن إخوانه، فليقل له: اتق الله ولا تنقل لي كلام الناس، لا تنقل لي ما يغير قلبي على عباد الله فهذه من آفات اللسان.

الغيبة

الغيبة ألا وإنَّ للسان آفات، فكما أن لله حقوقاً يزل فيها اللسان، فإن للعباد حقوقاً تزل فيها الألسن، تلك الحقوق التي تهتك بها عورات المسلمين، تلك الحقوق التي تضيع فيها حدود الله رب العالمين، إنها الحقوق التي ينتهكها الإنسان بالكلمة الواحدة في وجه أخيه أو غيبته. ومن آفات اللسان التي تكون بين الإنسان وأخيه: الغيبة، وهي أن يذكر أخاه بما لا يحب أن يذكره به، قالوا: (يا رسول الله أرأيت لو كان فيه ما قلت؟ قال: إن كان فيه ما قلت فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) فإن كان ما قلت فيه فهي غيبة، وإن لم يكن فيه ذلك فقد بهته وظلمته. الغيبة يوم يجلس الإنسان في تلك المجالس فيظن أن الله لا يسمعه ولا يراه، فيذكر أخاً من إخوانه، ويذكر عيباً من عيوبه، فيقول: فلان فيه كذا وكذا، وفلان فعل كذا وكذا، وحينئذٍ تخط هذه الكلمة في صحيفة عمله لكي يلقى الله جل وعلا بذنبه. ألا وإن الغيبة من آفات اللسان وزلاتها، ومما يجب على كل مسلم أن يخاف الله ويرجوه، ويَسلم منه إخوانه المسلمين عند غيبتهم عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون يده ولسانه) أي: المسلم الكامل والمسلم الحق. ليسلم الناس جميعاً منك، وارض لعل الله يرضى عنك، سلِّم المسلمين من لسانك، فإذا جلست في المجلس وأردت أن تذكر مسلماً فاجعل الجنة والنار بين عينيك إذا أردت أن تذكر أخاك المسلم فلا تذكره إلا بخير، ولا تذكر عيوبه، فإن ذكر العيوب هتكٌ لستر الله جل وعلا عليه، ولذلك قال الإمام مالك رحمة الله عليه كلمةً عجيبةً غريبةً! قال رحمه الله: أعرف أناساً لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس، فأوجد الناس لهم عيوباً، وأعرف أناساً عندهم عيوب سكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم. أعرف أناساً لا عيوب عندهم -أهل استقامة وطاعة- ولكنهم يتكلمون في عيوب الناس: فلان فيه وفلان فيه، يهتكون ستر الله عليهم، فأوجد الناس لهم عيوباً -أي: صارت الناس تظلمهم وتقول: فيهم. وهو ليس فيهم- لأنهم هتكوا ستر الله على عباده، وأعرف أناساً عندهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فسكت الناس عن عيوبهم، فالكلام في عيوب الناس لا خير فيه. عليك نفسك فاشتغل بعيوبها ودع عيوب الناس للناس سل الله العافية، فإن عيَّرت مبتلىً فلعل الله أن يعافيه ويبتليك، ولذلك ذُكر عن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمامٌ من أئمة التابعين وصفحةٌ من صفحات السنة المشرقة والصلاح والعبادة في زمانه، وقد أوصى أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن يغسله إذا مات- أنه لما كان في آخر حياته أصابه الدين، فقال: والله إني لأعرف الذنب الذي من أجله بليت بالدين. قالوا: وما ذاك؟ قال: قلت لرجلٍ قبل أربعين عاماً: يا مفلس!! أذية المسلم لا تفوت؛ إما أن ينتقم الله من المؤذي في الدنيا، أو ينتقم منه في آخر لحظاته من الدنيا، أو ينتقم منه في الآخرة، أو يجمع الله له بين الثلاث النقم والعياذ بالله. عورات المسلمين عظيمة! ما خلق الله الإنسان لكي يهتك عورات المسلمين: (من ستر مسلماً ستره الله، ومن تتبع عورة مسلمٍ تتبع الله عورته) وورد في الرواية الأخرى: (ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره). فاتق الله، لسانك لا تذكر بها عورة مسلم، وخف الله في هذه العورات والعيوب التي في الناس، وقل: يا مسلِّم سلِّم. وقل: الحمد الذي عافاني مما ابتلاهم به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً. اتق الله في عورات المسلمين، ولا تذكر عورة مسلم؛ فإن الله يسترك كما سترتهم، ويعافيك إذا حمدت الله عز وجل على العافية إذا رأيتهم. وينبغي على المسلم إذا نظر إلى عورة أخيه المسلم أن يسعى في استصلاحها، وألا يشمت بها، فمن كمال إيمان المؤمن أنه يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن كنت مؤمناً حقاً فلا تتبجح في المجالس وتقول: يفعلون ويفعلون ولكن هيئ من نفسك ذلك المؤمن الصالح، واحتسب تلك الخطوات التي تشتري بها رحمة الله ولتذهب إلى هذا المبتلى وتلقي في أذنه كلماتٍ ينفعك الله بها في الدنيا والآخرة، فتذكره بالله وتُهدي إليه العيوب، فلعل ذلك أن يكون سبباً في صلاحه هذا هو المنبغي على الإنسان، أما أن يجلس بين إخوانه، ويذكر العيوب والمثالب فهذا لا ينبغي. وقد يكون العبد صالحاً فيذكر فواحش ومنكرات تقع في المجتمع، وهذا لا ينبغي خاصةً إذا شهر بها على وجه لا يترتب عليه المصالح؛ فإن ذلك ضرره أعظم من نفعه، وخطره أعظم من خيره، قال سفيان رحمه الله: إذا سمعتم بالفواحش والمنكرات، فلا تذيعوها فإنها ثلمةٌ في الدين. إذا سمع الناس أن فلاناً فعل وفلاناً فعل قد تقتدي بهم، ولكن حاول ألا تذكر هذه العورات إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة من التحذير، وبيان الخطأ كما هو واجب على العالم، ويجب أن يصحب ذلك إخلاص النية لله جل وعلا والإشفاق، وأن يكون ذلك النصح بأسلوب يدل على حسن قصد صاحبه، فنعم والله من يصنع ذلك! فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبين ذلك ويفعل ذلك صلوات ربي وسلامه عليه. فمن حقوق المسلم على أخيه المسلم ألا يذكر عورته، وألا يشهر به، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يوجه يصعد على المنبر ويقول: (ما بال أقوام؟) ما قال: يا فلان بن فلان: لمَ فعلت كذا وكذا؟ لا يشهر صلوات ربي وسلامه عليه، إلا إذا وجدت المصلحة المقتضية لذلك، أو غلب على الظن اندراء المفسدة بتشهيره. ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جاراً جاء يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جاره، فأمره أن يخرج متاعه عن بيته، فصار كلما مرَّ عليه الناس قالوا له: ما بك؟ ما شأنك؟ قال: جاري يؤذيني، فكل من مرَّ لعن جاره وسبه وآذاه. فقال له جاره لما رأى ذلك: ارجع إلى بيتك، فلن ترى ولن تسمع مني إلا خيراً). ألا وإن من أعظم من ينبغي أن يستر هو جارك وأقرب الناس منك، فإن من حق الجار على الجار ألا ترسل لسانك على عورته، ولا تدل على عورته، ولذلك وصى النبي صلى الله عليه وسلم بالجار، ووصى من قبله كتاب الله الواحد القهار. وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام على قدميه ومعه رجلٌ يناجيه، فوقف حتى طال موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء صحابي يريد النبي صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ وذلك الرجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمه المرة تلو المرة، يقول الصحابي: حتى أشفقت على النبي صلى الله عليه وسلم من طول القيام، فلما فرغ الرجل من ذلك المقام ومضى وانصرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)؛ حتى ظننت أن الله سيجعل الجار كالابن الذي من النسب يرثك وترثه. فلا تذكر عورة الجار؛ لأن الجار قريب منك تسمع صيحته وتعلم حاله وتعرف أبناءه وبناته وما يكون غالباً من شأن أهله، فلذلك كان من حقه العظيم أن تستر عورته، ولا تفضح شيئاً من ذلك.

الكفر بالله

الكفر بالله ألا وإن أعظم آفات اللسان التي إذا بلي بها الإنسان خسر دينه ودنياه وآخرته: الكفر بالله، يوم يمسي الإنسان ويصبح وقد نطق لسانه بكلمة تخرجه من الدين والملة -والعياذ بالله- يوم ينطق الكلمة فيهوي بها إلى دركات الجحيم يوم ينطق الكلمة فيكتب الله بها سخطه عليه إلى يوم الدين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد ما بين المشرقين في نار جهنم) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يتبين فيها يكتب الله بها سخطه عليه إلى يوم القيامة) فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من هذا البلاء. ولذلك خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وأمته من زلات اللسان، فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام لكي ينتهل من معين الوحي، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (أمسك عليك لسانك) أمسك هذا اللسان حتى لا ينطلق في حدود الله ومحارمه أمسك هذا اللسان يا معاذ عن عباد الله المؤمنين أمسك لسانك عن عباد الله المسلمين حتى تكون مسلماً حقاً فقال له: (أمسك عليك لسانك) وإذا بـ معاذ تهوله تلك الكلمة فقال: (يا رسول الله! أو إنا مؤاخذون بما نقول؟) هل هذه الكلمات التي يلفظها هذا اللسان مكتوبة في السجلات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك، ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) حصائد الليل والنهار؛ يوم أطلق اللسان في غيبة المسلمين، ويوم أطلقه في عورات عباد الله المؤمنين: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم). وجاءه صحابي يوماً من الأيام يسأله عن الدين والإسلام فقال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. فقال صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله، ثم استقم، فقال: يا رسول الله! ما أخوف ما تخافه عليَّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك هذا)؛ أخاف عليك لسانك، أخاف عليك منطقك وبيانك. فلذلك كان من أعظم آفات اللسان وأعظم ذنوبه أن يكفر بالله جل وعلا، وقد يكفر الإنسان حينما يقول الكلمة الواحدة فيخرج بها من الدين بالكلية، يوم يقول: لا إله والحياة مادة. أو يقول: إن لله ولداً. فيأتي بشيء إداً {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم:90 - 91] يوم ينادي غير الله ويستغيث بغيره، ويستجير بأحدٍ سواه، فيُكتب عليه أن حرمت عليك الجنة وتبوأت النار؛ وذلك يوم يتعلق بغير الله، فيناديه ويناجيه كما يناجي الله جل الله في علاه!

الاستهزاء بالدين وأهله

الاستهزاء بالدين وأهله ومن آفات اللسان التي تخرج من الملة أن يستهزئ العبد بالدين. يوم يطلق لسانه في معالم هذا الدين لكي يستهزئ ولو بكلمة واحدة، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج في غزوة تبوك في شدة الحر -وسماها الله عز وجل ساعة العسرة؛ لأنها ساعةٌ شديدةٌ امتحن الله فيها عباده المؤمنين- وخرج معه أصحابه الكرام، وخرج قومٌ لم تسلم لله قلوبهم كما أسلمت ظواهرهم. فكان من هؤلاء القوم طائفةٌ أرادوا أن يقطعوا طريق السفر لما شعروا بالسآمة والملل، فلما أرادوا أن يتحدثوا بحثوا عن الشيء الذي يتفكهون به بحثوا عن الشيء الذي يضحكهم ويسليهم فلم يجدوا إلا عباد الله الصالحين، فقال قائلهم: (ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء!) من هم؟ إنهم القراء؛ حفاظ كتاب الله عز وجل، يقولون: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً -أناس يحبون الدنيا- وأجبن عند اللقاء وأخوف عنده! فنزل جبريل من أطباق السماوات العلى بتلك الآيات العظيمة من الله جل وعلا يوم سمع أحبابه وأولياءه ينتقصون من هؤلاء الذين لا خير فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]؛ ليس لكم عذر، قد كفرتم وخرجتم من الدين والملة بهذه الكلمات اليسيرة، فصاروا يتعلقون بناقة النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: (يا رسول الله! كنا نتحدث حديث الركب -كنا نقطع مسافة السفر- وكانت الحجارة تضرب رجل أحدهم فتسيل بالدماء والنبي صلى الله عليه وسلم يلتفت إليه ويقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) أضاقت عليكم الدنيا فلم تجدوا شيئاً به تفرحون، أو منه تضحكون إلا عباد الله الصالحين؟ وهذه هي عاقبة كل من استهزأ بأولياء الله وعباد الله الصالحين. فإياك، ثم إياك وأولياء الله! وإياك ثم إياك والراكعين الساجدين، فإن الله يحبهم ويحب من أحبهم، ويعادي من عاداهم، فلا تنطقن بكلمةٍ تستحق بها قول الله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]، قال بعض العلماء: إن هؤلاء القراء حفظوا كتاب الله، فكان الاستهزاء بهم استهزاء بدين الله عز وجل، ولذلك قالوا: من استهزأ بالعالم واستخف بالداعية إلى الله فقد استهزأ بالدين، من قال: هذا العالم لا يفهم شيئاً هذا العالم يحلل ويحرم من عنده، واستهزأ بالعلماء واستهزأ بآرائهم، واستخف بفتواهم فله نصيبٌ من قول الله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]. إنهم دواوين العلم الذين شرح الله بالقرآن صدورهم، إنهم رجال الدين والإيمان الذين نور الله بالوحي قلوبهم، إنهم رجال الدين الذين حفظوا كلام الله رب العالمين، وحملوا رسالة إله الأولين والآخرين؛ فكانوا ربانيين بما يعلمون الكتاب وبما كانوا يدرسون. فاتق الله، اتق الله في العلماء والدعاة والهداة إلى الله، لا يمسَّنك الله بعذاب في كلمة قلتها في عالم أو داعية إلى الله، وكن ذلك الطيب الذي لا ينفح إلا طيباً، ولا يسمع منه إلا الطيب، فإن الله إذا طيب قلب الإنسان طيب لسانه. كن ذلك الخيِّر الديِّن الذي يخاف الله فيما يقوله وينطق به لسانه، واذكر محاسنهم، وشيَّد بين الناس مآثرهم، وكن حافظاً لعوراتهم داعياً لهم بظهر الغيب، فلك من دعوتك أوفر حظ ونصيب. ألا وإن من الاستهزاء بالدين الاستهزاء بشرع الله رب العالمين، فإياك أن ينطق لسانك بكلمة في حكمٍ لله جل جلاله، إذا سمعت أن الله أحل أمراً أو حرمه فقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] لا تقل: كيف هذا؟ لا تقل: لا يصلح هذا. لا تقل: هذا لا يعجبني. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]. أسلم لله قلباً وقالباً ولساناً، وليكن منك الرضا والتسليم، فإن الله يقول للنبي الكريم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] يقسم الله جل جلاله هذا القسم العظيم أن لا إيمان لهم حتى يحكموك فيما شجر بينهم، حتى تنصاع وتصبح ذليلاً أمام الكتاب والسنة (حتى يحكموك) فإذا جئت في خصومة بينك وبين جارك أو أخيك، فأول شيء تقوله: ما حكم الله ورسوله فيما بيني وبينك؟ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] وليس وحدها {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} [النساء:65] أي: لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً {حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] هذا هو الإيمان، هذه هي العبودية الحقة لله العظيم الديان، فاتق الله فيما تقول، واتق الله فيما تعتقده فإن الله سائلك عن كل ما يلفظ به لسانك.

أمور يحفظ بها الإنسان لسانه من الآفات

أمور يحفظ بها الإنسان لسانه من الآفات أيها الأحبة في الله: نتحدث في الوقفة الأخيرة عن كيفية حفظ الإنسان لسانه من الآفات:

سؤال الله القول السديد

سؤال الله القول السديد أما السبب الثاني الذي يعين على حفظ اللسان من الآفات والزلات: أن تسأل الله جل وعلا الذي منه صلاح الأحوال، ومنه الكرم والفضل بطيب المقال، وتسأله أن يرزقك قولاً سديداً، قل: اللهم إني أسألك لساناً يرضيك عني، وأعوذ بك من لسانٍ يغضبك عليَّ، سل الله أن يعطيك قولاً يرضيك عنه، وادعه، فإن الله يستجيب لمن دعاه، سل الله في الأسحار، واسأله آناء الليل وأطراف النهار أن يحفظ لك لسانك فلا تحمل ذنوب الناس. ولذلك قد يمسي الإنسان ويصبح راكعاً ساجداً، قائم الليل وصائم النهار، وحسناته لمن تكلم فيهم، يغتاب وينم وهو قائم الليل صائم النهار، حسنات القيام والصيام لمن هتك ستره وآذاه، فاجتهد رحمك الله في سؤال الله أن يحفظ لك لسانك عن أذية المسلمين وعن أعراض عباد الله المؤمنين، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حفظ اللسان.

قراءة سير السلف الصالح

قراءة سير السلف الصالح ومن الأمور التي تعين على حفظ اللسان: قراءة سير السلف الصالح رحمة الله عليهم، ففيها النماذج الكريمة التي تحيي في الأنفس الاشتغال بما يعني عما لا يعني.

استغلال اللسان في طاعة الله

استغلال اللسان في طاعة الله ومما يعين على حفظ اللسان: استغلاله في طاعة الله جل وعلا، واستشعار ما عند الله من الفضل إذا سخر الإنسان لسانه في طاعة الله، فإن الكلمة الطيبة تقربك إلى الجنة وتبعدك من النار، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد يتقي النار بشق تمرة وبكلمة طيبة. فليجتهد الإنسان بذكر ما عند الله من الفضل والرحمة حتى يحفظ الله عز وجل لسانه، ويصون منطقه وبيانه. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قولاً سديداً، وعملاً صالحاً رشيداً، اللهم إنا نعوذ بك من زلات اللسان، وخطرات الجنان، ووساوس الشيطان، ونسألك أن تمن علينا بما يرضيك يا كريم يا رحمن. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182] وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

ذكر الآخرة

ذكر الآخرة ألا وإن من أعظم ما يحصن به المسلم لسانه أن يذكر الآخرة، فذكر الآخرة من أعظم الأسباب التي تهذب للمسلم كلامه ومنطقه، فمن أكثر من ذِكر الموت وهاذم اللذات ومفرق الجماعات، ومن أكثر من ذِكر سؤال الله جل وعلا والموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، دعاه ذلك إلى مراقبة الله في كل كلمة يقولها. أثر عن بعض السلف -وكان قاضياً رحمه الله- أنه قضى في قضية، وكان المحكوم عليه رجلاً من السفهاء -يعني: رجل لا يبالي بما يقول- فلما حكم هذا القاضي عليه، قال ذلك الرجل: ظلمتني، وجرت عليَّ، وتسلط بلسانه على العالم، فقال ذلك العالم: والله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله جل جلاله، لكثرة ذكر الآخرة، فإذا أكثر الإنسان من ذكر الموت قل كلامه إلا فيما يعنيه، وأصبح يغار على هذا اللسان، يحترق يريد حسنة، يريد تسبيحة استغفارة تحميدة تكبيرة تزاد له في صحيفة العمل. تذكر -أخي في الله- أنه ستمر عليك مثل هذه الساعة وأنت ضجيع القبر والبلى لا مال ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون، وأنت أحوج ما تكون إلى كلمة طيبة تنجيك من عذاب أليم، ذكر الآخرة يحفظ اللسان، ذكر الآخرة يقوم المنطق والبيان، فإذا علم الإنسان أنه صائر إلى تلك الغصص التي تغص عندها الحناجر، ويذل عندها الأصاغر والأكابر، هانت عليه الدنيا، فلم يطلق لسانه إلا فيما يعنيه. ولذلك كان السلف رحمهم الله يحفظون الألسنة بكثرة ذكر الموت والآخرة، وكان الواحد منهم يعد كلماته خلال الأسبوع كله -من الجمعة إلى الجمعة- ليعرف عدد الكلمات التي تكلم بها؛ من خوف الله جل وعلا، وكثرة الاستشعار لهيبة الموقف بين يدي الله الواحد القهار.

الأسئلة

الأسئلة

مشكلة انتشار المساجد

مشكلة انتشار المساجد Q هناك مشكلة -في الحقيقة- استجدت مع انتشار المباني ألا وهي كثرة المساجد؛ لأن الناس كثرت مساكنهم وتباعدت، وبعض هذه المساجد التي أنشئت يسمعون النداء من مسجد القرية الأساسي ومع ذلك ينشئون لهم مسجداً، حتى إنه أصبح في بعض القرى الصغيرة مساجد كثيرةٌ، وفي غالب الأحوال أنه لا حاجة لها، وتفرق الناس بسبب ذلك، فما قولكم في هذه المسألة أثابكم الله؟ A اختصاراً في هذا الموضوع التي عمت به البلوى: الأصل أن كل أهل حي أو منطقة يتفقون على مكان وسط بينهم يرفق بهم جميعاً ويبنون فيه مسجدهم، ولذلك أرى أن هذه المساجد بعضها لا يخلو من الإثم، خاصة المساجد التي أحدثت في أماكن فيها مساجد قديمة، ومن أحدث مسجداً بجوار مسجد قديم قريب منه فمسجده مسجد الضرار -والعياذ بالله- يأثم ولا يؤجر؛ لأنه تفريق للمسلمين، وتفريق لكلمتهم، فإن وصل الأمر إلى أن قوم فلان لهم مسجد، وقوم فلان لهم مسجد فهذه من نعرات الجاهلية، وقد يكون -والعياذ بالله- أصحاب المسجد الذي يبنونه بالنعرة الجاهلية، لماذا نذهب عند بني فلان؟ يحرمون قبول الصلاة، فمقصود الشرع من بناء المساجد جمع القلوب واجتماع الناس، فيأتي هذا ويبني مسجداً لكي يجمع جماعته ويقول لهم: مسجدنا كذا، فإذا رأى أحداً يصلي في المسجد الثاني ربما يغر قلبه عليه -والعياذ بالله- كل هذا من الجاهلية. والذي أراه أن كل جماعة -مثلاً- عشرة بيوت أو عشرين بيتاً، ولو كان عندهم مساجد في بيوتهم ينظرون إلى منطقة متوسطة بينهم، ثم من بنى مسجداً في بيته يقدر هذا المسجد بألفين أو ثلاثة آلاف، فتجمع قيمة هذه المساجد وتهدم هذه المساجد وتضم للبيوت، ثم يبنى بين هذه البيوت مسجداً يجمعهم على كلمة الله وطاعته ومرضاته، هذا هو الذي ينبغي أن يفعل؛ لأن هذا هو مقصود الإسلام. والذي يريد أن ينجو من عذاب الله فليفعل ذلك، ويحس الإنسان أنه يدخل مسجد الله ولا يكون مسجد بني فلان حتى يكون أبلغ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] ليست لبني فلان ولا علان، ونسأل الله أن يجمع القلوب على طاعته، وأن يؤلف بينها في محبته ومرضاته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حكم عزاء أهل الميت وكيفيته

حكم عزاء أهل الميت وكيفيته Q في هذه المنطقة يحصل الاجتماع في العزاء، فيجتمع أهل القرية أو معظمهم في بيت صاحب الميت، أو في بيت شخص آخر قريب له، ويأتي أهل القرى الأخرى ليعزوا أهل القرية، فنرجو من فضيلتكم أن توضحوا هذه المسألة؟ A بسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهناك نقطة في السؤال، بعض الأسئلة يقال فيها: في هذه المنطقة، أو هذه المدينة، أو هذه القرية. وأنا أرى أن الأفضل ألا يقال في هذه المنطقة، ولا في هذه القرية، لأنه قد يكون يفعله بعض الناس ويعمم الحكم، وقد يكون هذا -فعلاً- موجوداً عند كثير، لكن الأفضل والذي أرى أن يُسأل، فيقال: هناك من يفعل كذا وكذا، أو هناك من يقول كذا وكذا دون تحديد لمنطقة أو مدينة؛ لأن المقصود التوجيه، والمقصود معرفة حكم الله عز وجل؛ لأنه قد يكون هذا الأمر شائعاً عند بعض الناس، لكن لا يعتبر حكماً عاماً على الجميع، فالأفضل أن يقال: بعض الناس يفعل هذا الشيء. أما مسألة العزاء فالسنة أن يعزى المسلم في ميته، والله شرع العزاء؛ لأن المسلم إذا فقد مالاً أو فقد ابناً أو بنتاً أو قريباً فإن قلبه يضعف أمام المصيبة فيحتاج إلى من يثبته، وإلى من يذكره بالله جل وعلا؛ لأن المصائب تهز القلوب -نسأل الله أن يلطف بنا وبكم فيها- لذلك يحتاج المسلم إلى كلمة من أخيه، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعزي، قائلاً له: (إن لله ما أعطى، وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار، فلتصبر ولتحتسب) وقال: (فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون) إنا لله أي: مِلكٌ لله، (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها). المقصود أن العزاء مشروع، ولكن ليس بالطريقة التي توسع فيها الناس من إضاءة الأنوار، وفرش الفرش وبسطها، وجعل المواعيد والولائم في بيوت الميت، فهذا كله من البدع المحدثة، فالرجل يعزى في الميت في المقبرة، وهذا من السنة، وكذلك يعزى في المسجد، تقول له: يا فلان! أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، ونحو ذلك من الكلمات التي تجبر بها خاطره وتقوي بها إيمانه، وتوصيه بالسنة. وأما الجلوس واستقبال الناس على جماعات فقد شدد فيه السلف، ففي صحيح البخاري عن جرير رضي الله عنه أنه قال: [كنا نعد الجلوس في بيت الميت من النياحة] فينبغي تركه قدر المستطاع، ولكن إذا كان هناك أناسٌ يقدمون من سفر، وجلس الإنسان رفقاً بهم ولا يقصد بذلك التشهير فهذا رخص فيه المتأخرون من العلماء، وقالوا: إن الناس بحاجة خاصة الآن مع اتساع المدن، ولكن بشرط ألا يطيل الإنسان عند أهل الميت، بل كان بعض العلماء يشدد في الطعام والشراب عند أهل الميت، حتى إنني أذكر بعض مشايخنا لا يشرب القهوة في العزاء، كل ذلك تورع وتحفظ إذا عزى أهل الميت، حتى لا يذهب أجره. ولذلك ينبغي التحفظ في مثل هذه الأمور، فإطالة الجلوس عند أهل الميت من المنكرات، وأشد ما يكون المنكر أن يجلس الرجل في بيت الميت، ويجلس يتحدث بفضول الدنيا، فلان باع، والعمارة الفلانية، تقول له: لماذا؟ يقول: حتى أُسلِّي أهل الميت. سبحان الله! الله ينزل هذه المصائب حتى تنكسر القلوب وتنيب إلى الله جل وعلا، ويتذكر الإنسان ويتبصر، وتأتي تلهي عباد الله عن ذكر الله جل وعلا! فهذا من الغفلة -نسأل الله العافية- والسلامة، فينبغي اتقاء مثل هذه الأمور، وأن يكون العزاء على الوجه المعتبر شرعاً، والله تعالى أعلم.

حكم حرمان المرأة من الميراث

حكم حرمان المرأة من الميراث Q في بعض القرى يحرمون المرأة من الميراث، فتسكت على ذلك خوفاً من القطيعة، وقد تفاجأ بأن الميراث موقوفٌ على الرجال ونسلهم دون النساء، فما حكم ذلك وما موقف الدعاة وخطباء المساجد تجاه ذلك؟ وما موقف المرأة من مورثها وأقاربها؟ وهل عليها بر والديها بعد أن حرماها من حقٍ لها؟ والسؤال الآخر يقول: معلومٌ أن الله تعالى تولى تقسيم الفرائض بنفسه، ولم يكل ذلك لأحدٍ من خلقه، والسؤال: إن بعض الناس يُلجئ الوارث من النساء إلى التنازل -خاصةً الأخوات- مقابل بعض المال، وذلك حتى لا تنتقل التركة إلى غير الرجال من الوارثين، حتى أصبحت المرأة تعتقد أنه لا حق لها في المطالبة، والتي تتجرأ على المطالبة تنبذ وتقاطع وتحتقر، وتعدُّ مخالفةً لعادة المجتمع، نرجو من فضيلتكم التعليق والنصح، أثابكم الله وأعظم أجركم؟ A لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها) قال بعض العلماء: من ذلك أن الرجل يكون على صلاح وديانة واستقامة حتى إذا حضره الموت جار وظلم في الوصية التي يكتبها لأهله، فهذا الظلم والجور يكون سبباً في دخوله النار والعياذ بالله، فيكون آخر ما يكتب له في صحيفة عمله أن خرج ظالماً قاطعاً للرحم -والعياذ بالله-. الميراث حقٌ تولى الله قسمته من فوق سبع سماوات {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176] ولم يكل قسمة المواريث لا إلى ملكٍ مقربٍ، ولا إلى نبيٍ مرسلٍ، ولكن تولاها سبحانه جل جلاله وحده، فينبغي أن يعلم أن للمرأة حقاً في الميراث، وأن هذا الحق ينبغي أن يحفظ ولا يضيع، وأنه لا يجوز أن يستباح حق المرأة بالحيل والمكر، فإن الحيلة وإن نفعت في الدنيا فلن تنفع صاحبها يوم القيامة. وكذلك ينبغي أنْ يعلم الإنسان أنَّ المرأة إذا كانت ضعيفةً عن أخذ حقها فإن الله قويٌ ينتزع لها حقها، فليتق الإنسان ربه في حقوق هذا الإنسان الضعيف، والله جل وعلا جعل لها هذا الحق ليعينها على العفة، ويحفظ ماء وجهها أن تسأل غيرها، فإن المرأة إذا احتاجت قد تتعرض إلى الزنا والحرام، فالله جعل لها هذا النصيب حتى تصون ماء وجهها وتذكر ميتها فتترحم عليه فتقول: رحمة الله على فلان، ورحمة الله على أبي وأخي الذي ترك لي كذا وكذا. فيأتي هذا الظالم الفاجر الذي لا يتقي الله جل وعلا، لكي يقطع عنها رزقها، ولكي يؤذيها فيما أعطاها ربها، فهذا من الظلم، ومن الجور. والمسئولية على العلماء عظيمة، وعلى أئمة المساجد، وعلى طلاب العلم، وعليكم عامة أن تبينوا للناس أنه لا يجوز ظلم المرأة في أي شيء خاصةً في هذه الحقوق التي هي المال، فإن الله جل وعلا أخبر عن المال أن النفوس تحبه ومجبولةٌ عليه {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً عن أن يزيد عن الحق المعتبر في الزكاة التي هي حق لله، فقال: (وإياك وكرائم أموالهم) ثم قال بعدها: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). وجاء في الرواية الثانية أن الله يرفعها ويقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين) وقال بعض العلماء: إن الله ينتصف للمظلوم من ظالمه ولو كان المظلوم كافراً؛ لأن الله عدل لا يحب الظلم (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فهذا ظلمٌ للمرأة، ولا يجوز ظلم المرأة في الميراث. وكذلك احتقار المرأة وأذيتها واحتقارها وانتقاصها! وكون كثير من الناس يرى أن المرأة أشبه بسقط المتاع حتى يشبهها بعضهم بالحذاء -أكرمكم الله نسأل الله السلامة والعافية- ومن عادات الجاهلية الممقوتة التي تدل على ضعف الإيمان في القلوب قول بعضهم: المرأة أعزك الله! المرأة أكرمك الله! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] المرأة مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا، المرأة قد تكون سبباً في صلاح أُمةٍ، خديجة رضي الله عنها وقفت مع النبي صلى الله عليه وسلم فثبت الله بها قلبه. لا ينبغي للإنسان أن يكون ضعيف عقل، ويكون عنده تهور في انتقاص الناس واحتقارهم، فالمرأة فيها خير، كما أن الرجل فيه خير، وكون بعض العادات والتقاليد من احتقار المرأة وامتهانها وانتقاصها هذه من بقايا الجاهلية، ومن تخلف العقول، فالله يزن الناس ذكرهم وأنثاهم بالعمل الصالح {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. فلا يجوز ظلم النساء وأذيتهن واحتقارهن، وتبقى مظلومة، وأشد ما يكون الظلم من القريب، فالمرأة إذا ظلمت من أخيها، وإذا ظلمت من ابنها وأبيها، فمن الذي يقف معها بعد الله عز وجل؟ الله المستعان! ضعيفة، قد يظلمها زوجها، ثم يأتي أبوها ويظلمها، ثم يأتي أخوها ويظلمها، أين تذهب؟ أين يذهب هذا المخلوق الضعيف؟ مع ما هي فيه من همها ونكدها في عيشها. فينبغي لنا أن نتقي الله عز وجل فإن الراحمين يرحمهم الله، وهذه الغلظة والجفاء والأذية لعباد الله عز وجل ليست من الإسلام في شيء، بل الإسلام دين السماحة واليسر، ودين العدل والإنصاف والرحمة، وكان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يأمر بالإحسان إليهن حتى قال: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن إلا كنَّ له ستراً من النار). فلذلك ينبغي حفظ حقوق النساء، وعادات الجاهلية وبقايا الجاهلية ينبغي أن تنزع من العقول ومن القلوب والقوالب، وأن يعطى للنساء حقوقهن، ويحافظ على هذا الحق حتى ينجو الإنسان في يومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] يفر لأنه يخاف أن يكون ظلم بنته أو ظلم أخته أو ظلم زوجته أو أمه؛ فلذلك ينبغي التناصح في هذا، والمسئولية عظيمة. وقد كان الناس قديماً في الجهل، ولكن الآن انتشر العلم بين الناس، وأصبحت تعي وتعلم أن هذا ظلم، فلا تسكت، فإن رأيت الوالد يوصي بأن ماله للرجال دون النساء فقل له: اتق الله يا والد، واسأل العلماء فيما أنت فاعل، وإذا كان هناك وصية قديمة أو كان الإنسان قد ظلم أخواته، فمن الليلة لا تنام حتى تذهب إلى أختك وقريبتك وتقول لها: خذي حقك كاملاً، فأعطها حقها قبل أن يأتي يوم ينصف الله فيه المظلوم من الظالم، والمحروم ممن حرمه. ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن الله ينصف البهائم بعضها من بعض، فكيف ببني آدم؟ بهائم، شاة جلحاء لا قرن لها يأخذ الله لها حقها من الشاة القرناء، ثم يقول الله لها: كوني تراباً. وهناك صورة أُحبُّ أن أوضحها، وتسمى عند العلماء بالتخارج، وصورتها: أن يكون الرجل قد مات عن بنتين وابنين، فيكون للبنتين لكل واحدة منهن سهم، فيصبح سهم النساء سهمين، ويكون للابنين الذكرين أربعة أسهم، ويكون مجموع الأسهم ستة، فيترك -مثلاً- أرضين، والأرضين هذه قيمتها -في الحقيقة- تعادل إحداها أربعة آلاف ريال، والثانية تعادل ألفي ريال، فيصطلح الذكور والإناث على أن للإناث الأرض التي بألفين، وللذكور الأرض التي هي بأربعة آلاف، وقد اختلف فيها العلماء رحمهم الله ومذهب طائفة من أهل العلم صحتها وجوازها وهو الصحيح، ويستوي عند العلماء أن يكون التخارج في الفرض والأسهم في النقد، أو يكون بالأعيان، النقد مثل النقود، ويقول له: هذه الدار قيمتها ستة آلاف، نصيبي فيها أربعة أسهم، ولك منها سهمين، فخذ هذه الألفين عن سهميك الباقيين ونحو ذلك. لكن هذه الصورة ليست مما نحن فيه، فهذه الصورة جائزة ليس فيها حرج لكن بشرط: أن يكون مقدار النصيب الذي يعطى للنساء حق وعدل، ولا يكون فيه ظلم، بمعنى: أنه ما يخدع النساء ويقال لهن: التخارج جائز، ثم يأتي كل من هب ودب يقدر لهن ميراثهن ويظلمهن لا، بل يقدر برجلين من أهل الخبرة؛ عدلين، لا يحيفان لأحد من الورثة بالضوابط الشرعية المعتبرة. النقطة الثانية: عند كتابة الوصية إذا كان خروج المرأة إلى القاضي، وقالت: أنا متنازلة عن نصيبي، وكان هذا بالإكراه، فإن ذلك لا يحل نصيبها ألبتة، فإن الإكراه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، فالإكراه لا يوجب حرمة الحلال -بمعنى أن المرأة التي تملك نصيبها يصبح نصيبها حرامٌ عليها- والإكراه لاغٍ ووجوده كعدمه كأنه لم يوجد، فإذا أكرهت المرأة واستحيت، حتى إن بعض العلماء يرى أن الحياء والخجل في بعض الأحيان نوع من الإكراه، وهو أصل عند شيخ الإسلام ابن تيمية قرره في غير ما موضع من المجموع: أن الإكراه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد يكره الرجل بالحياء، فلذلك إذا كانت المرأة يضغط عليها عن طريق زوجها، أو عن طريق إخوانها حتى تتنازل، فهذا التنازل وجوده وعدمه على حد سواء، فليتق الله الإنسان في هذه الحقوق، ويؤديها كاملةً على الوجه الذي يرضي الله. فلذلك ينبغي أن تحفظ حقوق النساء، وأن تؤدى كاملة، وكذلك حقوق الرجال، وأن يتقي الله المسلم فيما يعتقده، وأن يؤدي لكل ذي حق حقه والله تعالى أعلم.

حكم الغيبة لمصلحة شرعية

حكم الغيبة لمصلحة شرعية Q إني أحبك في الله، نحن مجموعة من الشباب نذكر عيوب بعض الأشخاص فيما بيننا، وذلك للتشاور للقيام بزيارته ونصحه، فهل عملنا هذا يعد من الغيبة؟ A أحبك الله الذي أحببتني من أجله، وأشهد الله العظيم على حبكم جميعاً في الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يدخلنا وإياكم بهذا الحب دار كرامته، وأن يجمعنا بكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. أخي في الله! نِعْمَ ما صنعته من الغيرة على إخوانك المسلمين، وحرصك على توجيههم ودلالتهم على الخير، ولكن اعلم -رحمك الله- أنه إذا احتاج الإنسان إلى غيبة أخيه المسلم، فينبغي أن يأخذ بما تحصل به الحاجة، وقد نبه العلماء على هذه المسألة في قاعدة: "ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها". وهي قاعدة مشهورة عند العلماء. والكلام في الناس وذكر عيوبهم محتاج إليه، ولكن يقدر بالقدر، مثال ذلك: لو أردت أن تحفز شخصاً أن ينصح جاره، وتعلم أن هذا الجار -والعياذ بالله- يشرب الخمر ويزني ولا يصلي، فحينئذٍ تبدأ بماذا؟ تبدأ بالصلاة؛ لأنها عماد الدين، وإذا صلحت صلاته، نهته عن الفحشاء والمنكر، فتقول له: يا فلان! فلان أراه لا يصلي. ما تأتي تقول: ويشرب الخمر ويزني ويفعل ويفعل. لا تهتك ستر الله على العبد؛ لأن الحاجة تندرئ بهذا القليل. وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام من صالح الأنام) كلاماً نفيساً، وبين فيه قواعد العلماء الذين تكلموا على هذه المسألة في جرح الشعور والطعن فيمن طعن فيه، كل ذلك حفاظاً على حقوق المسلمين. فتذكر: أقل ما تحصل به الحاجة، ثم تشاور إخوانك في استصلاحه، ثم قليلاً قليلاً تذكر لمن يقوم باستصلاحه من عيوبه حتى يكون ذلك أدعى لصلاح حال من تكلم فيه، والله تعالى أعلم.

حكم تأجير المحلات للذين يبيعون المحرمات

حكم تأجير المحلات للذين يبيعون المحرمات Q ما حكم تأجير المحلات للذين يبيعون المحرمات مثل: الدخان وأشرطة الأغاني والفيديو؟ A أما بالنسبة لتأجير الدور والدكاكين ونحوها لمن يفعل الحرام فهو محرم، ويختلف هذا باختلاف المحرمات، فإن كانت الإجارة على حرام محض؛ جميع الشيء الذي يفعل محرم، وجميع الشيء الذي يباع محرم، فإن الإجارة تعتبر معونة على الإثم والعدوان، ومن يفعل ذلك فإنه يكون -والعياذ بالله- شريكاً له في الإثم على قدر ما يكون منه من ضرر، وأما إن اختلط بحرام، فإنه في هذه الحالة يكون له من حظ الإثم على قدر ما كان منه من وزر، إن قليلاً فقليل، وإن كثيراً فكثيرٌ، والله تعالى أعلم.

حكم العرضات الشعبية

حكم العرضات الشعبية Q هل العرضات الشعبية محرمة أم لا؟ A العرضات: التي هي الرقص بالسلاح، ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل والحبشة يلعبون بالسلاح في المسجد، فأراد عمر أن يحصبهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعهم، فإنه يوم عيدنا) ووقفت عائشة رضي الله عنها تنظر إليهم فأقرها على ذلك. فيشرع في يوم العيد اللعب بالسلاح دون اشتمال ذلك اللعب على منكرٍ لما في اللعب بالسلاح من إحياء الحمية ولما يحيي في النفوس من معاني الرجولة والفحولة ونحو ذلك، إذا لم يشتمل على محرمٍ من المعازف والغناء ونحو ذلك، فهذا لا حرج فيه عند حصول الموجب. أما بالنسبة لغير ذلك من التوسع فيه دون وجود حاجة، كأن يلعب بالسلاح في أي وقت، فهذا للأفراد قد يشرع أن يلعب الإنسان بسلاحه، ولكنه خلاف الأولى، وهو مكروه، ويشرع بمعنى يجوز، ولكن درجته هي الكراهة لما فيه من إضاعة الوقت، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في لعب الرجل بسلاحه. أما بالنسبة إذا اشتمل على محظور من الطبل والزمر فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي في آخر الزمان أقوامٌ يستحلون الحر -يعني: الزنا والعياذ بالله- والحرير والمعازف والقيان، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين) فهذه من المحرمات التي لا يجوز فعلها، والله تعالى أعلم.

حكم الإكثار من استخدام لفظة الطلاق

حكم الإكثار من استخدام لفظة الطلاق Q في هذه المنطقة أجد تساهلاً عظيماً في استخدام لفظة الطلاق، فأرجو أن تبين لنا خطورة الاستهانة بهذه الكلمة؟ A الطلاق هي كلمة الفراق التي تفرق الجماعات وتقطع الأرحام، وتوجب الوقوع في كثير من الآثام، الطلاق كلمة تدمر البيوت وتفرق بين الأم وولدها وبين الزوجة وزوجها، كلمة يسيرة ولكنها جليلة خطيرة، والإكثار من هذه الكلمة أمرٌ خطيرٌ ومنكرٌ عظيمٌ، حتى قال بعض العلماء: من أكثر من الطلاق لم يأمن أن يعيش هو وامرأته على الزنا والعياذ بالله. امرأته طالق إن لم تقم امرأته طالق إن لم تقعد امرأته طالق أن تتغدى اليوم عندي أن تتعشى عندي فتطلق المرة الأولى في أول النهار، وتطلق المرة الثانية في وسط النهار، وتطلق المرة الثالثة في آخر النهار، ثم يبيت معها على فراش زنا والعياذ بالله! من يكثر من الطلاق لا يأمن أن يعيش مع امرأته بالزنا شعر أو لم يشعر، فهذه كلمة خطيرة، ولذلك لا ينبغي ذكر هذه الكلمة عند كل قليل وكثير وجليل وحقير، وقد جاء رجل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وقال: [يا إمام! إني طلقت امرأتي مائة تطليقة، فقال: ثلاث حرمت عليك، وسبع وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزواً]. وجاء رجل إلى عبد الله بن عمر فقال: [يا أبا عبد الرحمن! طلقت امرأتي الطلقة الثالثة؟ قال: حرمت عليك. قال: يا أبا عبد الرحمن لا تفعل يرحمك الله -يعني: لا تطلق عليَّ امرأتي- فقال ابن عمر: أنا أفعل؟ أنت الذي فعلت، إن الله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وأنت لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجاً]. فالذي يكثر من لفظ الطلاق لم يتق الله، وحريٌ به أن يضيق على نفسه حتى يعيش هو وزوجه -والعياذ بالله- على الزنا، فليتق الإنسان ربه، فالزوجة وبيت الزوجية أرفع من أن يطلق على شربة ماء، بيت الزوجية كيان مسلم وبيتٌ مسلم أرفع من أن يهدر ويهدم بكلمة تخرج من إنسان متهور. ثم تجد الأعذار التافهة: أنا عصبي أنا لا أملك نفسي سبحان الله! أضاقت عليك عصبيتك فما وجدت أن تنفس غضبك إلا على زوجتك، على امرأة ضعيفة؟! أضاقت عليك الدنيا حينما أصابك الهم والغم والغضب -فآذاك عدوك- أن تنفذ تلك الكلمة فتدمر حياة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر؟! ويكون الإنسان فيه على أخطر ما يكون من ضياع بيته وضياع زوجه وأهله، بل يكون الإنسان لئيماً ضيع حق الناس عليه؛ لأن الذي زوجك أكرمك واختارك لعرضه وأخته وبنته، فكانت العاقبة أن يأتي يوم من الأيام تأتيه تجر ثوبها مطلقةً منك؛ بسبب تافه من أسباب الدنيا؟ فاتق الله عز وجل، وإذا سمعت الرجل يقول: طلاقٌ، حرامٌ. فقل له: اتق الله، وخف الله رب العالمين. إذا سمعت رجلاً يطلق وسكتَّ عليه، فإن هذا منكر {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2] فمن منكرات الأقوال، الاسترسال في الطلاق، وعدم المبالاة به. وينبغي التناصح والتذكير بالله عز وجل، وفي كبار السن المسئولية عليهم أعظم فهم قدوة؛ إذا رأى أحداً يطلق يقول له: يا فلان: اتق الله وخف الله، ولا يستهزئ الإنسان بهذه الكلمة. إن بعض الشباب حديثي السن يطلق وهو ليس عنده زوجه، يقول: عليَّ الطلاق، عليَّ الطلاق، يستهين بهذه الكلمة حتى يبتليه الله عز وجل، فإذا تزوج استمرأ لسانه الطلاق فيطلق امرأته بحيث لا يشعر! ولذلك ينبغي التناصح في هذا الأمر، وتوجيه الناس، والحرص على حفظ النفس عن حدود الله ومحارمه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الورع فيما نقول ونفعل، والله تعالى أعلم.

نصيحة للنساء بشأن الغيبة والنميمة

نصيحة للنساء بشأن الغيبة والنميمة Q تكثر في مجالس النساء الغيبة والنميمة ونقل الكلام، وبعضها في جهاز الهاتف، فهل من كلمة توجيهية للنساء في ذلك؟ A ينبغي على المرأة أن تتقي الله عز وجل في عورة أختها المسلمة، وإذا أرادت أن تحدث أختها ينبغي عليها أن يكون قولها سديداً، وأن تتقي الله عز وجل فيما تقوله من العورات والخطيئات، ولذلك قال بعض العلماء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] قال: خص الله النساء؛ لأن اللمز بينهن أكثر من الرجال، فيكثر بينهن اللمز والكلام، فلانة جميلة، وفلانة قبيحة، وفلانة فيها كذا وفلانة تفعل كذا، وكل ذلك ذنوب تسطر على المرأة التي تتكلم بذلك. فينبغي للمرأة أن تتقي الله فيما تقوله، وأن تحفظ حق أختها المسلمة، فكما أنها تكره أن يقال فيها ذلك، فينبغي عليها أن تكره لأختها ما تكرهه لنفسها وأن تشتغل بعيبها عن عيوب الناس، والله تعالى أعلم.

حكم غيبة صاحب المعاصي

حكم غيبة صاحب المعاصي Q هل يجوز غيبة الذي لا يصلي، أو الذي لا يحافظ على الصلاة؟ وجزاك الله خيراً. A بسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد فتسأل أخي في الله! عن عبد لا يصلي أو لا يحافظ على الصلاة، هل تجوز غيبته؟ الجواب فيه تفصيل: فإن ترتبت مصلحة شرعية على غيبته جازت الغيبة بحدود وبقدر، مثال ذلك: أن تعلم أنه لا يصلي، فتذهب وتنصحه، فلا يصلي. وتعلم أن له أباً، أو أخاً يستطيع نصحه وتقويمه وإرشاده، فتذهب إلى أبيه وتقول له: إن ابنك لا يصلي، أو إلى أخيه وتقول: إن أخاك لا يصلي، فهذا جائز ولا حرج فيه، ولكن لا يجوز لك أن تزيد عن الحاجة، فإذا كان لا يصلي فلا تأت فتقول: إن أخاك لا خير فيه وهو ساقط وكذا، بدليل أنه لا يصلي، بل تقتصر فقط على ذنبه، وتقول: إن أخاك لا يصلي، إن ابنك لا يصلي، فما أبيح للضرورة يقدَّر بقدرها. أما الحالة الثانية: أن يكون المقصود من السؤال غيبة من لا يصلي بغير مصلحة شرعية، ومثال ذلك: أن تجلس في المجلس، وتقول: يا جماعة! فلان لا يصلي. وليس هناك مصلحة إلا أن تؤذي هذا الرجل بقولك فيه أنه لا يصلي، فهذا لا مصلحة فيه، إلا إذا كان تشهيره بين الناس يردعه ويزجره فيجوز، ويدل على ذلك حديث معاوية بن الحيدة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا ترعوون؟ ألا ترعوون؟ اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس) يعني: عند الحاجة ولحاجة التحذير. وينبغي إذا أتيت لتحذر أن يفهم من كلامك وأسلوبك أنك تقصد فقط التحذير من هذا الشيء المعين دون زيادة، فإن السلف رحمهم الله والعلماء يحذرون في مثل هذه الأمور، فإن بعض الناس قد تبلغ به كراهيته لفعل ما فيحقد على صاحبه، ولا يفرق بين التوجيه والإرشاد وبين الحقد والغل، وقد نبه على هذا الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين وقال: إن كثيراً من الناس لا يفرقون في هذا حتى تصل العداوة إلى حقد شخصي، ولذلك قيل لـ أبي ذر لما رأى العاصي: أتبغضه؟ قال: لا، إنما أبغض عمله. هذا له حق الإسلام، وله حق في الدين لا تصل إلى أنك تشفي غلك النفسي، وتحمل عداوة الدين إلى عداوة شخصية، حتى إن البعض إذا رأى أخاه على زلةٍ قد يكره توبته -والعياذ بالله- حتى يبقى يشهر به -والعياذ بالله- فإذا بلغ الإنسان هذا المبلغ فليعلم أن عداوته ليست لله، وإنما هي لحظوظ النفس والعياذ بالله. فالمقصود أن توجيه الناس وإرشادهم مطلوب، وينبغي أن يكون بالأسلوب الذي يعينهم على القرب من الله لا النفرة من طاعة الله، فبعض العصاة إذا شهَّرت به أمام الناس، ثبت على معصيته، فهذا لا يشهر به؛ لأن المفسدة أعظم من المصلحة، والتشهير إنما جاز للحاجة، وبعض الناس إذا شهرت به ارتدع، وإذا بينت لجماعته وقرابته أنه على خطأ، زجروه وأخذوا على يده وقمعوه، فمثل هذا لا تشهر به إلا بعد أن تنصحه وتحذره، وتقول له: إذا لم تستقم فسأخبر عنك إخوانك حتى يزجروك. هذه كلها حقوق للمسلم، فإن للمسلم حقاً على أخيه، وينبغي أن يهيئ للناس، ويعينهم على طاعة الله وقبول النصح والتوجيه والله تعالى أعلم.

وقفات للمحاسبة

وقفات للمحاسبة

توجيهات ونصائح للدعاة

توجيهات ونصائح للدعاة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. وبعد: فهذه مجموعة من الأسئلة تقدم لفضيلة الشيخ محمد الشنقيطي، تختص ببعض المسائل التي تهم الدعوة والدعاة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بكلماته وتوجيهه، وما يعطيه لشباب الدعوة وشباب الصحوة من نصائح، نسأل الله عز وجل أن يعم بها النفع. Q الصحوة الإسلامية بحاجة ماسة إلى الترشيد والنقد، وإلى معالجة العيوب وتصحيح المسار، وتشتكي الصحوة الإسلامية اليوم داءً عضالاً، يعاني منه كثيرٌ ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله، فضلاً عن الصالحين وطلبة العلم، وهذا الداء هو: عدم الإحساس بالمسئولية تجاه الدعوة، وعدم تحملها والقيام بأعبائها وواجباتها، فتجد لدى كثير من الدعاة طاقة طيبة، وأعطاهم الله عز وجل من المواهب ما قد حُرم منه الكثيرون، وبالرغم من ذلك تجد مساهمتهم في الدعوة إلى الله عز وجل لا تكاد تذكر مع أنهم يسمعون ويعلمون عن واجبهم تجاه هذه الدعوة، ومع أن الواقع حولهم مهيأ لاستماع كلمتهم ولمشاركتهم الفعالة، وكما أننا ننظر إلى الصحوة الإسلامية اليوم بشكل عام فنجد أن حجم هذه الصحوة وهذه الجموع الغفيرة من شباب الإسلام لا يتناسب أبداً مع الواقع السيئ للأمة والمنكرات المتفشية فيها، فإننا كذلك بنظرتنا إلى الدعاة الأفراد نجد أنهم كذلك ينقصهم القيام بواجبهم، وأن ما يؤدونه على الساحة لا يتناسب أبداً مع ما أعطاهم الله عز وجل من العلم وكثير من القضايا التي يحتاج إليها الدعاة، فما هي توجيهاتكم لشباب الصحوة وللدعاة في هذه القضية؟ A بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة عباد الله المؤمنين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فالحمد لله الذي جمعنا بكم في هذه الليلة المباركة، وأسأل الله أن يجزي الذين تسببوا في هذا اللقاء كل خير، وأن يجعل ذلك في ميزانهم، ثم أقول: إن هذا السؤال مهم جداً، ويحتاج إلى التفصيل فيه الدعاة بصفة خاصة، ويحتاجه كل من له علاقة بدين الله عز وجل على وجه العموم؛ فالاهتمام بأمور الدين، والدعوة إلى رب العالمين أمر واجب على كل منا، فعلى كل مسلم أن يهتم بهذه الأمانة؛ لأن هذا الدين منوط بكل منا، ولا يمكن لهذه الأمة أن تصلح ولا أن تسعد ولا أن تبلغ درجة الكمال والفضل إلا بما كان عليه سلفها، وبفضل وتوفيق من الله سبحانه وتعالى. إذا أردت أن ترى التوفيق على كمال وصلاح أمور هذه الأمة فانظر إلى تلك الساعة التي يقوم فيها كل فرد وكل إنسان بواجبه، فالدين أمانة في عنق كل واحد منا، ورسالة الله عز وجل التي أوحى بها إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل بها كتاباً مبيناً وأرسل بها رسولاً أميناً. هذه الأمانة العظيمة تنتظر منا أمرين: الأمر الأول: العمل والتطبيق. الأمر الثاني: الدعوة إلى هذا الطريق. العمل والتطبيق أمر يختص بك، فكون الإنسان يلتزم ويسير على طاعة الله ومنهج الله، فهذه رحمة من الله تبارك وتعالى، لكن تأتي الثمرة الثانية وهي ثمرة الدعوة إلى طاعة الله والهداية إلى سبيل الله عز وجل، وإذا أراد الإنسان أن يعرف قدره عند الله عز وجل ومكانته عنده، فلينظر إلى قدر الدين في قلبه، فإن وجد أن هذه الرسالة لها مكانة في قلبه ولها مكانة في فؤاده، وأنه يتمعر وجهه لله عز وجل ويحترق من داخله إذا انتهكت حدود الله، وتُعدِّيت محارم الله فليعلم أن قلبه بخير، وأن نور الإيمان لا زال أثره في فؤاده، وأن الله تعالى يجله ويكرمه على قدر إجلال الدين، والله ما من إنسان يعظم هذا الدين ويحرص على تبليغه للأمة والدلالة عليه والهداية بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا وجدته موفقاً أينما كان، ومسدداً أينما كان، وملهماً الخير أينما كان. فالواجب على كل واحد منا أن يعلم هذه القضية الأساسية، وهي: أن قيمتك ومكانتك عند الله على قدر الدين، ولذلك جرب يوماً من الأيام أن تجلس فيه مع أهلك وتذكرهم بالله، وتجلس مع زوجتك فتذكرها بالله، ومع أبنائك فتعلمهم شرع الله عز وجل، ثم انظر إلى هيبة أهلك لك، والله يضع الله لك الهيبة على قدر ما وضعت للدين من هيبة، بل ويزيدك، فمن عامل الله فهو الرابح، وليس بيننا وبين الله إلا هذا الدين؛ تحقيقاً ودعوة إليه ودلالة عليه. فإذا كان كل واحد منا استشعر أن مكانته عند الله على قدر إجلاله لهذا الدين، فحينئذٍ الفوز الفوز، كل واحد منا يرشح نفسه أن يكون أسعد العباد برحمة الله بتبليغ رسالة الله، وليس المطلوب أن الشخص يجلس مثلاً في المساجد وينصح ويذكر ويفعل ما يفعله العلماء إذا لم يكن عنده حصيلة علمية كاملة تؤهله لذلك، فهذا ليس بالمطلوب؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذا ليس بوسعه أن يتحمل هذه الأمانة التي فوق طاقته، إنما المطلوب الشيء الذي بين يديك فتبدأ أولاً بدعوة الأقرب إليك، كأهلك وأبنائك وبناتك وإخوانك؛ لقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]. المرحلة الثانية: أن تتوسع قليلاً، فتبدأ بدعوة زملائك في العمل، كذلك أيضاً تحرص على جيرانك، وأي خطأ تراه فاعلم علماً مؤكداً أن الله يبتليك بهذا الخطأ الذي رأيته؛ يبتلي إيمانك، يبتليك لكي يعلم وهو علام الغيوب كيف منزلة هذا الدين عندك، الساعة التي ترى فيها المنكر أو ترى فيها أمراً يحتاج إلى نصيحة، يحتاج إلى كلمة طيبة، اعلم أن الله يختبرك فيها، هي ليست محض صدفة كما يقولون، ولم تأت هكذا عبثاً، لا، بل هي ابتلاء واختبار، يقول الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، فالعمل لا يحسن إلا بالصدق مع الله، وأصدق عمل تصدق فيه مع الله عز وجل الدعوة إلى الله عز وجل. والدعوة إلى الله تبارك وتعالى تكون لكل إنسان بحسبه، ممكن أن تدعو وأنت في وظيفتك، ممكن أن تدعو وأنت في بيتك، ممكن أن تدعو وأنت في مجلس مع إخوانك وزملائك، وليس المراد أن تجلس أربعاً وعشرين ساعة في الدعوة، لا، المراد أن تعطي هذا الدين ما تستطيع، فالله لا يريد منك أن تتحمل ما لا طاقة لك عليه، وأوصيك أن تقرن مع الدعوة الجد والصدق، واعلم أن الأجر والثواب على قدر إخلاصك. نركز هنا على عدة قضايا: القضية الأولى: إجلال هذا الدين. والله لا تُجل هذا الدين إلا كان على قدر ذلك الإجلال يجلك الناس، ولذلك انظر إلى هيبة العلماء عند الناس، ومحبة الناس للعلماء، لماذا؟ هل لأحسابهم؟ لا والله، لأنسابهم؟ لا والله، لألوانهم؟ لا والله، لمالهم؟ لا والله، لجاههم؟ لا والله، وإنما لشيء واحد وهو الدين، فقد صغت قلوبهم لله، وأذعنت لله وغارت له؛ لأنهم أعرف الناس بالله، فلما عظموا الله، جعل الله لهم القبول في العباد، هذه حقيقة مدركة بالدليل النقلي والدليل الحسي المشاهد، لا تُجل ولا تكرم إلا بقدر إجلالك للدين. فإذاً إذا ثبتت هذه القضية الأولى والركيزة الأولى، وهي: أن مكانتك عند الله على قدر إجلالك للدين، فما عليك إلا أن تؤهل نفسك للدرجات، فتحاول أن تجند نفسك على قدر ما عندك، فإذا رأيت شخصاً تائهاً، فهل من الصعب أن تجلس معه خمس دقائق، وتكلمه كلمتين ربما أنت ما تلقي لها بالاً، يكتب الله لك بها رضا لا سخط بعده؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، هل من الصعب عليك إذا رأيت شاباً حائراً تاركاً للصلاة أن تستوقفه خمس دقائق، فتجلس معه تقول له: هذا الطعام الذي تطعمه لمن؟ والشراب الذي تشربه لمن؟ هذه الروح التي تسري في جسدك فيتحرك بها كل شيءٍ بإذن الله لمن؟ وتقول له: أما تستحي من الله، وأنت ترفل في نعمه ولا تجيب داعي الله في بيت من بيوت الله؟ ثم كلمة بعد كلمة علَّ الله أن يهديه، فوالله ما ركع ركعة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا سجد سجدة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا دمعت عينه من خشية الله إلا كان لك مثل أجره، نعمة وفوز وفضل من الله عز وجل. القضية الثانية: إذا ثبت أنه ينبغي للإنسان أن يجلَّ دين الله وشرعه، فمن إجلالك لدين الله وشرعه: أن نحب لكل إنسان ما نحب لأنفسنا، وأن نسعى أن يكون هذا الدين وهذه الرسالة عند كل أحد، وأن يظفر بها كل أحد، كل ذلك طمعاً في رحمة الله، والتماساً لرضوان الله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك بأسلوب التشويق، فقال صلوات الله وسلامه عليه حينما بعث علياً رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فهذا يدل على أنه ينبغي بعد إجلال الدين: الانطلاقة للدعوة إليه، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29]، لاحظوا يا إخوان مجلس واحد فقط، سمعوا آيات من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلاها ذلك اللسان الصادق (فلمّا حضروه قالوا: أنصتوا)، هذه مرحلة الإجلال للدين، حتى في مجلس العلم، قال تعالى: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، (ولوا): انظر حتى أسلوب القرآن، يقال: ولَّى هارباً، يعني: فزع مباشرة، هذا دليل كمال التأثر بالقرآن، فكل من أجلَّ دين الله لا ينتظر، بل مباشرة ينطلق داعية إلى الله، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29 - 30]، إذا كان الإنسان تعلق بهذا الدين وعظم هذا الدين ما يتحمّل، ويتمنى هداية الأمة كلها فليس

أساليب كسب القلوب

أساليب كسب القلوب Q أثابك الله يا شيخ ونفع بعلمك، أما هذا السؤال فضيلة الشيخ، فهو من القضايا الأساسية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي العلم الصحيح وسلامة المنهج، ولكن هناك قضية يغفل عنها كثير من الدعاة، وقد لا يهتدي إليها إلا القليل، ولا يملك مفتاحها ولا يعرف أسرارها إلا الأقل، ألا وهي قضية كسب قلوب الناس ومحبتهم، فما السبيل إلى ذلك؟ A لا شك أن ما تضمنه السؤال من الحرص على قضية العلم، هي قضية أساسية، فالعلم نور، ومن جعل الله له هذا النور فقد أبصر السبيل، وكان الله له دليلاً ونعم الدليل، ولذلك العلم مفتاح كل خير ومنبع كل فضل، وللإمام ابن القيم كلام ما معناه: إن الإنسان يبصر بنورين: نور من داخله، ونور من خارجه، أما النور الداخلي فالبصر، وأما النور الخارجي فالشمس والشعلة المضاءة، فلو انطفأ أحد النورين لم يغن الآخر عنه، ولذلك -مثلاً- لو عمي الإنسان لا تنفعه الشمس، ولو وجد نور العين والشمس غير موجودة والمكان مظلم أتنفع العين؟ لا تنفع، إذاً لا بد من نورين: نور داخلي ونور خارجي، ولذلك يقولون في قوله تعالى: ((نُورٌ عَلَى نُورٍ)) [النور:35]، نور العقل الذي جعل الله عز وجل به معرفة الخير من الشر، ونور الإيمان والعلم، فقال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، جعلنا الله وإياكم ممن هداه. فلا بد من أمرين، العالم لا شك أنه على نور من الله، ولذلك يقول بعض العلماء، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات} [الأنعام:122]، قال بعض العلماء في هذه الآية: هذا مثل للعالم والجاهل، (أومن كان ميتاً فأحييناه) أحييناه بماذا؟ بالعلم (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) سبحان الله العظيم! إذا كان الناس في مكان مظلم، وجاء شخص معه نور، فكل الناس ستتبع هذا الذي معه نور، لا يمكن لأحد أن يتركه، إلا إنساناً ليس عنده عقل. قضية كسب القلوب، هي سر الصنعة كما يقولون، هذه أمور بيد علام الغيوب، القلوب مفاتيحها بيد الله عز وجل، فكسبها يحتاج إلى أمور: أولها: الإخلاص؛ فالمخلص هو الذي يفتح الله له القلوب، ولذلك رب كلمة صادقة من إنسان مخلص تدخل إلى سويداء القلوب، ويحيي الله عز وجل بها قلوباً طالما ماتت، ورب كلام كثير غير يسير لا يجد الإنسان له أثراً، ولا يجد له تفاعلاً مع نفسه، وكما قال بعض السلف عن سبب تأثيره في غيره، قال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة، فالنائحة الثكلى هي التي أصيبت، أما النائحة المستأجرة فتصيح بدون صدق، تصيح من أجل الدراهم، لكن الثكلى تصيح من أجل ولدها، لذا تصيح من قلبها، فكأنه يقول: إن الكلمة لما تخرج من القلب تقع في القلب، وهذا من عدل الله عز وجل، الله عدل، ووصف نفسه بالعدل المطلق الذي هو غاية العدل، لا يمكن أن يسوي بين إنسان يرائي ويسمع، وإنسان يريد وجهه. فبينهما كما بين السماء والأرض. ولذلك أول شيء تريد أن تكسب به القلوب في الدعوة إلى الله يا طالب العلم! يا داعياً إلى الله! أو أنت في أي مكان كنت، ولو كان الإنسان عامياً يريد أن يكسب القلوب، فأول شيء ينصح به الإخلاص. الأمر الثاني مما يعين على كسب القلوب: التزام الشرع أو الدين؛ لأن الله عز وجل كتب المحبة لأوليائه، ما من إنسان يلتزم كتاب الله إلا قذف الله في قلوب عباده حبه، أياً كان هذا الرجل، قال تعالى مصداقاً لذلك: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] (وُدًّا): يعني: محبة في الصدور، قال بعض العلماء: العمل الصالح سبب لمحبة العبد. إذاً الأمر الثاني بعد الإخلاص: قضية الالتزام بالشرع، ولذلك الداعية الذي يلتزم بما يقول ويعمل بما يقول يتأثر به الناس أكثر من الداعية الذي يقول ما لا يفعل. الأمر الثالث مما يعين على كسب القلوب: التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من أحب العباد إلى العباد، وكانت القلوب تحبه قبل أن ينطق بمنطقه صلوات الله وسلامه عليه، فقد قذف الله المحبة فيه؛ بمنطقه ومخبره ومنظره قبل مخبره صلوات الله وسلامه عليه، فعندما تلتزم سيرته سيكون لك الأثر، لماذا قذف الله في قلوب العباد حبه؟ بسبب آدابه وأخلاقه، فطالب العلم أو الداعية أو العامي، أي إنسان إذا التزم بآداب النبي صلى الله عليه وآله وسلم -سبحان الله! - الزوجة تكرمه والابن يكرمه، فهو عندما يطبق السنة، ويحاول أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أموره العامة والخاصة، حتى في شئون الطعام والأكل والشرب والمنام، ويحتسب عند الله التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد فترة يجد المحبة ويحس بها دون أن يخسر شيئاً، فتتجه القلوب إلى محبته؛ لأن الله يحب السنة؛ لأنها هي الحكمة التي أوحاها إلى نبيه، ويحب أهلها، وإذا أحبك الله وضع لك المحبة في قلوب عباده. الأمر الرابع الذي يعين على محبة الناس وكسب قلوبهم: المحافظة على مشاعرهم في حدود الشرع، لا يكون الإنسان فظاً غليظاً، وهذا أشار إليه الله تعالى حينما قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] إذاً لا بد أن يكون الإنسان حليماً رحيماً، المرأة التي جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرب من مزادتها، وتفجر الماء بين أصابعه، ما قال لها: أنت مشركة، أنت ضالة، أنت كذا، وإنما أحسن إليها وأرسلها، فلما ذهبت إلى قومها قالت: جئتكم من عند أسحر الخلق، إما أنه نبي أو ساحر. عيينة بن حصن الفزاري جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما قال له أنت مشرك ضال بعيد عن الله عز وجل -جابهه مباشرة- وإنما أعطاه وادياً من النعم، فلما سرى به إلى أهله قال: يا قوم! أسلموا، فوالذي يحلف به عيينة لقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر. ملك القلوب بالإحسان، والآداب والأخلاق، والإنسان عندما يكون مثلاً بين العوام، أو يريد أن يهدي أناساً ضالين، فلا يفكر أنه ركب على أكتافهم، أو أن بيده مفاتيح الجنة والنار، يدخل من شاء ويخرج من شاء، لا. فالأمر يحتاج إلى تقريب القلوب إلى الله عز وجل، ويحتاج إلى حكمة في ذلك التقريب، فإذا وفق الله عز وجل الإنسان لذلك كسب القلوب، وإذا بها بعد فترة تحبه شاء أم أبى، الناس تخسر الملايين من أجل أن يحبوا وأن يكرموا، فالتجار وأهل السمعة والفنانون وغيرهم يخسرون الملايين من أجل أن يحبوا، ولكن طالب العلم لا يخسر شيئاً، فقط يصلح ما بينه وبين الله فيجعل الله له القبول في الأرض، مجرد أن ترى الشخص من عباد الله الأخيار الملتزمين بالكتاب والسنة، تحبه بسبب ماذا؟ الدين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] هذه من المعزة التي كتبها الله لخاصة عباده -جعلنا الله وإياكم منهم-، وعندما تذكر الناس أول شيء ذكرهم بقلب صادق، مثلاً إذا جلس إنسان مع ولده ووالده وأهله وقرابته يريد أن يذكرهم بالله، يقول بعض العلماء: انظر إلى نفسك إن كان رأى الإنسان أخاه أو أخته على معصية، فجاء من باب الغيرة، يعني كيف الأخت تفعل كذا، كيف الأخ يفعل كذا، كيف ابني يفعل كذا، أصبحت ما هي لله، بل أصبحت غيرة للناس، إذا كنت تريد أن تكسب قلبه للدعوة، فلابد أن تكون لله، وتنظر إلى بعده عن طاعة الله وبعده عن سبيل الله وتنطلق من هذا المنطلق. نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن كتب الله له حبه ومتعه بحبه وحب خلقه. والله تعالى أعلم.

أهمية العناية بجانب القلوب والرقائق

أهمية العناية بجانب القلوب والرقائق Q جزاك الله خيراً، إذا تصفحنا كثيراً من كتب العلم، كتب السنة والحديث، نجد أنها ضمَّت إلى جانب أبواب الفقه والعقيدة والطهارة والسير والجهاد وما إلى ذلك، ضمَّت أيضاً باباً أو كتاباً كاملاً عن الرقائق، وقضية الرقائق والسلوك والإيمانيات أيضاً هي من القضايا التي غفل عنها كثير من الملتزمين وطلبة العلم والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، سواء من الناحية العلمية أو من الناحية العملية، فهم من الناحية العلمية -كما سبق أن ذكرنا- لا يقرءون في هذه إلا القليل، وربما تجد الواحد منهم يعرف الكثير عن العلماء الأعلام كـ ابن تيمية رحمه الله، فإنهم يعرفون عن علمه ومصنفاته، وعن جهاده ودوره، ولكنهم قد لا يعرفون شيئاً عن قلبه وعن مدى الإيمان العظيم الذي يضمه بين صدره، ومن الناحية العملية تجد أيضاً أن كثيراً من الناس يفتقرون إلى كثير من القضايا التي ترقق القلوب، فلا نجد زيارة للقبور، ولا حرصاً أو تواصياً على قيام الليل، ولا على كثرة الصيام، ولا غير ذلك من هذه القضايا التي ترقق القلوب وتقوي الصلة بين العبد وبين ربه، فما هو توجيهكم في هذه القضية؟ A أما جانب العناية بالقلوب ومحاولة الإنسان أن يكون قلبه ليكون قريباً من الله عز وجل، وأن يكون عنده سكينة وخشوع وانكسار، هذا أمر مهم جداً لكل طالب علم، ولكل مسلم فضلاً عن طالب علم أو عن عالم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيما صح من حديث النعمان: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فالعناية بالقلب ورقته وخشوعه وانكساره أمر مطلوب، ولا ينبغي لطالب علم أن يهملها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يتحلى بالخشوع ويتحلى بالرقة، (قرأ عليه عبد الله بن مسعود سورة النساء -بطلب منه عليه الصلاة والسلام- حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42] فقال لي: حسبك، قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان صلوات الله وسلامه عليه)، فكان يتأثر صلوات الله وسلامه عليه، قلبه حي، يتفاعل مع القرآن. فإذا جلس طالب العلم مثلاً يتكلم عن موضوع يحتاج إلى تأثر، وأن يكون متفاعلاً معه، يتكلم عن جانب الإخلاص، فينبغي أن يكون عنده تأثر، وأن يكون قلبه في رقة، بحيث يتمعر لله ويظهر أثناء حديثه جانباً من الروحانية، أما لو جاء يقرع جانب الإخلاص بذكر السلبيات، وأن الناس يقصرون، وأنهم يراءون، وأنهم وأنهم، فما هي النتيجة، يخرج الناس ما يدرون كيف يعملون ولا ما هو الحل؟ لكن لو جاء وبيَّن فضل الله على العباد، وأن العبد ينبغي أن يستحي من الله، وأن يكون قريباً من الله، ورويداً رويداً حتى يصل إلى القضية التي يريدها، ويجمع بين المادة وبين الروح، بتهيئة النفس إلى قبول ذلك، هذا أمرٌ مهم جداً، وأصدق شاهد على قضية الترهيب والترغيب والعناية بالرقائق ما ثبت في الصحيح من حديث عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أول ما أنزل- آيات فيها ذكر الجنة وذكر النار-يا إخوان هذا الحديث مهم جداً، وينبغي أن يتنبه له- تقول فيه أم المؤمنين: (كان في أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار، ولو نزل لا تسرقوا، لا تشربوا الخمر، ما آمن أحد). من أين كانت البداية؟ من جانب الترقيق، لكن جانب الترقيق لا يغلو الإنسان فيه؛ مثلما غلا بعض المتصوفة وبعض أهل الضلالات، لا لا، يجب أن يكون الترقيق منضبطاً بالكتاب والسنة، وتذكر بآيات الكتاب، تذكر بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم معين خصب، ورياض ناضرة لا ينضب معينها، لكن تحتاج إلى ذلك الحكيم الذي يتفاعل معها أولاً، ثم ينقلها إلى الغير. فأنا أقول: لا بد لطالب العلم، وكل أحد أن يعتني بجانب الترقيق؛ لأن القلب يقسو بأمور الدنيا، والأخذ والعطاء فيها، فأعط لنفسك في اليوم ولو ساعة تقرأ فيها كتاب الله، مثلاً: الإنسان بعد العشاء ينتهي من أعماله، لماذا لا يتوضأ ويفتح كتاب الله إذا كان غير حافظ فيقوم ويركع ركعتين، ولا يعرف فيها شيئاً إلا كلام الله، ينسى الزوجة والأبناء، حتى يعطي كتاب الله حقه من التدبر. يا إخوان! كل ليلة نؤجل للتي بعدها، نقرأ القرآن بقلوب فارغة، ونقول فيما بعد إن شاء الله يأتينا الخشوع، فيما بعد فيما بعد والنهاية؟ كل يوم ونحن نتدارك الذي بعده، لا، من الليلة، خذ لك ولو نصف ساعة بعد صلاة العشاء اقرأ فيها كتاب الله -سبحان الله العظيم- وحس كأنك المخاطب، إن جاء ذكر النار تصور كأنك فيها، وإن جاء ذكر الجنة تصور كأنك في نعيمها وسرورها، ما بين خوف وبين رجاء، وكما يقول بعض السلف: هما جناحا السلامة، فاقرأ، ثم بعد ذلك قرب قلبك من هذا الكتاب الذي لو نزل على الجبال لاندكت، ولو نزل على الرواسي من خشية الله لانهدت، فقرب نفسك منه، حس كأن هذا الكتاب نزل لك من أجل أن تعمل به، وتتغافل معه فإذا فعلت ذلك فإن قلبك ينشرح، ونفسك ترتاح، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وإذا بك -سبحان الله العظيم! - هاتان الركعتان أو هاتان الآيتان اللتان تلوتهما وتدبرتهما والله تجد حلاوتهما في يومك بأكمله، وتجد أثرهما في قلبك. وكيف كان علماء السلف، كان عالم السلف لا بد أن يختم القرآن كل ثلاثة أيام، الإمام الشافعي جاءته امرأة سألته عن حجية السنة، قال: أنظريني ثلاثة أيام، لماذا؟ لأنه يمر على هذا الكتاب كل ثلاثة أيام، يعني يختم القرآن كل ثلاثة أيام، فلما كانت الليلة الثالثة كبَّر في السحر؛ لأنه في الليلة الثالثة في الثلث الأخير، وفيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، قال: يكفي هذه الآية، فعثر على حجية السنة. فلذلك كان السلف على صلة، العالم يختم القرآن كل ثلاث ليالٍ، معنى ذلك أن أي همٍ من هموم الأمة إذا مرَّ عليه فخلال ثلاث ليالٍ يعرضه على الكتاب، ولذلك لا تجد أحداً يتكلم إلا يقول لك: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فأنا أقول: جانب العناية بالرقائق والقلوب مهم جداً، لكن يكون أساسه الكتاب والسنة، وينبغي أن ينبه بعدم العناية كثيراً بالقصص، وترك الكتاب والسنة، لأن بعض الناس يعتني بجانب القصص، حتى أنك تسمع محاضرة، كلها قصص وأحداث وأخبار، وقد يتأثر بعض العامة بها أكثر من القرآن ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما ينبغي هذا، والله بعض آيات الكتاب بل كل آيات الكتاب، لو أن الإنسان أحسن تدبرها وخشوعها وتذكرها، فإن القلوب تتفتت من خشية الله عز وجل، وإن بعض المجالس نعرفها لبعض مشايخنا رحمة الله عليهم وأحسن الخاتمة لأحيائهم، والله لا زلنا نذكر آيات يسيرة ذكرونا بها ولا تزال في قلوبنا؛ لأن القرآن عجيب. فلذلك ترقيق القلوب يكون بالقرآن، وأما الخيالات والقصص والمنامات وهذه الأمور الحقيقة يفضل تركها إلا ما وافق الكتاب والسنة يذكر بقدر حتى لا يسترسل الناس فيه، ولا مانع أن يستشهد الواعظ بشيء له أصل من الكتاب والسنة. فالمقصود من هذا كله أن جانب الترقيق مهم جداً، ولذلك جرب الآن واجلس في حلقة فيها مثلاً جانب علمي؛ مادة علمية بحتة، تقوم من الحلقة هناك فائدة، لكن ماذا؟ القلب تجده قد يقسو، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يربط الأعمال بأثرها على القلوب، فيذكر مثلاً الوضوء، قال عليه الصلاة والسلام: من توضأ توضأ وضوءاً كاملاً -كما في حديث حمران عن عثمان في الصحيحين- لما انتهى من الوضوء ماذا قال؟ قال عليه الصلاة والسلام: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غُفر له ما تقدم من ذنبه) تشويق، وأسلوب جمع بين المادة وبين الأثر، كذلك إذا جئت تعلم اجمع بين المادة العلمية وبين الآثار المترتبة، أما أن تكون مادة علمية بحتة، قال فلان قال علان، هذا صعب، والإنسان ضعيف، لا يحتمل كثيراً من هذا، فأقول: جانب الإيمانيات مهم جداً، مهم للداعية، مهم لطالب العلم، مهم للعامة، العامي الآن إذا ذكرته بالله أحياناً يبكي وتجده يتأثر ويهلل ويكبر من الأثر، يمكن أن يكون هذا المجلس سبباً في صلاح سنة كاملة منه بل سنوات، بسبب ماذا؟ جانب الإيمانيات، وأهم قضية قضية الإيمان، إذا صلح للإنسان معتقده وإيمانه بالله استقام، وسار على منهج ربه وأصاب دار السلام، بماذا؟ بالإيمان. نسأل الله عز وجل أن يكمل إيماننا وإيمانكم، وأن يشرح صدورنا وصدوركم. والله تعالى أعلم.

محاسبة النفس

محاسبة النفس Q أثابك الله يا شيخ ونفع بعلمك، محاسبة النفس لها أهميتها، والصالحون والدعاة هم أمس الناس حاجة إليها، وقد أقسم تبارك وتعالى في كتابه بالنفس اللوامة، ونسمع عن العلماء في وصف محاسبة النفس قولهم: أنه يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، ولكنها لكثير من الناس تظل قضايا نظرية أكثر منها عملية في هذا الزمن المادي المليء بالفتن، فكيف السبيل إلى محاسبة للنفس حقيقية عملية؟ وكيف كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يحاسبون أنفسهم؟ A الله أكبر! الله أكبر! وهذا سؤال يحتاج إلى تدبر وتأمل، ويا ليتنا نبلغ هذا المقام، الله المستعان، الله أكبر! المحاسبة مفاعلة من الحساب، ومعنى ذلك: أن الإنسان يعيش مع نفسه في كل لحظة من لحظاته، إن خيراً حمد الله واهب الخير، وإن شراً استغفر الله عز وجل غافر الشر، فيعيش الإنسان مع نفسه في كل حركة وفي كل سكون، وهذه غاية في مراقبة الله عز وجل، ولذلك ما وفق الله عز وجل العبد لمحاسبة النفس إلا وفقه لطريق السلامة، وإذا أردت أن ترى العبد الناجي من عقوبة الله عز وجل -بإذن الله- فانظر إلى ذلك الرجل الذي لا يفتر لحظة إلا وهو يحاسب نفسه، تسره حسنته فيحمد الله، وتسوءه سيئته فيدمع من خشية الله. والله ما وفق الإنسان لشيءٍ بعد الإيمان مثل محاسبة النفس، وتأديبها بعد الحساب لها، مرحلتان: مرحلة المحاسبة ومرحلة التأديب، لا يحاسب ويسكت، بعض الناس يقول: أنا مقصر، وكذا وكذا، ادع لي ادع لي، ما ينفع!! مقصر وبعيد عن الله، لكن العمل النجاة، محاسبة النفس هي سبيل النجاة، وكما ورد في الآية أن الله تعالى أقسم بالنفس اللوامة: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1 - 2]، هذا إثبات للقسم، ولذلك قيل: إن (لا) زائدة أي: وأقسم بالنفس اللوامة، قال بعض العلماء: أقسم الله بها؛ لكي يدل على عظيم مكانها وجليل منزلتها، فهو الذي يهب هذه النفس. والنفس اللوامة يهيئوها الله عز وجل أولاً بالإيمان، فما تأتي الملامة إلا بالإيمان، إذا قوي اعتقاد الإنسان بالله، وقوي إيمانه بالله، وعرف الله بأسمائه وصفاته هاب الله، فلما هاب الله إذا بنفسه تناديه: ما الذي فعلته؟ من الذي عصيته؟ فتأتي ثمرة الإيمان؛ وهي محاسبة النفس. ومحاسبة النفس تكون بالجليل والحقير، والصغير والكبير، تكون للإنسان وهو خالٍ فريد، فيجلس فيقول: يوم كامل -أربعة وعشرون ساعة- فيم قضيته؟ وما الذي كان عليَّ من نعم الله فيها؟ فيعقد موازنة بين أمرين: بين نعم الله عليه وإحسانه عليه، وإساءته في جنب الله، وفي طرفة عين تأتي الآثار المترتبة، دمعة من خشية الله، أو عبرة في جنب الله، هذا بسبب ماذا؟ بسبب المحاسبة الصادقة، ولذلك ورد في أثر عمر أنه قال مخاطباً الناس: (أيها الناس! زنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتهيئوا للعرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]). ومحاسبة النفس نعمة من الله عز وجل، يحاسب الإنسان نفسه خالياً فريداً على ما ضيع من حقوق الله وحقوق العباد، ويحاسب نفسه وهو بين أهله، ويحاسب نفسه وهو بين أصدقائه، ويحاسب نفسه في كل حركاته وسكناته وهذا أكمل ما تكون عليه المحاسبة، يحاسب نفسه في جوارحه؛ في اللسان، كان بعض السلف يعد الكلمات التي يتكلم فيها من الجمعة إلى الجمعة، كما روى ذلك أبو نعيم في الحلية. أُثر عن ابن دقيق العيد رحمة الله عليه، الإمام الجليل صاحب الإحكام، أنه قضى في قضية، فلما انتهى من القضية اتهمه أحد الخصمين بأنه جار في حكمه، وأنه لم يحسن القضاء، فقال له: أتتهمني؟! والله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل. فكان السلف رحمهم الله يراقبون الله في أقوالهم، يراقبون الله في أسماعهم وأبصارهم وفي قلوبهم، محاسبة النفس تكون في القلوب، فلا يدخل في قلبه غل على مسلم، ويكون قلبه صافياً نقياً يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، يحاسب نفسه في سمعه، ويخشى أنه في يوم من الأيام ينظر الله إليه وقد أصغى إلى حرام، بمجرد إحساسه بالحرام إذا به ينفر عنه، فالحقيقة إذا أراد الله بالعبد خيراً هيأه لمحاسبة نفسه، وشرح صدره لها. وحال السلف رحمة الله عليهم في المحاسبة حال كمال، وأخبارهم في ذلك يطول ذكرها. بلغ بعضهم من العلم مبلغاً عظيماً، فلما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: أتبكي وقد وفقك الله لعلم وخير كثير؟! وقد كان إماماً وعالماً جليلاً من العلماء، قيل له: أتبكي وقد وفقك الله لهذا الخير الكثير؟! قال: والله الذي لا إله غيره إني لأتمنى أن أخرج من هذا العلم كفافاً لا لي ولا عليَّ. إحساس منه بالتفريط في جنب الله عز وجل. وكانت المحاسبة في المال والأهل والولد، وكان الإنسان يحاسب نفسه في كل صغيرة وكبيرة، إذا جاء الأمر من أوامر الشرع امتثلوا وكانوا يخافون أن يقعوا في شيء من محارم الله، يحاسبون أنفسهم على أصغر شيء حتى في جانب الورع، كان الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه يبيع الخز -وكفى له بذلك فضلاً وشرفاً أن يتواضع وأن يأكل من كسب يده، فليس في ذلك منقصة له رحمة الله عليه- فجاءه رجل واستدان منه شيئاً، فأراد أن يأخذ المال من عنده، فذهب إلى الذي عليه الدين في وقت الظهر، وكانت الشمس شديدة، وكان معه أصحابه فقرعوا الباب، فجاء أصحابه تحت المظلة، مظلة بيت المدين هذا الذي عليه الدين، فقالوا: هلم يا إمام إلى الظل، فقال: أخشى أن تكون منفعة لي عليه، فتكون من جنس الربا، فأي محاسبة ومراقبة دقيقة هذه، الآن الإنسان قد يجلس في مكتبه، ويأخذ الأوراق الخاصة والأوراق العامة ويكتب عليها رسائل، ويكتب عليها محاضرات وندوات، وقد يكون من الشباب الطيبين، ولا يحاسب نفسه، وقد ينال من السيئات والأوزار ما الله به عليم؛ فقد يأخذ أشياءً هو مؤتمن عليها، وأشياء تتعلق بها مصالح يفعل بها ما يشاء، هذا من ضعف المحاسبة. المحاسبة: تراقب الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة، وتعلم الحلال فتفعله، والحرام فتتركه. نسأل الله عز وجل أن يحيي قلوبنا وقلوبكم لذلك. والله تعالى أعلم.

الإحساس بعظمة الدين هو نقطة الانطلاقة في التبليغ

الإحساس بعظمة الدين هو نقطة الانطلاقة في التبليغ Q الحقيقة الأسئلة كثيرة، والقضايا التي نريد علاجها كثيرة، الدعوة إلى الله عز وجل ليست محصورة في شكل معين ولا نمط من الأنماط ولا في جهد أو نشاط لا يتغير، ولكن يظل الداعية الناجح بحاجة إلى أن يتقن فن الكلام وفن مخاطبة الناس، وإلقاء الكلمات والمواعظ، فهذا مما لا يقدر عليه كل أحد، ولا نقصد بهذا أن يتصدر طلبة العلم المجالس وأن يتصدروا الإفتاء، وغير هذا مما لا ينبغي لهم أدباً مع العلم وعرفاناً بقدر أنفسهم، ولكن كل واحد منّا يحتاج إلى أن يكلم أهل حيّه أو أن يعظ في مسجده أو أن يبلغ جيرانه، أو أن يحدث من في مجلسه بكلمة فيها خير، أو بما يفتح الله سبحانه وتعالى عليه لعلّ الله عز وجل يهدي بكلمته وينفع، وكذلك في الحقيقة يشتكي بعض الإخوة الذين قد يقرءون في بعض الدروس وبعض الكتب ويرون أنهم يستوعبون الموضوع استيعاباً كاملاً ويفهمونه، ولكنهم إذا ما أرادوا تقديمه وإفادة الناس به وجدوا في ذلك صعوبة كبيرة، فما هو توجيهكم لعلاج هذه القضية؟ A فنّ الكلام ليس فيه مشكلة، يعني: الكلام بسيط وسهل، لكن القضية ترجع إلى الكلام الصادق، الشاب الذي يعلم أن الدعوة إلى الله أمانة ومسئولية، سيقوم والله لو كان أمام الأمة كلها، لكن البلاء جاءنا من ضعف الإيمان، يقول الشاب: أنا لماذا أقف؟ قد أخطئ في النحو أو في الصرف فيضحك عليَّ الناس، أصبحت القضية قضية شخصية، -سبحان الله! - {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] يا إخواننا! الأمر كله في القلب، فإذا أردت أن تهدي الأمة ستقوم، لا تقل: أنا لا أعرف كيف أتكلم وكيف أقوم في طلاب علم أعظهم، هذا نراه، يقوم عامي في المسجد يصيح والمسجد مليء بطلاب العلم، فيه من هو أحق بالكلام منه، لكن سبحان من أحيا قلب هذا العامي حتى يذكر بالله وأمات قلب غيره، القضية ترجع إلى القلب، والأمر محكه في القلب، إن جاء الداعية وجلس في المجلس وقال: والله أمتي بحاجة إلى الدعوة أنا أتكفل لكم بكلمة في المسجد، يذهب إلى البيت يدرس الموضوع يأتيه الشيطان من كل حدب وصوب جارك فلان يعرفك عندما كنت ضالاً، وجارك الثاني يضحك منك، وجارك فلان كثير الكلام في المجالس، أراك إذا قمت تتكلم سيضحك منك فلان وعلان، حتى يقتل الإيمان الذي في قلبك، ولا يزال يقل منسوب الإيمان عندك حتى يصل إلى الحضيض، فإذا وصل إلى الحضيض أسلمه الشيطان إلى الخلاصة، وهي: لا تتكلم، فيقول: سمعاً وطاعة لا أتكلم، فيأتي في المجلس يقولون له: قم تكلم، يقول: والله أنا لست بأهل، فيجعلها قضية ورع، لا، القضية قضية أن الإنسان يبذل ما عنده، يا أخي! قم وقل لهم: يا إخوة احرصوا على الصلاة، احرصوا على الزكاة، احرصوا على الخير، لا تسهروا في معصية الله يعني أمور واضحة لا تحتاج المسألة إلى كثير علم، قم فلعل الكلمة هذه تلامس قلباً يحييه الله عز وجل إلى لقائه. فأنا أقول: محك القضية ليس في الكلام، محك القضية في محور الكلام، ما الذي يحرك اللسان؟ القلب. إن كنت تريد أن تقوم لله وفي الله، والله سوف تقوم، وستتكلم بكل ورع وصدق، وإن كانت القضية أن الإنسان يريد أن يقول: أنا طالب علم الآن، قد أصير أضحوكة إذا تكلمت، دعني قليلاً حتى أتعلم وأحسن العبارات الطيبة، ويشهدون بأني عالم وأني أحسن الكلام، انتبه فهذا هو الرياء بعينه -نسأل الله السلامة والعافية- يقول عليه الصلاة والسلام: (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به). أمور الدين يجب أن تكون لله وفي الله، تأمل أنك عندما تقول: لا إله إلا الله، كم أذن ستسمعك من الجن والإنس؟ حتى لو سمعتك أذن واحدة، أي خير سيكون لك. مرة من المرات شاء الله أني جلست مع والدي رحمة الله عليه في الحرم، أريد أن أقرأ عليه، وشاء الله بعد صلاة الفجر أن خرج كثير من الناس لا أدري لماذا، بقيت أنا والوالد في الحرم النبوي، أنا أقرأ والوالد يفسر، والله ما قطع درسه ولا امتنع من الدرس، فقلت: لا يوجد أحد!! فقال لي: اقرأ فقط، سواءً كان هناك أناس أم لا. فالإنسان الذي يعامل الله ما عليه، حتى لو كانت أذن واحدة تصغي له، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب ولما جاءت العير انصرف الناس إلى التجارة، وتركوه قائماً صلوات الله وسلامه عليه، فما قطع خطبته، ولا قال: أين الناس؟ لأن الخطبة ليست للناس، وإنما هي لرب الناس. فأنا أقول: إذا كان الشخص يريد أن يقف في مسجد حيه، أو مع إخوانه، أو في مجلس يذكر بالله عز وجل، إن كان لله فسيتكلم، والله أشهد لله ما تقوم لله في مجلس وتنصح لله إلا وفقك الله في مجلس بعده إذا أخلصت، وما توفق في محاضرة في جلسة إلا وفقك الله لخير منها إذا صدقت، فلذلك يحتسب طالب العلم. أنا أقول: إذا كانت القضية قضية كلام، الكلام سهل، لكن المهم والمحور والأساس القلب، وأنا أقول: كل شخص يحس بقيمة هذا الدين الذي هو الأساس والمنطلق، إذا أحسست بقيمة هذا الدين بإذن الله ستنطلق. وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم للقول السديد والعمل الصالح الرشيد، إنه على كل شيءٍ شهيد.

العلماء هم المؤهلون لفهم نصوص الشرع

العلماء هم المؤهلون لفهم نصوص الشرع Q فضيلة الشيخ حفظه الله، إنك تقول قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وقد ورد عنه كذا، فما الداعي بعد ذلك أن تقول قال مالك أو غيره؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن هذا السؤال فيه إساءة أدب مع أهل العلم رحمهم الله، ينبغي للإنسان أن يعرف قدرهم، وأن يعرف للعالم حقه، ولا خير في إنسان لا يعرف لأهل العلم حقهم وقدرهم، قال الله عز وجل في كتابه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، يا هذا! قد قال الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس كل إنسان متأهل لفهم كلام الله، نقول: قال الله ثم نتبعه بمن هو أهل للفهم، حتى نبين مراد الله عز وجل كما بين الله، ولذلك قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ما قال كلهم؛ فلذلك لو كانت النصوص يستوي الجاهل والعالم، ويستوي فيها الناس في فهمها، وليس هناك داعٍ للإمام فلان وعلان، فحينئذٍ ما الحاجة إلى وجود العلماء، ولماذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ حبر الأمة وترجمان القرآن: (في كتاب الله عز وجل ما لا يعذر أحد بجهله، وفي كتاب الله ما لا يعرفه إلا العرب بلسانهم، وفي كتاب الله ما لا يعلمه إلا العلماء). فقسَّم علم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما لا يعذر أحد بجهله: فالذي لا يعذر أحد بجهله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هل يحتاج أحد في فهم هذه الآية؟ الآية واضحة في الدلالة على وحدانية الله، لا يعذر أحد بجهلها ألبتة، فدلالتها على الوحدانية يستوي في فهمها العالم والعامي، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، هذه يستوي في فهمها الجاهل والعالم، هذا ما لا يفضل فيه أحد على أحد. القسم الثاني: ما لا يعرفه إلا العلماء، كمعرفة تقييد مطلق القرآن، وتخصيص عمومه، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، وهذا هو الأداة التي يفسَّر بها كلام الله، ولذلك لما قام الرجل ينصح الناس في المسجد ناداه علي رضي الله عنه فقال: (أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: ويحك! هلكت وأهلكت)؛ لأنه ربما يستدل بآية منسوخة، إذا كان لا يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه فربما يهلك بالاستدلال بنصٍ قد رفع حكمه وبقيت تلاوته، فلذلك بيّن أن في القرآن ما لا يعلمه إلا العلماء، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]، ما المراد بالذي بيده عقدة النكاح؛ هل هو الزوج، أو ولي المرأة؟ ما لا يعرفه إلا أهل اللسان، ولذلك كان العالم الفحل على سعة علمه وتضلعه في فهم الكتاب تمر عليه الآية مشكلة في اللغة لا يجد حلها إلا عند أهل اللسان، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما كنت أعلم قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] حتى اختصم عندي رجلان من كندة؛ قال أحدهما في بئر: هي بئري أنا فطرتها، فعلمت أن معنى (فاطر): موجدها وخالقها. وكذلك في القرآن ألفاظ نزلت بلغة العرب تحتاج إلى معرفة دلالتها وتحتمل معانٍ، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] عسعس: يطلق على أول الليل ويطلق على آخر الليل، على إقبال الليل وإدبار النهار، وإقبال النهار وإدبار الليل، فما هو المراد؟ المقصود: أننا نرجع إلى العلماء لعلمنا بمنزلة العلماء، وهم ورثة الأنبياء، ولا طريق لنا بالفهم إلا طريقهم، فهم الذين أخذوا عن العلماء حتى اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خير في إنسانٍ أياً كان ينتقص من قيمة العلماء، فمن انتقص من قيمة العلماء فقال: لا حاجة إلى قول فلان أو علان، فهذا قد ضل السبيل، ولم يعرف لأهل العلم فضلهم، ولا يعرف الفضل إلا صاحب الفضل. نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الأدب مع العلماء، وحفظ حقوق العلماء الأحياء منهم والأموات، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم. هنا أنبه على أسلوب السؤال يا إخوان! من الأدب أن الإنسان إذا أراد أن يسأل أن يحفظ أسلوب السؤال، بدل أن يقول: ما الداعي إلى كذا وكذا، يقول: أشكل عليَّ قولك كذا وكذا، فيكون متأدباً في السؤال، وهذا أمر ينبغي أن يراعى ليس عندي فحسب، بل مع كل إنسان يسأله، كما قال العلماء: إنه ينبغي على من جلس في مجالس العلم أن يحفظ ويعلم آداب المجلس؛ لأنه لربما تحصل منه الفلتة فيخشى عليه، قال بعض العلماء: أخشى على من أساء الأدب في مجلس العلم أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قالوا: كيف ذاك؟ قالوا: لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، وحبوط العمل في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل النبوة، ومن الذي ورث النبوة وحفظها غير العلماء؟! فلذلك ينبغي التأدب في السؤال، فالشخص بدلاً من أن يباشر بالنقد، أولاً ينبغي أن يكون أهلاً للنقد، فرق بين أسلوب النقد وأسلوب الاستشكال، إذا كان مثل هذا جاهل لا يفهم ولا يعرف حق العلماء يقول: أشكل عليَّ كذا وكذا، لا يقول: ما الداعي إلى كذا وكذا، يجمع بين السوءتين، حشفاً وسوء كيلة؛ سؤال عما لا خير فيه واحتقار للعلماء، وأسلوب لا ينبغي أن يلتزمه من جلس في مجالس العلماء. إني أذكر رجالاً من أهل العلم والفضل على دراية وبصيرة بنقد العلماء، كنت أجلس معهم في مجالس بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فيجلس مع العالم، فينسى العالم دليلاً، أو ينسى حجة، أو يلتبس عليه دليل، فيقول: يا شيخ -يريد أن يذكر العالم بالدليل- يقول: يا شيخ هناك حديث أشكل عليَّ في المسألة؛ لأنه يحتمل أن الشيخ نسي الحديث، فلما يقول له هناك حديث، سرعان ما يتذكر الشيخ ويقول: نعم جزاك الله خيراً تذكرت، ولا يستطيع أن يباشره ويقول له حديث كذا وكذا. إلى الله المشتكى، أين حالنا الآن؟ الآن بعض أهل العلم والفضل قد يقول الحديث قبل أن يقول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه ربما يسبقه طالب علم ويذكر الحديث، وهذه والله يا إخوان رزية، والله إن الأدب نعمة من الله، وجمال طالب العلم الأدب، وإذا رأيت طالب العلم قد التزم الأدب -سبحان الله العظيم! - رأيت الوقار والهيئة، فلا تدري من أي شيء تعجب منه، من حسن طلبه للعلم، أم من جماله في أدب العلم؟! نسأل الله أن يجملنا وإياكم بذلك، فينبغي أن يفرق بين النقد وبين الأدب، النقد فتنة، وأضرب لكم مثالاً: لو أن شخصاً قام أمام الناس وانتقد في سؤاله، ما الذي يحصل؟ يحصل له الاحتقار والنقص من هيبته، ولكن إذا تأدب في سؤاله حصل له الإجلال والاحترام. فالله الله في مجالس العلماء ومجالس العلم، ينبغي أن نفرق بين أسلوب النقد وأسلوب السؤال والاستشكال. والله تعالى أعلم.

وقفة مع من وضع نفسه في زمرة العلماء

وقفة مع من وضع نفسه في زمرة العلماء Q جزاك الله خيراً، والشيء بالشيء يذكر، فبمناسبة حديث فضيلتكم على هذا الموضوع، عُرِض هنا سؤال يقول صاحبه: فضيلة الشيخ محمد سلمه الله، ظهرت ظاهرة في بعض طلبة العلم وهم قلة والحمد لله، يقول: تجده يرفع من قدر نفسه ويضعها في طبقة العلماء وفي منزلتهم، فتجده يقول: أرى أنا كذا، وانقلوا عني كذا، وإذا كتب يكتب ويقول: قال مقيد حروفه كذا، ويقول نجد البعض من هذا الصنف -يشكك في العلماء- فهذا فيه كذا، وهذا ينتمي إلى كذا من غير حجة من كتاب ولا سنة، ثم نجدهم يتركون الجلوس إلى العلماء والتعلم منهم، ويجلسون إلى أحدهم ومن زمرتهم يأخذون منه العلم، فما هو توجيهكم ونصيحتكم -أثابكم الله- لهؤلاء؟ وما هي نصيحتكم لغيرهم من طلبة العلم؟ A أولاً: إذا كان المراد من هذا السؤال طائفة معينة أو أمة معينة، فأقول للسائل: اتق الله عز وجل، وينبغي أن لا تستغل مجالس العلماء لأي طرف من الأطراف، هذا أول شيء، لأن المراد الحق، والمراد النصيحة لله، الخالصة لوجه الله، هذا أول شيء، وكلنا ناقصون وعندنا أخطاء وكلنا عندنا تقصير، ولكن نسأل الله أن يكمل نقصنا ونقصكم. ثانياً: سوء الأدب وعدم احترام العلماء، وعدم تقدير العلماء، هذا لا شك أعظم سبب فيه: عدم الإخلاص في طلب العلم، والله لو أخلص طالب العلم لبارك الله له في علمه، ولنفعه الله ونفع به. ثالثاً: الاجتماع والقراءة والعلم ينبغي أن لا تكون إلا بين يدي أهل لذلك، والله لن تخطو خطوة إلى إنسان تعلم أنه جاهل تريد أن تكثر سواده إلا لقيت الله بوزره؛ لأنك أنت السبب، فقد غررته بنفسه. فلذلك يا إخوان! أوصيكم بأن نتق الله في العلم، وأن لا نكثر سواد كل من هب ودب، ينبغي أن نفرق بين العلماء وبين المتعلمين الذين يريدون أن يتسلقوا إلى أمر ليسوا هم له بأهل، هذا أمر مهم جداً، ولذلك قال العلماء: لو أن شخصاً جلس مع جاهل فسأله وهو يعلم أنه غير أهل، سأله مجاملة، سأله لأجل عاطفة، بينه وبينه محبة، فأفتى بغير علم كان شريكه في الإثم والعياذ بالله، الدين ليس فيه مجاملة، الدين قيم، حجة واضحة ناصعة تؤخذ من أهلها. رابعاً: قول القائل: الذي أراه، أو الذي يترجح في نظري، أو نحن نقول كذا وكذا، أو ينقل عني كذا وكذا، أقول: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، كلنا ناقصون، ووالله ثم والله لولا خوف الإثم ما جلست في هذا المجلس؛ لأن المقام أمام الناس أولاً يستلزم منك أن تكون أميناً، لا تغش الناس من نفسك، تدعي أنك بعالم وأنت ما أنت عالم، حرام عليك، هذه خيانة للمسلمين، وأذية لعباد الله المؤمنين، فكيف إذا كان معها انتقاص للعلماء، كقول البعض: فلان لا تجلس معه، وهنا أنبه على مسألة؛ نحن كنا قبل الصلاة، نتكلم على القذف، فيا إخوان! كنت أعجب إذا كان الشخص يقول للشخص: يا زانٍ والعياذ بالله أو يقول للمرأة: يا زانية، فإنه يُلعن في الدنيا والآخرة، وموعود بعذاب عظيم، كيف إذا طعن في عقيدته؟! تصوروا يا إخوان! كيف إذا قيل: فلان فيه نظر، عقيدته فيها كذا، وفلان ضال، وفلان صوفي، وفلان مبتدع، يا أخي! قل: فلان صوفي أو قل مبتدع لكن عن بينة، نحن لا نريد عدم الكلام، ما نريده التبين، أما الطعن في الناس وتفسير كلام الناس وتحميله ما لا يحتمل هذا وزر وبهتان، أنا لا أمنعك أن تقول: فلان صوفي أو مبتدع لكن بدليل، أما تأتي إلى كلامه وتفسر كلامه على حسب فهمك، وتحمل الكلام ما لا يحتمل، وتتبع عورة إنسان من المسلمين، فضلاً عن إنسان من علماء الدين، ويحك هلكت وأهلكت نفسك وأقمتها في مقام أنت في غنى عنه. ثم أخي في الله! إذا كان الشخص انتقد داعية أو عالماً -لو كان هدفنا الحق- لماذا لا يأخذ كلام العالم ويذهب به إلى من هو أعلم منه، ويقول: أنا أشكل علي هذا الكلام، أو يذهب به إلى صاحب الكلام، ويقول له: أشكل علي هذا الكلام، ما مرادك به؟ شيخ الإسلام رحمة الله عليه قارع أهل البدع وأهل الأهواء، وسبحان الله العظيم! يأتي إلى كلامهم ويقول: قال منهم فلان كذا وكذا، فإن كان مراده -انظروا إلى الإنصاف، انظروا إلى الأمانة، انظروا إلى العلم، انظروا إلى التجرد لله، إنسان يريد النصيحة- فإن كان مراده كذا وكذا فهو حق، قال الله قال رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان مراده كذا وكذا فهو باطل، قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. هذا العلم، النقيصة والثلب لا تجوز إلا عند الحاجة، والتنفير من المحاضرات، والتنفير من الندوات، والتنفير من مجالس العلماء، هذا شأن أهل البدع، وشأن أهل الأهواء والضلالات. يا أخي في الله! إذا جاءك إنسان وقال لك: لا تجلس مع فلان -وهو من أهل العلم- انظر ما الذي تستفيده من هذا الرجل وما الذي تأخذه، سبحان الله! شخص يأخذ بحجزك عن النار ويقودك إلى رحمة الحليم الغفار، ويأتيك إنسان حثالة يريد أن يجرك عن داعية إلى الله، أو مذكر بالله عز وجل وينفرك عن مجالس العلماء، لا حول ولا قوة إلا بالله! نسأل الله السلامة والعافية. إذا كان لك مأخذ على عالم، قل: فلان قال كذا وكذا، وهذا هو مأخذي عليه، كن دقيقاً ورعاً، كن إنساناً يراقب الله عز وجل، هذا الذي أوصي به. فوالله ثم والله ما من إنسان يتكلم بحق أو باطل إلا سيقف بين يدي الله بذلك الحق أو الباطل، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، الشائعات ما تكفي، الدعايات التي تقع بين الناس ما تكفي، والله نعرف أناساً من أهل العلم والفضل والدعوة إلى الله من خيرة الأخيار اتهموا بأشياء نعلم يقيناً أنهم منها برآء، وأنهم أنصح للأمة ممن اتهم، وأنهم أصدق في عبودية الله عز وجل، ولكن هناك أناس أتباع كل زاعق وناعق. فالله الله أن تلقى الله عز وجل بوزر ولي من أولياء الله، خاصة عالماً أو داعية إلى الله عز وجل، وأنا لا أقصد شخصاً بعينه، هذا كلام للعامة وللجميع؛ لأن هدفنا أن يتقي الله عز وجل بعضنا مع بعض. كل الذي نريده أن تأتلف القلوب وتجتمع، كل الذي نريده أن يكون المسلم مع أخيه يشد من أزره، ويعينه على طاعة الله، ويكمل نقصه بالنصيحة الطيبة وبالموعظة الحسنة، والله أعرف طلاب علم طالما تكلموا في علماء، وطالما تكلموا في أهل الفضل، أذكر بعضهم جلست معه، كلمات يسيرة -وأعرف كثيراً منهم عندهم حسن نية ولا نزكيهم على الله- ما إن ذُكر بالله عز وجل حتى ذهب في اليوم الثاني يعتذر إليهم واحداً واحداً. أذكر ذات مرة وفي عهد قريب شاباً جاء وتكلم كلمة قال: يقولون في العالم الفلاني كذا، قلت له: يا أخي! اتق الله اغتبت أولاً، ونقلت فرية، أنا أعرف هذا العالم أنه بريء من هذا الشيء، والله يا إخوان! دمعت عينه، ما استطاع من الخير الذي فيه أن يرد عليَّ، قال: ماذا أصنع؟ قلت: يا أخي! الآن تتصل عليه وتعتذر منه. نحن هذا الذي نريد، نريد شباباً دعاة ومشايخ، إذا جاءك طالب العلم يريد أن ينتقص أحداً من أهل العلم فذكره بالله، أذكر والدي رحمة الله عليه فقد كان لا يستطيع أحد أن ينتقص أحداً في مجلسه ولو كان من عامة الناس، والويل له لو انتقصه، فكيف بطلاب العلم؟!! ينبغي أن نكون على هذا السمت، وهذا فيه الخير كله. يا إخوان! الدلالة على العورات وفتح باب الإشاعات والسيئات وتتبع العورات لا خير فيه، ولذلك أنا أوصيك بوصية: جرب يوماً من الأيام تتبع عثرات أحد من الناس، وانظر إلى صلاتك في ذلك اليوم، وانظر إلى عبادتك لربك، الحق واضح ليس فيه لبس. أذكر رجلاً جاءني في خضم فتن فيها قال وقيل، قلت له: يا أخي! أسألك بالله قبل أن أجيبك، بالله عليك، كيف تقول بالأمس جلست في مجلس كذا وكان فيه كذا؟ قال: نعم، قلت: متى كان المجلس؟ قال: بعد الظهر، قلت: صليت العصر؟ قال: نعم، والمغرب والعشاء والفجر، قلت: بالله عليك، كيف كانت صلاتك؟ قال: والله ما خشعت فيها، من ألم ما سمعت، معنى ذلك ماذا؟ أن هذه فتن، والله هذا يقع؛ لأن المؤمن لا يرضى أن أحداً يتكلم في أخيه فضلاً عن عالم أو داعية لله عز وجل. فالله الله يا إخوان! والله كثرت النصيحة، وكلنا سنلقى الله جميعاً؛ من رغب في الكلام ومن نهى عنه، وإني والله لكم من الناصحين، وأول من أنصح نفسي اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في إخوانكم، واتقوا الله في العلماء. ولذلك كان سفيان الثوري يقول: (إياكم إذا سمعتم بالزلة والخطيئة أن تشيعوها، فإن إشاعتها ثلمة في الإسلام). فأنت عندما تشيع بين الناس وتقول: وقع زنا، أو وقع خمر، أو وقع كذا وكذا، فهذه ثلمة، ويقول معاذ: (إنكم تسمعون عن العالم الفلتة فلا تعجلوا عليه عله أن يراجع نفسه فيرجع عنها). ولذلك الذي ضرنا الآن: أنه بمجرد ما يخطئ إنسان خطيئة واحدة تبلغ الآفاق، وإذا بلغت الآفاق وضعنا كل الحواجز لرجعة هذا الإنسان عن زلته. فلذلك الله الله يا إخوان! إذا كنا نريد الحق، فسبيل الحق واضح، فما الذي يعنيني من الكلام في زيد وعمرو، الله عز وجل يقول: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33]، إلا في حالة. والخطأ، قل: الخطأ الفلاني لا نريده، أما زيد وعمرو وكثرة القيل والقال، أنا أنصح الجميع، ولا أريد شخصاً بعينه ولا جماعة بعينها ولا طائفة بعينها، الكلام للجميع؛ لأنه كلام الله وكلام رسوله، أنصح كل طالب علم أن يتقي الله، وليتق الله كل إنسان من عامة المسلمين فضلاً عن طلاب العلم، ونسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجيرنا وإياكم من ذلك. أذكر قصة أختم بها هذه النصيحة: رجل أعرفه من أهل العلم والفضل يقول: جلست مع أحد العلماء، فذكر لي أن شخصاً في مجلسه نال من قاضٍ من القضاة واتهمه بالرشوة في القضاء، فلما انتهى قال له ذلك العالم الموفق: والله إني لأعلم الشيخ الذي تكلمت فيه، وأنه أبرأ مما تقول إن شاء الله، ولكن لا آمن والله عليك سوء الخاتمة، فيقسم لي بالله العظيم، يقول هذا الرجل: والله رأيته بعيني في سوء خاتمته -نسأل الله السلامة- كانت من أسوأ ما تكون. فالله الله لينتبه الإنسان، فلا تحسب أن الأمور ذاهبة هكذا هدراً، فلذلك يا إخوان! أوصيكم ونفسي بتق

وصايا للصائمين والقائمين

وصايا للصائمين والقائمين من أظله الشهر الكريم فقد أظلته نعمة أوجبت عليه الشكر، والناس في رمضان بين قائم وصائم ومعتكف، ولكن وصية للصائم: أن عليه بالإخلاص وضبط النفس عند الغضب، والاستفادة من الصيام في أخذ العبر، وللقائم: أن عليه حسن النية وحضور القلب عند سماع القرآن الكريم، والصبر على القيام والإمام، أما المعتكف فعليه أن يزين المسجد بالعبادة والصلاة وقراءة القرآن، وينقطع عن العباد إلى مناجاة رب العباد.

وصايا للصائمين

وصايا للصائمين الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام، وندبهم إلى التعبد له بالسجود والركوع والقيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تبارك اسمه ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الهادي والداعي بإذن ربه إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه واستقام. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: أيها الإخوة: حديثنا في هذه الليلة المباركة عن شهر رمضان، وما أدراك ما شهر رمضان! شهر البر والإحسان! شهرٌ أوله رحمة وإحسان، وأوسطه عفو من الله وغفران، وآخره فكاك وعتق من الجحيم والنيران، شهرٌ تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لقاءه، إذ قال في دعائه صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)، فقبل لقائه هو في حنين إلى لقائه، كيف وهو شهر الجهاد والصبر! شهر الطاعة والشكر! شهر الإنابة والذكر! لذلك فإن المؤمن ما ودَّعه إلا وقلبه يحترق ألماً لفراقه ووداعه، وما انصرف شهر رمضان عن عبد صالح أعطاه حقه وقدره إلا ترك انصرافه في نفسه شجناً وحنيناً وحزناً لا يعلمه إلا الله. كم دخله بعيد من الله فقربه إليه! كم دخله مسيءٌ فتاب الله عليه فيه! كم دخله محروم فأعطاه الله! شهرٌ وأي شهر! لذلك إخواني فإن المؤمنين في شوق وحنين إلى لقائه، كان الأخيار من سلف هذه الأمة الصالحة البرة المباركة يتمنون لقاء شهر رمضان، ويدعون الله تبارك وتعالى وصوله وبلوغه. ولي في هذا الشهر ثلاث وصايا، الوصية الأولى: للصائمين، الوصية الثانية: للقائمين، والوصية الثالثة: للمعتكفين.

تذكر نعمة الله عليك بحضور شهر رمضان

تذكر نعمة الله عليك بحضور شهر رمضان أما الصائمون، فوصية من الأعماق، تتحقق بها هذه العبادة الشريفة المباركة التي جعلها الله عز وجل ركناً من أركان الإسلام، إذا قدم عليك شهر رمضان فوضعت أول قدمٍ على أعتابه، فإنه حريٌ بك أن تتذكر نعمة من الله تبارك وتعالى أسداها، ومنةً إليك أولاها، هذه النعمة أن كتب لك الحياة إلى بلوغ شهر رمضان، فكم من قلوب حنّت واشتاقت للقاء رمضان انقطع بها القدر، وانقطع لها الأثر، فهي اليوم في الأعماق، وتحت التراب والثرى، كانت تتمنى لقاءه، فإذا وضعت -رحمك الله- القدم على أعتاب شهر رمضان فالهج بالثناء على الله تبارك وتعالى، وقل بلسان الحال والمقال: اللهم لك الحمد أن بلغتني شهر رمضان لا أحصي ثناءً عليك جلَّ شأنك، حتى إذا تمكنت هذه النعمة من قلبك فعرفتها واعترفت لربها بها، عندها تأذَّن الله لك بالمزيد، فكانت بداية الشكر بداية لأن تصاب برحمة الله، فما شكر عبدٌ نعمة إلا بارك الله له فيها، ويتحرك قلب المؤمن بالشكر الصادق، فيخرج من لسانه الشكر بقلب موقن لمعناه، إذا تذكر الأمة المحرومة التي حال بينها وبين الصيام الألم، يتذكر إخواناً له على الأسرِّة البيضاء منعتهم الأسقام والعلل، وحالت بينهم وبين الصيام والقيام، فإذا رأيت العافية ونظرت إلى جسدك وأنت ترفل بنعمة الصحة الغالية فعندها تذكر منة الله تبارك وتعالى عليك، واحمد الله تبارك وتعالى على الوصول والبلوغ، واسأله أن يعينك على الطاعة والإنابة إليه سبحانه وتعالى.

عقد النية على صلاح القلب

عقد النية على صلاح القلب أما الأمر الثاني لك أيها الصائم وأنت في بداية شهر رمضان: عقد النية على صلاح القول والعمل. فما عزم عبدٌ على طاعة من الطاعات ونوى في قلبه أن يؤديها فحال بينه وبينها حائل إلا بلغه الله أجرها، فليكن من بداية الشهر نية بينك وبين الله على المسير إلى الله تبارك وتعالى، والتقرب إليه جل شأنه بطاعته وذكره وشكره وإعطاء الصيام والقيام حقه، فهذا أمرٌ ينبغي على الصائم -وهو في بداية صيامه- أن يستلهمه ويتذكره، فكم من أقوام طرقوا أبواب رمضان ثم اخترمتهم المنايا قبل بلوغ آخره، فأدركهم آخره ولم يدركوه، تمنوه ولم يبلغوه، ولم يبلغوا ما تمنوه، لذلك كتبت لهم الحسنات التي كانوا يطمعون في أدائها من رب البريات.

اجتناب الرفث والجهل والصخب

اجتناب الرفث والجهل والصخب أما الأمر الثالث الذي ينبغي على الصائم أن يستلهمه: فوصية نبوية تذكر بحق هذه العبادة الجليلة تذكر القلوب الصادقة المؤمنة التي تعرف العبادة الخالصة لوجه الله عز وجل، وصية نبوية تعرفنا بحقيقة هذه العبادة الجليلة، وتذكرنا بما ينبغي أن يكون عليه الصائم في صيامه: يقول عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم! إني صائم! إني صائم!). يذكرنا عليه الصلاة والسلام بأن الصيام لا يقف عند الإمساك عن الشراب والطعام فحسب، بل هناك صيام بالإحجام عن الكلام الذي لا يرضي الملك العلام، فإذا جاءت بواعث الشرور وحرّكها أهلها في موقف من المواقف، وأنت قد جعت لوجه الله وظمئت لوجهه في يوم صيامك، فحرّك تلك الأشجان من نفسك غضب تريد أن تنتقم به بكلامٍ لا يرضي الله تذكر وذكَّر النفس بما أنت فيه من هذه العبادة الجليلة، وقل: إني صائم! إني صائم، فالصائم ليس خليقاً به أن يرتكب لغط الكلام أو رفثه الذي لا يرضي الله عز وجل. قال بعض العلماء: ليقل إني صائم بصوت يسمعه من يخاطبه، وقيل: فليقل إني صائم في قرارة قلبه؛ حتى يكبح جماح نفسه عن أن تقول الخنا أو تسترسل مع أهل الشرور والغي والهوى، فليذكر العبد نفسه بالصيام إذا انبعثت أسباب الشرور.

استلهام العبر من الشهر الكريم

استلهام العبر من الشهر الكريم أما الأمر الرابع للصائم الذي وفقَّه الله لبلوغ شهر رمضان، فهي: استلهام العبر من هذا الشهر المبارك. فكم في شهر رمضان من مواقف تذكر قلوب المؤمنين! وتنبهها من الغفلة وتقودها إلى رب العالمين! أول ما يتذكره الإنسان إذا جاعت أحشاؤه وظمئت أمعاؤه، هو تذكر ذلك اليوم الذي يشتد حره، ويعظم ظمؤه! وهو في يوم يسير يجد الجهد من دقائق وساعات يسيرة، بعدها يصيب البغية وما لذ من الشراب والطعام، ولكن من الذي له ساق إذا وقف في المحشر! ومن الذي يكف عنه الظمأ إذا اصطفت قدمه بين يدي الله تبارك وتعالى! فما ظمئ مؤمن صائم إلا تذكَّر بالظمأ ظمأ يوم القيامة، وتذكر الظمأ الذي لو شاء الله أن لا يطعم شراباً بعده ما طعم، لذلك ففي يوم الصيام تذكير بيوم القيام. وأما العبرة الثانية للصائمين: فإن الجوع والظمأ يعود العبد على الصبر والجهاد والكفاح في طاعة رب العباد، يهيئ هذه النفس على الصبر والمصابرة والمثابرة والمرابطة في محبة الله تبارك وتعالى. العبرة الثالثة: الصيام طريق للإخلاص، يغذِّي القلوب بالإخلاص لله تبارك وتعالى، أليس الصائم قادراً -بإذن ربه- أن يصيب ما شاء من طعامه وشرابه؟ ولكن يعلم أن الله يسمعه ويراه، وأنه مطّلع عليه، فعندها تتحرك في النفس بواعث الإخلاص، ولذلك قال بعض العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يقول الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأن أجزي به) فإن أصدق عبادة وأخلصها هي عبادة الصيام، فقوله تعالى: (فإنه لي) أي: إنه يقع خالصاً له سبحانه وتعالى. العبرة الرابعة التي يجنيها عبد الله المؤمن في يوم صيامه: أن يتذكر بذلك الصيام إخواناً له في الدين والإسلام، يتذكر أحشاءً ظامئة، ويتذكر الضعفة والمساكين والبائسين والمحرومين، يذكره الصيام بمن لا يستطيع الشراب والطعام، فيبعث في النفس بواعث الخير، ويحرك فيها المسير في طريق الجود والسخاء والمنح والعطاء علَّه أن يفوز برحمة الله ورضوانه، فعندها لا يتمالك الصائم إذا سمع عن أخٍ له في الإسلام أنه أصابه الجوع والظمأ حتى تتحرك نفسه لكي يغيثه بإذن الله من جوعه وظمئه، فكم من ساق -سقى لوجه الله- سقاه الله يوم الظمأ شربة لا يظمأ بعدها أبداً! وكم من صائم تذكَّر الجائع فأطعمه لوجه الله فوقاه الله شر يوم القيامة! {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:9 - 11] فالصيام يحرّك الأخيار الكرام إلى الجود والسخاء إلى التضحية والفداء إلى بذل الأكف في طاعة الله ومحبته، فتسخو اليد لكي تفوز برضوان الله تبارك وتعالى.

وصايا للقائمين

وصايا للقائمين أما الوصية الثانية فإلى القائمين في شهر رمضان، وصايا يضعها كل قائم يرجو رحمة الله في قيامه:

التأثر والبكاء أو التباكي عند سماع القرآن

التأثر والبكاء أو التباكي عند سماع القرآن ومن الوصايا للقائمين: التأثر والبكاء ومحاولة البكاء أو التباكي لآيات القرآن، وليكن ذلك بإخلاص، فكم من أقوام دمعت عيونهم، وكان ذلك الدمع لا يراد به وجه الله، ولا يقصد به مرضاة الله فخابوا وخسروا، فليكن الإنسان مجاهداً في بكائه أن يخلص لوجه ربه، أن يدمع لوجه الله، فكم من عين دمعت غُسل بدمعها ذنوب رؤيت! وكم من عين سحّت بالبكاء من خشية الله حرّم الله على صاحبها النار! فهذه مواقف يسيرة ولكنها عند الله جليلة، فليجاهد العبد في قيامه.

إياك والملل في طاعة الله تبارك وتعالى

إياك والملل في طاعة الله تبارك وتعالى الأمر الثالث لك أيها القائم: إياك والضجر! إياك والسآمة! إياك والملل في طاعة الله تبارك وتعالى! إذا انتصبت لك القدمان واستحضرت الجنان في طاعة الملك الديان عندها لا تبالي أطال الوقت أم قصر، فكم من أناس يشكون طولاً من الأئمة ويضجرون لآيات يسيرة تتلى عليهم ويملون! وقد يغتابون والعياذ بالله، فيبوء العبد بالإثم والوزر والإصر، كم يطول قيامنا في شهوات من حياتنا ما شكونا ولا مللنا، ألما قام العبد بين يدي ربه ألما قام العبد بين يدي سيده ألما تشرف بالوقوف بين يدي الله يشكو الضجر والملل والسآمة من الوقوف بين يدي الله! من نحن الفقراء؟! من نحن الأذلاء حتى نقف بين يدي الله؟! من نحن؟! لولا أن الله تفضل علينا وتكرم فأذن لنا أن نقف بين يديه نناديه نناجيه نقرأ آياته نتفكر في عظاته ومع هذا كله نعرض عنه ونتأثر ونضجر، سبحان الله! كم من إمام أطال القيام فقرب خطواتك إلى الجنان! كم من إمام نفرت عنه لطول قراءته وعظيم الآيات التي يتلوها في قيامه يقربك إلى الجنة شعرت أو لم تشعر! وكم من إمام بحثت عنه ولهثت وراءه لقصر قيامه قد باعد بينك وبين المسير إلى الجنان! فالله الله أن تحرم النفس هذا الخير وأن تكون على نفسك بخيلاً! فمن دلائل الحرمان والعياذ بالله الضجر لآيات القرآن! كان الصحابة رضي الله عنهم إذا قام الواحد منهم في صلاته أطال قيامه، وغفل حتى عن أشياء من حوائجه التي هو بحاجة إلى قضائها، إذا دخل الصلاة نسي الدنيا وما فيها، وأقبل على الله تبارك وتعالى، فطابت الأيام والليالي لما قويت الصلاة والصلة بالله عز وجل، والعكس بالعكس! فإن الله لا يعبأ بمن لا يبالي به جلَّ شأنه، ومن لم يعظم ما عظم الله ولم يجلَّ شعائر الله فالله لا يبالي به، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وأعظم شعيرة في الإسلام هي الصلاة وهي الصلة بين العبد وربه، فالله أن تضجر أو تملَّ من طاعة الله تبارك وتعالى.

التفكر في آيات القرآن

التفكر في آيات القرآن أما الأمر الثاني إليك يا قائم رمضان: أن تتفكر في آيات القرآن وأن تتأثر بهذه العظات البالغات تذكر من الذي يناديك! تذكر من هذا كلامه! تذكر هذه النداءات وما انطوت عليه من الخيرات لك في الدين والدنيا والآخرة! واستجمع الفؤاد وعش مع هذه الآيات في عظاتها! عش مع أهل الجنة في نعيمهم وسرورهم حتى تتحرك النفس إلى الجنان، وعش مع أهل النار في جحيمهم وسعيرهم فإن هذا يزكي الفؤاد حال تذكرهما، ويكسبه الرقة والخوف من رب العباد، فما تفكر عبدٌ في آيات القرآن إلا تذكر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] كن ذلك المدكر! فكم من أناس وقفوا! وكم من أناس بين يدي الله انتصبوا! تفكروا في آيات القرآن فخرجوا بعظات بالغات! وكم من آيات تفكر فيها العبد بقيت في قلبه ما شاء الله أن تبقى! تفكروا في القرآن فكم نحن عنه بعيدون! {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور} [يونس:57] فاعرض القلب على مائدة القرآن، فإن كنت كما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فاحمد الله تبارك وتعالى، إذا وجدت هذه الآيات التي اشتملت على الواجبات قد حققتها فالهج بالثناء على الله تبارك وتعالى، وإن وجدت التقصير والبعد عن هذه الآيات فحفز النفس للكمال، وذكرها التقصير في حق الكبير المتعال، القرآن ما نزل لكي يتلى فلا يتذكر التالي، ويُسمع فلا يتذكر السامع، كم من قائم سمع الآيات فكانت عليه حجة يوم يقوم العباد لرب العالمين! فالله الله أن تسمع في القرآن عظات لا تلقي لها بالاً، ولا تحسن الاستجابة لنداءاته، ولا التفكير في آياته، ولا التأثر بعظاته، والمحروم من حرم ذلك، فوالله ثم والله إن الشقاء كل الشقاء أن يحرم العبد التذكر بالقرآن، وإنه والله لمن السعادة كل السعادة أن يكون العبد متأثراً بالقرآن، كم من أقوام قاموا في رمضان فحرّكوا النفوس للتأثر بآيات القرآن! ما خرج رمضان إلا وهم خاشعون، كم من أناس أخذوا من رمضان ثمرات كان منها الخشوع في الصلوات والتأثر لآيات القرآن! أيها القائم بين يدي الله تفكر! كم تمر علينا شهور وأيام وليالٍ لا نقرأ القرآن إلا قليلاً! فهذه فرصة، هذه نعمة، هذا موقف، هذا موسم يهيئ العبد للتفكر في القرآن. عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون إذا كان رمضان، وكان أجود ما يكون إذا لقيه جبريل، وكان يلقاه جبريل في رمضان كل ليلة فيدارسه القرآن، فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة). قال بعض العلماء: التأثر بالقرآن والجلوس في حلقه والتفكر في آياته من أعظم الأسباب التي تحرك العبد إلى طاعة ربه، فإذا لقيه جبريل (كان أجود بالخير من الريح المرسلة) قال بعض العلماء: قوله (أجود بالخير) خيران: خير الحس وهو السخاء والجود، وخير المعنى وهو بذل العلم وتذكير العباد وهدايتهم وإرشادهم للخير. هذه مدرسة تذكر العباد بالإقبال على الله في قيام رمضان، لذلك ينبغي لك أيها القائم أن تتذكر بهذا القيام ما يدعوك إلى محبة الله ورحمته.

الإخلاص لله في القيام

الإخلاص لله في القيام أول ما يوصى به من أراد قيام ليالي رمضان: الإخلاص لوجه الله في قيام شهر رمضان، قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (من قام رمضان إيماناً) أي: أنه مصدق بوعد الله ووعيده، (واحتساباً) أي: رجاءً في رحمة الله عز وجل، (غفر له ما تقدم من ذنبه). إذا خرجت من الدار لكي تعمر المسجد بقيام رمضان فاخرج وليس في قلبك إلا الله فاخرج بنية ترجو بها رحمة الله عز وجل، إذا خرجت بهذه النية لم تُرفع لك قدم إلا رفعت بها درجات، ولم توضع لك قدم إلا حُطَّ عنك بها آصار وسيئات، اخرج بهذه النية الصادقة، لا رياءً ولا سمعة، ولو خيَّرت بين أن يراك الناس وبين أن لا يروك، لاخترت أنك وحيد خالٍ بقيامك لا يراك إلا الله، اخرج وأنت ترجو رحمة الله، فكم من قدم أخلصت في القيام بين يدي الملك العلام أوجب الله لها بذلك القيام دار السلام! فإن الله تبارك وتعالى يصيب عبده برحمته على قدر إخلاصه في عبادته، فليجاهد العبد نفسه في إخلاص النية لله، والمحروم من حرم الإخلاص في قيامه، فكم من أقدام انتصبت في جوف الليل تتعبد الله بالقيام، ما كان لها حظ إلا التعب والنصب، نسأل الله السلامة والعافية. فالله الله أن يُحرم العبد بسبب فتنة -يرجو بها نظرة العباد- رحمة رب العباد! فما الذي يجني العبد من النظرات؟! وما الذي يأخذه العبد من البريات؟! لا يغني أحد عن أحد من الله شيئاً، حرّك النفس للإخلاص في القيام، وقل إني أرجو رحمة الملك العلام، فإذا خرجت من دارك تذكرت بخروجك أنك في الحشر بحاجة إلى هذه الخطوات، فإذا قمت في قيامك تذكرت حاجتك إلى هذه الركعات والسجدات إذا طوي عليك قبرك، وأُقفل عليك لحدك، لذلك ينبغي للمؤمن أن يجاهد نفسه بالإخلاص في قيامه، ومن خرج من بيته مخلصاً لوجه الله في القيام أذاقه الله حلاوة القرآن، فتجد عنده الخضوع والخشوع والإنابة لله تبارك وتعالى، وما خرج مخلص لله في خروجه إلا نال التوفيق في عبادته.

وصايا للمعتكفين

وصايا للمعتكفين أما الوصية الثالثة، فإلى المعتكفين إلى أهل الاعتكاف إلى الذين هجروا البيوت والدعة والسرور؛ لكي يأووا إلى بيوت الله إلى الذين أرادوا قضاء أفضل أيام الشهر ولياليه إليهم وصية من الأعماق ملؤها الأشواق أن يهدى العبد إلى الكريم الخلاق، وصية إلى المعتكف:

مراعاة تقديم الفرائض على النوافل

مراعاة تقديم الفرائض على النوافل أما الأمر الثاني: فقدم الفرض على النفل، ولا تقدم النفل على الفرض، هيئ الأسباب لمرضاة الله، فإن الله لا يطاع من حيث يعصى، فإذا تعارض الاعتكاف وبر الوالدين وحقوق الأبناء والبنات أو تعريض الزوجات إلى المحرمات فقدِّم ما أمرك الله بتقديمه، والله يبلغك بالنية الثواب، فالمعامَلُ كريم سبحانه وتعالى، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: (ما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضته عليه)، فإذا كان الوالد يدعوك لبره والوالدة تدعوك لبرها، فقدم برهما على الاعتكاف، فالقرب من الوالدين أفضل من الاعتكاف ولو كان الاعتكاف في ليالي العشر. ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! إني قدمت من اليمن أبايعك على الهجرة وعلى الجهاد)، يريد أن يعيش في ظل النبي صلى الله عليه وسلم، ويجاهد تحت سنانه وسيفه، ومع ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أحية أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها، فإن الجنة ثم -أي هناك- الزم رجلها فإن الجنة ثم!). فيا من تريد الجنان! ويا من تريد الفوز برحمة الرحمن! بر الوالدين، أحسن إليهما وعش في كنفهما، كلاماً ليناً وقولاً كريماً تفوز فيه برحمة الله، فما بال كثير من الشباب قد عزف عن هدي الصواب فخرج عاقاً لوالديه؟! فالله لا يطاع من حيث يعصى، ولذلك قد يجد كثير من الشباب حرمان التوفيق في الاعتكاف فتقسو القلوب من القرآن، وتصبح في ضنك من العيش لا يعلمه إلا الله؛ والسيئة سببٌ في ذلك، فلذلك قدم الواجب، وقدم ما أمرك الله بتقديمه، واعتبر فرض الله على غيره.

خذوا زينتكم عند كل مسجد استغلال الوقت بالطاعات وترك إضاعة الأوقات

خذوا زينتكم عند كل مسجد استغلال الوقت بالطاعات وترك إضاعة الأوقات وأما الأمر الثالث: إذا دخلت رحمك الله إلى بيوت الله فادخلها وأعطها حقها وقدرها من العبادة والإنابة، واستغل الوقت في محبة الله، واصرفه في طاعته ومرضاته، تذكر أنك سافرت عن الأب والأم والأخ والأخت! وأنك هجرت مجالس الأقارب وفارقت الأحباب ترجو رحمة الله عز وجل غريباً عن أهلك! غريباً عن إخوانك وخلانك وجيرانك، وذلك من أجل عمارة الوقت في طاعة الله، فكيف يصرف في قيل وقال؟! كيف يصرف في تلك المجالس التي تعقد في المساجد!! ضحك ولعب وسخرية واستهزاء؟! فلو جلس هؤلاء المعتكفون في بيوتهم لكان خيراً لهم؛ لما في ذلك من الإضرار بأنفسهم وبغيرهم، فكم من عابد ما قرت عينه بالعبادة لوجود أمثال هؤلاء من صياح ولغط وغير ذلك! وقد يصل الأمر إلى الخصومة والعياذ بالله، ما هذا الاعتكاف؟! أين اعتكاف السلف الصالح رحمهم الله؟!! لقد رأيت رجالاً صالحين -وأنا في معقد الصبا- إذا دخلوا معتكفهم في حرم المدينة مشى الرجل لا يجاوز بصره موضع قدميه، وإذا جئت إليه وقد توارى بذلك الكساء قائماً يصلي، فحينها تتلذذ وأنت تسمعه يتلو القرآن ويبكي من خشية الله، وكنا صغاراً نأتي إليهم بين تلك اللحف التي قد وضعوها بمثابة القباب، تسمع الواحد منهم يقول: أستغفر الله، وهو مليء بالنشيج والبكاء، فكانت كلماتهم والله ألذَّ إلينا من كثير. أين الصادقون؟! أين المعتكفون الذين إذا جنَّ الليل تعفرت جباههم بالسجود؟! تعفرت بالقيام بين يدي الله عز وجل وحسن طاعته والإنابة إليه؟! ذهبت حلاوة العبادة والاعتكاف! وضاعت الأوقات في قيل وقال! وغير ذلك من فضول الكلام، فليهتد العبد بهدي السلف الصالح. كان مسلم بن يسار رجلاً من خيار السلف الصالح، وكان رجلاً إذا قام في صلاته لم يلتفت إلى شيءٍ ألبتة. أُثر عنه رحمه الله أنه قام في مسجده فصلى في الضحى، وكان الناس يتبايعون في السوق، فسقط جانب المسجد ولم يعلم به مسلم رحمه الله، وجاء الناس سراعاً من السوق يخافون أنه هلك تحت تلك الأنقاض فوجدوه قائماً يصلي ما شعر بسقوطه إلا بعد السلام. أين أولئك الرجال؟!! أين أهل العبادة؟!! أين أهل الخشوع والخضوع؟!! أين تلك الأقدام الصادقة في موقفها، والسواعد المنيبة لربها، والقلوب المستشعرة لعظمة القهار سبحانه وتعالى؟!! فكم من أناس وقفوا تلك المواقف الكريمة في معتكفهم فأصابوا من الخير ما لا يعلمه إلا الله! الاعتكاف مدرسة تهيئ العبد للخلوة بذكر الله عز وجل، وإلا لماذا تُركت البيوت -ما تُركت البيوت التي فيها الحقوق والواجبات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه يشد مئزره، ويوقظ أهله، ويعتكف تلك العشر- ما ذلك إلا لعظيم فضل العبادة في المساجد، ولذلك قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] قال: هي العشر الأواخر من رمضان، أقسم الله عز وجل في كتابه بها؛ لكي ينبه على عظيم شأنها. فلنكن صادقين في اعتكافنا، وإذا كان ولا بد -وأراد الإنسان أن يعتكف مع أناس- فليجعل له مقاماً يخلو فيه بربه. المعتكف تذكر ماضياً فرَّط فيه في جنب الله، وتذكر مستقبلاً لا يدري ما غيبته الأقدار، فدخل إلى المعتكف يبكي على ماضٍ فرط فيه في جنب الله، ومستقبل لا يدري كيف حاله ولا مصيره ومآله! ألهاه حاله عن الناس ألهاه حاله عن قيل وقال، وإضاعة العمر فيما لا يرضي الله عز وجل. فهذه وصية إلى المعتكفين، ووصية لنا أجمعين، إذا دخلنا المساجد أن نعطيها حقها وقدرها. فالصيام والقيام مطية لمرضاة الملك العلام، فـ: (من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) لذلك أحبتي في الله، لنتهيأ لهذا الشهر، ولنعد له العدة صادقين في قبوله والإقبال عليه. اللهم رب شعبان ورمضان ورب الشهور كلها نسألك أن تبلغنا رمضان، اللهم بارك لنا فيما بقي من شعبان، اللهم بلغنا رمضان. اللهم إنا نسألك شهراً يرضيك عنا، اللهم إن كتبت لنا فيه الحياة فنسألك أن تجعلنا أحظ العباد عندك في الرحمة والمغفرة والعتق من النار، اللهم إنا نسألك الفوز بالعتق من النار. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى إن كنت تعلم أنا إليك ماضون، وإليك مسافرون مرتحلون أن تبلغنا أجر رمضان قبل بلوغه. اللهم ونسألك أن ترحمنا برحمتك الواسعة، وأن تذكرنا في تلك الظلمة وذلك الحشر العظيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك شهراً يرضيك عنا، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون ممن رغم أنفه فدخل عليه شهر رمضان فلم يغفر له، اللهم إنا نعوذ بك أن نكون ممن رغم أنفه فدخل شهر رمضان وخرج ولم يغفر له. اللهم ارحم موتى المسلمين الذين كانوا يؤملون العيش معنا، اللهم ارحم موتى المسلمين أجمعين، إنك ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

أن يكون الاعتكاف خالصا لله

أن يكون الاعتكاف خالصاً لله أولاً: أن يخلص لله في اعتكافه ويكون كل مراده أن يخرج من ذلك المعتكف والله راضٍ عنه. إذا خرجت إلى الاعتكاف خرجت بنية خالصة لوجه الله عز وجل، ولو كان بيدك أن لا يطلع أحد ولا يعلم بأنك اعتكفت شيئاً من رمضان لفعلت، فأين الشباب؟! أين أولئك الذين يتحدثون بالاعتكاف ويتباهون به والعياذ بالله، والعجب كل العجب أن الشاب يخبرك باعتكافه من أول رمضان، ويقول: إذا جاء العشر فأنا معتكف! فأخلص لله واهتد بالسلف الصالح، وغيب ما بينك وبين الله عز وجل، فذلك أسلم لدينك وأكمل لطاعة ربك، اعتكف وأنت ترجو رحمة الله عز وجل، فإن هجران البيوت والإيواء إلى بيوت الله وعمارتها بالاعتكاف يقع عند الله عز وجل بمكان، فاتق الله في اعتكافك، ولتكن مخلصاً في خروجك لوجه ربك.

وصية نبوية

وصية نبوية من جوامع الكلم التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم قوله: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع …) الحديث، فقد اشتمل هذا الحديث على ثلاث وصايا شاملة لخيري الدنيا والآخرة، أولها: التقوى، فحري بكل مسلم أن يتمسك بها ويطبقها خير تطبيق.

صفحات مشرقة من تاريخ أبي ذر الغفاري

صفحات مشرقة من تاريخ أبي ذر الغفاري الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله! إن الله إذا أحب عبداً من عباده ألهمه فعل الخيرات وترك الفواحش والمنكرات، وحبب إلى قلبه الباقيات الصالحات، فالحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك في بيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله، فـ (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) ولقد وجبت محبة ربك للمتحابين فيه، وللمتجالسين فيه، وللمتزاورين فيه، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. إخواني في الله! إن الله بعث نبيه بالهدى والنور، فشرح به القلوب، وأنار به الصدور، بعثه شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، فما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل هدى ولا بر ولا طاعة إلا هدانا إليه، أخذ بمجامع قلوب الناس إلى ربها، ودلهم على الله خالقها وفاطرها، فيا لها من كلمات وعظات بالغات خشعت لها قلوب الصحابة والصحابيات! يوم وقف النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وصدع بكلمة الله في رحابهم، ففتح الله له قلوبهم وأسماعهم؛ فخشعت تلك القلوب لربها، وأصغت إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكرها ويعظها، وهذه كلمة من تلك الكلمات ووصية من الوصايا البالغات حفظها أبو ذر الصحابي الأغر البر، صاحب العلم والزهد جندب بن جنادة رضي الله عنه وأرضاه، وجعل طيب الجنة مسكنه ومثواه، رضي الله عن أبي ذر -صفحات الإيمان والتضحية والصبر- يوم خرج ودان أهله وعشيرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، خرج بقربة من الماء صغيرة، ولكن بقلب كبير يريد أن يضع فيه الإيمان بالله اللطيف الخبير، وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه التوحيد والإيمان، عرض عليه الوحي والقرآن، وعرض عليه نبذ الجاهلية والأوثان، فما فارقت قدما أبي ذر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رضي الله عنه وأرضاه يوم أسلم لربه ومولاه؛ فبرقت أسارير السرور في وجه النبي صلى الله عليه وسلم. رضي الله عنه وأرضاه يوم أن أرضى رسول الله وأدخل السرور على حبيب الله صلى الله عليه وسلم، فما إن دخل ذلك الإيمان إلى ذلك القلب حتى تغلغل في سويدائه فقال: (والله لأصدعن بكلمة الحق بين ظهرانيهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليك أن يقتلوك) فخرج رضي الله عنه وأرضاه مؤمناً موقناً متوكلاً، خرج لكي يقول كلمة الله، فخرج في يوم كان فيه خامس من أسلم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل مسجد الكعبة وقد جلست فيه قريش برجالها وأبنائها، فوقف أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه عليهم وصاح صيحته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فما بقي رجل إلا قام إليه وضربه؛ حتى سالت دماؤه رضي الله عنه وأرضاه، فلما سالت دماؤه كتب أجره وعظم ثوابه، وخرج من الدنيا وله صفحة يوم ابتلي فيها في جنب الله، خرج من الدنيا وله يومٌ أوذي فيه في جنب الله وفي ذاته، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدقه ومحبته وإيمانه أمره أن يسير إلى قومه مسير البشير النذير فخرج هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ فأسلمت غفار عن بكرة أبيها، وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تؤمن بالله وتشهد بالنبوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف في ذلك اليوم عليه الصلاة والسلام، فلما رأى إسلامها قال عليه الصلاة والسلام: (غفار غفر الله لها) وغفار هم قوم أبي ذر، بل ثمرة أبي ذر اليانعة، فرضي الله عنه وأرضاه. وما زال أبو ذر يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد المشاهد، يجاهد ويجالد حتى ابتلى ربك أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بالغزوات والمشاهد المباركات، فجاءت غزوة العسرة في زمان شديد الحر والقر، في شدة الصيف إلى عدو شديد كلبه، عظيم خطره، فندب النبي صلى الله عليه وسلم رجال الإيمان إلى أهل الجاهلية والأوثان، ندبهم صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصليب وعبدة الأوثان، فخرج أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه مع نبي الهدى يجاهد العدى حتى سار المفازات، وقطع المسافات الشاسعات، لا يصيبه ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلا أُجر، حتى تعطل به بعيره عن المسير فوضع متاعه على ظهره وخرج في شدة الهاجرة والظهيرة -والمتاع على ظهره- يتصبب عرقاً فرآه الصحابة من بعيد فقالوا: فلان، لا بل فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: (كن أبا ذر رحمك الله يا أبا ذر تعيش وحيداً، وتموت فريداً) فعاش رضي الله عنه وأرضاه عيشة الإيمان والإحسان.

وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر

وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر في هذا اللقاء نقف أمام وصية من الوصايا سمعتها أذنا أبا ذر ووعاها قلبه، ونجلس اليوم نعطر مجالسنا بذكرها، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعظم أجره وثوابه عليها، اللهم اجعل قبره في هذه الساعة أنواراً، اللهم عظم أجره، اللهم نور قبره يا ذا الجلال والإكرام! وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك يا من تؤمن بالله، ويا من تؤمنين بالله، إليك يا من ترجو لقاء الله وتخافه وتتقيه، وتعلم علم اليقين أنك موقوف بين يديه، هذه الوصية ثلاث كلمات، كلمتان عظيمتان كريمتان بينك وبين الله جل جلاله، اثنان بينك وبين الرحمن، وثالثة بينك وبين الناس، من حفظ هذه الوصايا الثلاث حفظه الله جل جلاله.

الوصية الثالثة: حسن الخلق مع الناس

الوصية الثالثة: حسن الخلق مع الناس أحبتي في الله: الوصية الثالثة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصية بينك وبين خلق الله، سيرة عطرة، ومواقف جميلة جليلة، نظرة تحقق بها الإسلام والعبودية والهداية والالتزام، هذه الوصية العظيمة قسمة من الله جل وعلا، لا يعطيها إلا من أحب، ألا وهي الخلق الحسن، الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، سأله الصحابة رضوان الله عليهم وكلهم شوق إلى رحمة الله وجنته، سمعوا القرآن يدعوهم إلى الجنة، فوجهوا السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الجنة التي وصفها الله في كتابه، أي شيء يكون سبباً في دخولها؟ وما هو أكثر ما يدخل الناس إلى الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (تقوى الله، وحسن الخلق) أكثر ما يُدخل الناس إلى الجنة تقوى الله وحسن الخلق. وإذا نصبت الموازين ونشرت الدواوين، فإن الإنسان أحوج ما يكون إلى الحسنات، حتى إذا قدم على الله جل وعلا وفي صحائف أعماله الأخلاق الكريمة ثقل الله ميزانه بها، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في الميزان: تقوى الله وحسن الخلق). وإذا دخلت إلى الجنة كانت أمنيتك مرافقة النبيين وجوار الصالحين مع الذين أنعم عليهم رب العالمين، نسأل الله العظيم أن يبلغنا الجنة بمنه ورحمته وهو أرحم الراحمين. يدخل العبد الجنة وكله شوق أن تكون منزلته في أعالي المنازل، فإذا دخلها وكان طيب الخلق رفعت درجاته ومنازله، ورأى أمام عينيه عواقب الأخلاق الحميدة، ومعاملة الناس والعطف عليهم، والشفقة على المسلمين وتفريج النكبات والفجائع عن المنكوبين، رآها أمام عينيه جزاءً وفاقاً، فما جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ، رآها عند رب كريم منان لا يضيع عمل العاملين وسعي الساعين، قال صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى: (ألا أنبئكم) أي: ألا أحدثكم، ألا أخبركم، فنبأنا بأمر غيبي لا تراه عيوننا ولا تسمعه آذاننا، عالم غير العالم الذي نحن فيه، ألا أنبئكم عن أمر من غيب أطلعه الله علي جل جلاله: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) فما أعظمها من كلمة! وما أعظمه من وصف! (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) أن تكون مسلماً منقاداً لله مستسلماً، قد سلم المسلمون من يدك ولسانك وزلات جوارحك وأركانك، تستقيم على طاعة الله، حتى إذا رآك العبد كأنه يرى شمائل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن من الأخيار من لو رأيته ذكرت الله عند رؤيته، من الأخيار من إذا سمعت قوله في حال الغضب أو سمعت قوله في حال الرضا علمت أن وراء هذا القول قلباً يخاف الله جل جلاله، الأخلاق الحميدة تعيش بها حميداً، وتموت بها قرير العين راضياً عن ربك سعيداً، مات أناس وهم في الناس أحياء بسيرتهم العطرة وأخلاقهم الجليلة الجميلة النظرة، عاشوا في الناس وهم أموات في القبور، يذكرون بالجميل، ويترحم عليهم الحقير والجليل، فرحمة الله على تلك القلوب المؤمنة، وتلك الجوارح التي أرادت وجه الله جل جلاله في سعيها. أحبتي في الله! الأخلاق عطية من الله لا بالتملق والنفاق والرياء، ولا بالكلمات المعسولة والقلوب التي مُلئت حمقاً وغيظاً على المسلمين، ولكن قول سديد وعمل صالح رشيد، تعلم أن وراءه عبداً يرجو الوعد ويخاف الوعيد. الأخلاق منحة من الله جل جلاله، ألا وإن أحق الناس بأخلاقك وأحق الناس بعطفك وحنانك وبرك وإحسانك ومن تظهر له الخلق الحسن والداك: أمك وأبوك: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24]، كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه إذا وقف على الباب وأمه بالبيت قرع الباب وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا أماه كما ربيتني صغيراً، فقالت أمه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا بني كما بررتني كبيراً. وكان عثمان رضي الله عنه وأرضاه لا يرفع بصره في وجه أمه كما تقول عائشة: [كان أبر الناس بأمه لا يرفع بصره إلى وجهها]. وسئل بعض السلف: ما بلغ بك من برك لأبيك؟ قال: والله ما رقيت على سطح تحته أبي أو أمي. وقيل لثالث: ما بلغ بك من برك لوالديك؟ قال: والله ما طعمت معهما من قصعة واحدة، قيل: أو ذاك من البر؟ قال: أخشى أن تمتد يدي إلى طعام يحبانه. وكان بعض الأخيار إذا قدم بالمال إلى والديه يضع المال أمام والده، فقيل له: ما هذا؟ قال: إنني أخشى إذا مددت يدي أن تعلو يدي على يد أبي فيكون فضلي على أبي، وفضله عليَّ على فضلي عليه. وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم إذا طلبت أمه الحاجة ولم يفهم كلامها، لم يستطع أن يستبين منها حتى يخرج ويسأل من كان جالساً: ماذا تقول أمه؟. وكان محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وإماماً من العلماء المجتهدين، رحمة الله عليهم أجمعين، هذا الإمام العظيم كان ديواناً في العلم من تلامذة أنس بن مالك، وكان في غاية من العلم والصلاح والورع وتقوى الله جل جلاله، قال بعض من صحبه وقد جاوره: كان إذا جن الليل سمعنا بكاءه بالقرآن في الظلمات، وكان إذا جلس مع أصحابه ضحك ومزح وأدخل السرور عليهم، فإذا دخلت أمه عليه خشع كأنه مصاب بمصيبة رحمة الله عليه. كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يبرون بالوالدين، أحق الناس بعطفك وإحسانك وبرك والداك، فمن مجلسك هذا تعاهد الله على أن تغير في أخلاقك ومعاملتك، قال بعض السلف: من عبس وجهه بحضور والديه فقد عق والديه. وقال بعضهم: من نادى أباه باسمه فقد عقه، ومن نادى أمه باسمها فقد عقها، إنما يقول: يا أماه، ويقول: يا أبتاه. هذه من البر والأخلاق الحميدة، فلا تزال تبر الوالدين فتقوم من عندهما وقد رفعت الدعوات إلى الله لك بالأمور التي تنشرح بها الصدور وتأمن بها من هول البعث والنشور، وما زال البار يبر والديه حتى استجاب الله دعوته وفرج الله نكبته وكربته، كما في حديث الثلاثة الذين في الغار، وما زال البار يبر والديه حتى عزت عند الله دعوته فما رد له دعوة سأله فيها، كما في قصة أويس القرني رحمة الله عليه. أحق الناس بأخلاقك الحميدة زوجتك وأهلك وأولادك، تكون على شمائل عطرة، سل عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، سل عن أخلاقه العطرة ومواقفه الجميلة الجليلة النضرة مع الصغير والكبير، وخذ ذلك المثال الذي يحتذى به، هذا هو الالتزام وهذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: (وخالق الناس بخلق حسن) فتبدأ أول ما تبدأ بوالديك ثم بأهلك وأولادك، تدخل إليهم حليماً رفيقاً براً رقيقاً، حتى تكسب تلك القلوب بالحنان والمودة والإحسان، وكم من أب ما زال يحسن إلى أهله حتى خرج من الدنيا وقد أسر قلوبهم بالجميل، وكم من زوج صالح خرج من الدنيا وقد أسر قلب امرأته بالجميل والعمل الصالح الجليل. أحبتي في الله! الأهل أحوج ما يكونون إلى الأخلاق الحميدة، فالعفو عن زلتهم، والصبر على أذيتهم، واحتساب الأجر فيما يكون منهم. كذلك أحق الناس بأخلاقك الحميدة العلماء والدعاة إلى الله، فيذكرون بالجميل، ومن ذكرهم بغير ذلك تنقصاً فقد ضل عن سواء السبيل. العلماء مشاعل الحكمة والنور، أهل الهدى والخير والرحمة والبشر والسرور -فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعظم أجورهم، وأن يشرح صدورهم، وأن يخلد حبهم في العباد- فحبهم في الله قربى، والدعاء لهم بظهر الغيب حسنة، لا يحبهم إلا مؤمن يخاف الله، ولا يذكرهم بالجليل إلا من يتقي الله، فهم أحق الناس بالأخلاق الحميدة، فإذا رأيت العالم فتواضع له وأجله وأكرمه، كان ابن عباس رضي الله عنهما -حبر الأمة وترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أرفع الناس علماً ونسباً وفضلاً ونبلاً- كان ينام على عتبة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فالعلماء حقهم كبير، عيون سهرت وقد نامت عيون الناس، سهرت على مشاكل المسلمين وهمومهم وغمومهم ومسائلهم، فالله أعلم كم تكبدوا من مشاق، وصدعوا بحق دمغ أهل الزيغ والنفاق، العلماء حقهم كبير، فكن -رحمك الله- من أحسن الناس خلقاً مع العلماء، وإذا جلست بين يدي عالم فكن التلميذ المبرز في الخلق الحميد، وإذا جلست في مجلسه فكن التلميذ المبرز في الكلمات الطيبة التي تدل على إجلال من أمر الله بإجلاله، وتعظيم من أمر الله بتعظيمه، وتوقير من أمر الله بتوقيره، فتلك سنة الصالحين، ودأب عباد الله المتقين جعلنا الله وإياكم منهم أجمعين. ثم أحق الناس بالخلق الحسن الضعفاء والفقراء واليتامى والثكالى، فتواضع لهم فإن رحمة الله في التواضع لهم، وأدخل السرور عليهم فمن سرهم سره الله يوم المساءة، تفقد عورات المسلمين والضعفة والمحتاجين، وافتح قلبك لهمومهم وأحزانهم، واحتسب عند الله جل جلاله، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولعل مالاً تنفقه يحجبك الله به عن النار، ولعل كربة تفرجها يفرج الله عنك بها كربة يوم القرار، احتسب عند الله في ضعفة المسلمين فإنهم أحق الناس بعطفك وحنانك، واحتسب عند الله جل وعلا ألا يراك العبد إلا على فعل جليل، وألا يسمع الناس منك إلا القول الجميل. أحبتي في الله! عشنا مع وصية من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشنا مع هذه الوصية وقد نقلت اليوم إلينا فهي إما حجة لنا أو حجة علينا. اللهم إن نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وكمالك أن تجعل علمنا نافعاً وصالحاً، وأن تجعله حجة لنا لا حجة علينا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

الوصية الأولى: تقوى الله

الوصية الأولى: تقوى الله هذه الوصايا الثلاث تزيد جمال المؤمن وكماله وبهاءه وزينته عند الله، استفتحها نبي الله صلى الله عليه وسلم بالوصية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه: (اتق الله). التقوى وصية الله للأولين والآخرين ووصيته للأنبياء والمرسلين. التقوى: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله وتخشى عقابه. التقوى ألا يراك الله حيث يحب أن يفقدك، ولا يفقدك حيث يحب أن يراك. التقوى نور في القلوب، ظهرت آثاره على الجوارح والقوالب، نور أسكنه الله في قلوب المؤمنين، فلا يعلم قدره أحد سواه، فالله أعلم بالمتقين والخائفين، وبالصادقين المخلصين. التقوى صفات أهل الإيمان، وخلال أهل الطاعة والإحسان، وَقَرت في القلوب والجنان. التقوى سبب الصلاح ومنبع الفلاح والإصلاح، أهلها الرابحون لا أشقياء ولا محرومون. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم منها أوفر حظ ونصيب. تقوى الله أن تتقي الله -أول ما تتقيه- في إيمانك، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك. تقوى الله أن تلتزم بدين الله وطاعته حتى إذا جاءتك المنية جاءتك على الخيرات والباقيات الصالحات، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك وإيمانك، فتنصب وجهك لله لا لشيءٍ سواه، حتى إذا جاءك الأجل جاءك على الخيرات والباقيات الصالحات، فما زالت التقوى بأهلها حتى أخرجتهم بالروح والريحان والرحمة والرضوان ورب راض عنهم غير غضبان. التقوى تمسكٌ بحبل الله المتين، وسير على صراطه المستبين، حتى إذا جاءك الموت نعمت عينك عن ربك، ورأيت أمامك صحائف الأعمال والأقوال فقلت: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وقلت بلسان الحال والمقال: اللهم إني راضٍ عنك فارض عني. يخرج التقي من الدنيا نقياً، خالياً من المعاصي سرياً، تحجر قلبه عند حدود الله، وتحفظت جوارحه عن محارم الله، فالله أعلم كم رجفت قلوب المتقين من هيبته، والله أعلم كم خافت قلوب المتقين من جلاله وخشيته. التقوى نور في القلوب وأثره في الجوارح والقوالب كما قال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره وقلبه صلى الله عليه وسلم) قال بعض العلماء: اختار الله للتقوى أجلَّ الأماكن وأشرفها وهو القلب؛ حتى يكون العبد مخلصاً لوجهه جل جلاله. وأول ما ينبغي على المتقي أن يتقي الله في دينه وإيمانه، فلا يضحي بشيء من هذا الدين والإيمان، إذا التزمت واستقمت وآمنت تمسكت بحبل الله، واتقيت الله في نوره الذي قذفه في قلبك. هذا الإيمان والالتزام والهداية نور وضعه الله في قلبك وحرمه سواك، فاحمد الله على نعمته، واشكره على فضله ومنه وكرمه، لم يجعلك ساجداً لحجر، ولا معظماً لوثن ولا بقر، ولكن جعلك ساجداً لوجهه، ذلت له رقابنا، وخشعت له قلوبنا، وسجدت له جباهنا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي، فكل يوم يمر على المهتدين حق عليهم أن يتقوا الله رب العالمين في التزامهم، ومن دلائل تقوى الملتزم لله أنه تثبت قدمه على طاعة الله جل جلاله، هذه الهداية رحمة فازدد منها حتى تكون من المهتدين، تزداد بعلم نافع وعمل صالح، تزداد منها بغشيان حلق الذكر وبمجالسة العلماء والصلحاء، تزداد منها بعشرة الأخيار والأبرار، تزاد منها بكلمة ترضي الله عنك أو خصلة من خصال الخير في يدك أو رجلك أو في جوارحك كلها. تقوى الله رحمة من الله، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يهبه هذه الرحمة، وهذه الرحمة لا تنال بالأماني ولا بالشهوات والدعوات، ولكن بالدعاء الصادق لله جل جلاله أن يجعلك من المتقين، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إني أسألك الهدى والتُقى) اللهم يا رب الأرباب! ويا سامع الدعاء! ويا واهب الخير وكاشف البلاء! أسألك أن تهب لي الهدى والتُقى، فاسأل الله أن يهبك هذا النور، سله في السجود وأدبار المكتوبات والأسحار والأذان والإقامة، وتحين حالة يخشع فيها قلبك، وتسأل فيها حاجة إلا قرنتها بتقوى الله جل جلاله، إن اتقيت الله أحبك، والله يحب المتقين، إن اتقيت الله فرج كربك، والله يفرج كرب المكروبين: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجاً؛ ومن كل ضيق مخرجاً، ويجعل له نوراً وفرقاناً يسير به إلى لقائه سبحانه وتعالى: (اتق الله حيث ما كنت) التقوى لا تكون في بيوت الله وحدها حتى إذا خرج الإنسان إلى تجارته أو مسكنه أو عمارته أو مزرعته كشَّر عن أنيابه لدنياه، وغفل عن لقاء ربه وأخراه، ولكنها لزمت القلوب وتعلقت بها حيثما كان الإنسان، إن سافر كان من المتقين، وإن أقام كان من المتقين، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في السفر: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى) تقوى الله في كل زمان ومكان، وتقوى الله في الأقوال والأحوال، فإذا رضيت فاتق الله واشكره، وإذا أنعم عليك فاتق الله وتشكره، وإذا قرت عينك اتقيت الله وحمدته، فإن الله يرضى عن العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها، تقوى الله تكون في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وبين الناس وفي أهلك وولدك.

الوصية الثانية: الإتيان بالحسنة بعد السيئة

الوصية الثانية: الإتيان بالحسنة بعد السيئة أما الوصية الثانية: فقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل ولكنها وصية للمؤمنين والمؤمنات، وصية للصالحين والصالحات، ووصية للعاصين والعاصيات، هذه الوصية ما أحوج المؤمن أن يتأملها وأن يتدبرها وأن ينظر فيها، فما أحكمه وما أعلمه صلوات ربي وسلامه عليه يوم جعل هذه الوصية تلو الوصية بتقوى الله! هذه الوصية الثانية، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) السيئة: سماها الله وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم؛ لأنها تسوء صاحبها في الدنيا والبرزخ والآخرة. السيئة تسيء إلى صاحبها في الحياة وفي الممات، فلا تزال السيئة مكتوبة في ديوان العبد حتى يمحصه الله منها، إما ببلية في الدنيا أو بتوبة صادقة إلى الله قبل الموت، أو ببلية يصيبه بها أو بعذاب يبتليه به في قبره، أو بعذاب يبتليه به في حشره ونشره، السيئة بلاء وشقاء وعناء، من سلم منها فقد سلم، ومن بلي بها فقد حرم، إلا أن يرحمه الله برحمته. أعظم السيئات كفر بالله جل جلاله، وردة عن الإسلام وإعراض عن الله بالكلية: بالاستهزاء بالدين، أو الاستخفاف بالصالحين، أو التهكم بشعائر رب العالمين. أعظم السيئات: إطلاق اللسان في الفواحش والمنكرات، وإطلاق الجوارح في الفواحش والمنكرات، واستباحة حدود الله، وانتهاك محارم الله بسفك الدماء، والزنا، وشرب الخمور، وغير ذلك -والعياذ بالله- من معاصٍ وفجور، كلها شقاء وبلاء وعناء ينطمس بها نور الإيمان على قدرها عند الله العظيم الرحمن. ما زالت السيئة بصاحبها حتى أظلم وجهه وقلبه وتنكد عيشه، ولربما حجبت الرزق عنه والعياذ بالله. قال الفضيل رحمه الله: إذا رأيت الناس سبوك أو شتموك أو أهانوك؛ فاعلم أن لك ذنباً بينك وبين الله، وإذا رأيت الناس احتقروك أو ذموك أو عابوك فاعلم أنها السيئات جنت عليك في الحياة قبل الممات. فتب إلى الله قبل أن ينتقم الله منك. السيئة تسوء صاحبها في دينه فتطمس نور الإيمان من قلبه، قالوا: إنه ما من عاص يعصي الله إلا حرم من العلم على قدر معصيته، وقد يكون من الحفاظ فيسلبه الله نعمة الحفظ، وقد يكون من الخاشعين فيسلب نعمة الخشوع، وقد يكون من القائمين والذاكرين والمخبتين والمنيبين والصائمين فترفع هذه الحسنات بسبب ذنب بينه وبين الله جل جلاله. السيئة تسوء صاحبها حتى إذا حرم هذا الخير بكى حين لا ينفع البكاء والندم إلا أن يشاء الله جل جلاله. فلما علم صلى الله عليه وسلم -بل علم ربه الذي أرسله وبعثه- أننا لا نستطيع أن نتقيه كمال التقوى إلا أن يرحمنا برحمته، وعلم أن منا هنات وزلات وعيوب ومنكرات دلنا على علاجها، وأرشدنا إلى دوائها، فقال: (أَتبع السيئة الحسنة تمحها) قال بعض العلماء: الحسنة قول العبد الصالح: أستغفر الله أستغفر الله حسنة من أعظم الحسنات التي تمحو السيئات، وما من إنسان إلا عنده عورات وخطيئات ولو كان من صالح المؤمنين والمؤمنات، ولكن الله جل جلاله برحمته يرحمك، فأولاً: لا يبادرك بعقوبته، وثانياً: يتولى بجميل لطفه وعظيم رحمته وحلمه سترك وأنت تعصيه، سبحانه ما أحلمه وما أرحمه! حين يغلق العبد بابه على حد من حدود الله وهو يعلم علم اليقين أن الله يسمعه ويراه، وهو يعلم أن هذه الأرض التي يعصي عليها الله لو أذن لها لخسفت به، وأن هذه السماء التي يستظل بها لو أذن الله لها لأرسلت عليه ما يهلكه، ومع هذا كله يتولاه الله بالرحمة والستر تفضلاً منه وكرماً وجوداً سبحانه وتعالى، حتى إذا انتهى الإنسان من معصيته انطفأ نور الإيمان من قلبه على قدر ما أصاب من السيئات، فعاد قلبه مظلماً بعد النور، وعاد منقبضاً بعد الانشراح والسرور، عاد قلبه ضيقاً عليه فأرشده الله جل وعلا على لسان رسوله أن يتبع السيئة الحسنة، وأن يقول بقلب يستشعر الندم مليءٍ بالحزن والألم: اللهم إني أسأت وأنت المحسن إلي، وأذنبت وأنت الغافر الجواد الذي تمن عليَّ، فيريق دمعة من دموع الندم فلعلها تمحو ذنبه فلا يراه أبداً. علم الله أنا مذنبون ومقصرون، لكنه فتح أبواب رحمته، قال له إبليس: وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني، فالله رحيم بعباده وحليم بخلقه. (اتبع السيئة الحسنة تمحها) إن كنت من الصالحين، فهذا نداء من النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن صالح، ضعفت نفسه الأمارة بالسوء، فدعته إلى المنكرات والفواحش والشهوات فأصابه الهم أن يرجع إلى الله جل جلاله، ثم هذه الدعوة الطيبة المباركة لأقوام كانوا بيننا فابتعدوا عنا، كانوا فينا فأصبحوا ليسوا منا، لأقوام انتكسوا ورجعوا على أعقابهم فارتكسوا، هذا النداء الرحيم الحليم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها). يا من أذنبت وأسرفت وبعدت عن الله! يا من تغربت عن الله! أتبع السيئة الحسنة تمحها، قل في ساعة المعصية بقلب صادق: أستغفر الله، فإن الله يغفر الذنوب، قل في هذه الساعة: أتوب إلى الله، فإن الله يرحم التوابين والمستغفرين، تب إلى الله قبل أن يداهمك الممات وتصير إلى اللحود والرفات، فالله جل جلاله جعل هذه الوصية سلواناً للمسيئين والمذنبين، فرحماك يا أرحم الراحمين! ما أرحمك وما أحلمك بهذا الخلق من بني آدم! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]. ما زال ربنا يكرمنا ونهين أنفسنا، ويرحمنا ونعذب أرواحنا، فاللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك.

الأسئلة

الأسئلة

لا يوجد في حياة المسلم وقت يضيعه

لا يوجد في حياة المسلم وقت يضيعه Q ما حكم لعب (البلوت) والسهر من أجله إذا كان ذلك لا يؤثر على تأدية الفروض، ولا يتخلله سب ولا حلف بالله؟ A أعند الإنسان وقت حتى يلعب الورق؟ الله المستعان، نسأل الله العظيم ألا يبتلينا بالغفلة، وألا يجعلنا من أهل الحرمان، تصور يا أخي أهل القبور وهم الآن في ضيقها وفي لحودها يتمنون التسبيح والاستغفار! تصور أهل القبور الآن وهم في ظلمتها وكربتها وشدتها ومحنتها وهم يتمنون حسنة واحدة تزاد في الأعمال! وهذا العمر الذي أعطاك الله إياه تنفقه في اللعب، أعندك فراغ من الوقت وأنت بين طرفة عين وغمضتها قد تفارق هذه الحياة، وقد تصير إلى ما صار إليه القوم، وتصرع كما صرعوا، وتنزل منازلهم التي نزلوا، وإنا إلى ما صار إليه القوم صائرون، وإلى ما انقلبوا إليه منقلبون؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون! فيا أخي في الله! دع مسألة الورق على جنب، ولكن هذا مرض قلب، فابدأ بقلبك أولاً، هذه غفلة والله حتى لو كان جائزاً، أعندك وقت تضيعه في غير طاعة الله جل وعلا؟ أعندك وقت تضيعه في الفضول؟ فليست المشكلة أن تقول: حرام، ويقول غيرك: جائز، لا، اتركنا في الأصل، هب أنه جائز ومباح، ولو أنه لا يقل عن درجة المكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل لهو باطل) فهذا أقل درجاته أنه مكروه، وإلا فمن العلماء من يرى أنه في حكم النرد الذي حرمه الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، لكن الذي نسأل عنها الآن هي الغفلة ولو كان مباحاً: هل لإنسان عنده نفس ينعم الله عليه بالحياة، ويجعل هذه الروح تدب في الجسد، أن يجلس ويلعب ورق؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! فنسأل الله العظيم ألا يميت قلوبنا! يا أخي! انتبه من غفلتك واتق الله فيما أنت فيه، واعلم أن الله سائلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه …)، فتعرض أمام عينيك، ساعات السهر واللعب بالبلوت والورق وتجدها أمام عينيك لا تفقد منها ثانية واحدة، وتراها أمام عينيك: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. فيا أخي! اتق الله في هذا العمر، وفي ساعاته ولحظاته، واحمد الله جل وعلا، كم من أناس على الأسرة البيضاء يتمنون العافية التي أنت فيها، كم من إنسان مريض على فراشه في هذه اللحظة التي تلعب فيها الورق، وهو يتأوه ويقول: يا ليت لي مثل ما لك من العافية، أكان جزاء شكر نعمة الله بالعافية أن تضيعها هدراً؟ أيسرك وأنت واقف بين يدي الله والناس حاف عار في العرض الأكبر أن يأتي في صحيفة عملك ساعة في لهو من هذا اللهو؟ لا والله. فنسأل الله العظيم أن يمن علينا بالتوبة النصوح، وألا يكتب لنا الخزي والفضيحة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أسال الله العظيم أن يشكر سعيكم، وأن يعظم أجرنا وأجركم، وأن يفرق هذا الجمع بذنب مغفور، وعمل صالح مبرور، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: (قوموا قد بدلت سيئاتكم حسنات). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

مخالفة أمر الله لأجل إرضاء الزوج لا تجوز

مخالفة أمر الله لأجل إرضاء الزوج لا تجوز Q أنا أوقظ زوجي لصلاة الفجر، ومع ذلك يغضب عليَّ ويهجرني ولا يكلمني؛ لأنني أيقظته للصلاة، بحجة: أنه يأتي من العمل وهو متعب، فيريد أن يرتاح في هذا الوقت؟ A جزاك الله كل خير، عظم الله أجرك وأحسن ثوابك، اشكري نعمة الله عز وجل عليكِ يوم نظر إليكِ في بيتك ومع زوجك وأنت تأمرينه بطاعة الله جل جلاله، هنيئاً لكِ هذا الفضل يوم أمرتِ بما أمر الله ونهيتِ عما نهى الله عنه، فذلك شأن الأخيار والصفوة الأبرار، وتلك نعمة الله جل وعلا يمن بها على من يشاء، فاحمدي فضل الله عليكِ إذ جعلك امرأة صالحة، توقظي زوجك إذا نام، وتنبهيه إذا غفل، وتحيي قلبه بذكر الله جل جلاله. أختي المؤمنة! استمري على ما أنتِ عليه، فإن غضب عليكِ فإن الله لا يغضب، وإن غضب عليك رضي الله، وإن أرضيتِ الله أرضى عنك الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) فأرضي الله جل وعلا ولو سخط زوجكِ ولو هجرك ولو غضب عليك، فبلغي رسالة الله وذكريه بالله حتى تنعم عينك غداً بثواب الله، والله تعالى أعلم.

من أصيب بالعجب فليتذكر نعم الله عليه

من أصيب بالعجب فليتذكر نعم الله عليه Q كيف نتخلص من العجب بالعمل؟ A الله المستعان، هل عندنا عمل حتى نعجب؟! الله المستعان، أين قيام الليل؟! وأين صيام النهار؟! أين بكاء الأسحار؟! وأين القنوت؟! وأين الخشوع الذي رفع من القلوب إلا ما شاء الله جل جلاله؟! كان الرجل إذا نُظر إليه ذُكِر الله جل جلاله، لا شك أن نعمة الله علينا عظيمة ولكن نغتر بماذا؟ مع السيئات والخطيئات وفتن النظر وفضول الكلام؟! تأمل نفسك يوماً كاملاً -ولو كنت أعبد الناس- هل سلم المسلمون من لسانك؟! تأمل يوماً كاملاً ما الذي قلته منذ أن أنعم الله عليك فأحياك وأمات غيرك، فقمت من صباحك الباكر إلى أن أويت إلى فراشك ما الذي تكلمت به وما الذي قلته؟ وانظر إلى الذي قلته من الكلام الذي يرضي الله، كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعدون الكلام الذي يقولونه بغير ذكر الله جل جلاله، هل بلغت هذا المبلغ؟! بأي شيء تعجب؟! بأي شيء تغتر؟! كان السلف الصالح رحمهم الله إذا قيل لأحدهم: اتق الله، خشع وجلس يبكي، ولربما غشي عليه، فهل بلغت هذا المبلغ؟ وهل عندك علم بلغت به أعالي المراتب فأجبت به عن المسائل وحللت به المشكلات والنوازل حتى بلغت الغاية والتفوق، حتى تغتر بما أنت فيه؟ أي شيء عندنا حتى نغتر؟ جهل وإسراف وبعد عن الله جل وعلا إلا أن يرحمنا الله برحمته، ومع ذلك يعد الإنسان نفسه وكأنه أصلح الخلق، إذا أطلق لحيته وقصر ثوبه وصلى في المسجد فكأنه إمام زمانه علماً وصلاحاً وورعاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون! فإن العبد يحرم البركة في إخلاصه واستقامته والتزامه بعجبه بنفسه، فلا تغتر ولا تعجب، قال مطرف رحمه الله: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً] أبيت نائماً وأصبح نادماً؛ لأن الله بالندم يبلغه درجة العامل، أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً، وكم من عبد أعجب بنفسه حتى مكر الله به وبعلمه، ويعجب العالم فينزع الله من القلوب حبه، يعجب العالم فينزع الله من القلوب الثقة في كلامه ويصرف وجوه الناس عنه، ويعجب طالب العلم فيمحق بركة العلم وخشوع العلم، فلا يجد لعلمه أثراً على عامله وصلاحه -نسأل الله السلامة والعافية- العجب لا خير فيه، وإذا أردت أن تتخلص من هذا العجب فدعوة صادقة من الله جل جلاله، كل الأمراض -أمراض القلوب وأمراض الأجساد- أول شفاء ودواء لها أن تقول: يا رب وأن تقول: اللهم، من قلب لا يعرف أحداً سواه، تسأل الله أن يعافيك وأن يشفيك، بمجرد أن تصلي فوجدت أنك أعجبت بصلاتك، أو ذكَّرت الناس فأعجبت بتذكيرك، أو وعظتهم فأعجبت بوعظك، فابكِ لله وقل: اللهم إني أسألك ألا يحبط الشيطان عملي فأكون من الخاسرين، اللهم انزع من قلبي العجب بعمل عملته فيما بينك وبينه. سل الله أن ينزع من قلبك العجب. الأمر الثاني: النظر إلى الصلحاء وقراءة سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم، كثير من الشباب يغتر لأنه ينظر إلى واقعه وقل أن يجد من هو على الكمال والجلال، فليقرأ في سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم حتى يعرف منزلته، وليقرأ في أخبار العلماء والصلحاء حتى يعلم أين هو، فهذه من الأمور التي تعين على احتقار الإنسان نفسه. أما الأمر الثالث: فإن الأعمال ولو صلحت ولو كانت من أحب الأعمال إلى الله فالعبرة كل العبرة على القبول، قد تجلس من طلوع الفجر إلى أن يغلق المسجد في العشاء وأنت تتلو كتاب الله ولا يتقبل الله منك حرفاً واحداً، هل تستطيع أن تقول: لا؟ {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه} [الرعد:41] ولذلك هذا الذي أهم السلف الصالح رحمة الله عليهم، فكانت قلوبهم منكسرة لله عز وجل، يحملون هم القبول: قد آلم القلب أني جاهل ما لي عند الإله أراض هو أو قالي وأن ذلك مخبوء إلى يوم اللقاء ومقفول عليه بأقفال ما أحد يعلم من المقبول ومن المحروم، كان علي رضي الله عنه إذا كانت آخر ليلة من رمضان صاح وبكى وقال: [ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه ومن هو المحروم فنعزيه] وكان ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاه يقول: [لو أعلم أن لي صلاة واحدة مقبولة لاتكلت] ولا يستطيع ملك مقرب ولا نبي مرسل أن يعلم أن الله تقبل، إلا إذا أطلعه الله جل جلاله، ما أحد يعلم، المدار على القبول، ربما عقوق والديك يحجب عنك القبول، وهذا ذكره العلماء رحمهم الله واستنبطوه من الآية التي ذكرناها في البر وقال الله عقب البر: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف:16] فما يدريك فلعل كلمة أسخطت والديك أو عققت بها والديك حجبت عنك قبول عملك أو صلاحك أو عبادتك، فإذاً الإنسان مداره على القبول، فالإنسان لا يغتر بالعمل وإنما يفوض أمره إلى الله. الأمر الخامس الذي يعين على احتقار العمل: أن تنظر إلى نعم الله التي تغدق عليك في الصباح والمساء، التي تغدق عليك آناء الليل وأطراف النهار وأنت ترفل فيها، ما الذي يقدم في جنب هذه النعمة، انظر إلى عينك هذه التي حفظها الله لك، ويدك وسمعك وبصرك، وهذه الرحمة الإلهية التي لطف الله عز وجل بها بجوارحك وأركانك حتى وقفت على قدمك وحتى مشيت بها إلى المسجد، وانظر إلى رحمة الله بك يوم صرف عنك الفتن والمحن، وقد كان بالإمكان ألا تقرب مسجداً لذكر الله وطاعته، والله لو شاء الله ما خطت ولا وقعت قدم أحدنا في بيت من بيوته إلا رحمته سبحانه لا إله إلا هو، ما نحن بشيء تحت رحمة الله جل جلاله، فلا تغتر رحمك الله، بأي شيء تغتر؟ فالإنسان تحت رحمة الله، وفي حديث العابد أنه لما قال الله له: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: لا، بعملي -والقصة معروفة- فأمر الله أن توزن نعمة البصر -نعمة البصر فقط- فرجحت بأعماله الصالحة في عمره كلها، ومع ذلك بقيت لها فضل على هذه الأعمال الصالحة، فقال: أَدخلوا عبدي الجنة برحمتي، نحن لسنا بشيء يا إخوان، نحن تحت رحمة الله جل جلاله، ومهما عملنا وقلنا، فالمنة والفضل كله لله، نقول: الحمد لله والفضل كل الفضل لله جل جلاله، يقول لنبيه أشرف الخلق وأفضلهم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113] المنة لله والفضل كله له، وقف صلى الله عليه وسلم يوم حنين وقد قسم الغنائم فأعطى غير الأنصار وحرم الأنصار، فقالوا: أيعطيهم وسيفونا تقطر من دمائهم؟ فقال: اجتمعوا لي، فاجتمعوا وقال: ما مقالة بلغتني عنكم؟ قالوا: يا رسول الله، أما سفهاؤنا فقالوا: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ وأما ذوو الحلم فما قالوا إلا خيراً، وكانوا قوم صدق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أو قد وجدتم لعاعة من الدنيا يا معشر الأنصار؟! -يخاطبهم وهم لوحدهم ليس معهم أحد من غيرهم إلا النعمان بن أختهم- قال: (يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم تكونوا متفرقين فجمعكم الله بي؟! ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله بي؟! فبكوا وقالوا: المنة لله، ثم قال: ولو شئتم لقلتم، ولو قلتم لصدقتم وصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وخائفاً فأمناك، فبكى الصحابة رضوان الله عليهم، وقالوا: المنة لله) ما قالوا: لنا المنة ولا اغتروا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: المنة لله، ردوا عليه صلوات الله وسلامه عليه وهو يقول: (ولو شئتم لقلتم ولو قلتم لصدقتم وصدقتم قالوا: المنة لله) العبد الصالح يجعل المنة كلها لله، فالغرور بلاء وشقاء يغتر به الإنسان حتى يكون من الهالكين، نسأل الله العظيم أن يكسر قلوبنا لوجهه الكريم، وأن يصرف عنا منكرات الأخلاق إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم لبس المرأة للثوب الضيق والكم القصير وكلمة في تربية الأبناء

حكم لبس المرأة للثوب الضيق والكم القصير وكلمة في تربية الأبناء Q ما حكم لبس الثوب والكم القصير أمام النساء، وكذلك الثوب الضيق، ثم نريد كلمة في تربية أبنائنا تربية إسلامية، وترسيخ الدين في أذهانهم، وفقكم الله؟ A أما بالنسبة للمسألة الأولى: فقد شاع وذاع بين النساء لبس هذا القصير، ونسأل الله بعزته وجلاله في هذا المكان الطيب الطاهر المبارك أن يذهب هذه العادة الممقوتة التي لا خير فيها، اللهم بعزتك وبجلالك نسألك أن تهدي قلوب النساء وأن تصلحهن وأن تنزع من قلوبهن هذا المرض العظيم، كشف المرأة عن ساقها وفخذها، والغريب أن بعض اللاتي يدعين العلم -نسأل الله السلامة والعافية- يحتج بعضهن: بأن العلماء رحمهم الله يقولون: عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل. هذا صحيح، ولكن الآن لو أن رجلاً دخل علينا وهو لا يلبس إلا سروالاً قصيراً وفنيلة إلأى نصف كمه، تسقط عدالته بإجماع العلماء، وترد شهادته؛ لأن هذا الفعل ينبئ عن ضعف عقله -والعياذ بالله- وأنه قدوة سيئة، ليس في الإسلام فقط الواجبات، هناك الكمالات، وهناك العرف والحياء الذي ينبغي للإنسان أن يصونه عما لا يليق، صحيح هذا الأمر ذكره العلماء، لكن ذكروا ضابطاً له عورة المرأة مع المرأة، إذا كان الأمر هو وجود عرف وضوابط فالإجماع منعقد على أن العادة محكمة، والله ردنا إلى العرف، فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] وأجمع العلماء على أن أمور اللباس والهيئات مردها إلى الأعراف بشرط ألا تعارض شرع الله، فكيف إذا وافقت شرع الله، المرأة التي تلبس إلى نصف ساقها، في هذا المجتمع المعروف بالمحافظة والالتزام والحياء والخجل ذاهبة المروءة -والعياذ بالله- ساقطة العدالة، وينطبق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فلو كانت تستحي وفيها مروءة ما فعلت هذا، ففعلها هذا يدل على ضعف العقل -نسأل الله السلامة والعافية- قال بعض العلماء: ضعف المروءة مقرون بضعف العقل. فالمرأة التي تفعل ذلك لا عقل عندها، لأن العقل يعقل -وسماه الله عقلاً، وسماه حجراً؛ لأنه الذي يعقل الإنسان ويحجره، أي: يمنعه عما لا يليق به- فإذا نزع هذا النور -نسأل الله ألا ينزعه منا ومنكم- أظلم صاحبه فأصبح يتخبط خبط عشواء -أعوذ بالله- إذا جلست المرأة كاشفة لساقيها في مجمع النساء، هل يرضيك لو رأيت أمك بهذه الصفة؟ أمَّا أن تنعم عينك بأن ترى أمك بهذه الصفة كاشفة عن فخذيها بين النساء فهذا تهتك وانحلال، نسأل السلامة والعافية، ونعوذ بالله عز وجل من هذه الأخلاق الرديئة التي دخلت على بيئة المسلمين. فينبغي على النساء أن يتناصحن، وأن يأتمرن بأمر الله عز وجل، وأن يتقين الله جل وعلا، يتقين الله في البنات، ويتقين الله في النشء، فإن النشء يتأثر، إذا نشأت المرأة نشأت وأمها تحتجب حتى في البيت تستحي بعض الأحيان إلى عهد قريب، بل لا زال من النساء الصالحات من تستحي أن تكشف شعرها لولدها، إي والله من النساء صالحة تستحي أن تكشف شعرها لولدها، ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن المرأة تكشف ساقها لأخيها ومحرمها، وساعدها كذلك، قال: أخاف عليها الفتنة، مع أنه محرم، وبذلك لا ينبغي إحداث هذه القدوة السيئة، وهذه الصور التي تدل على ضعف العقل، ينبغي المحافظة على الأخلاق الكريمة وصيانتها والدعوة إليها، والتحبيب فيها، والحرص كل الحرص على هذه الأخلاق الطيبة التي جعلها الله في الناس على فطرهم، فهذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فنسأل الله العظيم أن يهديهن وأن يصلحهن، وأن يزيل عن هذا المجتمع الطاهر هذه المنكرات والأخلاق والأدواء إنه ولي ذلك والقادر عليه. أما الثوب الضيق فلا يليق بالمرأة، ضيق الله عليها كما ضيقت ثوبها، المرأة التي تضيق ثوبها ماذا تريد أعوذ بالله -نسأل الله السلامة والعافية- فالمرأة تفكر، هذه امرأة مثلها، ماذا تريد بلبس الضيق؟ ما تريد إلا تشبهاً بكافرات -والعياذ بالله- أو عاهرات فاجرات -نسأل الله السلامة والعافية- هل هذا من صنيع الصالحات أن تلبس المرأة لبساً ضيقاً أمام أخواتها من النساء؟ ماذا تريد؟ المرأة تتزين لزوجها، تتزين لبعلها، أما لأخواتها فتتزين بالمعروف، ولذلك لبس الضيق يعتبر أقل ما فيه كما قال العلماء رحمهم الله أنه ككشف العورة؛ ولذلك الآن الذي نشأ بين بعض النساء لبس هذا اللباس الذي هو العباءة المفصلة، اليد على حدة، وغيرها على حدة هذا لا يجوز؛ لأنها إذا فصلت يدها على حدة عرف جرمها، وتحدد الجرم، لكن لو لبست عباءتها، ما عرف شيء من تفاصيل جسمها، بل كان بعض العلماء يقول: لا يجوز للمرأة أن تجعل عباءتها على عاتقيها؛ لأنها إذا جعلت غطاءها للرأس عرف حجم رأسها، والمرأة تفتن بكل صورها، ولكن انظر إليها وهي في عباءتها قد وضعت عباءة على رأسها لا ترى فيها شيئاً، وتحس أنك أمام امرأة، ولية لله جل جلاله، تخاف الله وتراقبه، وتتقي الله في عباد الله المؤمنين، والعكس بالعكس، نسأل الله العافية والسلامة. أما تربية الأبناء فجماع الخير في تقوى الله، الابن تربيه بأمرين: الأمر الأول: القول السديد والنصيحة الهادفة، أن يكون قولك سديداً، دائماً تعاهده بالنصيحة في المواطن والمواضع المؤثرة، وحببه في طاعة الله، واغرس في قلبه محبة الله ومرضاته، وذلك قربة وحسبة، هذا أول شيء في لسانه، الشيء الثاني: في جوارحك وأركانك قدوة حسنة توجدها لهذا الابن الصالح، تأمره بالبر فإذا بك أبر الناس بوالديك، تأمره بصلة الرحم وإذا بك أنت الذي تصل الرحم، وتأخذه إلى صلة الرحم وتعويده على الخير بالقدوة الصالحة، الأبناء يتأثرون بالآباء، والبنات يتأثرن بالأمهات، ولذلك حق على الآباء والأمهات التربية الصالحة بالقول والعمل، وذلك كله لا يكون إلا بعد توفيق الله، والأخذ بالأسباب الصالحة، إن وجدته مع الصالحين ثبته وشجعته وأعنته، وإن وجدته مع غير أولئك سحبته وحذرته وخوفته وقرعته، إن أساء ذكرته بالله، وإن أحسن شكرته وثبته على طاعة الله، وبذلك تنعم عينك بذرية صالحة، رفعت الأكف إلى الله من أنبياء الله أن يرزقهم الأبناء الصالحين: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] كان هذا من دعاء الأخيار والأنبياء، وذكر الله عز وجل عن عباده الصالحين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] لأن العيون تقر عندما ترى ابناً صالحاً يحدثك، وقد يكون أصلح منك، فتقول: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعبد الله لا يشرك به شيئاً، الحمد الله الذي أخرج من صلبي من يسجد لله لا يسجد لأحد سواه، والله تعالى أعلم.

حكم تزين كبيرة السن بالكحل والطيب وغيره أمام الأجانب

حكم تزين كبيرة السن بالكحل والطيب وغيره أمام الأجانب Q أنا امرأة أبلغ من العمر خمساً وخمسين سنة، وألبس البرقع والحلي، وأضع الكحل في العينين، وأضع الطيب وأخرج إلى الأسواق أو إلى المسجد وأنا بهذه الحال، فهل هذا أمر يجوز أم أنا من القواعد؟ A يا أمة الله، اتقي الله عز وجل في جمالك، واتقيه في وجهك ولو كنت بهذا السن، إن الله أباح لك عند الكبر أن تكشفي للنظر، أما أن تتبرجي بالزينة فيأبى الله ويأبى عباده الأخيار، فتنة للناظر وفتنة للمنظور، فاتقي الله -يا أمة الله- وأنت خارجة إلى بيوت الله ومساجد الله أن تفتني عباد الله، فلكل ساقطة لاقطة، فاتقي الله عز وجل، لا يجوز لك أن تضعي الكحل على العينين، ولو أُذن لك بكشف العينين للحاجة؛ لأن كبيرة السن يضعف بصرها وتقل الفتنة فيها، فلذلك جاز لها أن تضع عن عينها الحجاب من أجل الحاجة، وليس من أجل أن تفتن نفسها وتفتن عباد الله، فاتقي الله يا أمة الله وتوبي إلى الله مما تصنعين، أما الطيب فإنه حرام ويعتبر على النساء من الآثام؛ لأن المرأة إذا مرت على الرجال فشموا طيبها نظروا إلى مصدر الطيب ففتنوا بالنظر إلى المرأة، ولو كانت عجوزاً في آخر عمرها، إن وضع الطيب للنساء إنما هو ما خفي ريحه وبدا لونه، والطيب للرجال ما بدا ريحه وخفي لونه، فهذه هي السنة المأثورة والمعروفة المشهورة، فكوني على السنة، وابتعدي عن الفتن والمحن خير لك في الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

أكثر ما يكون الثبات والأجر عند الفتن والإيذاء

أكثر ما يكون الثبات والأجر عند الفتن والإيذاء Q أنا شاب كنت ضالاً فهداني الله، ولكن عندي أبٌ يرتكب بعض المعاصي، وتضايق كثيراً من التزامي حتى أنه إذا رأى معي كتاباً مزقه، ففي مرة من المرات كاد أن يمزق المصحف وحاول أن يدوسه بقدمه، فلما رأيت منه ذلك تركت الصلاة وابتعدت عن أهل الخير، ومنَّ الله عليَّ بشاب طيب زارني وناصحني، وأبشركم أني رجعت -ولله الحمد- إلى المساجد، فما نصيحتكم كيف أتعامل مع والدي؟ A أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدي والدك، أسأل الله العظيم أن يشرح صدره وأن ينور قلبه وأن يمنَّ عليه بالتوبة إليه، إن ما فعله أمر عظيم، ما فعله كفر وردة -والعياذ بالله- وإذا مات فإن الجنة عليه حرام -نسأل الله السلامة والعافية- أعوذ بالله من سخط الله، ونعوذ بالله من كل شيء لا يرضي الله. أخي في الله! الحمد الله الذي هدانا وهداك واجتبانا واجتباك فأهنئك بنعمة الله عليك، فقل من كل قلبك وفؤادك: الحمد لله، فإن الله يحب الحامدين، فاحمد الله على نعمته، ولولا أن الله يريد بك خيراً ما قيض من ينتشلك، وأسأل الله أن يجزي هذا الأخ كل خير، وأسأل الله أن يعظم أجره وأن يوفقه، ويوفق أمثالاً من هؤلاء الذين نشهد الله أن الأمة كلها خاسرة إلا أمثال هؤلاء: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فهنيئاً له هذا الفضل الذي وفقه الله له حينما كتب هدايته عليك، ثم أوصيك أخي في الله: أن تجعل الجنة والنار نصب عينيك، ولا عليك من سخرية الساخرين ولا استهزاء المستهزئين، فإن في الله عوض عن الخلق أجمعين: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27] كان موحداً حنيفياً على وجه الأرض يوم لا أحد سواه في قومه وعشيرته يؤمن بالله، فلما رأى هذا الإعراض منهم عن الله قال: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] فأعرض عنهم فعذبوه وآذوه، ثم انظر كيف يعامل ربك عباده الأخيار؟ ما خاب أحد عامل الله وصدق مع الله، بل إنه إذا صدق الله صدق الله معه، خرج من قومه وعشيرته، فأبدله الله الأرض المقدسة أرضاً أبرك وأطهر من الأرض التي كان عليها ثم فارق أباه فجعل الله في ذريته النبوة والكتاب إلى يوم الدين خلف من الله عز وجل، فاستعصم بالله وإياك أن تعيد الكرة، فبمجرد أن ترى من أبيك أو من قريبك الاستهزاء تضعف، فإن المؤمن قوي، المؤمن لا تزيده الفتن والمحن إلا ثباتاً وقوة وصبراً على طاعة الله جل جلاله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4] فنسأل الله أن يثبت قلوبنا بالتثبيت، إياك أن ترجع لها، وإياك أن تعود، فاثبت بتثبيت الله جل جلاله، ولو رأيته مزق المصحف فمزق من قلبك حبه، وانزع من قلبك ولاءه، واجعل حبك لله ولو كان أقرب الناس منك، ولو كان أباك أو أمك ولو كان أقرب الناس إليك، فعدو الله عدوك، وولي الله وليك ولو كان من كان من الخلق والناس، فكن مع الله صادقاً بصدقك. أولاً: أوصيك فيما بينك وبين الله ببغضه في الله لأجل عمله، والقلوب لا سلطان لأحد عليها إلا الله جل جلاله، فالله يحاسبنا على محبة أعدائه أو موالاة من لا يرضاه سبحانه وتعالى، القلب ليس لأحد عليه سلطان، فهذا لا تعذر فيه أباك، ولا تواليه ولا تحبه في الله جل جلاله، بل تبغضه في الله سبحانه وتعالى، وهذا البغض عمل قلبي يرفع الله به درجتك ويعظم الله به أجرك ويصلح به أمرك. الأمر الثاني: نصيحة صادقة، واهتداء بهدي الأنبياء والمرسلين واتباع للخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ذكره بالله جل جلاله، واغتنم أفضل الأوقات لتذكيره بالله، حتى تعذر إلى الله وتنفض من ثوبك ومن عهدتك المسئولية بين يدي الله جل جلاله، استشعر آناء الليل وأطراف النهار أن الله سائلك عنه، فالله سيسألك عن هذا الأب، فابذل كل ما تستطيع لنصحه، وله عليك فضل كبير بعد فضل الله عز وجل، فليكن من رد المعروف أن تهديه، ثم دعوة صادقة في دياجير الظلمات والسجود، ودعوة صادقة تخرجها من قلب مؤمن بالله جل جلاله إلى مقلب القلوب ومصلح الأحوال علاَّم الغيوب سبحانه أن يهديه، وقل: رب أسألك أن تنعم عيني فأرى أبي من الساجدين، وأن تنعم عيني فأرى أبي من المطيعين والمؤمنين المخبتين، وما ذلك على الله بعزيز، هو على الله هين، أمره بين الكاف والنون سبحانه وتعالى، والقلوب بين إصبعين من أصابعه، فاسأل الله فإن العطية من الله جل جلاله. أما الوصية الأخيرة: فاصبر على الأذى واحتمل لوجه الله جل وعلا، قال عروة بن الزبير: [والله ما قام أحد مقاماً لله فأهين فيه إلا أقامه الله مقاماً أعز منه وأكمل] فإذا أهانك في البيت فاعلم أن الله سيجعل لك يوماً تكرم فيه في هذا البيت، أهانت قريش نبي الأمة على الصفا حين دعاها إلى التوحيد؛ فجاء اليوم الذي تحته عليه الصلاة والسلام مائة ألف من أمته وأصحابه يحجون كحجه -صلوات الله وسلامه عليه- ووقف على الصفا فقال: الله أكبر، فكان أول ما قال: الله أكبر، بالأمس يهان على هذا الجبل، واليوم الأمة كلها تقول: ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بالأمس يقولون له: الصابئ والأبتر والكذاب، وحاشاه! واليوم يقولون: ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويقتتل الرجال والنساء حتى يرون شخصه ماذا يفعل من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فاعلم أن الله عز وجل يخلفك بخير، فإذا استهزأ بك فإن الله لا يستهزئ بك، وإن استخف بك فإن الله يجلك ويكرمك، وهذا الاستهزاء والسخرية التي تسمعها من إخوانك وأخواتك وأولادك وزوجك ما هي إلا حسنات تخط لك في دواوين الحسنات، فقر عندها عيناً، وارض عن الله لعل الله أن يرضيك، والله تعالى أعلم.

كيفية اكتساب الاستقامة

كيفية اكتساب الاستقامة Q فضيلة الشيخ كيف نكسب الاستقامة ونحافظ عليها؟ وجزاكم الله عنا خير الجزاء؟ A الاستقامة نعمة من الله جل وعلا لا يمكن أن تنالها إلا بدعوة صالحة، سل الله أن يجعلك من عباده المستقيمين، وأن يثبتك على ذلك إلى لقائه سبحانه وهو رب العالمين، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول في دعائه: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) سل الله أن يرزقك الاستقامة. ثانياً: أن تأخذ بالأسباب التي تعين على الاستقامة، وأعظمها وأجلها العلم النافع، فإن العلم النافع نور يستنير به الإنسان في طريقه إلى الله جل جلاله، اطلب العلم: فاحرص على مجالس العلماء، واحرص على محاضرات العلماء والدعاة إلى الله، واحرص على مجالس الذكر فإنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم، فلا تزال تجلس مع الصالحين حتى يبلغك الله فضلهم، ولعلك أن تكون خيراً منهم فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، الحرص على مجالس العلماء والأخيار من أعظم الأسباب التي تعين على الاستقامة، فكثير من الشباب -إلا من رحم الله- يستقيم، ثم يحس بظلمة قلبه وقسوته؛ لأنه كان في بداية أمره لا يسمع بمجلس ذكر إلا حضره، ولا يسمع بكلمة خير إلا أصغى إليها وفتح قلبه لها وطبقها بجوارحه وأركانه، فلما غير من حاله غير الله عنه، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. الأمر الثالث: جناحا سلامة تطير بهما إلى الله: خوف صادق من الله، ورجاء صادق في رحمة الله، فتربي قلبك على الخوف الصادق من الله جل جلاله، واستشعارك دائماً لعظمة الله وبطشه وهيبته، وأنك تحت رحمته جل جلاله. وأيضاً: حبك الذي هو الرجاء، وحبك لرحمة الله وشوقك إلى حلمه وعفوه وإحسانه ومنه وكرمه، فإذا حصل عندك الأمران: الخوف الصادق، والرجاء الصادق أمنت وسرت على نهج الله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، هؤلاء أهل الاستقامة يقول الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] يدعوننا رغباً فيما عندنا من الخير ورهباً من الوعيد، وما عندنا من العذاب والنكال: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:47 - 48] خوف من الله جل جلاله، والاستشعار لظلمات القبر، وهول البعث والنشر، وزلات الصراط، وهيبة سؤال الله جل جلاله يوم القيامة، فإذا استشعرت هذا الخوف نقلك إلى الطاعات وجعل أخلاقك حميدة وسيرتك سوية مستقيمة، كلما دعتك نفسك الأمارة بالسوء حبسها ومنعها الخوف من الله جل جلاله، وشوقها -إذا حصلت منها السآمة والملل في طاعة الله- إلى نعيم الله ورحمته، فالدعاء وغشيان حلق الذكر والخوف الصادق والرجاء الصادق في الله جل جلاله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] فاحرص رحمك على هذه الثلاث الخلال، أسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده المستقيمين. والله تعالى أعلم.

حالنا مع القرآن

حالنا مع القرآن إن الناظر في حال المسلمين اليوم مع القرآن ليرى العجب، فالكثير منهم عند قراءة القرآن ينثره نثر الدقل، كما قال ابن عمر: فلا يفرق بين أمره وزجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، بخلاف حال السلف رضوان الله عليهم، فإن حالهم مع القرآن حال تفهم لما أريد من خطاب الله الموجه إليهم.

أهمية الاعتناء بكتاب الله

أهمية الاعتناء بكتاب الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فاختصار للوقت لم أرد أن أدخل مع الشيخ محمد حفظه الله فيما ينبغي من الأسبقية للمتكلم، وفضلت أن أبدأ بكلمة موجزة قصيرة، حتى يتيسر لكم الانتفاع بما عنده جزاه الله خيراً، ونفع الله به ومنه، ووفقنا الله وإياكم جميعاً للعمل بما نقول وبما نسمع، وجعلنا الله وإياكم هداة مهتدين، وزادنا وإياكم هدىً وخلقاً وتوفيقاً وعلماً وتواضعاً. آمين. إخواني! إن من أهم الأمور التي يجب علينا جميعاً أن نعتني بها القرآن الكريم كتاب الله عز وجل، إن القرآن الكريم من أهم الأمور التي يجب علينا الاعتناء بها حفظاً وتلاوة، وفهماً وتدبراً وعملاً وتحاكماً واستشفاءً، وإنا لم نعد نخشى اليوم قلة الحفاظ بقدر ما أصبحنا نخشى عدم التدبر في كتاب الله عز وجل، وفهم ما أريد به وهو خطاب ربنا سبحانه وتعالى الموجه إلينا، وعندما نتأمل حديث ابن عمر رضي الله عنهما في المستدرك بسند على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي رحمهم الله تعالى، نرى أن من أخبر عنهم ابن عمر في زمانه من المقصرين في حق كتاب الله عز وجل، لا يمكن أن يكونوا أولى منا وأحرى وأجدر بأن يوصفوا بالمقصرين الذين حولوا ما أريد بكتاب الله عز وجل إلى مجرد الترداد والتلاوة من غير تأمل ولا تفهم ولا تدبر، ليسوا أولى منا ولا أجدر بأن يوصفوا بالمقصرين. وإن كان هذا قد روي في عصر ابن عمر، في أوائل عهد التابعين الذين هم أفضل هذه الأمة بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمما لاشك فيه أن مضي السنين وتصرم الأعوام يفضي بمن يأتي بعد الزمان الأول إلى حال أشد وعورة وأشد خطورة، فنعيذ أنفسنا وإياكم بالله عز وجل من أن نكون واقعين تحت طائلة هذا الكلام الذي سأذكره سريعاً. قال ابن عمر رضي الله عنهما: [كنا نؤتى الإيمان، ثم نؤتى القرآن، فإذا نزلت السورة تعلمنا حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده كما يتعلم أحدكم السورة من القرآن] الإيمان ثم القرآن، وحالهم مع القرآن حال تفهم لما أريد من خطاب الله عز وجل الموجه إليهم يتعلمون الحلال والحرام، وما ينبغي أن يوقف عنده كما يتعلم الشخص منا تلاوة سورة من السور ليحفظها، قال ابن عمر رضي الله عنهما: [ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن فيقرأه من فاتحته إلى خاتمته، لا يدري أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، ينثره نثر الدقل]. كما يبعثر الواحد منا ويرمي التمر الرديء، ولا يحفل ولا يعبأ به ولا يبالي به، كذلك هذا الذي لا يدري أمره ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده، وهكذا ينتقل من سورة إلى أخرى. وكما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: كيف يمكن لمن يتعامل مع القرآن على النحو والوجه اللائق أن يكمل ختمة، بل كيف يمكن أن يجوز آية إلى غيرها إلا بصعوبة ومشقة؟ إذا كان يعطيها حقها من الفهم والتدبر، وتنزيلها على أدواء قلبه، كيف يمكن أن يجوز آية إلى آية أخرى؟ وكذلك من قام يصلي لله عز وجل، إذا أعطى الركعتين اللتين يصليهما قلبه وخشوعه وحضوره وتركيزه إلى آخره. كيف يمكن أن يتجاوز ركعتين إلا بمشقة وجهد؟ فإذا غفل عن ذلك عد الركعات بلا حساب، فهكذا يبين لنا ابن عمر رضي الله عنهما أن من الناس من حاله مع القرآن حال من ينثر الدقل، ينثر القرآن كما ينثر الدقل، وبسبب هذا الجهل بكتاب الله عز وجل ترى فينا -وما أبرئ نفسي- خللاً في الظاهر وفي الباطن، في الباطن خلل في النيات والمقاصد وأحوال القلوب، وفي الظاهر خلل في الآداب وما ينبغي أن يقف الإنسان عنده من الآداب الشرعية، خلل في الظاهر والباطن؛ لأننا لم ننزل أدوية القرآن على أدواء الباطن والظاهر. ولهذا صار كل الناس يشكون من بعضهم البعض، يشكون من المعاملات، يشكون من التصرفات، يشكون من القسوة ومن الغفلة، ومن الغلظة والجفاء؛ كل هذا لأن القلوب لم تعرض أدواؤها على أدوية القرآن، ولم ينزل دواء القرآن على هذه الأدواء.

تتبع القرآن والسنة لأمور الجاهلية وذمهما لها

تتبع القرآن والسنة لأمور الجاهلية وذمهما لها القرآن والسنة يتتبعان أمور الجاهلية، ويشنعان على الجاهلية وأمورها وفاعليها، ويذمان ويقبحان الجاهلية وأمورها وفاعليها، ويحذران من ذلك، فتجد القرآن الكريم في سورة آل عمران في الآية الرابعة والخمسين بعد المائة، يذم من يظن بالله غير الحق ويسميه ظن الجاهلية، كما أخبر عمن ظن بالله كذلك في غزوة أحد، فقال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً منْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]. وتتبع القرآن أمراً من أمور الجاهلية في سورة الأحزاب في الآية الثالثة والثلاثين، فقال سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وتتبع أمراً آخر من أمور الجاهلية وهو الظهار، وإن لم يصفه في سورة المجادلة بإنه من أمور الجاهلية، لكن أخبر العلماء أن هذا الأمر كان معروفاً في الجاهلية، ولكن شنع القرآن عليه، وذمه وقبحه في سورة المجادلة فقال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2] في الآية الثانية من سورة المجادلة. وذكر حمية الجاهلية في سورة الفتح في الآية السادسة والعشرين، وأنه لا يجعلها في قلبه إلا الذين كفروا، أما المؤمنون فجهادهم في سبيل الله عز وجل، لتكون كلمة الله هي العليا، فقال سبحانه وتعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الفتح:26]. وتتبعت السنة أمور الجاهلية، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وحذر من ازدراء الناس واحتقارهم وانتقاصهم، حتى قال لـ أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه السابق إلى الإسلام من السابقين، قال له يوماً لما عير رجلاً بأمه: [يا ابن السوداء!] قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه القدم الثابتة الراسخة في الإيمان، وما أمضاه من سنين في البلاء الحسن، قال له: (إنك امرؤ فيك جاهلية). وعلى هذا فكم من رجل وامرأة منا حريون بأن يقال لهم: إنكم أناس فيكم جاهلية؛ لأننا قد بعدنا أشد البعد وأعظمه من عرض أدوية القرآن على أدواء قلوبنا ولسنا كـ أبي ذر، ومع ذلك فلتت من أبي ذر هذه الفلتة التي عوض عنها وداواها بأن وضع خده على الأرض، وأمر من قال له: [يا ابن السوداء!] ويقال: إنه بلال، ويقال: غيره، وأمر هذا الشخص الذي عيره بأن يطأ خده بقدمه، لكي يتخلص تماماً من أمر من أمور الجاهلية أخبره المربي الأعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما يزال فيه. أمور الجاهلية الكثيرة التي فينا لا خلاص لنا منها إلا بأن نقرأ القرآن الكريم قراءة فهم وتدبر ووعي، ولأن يفهم الواحد منا في هذا الزمان سورة من سور القرآن الكريم فهماً صحيحاً سليماً بكل ما فيها من حلال وحرام، وما ينبغي أن يوقف عنده لعل هذا يكون أبرك وأعظم أثراً على النفس وعلى الأفراد والمجتمع، من أن يقول المرء: أنا من حفاظ القرآن الكريم، ثم تراه بعد ذلك يتصرف تصرفات يقال له فيها كما قال الشيخ عبد الرحمن العشماوي جزاه الله خيراً: إيه يا حافظ القرآن أجبني أو هذا بالحافظين يليق نعم، لا نريد أن يقال للحفاظ هذه الكلمة، ولو بين الإنسان وبين نفسه، لا نريد أن يقول أحدٌ بينه وبين نفسه: إيه يا حافظ الكتاب أجبني أو هذا بالحافظين يليق إذاًَ فلو تدبر الواحد منا سورة واحدة تدبراً كاملاً، وعرف ما أريد فيها من خطاب الله عز وجل، وما أريد بالآيات أبرك وأعظم أثراً من أن يجمع سورة إلى سورة، وهو من التأدب بأدب القرآن بعيد، ومن عرض أدوية القرآن على أدوائه بعيد، هو في شق والقرآن في شق. وكذلك أقول في حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من اعتنى بها قولاً وفعلاً وتقريراً، وبتدبر وفهم وإخلاص وإيمان تخلص من هذه الجاهلية التي اشتد أمرها فينا، واشتد أثرها علينا. نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للعمل بهذه الكلمة التي فيها من القصور ما فيها، لكن يكفيني ويكفيكم أن نستفيد زبدتها، وأن نذكر خلاصتها، وهو ما ينبغي من تغير حالنا مع القرآن والسنة من مجرد حفظ وتمتمة وترداد وتلاوة، إلى حرص شديد أكيد على الفهم والتدبر، وهذا يتطلب منا ويقتضي أن نلم بالأدوات التي تعيننا على ذلك، ولهذا ليس لأجل وجود أخينا الفاضل الشيخ محمد حفظه الله، بل هذا أمر كان في غيابه كنا نتذاكر أحوال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، وما كان له من التمكن، والشيخ محمد المختار رحمة الله عليه في القرآن الكريم، فقال أحد الذين درسوا عليهما في المدينة: إن هذا كان بسبب التمكن من اللغة، وأوجه القراءات، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصول، فهذه الأدوات يجب على كل طالب علم يريد أن ينفع نفسه ومجتمعه أن يأخذ منها بطرف بحسب الطاقة. وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجمعنا وإياكم بالسابقين من المخلصين الصالحين في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.

القرب من كتاب الله تعالى وأنه سعادة الدارين

القرب من كتاب الله تعالى وأنه سعادة الدارين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فجزى الله فضيلة الشيخ كل خير على حسن الاختيار لهذا الموضوع الذي لا يمكن للأمة أن تسعد إلا به. إن البعد عن كتاب الله، والغربة عن هذا النور المبين، وهذا الصراط المستبين هو شقاء هذه الأمة، والقرب والدنو منه، والعمل بآياته، والتأثر بعظاته، والوقوف عند حدوده وزواجره، هو سعادة الدارين وهو فلاحهما، هذه الصفة العظيمة وهي التأثر بكتاب الله عز وجل، منحة ربانية، وعطية إلهية، اختار الله لها أمة صالحة، وسلفاً صالحا، صلحت أعمالهم لما كانوا رهبان الليل بكتاب الله، وظمئوا هواجرهم حينما تقرحت قلوبهم من آيات الله. إن هذا الكتاب المبين عظيم الوقع في قلوب المؤمنين، هذا الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، وجد أرضاً طيبة، وقلوباً مستنيرة، تهيأت لسماعه، وتأثرت لعظاته، فشاء الله ما شاء لها، فكان الصحابي يسمع الآية من كتاب الله لا يقر قراره، ولا ترتاح نفسه إلا بالعمل والتطبيق، نظروا إلى كتاب الله فوجدوا أنه حبل من الله متين، وصراط من الله مستبين، فأيقنوا يقيناً لاشك معه ولا مرية ألا سعادة إلا بالتمسك به، والاعتصام بحبله، فحققوا ذلك قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً. فيا لله! من أمة عرفت كتاب الله، عاشت مع هذا الكتاب حينما يذكرها بالآخرة حتى كأنها تنظر إليها نظر عين، عاشت مع هذا الكتاب حينما أدبهم في القول والعمل، وفي الظاهر والباطن، حتى أدبهم رجالاً ونساء، ذكراناً وإناثاً، فأدب المؤمن في قيله وأدبه في حديثه، أدبه وهو في ثورة الغضب، وأدبه وهو في قمة الرضا، وأدب المؤمنة في ظاهرها وباطنها، حتى أدبها وهي ترفع قدماً وتضع أخرى. كتاب الله، وما كتاب الله؟ وهل شقيت الأمة إلا بالإعراض عن كتاب الله؟ وهل سعدت إلا في ذلك الزمان الذي احتضنت فيه هذا الكتاب المبارك، فعاشت معه العيشة الراضية الهنيئة الطيبة المباركة، التي وعد الله عز وجل بها أهل القرآن. لذلك -أحبتي في الله- كانت هذه الكلمات من فضيلة الشيخ تذكيراً لنا جميعاً أن نحيا مع كتاب الله، وحركت في القلب أشجاناً وأحزاناً لا يعلمها إلا الله، والله لا تفتح سيرة القرآن، ولا يذكر مؤمن بحق القرآن عليه، إلا تأثر والله عظيم الأثر، إن هذا المنهج وهذا الكتاب المبارك هو الذي بيننا وبين الله، من عمل به أحبه الله، ومن اعتز به أعزه الله، ومن أكرم هذا الكتاب أكرمه الله، ومن لم يرفع به رأساً، ولم يجعله في الأمور أساساً، فإنها الخيبة التي لا خيبة وراءها: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]. لذلك -أحبتي في الله- إذا أردتم أن تعرفوا سعادة المؤمن، وأراد المؤمن أن يعرف حياته من موته، فليحيي، وليذكر نفسه بتلك الحياة حينما يتساءل، أين أنا من كتاب الله؟ وكل شخص منا إذا أراد أن يعرف مقامه عند الله، فليعرف قدر القرآن في قلبه، وليعرف قدر هذه الآيات في فؤاده، إذا كان لها خاشعاً، ومن تلاوتها وسماعها دامعاً، فوالله قد حيي فؤاده، وعندها يكون للخير سباقاً، وللطاعة المرضية مشتاقاً. إن هذا الكتاب ما عرض عبد مؤمن حاله عليه إلا دمع تلك الدمعة الصادقة بحرارة من قلبه، كيف لا يدمع وآيات القرآن قد نسيت! وحدود الله التي بينه وبينه قد انتهكت! كيف لا يدمع على هذا الكتاب المبين والصراط المستبين، والله إنها للحسرة إذا قدم العبد على ربه، فوجد الأخيار والصالحين قد ملئت كفات حسناتهم بتلاوة هذا الكتاب، ووجدهم قد حازوا من الله رضواناً، ومحبة وصفحاً وغفراناً، وجاء صفر اليدين من كتاب الله، وجاء بعظيم الغربة والبعد عن كتاب الله عز وجل. يا أحبتي في الله! القرآن وما القرآن! الذي وصف الله عز وجل أثره، وأخبر وهو أصدق القائلين، ولا أصدق منه حديثاً، أنه لو نزلت هذه الآيات على الجبال لاندكت، ولو نزلت على الرواسي من خشية الله انهدت، فأين قلوبنا؟ أحبتي في الله! أين قلوبنا من هذا الكتاب العظيم الذي وصف الله أهل الإيمان الصادقين، أنهم يخشعون لسماعه ويبكون لآياته وعظاته {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]؟ فهذه هي صفات الأحبة الذين اجتباهم الله للقرآن، واختارهم لهذا الكتاب المبين، إنه الإمام الذي يهدي إلى الله، والسبيل الذي لا سبيل إلى الله بسواه، من كان مؤمناً صادقاً في إيمانه، فليجعل بينه وبين القرآن زماناً، ليجعل بينه وبين القرآن لحظات من يومه، وساعات من نهاره وليله، يعيش مع هذه الآيات، يعيش مع أهل الآخرة، إن كانوا في نعيم سمت روحه إلى ذلك النعيم، حتى كأنه ينظر إلى الجنة نظر عيان، وإن كان مع الآخرة في جحيمها وسعيرها، أفض قلبه من خشية الله، وحرك في القلب وازعاً يزعه عن حدود الله. لذلك إخواني في الله! لا سعادة إلا بالقرب من القرآن، ولا فلاح إلا بالقرب من كلام الرحمن، إنا لله وإنا إليه راجعون، طابت لنا أحاديث العباد، أليس الواحد منا إذا سهر ليلة تمنى أن يسهر مع أخ له يحبه؟ فكيف بمن آثر مرضاة الله على مرضاة العباد؟ أين أولئك الذين بلغ الواحد منهم أنه يقرعه ضيفه، يقول الحسن رحمه الله: [فيستأذنه وكأنه له حاجة في بيته، فيدخل يركع ركعات بين يدي ربه]. والله ما عظم شقاؤنا ولا عظم بلاؤنا إلا حينما لم نقدر لهذا القرآن قدره، وحينما أصبحت غربتنا شديدة عن القرآن، قال بعض السلف: [والله ما عرضت نفسي وقولي وعملي على كتاب الله، إلا اتهمتها بالنفاق] كانوا إذا قرءوا القرآن أحسوا أنهم هم المخاطبون بالقرآن، وأحس الواحد منهم أنه إذا جاءت المقرعة تقرع عاصياً عصى الله عز وجل عد نفسه ذلك الرجل، فبكى شفقة وخوفاً من عذاب الله وسطوة الله، ناهيك عن قيام الليل، وتلاوة هذا الكتاب في تلك الساعات التي هدأت فيها العيون، وسكنت فيها االجفون. فيا لله من أرواح طيبة! ويا لله من قلوب صادقة! عرفت كتاب ربها، وأدركت أنه لا سعادة ولا فلاح إلا به، وإنه للعجب أن تقرأ سيرة الصحابي الطاهر المبارك، فتجده قد ملئت صفحته جهاداً وجلاداً وصبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء، ومع ذلك يقوم بالآية يخشع لوجه الله عند قراءتها. أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، أنه أراد أن يقوم ليلة، فاستفتح تلك السورة العظيمة، التي أصبح يقرأها الصغير منا قبل الكبير، وهي تلك السورة العظيمة التي قل أن تجد صغير سن إلا وهو يستطيع قراءتها {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] قرأها رضي الله عنه وأرضاه، يريد أن يحيي ليلته بقراءة ذلك الجزء المبارك، وإذا به تخنقه العبرة، ويغلبه البكاء، حينما ذكر قول الله {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] تذكر أن الله وصف نبأ الآخرة بأنه نبأ عظيم، فما استطاع أن يجاوزها؛ لأنه يعلم من الذي يخاطبه، ويعلم من هذا كلامه، وأن الله تعالى إذا وصف الشيء بأنه عظيم، فلا عظيم فوق عظيم وصفه الله بعظيم، فحركت في قلبه الخوف والخشية، حتى أثر عنه رضي الله عنه أنه مازال يرددها إلى السحر بكاءً من خشية الله عز وجل.

السلف الصالح وعيشهم مع القرآن

السلف الصالح وعيشهم مع القرآن وكان السلف رحمهم الله يعيشون مع القرآن خشوعاً، ويعيشون مع القرآن عملاً وتطبيقاً، فكان الواحد منهم إذا ذكر بالآية من كتاب الله تذكر، وإذا بصر بالآية من كتاب الله تبصر، فكان حي الفؤاد، سليم القلب، يعيش مع القرآن بالعمل والتطبيق، كما يعيش معه بالقراءة والتفكر والتدبر. ولذلك قد يعطى الإنسان -أحد الثقلين- يعطى تفكراً وتدبراً، ولكن يحرم العمل، ومن الناس من يعطى العمل، ولكن يحرم بعض الخشوع والتدبر، فبعض الناس للخير سباق، ولطاعة ربه مشتاق، ولكنه لا يجد في قلبه الأثر في الخشوع، فتجد كثيراً من الأخيار الآن يقول: والله إني أحب الخير، وأحب طاعة الله من قلبي، ويعلم الله ذلك، ولكنني أقرأ القرآن، وأحس أني لا أتأثر بالقرآن، فهو مستعد للعمل مستعد للتطبيق، ولكن الله حرمه الخشوع. فأسعد العباد في القرآن من جمع الله له بين الخصلتين، وأصابت كلا الحسنيين، فكان متأثراً بالقرآن، إذا سمع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] تحرك فؤاده وقلبه، وقال بلسان حاله ومقاله: لبيك رباه! لبيك سيدي! بماذا تأمرني؟ حتى إذا جاءه الأمر قال: سمعا ًوطاعة، فلا يقدم قدماً على كتاب الله، ولا يؤخر أخرى عن كتاب الله ومرضاة الله، فهؤلاء هم أسعد العباد، الذين جمع الله لهم في القرآن بين التفكر والتدبر، وبين العمل والتطبيق. ما الفائدة إذا خشع الفؤاد من كلام الله، وخشع القلب لآيات الله، وإذا جاء العبد عند العمل تقاعس عن مرضاة الله، وأصبح يسوف في طاعة الله عز وجل؟ الخشوع الصادق والتدبر الصادق يحرك الوجدان إلى العمل، ويحرك القلب والقالب إلى التطبيق، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا جاءتهم الآية من كتاب الله حركتهم للعمل. جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: [يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] قال: يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو رب العالمين؟] سبحان الله! ما أحيا ذلك القلب، كم منا من يقرأ هذه الآية وما تحرك عنده هذا السؤال، الله ملك الملوك ومالك الملك، يقول لك: أقرضني، تحرك هذا السؤال لحياة قلب صاحبه، فقال: [يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟!] قال عليه الصلاة والسلام: (نعم ... ) أي: يستقرضنا؛ لأن ذلك موجود في كتابه، فقال: (نعم. يستقرضكم ليرفع من درجاتكم، ويكفر من خطيآتك). قال: [يا رسول الله! إن لي في المدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة هي أعز ما أملكه، أشهدك أنها لله ورسوله] ستمائة نخلة! ورد في الحديث عن علي رضي الله عنه أن الرجل كان يعمل في سقي الدلو بتمرة واحدة، فكيف بستمائة نخلة، ستمائة نخلة حياة عاش من أجلها يكافح ويجاهد حتى أصبح ثرياً يملك ستمائة نخلة، ومع ذلك هانت عليه بآية من كتاب الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] فنظر إلى أحسن قرض يقدم مما يملكه، وأعز ما يجده، وهو هذا البستان الذي يحيا به، وتحيا به ذريته. فخرج رضي الله عنه وأرضاه إلى ذلك البستان، فوجد أم الدحداح قد جلست مع صبيانها تجمع ذلك التمر والرطب والبسر الذي تساقط من ذلك النخل المبذول لوجه الله، تجمعه لكي تستفيد منه، فقال لها رضي الله عنه يخاطبها شعراً: بيني -أي: اخرجي- من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي أقرضته الله على اعتمادي إلى رجاء الضعف في المعاد والبر لاشك فخير زاد قدمه المرء إلى التنادي فماذا قالت تلك المرأة الصالحة؟ تلك المرأة التي تعرف ربها وتحيا لطاعة خالقها، هل قالت: ضيعتنا، هل قالت: هدمت حياتنا؟ قالت له تخاطبه بما خاطبها: بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ومنح قد متع الله عيالي وفرح بالعجوة السوداء والزهو البلح والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح ثم ضربت أيدي صبيانها، وخرجت من الحائط بلا تمر. أين هذه القلوب المؤمنة؟ أين هؤلاء الذين يتحركون للقرآن؟ آية واحدة من كتاب الله حركت هذا الصحابي الجليل، لكي تجود يده في مرضاة ومحبة الله، إيمان وتصديق وثقة برب العالمين، ومحبة في سبيل مرضاة رب العالمين. أحبتي في الله! هذا حال سلفنا الصالح، ولماذا صلحت أيامهم؟ وبماذا صلحت أحوالهم؟ هل ذلك إلا بكتاب الله، والله ما حرك الأخيار للخير، ولا حرك الأبرار للبر، ولا حرك أهل الصلاح للصلاح شيء مثل كتاب الله، ولن تجد مؤمناً صادقاً في إيمانه وطاعته، تقياً براً عفيفاً صالحاً في القول والعمل، إلا وجدت كتاب الله يحرك فيه كل صغير وكبير، ويحرك فيه كل جليل وحقير، القرآن له أثر عظيم في القلوب، له أثر عظيم في تلك النفوس التي تقدره قدره، وتعطيه حقه، وتقف معه في عظاته وآياته وما يذكر به رب العالمين.

السبيل لكي نكون مع القرآن

السبيل لكي نكون مع القرآن إخواني! كيف السبيل لكي نكون مع القرآن؟ وكيف الطريق لكي نكون قريبين من القرآن؟ لنا مع هذا القرآن جفوة والله لا تليق بمؤمن يخاف الله ويرجو لقاءه، ليسأل كلٌ منا نفسه سؤالاً صادقاً، هل يقوم الليل بالقرآن؟ وإذا قام ما الذي يقرأه في قيام الليل؟ فإن كان وجد خيراً فليحمد الله، وإن لم يجد غير ذلك فليبك على نفسه، ووالله المحروم من حرم الخير، فإذا وجد نفسه أن له من كتاب الله حظاً يقوم به في الليل، فليسأل نفسه: هل ازداد من هذا الحظ؟ فرضنا أنه يقوم بجزء، هل فكر أن يقوم بجزأين؟ هل يفكر أن يقوم بثلاثة؟ هل فكر أن يقوم بأربعة بخمسة إلى عشرة؟ عله أن يصيب ختم القرآن في كل ثلاث مرة، هل حاول الإنسان أن يسأل نفسه هذا السؤال؟ والله أمر يسير على من يسر الله، جرب ولو يوماً واحداً بعد صلاة العشاء بدل السهر في اللغط وفضول الأحاديث، خذ كتاب الله عز وجل، إن كنت حافظاً فاقرأ جزءاً من القرآن، لا يأخذ منك ربع ساعة، أحياناً قد يأخذ إذا كان الإنسان يتفكر ويتدبر ويقف مع الآيات، يأخذ معه ساعة والله تمر من ألذ ما يكون، تمر وكأنها لحظة واحدة من اللذة والسرور. فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار تعيش مع هذه الآيات ساعة كاملة وكأنها ثانية، ولكنها والله تغير من حياتك شيئاً كثيراً، وبعض الأخيار والله يوفق فيقوم الساعة، وتمر عليه آية واحدة من كتاب الله، ويلهمه الله التدبر فيها، وتبقى عظتها في قلبه ما شاء الله أن تبقى، فلذلك جرب بعد العشاء، إذا كنت لا تستطيع أن تقوم السحر فبعد العشاء مباشرة جرب، بدل أن يجلس الإنسان مع زيد وعبيد، بعد العشاء وقت يرتاح فيه لآخرته، يرتاح فيه لكي يبكي على ما فرط في يومه، وأسرف في جنب ربه.

السؤال عن معاني القرآن

السؤال عن معاني القرآن الأمر الثاني -إخواني في الله-: السؤال عن معاني القرآن: يحاول الإنسان إذا مرت به آية فيها عظة، وجلس مع إنسان من أهل العلم والفضل، وكان مع معشر أخيار، أو حتى من العامة يسأل عن هذه الآية، كنا إلى عهد قريب نجلس مع بعض العلماء، والله نجد من العوام بعض الأسئلة عن آيات في كتاب الله يشرحها بعض هؤلاء العلماء من مشايخنا، والله بعضهم استفدنا منه درراً وفوائد نسأل الله أن يجعله في ميزان حسنات من سأل. لذلك لا تبخل على نفسك بالخير، الناس كان عندهم حرص على تفهم آيات القرآن، تدبرها، معرفة معانيها ومراميها، وهذا هو المفتاح للتدبر؛ لأن الإنسان إذا سأل عن معنى الآية كشف له عن خبيئتها، فإذا كشف له عن معناها جاءت مرحلة التفكر وجاءت مرحلة التدبر، وإذا جاءت مرحلة التدبر جاء الأثر وهي الذكرى، ولربما يتبع هذا الأثر أثر العين بالدمع، وأثر القلب بالخشوع {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] جعلنا الله وإياكم منهم، وحشرنا وإياكم في زمرتهم.

الإكثار من تلاوة القرآن

الإكثار من تلاوة القرآن أول خطوة أن نكثر من تلاوة القرآن، وبإذن الله إذا كان الإنسان له ورد أو حزب معين يقرأه من القرآن كما ثبت في الحديث الصحيح مشروعية ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: (من نام عن حزبه من الليل) يقول العلماء: في هذا أصل على أن المسلم له أن يجزئ حزباً يقرأه من القرآن، حتى يستديم الطاعة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يحب من الطاعة ما كان ديمة وإن قل، كما ثبت في حديث عائشة الصحيح. إذا كان الإنسان حاول أن يستفتح ليله بهذا، وبعض الأخيار يقرأ الجزء، وإذا به قد ارتاحت النفس للجزء الثاني، وبعضهم يرتاح للثالث والرابع، ثم بعد فترة وإذا بك تأنس بالله عز وجل، وإذا بهذا القلب يحس أن هذه الساعة لا يمكن أن يفرط فيها، وإذا بالقلب يحس أن هذه الساعة التي كانت في أول يوم مثل الجبل إذا بها والله كغذاء الجسد، لو أنك فرطت فيها يوماً من الأيام أو ليلة من الليالي إذا بك تحزن، وتصبح وأنت متكدر الخاطر من فوات هذا الخير عليك. فلذلك أحبتي في الله! جربوا، والإنسان إذا كان عنده ورد من الليل يزداد، فالمؤمن لا يسأم من طاعة، ولا يبقى على قليل من الخير، بل هو دائماً في زيادة، ولذلك وصف الله أهل الخير والفضل بقوله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:61] فكن ممن سارع إلى الخيرات، وسابق إلى المرضاة، ونافس في محبة رب البريات.

أحق الناس بالقرب من القرآن والعمل به

أحق الناس بالقرب من القرآن والعمل به إخواني! هذا من طريق قربنا، لابد لنا من القرب من القرآن، وأحق من يكون من القرآن قريباً هم طلاب العلم، ولذلك كان طلاب العلم أشبه الناس سمتاً بالعلماء، وأقرب الناس هدياً للعلماء، وإذا رأيت العالم ترى أشبه الناس به طلابه، لماذا؟ لأنهم أقرب الناس من العلم والعمل، وأقرب الناس من أوعية العلم والعمل، ولذلك مثلهم كمثل العين المباركة الطيبة تجدها في الأرض الطيبة أخصب مكان منبعها، فأخصب مكان ينتفع من العين تجده المنبع إذا كانت أرضه طيبة، كذلك طالب العلم إذا كان قريباً من العالم، وعنده قلب وفؤاد صالح، فإنه أسبق الناس تأثراً وعملاً وتأسياً واقتداءً بذلك العالم. ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون، لما تغيرت أحوال طلاب العلم، وتغير حال كثير من طلاب العلم، جاءت النتيجة بالعكس، حتى والله إنا لنجد من بعض العوام تقديراً وإجلالاً واحتراماً لأهل العلم أكثر مما نجد من طلاب العلم، وهذه والله ثلمة ورزية طلاب العلم إذا أصبحوا أبعد الناس عن التأثر بالعلماء، وأبعد الناس عن العمل بالقرآن، كان علمهم وبالاً عليهم والعياذ بالله، فلذلك ينبغي أن نقف مع أنفسنا، هذا القرآن أحق من يتأثر به، وأحق من ينتفع به هم طلاب العلم، عجباً أن تجد طالب علم له إلمام بمعاني القرآن ومغازيه ومراميه وتفسير آياته، وبيان ما فيها، ومع ذلك تجده بعيداً عن التأثر بالقرآن، هذا من الشقاء والعياذ بالله. فلذلك إخواني في الله! ينبغي للإنسان إذا كان طالب علم أن يكون أسبق الناس للتأثر بالقرآن، وأئت بطالبي علم أحدهما عظيم التأثر بالقرآن، والآخر قليل التأثر بالقرآن، والله تجد بينهما في الخلق والأدب والقول والعمل كما بين السماء والأرض، تجد هذا لا يتكلم إلا بالقرآن، ولا يعمل إلا بالقرآن، وتجد هذا بينه وبين القرآن غربة لا يعلمها إلا الله. فلذلك إخواني! أحق من يتأثر بالقرآن هم طلاب العلم، وأحق من يكون قريباً من القرآن هم طلاب العلم، سبحان الله! تجد بعض العوام يتأثر بالقرآن أكثر من تأثر طلاب العلم، وتجد بعض العوام يدمع ويخشع للقرآن أكثر من دمع وخشوع طلاب العلم، هذه والله رزية -يا إخواني في الله- ينبغي على طلاب العلم أن يكونوا قريبين من القرآن. ولذلك على سبيل المثال مما نجده، وأقرب شاهد من أهم ما اعتنى به -كما ذكر فضيلة شيخنا حفظه الله الشيخ سعيد - مسألة تأديب القرآن لأهله، مسألة ترك خصال الجاهلية، من أعظم خصال الجاهلية التي وجدت فيهم في مسائل الاعتقاد -كما بين الشيخ- كذلك أيضاً مسائل الجهر بالسوء، هذا من شأن أهل الجهل والجاهلية. ولذلك من الجهل والجاهلية أن تجد الإنسان دائماً يلفظ السوء، هذا من دلائل الجهل والجاهلية، فإذا وجدت طالب العلم لا يراقب الله في لسانه، بعيداً عن مراقبة الله في قيله، يسب هذا ويشتم هذا، ما الذي يدل عليه؟ يدل على أنه أبعد الناس من كتاب الله، ولذلك تجد قول الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:148] عائشة رضي الله عنها لما قال اليهود: (السام عليك يا رسول الله! قالت: وعليكم السام واللعنة، قال: مه يا عائشة! إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) وهي ترد مظلمة، يقول لها: إن الله لا يحب الفحش والتفحش، من الذي قاله؟ قاله نبينا صلوات الله وسلامه عليه، لماذا؟ لأن خلقه كان القرآن، يريدها على الكمال، سبحان الله! ترد جاهلية وترد خطأ، يقول لها: إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش. فلذلك إخواني في الله! لابد أن نعيش مع القرآن، وصاحب القرآن إن تكلم تكلم بخير، ووجدت كلامه دائماً إما في ذكر أو شكر، وتجد كذلك أخلاقه وأقواله وأعماله مع القرآن، يحيا مع القرآن، إذا جاءه الأمر سأل نفسه: ما الذي قال القرآن؟ ما الذي يطلب القرآن؟ فيترسم هدي القرآن بألا يقدم على كتاب الله شيئاً. ولذلك عمر رضي الله عنه لما حصلت له القضية مع ذلك الرجل الذي جهل عليه رضي الله عنه وأرضاه، ونقم عليه أنه لا يعدل بين الرعية، ولا يقسم بالسوية، أراد عمر أن يبطش به، فقال له أحد الصحابة: [يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين] يقول الراوي: فوالله ما إن سمعها عمر حتى سكت، وكان وقافاً عن كتاب الله، عمر معروف بالغضب والبطش، أراد أن يبطش به يتهمه بدينه على أنه لا يعدل، ومع ذلك هم أن يبطش به، لكن كظم ذلك الغيظ من آية واحدة في كتاب الله، يقول: والله ما جاوزها، أي: ما إن سمعها حتى وقف عندها، هذا شأن أهل الإيمان، المؤمن إذا قيل له قال الله؛ أذعن واعترته الذلة لله تبارك وتعالى. وسبحان من حبب لتلك القلوب كتابه، وأدناها إلى طاعته ومرضاته والعمل بآياته وعظاته، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، نسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم ممن رحمهم وهداهم باتباعه، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا وهمومنا وغمومنا، وسائقنا وقائدنا إلى رضوانك وجناتك جنات النعيم إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين إباحة البنج وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخمر: (إنها ليست بدواء)

الجمع بين إباحة البنج وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخمر: (إنها ليست بدواء) Q بالنسبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها ليست بدواء، إنما هي داء) أو كما قال صلى الله عليه وسلم عن الخمر، الآن الأطباء يستعملون المخدرات خاصة بالتخدير الكلي، بما يسمى البنج، والعلة واحدة في ذهاب العقل، فكيف التوفيق بين إباحة البنج، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنها ليست بدواء؟ A إنه لا تعارض بين قوله عليه الصلاة والسلام: (إنها داء، وليست بدواء) وبين ما يعمل الآن من التخدير؛ لأن النص ورد في التداوي، والتخدير الموجود الآن ليس بتداوي، وإنما هو تسكين، وفرق بين تسكين الألم ومعالجة الألم، فالتخدير يسكن، ومعالجة الألم زوال السبب الموجب لذلك الألم، وبناءً على ذلك فإن من المشاهد أن المريض الآن إذا أعطي حبوباً مسكنة سكن عنه المرض، وهذا ليس بدواء، وإنما هو تخفيف وتخدير، وفرق بين التخدير وبين استئصال الداء، فالحديث في قوله: (إنها داء، وليست بدواء) مراده من ناحية استئصال السبب، أي: من ناحية تأثير الخمر في المرض، والخمر والمخدر ليس مؤثراً في المرض، وإنما هو موجب للخدر، وفرق بين الخدر وبين زوال الأثر.

معنى حرف "حتى" في قوله تعالى: (حتى زرتم المقابر)

معنى حرف "حتى" في قوله تعالى: (حتى زرتم المقابر) Q تكرر الحرف "حتى" المرة الأولى في سورة القدر والمرة الثانية في سور التكاثر، هل جاءت في سورة التكاثر بمعنى إلى؟ A أما آية التكاثر فسبب النزول يشير إلى أن المقصود بها: المبالغة في التشنيع عليهم، وهذا أقرب إلى قوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] يعني: حتى بلغ بكم الأمر إلى التفاخر بالأموات؛ لأنه سبب النزول كما ورد: أنهم كانوا يتفاخرون ويدلي بعضهم على بعض بحسبه ونسبه، حتى تفاخروا بالأموات وما كان لهم من مجد، ولما بلغوا إلى هذا القدر عتب الله عز وجل عليهم، حتى ورد الأسلوب، فورد الأسلوب بقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] فهو أقرب إلى المبالغة في التشنيع، أكثر من أنه قول، والله أعلم.

اغتنام الحياة

اغتنام الحياة الحياة كنز، والواجب على العبد أن يغتنم ساعاتها، ومن أفضل الأعمال التي تغتنم فيها الأوقات ذكر الله عز وجل، والإتيان بالفرائض كالصلاة والصيام، ولقد أوضح الشيخ ذلك كله في محاضرته، مضمناً إياها ذكر الخصال الموجبة لمحبة الله، وحسن الخاتمة، وخاتماً إياها بذكر ثمرات اغتنام الحياة.

الحياة كنز فاغتنمها

الحياة كنز فاغتنمها إن الحمد لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ونستهديه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله الذي جمعنا بكم في بيتٍ من بيوت الله بعد هذه الفريضة من فرائض الله، اللهم لك الحمد كالذي نقول، ولك الحمد خيراً مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول. أيها الأحبة في الله: إن الحياة مهما مضت أيامها وانقضت سنينها وأعوامها فإنه لا بد لأصحابها من نهاية، لابد للإنسان أن يقف تلك الساعة الأخيرة من هذه الدنيا لكي يلقي عليها آخر النظرات على الأبناء والبنات، وعلى الإخوان والأخوات، لكي يتفطر قلبه على فراق ما هناك من الأحبة، ولقد كتب الله عز وجل على كل صغير وكبير وجليل وحقير أنه صائر إلى الله العظيم الكبير، فقال الله تعالى في كتابه ينعى للعباد أنفسهم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] فلا بد لهذه الحياة من هذه النهاية المحتومة، ولا بد لهذه الحياة من هذه الغاية المكتوبة. ولكن ما إن يقف الإنسان عند هذه النهاية حتى يتفطر قلبه حزناً وألماً على الناس، وعلى الأحبة والأقربين، ولكن هناك حزن ليس هناك حزن أعظم منه، وهناك ألم ليس هناك ألم أشد منه، حينما يبكي على ساعات ليله ونهاره، حينما يحس من قرارة قلبه أن الحياة انتهت، وأن المهلة قد انقضت، وأنه قد صار إلى الله جل وعلا، لذلك ما إن ينتهي الإنسان من هذه الدنيا إلا وقلبه في حزن وهم وغم على ما فرط في جنب الله، يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصالِحِينَ} [المنافقون:10]. لذلك -أيها الأحبة في الله- حقيق بكل مؤمن بالله أن يعرف قيمة هذه الحياة، وأن يعلم أن الله تبارك وتعالى لم ينعم عليه بهذه الساعات واللحظات عبثاً، ولم يمتعه بهذا الوجود سدى، ما خلقك الله إلا لأمرٍ عظيمٍ وخطب جليل كريم؛ لكي تتعطر الحياة بطاعة مولاك، ولكي تتعطر الحياة بمحبة من أحياك، وتطيب الحياة بالقرب من الله في السعي في كل ما يرضي الله؛ لذلك فإن من أجل نعم الله على العبد أن يلهمه اغتنام هذه الحياة أن يلهمه اغتنام الساعات واللحظات في تقربه إلى الله فاطر الأرض والسماوات، إنها الغنيمة الباردة، والتجارة الرابحة التي يمسي الإنسان ويصبح فيها وهو قريب من الله، فكم من أيام قربت القلوب إلى ربها! وكم من ليالٍ شوقت القلوب إلى خالقها! إنها الغنيمة الباردة، والتجارة الرابحة حينما يغنم الإنسان الساعات واللحظات، فلا تمضي عليه ساعة من يومه، ولا ساعة من ليله إلا وهو في ذكر أو شكر. ولقد أنزل الله جل وعلا كتابه المبين وبعث رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم؛ لكي يحيي في القلوب هذا الأمر الجليل، ولكي يتحرك الناس إلى عبادة الله رب الجنة والناس، ولكي يكون ليل الإنسان ونهاره مطية له إلى طاعة الله ومرضاة الله.

ذكر الله من أعظم وسائل اغتنام الحياة

ذكر الله من أعظم وسائل اغتنام الحياة إن من أعظم ما يوفق الإنسان له لاغتنام هذه الحياة ذكر الله جل وعلا، ذكر الله الذي سبق به المفردون، فقد خرج صلى الله عليه وسلم في سفره، فقال لأصحابه: (سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات). من أحيا الله قلبه بذكره وشكره، وشوقه إلى جنانه ورحمته فقد غنم هذه الحياة، ولذلك حقيق بنا أن نتفكر في هذه النعمة العظيمة، والمنة الجليلة الكريمة التي أحياها رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه حينما فتح لأمته أبواب الطاعات، وشحذ هممهم إلى اغتنام الخيرات، فقال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] وقال جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] شوق المؤمنين إلى طاعته، لعلمه جل وعلا ألا سبيل إلى جنته إلا باغتنام هذه الحياة بسلوك طريق محبته، إنها التجارة الرابحة حينما يكثر الإنسان من ذكر الله جل وعلا، حينما يعمل بوصية الله في كتابه حيث يقول جل وعلا لأحبابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] ألم تعلم أنك إن ذكرته ذكرك، ولئن ذكرته في نفسك ذكرك في نفسه، ولئن ذكرته بين الناس ذكرك الله جل وعلا بين مَنْ هُمْ خير من الناس الذين ذكرته بينهم؟ ذكر الله الذي تدرك به من سبقك وتفوت به من بعدك.

الصلاة من أعظم الأذكار

الصلاة من أعظم الأذكار أعظم ذكر عمارة الأوقات بالصلاة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) فيا من تريد اغتنام الحياة! يا من تريدها حياة طيبة يطيب ليلها ونهارها، يطيب صباحها ومساؤها؛ أكثر من الصلاة فإنها صلة بين العبد ومولاه، أكثر من الصلاة فإنه يستدرج بها العبد محبة مولاه، أكثر من الصلاة فإن الله جل وعلا يقول فيما صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي عليها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). الصلاة نور نور في الحياة ونور بعد الوفاة نور في الحياة ولذلك نور الله وجوه المصلين، وقال الله في كتابه المبين عن أصحاب رسوله الأمين: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] قال بعض العلماء: كانوا يحيون الليل بالعبادة فإذا أصبحوا أشرقت وجوههم من نور الصلاة في جوف الليل؛ ألا وإن الصلاة رحمة من الله جل وعلا فلن يشرح قلب إنسان للإكثار منها إلا أحبه الله جل وعلا، الصلاة قرب من العبد إلى مولاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها ويدعو إليها، وبين صلوات الله وسلامه عليه أحبها وأكرمها عند الله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) وقال صلى الله عليه وسلم فيهما: (لا تتركوها ولو طلبتكم الخيل).

صلاة النوافل من اغتنام الحياة

صلاة النوافل من اغتنام الحياة ألا وإن من اغتنام الحياة في الصلاة المداومة على ركعتي الضحى التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها صلاة الأوابين، والله للأوابين غفور رحيم. وإن من اغتنام الحياة في الصلاة: صلاة أربع قبل الظهر تفتح لها أبواب السماء، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى قبل الظهر أربعا، ً فقالت له أم المؤمنين عائشة عن تلك الصلاة، قال: (إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح) وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرمه الله على النار). ألا وإن من خير الصلاة: المداومة على الرواتب التي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من حافظ عليها بنى الله له بها قصراً في الجنة، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى لله في يوم اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة) ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء. ألا وإن من الصلاة المحمودة المباركة المشهودة: إحياء ما بين العشائين -ما بين صلاة المغرب والعشاء- إحياؤه بالصلاة، حتى قال بعض العلماء: إن الله عناها بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]. ألا وإن من الصلاة المحمودة المباركة المشهودة: صلاة الليل قيام الليل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم) وهو خلة المتقين، وخصلة من خصال عباد الله المهتدين. ألا وإن من أفضل ما يكون وأحب ما يكون من إحيائه قيام آخره، قال صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا في كل ليلة في الثلث الآخر، فيقول: هل من داع فأجيب دعوته؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) فمن أراد الله به خيراً وأراد له اغتنام هذه الحياة ألهمه إحياء الليل بالصلاة، فما حافظ عبد على قيام الليل إلا شرح الله صدره، ونور الله قلبه وقبره، ولذلك قال العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور) قالوا: ينور الله بكثرة الصلاة على العبد قبره إذا أظلم عليه.

النفقة من اغتنام الحياة

النفقة من اغتنام الحياة ألا وإن من اغتنام الحياة اغتنامها بإنفاق الأموال في طاعة الله، أن يسخر الإنسان ماله لطاعة الله ومحبة الله، أنفق ينفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك (ما من يوم من الأيام إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً). يا من أكرمك الله بالأموال! اغتنم هذه الحياة بإنفاقها، وأسر المال قبل أن يأسرك، وخذ من المال زاداً للآخرة، واعتبره وسيلة للتجارة الرابحة، أنفق من مالك طيبة به نفسك، استر به عورات المؤمنين، وفرج به كربات عباد الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن (العبد يوم القيامة في ظل صدقته). وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقي العبد النار بشق تمرة، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه دخل على عائشة وكانت قد دخلت عليها امرأة معها صبيتان، فاستطعمت أم المؤمنين، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت لكل بنت تمرة، فلما أرادت أن تأكل التمرة الثالثة استطعمتها إحدى البنتين فأخذت تلك التمرة وأعطتها لابنتها ولم تأكل منها شيئاً، فعجبت عائشة رضي الله عنها من صنيعها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتعجبين من صنيعها؟ إن الله حرمها على النار بتلك التمرة). أخي في الله: إن إنفاق الأموال وبذلها في محبة الكبير المتعال من أعظم الخصال الموجبة لرحمة الله جل وعلا، كم من هموم فرجها الله عن الذين يسترون عورات المسلمين! كم من هموم وغموم نفسها الله لمن نفس هموم إخوانه المؤمنين! كم من مكروب فرج الله كربه بالنفقات! فأنفق على إخوانك ينفق الله عليك، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). الإكثار من النفقات من أعظم الأسباب التي يرحم الله جل وعلا بها العباد، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله رحم عبداً أنعم عليه بالمال فكان يداين الناس، فكان إذا جاءه المعسر قال لأصحابه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فقال صلى الله عليه وسلم: فلقي الله جل وعلا، فقال الله: نحن أحق بالتجاوز عنه، تجاوزوا عن عبدي). فمن أكثر من إنفاق الأموال ستره الله بإنفاقها، ورحمه الله ببذلها، إن المال غادٍ ورائح، فكن سخي اليد في محبة الله ومرضاة الله، وكيف تنعم عين المؤمن بالراحة والسرور وعورات المسلمين قد انكشفت؟ وكيف ينعم المؤمن بنومه والمال بين يديه، وجراح المسلمين قد سالت؟ وكيف ينعم المؤمن بالراحة والسرور والمال بين يديه وأخوه في هم الدين وغمه؟ فأنفق ينفق الله جل وعلا عليك، وأكثر من الصدقات، واقصد بها وجه الله جل وعلا يكن لك في ذلك خيري الدنيا والآخرة.

اغتنام الحياة بالصيام

اغتنام الحياة بالصيام ألا وإن من اغتنام الحياة في الطاعات صيام أيامها، قال صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله النار عن وجهه سبعين خريفاً) أكثر من الصيام فإنه يوجب رحمة الله جل وعلا، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن كرامة أهله عند الله، فهم لا يدخلون الجنة إلا من باب يخصهم (إن في الجنة باباً يقال له: الريان لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخوله قفل على آخرهم). أكثر من الصيام لعل الله أن ينظر إليك وأنت في شديد الهاجرة، تقرحت أمعاؤك، وظمأت أحشاؤك في طاعة الله جل وعلا. إن الصيام طريق التقوى، وسبيل موجب من الله الحب والرضا، أكثر من الصيام وخيره وأفضله صيام نبي الله داود: صيام يوم وإفطار يوم، فإن لم تستطع فصم ثلاثة أيام من كل شهر، فإن صيامها كصيام الدهر، قال أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن أبداً: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتا الفجر، وأن أوتر قبل أن أنام).

الخصال الموجبة لمحبة الله

الخصال الموجبة لمحبة الله ألا وإن من اغتنام الحياة الحرص على الطاعات، والتشمير في المحبة والمرضات، أكثر من الخصال الموجبة لمحبة الله.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألا وإن من أحب الأعمال إلى الله وأعظمها أجراً عند الله: التذكير بالله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكر الغافلين، ونبه النائمين، وبصرهم بسبيل رب العالمين؛ يكن لك في ذلك ذخر في الدنيا والدين. إذا رأيت أخاك على معصية فحذره عواقبها، وخذ بيده حتى يكف عنها، ذكر بالله جل وعلا من غفل، فإن الله يعظم الأجر لمن دعا إليه، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته حتى الحيتان في جوف الماء يستغفرون لمعلم الناس الخير). والله ما مررت على عاصٍ فذكرته بالله فانكف عن معصيته إلا كان لك أجره، ولا هدى الله بك عبداً إلى سبيل رحمته إلا كان في ميزان حسناتك، وما ركع إلا كتب لك مثل أجره، ولا سجد إلا كتب لك مثل أجره، ولا ذكر إلا كان لك مثل أجره، فاغتنم هذه النعمة بالتذكير بالله جل وعلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لاغتنام الحياة، وأن يجعلنا وإياكم ممن وفق لاغتنامها وإحيائها في طاعة الله ومرضاته.

صلة الأرحام

صلة الأرحام ألا وإن من أعظم الطاعات وأحبها إلى الله صلة الأرحام التي أمر الله أن توصل، وأخبر أنها من خصال أهل الجنة، وأنها موجبة من الله عز وجل الكرامة والمنة، صل الأرحام في الله يصل من وصلها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الرحم فتعلقت بعرش الرحمن، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ فرضيت بذلك) فكن ممن وصلها وتقرب إلى الله جل وعلا بصلتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح: (من وصل رحمه أنسأ الله له في أثره، وبارك الله له في رزقه، وبسط الله له في عمره) صل الأرحام فإن صلتها موجبة لرحمة الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى: إني أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فهي الرحم وأنا الرحمن، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته).

أذكار الصباح والمساء

أذكار الصباح والمساء ألا وإن من الطاعات والباقيات الصالحات: المحافظة على أذكار المساء والصباح، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه كلما أظلم عليه الليل وأضاء عليه النهار، كان للنبي صلى الله عليه وسلم سنن وأذكار يقولهن في الليل والنهار، فمن تأسى به صلوات الله وسلامه عليه حفظه الله بحفظه، ورفع الله درجته، وأعظم أجره، ووفقه لسبيل رحمته. أكثر من الأذكار فإن الله يذكر من ذكره، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأعظمها أجراً عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله عند قيامه، ويذكر الله عند صباحه، ويذكر الله عند مسائه، وأذكار الصباح والمساء حرز من الله للعبد وحصانة من الله للعبد، ومن حفظها حفظه الله جل وعلا.

حلق الذكر والزيارة في الله

حلق الذكر والزيارة في الله ألا وإن من أحب الأعمال إلى الله غشيان حلق الصالحين، وزيارة عباد الله المتقين، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن العبد إذا خرج إلى صلة أخيه في الله نادى عليه مناد من السماء: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه: (إن لله ملائكة سياحين فضلاء يغشون حلق الذكر، فإذا رأوا حلق الذكر نادى بعضهم بعضاً أن هلموا، فيحفونهم إلى عنان السماء حتى إذا انقضوا صعدوا إلى الله فسألهم عن عباده وهو أعلم، قالوا: أتيناهم وهم يذكرونك، يقول: فماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة. قال: ومم يستعيذون؟ قالوا: يستعيذون من نارك، قال: وهل رأوها؟ قالوا: لا. قال: كيف لو رأوها لكانوا أشد فرقاً منها، ثم قال: ولهم قد غفرت. قالت الملائكة: إن فيهم فلاناً عبد خطاء كثير الذنوب قد مر وجلس معهم، قال: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). فاعمر مجالس الذكر، واعمر مجالس العلماء، ولينظر الله إليك تضرب الخطا إليها، ولينظر الله إليك قد تعلق قلبك بها، اخرج إلى مجالس الصالحين فإن الجلوس معهم مرضاة لله رب العالمين، محبتهم عبادة، والجلوس معهم عبادة، وكن معهم كخير ما يكون الأخ مع أخيه، إن نسوا الله ذكرهم، وإن ذكروا الله أعنهم.

بر الوالدين

بر الوالدين من أعظم هذه الخصال: بر الوالدين، وإدخال السرور عليهما، وتفريج كروبهما والقيام بحوائجهما، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضي الله على من أرضى والديه، وسخط الله على من أسخط والديه) فلتطب حياتك ببر الوالدين، فكم من دعوة صالحة استجابها الله من الوالدين أسعد الله بهما من بر، وإياك والعقوق فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة عاق) قال بعض العلماء: معناه لا يوفق لحسن خاتمة والعياذ بالله.

اغتنام الحياة والتوفيق لحسن الخاتمة

اغتنام الحياة والتوفيق لحسن الخاتمة ألا وإن من نعم الله على العبد إذا اغتنم هذه الحياة أن يوفقه لحسن ختامها، من اغتنم الحياة في طاعة الله فإن الله يختمها له بخير. فقل أن تجد إنساناً يحافظ على طاعة الله إلا ختم الله عز وجل حياته بالحسنى؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يسعى جهده في طاعة الله حتى إذا جاءه الموت جاءه على خصلة من خصال الخير، قال بعض العلماء في تفسير قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] قالوا: إن معنى الآية: أكثروا من طاعة الله حتى إذا جاءكم الموت جاءكم على طاعة فقبضت الأرواح عليها. وقال بعض العلماء: من مات على طاعة بعث عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه، في الرجل الذي وقصته دابته وكان محرماً بالحج: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه ولا تغطوا وجهه، ولا تخمروا رأسه، ولا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).

الحرص على حسن الخاتمة

الحرص على حسن الخاتمة وأعظم شيء في الحياة يحمل المؤمن همه وغمه مسك الختام، فإن العبد قد يكون على أصلح ما يكون ليس بينه وبين الجنة ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. إن الخاتمة هي المهمة؛ ولذلك قال العلماء: الحرص على اغتنام الحياة هو السبيل لبلوغ حسن الخاتمة، كما قال الله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] أكثروا من خصال الخير، ولذلك أكثر الأخيار من خصال الخير فجاءهم الموت على حسن خاتمة فمات الواحد منهم قرير العين برحمة الله ومرضاته، فهذا يموت ساجداً، وهذا يموت راكعاً، وهذا يموت وهو خارج إلى صلة رحمه أو زيارة أبيه وأمه، أو غير ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله جل وعلا ويرضاها. وإذا غفل العبد عن الله فإن من أعظم ما يبتلى به ألا يوفق لحسن الخاتمة والعياذ بالله، ولذلك من كثرت غفلته حتى ألهته دنياه وتجارته جاءته الخاتمة على تلك الدنيا وهو يبيع ويشتري ويأخذ ويكتري غافلاً عن الله جل وعلا، لا يدري، نسأل الله السلامة والعافية.

صور من حسن الخاتمة

صور من حسن الخاتمة حسن الخاتمة يوفق لها من وفقه الله لاغتنام الحياة، إن الله يعظم من العبد اغتنام الليل والنهار حتى يقر عينه بمسك الختام، لا يزال العبد يحافظ على طاعة الله في الليل والنهار حتى يأتيه الأجل على خصلة من خصال الخير التي يحبها الله. ذكروا عن رجل أنه كان كثير الأسفار في العطل إلى الأماكن التي لا تحمد، وشاء الله جل وعلا أن يقيض له من يذكره ويهديه إلى الخير ويبصره، فقال له: يا فلان! إنك تذهب في كل عام إلى هنا وهناك فهل لك أن تعتمر؟ هل لك أن تذهب إلى رحمة الله جل وعلا بدل أن تذهب إلى معصيته؟ فشاء الله جل وعلا أن تلق هذه النصيحة أذناً مصغية وقلباً واعياً، فشاء الله جل وعلا أن يجعل عطلته الأخيرة عمرة إلى مكة، ويشاء الله أن يخرج هو وأهله معتمرين، وقبل أن يبلغ البيت يقع ذلك الحادث الذي لا تبقى فيه نفس من أهله، فشاء الله جل وعلا بعد هذه المعاصي وبعد هذه الغربة الطويلة عن طاعة الله ومرضاة الله أن تكون خاتمته على أحسن ما تكون عليه الخواتم، أن يبعث يوم القيامة ملبياً محرماً، فالعبد إذا حافظ على الطاعات أقر الله عينه بحسن الختام، وقل أن تجد في قصص الصالحين إنساناً حسنت خاتمته إلا وجدته قبلها من أحرص الناس على الخير.

من ثمرات اغتنام الحياة

من ثمرات اغتنام الحياة من أجل نعم الله لمن وفقه الله لكثرة الأعمال الصالحة أن يحسن خاتمته، ومن ثمرات اغتنام الحياة.

أخذ الكتاب باليمين

أخذ الكتاب باليمين ومن عواقبها الحميدة وآثارها الجليلة المجيدة: يوم يبعث الناس على رءوس الأشهاد بين يدي الله رب العباد، فينادي منادي الله بالصحائف، فتطير الصحائف فلا يدري الإنسان أينال صحيفته باليمين فيكون من الناجين أم ينالها بالشمال فيكون من الهالكين، إذ بذلك العبد الصالح ينال كتابه باليمين، ذلك الكتاب الذي مليء من صالح الأقوال والأعمال فينادى على رءوس الأشهاد {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20].

دخول الجنان

دخول الجنان ومن ثمرات الأعمال الصالحة واغتنام الحياة في مرضاة الله جل وعلا: دخول الجنان، والفوز بما فيها من الروح والريحان، فإذا دخلها المؤمن خلف كل هم وغم وراء ظهره، قيل لبعض السلف: أمرتاح أنت؟ قال: (إنما الراحة حين أضع قدمي على أعتاب الجنة) فإذا وضع المؤمنون الصالحون أقدامهم على أعتاب الجنان خلفوا وراءهم الهموم والغموم، ودخلوا إلى دار السلام والسلوان، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. ولذلك يناديهم الملائكة ووجوهم كالأقمار المضيئة، وهم داخلون ينادونهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] طبتم بماذا؟ طبتم بالأعمال الصالحة، طبتم بقيام الليل، بالإنفاق، بالبذل، بالتضحية، بالاغتنام لهذه الحياة في مرضاة الله ومحبة الله. أحبتي في الله! ألا وإن سلعة الله غالية، ألا وإن سلعة الله الجنة، ألا وإن من يريد أن يفوز بهذه الكرامات والباقيات الصالحات فليجتهد غاية وسعه في محبة الله جل وعلا، إن الطاعة تحتاج إلى جهاد تحتاج إلى صبر تحتاج إلى كفاح وجلاد الطاعة تحتاج إلى تعب ونصب، ولكن تعب ساعة وراحة عمر ودهر. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن اغتنم الحياة في طاعته، ووفقه الله لسلوك سبيل محبته ومرضاته إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قبول العمل الصالح

قبول العمل الصالح إن الله جل وعلا يقبل منك العمل الصالح -خاصة في شبابك، خاصة في اقتبال العمر- إنك إن أقبلت على الله في عز الشباب عظمت عند الله نشوتك وصحتك وعافيتك وقدرتك على معصية الله وأنت تنصرف إلى طاعة الله ومرضاته. ولذلك ذكروا عن رجل أنه بلغ أكثر من مائة سنة وكانت قوته قوة الشاب، قالوا له: كيف وقد بلغت أكثر من مائة وقوتك قوة الشاب؟ فقال رحمه الله: أعضاء حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر. من اغتنم الحياة في طاعة الله أنعم الله عينه بالحياة الطيبة، فمن ثمرات اغتنام الحياة في طاعة الله أن الله يطيبها بالعمل الصالح، ولذلك قال الله في كتابه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] أي: والله لنحيينه حياة طيبة. فمن بشائر اغتنام الحياة في طاعة الله أن الله يطيبها؛ ولذلك تجد العبد الصالح كثير الذكر والشكر، في طمأنينة وراحة نفس وهناءة بال، لو بذلت أموال الدنيا لكي يصيب الإنسان تلك الراحة ما ذاقها. إذا صلى الإنسان فرضه وخرج من بيت الله ومسجده كم يجد من الراحة والسلوان، وكم يجد من الطمأنينة التي والله لو بذل لها الأموال ما بلغها ولا حصلها، فهذه من ثمرات اغتنام الحياة في الطاعة.

جعلك قدوة للناس في الخير

جعلك قدوة للناس في الخير ومن ثمرات اغتنام الحياة في الطاعة: أن الناس يتخذونك قدوة في الخير، قال الله عن عباده الأخيار: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] قال بعض العلماء: معنى الآية: اجعلنا كثيري الخير حتى يقتدي الناس بنا في الخير، ولذلك إذا وجد في الناس عبد صالح كثير الذكر كثير الشكر كثير الطاعة اتخذه الناس قدوة في الخير وإماماً، فإذا رأيت أخاك كثير الصيام أحببت الصيام برؤيته، وإذا رأيت أخاك كثير القيام في الليل أحببت قيام الليل برؤيته، فيأخذ أجرك حينما كان قدوة لك في الخير.

تأمين الله أهل الطاعة إذا خافوا

تأمين الله أهل الطاعة إذا خافوا ومن ثمرات اغتنام الحياة في الطاعة: أن الله جل وعلا يؤمن أهلها إذا خافوا، وأن الله جل وعلا يقضي حوائجهم إذا سألوا، فلذلك تجد أهل الطاعات أغنى الناس بالله جل وعلا، فقلوبهم غنية بالله سبحانه وتعالى لا تمتد أكفهم إلى أحد سواه، ولا تتعلق قلوبهم بشيء عداه، إن أصابتهم الضراء صبروا فأنعم الله عليهم بالصبر، وإن أصابتهم السراء شكروا فأنعم الله عليهم بذلك الشكر. ألا وإن اغتنام الحياة بالطاعة خير كثير وثواب جزيل يسعى إليه الصالحون، ويشمر فيه الأخيار والمتقون، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم منهم.

الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة

الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة أما الثمرات الأخيرة التي يراها الإنسان على أتم ما تكون عليه ثمرة الصلاح والفلاح، وعلى أكمل ما يكون عليه الربح والنجاح إذا ضم العبد قبره وأوسد لحده فإنه يجد أثر هذه الطاعات على أتم الوجوه وأكملها، فإن الله جل وعلا أخبر أن أهل الاستقامة ينعم عليهم إذا صاروا في آخر لحظاتهم من الدنيا {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] جمعوا بين الأمرين: القول والعمل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] استقاموا بالعمل الصالح استقاموا باغتنام الحياة في طاعة الله ومرضاة الله {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] عزت عند الله مكانتهم فأنزل إليهم الملائكة في سكرات الموت، تنزل عليهم الملائكة إذا صاروا في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، في تلك اللحظة التي يؤمن فيها الكافر ويوقن فيها الفاجر، في تلك اللحظة العصيبة ينظر الإنسان نظرتين لا ينظر غيرهما: أما النظرة الأولى: فهي أمامه، وأما النظرة الثانية: فهي وراءه، فإذا نظر أمامه أصابه الخوف، وإذا نظر وراءه أصابه الحزن، أما النظرة التي إلى ورائه فإلى أبنائه وبناته إلى الذرية الضعيفة التي يتركها من ورائه، إلى أزواجه، إلى عشيرته، إلى قرابته، ينظر إليهم بقلب متقطع مليء بالحزن. أما النظرة التي أمامه فهي نظرة لهذه الدار غير الدار التي يعرفها، وإلى هذا المنزل الذي ما نزله من قبل، وإلى هذه الرحلة التي لا رجعة بعدها، وإلى هذا السفر الذي لا إياب بعده، فيصيبه الخوف لا يدري هل هو قادم على رحمة أو قادم على عذاب! أقادم على جنان وروح وريحان، أم قادم على جحيم ونيران وسخط من الديان! لا يدري، فينزل الله جل وعلا عليه الملائكة لكي تقول هذه الجملة: {أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] أي: لا تخافوا من هذه الدار التي أنتم قادمون عليها {وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] أي: على فراق الذرية. ولذلك ورد في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاًً} [الكهف:82] كان أبوهما عبداً اغتنم الحياة في طاعة الله ومرضاة الله، يقول بعض العلماء: كان أبوهما صالحاً: الجد السابع لهذين اليتيمين، ذكر الله العبد الصالح في الذرية في الطبقة السابعة من الأبناء، ذكر الله عز وجل هذه الذرية بفضل الله أولاً، ثم بما كان من صلاح الجد، {أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] أي: على هذه الدار التي أنتم قادمون عليها {وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] على فراق الأهل والذرية؛ ولذلك إذا رأى المؤمن ما عند الله من الحبوة والكرامة والرضا في أول لحظة من لحظات الآخرة، وفي أول ضجعة له في القبر، إذا رأى نعيم الآخرة وبشائر الرحمة لو خير بين أن يبقى ويرجع إلى أهله لاختار البقاء على الرجوع إلى الأهل. كثير من الناس يخافون الموت، كثير من الناس يجزعون من الموت، ولكن إذا كشف للعبد المؤمن ما عند الله من الرحمات وثواب اغتنام الحياة في الطاعات كان شوقه إلى ذلك أعظم من شوقه إلى أهله وأولاده؛ ولذلك ما أعظم الغنيمة! وما أعظم الربح! وما أعظم الفوز حينما يُضجع الإنسان في قبره قرير العين بطاعة الله! وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الملكين إذا سألا العبد الأسئلة الثلاثة عن ربه ودينه ونبيه صلوات الله وسلامه عليه قالا له: نم صالحاً -لأن الله أصلحه في الدنيا وهذه عواقب الصلاح في قبره- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فيفتح له باب إلى الجنة يأتيه من روحها وريحانها، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة) مما يحس من عظيم كرامة الله التي تنتظره. وجاء في الحديث الآخر عند أحمد رحمه الله في المسند (أنه إذا قالا له: نم صالحاً. جاءه رجل على أحسن ما يكون وأجمل ما يكون من صورة فيقول ذلك الميت الصالح: من أنت؟ فوجهك وجه خير ولا يأت إلا بخير؟ فيقول له: أنا عملك) أنا قيام الليل، وصيام النهار، ولذلك المؤمن الصالح إذا قام في ركعة نافلة واستثقلها وأحس بطولها وجاءته السآمة والملالة في طاعة الله فليتذكر يوم تكون هذه الطاعة أنساً له في القبر، ليتذكر يوم تكون له هذه الركعة والسجدة نوراً له في القبر، ليتذكر يوم تكون هذه الركعة والسجدة نوراً له على الصراط، هذه غنائم وهذه عواقب اغتنام الحياة في طاعة الله ومرضاة الله.

الأسئلة

الأسئلة

العدول عن فتوى جواز ركوب المرأة مع السائق الأجنبي

العدول عن فتوى جواز ركوب المرأة مع السائق الأجنبي Q سمعنا لك في أحد الأشرطة فتوى بجواز ركوب المرأة لوحدها مع الرجل إذا كان الرجل موثوقاً يجوز أن تذهب معه داخل البلد، فهل هذا صحيح؟ وهل سبقكم إلى هذا أحد من أهل العلم؟ A باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: نعم. هذا كان في شريط صلاح المرأة، والسبب أني كنت أعتمد على حديث أسماء رضي الله عنها حينما أناخ النبي صلى الله عليه وسلم بعيره لكي تركب، وله أصل كما ثبت في الصحيح من قصة عائشة رضي الله عنها مع صفوان بن المعطل في قصة الإفك؛ لأنه كان قائد بعيرهم، ولكني عندما نظرت إلى فساد الناس وتذرع الكثير بهذه الفتوى إلى مسألة ركوب النساء مع السائق الأجنبي، ووجود الفرق بين الصورتين؛ لأن البعير الخلوة فيه ليست كالخلوة في السيارة الموجودة الآن، رأيت أن الأقرب إلى الصواب هو المنع من هذا الأمر، ولذلك أعدل عن القول بهذه الفتوى، وقد عدلت عنها منذ عام، ورأيت أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو المنع من هذا إلا في حالات الضرورة وهو محل اتفاق بين أهل العلم رحمة الله عليهم، لحديث أم سلمة الثابت في قصة هجرتها لما هاجرت رضي الله عنها دون محرم. فالمقصود: أن هذا القول أفتى به غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم أنهم يجيزون قضية ركوب المرأة على بعيرها، وقيادة الأجنبي لها، هذا محفوظ وموجود، والسنّة دالة عليه كما في الأحاديث التي ذكرناها، مثل حديث صفوان بن المعطل، وحديث أسماء رضي الله عنها، ولكن هناك فرق بين السيارات الموجودة الآن وبين الركوب على البعير، والفرق واضح؛ ولذلك أرى أن فقه الفتوى هو المنع من هذا ما أمكن، وعدم جوازه إلا في حال الاضطرار، وجزاك الله خيراً على هذا، ولذلك أحب التنبيه على هذه الفتوى في شريط صلاح المرأة، ولا يتذرع بها، ونسأل الله العظيم أن يلهمنا السداد والرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الطريقة المثلى لإنكار المنكر

الطريقة المثلى لإنكار المنكر Q هذا سائل يتحدث عن غربة هذا الزمان، وعن الأمور التي فشت عند كثير من الناس من الفساد والأمور المحرمة ويقول: ما هو واجبي أمام إقبال هؤلاء الناس على الحياة والانغماس في الملذات؟ A نجمل هذا الواجب في أمور: أولها: أن تكون قدوة في مجتمعك، أول ما يفكر فيه الشاب الصالح الموفق الذي يريد هداية الناس ويريد الخير للناس: أن يكون قدوة، أول ما تفكر فيه صلاح نفسك، وتحمل نفسك على طاعة الله ومحبة الله حتى تكون إمام خير، ولذلك قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] أول ما يفكر فيه الشاب الصالح الموفق أن يكون قدوة للغير، ولذلك ما أوحى الله إلى نبيه الكتاب ولا أنزل إليه إلا بعد أن أصبح إماماً وقدوة لمجتمعه، كانوا يسمونه الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه. تكون قدوة في صلاحك وطاعتك لله جل وعلا، وقدوة في أخلاقك ومعاملاتك للناس، تحاول قدر استطاعتك داخل مجتمعك، وأقرباؤك وجيرانك وأهلك لا بد أن يلمسوا أن هذه الهداية غيرت من حياتك، فالكبير يراك تجله، والصغير يراك توقره، ويرى فيك رحمة الهداية، فتكون كأنك طبيب تأخذ الناس إلى محبة الله ومرضاة الله، تداوي القلوب بكلام الله علام الغيوب، أول ما تفكر فيه أن تكون قدوة في نفسك، وكم من قدوة صالح دعا الناس بأخلاقه وأعماله قبل أن يدعوهم بقوله، قال بعضهم: كونوا دعاة وأنتم صامتون، قالوا: كيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: ادعوا الناس بأخلاقكم وسمتكم قبل أن تدعوهم بقولكم، فالدعوة بالقدوة الصالحة. النقطة الثانية أخي في الله: النصيحة والموعظة الحسنة، وتختار لها الوقت المناسب والأسلوب المناسب، فإذا رأيت جاراً على زلة تختار أفضل الأوقات لزيارته أو تدعوه إلى زيارتك، ثم تكلمه كلمة المشفق من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أوصيك ألا تخرج كلمة منك وأنت تنصح أو تعظ إلا وأنت ترجو الله والدار الآخرة، الكلمة الصادقة والنصيحة الخالصة لوجه الله لا يمكن أن تذهب سدى، لا بد أن تقع في القلوب ولا بد أن تؤثر في القلوب إن عاجلاً أو آجلاً، كن صادقاً ليس هدفك إلا نجاة العبد، لا تنطلق حمية ولا غيرة، بعض الأحيان يرى الرجل أخاه على منكر فيقول: فضحتنا، فعلت بنا، فعلت بنا. إذاً ما هو الدافع لإنكار المنكر؟ الحمية، العصبية، لكن حينما ينطلق مشفقاً عليه من عذاب الله، يقول: يا أخي! اتق الله، يا أخي! إني أخاف عليك عذاب يوم عظيم! يذكره بالله جل وعلا؛ يجد لهذه الموعظة والنصيحة أثراً، فكن صادقاً مع الله في نصح الناس وتوجيه الناس. ومما يعين على الصدق أن تعلم أنه إذا ترك هذا الحرام أجرت على تركه، وأنه إذا فعل هذه الطاعة والله ما فعلها يوماً من الأيام في سواد ليل أو ضياء نهار إلا كان لك مثل أجره، فهذه غنيمة وتجارة رابحة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم منها. واعلم -أخي في الله- أن مهمتنا البلاغ {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أقم حجة الله على عباد الله، فإن خرج الأمر إلى الاستهزاء والسخرية فاصبر، أوصيك بأمرين: أولاً: ألا تتألم لسخرية الساخرين، واستهزاء المستهزئين. ثانياً: إياك أن تجاري أهل الجاهلية في جاهليتهم، إذا جئت تنصح أي شخص فوجدته يستهزئ أو يتلاعب فكف عنه وأعرض عن الجاهلين، فإنه إذا رآك لا تجاريه في جاهليته علم أن هدفك هو النصح والتوجيه. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، والله تعالى أعلم.

الوسائل المعينة على قيام الليل

الوسائل المعينة على قيام الليل Q كثير من الإخوة يسألون عن الوسائل المعينة على قيام الليل؟ A من أعظم الوسائل: سؤال الله عز وجل والدعاء، سل الله جل وعلا أن يجعلك من أهل قيام الليل؛ فإن أهل قيام الليل هم الصالحون وعباد الله المتقون، وأولياؤه الذين يذكرونه بالأسحار إذا نامت الأنظار، وتوارى الإنسان عنها، وأصبح في الدعة والسرور قام بين يدي الله يناجيه ويناديه، سل الله عز وجل أن يجعلك من أهل قيام الليل. الوسيلة الثانية التي تعين على قيام الليل: كثرة ذكر الآخرة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] هذا أول شيء، إذا أردت أن تكون من أهل قيام الليل أكثر من ذكر الآخرة والخوف من الآخرة؛ فإن الله يحيي بهذا الخوف ليلك، فتصبح في خوف مما أنت قادم عليه فتقوم تركع أو تسجد أو تستغفر أو تتلو كتاب الله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر:9] القنوت: قيل: ملازمة الشيء، وقيل: الذكر {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] إذاً أول شيء هو الخوف من الآخرة، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الزمر:16] ماذا؟ {خَوْفاً} أول شيء الخوف {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] فإن أردت أن يجعلك الله من أهل قيام الليل فهيئ في نفسك الخوف من الله؛ حتى يجعل الله فيك شوقاً للنجاة، والذي يخاف الله جل وعلا يوفقه الله لقيام الليل، ويكون قيام الليل سهلاً ميسراً عليه، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم منهم. الأمر الرابع الذي يعين: الأخذ بالأسباب، ومنها قراءة سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم، والصحابة رضوان الله عنهم، فهذه من الأمور التي تحيي في القلوب حب قيام الليل، وإذا أحببت قيام الليل حرصت عليه. كذلك أيضاً من الأسباب التي تعين على قيام الليل الآتي: إياك والسهر بعد العشاء، يكفي الدنيا من بعد الفجر إلى صلاة العشاء، ما يكفي الإنسان الدنيا هذا كله وهو في دنياه يسرح ويمرح؟ بعد العشاء -يا أخي- اقفل باب بيتك، وتوضأ وقم بين يدي ربك، والله يمكن الجزء ما يأخذ منك ثلث ساعة، جزء من كتاب الله جل وعلا، الحرف بعشر حسنات، تقرأ الصفحة آلاف الحسنات تكون لك، وهي لا تأخذ منك خمس دقائق تجارة وغنيمة وفوز وربح، بمجرد أن تصلي العشاء، الآن كثير منا يجلس مع ضيفه أحياناً ثلاث ساعات بعد صلاة العشاء ولا يستكثرها ولا يشعر بها من حلاوة الضيف! فكيف بحلاوة مناجاة الله جل وعلا؟! إذا لم تستطع قيام آخر الليل بعد صلاة العشاء توضأ يا أخي! وخذ كتاب الله، إن كنت تحفظ اقرأ من حفظك، وإن كنت لا تحفظ فخذ كتاب الله ولو تقرأ بالنظر، وهي ساعة تفرغ فيها لذكر الله جل وعلا، واذكر ما فرطت فيه في يومك، تستغفر، تذكر، تسأل الله عز وجل خير الدين والدنيا والآخرة، وتسأل الله لك ولوالديك. فهذه من أهم الأمور، الأخذ بالأسباب، قيام الليل يحتاج إلى جهاد، يحتاج إلى رجل كامل الرجولة في إيمانه، فإذا أخذت بهذه الطريقة نظر الله إليك كل ليلة، وهذا أمر لا تفرط فيه مهما كان، قيامك لليل إذا ابتدأت القيام بعد صلاة العشاء تحافظ عليه يصبح أعز عليك من طعامك وشرابك، اليوم الأول تراه كالجبل، واليوم الثاني كنصف جبل، واليوم الثالث أحب إليك -والله- من أهلك وولدك، حتى أنك تضيق لو أن أحداً قال لك: تعال افعل كذا أو احصل على كذا بعد هذا؛ من لذة وحلاوة طاعة الله جل وعلا، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. فإن استطعت أن تفعل هذا فإن الله قد يحب ويجل منك هذا العمل، فيوفقك إلى قيام نصف الليل، ثم يجل منك هذا حتى تصبح من أهل قيام الثلث الآخر، فينعم الله عليك فتكون ممن قام الليل وكتب من الذاكرين. أكثر من قيام الليل فإن الله عز وجل يشرح به الصدور، وينير به القلوب، حتى قال بعض أهل العلم: إن من أعظم أسباب النجاة من عذاب الآخرة قيام الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديثاً طويلاً في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه في قصته مع الملك أنه رضي الله عنه عندما قص الرؤيا - قصتها حفصة، أخته، أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال عليه الصلاة والسلام: (إن أخاكِ رجل صالح فليعني على نفسه بكثرة السجود في الليل) قالوا: إن هذا يدل على أن قيام الليل من أعظم الأسباب التي تذهب روع الآخرة وخوف الآخرة. نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهل قيام الليل، والله تعالى أعلم.

وصايا لمن تاب وقلبه معلق بالمعصية

وصايا لمن تاب وقلبه معلق بالمعصية Q فضيلة الشيخ! أنا شاب تائب -أسأل الله أن يرزقني التوبة النصوح- وكنت من قبل التوبة أشاهد عدداً كبيراً من الأفلام الجنسية، ولا يخفى عليك ذلك الخيال المشبع بتلك الصور، فما الوسيلة للنسيان ومقاومة تلك الشهوة الجامحة التي لم أستطع ردها حتى بالصوم، وأستغفر الله لي ولك وللمسلمين؟ A أولاً: الحمد لله الذي منّ عليك بالتوبة والهداية، وشرح صدرك لسلوك سبيل محبته ومرضاته. أوصيك أخي بحب الله، فإذا أحببت الله جل وعلا أنعم عليك، ألا وإن من حب الله الذي يزيدك الله به ثباتاً على الهداية أن تشكره على هذه النعمة، فتقول: الحمد لله والشكر لله أنه لم يدركني الموت وأنا على هذه الملهيات والمغريات والشهوات المهلكات، فاحمد الله عز وجل على نعمته. الوصية الثانية التي أوصيك بها: إن كثرت عليك هذه المشاهد فأوصيك بكثرة ذكر القبر والموت، فما هذب سلوك الإنسان شيء أعظم -بعد توفيق الله جل وعلا وهدايته- من ذكر القبر والموت والحشر والنشر، والسؤال والصراط، أكثر من ذكر الآخرة فإن الموت نغص على أهل اللذات لذاتهم، والموت قطع أهل الشهوات عن شهواتهم، أكثر من ذكر تلك اللحظة الأخيرة من هذه الحياة، والله مهما بلغ من معصية الإنسان إذا تذكر أنها ستمر عليه هذه اللحظة التي لا يدري متى زمانها ولا يدري أين مكانها هانت عليه الدنيا وما فيها، وتذكر أنه سيمر عليه مثل هذه اللحظة وأنت ضجيع القبر والبلى لا مال ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون، وأنت مرهون بما كان ويكون من أمر الله جل وعلا، فأكثر من ذكر الآخرة فإن الله يقوم بها سلوك المؤمن ويحفظه من الزلل. والأمر الثالث: أوصيك بوصية هي من أفضل الوصايا في مثل هذه الأمور: كثرة الدعاء، أكثر من الدعاء فإن الدعاء سلاح المؤمن، القلوب بين أصبعين من أصابعه سبحانه وتعالى، ولذلك أكثر من دعائه وسؤاله أن يصرف قلبك عن هذه الشهوات وهذه المناظر والملهيات فإن الله يفعل، فإن أمر الله كن فيكون، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] فالله يحول بين المرء وقلبه، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من دعاء الله جل وعلا، ويسأل الله جل وعلا أن يصرفها عنه، وبإذن الله ستجد من الله فرجاً ومخرجاً. أخي في الله! إن هذا الذي تجده الآن من تعلق قلبك بما مضى، وتحس في بعض الفترات يمر عليك طيف من خيالها امتحان وابتلاء واختبار من الله جل وعلا، الله يريد أن يختبرك الآن، فإن حن الإنسان إلى الماضي كان ناقصاً في هدايته، وناقصاً في إيمانه على قدر حنينه، ففر إلى الله وأنت إذا جاءتك تبكي وتشتكي وتتألم وتضيق عليك الدنيا كان هذا الضيق وهذا الهم الذي يصيبك في ميزان حسناتك؛ لأنه كما أن للأيدي والألسنة أعمال فللقلوب أيضاً أعمال، فلذلك مقتك لهذه الصور عندما تتذكرها وتتألم منها وتكثر من الاستغفار عند ذكرها فإن الله جل وعلا يثيبك عليه. والوصية الأخيرة: إذا مر بك طيفها اذكر الله، وأرجو من الله جل وعلا إذا فعلت ذلك أنه لا يعود لماذا؟ لأن طيفها جاءك من الشيطان، فالشيطان يريد أن يذكرك هذا الماضي حتى تحن إليه، فإذا وجدك صادقاً بمجرد ما يذكرك بها تذكر الله ما يأتيك؛ لأنه لا يريد ذكر الله جل وعلا، فأكثر من ذكر الله، وكن مع الله جل وعلا، بمجرد ما تذكرها قل: أستغفر الله. وإذا ذكرتها يتفطر قلبك على التفريط في جنب الله، ويكون عندك حزن على ما أنت قادم عليه من الآخرة. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصرف قلبك عنها، وأن يجعل لك الفرج منها، والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن يذهبون إلى العرافين والمشعوذين

نصيحة لمن يذهبون إلى العرافين والمشعوذين Q فضيلة الشيخ: نلاحظ انتشار المشعوذين وكثرة الذين يذهبون إليهم، فهل من كلمة توجيهية لهؤلاء؟ A تعلق الناس بغير الله مصيبة عظيمة، وثلمة في الدين، ولذلك الواجب هو التناصح، وعدم إهمال هذا الأمر، وينبغي على كل إنسان أن ينصح من يعلم أنه يذهب إلى العرافين أو المشعوذين من أجل أن يدفعوا أو يتسببوا فيما يزعم أنهم يفعلونه لقاء بلائه وعنائه. فأوصيكم إخواني بأداء النصيحة والتوجيه لمن يذهب، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أتى أمثال هؤلاء فقد كفر بما أنزل على محمد والعياذ بالله، فالأمر عظيم، مزلة قدم، وموجبة لسخط الله جل وعلا على الإنسان. أما القضية الأخيرة التي أحب أن أنبه عليها: من أصابه هم وغم، فليكثر أولاً من الاستغفار، وثانياً: يحاول أن يكون قريباً من رياض الصالحين ومن حلق الذكر؛ لأن الذي فيه مس أو عناء الغالب أن سلطان الشيطان يضعف في بيوت الله جل وعلا، يكثر من غشيان حلق الذكر ومجالس الصالحين، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أنها تتنزل عليه الملائكة، والشيطان يفر من الملائكة، قال: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال:48] قال ابن عباس: [رأى جبريل ومعه الملائكة يوم بدر، وكان يحرض المشركين على القتال حتى وصلوا إلى بدر، فلما بلغ قبل العدوة نكص على عقبيه] كان يحرضهم طيلة الطريق أكثر من ثلاثمائة كيلو وهو معهم، يقول لهم: أنتم المنصورون، وأنتم القاهرون، وأنتم وأنتم. حتى بلغوا مشارف الموت، لكي يروا مصارعهم، ويأتي أمر الله وقدر الله فتضرب تلك الرقاب مهينة لمعصية الله جل وعلا، فلما بلغ ذلك ورأى تنزل الملائكة نكص على عقبيه، هنا عرف قدره، أولاً: يكذب ويقول: إني معكم، إني جار لكم. حتى إذا بلغ هذا المبلغ نكص على عقبيه وقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله من شدة ما رأى من هول: تنزل الملائكة وجبريل لكي تقاتل مع أولياء الله جل وعلا، ولذلك من به مس إذا تليت عليه آيات الكتاب ماذا يفعل؟ يصرع مباشرة؛ لا يستطيع، سلطان القرآن على الشياطين قوي، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من تلاوة القرآن، فقد ذكروا عن رجل أنه هدده ساحر والعياذ بالله أن يعمل له عملاً، وكان قوي العقيدة في الله جل وعلا، وهو من طلبة العلم. يقول: فحبست عن أهلي فألهمني الله عز وجل، ما أصبحت عندي إلا كثرة الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن، ما اشتكيت إلى أحد، ولا ذهبت إلى عراف ولا إلى ساحر، ولكن إلى الله جل جلاله {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] من الذي يجير ولا يجار عليه سبحانه عز جاهه وتقدست أسماؤه! يقول: ما مضت قرابة نصف سنة حتى ذهب عني جميع ما أجده، ذهب عن هذا الموفق، فبعد فترة يخبرني يقول: إن هذا الساحر يقول له: كيف حالك مع فلان؟ وكان هذا الساحر يربط الناس -والعياذ بالله- عن أزواجهم، قال: عذبني هذا من كثرة تلاوة القرآن، لأنه لا يستطيع أحد أن يقف أمام كتاب الله جل وعلا كالشهب على الشياطين {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. وجعل الله فيه رحمة الدين والدنيا والآخرة، ولذلك أي هم أو غم يصيبك عليك أن تتلو آية من كتاب الله حتى ترى العجب، فيه الرحمة، وفيه اليسر، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهله، وأن يحشرنا وإياكم في زمرتهم والله تعالى أعلم.

أسباب الإصابة بالمس والعلاج منه

أسباب الإصابة بالمس والعلاج منه Q فضيلة الشيخ! نلاحظ في السنوات الأخيرة كثرة المرضى المصابين بالمس فما أسباب ذلك؟ وكذلك نلاحظ انتشار المشعوذين أو كثرة الذين يذهبون إلى المشعوذين، هل من كلمة توجيهية لهؤلاء؟ A باسم الله، الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فما ذكرته -أخي في الله- من المس وكثرته في هذه الأيام المس موجود من القدم، ولكن الناس قد تعتني بالشيء فيظهر بينهم بسبب اعتنائهم به، وكثرة المس لا تأتي إلا بسبب معصية الله جل وعلا، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] فكثرة الذنوب هي التي سلطت الشياطين على الناس، ولذلك خير علاج لهذا البلاء وكشف هذا العناء هو الرجوع إلى الله جل وعلا {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43]. اعلم -أخي في الله- أن الشياطين والجن والإنس لا يملكون في هذا الكون مثقال ذرة، اعلم علم اليقين أن الله إذا ضر لا نافع سواه، وأن الله إذا نفع لا ضار سواه، فهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي يشفي ويكفي، وإن أصابت علله لن يستطيع أحد أن يداويها غيره جل جلاله وتقدست أسماؤه. سلطان الشياطين إنما يكون على أوليائهم، على الذين يتعلقون بهم، أما ولي الله المؤمن الذي فرغ الله قلبه له جل جلاله، وأسلمه بالتوحيد له سبحانه فإنه في حرز وحفظ وحصانة ورعاية من الله جل وعلا، لكن لو أصيب المؤمن بشيء من هذا فإن الله يجعله له رحمة في الدنيا والآخرة، قال الله عن نبيه أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] مسه الضر، وقال في آية أخرى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:41 - 42] سلط الله عليه الشيطان وأصبح في همه وغمه، والبلاء في جسده سنين عديدة وهو صابر، يقول الله عز وجل عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص:44] الله أكبر! إذا قال الله: (نعم العبد) بماذا؟ بالصبر بالتوحيد، بالتسليم لله جل وعلا. {إِنَّا وَجَدْنَاهُ} [ص:44] كلمة (وجد) لها معنى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] ما معنى أواب؟ كثير الرجوع إلى الله جل وعلا، كان إذا أصابه ضيق أو هم أو غم قال: يا الله! يا رباه! لا يستجير بشيء عداه جل جلاله. فلذلك من أجل نعم الله على المؤمنين أن الضراء رحمة بهم وإن كانت ألماً في الظاهر لهم، يريد أن يرفع درجاتهم، يريد أن يكفر خطيئاتهم، يريد أن يعظم لهم أجورهم في دنياهم وأخراهم؛ فيسلط عليهم هذا البلاء، لكن هذا البلاء إذا صحب بالإيمان والتسليم والتوحيد، وقوة العقيدة في الله جل وعلا أنعم الله على عبده، وجعل له العاقبة، والله يقول في كتابه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] العاقبة المهم العاقبة والنتيجة، وليس المهم أن الآن يبتلى الإنسان، المهم ما هي الثمرة وما هي النتيجة، ولذلك ورد في الحديث أن أهل البلاء إذا نظروا ما لهم عند الله يوم القيامة من الحسنات والأجور تمنوا أن حياتهم كلها في بلاء، العبد الآن يصيبه هم وضيق نفسي وغم، فيقول: الحمد لله، اللهم إن هذا منك، اللهم اغفر لي ذنباً أوجب لي هذا البلاء، اللهم لك الحمد؛ الله يسمعك ويراك، كلماتك تسطر في صحيفة الملك لكي يصعد إلى الله، فيقول: (عبدي ابتليته فماذا قال؟ يقولون: حمدك وأثنى عليك. فيقول: ابنوا له بيت الحمد في الجنة) هذه الكلمات تقول: الحمد لله. المريض يأتيه البلاء فيقول: الحمد لله. تقول له: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله. بقلب مليء بالحب والرضا عن الله جل وعلا لعلمه أن الذي أصابه هو الله، لعلمه أن هذا الكون ليس فيه مثقال ذرة إلا وهي تحت قهر الله وملك الله جل وعلا. فيعلم أن هذا البلاء ليس من الشياطين ولا من الجن ولا من السحرة ولكن من الله جل جلاله بسبب الذنوب، وذنوبنا كثيرة، فقد يبتلي الله الإنسان بسبب ذنب يريد أن يكفره، فيقول العبد الموفق الصالح: الحمد لله، اللهم اغفر لي، اللهم تب عليّ، ولذلك كان قول النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه: (نعوذ بالله من شرور أنفسنا) لأنه عندنا زلات في اللسان، وفي السمع، وفي البصر، وفي القدم، وفي اليد، زلاتنا كثيرة فالله يبتلينا بمثل هذا البلاء. فأنا أقول: هذا الابتلاء ينبغي للإنسان بمجرد أن يجده أن يجعل أمام عينيه أن لا مفر من الله إلا إلى الله، ومن اعتمد على غير الله جل وعلا أو تعلق بشيء سوى الله معتقداً أنه ينفعه أو يضره فقد أشرك مع الله جل جلاله، ينبغي على الإنسان أن يعلم أنها مزلة الأقدام، وأنه إذا أشرك بالله جل وعلا فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، لا ينفع ولا يضر إلا الله جل جلاله (من أتى عرّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) كما ثبت في الحديث الصحيح. لا تذهب إلى ساحر ولا إلى كاهن فلن يغني أحد غير الله عز وجل لك من الله شيئاًَ، انطلق من الأساس وهو كثرة الاستغفار. الوصية الثانية في علاج البلايا: كثرة الصدقات؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب) كثرة الصدقات سبب، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أن الشمس عندما أكسفت أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة والاستغفار، وقرن بين الصدقة والاستغفار، قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن الإكثار من الصدقات عند البلاء سبب في رحمة الله جل وعلا للعبد.

لقاء الخير

لقاء الخير إن سبب النجاة والفلاح في الدارين هو الاعتصام بالكتاب والسنة؛ لذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم أمته على ذلك كثيراً، وبالإضافة إلى ذلك تقوى الله وطاعته والإحسان إلى خلقه، والاهتمام بالأعمال القلبية، وعلى رأسها الخوف والمحبة والرجاء؛ فإن هذا كله مما تنال به رحمة الله التي وسعت كل شيء.

ضرورة الاعتصام بالكتاب والسنة

ضرورة الاعتصام بالكتاب والسنة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. أيها الإخوة الكرام: أيها الأحبة في الله! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام مرة أخرى: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونرحب بالمشايخ الفضلاء ونرحب نيابةً عن الداعية الشيخ خالد بن عبد الله القحطاني بالإخوة جميعاً، ونسأل الله أن يجعل هذا اللقاء لقاء خير، ويسعدنا ويشرفنا أن يكون في معيتنا هذه الليلة إضافةً إلى المشايخ الفضلاء من أهل هذه المنطقة الشيخ محمد الشنقيطي وهو معروف لدى الكثير بل الجميع، وكذلك الشيخ محمد الدويش وفقهما الله إلى كل خير، وهما وأشرطتهما وما كتبا يبينان من هما، نحسبهما على خير ولا نزكي على الله أحدا. ونسأل الله جل وعلا أن يحشرنا جميعاً في فردوسه الأعلى مع نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أيها الإخوة الكرام: أعلم أن الجميع في أحر الشوق لسماع كلمةٍ من الشيخين الكريمين، فأترك المجال لهما بعد أن رحبت بهما وبالجميع، وأسأل الله أن يبارك لهما في خطواتهما، ولكن قبل ذلك وخير ما تشغل وتعمر به المجالس كلام الله جل وعلا، فنستمع إلى بعض الآيات والتي نود من الشيخين الكريمين أن يعلقا عليها طلباً واقتراحاً لا إلزاماً وأمراً، فأقول كما قال حبيبنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) كما كان يبتدئ بها في كثير من خطب حاجته في عدد من الأحيان، وإن كان ليس من اللازم أن يُبتدأ بها، فإنه قد ثبت كما في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ كلمته بقوله: (ما من نفس منفوسة) وفي أحاديث أخرى لم يبتدئ بخطبة الحاجة فدل على أنها سنة وليست بالواجب. وفي كل وقت أقول: كثيراً ما كان عليه الصلاة والسلام ينبه أمته على الاعتصام بكتاب الله وبسنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، التي فيها النجاة وفيها الفلاح بإذن الله تبارك وتعالى، فلا فلاح ولا نصر ولا سعادة ولا هداية لا في مجال العلم والتعليم، ولا في مجال الوعظ والإرشاد، ولا في مجال الجهاد في سبيل الله، ولا في أي مجال من المجالات الخيرية إلا بالرجوع إلى هذين الأصلين، وإلى الوحيين من كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى فهم السلف الصالح، ويكفينا في ذلك ما جاء في كتاب الله من الآيات، وسوف نكتفي بواحدة منها، ومما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكتفي بواحد منها، ومما جاء من كلام السلف أيضاً ونكتفي بواحد من كلامهم. أما ما جاء في كلام الله جل وعلا فهو في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة:137] أي: لا هداية ولا سعادة في الاعتقاد، ولا في العمل ولا في العلم، ولا في العبادة ولا في الأخلاق ولا في السلوك ولا في المعاملة، ولا في شأن من شئون الحياة إلا بأن نهتدي بمثل ما اهتدى به نبينا صلى الله عليه وسلم. أما الأحاديث فهو ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث بأسانيد يقوي بعضها بعضاً، أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر في أحاديث الفرقة الناجية أنها: (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، فيجب أن نكون على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العلم والعقيدة والعمل. وأما قول السلف فهو قول إمام دار الهجرة الإمام مالك فيما نقل عنه: [لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها]. نسأل الله جل وعلا أن يعيدنا جميعاً إلى كتابه وإلى سنة نبيه؛ لننهل من معينهما، ونتعلم منهما ولنعمل بذلك وندعو إلى الله على بصيرة وحكمة. وقد أتتني هذه القصاصة أو هذه الورقة من أخي الحبيب، فيها أبيات من الشعر يهديها إلى الضيفين الكريمين وإلى الجميع، فيقول فيها: سلام من صحيح القلب يهدى إلى أغلى الأحبة والصحاب يؤرقني له شوق وذكرى وطول مدى التفرق والغياب وأبعث ما يكن له فؤادي إلى الشنقيطي بين يدي خطابي نقول إلى الشنقيطي وفقه الله وإلى الدويش وإلى الجميع، نسأل الله أن يوفقنا لذلك. ونستمع الآن إلى آيات من الذكر الحكيم يرتلها علينا الشيخ خالد بن عبد الله القحطاني، ثم نقترح على الشيخين أن يعلقا عليها لننتفع من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وجزاكم الله خيراً، ومع التلاوة: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:53 - 61]. نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ونترك الآن المجال لفضيلة الشيخ: محمد الشنقيطي ليعلق على هذه الآيات، ثم بعد ذلك نثني بالشيخ محمد الدويش.

سعة رحمة الله ومغفرته

سعة رحمة الله ومغفرته كلمة الشيخ محمد الشنقيطي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بسط يده للتائبين، وعمَّ برحمته ذنوب المسيئين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وجميع من سار على نهجهم إلى يوم الدين، كلما رقت قلوب المنيبين وكلما دمعت عيون المسرفين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي أخي الفاضل الشيخ: خالد كل خير على هذا المجمع المبارك، وأن يجزيكم جميعاً خير الجزاء وأجزله على هذا المجلس، وأن يكتب لنا ولكم الخُطى، وأن يوجب لنا ولكم بها الحب والرضا. ثم إنه لمن توفيق الله جل وعلا أن تُختار هذه الآيات الكريمة، وهذه المقاطع الجليلة العظيمة التي كان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أرجى آية في كتاب الله هي هذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]) أرجى آية في كتاب الله تجبر كسر المكسورين، وتحدث السلوان للمصابين: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]. هذه الآية الكريمة التي نظر الله عز وجل فيها إلى أمم غرقت في ذنوبها وقلوب أسرفت في غيها وفجورها وإلى أمم تعيش في الظلمات وقلوب حائرة في السقاطات والجهالات إلى تلك الجموع التي هوت وضلت عن سبيل الله وغوت إلى قلوب طالما فرت عن ربها وأفئدة طالت غربتها عن خالقها، نظر الله إليها نظر الرحمة؛ لكي يناديها بهذا النداء، فنسبها إليه جل وعلا: (قُلْ يَا عِبَادِي) ومن لهم غيره؟! ومن لهم سواه؟! ومن يرجون عداه؟! حينما عظم من النفس إساءتها، وجل منها خطيئتها ووزرها، نظرت إلى اليمين والشمال ومن فوقها ومن تحتها ومن أمامها وخلفها، فعلمت عندها أن لا مفر من الله إلا إليه. عندها أقبلت على الله جل وعلا، والقلوب محترقة بالحزن والألم، والنفوس متوهجة من شديد العتب والندم، تحس أنه ما كان ينبغي ما فات وسودت به الصحائف، تحس أنه لا غنى لها عن ربها، وأنها قد أسرفت في فجورها وغيها، وأنه إذا لم تصب برحمة من فاطرها فالويل ثم الويل لها، فعندها أحست من صميم القلب والفؤاد أن النجاة هناك، وأن المفر إلى هناك، إلى الله وجلَّ الله. إلى من إذا دمعت بين يديه دمعة غسلت الذنوب إلى من لا يذكرك بما مضى إذا أنبت بصدق إليه جل وعلا إلى الله الذي إن أقبلت إليه إقبال الصادقين لم يلتفت إلى ما مضى من ذنوب المسيئين، عندها أحسست أن النجاة عند الله، وأنه لا مفر من الله إلا إليه، وأن لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه. فمن يربيهم بالنعم غيره؟ ومن يغذيهم بالفضائل والمنن غيره؟ يا من لا مفر لكم إلا إليَّ! يا من لا عدة لكم سواي! يا من طالت غيبتكم! يا من طالت غربتكم! ((لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) [الزمر:53] أي: لا تقنطوا مما أعددت من رحمات تُغسل بها الذنوب، وتقال بها العثرات، لا تقنطوا وإن عظمت من النفس إساءتها ولا تيئسوا وإن ذلت النفوس من خطيئتها، فللذنوب غفرانها، وللعيوب سترها، وللكروب تفريجها، كم نادى منادٍ والقلب يحترق من الألم، وقد تلطخ بالذنوب ولكن جاء يطلب الإقالة مع الندم فرجع كيوم ولدته أمه. بغي من بغايا بني إسرائيل ما عملت خيراً قط، حياتها في الزنا والفجور، مرت على كلبٍ يلهث يأكل الثرى من الظمأ، فنزلت فملأت موقها فسقته فشكر الله لها فغفر ذنوبها. ومر عبد على غصن شوك فزحزحه عن الطريق، فزحزحه الله به عن نار جهنم، فما أحلمه! وما أرحمه! ما ضاقت رحابه بالمنيبين، ولا طرد عن بابه المسيئين، فما وقف أحد ببابه فرده خائباً عن جنابه، وما وقف أحد ببابه فخيبه في سؤاله ورجائه. هل وقف أحد بباب الله فطرده الله عز وجل وأبعده؟ هل رجا أحد ربه فخيبه فيما رجاه؟ فما عنده إلا الحلم والرحمة والفضل والإحسان، تبارك الله الواحد المنان. وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) نظر إليهم في جوف الليل وقد تلطخوا بالذنوب والمعاصي، فستر وتفضل بالستر وهو قادر على الفضيحة، حتى إذا انبلج ضياء الفجر وشع ضياء الصبح وانتشر، رُفِعت الأكف إليه تدعوه وتسأله وترجوه فبسط يده بالعفو بالنهار عن ذنوب الليل: (يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار) حتى إذا أشرقت الشمس بضيائها تلطخت أمم بذنوبها وسيئاتها فغفر وستر، حتى إذا جن عليها ضياء الليل تحركت في النفوس أشجانها، ونادت النفس اللوامة: أيا نفس ماذا فعلت؟! أيا نفس أي ذنب اقترفت؟! أيا نفس أي رب عصيت؟! فدمعت بين يدي ربها، وأنابت إلى الله خالقها، فتولى ذنوبها بالعفو والصفح، فكأن لم يكن ذنب وكأن لم تكن إساءة. فما أحلمه بعباده! وما أرحمه بخلقه! وكلما عظمت الذنوب، وكلما اشتدت الخطايا من النفوس فسلوانها أن الله لها، ومهما أساء المسيء في جنب الله فإنه بسعة عفو الله، وهو الذي يجرئه على حدود الله، وإن كان ينبغي له أن يحس بعظيم نعمة الله وأن يستحي من الله، لكن ما أحلمه! وما أرحمه! وما أكرمه! ومع هذه الرحمات وواسع العفو والمغفرات ما قدرناه حق قدره، ولا أجللناه حق إجلاله، تمحى الذنوب من الصحائف وإذا بالعبد يعود إلى تسويدها، فكأن لم يكن وكأن لم تكن له رحمة من الله، فما أوسع رحمة الله بعباد الله! وما أجرأ الخلق على حدود الله! وقفت مع هذه الآية الكريمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] لا تقنطوا؛ لأن الله يغفر الذنوب جميعا، فليس هناك ذنب أكبر على الله من أن يغفره إلا أن يموت العبد على الشرك أو على الكفر والعياذ بالله، فخاب وخسر الدنيا والآخرة {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] فيكتب خالداً مخلداً في النار يوم أن يكتب عليه حرمت عليه الجنة فلا ترى عينه فردوسها ولا جنانها. يغفر الذنوب جميعاً إذا لم تبلغ النفس إلى سكراتها، ولم تفارق أو تصل إلى حدها من حياتها: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] لا يجوز لمسلم بعد هذه الآية الكريمة إذا وقع منه أي ذنب كان أن يستعظمه على الله جل وعلا، ولو قتل ولو زنا ولو سرق ولو فعل الموبقات، ولو ارتكب كبائر الفواحش والمنكرات فليضع نصب عينيه {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. حمل عمر بن الخطاب السيف لكي يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقلب الله قلبه في لحظة واحدة لكي يكون إماماً ورحمةً للمسلمين، فما أوسع رحمة الله بعباده! وما أوسع حلم الله على خلقه! نعصيه على أرض هي بساطه، وخيرات هي طعامه وهي نعمه جل شأنه وتقدست أسماؤه. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم: أن يمن علينا وعليكم بالتوبة النصوح، وأن يمن علينا وعليكم بغفران الذنوب وتكفير الخطايا وستر العيوب، اللهم إنا نسألك في هذه الحياة قبل لقائك بأننا نشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً ولم يكن له كفواً أحد، اللهم لا تبقِ لنا ذنباً إلا غفرته، اللهم اغفر لنا ما كان وما سلف، اللهم بارك فيما بقي من أعمارنا، اللهم ارزقنا فيها قولاً يرضيك عنا، وعملاً يرضيك عنا، وثبت أقدامنا على طاعتك إلى لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

ضرورة اجتماع المحبة والخوف والرجاء

ضرورة اجتماع المحبة والخوف والرجاء المقدم: أحسن الله إليك، ونفع الحاضرين والمستمعين بما سمعنا، وجعلنا ممن تنفعه هذه الكلمات في دنياه وفي أخراه، فننطلق عاملين بها لا متأثرين تأثراً لحظياً، ولكن تأثراً إلى أن نلقى الله جل وعلا، وهو راضٍ عنا، كما قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. نسأل الله أن يصلح ظواهرنا وبواطننا، وأن يجعلنا دائماً وأبداً ممن يخاف ربه، وممن يخشاه، وممن يرجو ثواب الله جل وعلا، فالمؤمن لابد أن يكون بين جناحين: جناح الخوف والرجاء. الخوف: هو أن يخاف من ربه جل وعلا، ويخاف من عقابه ويخاف من تحول نعمته إلى نقمة. والرجاء: هو أن يرجو ما عند الله، ويرجو ثواب الله، ويرجو لقاء الله وهو عنه راض، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارجه: والقلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر: رأسه المحبة وجناحاه الخوف والرجاء، فإذا قطع الرأس مات الطائر وإذا كسر أحد الجناحين فهو عرضة لكل صائد وكاسر. فلا بد -أحبتي- أن نسير بقلوبنا إلى الله جل وعلا، محبة في الله جل وعلا وخوفاً من الله تبارك وتعالى، ورجاءً فيما عنده، حتى نكون من المؤمنين الموحدين، كما نقل عن مكحول الدمشقي ونقل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في فتاويه: أنه من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -من الخوارج - ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله حباً فيه ورجاءً لما عنده وخوفاً من عقابه فهو مؤمن موحد. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم كذلك. أيها الإخوة الكرام: الخوف المحمود هو: ما حجز عن محارم الله جل وعلا، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فقد تنزل منا دمعة وقد نتأثر لحظة أو لحظات، وقد نتأثر في رمضان خلف الإمام وخاصةً لما يدعو، وقد نتأثر من بعض الآيات، وقد نتأثر من بعض الكلمات من الدعاة الصادقين الذين نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، ولكن لابد أن يستمر العبد مع إخوانه ليزيد إيمانه، ولابد أن يستمر العمل حتى لا يصدق فينا حديث رسول صلى الله عليه وسلم -الذي رواه ابن ماجة وهو حديث حسن من حديث ثوبان: (لأعلمن أناساً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال كأمثال جبال تهامة بيضاء من الأعمال الصالحة يجعلها الله هباءً منثورا، أما إنهم منكم، يقرءون القرآن كما تقرءون، ولهم حظ من الليل ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). نسأل الله أن يصلح ظواهرنا وبواطننا، وأن ينفعنا بما سمعنا، ونترك الآن المجال لفضيلة الشيخ محمد الدويش ليعلق على الآيات التي تليت، أو على ما تبقى منها وفقنا الله وإياكم للاستفادة، ووفق الله الشيخ للحق والسداد. كلمة الشيخ محمد الدويش:

الحث على التزود من الأعمال الصالحة

الحث على التزود من الأعمال الصالحة كلمة الشيخ: محمد الدويش: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فكما أن للكلمة الصادقة التي تصدر من قلب يخاف الله سبحانه وتعالى ويخشاه ويرجو ما عنده أثراً بالغاً في نفس مستمعها, وكأنه وهو يسمع يقرأ ما في قلب صاحبها، فإن الكلمة المتكلفة التي تصدر من اللسان والتي تصدر من قلب قاسٍ بعيدٍ عن الله سبحانه وتعالى هي الأخرى لن يكون لها نصيب من التأثير والسماع، وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، والكلام الذي خرج من اللسان لن يتجاوز الآذان. ولهذا أرى أنني أفسد عليكم كثيراً عندما أعلق على ما قاله شيخنا حفظه الله ونفعنا بعلمه، ولا أزيد إلا على أن أؤكد على أن هذه المشاعر التي تمر بنا، عندما نسمع كلام الله تعالى، أو نسمع موعظةً لا يجوز أن تبقى مجرد مشاعر في القلب يتأثر بها المرء، فالله سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]. فلابد أن يكون لهذا الخوف عمل، ولا بد أن يكون لهذا الرجاء عمل، وأن نوظف هذا التأثر -الذي نجده في نفوسنا عندما نقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو نقف بين يدي الله عز وجل أو نسمع موعظة- لكي يتحول إلى رصيد من العمل، والامتناع عما حرم الله سبحانه وتعالى، والتوبة الصادقة النصوح إليه. فقد أثنى الله سبحانه وتعالى على عباده بثناء قال فيه سبحانه وتعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:8 - 10] فأخبر الله سبحانه وتعالى أن هذا الخوف إنما قادهم إلى هذا العمل والإنفاق والبذل. ولا أريد أيها الإخوة أن أطيل عليكم أو أثقل عليكم، ولا أزيد على أن أؤكد ما قاله شيخنا: أن نسعى دائماً إلى أن نزيد من رصيد العمل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العمل النافع، والعمل الصالح، وأن يجزي شيخنا خير الجزاء على ما ذكرنا به ورقق قلوبنا، ونسأل الله تعالى رقة القلوب وخشيتها، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أهمية خوف المؤمن من حبوط عمله وهو لا يشعر

أهمية خوف المؤمن من حبوط عمله وهو لا يشعر شكر الله لفضيلة الشيخ محمد الدويش على هذه الكلمة، وقد ذكرني عندما تكلم عن حاله بفعل كثير من سلفنا الصالح، وعلى رأسهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، كانوا يبذلون ويعملون ويجدون ويجتهدون ويجاهدون ويضحون، ومع ذلك يقولون عن أنفسهم ولسان حالهم: يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني أيها الإخوة: هذا شأنهم، يعمل ويجد ويجتهد في دين الله جل وعلا، أعمال قاصرة من قيام الليل وصيام وغير ذلك، وأعمال متعدية من دعوة وتأليف وكتابة ونشر للخير وهداية للخلق، هداية دلالة وإرشاد وإلى غير ذلك، ومع ذلك يستشعر أنه مقصر في جنب الله وفي ذات الله جل وعلا. وفي صحيح البخاري في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، أورد أثراً عن ابن أبي مليكة يقول: [أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله كلهم يخاف النفاق على نفسه] الصحابة وهم من هم في العلم والعمل والجد والاجتهاد والبذل في كثير من مجالات الحياة، ومع ذلك يخافون النفاق على أنفسهم، يقول ابن حجر: ومن أدرك ابن أبي مليكة؟ أدرك أناساً من كبار الصحابة، أدرك أبا هريرة وأدرك عائشة وأدرك العبادلة وغيرهم، ومع ذلك كان أحدهم يخاف النفاق على نفسه. فاروق هذه الأمة عمر كان يبذل ويعمل وسيرته معروفة، ومع ذلك كان يقول لابنه عبد الله عند موته: [ضع خدي على التراب، فإني لا أدري أيغفر الله لي] وهذا من استشعارهم للتقصير، قال الحسن البصري رضي الله عنه: [أولئك جمعوا إحساناً وخشية، ومَن بعدهم جمعوا إساءةً وأمنا] يكون عنده معاصٍ وذنوب ثم يقول: أنا أحسن من غيري، فعلت وبذلت وغيري لم يفعل ما فعلت. نسأل الله السلامة والعافية. فاروق هذه الأمة عمر الذي لا تخفى عليكم الأحاديث الواردة في فضله، يشهد له النبي عليه الصلاة والسلام بأنه من العشرة المبشرين بالجنة، ويوم وقف النبي على جبل أحد قال: (أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ويقول صلى الله عليه وسلم عن عمر: (ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً آخر) وكذلك شهد له الصحابة بذلك، يقول ابن عباس: [كثيراً ما كان يقول عليه الصلاة والسلام: جئت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر] ومع ذلك كان يتبع حذيفة أمين سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فينظر من يصلي عليهم حذيفة ومن لا يصلي عليهم؛ لأنه يعلم أنه يحفظ أسماء المنافقين، ثم يأتي لـ حذيفة فيقول: [يا حذيفة! أسألك بالله أعدني رسول الله في المنافقين؟] عمر يخاف على نفسه؛ إذاً ماذا نقول عن أنفسنا؟ ولا يعني هذا أن نقنط، وإنما هذا شعور لابد أن نستشعره، وأن نعمل ونبذل ونستشعر الخوف من الله جل وعلا، ونخاف من عدم القبول. نسأل الله أن يرزقنا وإياكم إخلاص النية، وأن يبعد عنا جميع أمراض القلوب، والعُجْبَ الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أنكم تذنبون لخفت عليكم ما هو أعظم!! العجب العجب) كما ثبت في الحديث الحسن، ونسأل الله أن يطهر قلوبنا من الرياء الذي هو الشرك الخفي، ونسأل الله أن يطهر قلوبنا من الكبر: الذي لا يدخل صاحبه الجنة، ونسأل الله جل وعلا أن يطهر قلوبنا من جميع أمراضها، وأن يطهر ظواهرنا وبواطننا، كما نسأله أن يرزقنا الاستقامة على دينه والثبات على شرعه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يلتزم السنة وهدي نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لنكون من عباده المهتدين. أما الآن فمع كلمة للشيخ محمد الشيخ حفظه الله ليتحفنا بما عنده، نسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وما نقول.

حاجتنا إلى التوبة النصوح

حاجتنا إلى التوبة النصوح كلمة الشيخ: محمد الشيخ. الحمد لله الكريم التواب، الرحيم الوهاب، الذي خضعت لعظمته الرقاب، وذلت لجبروته الصعاب، ولانت لقدرته الشدائد والأطناب، رب الأرباب، مسبب الأسباب، ومنزل الكتاب، وخالق خلقه من تراب، {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:3] عليه توكلت وإليه متاب، وصلى الله وسلم وبارك على خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضلهم بلا ارتياب، وعلى سائر الأصحاب. ثم أما بعد: أيها الأحبة في الله: فإنه لا زيادة على ما تقدم به المشايخ، ولكن أود أن أذكر نفسي وإخواني أن الكلام الذي قيل، والآية التي تليت وفسرت ووضحت، هي تعنينا قبل غيرنا، فقد يظن الكثير أن آيات التوبة وخطاب التوبة إنما يوجه إلى من زنى أو إلى من سرق أو إلى من تراكمت عليه المعاصي لا، فنحن أحوج ما يكون إلى توبة نصوح. إن الله تبارك وتعالى أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيات يأمره بها وأصحابه من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، والسابقين من المهاجرين والأنصار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فقدموا وبذلوا وضحوا وجاهدوا، أمرهم الله جل وعلا وهو يخاطبهم بخطاب الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم:8]. الشاهد أيها الأحباب! لا يستغني أحد منا عن أن يستغفر الله، فإذا كان نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة) وهو الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لعلمه صلى الله عليه وسلم أن حق الله أعظم من أن يؤديه بشر، فلا يزال كل عبد مسلم مقصراً في حق الله، ذلك أنه جل وعلا ربه ومولاه وخالقه ورازقه الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فأنَّى للعبد أن يوفيه حقه، وأن يعبده حق عبادته. فلا شك أن العبد محتاج إلى أن يتوب من التقصير، ومن الجفاء، ومن البعد عن الله تبارك وتعالى ولو للحظة، ولذلك علَّمنا صلى الله عليه وسلم حديثاً وذكراً ما أطيبه وما أسعد من أخذ به، قال صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) فهل وفيت نعمته عليك بالهداية والإسلام واتباع خير الأنام؟ أبدا، فلا بد أن تقول ذلك (وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك، وأفسد -كما ذكر ذلك الشيخ محمد - موعظة الشيخ وكلامه والذكرى التي ذكَّرنا بها. ولعلي أختم أيها الأحبة كلمتي بالوصية بأن نشمر للجنة بالتوبة (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) فسارعوا إليها بالتوبة، فسارعوا إليها بالتوبة وعمروا دنياكم بالتوبة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهلها: فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أسأل الله أن يتولانا برحمته، وأن يجعلنا وإياكم من أهل طاعته، وأن يسعدنا وإياكم بعبادته، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الفوز يوم أن نلقاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أثر حفظ الجوارح

أثر حفظ الجوارح المقدم: أما الآن فمع مسك الختام ومع شيخنا الذي رغم كثرة مشاغله، ورغم كبر السن، إلا أنه أبى إلا أن يكون قلبه قلب شاب، ومن نشأ في طاعة الله أمده الله بعونه وأمده الله بتوفيقه، والله إذا رأيته خاصة عندما تراه في أراضي الجهاد يتنقل مع الشباب وكأنه لم يتجاوز العشرين، وإذا جئت إلى محاضرة وجدته، وإذا جئت إلى درس وجدته، ويذكرني ذلك بما نقل عن المحب الطبري: أنه كان ذات مرة قريباً من الشاطئ، فقبل أن يصل القارب إلى الشاطئ قفز قفزةً لا يقفزها كثير من الشباب، فلما قالوا له: يا شيخ! قد بلغت من السن قرابة الثمانين فما الذي قواك لمثل هذا؟! فقال: تلك جوارح حفظناها لله في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر. أيها الشباب خذوا درساً من هذه الكلمات، ويذكرني كذلك بالصحابي ابن الجموح الذي أقسم أن يطأ بعرجته الجنة، وبغيره رضي الله عنهم وأرضاهم، ومع الشيخ: محمد بن سليمان الشيحة ليتكلم دقائق عدة، نختم بها هذا المجلس فليتفضل جزاه الله خيرا.

تقوى الله والاستقامة على دينه

تقوى الله والاستقامة على دينه كلمة الشيخ: محمد بن سليمان الشيحة. أحمده سبحانه وأثني عليه وأشكره على مزيد الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعزنا بالإسلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، سيد الخلق ورسول الحق وخير الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28]. أما بعد: أحييكم أيها الأحبة بتحية الإسلام المباركة: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. سمعنا -أيها الإخوة! - من أصحاب الفضيلة مشايخنا ما حذروا منه، وأوصوا به، كيف يكون المؤمن وجلاً خائفاً، وإذا غمر قلب المؤمن الخوف من عذاب الله والرجاء في ثواب الله، سارع إلى العمل الصالح، والله سبحانه وتعالى يقول ويأمر ويحذر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] أي: اتقوه في طاعته واجتنبوا معصيته. والتقوى: أن تطيع الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وتجتنب معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله، أي: لا يفتقدك ربك حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك. والتقوى هي: الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل. هذه الدنيا -أيها الأحبة- دار الأعمال، ودار الآخرة دار الجزاء والثواب والعقاب، واغتنموا فرصة الحياة لتسارعوا إلى الأعمال الصالحة، والاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن المستقيمين لهم جزاء عظيم، إذ يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14] توحيد واستكانة على كلمة التوحيد، فإذا كانت حياتنا نابعة من الإيمان بالله جل وعلا وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، صلحت أحوالنا وصلحت أعمالنا وصلحت حياتنا.

المبادرة بالإيمان الصادق والعمل الصالح

المبادرة بالإيمان الصادق والعمل الصالح إذاً أيها الأخ الكريم! بادر في الحياة الدنيا إلى الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والعلم النافع الذي يكون في ميزان أعمالك، فإن كان كل مسلم مؤمن همه كيف تصلح حياته الدنيوية، وحياته البرزخية، وحياته الأخروية، فلا يكون ذلك إلا باستقامة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أيها الأحبة: هنا عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، فلنتقِ الله في أعمالنا وأحوالنا وأقوالنا؛ لكي نفوز برضا ربنا، ونحشر في زمرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فهذا يحتاج إلى مجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

مرتبة الإحسان وأهميتها

مرتبة الإحسان وأهميتها أيها الأخ الكريم: إن الإحسان أعظم ركن في الدين: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) هذا الركن العظيم إذا عملنا به، وإذا أحسنا العمل به، وإذا أحسنا العبودية لله رب العالمين، صلحت أحوالنا وصلحت أعمالنا. ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما ما يحبه ويرضاه من الاستقامة على نهجه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله أسأل أن يعز دينه، ويعلي كلمته، ويصلح عباده إلى السير في طريقه المستقيم، وعلى منهجه القويم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. جزى الله الشيخ محمد الشيحة خير الجزاء. وأشكركم أيها الأحبة شكراً جزيلاً على الحضور، فمنكم من تجشم الصعاب، وعلى رأسكم فضيلة الشيخ الدكتور محمد الشنقيطي حفظه الله، وأمد في عمره ونفع به، ولا يفوتني أن أشكر والدي حفظه الله والذي حضر هذا المجلس، والذي قد رباني فأحسن تربيتي، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لي وله وللجميع، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا على محبته وطاعته، وفي الجنة بإذنه تعالى، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مجاهدة النفس على الطاعة

مجاهدة النفس على الطاعة أيها الحبيب: لابد في هذه الحياة من مجاهدة النفس، فالنفس أمارة بالسوء، وقد تغر الإنسان هذه الحياة الدنيا ومتاعها وزخارفها، فالله يحذرنا من هذه الدنيا: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان:33]. الله سبحانه وتعالى يحاسبك ويستنطقك عما قدمت من أعمال في هذه الدنيا، فحذار -أيها الحبيب- هذا اليوم الذي قال الله جل وعلا فيه: {فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس:33 - 38]. اللهم اجعل وجهنا من هذه الوجوه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:38 - 42]. أيها الأخ الكريم: {فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ} [عبس:33] هذا اليوم الذي يفر فيه القريب من قريبه، والابن من أبيه، والأم من ابنها، كلٌ منهم همه نفسه وهمه حاله؛ لأنهم في يوم رهيب عصيب. إذاً أيها الأخ الكريم: احذر ذلك اليوم، واعرف ما ينبغي عليك أن تؤديه في هذه الحياة الدنيا من عمل صالح يرضاه ربك وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن فعلنا ذلك أنجحنا وأفلحنا وفزنا في حياتنا الدنيوية، وفي حياتنا البرزخية وفي حياتنا الأخروية، ذلك اليوم الذي يفر الابن من أبيه، يقول الأب في ذلك اليوم لابنه: حسنة يا بني، فيقول الابن: يا أبتِ إني بحاجة إلى هذه الحسنة، كلٌ همه نفسه في ذلك اليوم، وتقول الأم لابنها: حسنة يا بني طالما كان حضني لك وقاء، وصدري لك سقاء، وحجري لك وطاء فحسنة يا بني، فيقول الابن: إنني يا أماه أشكو مما تشكين منه.

قيام رمضان

قيام رمضان من أجل نعم الله على عباده أن امتن عليهم بهدايتهم إلى الخير، وتحديد مواسم للتركيز فيها على أنواع من العبادات، ومن هذه المواسم شهر رمضان الذي يعد من أهم مواسم الطاعات. ومن أهم الطاعات التي يعتبر رمضان موسماً لها قيام الليل، ففيه مناجاة للحي القيوم، واتباع لسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن في رمضان إلا ليلة القدر وما فيها من الفضل، لكفى بها مزية لهذا الشهر.

فضل قيام الليل

فضل قيام الليل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن من أجل الطاعات وأفضل القربات التي يحبها الله عز وجل قيام الليل، فقيام الليل دأب الصالحين وشأن عباد الله المتقين كما أثنى الله عليه في كتابه المبين، وهذا الشهر -أعني: شهر الصيام- فرض الله عز وجل على عباده المؤمنين صيامه، وندب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم إلى قيامه، فحري بالمسلم أن يشحذ همته لقيام هذا الشهر المبارك، اقتداءً وامتثالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وقيام الليل فضيلة من الفضائل ونعمة من أجل نعم الله على عباده، فالله إذا أحب عبداً من عباده فتح له أبواب رحمته ويسر له سبيل طاعته، فينشرح صدره للخير، وقد امتن الله بهذه النعمة على نبيه فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فإذا أراد الله بعبده خيراً شرح صدره لهذه الطاعة وسهلها عليه، ولا يزال المؤمن يحفظ قيامه من الليل حتى يكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، بل وتجده يضجر ويسأم ويتألم إذا حُرِم ذلك القيام، إذا حُرِم مناجات الله جل جلاله والوقوف بين يديه في ساعة هدأت فيها العيون وسكنت فيها الجفون وهو ينادي الحي القيوم. وقد أثنى الله عز وجل على أقوام أحبوا الآخرة فجدوا في ليلهم في القيام، فقال سبحانه وتعالى عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] وقال سبحانه وتعالى شاهداً بفضل هؤلاء وأنهم أهل خوف ورجاء: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. فمن يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه يحيي ليله بذكر الله جل جلاله؛ لعلمه بفضيلة هذه المنزلة، وبعلو درجة هذه القربة عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضائل الأعمال قال: (وركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر) أي: ومن أحب الطاعات إلى الله ركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل الآخر في ساعة يكون فيها الدعاء أسمع، والإجابة أرجى من الله جل جلاله.

هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في قيام الليل

هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في قيام الليل قيام رمضان السنة فيه أن يهتدي المسلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فكان صلوات الله وسلامه عليه قوام لليل في رمضان وغير رمضان، وكانت سنة ماضية في سائر العام لكنه إذا دخل عليه رمضان ودخلت عليه العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله صلى الله عليه وسلم وأيقظ أهله؛ كل ذلك لكي تنتبه الأمة لفضل هذا الشهر عموماً ولفضيلة العشر الأواخر فيه خصوصاً، ففيها ليلة هي أفضل من ألف شهر يقومه العبد لله جل جلاله، وهي الليلة التي يقول العلماء: إن الله اختارها من العام كله، فأفضل ليلة في العام كله بل في الدهر كله هي ليلة القدر، ولذلك اختارها الله لنزول القرآن كما أخبر سبحانه وتعالى في سورة أنزلها للدلالة على شرفها وفضلها. وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل أكمل الهدي وأجمله وأحسنه وأفضله، ما كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل فيبالغ في قيامه، ولا كان على منهج الرهبانية والغلو في العبادة، برئت سنته صلوات الله وسلامه عليه من الغلو والتشدد، ولذلك كان ينام ويقوم عليه أفضل الصلاة والسلام. قال عليه أفضل الصلاة والسلام: (أما إني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ولما سأله عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أن يواصل قيام الليل منعه، فكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أحيا الليل على أجزائه الثلاثة، فقام أول الليل وقام أوسط الليل وقام آخر الليل وانتهى وتره وقيامه عليه الصلاة والسلام إلى آخر الليل. ولذلك قال العلماء: السنة ألا يكون القيام لليل كاملاً، واستثنى بعض العلماء ليالي العشر الأواخر فقالوا: الأفضل أن يجتهد في قيامها ولو استغرق الليل كاملاً بالقيام فلا بأس؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (وأحيا ليله) فدل على أنه لم يكن ينام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام. كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يقوم آخر الليل ولذلك قال العلماء: الأفضل أن ينام المسلم أول الليل ويكون قيامه آخر الليل لعدة أمور: أولها: أن هذا الوقت هو أفضل الأوقات وأشرفها بالليل؛ لأن الله أختاره بنزوله فينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته وكماله، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، نزولاً حقيقياً يليق بجلاله سبحانه وكماله، فينادي: هل من تائب فأتوب عليه، هل من داعٍ فأستجيب دعاءه، هل من مستغفرٍ فأغفر له، فهذا يدل على فضل آخر الليل. وقال بعض العلماء: إن الأفضل للإنسان أن يقوم الثلث الأخير إذا كان واثقاً من القيام، أما إذا غلب على ظنه أنه سينام وأنه لا يتمكن من القيام في آخر الليل فالأفضل أن يؤخر إلى نصف الليل؛ وذلك لأن نصف الليل أقرب إلى الثلث الآخر، وكلما كان القيام قريباً من وقت الفضيلة كلما كان له حظ من الأجر، قالوا: فيؤخر قيامه إلى الثلث الأوسط من الليل؛ لأنه سيتعب في الانتظار ويجد المشقة والجهد وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ثوابك على قدر نصبك) فدل على أن النصب والتعب يزيد في أجر العبادة وأجر القربة، فقالوا: يفضل ألا يقوم من أول الليل وإنما يتأخر إلى قدر نصف الليل ويحيي هذا القدر. وقال بعض العلماء: إذا كان يتأخر إلى نصف الليل ويؤدي ذلك إلى ضياع صلاة الفجر عليه أو أنه يصلي وهو مجهد منهك لا يفقه القرآن ولا يتفهمه فالأفضل أن يصلي عقب العشاء؛ لأنه أقدر على فهم وتدبر القرآن وأكمل في خشوعه وهو يناجي ربه. وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه ينام أول الليل، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات مع النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة، وهذا يدل على فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحبهم للخير، هذا الغلام صغير السن ولكنه كبير بعلمه وفضله ونبله وحبه لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحث عن هديه حتى نام معه عليه الصلاة والسلام لكي يرقب وينظر ماذا يكون من هديه وسنته إذا قام من الليل، فبات في عرض الوسادة كما في الصحيحين، قال: نام عليه الصلاة والسلام حتى نفخ وابن عباس رضي الله عنه يراقب رسول الله صلى الله عليه وسلم مراقبة دقيقة لكي يحفظ للأمة هذا الهدي وهذه السنة؛ فنسأل الله العظيم أن يعظم أجره وثوابه بما حفظ من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فقام أي: قام رسول صلى الله عليه وسلم -هذا بعد شطر الليل- فأول ما كان من قيامه عليه الصلاة والسلام أن مسح النوم من على عينيه ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ثم لما ختمها قال صلوات الله وسلامه عليه: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن) لأنهن آيات عظيمة تدل على عظمة الله جل جلاله فقلب لا يخشع لها ولا يتأثر بها فويل له، ويل له إن لم يتداركه الله برحمته. كان بعض العلماء يقول: من أحب أن يعرف مقدار خشوعه وتأثره فليقرأ هذه الآية، ولينظر هل هو متعظ بما فيها ومتأثر بها أم لا حتى يعرف مقدار منزلته من الخشوع وتأثره بكلام الله جل جلاله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختارها ورتب الوعيد على عدم التأثر بها؛ فدل على أنها آيات عظيمة، قال: (فلما فرغ منها قام عليه الصلاة والسلام فأفرغ من شنٍ -يعني: من قربة- فتوضأ فأسبغ الوضوء) وللوضوء في ظلمة الليل خاصة في ليالي الشتاء لذة يعرفها من يعرفها وحلاوة لو ذاقها المؤمن قل أن يتركها، ففيها غفران الذنوب ورفعة الدرجات: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره). قال بعض العلماء: إسباغ الوضوء في جوف الليل الأظلم في شدة الليلة الباردة الشاتية. تقوم من مضجعك ومن مكان سكونك وراحتك لكي تناجي الله جل جلاله فتصب الماء على أعضائك، فإذا وجدت شدة البرد وأذى البرد على جوارحك وجدت لذة العبودية والطاعة والقربة لله سبحانه. ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نام مع حبه وزوجه وقام من الليل لكي يتهجد قال الله تعالى: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وأهله؟ قالوا: إلهنا يرجو رحمتك ويخشى عذابك، فيقول الله تعالى: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي) (فقام صلى الله عليه وسلم فأفرغ الماء فتوضأ فأسبغ الوضوء) قال ابن عباس: فأسبغ الوضوء ولها معنى؛ لأن هذا الوقت وهو الوضوء في الليل كما ذكرنا غالباً يكون فيه الماء بارداً فمن فقه ابن عباس قال: فأسبغ الوضوء، أي: في وضوئه عليه الصلاة والسلام كان على الكمال وذلك بأن يكون ثلاثاً، قال: (ثم قام فقمت فصنعت مثلما صنع).

الهدي النبوي في صلاة الوتر

الهدي النبوي في صلاة الوتر كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يصل وتره فيكون بالخمس ويكون بالسبع ويكون بالتسع متصلة ويكون بالإحدى عشرة متصلة، ولا حرج أن يوتر بالواحدة منفصلة، وأن يوتر بالثلاث متصلة وأن يوتر بالخمس متصلة وبالسبع وبالتسع كل ذلك جائز ومشروع، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام الإذن بالفصل وكذلك فعله بالوصل، ومن إذنه بالفصل قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) قال بعض العلماء: أنه قال (فليوتر بواحدة) فاستوى أن يكون فصلاً أو يكون وصلاً. والسنة في قيام الليل أن يكون وتراً بهذه الركعة التي ذكرنا وهذه الركعة هي الوتر وهي فضيلة وليست بفريضة على أصح قولي العلماء، وهو قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث أن الوتر سنة وليست بفريضة، والأصل في سنيته قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين لما سئل عما فرض الله من الصلوات؟ قال: (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فلو كانت الوتر واجباً لكانت الصلوات ستاً. وكذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح من حديث طلحة بن عبيد الله: (أنه لما سأله الرجل: ما الذي فرض الله من الصلوات؟ قال: خمس، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع) فدل على أن الوتر فضيلة وليس بفريضة، وقال بعض العلماء بفرضيته كما هو مذهب الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء والفجر) والذي يظهر أن هذا الحديث المراد به في الفضيلة وليس الفريضة، ولذلك جاء بمثل سياقه في ركعتي الفجر فدل على أنها فضيلة وليس بفريضة، فيحمل على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب. والسنة في الوتر أن يكون مرة واحدة، أي: يوتر في ليله كله مرة واحدة ولا يكرر الوتر لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة) كما رواه الترمذي في سننه. قال العلماء: نهي عن الوترين في ليلة؛ لأنه إذا صلى الوتر مرتين أصبح العدد شفعياً، والمقصود في قيام الإنسان بالنافلة في الليل أن يكون العدد وترياً لا شفعياً، وأخذ بعض العلماء من هذا دليلاً على أن من أوتر في أول الليل وقام في آخر الليل أنه يصلي ركعة ينقض بها الوتر الأول، لأن قوله: (لا وتران في ليلة) يدل أن الوتر ينقض الوتر وإذا ثبت هذا فإنه ينقض الوتر الأول بالوتر الثاني، ثم يصلي شفعاً ما شاء ثم يوتر لكي يحصل الفضيلة في قوله: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) إذا صلى في أول الليل وأوتر ثم أراد الله أن يقوم في آخر الليل فأحب أن يصلي فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: الحالة الأولى: إما أن ينقض الوتر الأول بركعة ثم يصلي ما شاء ثم يوتر، وهذا هو المأثور عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ويدل عليه حديث الترمذي: (لا وتران في ليلة) حيث دل على أن الوتر ناقض للوتر. الحالة الثانية: أن يصلي ركعتين ركعتين ولا يوتر؛ لأن الوتر الأول أجزأه، ويدل على هذه الحالة ما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد الوتر). قال العلماء: صلاهما لبيان الجواز وأنه لا حرج على المسلم أن يصلي الشفع بعد الوتر، ولكن هذه الصورة الثانية يشكل عليها أنه يفوت على نفسه الأفضل والأكمل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهذا يدل على أن المستحب والمرغب فيه أن يكون دعاء الوتر في آخر الليل، فإذا كان سيصلي ركعتين ركعتين يكون وتره لأول الليل لا لآخر الليل. الحالة الثالثة: وهو ضعيف ومرجوح يعارض حديث الترمذي الذي ذكرناه فهو أن يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر ثانية، وهذا قول مرجوح والصحيح أنه يقتصر إما على نقض الوتر أو يصلي شفعاً بعد وتره على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

الهدي النبوي في مقاربة الركوع والسجود في القيام

الهدي النبوي في مقاربة الركوع والسجود في القيام كان من هديه عليه الصلاة والسلام مقاربة ركوعه وسجوده لقيامه، كما في حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، وما ألذ القيام إذا كان بهذه المثابة، أن يكون ركوع الإنسان قريب من قيامه وسجوده فهذا من أفضل ما يكون فإنه يجمع بين الفضائل كلها، فيجمع بين فضيلة تلاوة القرآن وفضيلة التسبيح وذكر الله جل جلاله وفضيلة الدعاء في السجود، فيصيب الفضائل على أتم الوجوه وأكملها، ولذلك استحب العلماء أن يكون في الصلاة اتزان من حيث طول الركوع وطول السجود وهذا كله إذا صلى الإنسان لوحده. أما إذا صلى بالناس ووراءه الضعيف والسقيم والكبير وذا الحاجة وحطمة الناس فإنه يرفق بهم ويحاول إصابة السنة قدر استطاعته، ولكن لا يشق على الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل أشياء شرعها للأمة وكذلك نص على أشياء بقوله تشريعاً للأمة فقال: (إذا صلى أحدكم بالناس -وفي رواية- إذا أم أحدكم بالناس فليخفف) فنص على أنه ينبغي له أن يراعي أحوال الناس، فقال: (فإن وراءه السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة) وإذا صلى لوحده فليطول ما شاء. فلما ثبت قيامه بالليل لوحده صلى الله عليه وسلم وطول قالوا: إذا كان الإنسان إماماً في صلاة التراويح يراعي أحوال الناس، فلا يخفف تخفيفاً يفوت به الفضل على الناس ولا يطول بهم إطالة يملون بها كتاب الله عز وجل أو الوقوف بين يديه، وهذا أمر يرجع إلى نظر الإمام وتوفيق الله عز وجل له، فالله تعالى إذا أراد للإمام الخير وضع له القبول بين الناس، فإن الإمام إذا راعى أحوال الناس ورفق بهم ووسع عليهم في الحدود الشرعية وجعلهم يحبون الصلاة وراءه ويرتاحون لذكر الله وراءه فإن هذه غنيمة عظيمة وخير كثير، ولا شك أن الناس يحبون الخير ويقبلون عليه ويزدادون رغبة فيه وهذا أفضل مما لو طول وفوت على الناس حب الخير وفوت عليهم الحرص على شهوده، فلا شك أن الأفضل والأكمل إذا كان هناك رفق أن يراعي من يحتاج إلى الرفق من المأمومين.

من الهدي النبوي: تعظيم الله في الركوع

من الهدي النبوي: تعظيم الله في الركوع كان من هديه عليه الصلاة والسلام: تعظيم الله في الركوع، يركع فيطيل في ركوعه ويعظم الله ويكثر من الثناء عليه، ففي الحديث الصحيح أنه كان من تعظيمه وتمجيده لربه قوله: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو في سجوده في قيام الليل ويختار الأدعية العظيمة التي فيها سلامة العبد في دينه، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم فجالت يدي فوقعت على قدمه ساجداً يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه. فانظر إلى حكمته وعلمه بربه وبصيرته صلوات الله وسلامه عليه كيف اختار هذا الدعاء الذي فيه سعادة الدين والدنيا والآخرة وفلاحهما فقال: (ثبت قلبي على دينك) قال العلماء: يستحب أن يختار الداعي في قيام الليل أفضل الدعاء وأجمعه، وليس هناك أفضل ولا أجمع من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كهذا الدعاء العظيم ونحوه من الأدعية المأثورة.

الهدي النبوي في استفتاح قيام الليل

الهدي النبوي في استفتاح قيام الليل وكان من هديه عليه الصلاة والسلام إذا استفتح قيام الليل يستفتحه بركعتين خفيفتين لا يطول فيهما القراءة، وقال العلماء: إن هذا من أكمل الهدي؛ لأن المسلم إذا قام من الليل أو الإنسان إذا قام من الليل فإنه يقوم وقد تعلقت نفسه بالراحة والدعة والسكون فإذا هجم على العبادة وأطال القيام فإنه قد يمل وقد يسأم؛ ولذلك ابتدأ عليه الصلاة والسلام بالشيء الخفيف حتى تألفه النفس ويستطيع بعدها أن يطول ما شاء. قالوا: ومن الفوائد والحكم التي شرع الله بها السنن الرواتب قبل الصلاة أنها تعين على الخشوع أكثر؛ فإنه إذا دخل بركعتين نافلة قبل الفريضة فإن هذا يعين على الخشوع أكثر، وهذا مجرب، فأنت إذا تأملت إلى الناس ونظرت إلى المبكرين إلى المساجد والذين يحرصون على حضور الصلاة إما قبل الأذان أو لا يؤذن إلا وهم في المسجد تجدهم أخشع الناس قلباً في الصلاة، ومن تجده يتأخر ويتقاعس ولا يأتي إلا على الإقامة تجد خشوعه أقل وتأثره بالقرآن أقل، بل تجد ذلك في نفسك جلياً ظاهراً فإنك ما حرصت على التبكير وابتدأت العبادة بالنافلة قبل الفريضة إلا قويت على الفريضة أكثر. ولذلك قالوا: استفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين فإنه أدعى لتدبر القرآن وأدعى أيضاً للأعضاء أن تقبل على حركات العبادة وقد استجمت وهيئت بهاتين الركعتين الخفيفتين. كان صلى الله عليه وسلم يستفتح قيام الليل بالركعتين الخفيفتين واستحب العلماء أن يكون دعاء الاستفتاح في قيام الليل من طوال الأدعية؛ لأن أدعية الاستفتاح تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: دعاء محض. الثاني: تمجيد محض. الثالث: ما اشتمل على الدعاء والتمجيد معاً. فقالوا: يفضل أن يكون استفتاحه بالدعاء الطويل كما في حديث علي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه استفتح الصلاة بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنوبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ... ) إلى آخر الدعاء الطويل. قالوا: إن الأفضل أن يبدأ به؛ لأنه أدعى لتهيئ النفس لصلاة الليل أكثر. فلما فرغ عليه الصلاة والسلام وكان إذا فرغ من الركعتين صلى ثمان ركعات، يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، وكان يصليها عليه الصلاة والسلام فلا يجلس للتشهد إلا في آخر الأربع الركعات، أي: يصليها أربع متصلة وهذا جائز في النوافل، فأنت إذا أردت أن تصلي أربع ركعات إن شئت وصلت وإن شئت فصلت، إلا أن السنة في الوصل ألا تجلس للتشهد بينهما بين كل اثنتين من الركعات. ثم قال: (فإذا انتهى عليه الصلاة والسلام من الأربع الأولى صلى بعدها أربعاً ثم أوتر عليه الصلاة والسلام). وكان قيامه صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة وهي الثابتة في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة -ثم فصلت ذلك وقالت:- يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن) وهذا يدل على طول القيام، واختلف العلماء رحمة الله عليهم في مسألة طول القيام وعدد الركعات. فقال جمع من أهل العلم: الأفضل في صلاة الليل طول القيام مع قلة العدد بحيث لا يزيد على إحدى عشرة ركعة من ناحية الفضيلة لا سبيل الوجوب واللزوم، وهذا مذهب الجمهور: أن الأفضل في قيام الليل طول التلاوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فكان يصلي أربعاً لا تسألوا عن حسنهن وطولهن. ومما يدل على رجحان هذا القول: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل صلاة الليل. فقال: (طول القنوت) أي: الأفضل فيها طول القنوت، يعني: القيام، ولذلك استدل به جمهور العلماء على أن الأفضل لك أن تطيل القراءة ويكون العدد بهذا الحساب الذي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً لا فرضاً؛ أي: أنه على سبيل الفضيلة لا على سبيل الفريضة، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إنه على سبيل الفضيلة -كما نص عليه في المجموع- وأنه لا يقصد منه أن من زاد عليه أو انتقص منه أنه لا يجوز؛ فنص على أنه ليس على سبيل اللزوم وإنما هو على سبيل الفضيلة. وقال بعض العلماء: الأفضل أن يكثر من عدد الركعات ولو قل قيامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة مرافقته في الجنة قال: (أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال: أعني على نفسك بكثرة السجود) قالوا: فهذا يدل على أن الأفضل في صلاة الليل أن يكثر من السجود، وإذا أكثر السجود لا شك أنه سيخفف من قيامه حتى يكون العدد أكثر. والذي يترجح هو القول الأول: أن الأفضل طول القنوت، ولذلك ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه (أنه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم فأطال عليه الصلاة والسلام القراءة حتى هم عبد الله بأمر سوء قيل له: وما هممت؟ قال: هممت أن أتركه وأذهب) وهذا من طول قراءته عليه الصلاة والسلام.

جواز صلاة الليل بالسر والجهر

جواز صلاة الليل بالسر والجهر يجوز في صلاة الليل في قراءتها الجهر والسر ولا حرج عليه أن يجهر ولا حرج عليه أن يسر، ولكن الأفضل أن يجهر بقدر ما يسمع نفسه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب عمر إلى أن يخفض من صوته وأبا بكر أن يرفع من صوته وهذا هو العدل والوسط الذي أمر الله به. قال العلماء: إنه لو رفع صوته بتلاوة القرآن ذهب خشوعه وضعفت نفسه عن فضائل هي آكد وأبلغ، ولذلك قالوا: يرفع قليلاً بقدر ما يسمع نفسه فهذا هو الأفضل له والأكمل؛ لأنه يكون على نشاط؛ ولأنه إذا رفع من صوته وسمع بإذنه حصل له فضيلة التلاوة وفضيلة التأثر بصورة أبلغ مما لو قرأ في سره.

مسألة: أيهما أفضل: القراءة غيبا أم النظر؟

مسألة: أيهما أفضل: القراءة غيباً أم النظر؟ كما يستحب في قراءة الليل أن يقرأ من القرآن بالنظر وأن يقرأ غيباً، وهل الأفضل أن يقوم في الليل بالقرآن أو غيباً؟ مسألتان: المسألة الأول: أنه يجوز له أن يقرأ بالقرآن نظراً، والأصل فيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تأمر مولاها ذكوان أن يقوم بالليل بالمصحف، ونص جماهير العلماء على أنه لا حرج أن يصلي في صلاة الليل وهو ينظر إلى المصحف لكن: هل الأفضل أن يقرأ بالمصحف أو يقرأ غيباً؟ قال بعض العلماء: الأفضل أن يقرأ غيباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ غيباً؛ ولأنه إذا قرأ غيباً انشغلت أحاسيسه وانشغل ذهنه بتذكر الآيات وضبطها وأدائها من دون نقص أو خلل، وهذا جهد وتعب يكون أبلغ في الأجر والمثوبة. ولأنه إذا حمل المصحف انشغل بحمله وكلف نفسه حمله، والأفضل له أن يكون نظره إلى السجود وذلك أقوى وأدعى للخشوع فيه، فلذلك قالوا: الأفضل أن يكون غيباً ولا يكون نظراً. وقال بعض العلماء: الأفضل أن يقرأ بالمصحف سواء في الصلاة أو في غير الصلاة؛ لأنه يأمن الخطأ ولأنه أدعى لضبط القرآن فهي فضيلة متصلة؛ ولأن القراءة من المصحف تفرغه في التفكر في الآيات أكثر والتدبر فيها أكثر. والذي يترجح هو القول الأول؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، فالأفضل له أن يقرأ غيباً إلا إذا خشي الخطأ فإنه يحتاط بكتاب الله ويكون قريباً منه، فإذا كان القرآن في جيبه جاز له أن يخرجه وينظر فيه؛ لأنها حركة يسيرة ومن أجل مصلحة الصلاة، وتجوز الحركة إذا كانت يسيرة لمصلحة الصلاة، إلا أن هنا خطأ ينبغي التنبيه عليه وينبغي على طلاب العلم أن ينبهوا الناس عليه خاصة في المساجد الكبيرة أثناء صلاة التراويح، فإنك ترى الرجل حاملاً للقرآن وينظر في كتاب الله عز وجل، فإذا سمع الإمام أخطأ رفع صوته ليرد عليه، وقد يكون بعيداً عن الإمام ويكون الإمام في موضع لا يسمع فيه رده ولا يبلغه صوته، وهذا لا شك أن فيه تشويشاً على المصلين وفيه كلاماً من دون حاجة، ولا يجوز له أن يتكلم إلا من ضرورة وحاجة، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ فأنصتوا) والمسألة عامة حتى من يقف وراء الإمام أو يكون في المسجد والإمام يخطئ لا ينبغي لهم أن يتعجلوا في الفتح على الإمام مادام هناك من يتولى هذا الأمر، وما دام أن هناك حفاظ وراء الإمام يردون عليه إذا أخطأ، فالسنة أن يسكت الناس وأن ينصتوا لكتاب الله عز وجل، وأن يتفرغوا بما ينبغي أن يتفرغ له المأموم من الخشوع والتأثر بكتاب الله. أما حملهم للقرآن أنه سيتكلف هذا الحمل، ثم إذا نظر إليه تكلف النظر للقرآن وهذا قد يفوت عليه فضيلة الخشوع والتأثر بكتاب الله عز وجل وبسماع الآيات، فينبغي للناس أن ينصحوا ويوجهوا ذلك، أنه لا حاجة إلى حمل المصاحف خاصة في المساجد العامة والتي لا يحتاج فيها إلى حمل المصحف من المأمومين. والسنة في القراءة أن تكون مرتلة فإذا قام المسلم من الليل فالأفضل له أن تكون قراءته مرتلة. قال بعض العلماء: الأفضل أن تكون القراءة فوق التجويد ودون الحدر أي: بين بين، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الطوال في قيامه من الليل ولا يتأتى ذلك إلا بطريقة الحدر ولذلك قالوا: الأفضل له أن يقرأ قراءة فوق القراءة المتأنية ودون القراءة السريعة، أما إذا كان وراءه المأموم فإنه يراعي تأثر الناس، والقراء يختلفون على حسب حدرهم وتجويدهم، فبعض القراء تتأثر بقراءته إذا حدر ورتل، وبعض القراء تتأثر بقراءته أكثر إذا جود، ولذلك يراعي تأثر الناس بقراءته، ولا حرج عليه إن قرأ بهذه الصفة أو هذه الصفة فالأمر واسع في قيام الليل؛ لأن المقصود التأثر بكتاب الله عز وجل وبكلامه.

أمور ينبغي مراعاتها في قيام الليل

أمور ينبغي مراعاتها في قيام الليل وفي قيام الليل أمور خاصة في رمضان ينبغي التنبيه عليها:

الحرص على أداء السنن

الحرص على أداء السنن ثالثاً: إذا دخل المسلم المسجد فليحرص على أداء السنن والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الأذكار والهيئات ويبادر إلى الصف الأول، وينبغي التنبيه على عدم تخطي الرقاب وعدم أذية الناس في المسجد بمضايقتهم أو الجلوس بين اثنين على وجه يزعجهم أو يقلقهم أو يشوش عليهم في صلاتهم، فهناك كبير السن وهناك من هو محتاج إلى سعة قليلة في المكان لضعف في بدنه أو آفة في قدمه أو جسده فينبغي الرفق بمثل هؤلاء خاصة إذا بكروا وأتوا إلى المسجد مبكرين فهم أحق بذلك لمكان السبق، فينبغي للمسلم أن يبتعد عن أذية الناس.

الحرص على عدم أذية الناس

الحرص على عدم أذية الناس رابعاً وهي من علامات القبول والتوفيق: أن العبد يؤدي العبادة فيسلم الناس من شره ويسلم الناس من أذيته، وما الفائدة إذا كان يطيع الله جل جلاله ويؤذي عباده؟! فتكون حسنات طاعته لمن آذاه والعياذ بالله، فلذلك يحرص المسلم على ألا يؤذي المصلين خاصة أهل الصفوف الأول والمبكرين إلى المسجد ونحوهم، هؤلاء يحرص على عدم مضايقتهم وعدم التضييق عليهم ما أمكن.

التبكير إلى المساجد

التبكير إلى المساجد أما الأمر الثاني: فالتبكير إلى المساجد؛ فإن المسلم إذا عظم طاعة الله وحرص عليها وأظهر لله من نفسه الشوق إليها والحرص عليها فضله الله وأعلى درجته؛ فإنك إن بكرت إلى الصلاة كنت أعظم الناس فيها أجراً؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط) فالرباط على الخير أن يبادر الإنسان ويبكر إلى قيام الليل، وهذا من أفضل ما يكون، على أن يكون أول داخل للمسجد وآخر من يخرج من المسجد، وهذه نعمة من الله إن اختار الله العبد لذكره وفرغ قلبه لذكره وجعله من أسبق الناس للخير، فهذه نعمة والله لا يعطي الدين إلا لمن أحب. قالوا: ومن دلائل حب الله للعبد أنك تجده بخير المنازل في الطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله) أي: يتأخرون عن الخير وهذا ورد في الصلاة، ولكن العلماء يقولون: وهي قاعدة عامة، فالمستبق إلى الخير والمسارع إلى الخير ليس كغيره، ولكل درجات مما عملوا؛ ولذلك ينبغي المبادرة والتبكير ما أمكن وذلك لما فيه من عظيم الثواب والأجر عند الله سبحانه وتعالى.

الإخلاص لله عز وجل

الإخلاص لله عز وجل أولها وأعظمها وأجلها وأفضلها: الإخلاص لله جل جلاله، فمن خرج من بيته إلى بيت من بيوت الله فيخرج وليس في قلبه إلا الله، لا يخرج رياءً ولا سمعة ولا من أجل ثناء الناس: (فمن راءى راءى الله به ومن سمّع سمّع الله به) ولقد عتب الله على أقوام إذا قاموا إلى الصلاة قاموا وهم كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، عتب الله على هؤلاء وذكر أن مصيرهم إلى الدرك الأسفل من النار وساءت مصيراً، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعافينا من الرياء وأن يحفظنا منه. فليحرص المسلم على أن يخرج إلى بيت الله مخلصاً لوجه الله جل جلاله، ولا ينتظر من أحد أن يمدحه أو يثني عليه؛ ولذلك كان بعض العلماء يقول: لا يبلغ العبد درجة الإخلاص حتى يتمنى أن صلاته وعبادته بينه وبين الله لا تراها عين ولا تسمع بها أذن، وهذا من أبلغ ما يكون من الإخلاص لله جل جلاله، فيبتعد عن البروز أمام الناس واختيار أماكن خاصة حتى يراه الناس ويثنون عليه بأنه قائم أو أنه العابد لا. وكان إبراهيم النخعي رحمه الله لا يجلس تحت سارية معينة خوفاً من الشهرة رحمه الله برحمته الواسعة، كانوا يخافون الرياء وثناء الناس ومدحهم، فمن مدحه الناس وأثنوا عليه في وجهه فبالغوا في ثنائه قطعوا عنقه -نسأل الله السلامة والعافية- لأن الإنسان لا يأمن أن تزل قدمه بعد ثبوتها، والمعصوم من عصمه الله.

مسألة: حكم حجز المكان في المسجد

مسألة: حكم حجز المكان في المسجد وهنا مسألة حجز المكان فإن من الأمور التي لا يجوز فعلها في المسجد حجز المكان في المسجد إلا في حالة واحدة وردت السنة بالإذن بها وهي أن يخرج الإنسان إلى قضاء حاجته، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم من مقعده لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به) أما أن يحجز الرجل مكانه فيصلي المغرب ويضع سجادته ويذهب إلى بيته فيأكل ويترفق حتى إذا بقي على الإقامة اليسير يأتي يتخطى رقاب الناس ويؤذي الناس إلى ذلك المكان الذي هو في الصفوف الأول ولا يصل إليه إلا بعد أذية كثير من المصلين فهذا لا يجوز ولا شك أنه ظلم وأذية، إذ لو فتح هذا الباب لكل واحد لما وسع كل رجل إلا أن يضع سجادة ويذهب، فلا يجوز الحجز إلا إذا كان في المسجد وخرج لقضاء الحاجة، أما غير ذلك فبيوت الله لله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] يستوي فيه الفقير والغني والجليل والحقير والرفيع والوضيع كلهم سواء في بيت الله جل جلاله، لا يجوز للمسلم أن يحجز مكاناً ويدعي أن هذا المكان له وأن هذه السارية له بعينها له مكانها وأنه أحق بالجلوس فيها، كل ذلك مما يفوت على الإنسان الأجر وقد يوقعه في الإثم والوزر، نسأل الله السلامة والعافية. كذلك أوصي أخواتي المسلمات أن يتقين الله عز وجل في قيام الليل فأوصي المرأة المسلمة بما أوصي به الرجال لأنهن شقائق الرجل كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى المرأة المسلمة إذا خرجت لقيام رمضان أن تبتعد عما حرم الله من إبداء الزينة وإبداء المفاتن، وأن لا تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وأن تقول قولاً معروفاً، وأن تخرج إلى بيوت الله خائفة من الله ترجو ثواب الله مخلصة لوجه الله تعصم نفسها وغيرها عن الفتن ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وتبتعد عن مزاحمة الرجال وكذلك عن فتنتهم بالطيب والروائح ونحو ذلك، كل ذلك ينبغي على المرأة أن تتحفظ فيه وأن تتقي الله جل وعلا في إخوانها المسلمين، وأن تعلم أنها خرجت ترجو رحمة الله، وأنه لا يجوز أن تفتح على نفسها أو على إخوانها المسلمين أبواب الفتنة سواء كان ذلك بقول منها أو عمل. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في شهر شعبان، وأن يبلغنا شهر رمضان، وأن يجعلنا ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الوتر بركعة واحدة من غير شفع

حكم الوتر بركعة واحدة من غير شفع Q هل يكفي أن يوتر الشخص بركعة واحدة من غير شفع؟ A من صلى بالليل وصلى ركعة واحدة فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يطول ويكثر من القراءة وينحصر قيامه في ركعة واحدة، وهذا أثر عن بعض السلف وعن بعض الصحابة، فقد أثر عن عثمان رضي الله عنه أنه فعل ذلك وقام بركعة واحدة من طول قيامه، ولكن الأفضل والأكمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي إحدى عشرة ركعة ويجزئ القيام على هذه الصورة. أما إذا كان وقته ضيقاً ولا يستطيع أن يصلي إلا ركعة واحدة فله أن يوتر بركعة واحدة، ولذلك أوتر معاوية رضي الله عنه كما ثبت في الأثر الصحيح عنه بركعة واحدة، وأثر عن الصحابة رضوان الله عليهم، ولا حرج أن يكون وتره بركعة واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وجعلها لكم بين صلاة العشاء والفجر) فقالوا: يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركعة واحدة مستقلة، ولكن لا ينبغي للمسلم أن يفوت على نفسه الخير والأجر فيحصر قيامه في ركعة واحدة، والمحروم من حرمه الله، نسأل الله العظيم من واسع فضله، والله تعالى أعلم.

حكم صلاة النافلة جماعة في غير رمضان

حكم صلاة النافلة جماعة في غير رمضان Q ما حكم صلاة النافلة جماعة باستمرار في غير شهر رمضان وذلك لتأكيد حفظ القرآن؟ A لا تشرع الجماعة في النافلة إلا في صلاة التراويح؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع إلا فيها. أما بالنسبة للسؤال عن مسألة الجماعة في النافلة، فالجماعة في النافلة تشرع في صلاة التراويح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية التراويح جماعة، وأما بالنسبة لإحياء الليل في غير رمضان جماعة فله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون بالقصد، والمراد بالقصد عند العلماء أن يتفق جماعة على أن يخرجوا وأن يصلوا كل ليلة جماعة، أو يتفق أهل المسجد على أن يجتمعوا في ساعة من الليل يصلون في بيت أحدهم أو في المسجد جماعة، فهذا لا يشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل الجماعة قط إلا في التراويح، لكن لو أنك كنت في سفر أو كنت في بر أو كنت في بيتك وعندك ضيف أو نزلت ضيفاً على رجل رأيته يقوم الليل فجئت عن يمينه وقمت معه أو رآك تصلي في الليل وجاء يصلي معك فلا حرج، فهذه تسمى الجماعة اتفاقاً؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه وكذلك ابن عباس رضي الله عنه إنما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا قصداً. ولذلك لما أراد أن ينام ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم يا غلام! قم معي الليل، أو إذا كان آخر الليل: فصلي معي جماعة، قالوا: فعل ذلك اتفاقاً لا قصداً، ويجوز ذلك أيضاً في النهار فلو جئت في بيتك وصليت الضحى فرآك صديقك أو من معك فأحب أن يصلي معك أو الزوجة أرادت أن تصلي معك فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين أنه دخل على أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها وأرضاها، قال أنس: (فقال لنا: قوموا فلأصلي لكم) فهذا شيء حصل اتفاقاً، أي: أنه لم يكن مرتباً قبل مجيئه عليه الصلاة والسلام وقبل وقته وحينه، قال: (فصففت أنا واليتيم معه والعجوز من ورائنا) فدل على جواز النافلة اتفاقاً لا قصداً، والله تعالى أعلم.

حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة

حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة Q هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؟ A قوله في الحديث الماضي: (كتب له قيام ليلة) قالوا: يكتب له أجر قيام الليلة كاملاً، وفرق بين قوله: (كتب له قيام ليلة) وبين الحكم في كونه قد قام الليلة كاملة، هناك فرق بين المسألتين وتوضيح ذلك في العشر الأواخر، ففي العشر الأواخر يندب إلى إحياء الليل، فبعض الناس يصلي مع التراويح ثم يقول: إذا صليت التراويح وخرجت مع الإمام كتب لي إنني أحييت الليل فيذهب وينام، ويقول: إنني قد أخذت الفجر والفضيلة، والواقع أن هناك فرق بين الفضيلة وبين الحكم، (كتب له قيام ليلة) أي: كتب له أجر قيام الليلة، ولكنه لا يحكم بكونه قد قام الليلة فيما ندب إلى إحياء الليل فيه كاملاً؛ لأن الإحياء لا يكون إلا حقيقة، فقوله كما جاء (وأحيا ليله) لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعلى هذا فإنه يكتب له أجر القيام. وأما بالنسبة للاعتكاف فالأصل في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] هذا أصل عام أخذ منه جماهير العلماء رحمة الله عليهم منهم الأئمة الأربعة وهو قول داود الظاهري والحديث أن الاعتكاف جائز في المساجد كلها من حيث الجملة، إلا أن من نوى أن يعتكف العشر الأواخر أو نذر أن يعتكف العشر الأواخر فإنه لا يعتكف إلا في مسجد فيه الجمعة؛ لأنه إذا نذر اعتكاف العشر كاملة حرم عليه أن يخرج، فإذا جاء يوم الجمعة وهو في مسجد لا يجمع فيه فمعنى ذلك إما أن يبطل نذره بالخروج؛ لأن المعتكف لا يجوز له الخروج إلا من ضرورة وحاجة تتعلق ببدنه، وإما أن يضطر إلى ترك الجمعة ولا يجوز لمثله أن يترك الجمعة. فلذلك إذا نذر وفرض على نفسه اعتكاف العشر كاملة فإنه لا يعتكف إلا في مسجد فيه جمعة، وهذا هو الأصل الذي دعا بعض العلماء أن يقول: اعتكاف العشر لا يكون إلا في مسجد يجمع فيه حتى لا يضطر إلى الخروج، أما لو نذر أن يعتكف ليلة وجاء في أي مسجد واعتكف فيه لا بأس ولا حرج، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) وهذا الحديث حسن بعض العلماء رحمة الله عليهم من المتقدمين والمتأخرين إسناده وقال مجاهد بظاهره، ومجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس قال: [إنه لا يجوز الاعتكاف إلا في واحد من المساجد الثلاثة] ولكن خالفه جمهور العلماء على ظاهر الآية الكريمة. ولذلك أيضاً قالوا: إن قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) هذا معروف في أسلوب الشرع النفي المسلط على الحقيقة الشرعية كقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له) (ولا صلاة بعد صلاة الصبح) (ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) تارة يرد ويراد به الكمال، وتارة يرد ويراد به نفي الصحة، فتردد الحديث هنا بين أن يحمل قوله: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) بين أن يحمل على الفضيلة، أي: لا أفضل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة فلا اعتكاف كامل إلا في المساجد الثلاثة؛ لأن المسجد الحرام فيه فضيلة الطواف التي لا توجد في غيره، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم دونه ففيه فضيلة الألف الصلاة التي لا توجد فيمن دونه، والمسجد الأقصى فيه فضيلة مضاعفة الصلاة خمسمائة صلاة، فأصبح من يصلي ويعتكف في هذه المساجد قد حصل على كمال الاعتكاف ما لم يحصله في غيره، فصار كقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له) أي: لا إيمان كامل لمن لا أمانة له، وكقوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) أي: لا وضوء كامل لمن لم يذكر اسم الله عليه لوجود الصارف من الأدلة الأخرى وهذا هو قول جمهور العلماء، والله تعالى أعلم.

حكم ابتلاع الصائم للنخامة

حكم ابتلاع الصائم للنخامة Q ما حكم ابتلاع النخامة؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه المسألة مما تعم به البلوى وهي مسألة النخامة، والنخامة إذا كان الإنسان صائماً لا يخلو من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يزدرد النخامة دون أن تبلغ فمه، كأن تكون في خياشيمه أو أنفه فيزدردها، أي: إلى جوفه دون أن يخرجها إلى فمه فهذا لا تفطر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وهي من الجسم ومن داخله كتحرك الطعام في الجوف. الحالة الثانية: أن يخرج النخامة حتى تخرج من فمه ثم يعيدها فهو مفطر كالقيء إذا أخرجه ثم أعاده. الحالة الثالثة: أن يخرج النخامة في فمه ولا يخرجه عن شفتيه كالصورة الثانية فتكون في فمه فهل يفطر أو لا يفطر وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: النخامة كالقيء وهي البلغم الثقيل ويكون غليظ له قطع، أما إذا كان رقيقاً ومن الريق فهذا لا يضر، نحن نتكلم عن النخامة التي هي كالقطع، قالوا: إذا أخرجها إلى فمه فحكمها حكم القيء، والذي يظهر أنه من المشتبه الذي ينبغي اتقائه فاحتياط المسلم بقذفه وإلقائه أبلغ وأسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى مالا يريبك) والله تعالى أعلم.

حكم القلس الذي يخرج من الصائم

حكم القلس الذي يخرج من الصائم Q ما حكم القلس الذي يخرج من الصائم وهل يعتبر مفطراً؟ A ما خرج من الجوف وبلغ اللهاة، واللهاة هي: الفاصل بين الفم وبين الحلق، فاللهاة هي اللحمة المتدلية وهي الفاصل عند العلماء إذا قاء الإنسان أو خرج منه القلس فإنه إذا جاوز هذا المكان وأعاده فقد أفطر، فمن خرج منه طعام أو فضلة طعام وجاوز اللهاة إلى الفم ثم أعاده فإنه يعتبر مفطراً، وهذا بناءً على أن الفم من خارج لا من داخل فيستوي أن يكون قيءً أو يكون قلساً، والله تعالى أعلم.

الإمساك عن الطعام عند سماع الأذان

الإمساك عن الطعام عند سماع الأذان Q إني أحبك في الله، انتشر في قريتنا أنهم يأكلون ويشربون حتى يقول المؤذن: الصلاة خير من النوم، فهل فعلاً هذا صحيح وجزاكم الله خيراً؟ A الأصل من المؤذن أن يؤذن عند تبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) فإذا أذن المؤذن وجب الإمساك، لكن من كان في صحراء وأمكنه أن ينظر إلى السماء وعنده خبرة ومعرفة يعرف فيها الفجر الصادق من الفجر الكاذب ونظر أن الفجر باقٍ عليه، وأكل في هذا الوقت فإنه لا يفطر، أما أن يقال للناس: كلوا إلى قوله (الصلاة خير من النوم) أو كلوا واشربوا إلى أن ينتهي المؤذن فهذا خلاف الأصل، لأن الأصل في المؤذن أنه يؤذن عند تبين الفجر الصادق من الكاذب، وهذا هو الذي نص عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين، فلا يجوز الأكل إذا كان المؤذن حافظاً للوقت وضابطاً له وكان معروفاً أنه يؤذن عند تبين الفجر، فمن أكل أو شرب عندئذٍ فإنه يحكم بفطره، والله تعالى أعلم.

فضل متابعة الإمام

فضل متابعة الإمام Q ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)؟ A القيام مع الأئمة فيه خير كثير؛ فإن لزوم جماعة المسلمين وإصابة دعوة الناس فيها خير كثير كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام قال: (ودعوتهم من ورائهم) فيشهد الخير ويشهد جماعة المسلمين ويصلي معهم، فندب إلى تكثير سواد الأئمة والحرص على الصلاة معهم لما في ذلك من نشاط النفوس على الخير وتشفعه أيضاً في إخوانه وجيرانه وأقاربه أن يشهدوا هذا الخير حينما يروه محافظاً عليه. قال العلماء: المقصود من هذا الحديث أنه إذا قام مع إمامه حتى ينصرف فيه ترغيب الناس في البقاء مع الأئمة وترغيب الناس في ألا ينصرفوا إلا مع الأئمة، لما فيه من حصول المعونة على الخير، وتشجيعهم أيضاً على القيام بالناس، هذا الحديث المراد به أن يبقى المصلي والمأموم مع الإمام حتى يقضي وتره وينصرف، سواء كان إماماً واحداً أو كان أكثر من إمام؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (من قام مع إمامه) هذا لفظ أريد به الجنس، يعني: جنس من يؤمه، سواء كان الإمام الراتب أو كان هناك أئمة يتناوبون؛ فلذلك قصد منه جنس الإمام: (من قام مع إمامه) قالوا: لأنه لما قعد وصبر واصطبر واحتسب الأجر كان أبلغ في عنائه ونصبه فورد له الفضل بالخصوص، فيندب إلى البقاء حتى يختم الأئمة صلاتهم وينتهون منها ويكون في ذلك إصابة دعوة الوتر وما في ذلك من رجاء الإجابة مع جماعة المسلمين، والله تعالى أعلم.

الحقوق الزوجية

الحقوق الزوجية الحقوق الزوجية من أهم الأمور التي تطرح فيما يخص أحوال الأسرة وقضاياها، إذ إن على كل من الزوجين واجبات تجاه الآخر، وله حقوق، وهذه الحقوق والواجبات قد بينها الشارع الحكيم، وجعل المحافظة عليها من شروط استمرار الحياة الزوجية. ويترتب على الإتيان بهذه الحقوق صلاح الأسرة في الدنيا، مع ما أعده الله لكل من الزوجين من الأجر في الآخرة.

أمانة الحقوق الزوجية ثقلها وفضل أدائها

أمانة الحقوق الزوجية ثقلها وفضل أدائها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف بإذن الله عز وجل عن العباد الغمة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله: إن الفرائض والواجبات وحقوق الأزواج والزوجات أمانة وأي أمانة؛ برئت من حملها الأرض والسماوات، وفزعت من عبئها الجبال الشم الشامخات الراسيات برئت من حملها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا. حملتها على ظهرك، ووضعتها أمانة في عنقك، لكي ترهن بها بين يدي ربك. الحقوق والواجبات والأمانات والمسئوليات حقوق أودعها الله تبارك وتعالى في قلوب عباده، وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يفوا بها، وأن يقوموا بها تقرباً إليه جل شأنه. إنها الحقوق التي وفى بها عباد لوجه الله، فعدلوا بين أزواجهم وأهليهم، وبناتهم وبنيهم، فأنزلهم الله منابر من نور في الجنة، يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المقسطين على منابر من نور يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء) وفي حديث أحمد في مسنده: (على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن). إنهم أهل الوفاء الذين قاموا بأداء الحقوق بكل حب وصفاء. إنهم أهل الوفاء الذين تفطرت قلوبهم من خشية الله أن يحاسبهم على تلك الحقوق فتغل أعناقهم عند لقاء الله. إنها الحقوق التي قربت عباداً إلى الله، وأبعدت من أضاعها عن جوار الله. إنها الحقوق التي أضاعها رجال فخرجوا من القبور حفاة عراة قد شلّت أجسادهم. إنها الحقوق التي أضاعها نساء فخرجت الواحدة منهن من الدنيا والجنة عليها حرام. إنها الحقوق التي أمر الله تبارك وتعالى بها عباده، فكم نزل بها جبريل، وكم سطر بها في القرآن لله من قيل. إنها الحقوق التي طالما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فأدمع لها العيون، وسكب لها الجفون، وأخشع لها القلوب، حتى وقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً ما وقف قبله ولا بعده، وكان آخر عهده بأمته في ذلك الموقف. وقف يوم حجة الوداع أمام مائة ألف نفس من أمته صلوات الله وسلامه عليه، ففتح الله له القلوب والأسماع، فأحل الحلال وحرم الحرام، وأبان الشريعة وفصل الأحكام. وقف صلوات الله وسلامه عليه فخشعت القلوب من كلامه، وأذعنت لربها من جلال ذلك الموقف العظيم، وكان من خطبته المشهورة وكلماته المأثورة: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله). اتقوا الله في النساء؛ وصية من النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن يؤمن بلقاء الله تعالى، وأبان حقوق الزوج على زوجته، وأبان حقوق الزوجة على زوجها، وأشهد الله على البلاغ، فشهد العباد وشهدت الأرض أنه بلغ لله حجته، وأدى لله أمانته ورسالته. إنها الحقوق التي رغب فيها ورهب: رغب في أدائها تقرباً إلى الله وتحببا، ورهب من إضاعتها حتى لا يغل العبد بها بين يدي الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

نماذج من سير الصحابة في الوفاء مع زوجاتهم وأزواجهم

نماذج من سير الصحابة في الوفاء مع زوجاتهم وأزواجهم ولقد سمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خطبته، ورقت قلوبهم إذ سمعوا موعظته، فكانوا رضوان الله عليهم أبلغ ما يكونون وفاء، وأصدق ما يكونون حباً للأهل وصفاء، كان الواحد منهم يخاف من زوجتيه أن تغل عنقه إذا لم يعدل بينهما. هذا معاذ بن جبل صاحب الفقه والعمل، القارئ الثابت، العابد القانت، كانت له زوجتان، أثر عنه رضي الله عنه وأرضاه: [أنه إذا كانت الليلة لواحدة منهما وأصبح، لم يشرب في بيت الأخرى] كل ذلك يخاف أن يكون ظالماً، يخاف من كأس من الماء أن يقوده إلى النار، ويوجب عليه سخط الجبار ونقمة القهار. إنها القلوب التي عرفت الله حتى شاء الله تبارك وتعالى أن تموت كلتا زوجتيه في يوم واحد، فغسلتا وكفنتا، وصلى الناس عليهما، وكان الناس في ذلك اليوم في شغل، فما حضر الجنازة إلا القليل، فلما دنا من قبره وأراد أن يقبر الزوجتين احتار رضي الله عنه أيتهما يقدم! خاف -من الله- أن يقدم إحداهما فيحاسبه الله بعد وفاتهما على ظلمهما، حتى إنه رضي الله عنه أقرع بين المرأتين، فلما أقرع بينهما خرجت القرعة على واحدة منهما، فقدمها في القبر. فرضي الله عنك وأرضاك، وجعل أعالي الفردوس مثواك، إذ وفيت وصية رسول الله في أهلك وزوجك، رضي الله عنك وأرضاك إذ خفت من ربك، وخشيت من لقاء إلهك. إنها القلوب التي تعرف الله، وتخشى لقاء الله. إنها الحقوق التي ما أنزلها الله في القرآن عبثا، ولا وقف النبي صلى الله عليه وسلم يرهب منها ويدعو إليها عبثا، إنها الحقوق التي تسطر من أجلها الأقوال والأفعال، فتقاد إلى الله حسيراً كسيراً أسيراً بما قاله اللسان، وبما انطوى عليه الجنان، وبما اقترفته اليدان. أين هذه النماذج الكريمة؟ أين هذه الأمة العظيمة الرحيمة من نماذج اليوم؟

ضرورة التذكير بالحقوق الزوجية

ضرورة التذكير بالحقوق الزوجية لذلك أحبتي في الله يحتاج المؤمن إلى من يذكره بهذه الحقوق، وإلى من يحرك في قلبه الخوف من الله، ومراقبة الله في حقوق الأهل والزوجات والزوجة بحاجة إن كانت مؤمنة بلقاء الله إلى من يذكر قلبها، ويرقق فؤادها، ويدلها على عظيم حق بعلها، إنها الحقوق العظيمة التي أنزل الله عز وجل من أجلها الآيات، وحبرت على المنابر العظات البالغات. أحبتي في الله هي الحقوق التي وصَّى بها النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال: (فاستوصوا بالنساء خيرا) فبيض الله وجه امرئ حفظ وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أهله، ونضر وجه زوجة حفظت وصية الله في بعلها، أحبتي في الله: في هذا الزمان الذي عظمت غربته، واستخف الرجال بحقوق النساء، واستخف النساء بحقوق الرجال كم نحن بحاجة إلى من يذكر بهذه الحقوق. إن البلاء كل البلاء، والمصيبة كل المصيبة؛ أن تجد الرجل ظالماً، ولكن لم يسمع يوماً قط من أخيه كلمة تذكره بالله في حقوق زوجته، والمصيبة كل المصيبة أن تكون المرأة ظالمة لزوجها، فلم تسمع يوماً من الأيام كلمة من صديقاتها تدلها على عظيم حق بعلها. إلى الله المشتكى من غربة الدين بين المؤمنين! ومن تقاعس الناس في طاعة رب الناس، وخوف ما له من شدة وبأس، ومن ضعف القلوب عن التذكير بالله؛ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! فهذه كلمات تضمنت بعض الحقوق والواجبات.

الوعيد الشديد لمن فرط في حق أهله

الوعيد الشديد لمن فرط في حق أهله رجل تزوج امرأة فمكث معها ثلاثين عاماً، فكانت أماً لأبنائه وبناته، كم طعم من طعامها، وكم اكتسى من لباسٍ غسلته يداها وكم وكم لها عليه من فضل، فلما تولى شيء من جمالها، وغدت بعد مشيبها وكبرها تزوج عليها الثانية، فأنسته الأولى، ومكث أكثر من عشر سنوات لم يدخل بيتها، ولم يطعم طعامها، ولم يطأ فراشها تحلف بالله العظيم أن له أكثر من عشر سنوات ما وطئ فراشها، ولا طعم طعامها، ولا دخل بيتها ويلٌ له من الله ما أشقاه وما أرداه! ويل له من الله إذ ظلم وفجر! ولم يخف الله عز وجل في زوجتيه. لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت له زوجتان فلم يعدل بينهما إلا جاء يوم القيامة وشقه مائل) مشلول والعياذ بالله! يقوم أمام العباد حافياً عارياً مشلول الجسد -والعياذ بالله- ويلٌ له ثم ويلٌ له إذا تعلقت به تلك المظلومة، واستمسكت به تلك المحرومة في يوم يفر فيه المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه! فالله الله! ما أعظمها من حقوق تقرب إلى الله! الله الله! ما أعظمها من حقوق توجب رضا الله أو سخط الله!

حق الله على الزوجين

حق الله على الزوجين أعظم الحقوق الزوجية وأجلها على الإطلاق، وأعظم الواجبات الشرعية: حق الله على الزوجين، الله الذي أحل لك حلالها، وأباح لك طيبها ومسها، الله الذي أذن لك بنكاحها، وسهل لك السبيل للوصول إليها. فيا أيها الزوجان: إن لله عليكما حقاً عظيماً أن تقيما بيت الزوجية على حبه ورضاه، وخشيته وتقواه، وعلى العبودية، والتمسك بالحنيفية، والأمر بالصلاة والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبيض الله وجه رجل أقام أوامر الله في بيته، وبيض الله وجه امرأة أقامت أوامر الله في بيت بعلها. كم من نساء صالحات ثبت الله بهن القلوب على الطاعات، وكم من نساء بخل الأزواج عليهن لأنهم كانوا بعيدين عن الله، وغريبين عن الله، ومعتدين على حدود الله، فما مضت الأيام إلا والقلوب قد خشعت لربها، وأذعنت لخالقها، فدلّت وبصّرت وهدت، فنعم والله المرأة، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لامرأة نضحت في وجه زوجها الماء لتقيمه للعبادة، ورغَّبته في الطاعة والزهادة (رحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء، ورحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء). ولقد أخبر الله تبارك وتعالى عن هذا الواجب والحق العظيم في كتابه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر بطاعته، وأن يحبب في مرضاته، فقال جل شأنه وتقدست أسماؤه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] قال بعض العلماء: إني لأرجو من الله ألا يأمر أحدٌ أهله بطاعة الله إلا كفاه الله رزقه؛ لأن الله تعالى يقول: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] فاستنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن من حفظ حق الله في أهله أن الله لا يعييه في رزقٍ لهم. وقال بعضهم: إنه كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر في بيته وزوجه، وكان قد بلغه قول هذا العالم، يقول: وقد جربت ذلك فوجدته حقا، حتى إنه تمر علي الليلة لا أجد فيها الطعام، فآوي إلى الزوجة لا تخاصمني ولا تعاتبني، فما هو إلا شيء يشغلها عن الرزق، فأنام وتنام في رحمة من الله. وقال بعضهم: كان بيتي مليئاً بالمشاكل، وكانت أبغض ساعة عندي تلك الساعة التي أدخل فيها بيت الزوجية، فشاء الله أن يهدي قلبي إليه، فعرفت سبيل المساجد، وقمت مع كل راكع وساجد، فأصبحت أسعد ساعة عندي تلك الساعة التي أدخل فيها إلى بيتي. ما حفظ مؤمن حق الله في أهله إلا وفقه الله، ولن يسيئه الله في أهله وزوجه؛ لأنه من وفّى لله وفّى الله له، ولذلك أثنى الله على نبي من أنبيائه في كتابه، فقال جل شأنه وتقدست أسماؤه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55] فما أمر أحد أهله إلا أرضاه الله في أهله وكان عند ربه مرضيا، حتى قال بعض العلماء: من دلائل رضوان الله عن العبد توفيقه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بيت أهله. فالله الله! في هذا البيت الذي أقمته بتوفيق الله ورحمته! ليكن أول ما يجعله الزوج والزوجة نصب أعنيها إذا دخلا إلى بيت الزوجية إرضاء الله سبحانه وتعالى؛ فأول ما يفكر فيه الإنسان الصالح الموفق الذي يريد الحياة السعيدة الهنيئة هو طاعة الله ورسوله. والله ما دخلت إلى بيت زوجية وفي نيتك وقلبك أنك تقيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهلك وزوجك وأولادك إلا متعك الله، وجعل بيتك نعم البيت إذ تأوي إليه، وإذ تضفي إليه فالله الله في هذا الحق العظيم! والله ما تنكد العيش، ولا تنغصت الحياة، ولا تنكدت العشرة الزوجية بشيء مثل عصيان الله عز وجل، والتمرد على الله وعلى أوامر الله! الله الله أن تدخل على زوجتك فتراها على منكر لا يرضاه الله، فلا تأخذك حمية الدين أن تذكرها، ويرق لها شعورك، وتخاف منها أكثر من خشيتك من ربها! الله الله إذ رأيتها فلم تأمرها بطاعة ربها، فجئت يوم القيامة فتعلقت بك بين يدي الله، وقالت: رباه! سل زوجي؛ رآني نائمة وما أيقظني للصلاة! يا رب! سل زوجي؛ سمع مني ما لا يرضيك فما نهاني! يا رب! سل زوجي؛ رآني على معصيتك: انظر إلى الحرام أو أسمع الآثام وما نهاني عن حدودك، وما رهبني من معاصيك! الله الله أن توقفك ذلك الموقف! ولذلك قال بعض العلماء في قول الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] يفر من أهله وزوجه خوفاً من معصية ومنكر رآهم عليه، فيسأله بين يدي الله عن ذلك.

المعاشرة بالمعروف

المعاشرة بالمعروف أما الحق الثاني فقد أمر الله تبارك وتعالى به في أكثر من آية من كتابه، وهو ثمرة الخوف والخشية من الله عز وجل: العشرة بالمعروف خلق الأوفياء، وشأن الكرماء العشرة بالمعروف التي أمر الله عز وجل بها في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]. قال ابن عباس: [الخير الكثير أن تكره المرأةَ فتصبر عليها، فيرزقك الله منها ولداً صالحاً فيه خير كثير] وقال الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231] أي: إنه قد ظلم نفسه وسيلقى من الله ما يكون جزاءً وفاقاً لعمله. فلا يحسبن الظالم إذا أمسك الزوجة للإضرار أن الله غافل عن إضراره، لا والله، فكم لله من نقم وسطوات تنزلت بسبب تلك الدعوات من النساء المظلومات، وكم من رجل تنغصت عليه عيشته، وتنكدت عليه حياته بظلمه لمؤمنة آمنت بالله، فرفعت كفها مظلومة فاشتكت إلى الله! فإن الله قد سمع شكوى المرأة من فوق سبع سماوات، تقول عائشة: [إنه ليخفى علي بعض كلامها، فسبحان من وسع سمعه الأصوات. سمعها من فوق سبع سماوات تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعلها، وتشتكي إلى الله من زوجها]، فأنزل الله عز وجل فيه قرآناً، وأبقى للعباد من شأنها فرقاناً. أحبتي في الله: أمر الله بالمعاشرة بالمعروف وهي خصلة الكرماء، وشيمة البررة الأوفياء، شيمة الصالحين، وخلق عباد الله المتقين. ولذلك لما سأل رجلٌ الحسن البصري رحمه الله، فقال له: [يا إمام! إن لي ابنة، لمن أزوجها؟ قال: زوجها التقي، فإنه إن أمسكها برها، وإن طلقها لم يظلمها] فمن يتقي الله هو الذي يمسك بالمعروف، وهو الذي يفارق بإحسان. يقول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، أي: إن أمسكتم النساء في عصمتكم فأمسكوهن على الشيمة والوفاء وحسن العهد والذمة والمحبة والصفاء أمسكوهن إمساك الخير لا إمساك الإضرار، فهذه وصية الله لعباده. ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله، إذا أرادوا تزويج الرجل وسأل عن شرط الولي، قالوا: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقال عبد الله بن عباس في تفسير قول الله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21] قال: [الغليظ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان] غليظ لكنه على المؤمن يسير، ميثاق غليظ: أي: إن الله أمر كل مؤمن يؤمن بلقائه وبكتابه أن يمسك بالمعروف، فهذا ميثاق غليظ من الله. فالله الله أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وأنت تمسك المرأة بقصد الأذية! فإن الله تعالى جعل القلوب محل النظر. والغريب أن الله تعالى يقول للكفار: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} [الأنفال:70] فهم كفار، لكن لو علم الله في قلوبهم خيراً لأعطاهم على قدر نياتهم، فكيف بالمؤمن؟! فالقلب محل النظر من الله عز وجل. والله! ما أخفى إنسان في سريرته وقلبه نية سوء إلا فضحه الله عز وجل، ولا تحسبن الله غافلاً عن عباده!

حقيقة الإمساك بالمعروف

حقيقة الإمساك بالمعروف وما معنى الإمساك بالمعروف الذي وصى الله به في كتابه، ووصى به نبيه صلى الله عليه وسلم أصحابَه والأمةَ جمعاء؟ الإمساك بالمعروف أن تنظر إلى شمائل النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترى العشرة الوفية في أبهى صورها وأجمل حللها أن تنظر إلى ذلك النبي الكريم في أخذه وعطائه، وحبه ووفائه ذلك النبي الكريم الذي ما آذى امرأة من نسائه ما سب يوماً من الأيام امرأة من نسائه، ولا آذى يوماً من الأيام زوجة من زوجاته، ولا تذمر في وجه واحدة قط صلوات الله وسلامه عليه، ولا وضعت إحداهن طعاماً بين يديه فسبها أو شتمها أو عاب طعامها.

نماذج للمعاشرة بالمعروف

نماذج للمعاشرة بالمعروف يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: [صحبت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما لمست ديباجاً ولا حريراً ألين من كفه، ولا قال لي يوماً من الأيام قط: أف] طفل صغير ما قال له يوماً من الأيام: أف، فكيف بامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر؟! يأتي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة فيقول: (يا عائشة! هل عندكم شيء، قالت: لا، قال: إني إذاً صائم) ما قال: فعل الله بك وفعل ما قال: أين طعامنا؟ تقول عائشة: (وإني لأضع يدي على بطنه أرى أثر الجوع) صلوات الله وسلامه عليه. شيمة ووفاء أبلغ ما يكون من الحب والصفاء والرحمة والشفقة والخيرية للأهل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما سمع منه يوماً من الأيام إساءة إلى زوجة من زوجاته، وكان يتحبب إلى المرأة حتى ينادي بالترخيم، فيقول لـ عائشة: (يا عائش!) يدللها ويعطف عليها صلوات الله وسلامه عليه، ولما أمره الله أن يخير نساءه، وأخبر عائشة رضي الله عنها وأرضاها بحكم الله فيه وفي نسائه، فقال لها: (لا تعجلي، استأذني والديك، فقالت رضي الله عنها: أفيك أختار يا رسول الله؟!). لو لم يكن وفياً صلوات الله وسلامه عليه ورحيماً بأهله ما اختارته رضي الله عنها وأرضاه. تلك السيرة العطرة، والمواقف الجميلة النضرة من المحبة والصفاء والشيمة والوفاء، فصلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين مع هذا كله يلاطف ويعاشر مع القول بالفعل! خرج صلى الله عليه وسلم معها إلى قباء فسابقها فسبقها صلوات الله وسلامه عليه، فطلبته الثانية فسبقها، حتى إذا بدن وكبر عليه الصلاة والسلام سبقته رضي الله عنها وأرضاها، فيقول لها يطيب خاطرها: (هذه بتلك)، قلوب تعلقت بالله، وأذعنت لجلال الله، فتقربت إلى الله بالإحسان إلى الأهل. أحبتي في الله: إنها العشرة التي يحب الله أهلها وأصحابها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم دالاً لك ومعرفاً إذا أردت أن تعرف خيرية الإنسان أن تنظر إليه مع أهله (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) إذا أردت أن تعرف خير الرجل، فانظر إلى ذلك الرجل الذي تؤذيه امرأته فيحسن إليها، وتهينه فيكرمها، وتحرمه فيعطيها إلى ذلك الرجل القادر على الانتقام ولا ينتقم لوجه الله، والقادر على الطلاق ولا يطلق لوجه الله، والذي ما ذهبت زوجته يوماً من الأيام تشتكي إلى أبيها. وإن في الرجال من هو على الصبر والتذمم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولقد بلغ ببعضهم أنه آذته امرأته، وأصبحت تسبه وتشتمه، حتى سمع بعض طلابه ذلك السب والشتم، فقيل له: لا تسرحها؟ فسكت، ثم قيل له: هلا أجبتها؟ أي: أين الرجولة؟! أجبها، فقال: أستحي من الله أن يسمع مني كلمة لأهلي لا ترضيه. يريدون لقاء الله خفيفين من الأحمال والأوزار، وقد يسلط الله على العبد أهله فيؤذى ويصبر لوجه الله عز وجل، فمن الناس من يؤذى في أهله فيصبر ويحتسب فيجمع الله له بين خيري الدنيا والآخرة. ولذلك قال الله عز وجل عن نبيه زكريا: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] قال بعض العلماء: كانت زوجته قاسية فظة عليه، فصبر لوجه الله عز وجل، حتى قلبها الله في آخر حياتها فأصبحت ذات الخلق الحسن، وكم من أناس صبروا على أذية الزوجات فبلغهم الله عز وجل بذلك الصبر أعالي الدرجات، وأوجد لهم الحب وجزيل الحسنات، وكفر عنهم بتلك البلايا عظيم السيئات، فوافوا الله عز وجل بحسنات عظيمة، وأجور كريمة، ومنهم من جمع الله له بين الحسنيين، وآتاه حسن العاقبتين، فأصلح له أهله في الدنيا قبل أن يلقاه، ثم أصلحها له من بعده. وقد حدثني بعض الإخوان أن أمه كانت شديدة على أبيه، وكان صابراً لوجه الله، وكانت تؤذيه وتضطهده حتى تهينه بين يدي أولاده، وهو يصبر ويحتسب، ومن العجيب أنها ما كانت تسبه وتشتمه إلا أجاب بذكر لله عز وجل، إما أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو حسبنا الله ونعم الوكيل، أو يقول لها: يا أمة اللهّ! اتقي الله في نفسك، ويذكرها بالله. يقول: ما سمعت منه يوماً من الأيام إساءة إلى والدتي، مع شديد قبح الألفاظ وشناعتها التي تؤذيه بها، يقول: فصبر واحتسب، فشاء الله عز وجل في آخر حياة الأب أن مرض، فقلب الله قلبها حناناً وعطفاً وشفقة عليه، يقول: كنا مسافرين، فكانت الأم هي التي ترعاه، وتقوم على شأنه، إلى درجة أن أعمامي -إخوة أبي- لا يأتونه خوفاً من الإصابة بالعدوى، فما صبرت إلا تلك المرأة، ومع هذا اختاره الله إلى جواره، وبعد وفاته أصبحت تكثر له من الدعوات والاستغفار وتذكره بصالح الدعوات، وإذا ذُكِر خشعت من ذكراه مما تتذكر من صبره عليها. وكم من أناس صبروا لوجه الله تعالى، أولئك الرجال الذين يخرجون من الدنيا، وقد أسروا قلوب زوجاتهم في محبة الله ومرضاة الله! ومع الخير الموجود في الرجال فإنه موجود كذلك في النساء، فكم من أمة لله صابرة على أذية بعلها، وكم من أمة لله صابرة على أذية زوجها. من النساء من تؤذى وتهان وتضرب وتذل، ولا أحد يعرف بذلك الأمر، ومن النساء من تؤذى وتهان في بيت زوجها بأمور لا يعلمها إلا الله، وما اطلع أحد على ذلك السر، ولا علم به أحد فهي صابرة ومحتسبة لوجه الله. وحدثني بعض الأخيار أن أختاً له أوذيت وضربت حتى كان من أثر الأذية جرحاً في جسدها، يقول: فجاءت إلى بيتها، فقيل لها: ما هذا؟ فادعت شيئاً غير الضرب، يقول: وما علمنا بذلك. من النساء من هن صابرات لوجه الله، ويحتسبن الأجر عند الله، فطوبى لهن وحسن مآب. فالله الله في المعاشرة بالمعروف! إياكَ أن تكون المرأة أوفى لله منك! وإياكِ أن يكون الزوج أوفى لله منكِ! حاولي قدر الاستطاعة أن تكوني أبر لله، وليحاول الرجل أن يكون أبر لله {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] فإن بيوت المؤمنين لا تعرف هذه المشاكل، ولا تعرف تنغيص العيش؛ لأنها إذا اختلفت في أمر فعندها كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دواءً شافياً، وعلاجاً كافيا، نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم المعاشرة التي ترضيه لوجهه، ونعوذ بالله العظيم أن يطلع على عورة منّا تغضبه في عشرة الأهل والأبناء.

حق المبيت

حق المبيت أما الحق الثالث فهو حق المبيت: هذا الحق الذي يعتبر -كما يسميه العلماء- من الحقوق الزوجية المشتركة، ومعنى ذلك أنه يجب على الرجل للمرأة، ويجب على المرأة للرجل. يجب على الرجل أن يبات عند امرأته، ويجب على المرأة أن تبات وتعين زوجها على العفة والإحصان، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وجوب هذا الحق على الطرفين، وأشار الله عز وجل في كتابه إلى ذلك بقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وانظر إلى أسلوب جمال القرآن! انظر إلى ذلك الأسلوب الرباني الذي يعطيك الحياة الزوجية الحقيقية {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] فهذا الحق وإن كان من الحياء الإعراض عنه، ولكن الله لا يستحي من الحق!

خطر التقصير في حق المبيت

خطر التقصير في حق المبيت فالله الله في هذه الحقوق! لقد وقعت كثير من المشاكل والحوادث المحزنة المؤسفة، حتى إن البعض قد يسافر في بعض الأمور التي هي من النوافل، ويتغرب عن بيته الشهر والشهرين والثلاثة والأربعة، حتى تقع زوجه في الحرام، تقول إحداهن: حتى اضطررت إلى حاجة، فأصبحت أطلب من جاري أن يأتي بالحاجة يوماً فيوماً حتى أغواني الشيطان فأصبت الحرام معه!! من الذي يلقى الله بإثمها، ومن الذي يحمل بين يدي الله وزرها؟ إنه الزوج الظالم الغاشم الذي رمى بهذه الحقوق وراء ظهره. والعجب أن يكون إنساناً يفقه عن الله ورسوله يعرف الحلال والحرام، ويعرف الشريعة والأحكام ويقول: أما أنت فلستِ بفراش، ويغض عنها الطرف ويحتقرها، ويشتغل بكتب العلم زاعماً أن ذلك أفضل وأجل له. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) وهذا مما افترضه وأوجبه الله عليك، فإن كنت صادقاً في طلب حب الله فابدأ بأهلك وزوجك؛ أعفهم عن الحرام، وصنهم عن الفواحش والآثام. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف على منبره فتتفجر ينابيع الحكمة من لسانه وبيانه، لكنه إذا دخل إلى أهله أعطاهم حقوقهم، فعفهم وصانهم عن الحرام، حتى كان إذا خرج إلى الصلاة قبَّل امرأة من نسائه، حتى يشعرها بالحنان وبالرحمة، ويكون آخر عهده بها الوفاء لها في حقها. الله أكبر! ما أجله من دين! وما أعظمها من رسالة تنزلت من رب العالمين! فالله الله في هذه الحقوق! والله لو نعلم كثيراً من المشاكل التي تقع بسبب إضاعة حق المبيت لأشفقنا على أنفسنا. كثرة السهرة مع الأصحاب والأحباب، وكثرة الضيوف التي تكون لأمور من الفضل ليست من الواجب واللازم، حتى تضيع حقوق النساء في البيوت كل ذلك مما لم يأذن الله به، كلٌ له حقه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لزوجك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه)؛ للأهل حقهم، وللصديق حقه، وللزوجة حقها، فأعطِ كل ذي حق حقه. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبصرنا بهذه الحقوق، وأن يعيننا على أدائها لوجهه الكريم.

الأدلة على وجوب حق المبيت

الأدلة على وجوب حق المبيت هذا الحق الذي أوجبه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث أوجبه على المرأة فأخبر كما في الصحيحين (أن المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت باتت الملائكة تلعنها في السماء)، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيما امرأة دعاها زوجها فامتنعت سخط عليها الذي في السماء حتى يرضى عنها)؛ لأن هذه الرواية أشد من الرواية الأولى، الرواية الأولى: (باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح) وأما الرواية الثانية: (كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها) أي: لو بقي الزوج في نفسه على المرأة متألماً من ذلك الامتناع في تلك الليلة حافظاً له، لا يزال الله ساخطاً على تلك المرأة حتى يرضى ذلك الزوج. ومن النساء من آذت زوجها وامتنعت عليه في الفراش في إحدى الليالي، وشاء الله أن يتوفى زوجها في حادثة في تلك الليلة، فباتت قد سخط عليها ولعنت من السماء، فالله الله في حقوق الفراش! وكذلك على الزوج حق لزوجه، ولذلك قرر العلماء رحمهم الله: أن على الرجل أن يصيب المرأة في كل أربعة ليال، وهذا أشار إليه العلماء رحمهم الله، واستنبطوه من دليل الكتاب، فإن الله أباح للرجل أربعة نساء، وهذا يدل على أن للمرأة ليلة من بين تلك الليالي، فإن كان الرجل عابداً قانتاً فليؤد حق الله وحق أهله، فلا يترك الفرائض التي أوجبها الله لنوافل لم يوجبها الله عليه. ولذلك ورد عن عمر رضي الله عنه [أنه جاءته امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، فقال لها رضي الله عنها: هنيئاً لكِ! نعم الرجل، فمضت المرأة ثم رجعت، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي يقوم الليل ويصوم النهار، فقال لها: هنيئاً لكِ! نعم الرجل، فمضت المرأة ثم رجعت، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، فقال أبي -وفي رواية علي -: يا أمير المؤمنين! إن المرأة تشتكي زوجها، فقال عمر رضي الله عنها: أما وقد علمت فلا يقضي بينهما غيرك، فطُلب الزوج فجاء، فقالت المرأة: ألهى خليلي عن فراشي مسجد وليله نهاره ما يرقد ولست في أمر النساء أحمده انظر إلى البلاغة والأدب حتى في تعاطي الألفاظ، فقال ذلك الرجل المدعى عليه: زهدني في فرشها ما قد نزل في سورة النحل وفي السبع الطول إني امرؤ قد رابني وجل زهدتني تلك السبع الطوال من كتاب الله عز وجل، حتى عفت فراشها، وخفت من لقاء الله، فهان عليَّ أن أصيبها، فلما قال ذلك، قال أبي أو علي: إن لها عليك حقاً يا رجل تصيبها في أربع لمن عقل فالزم بذا ودع عنك العلل] والمقصود أنه من حق المرأة على الرجل أن يعفها عن الحرام خاصة في هذا الزمان الذي عظمت فيه الفتن والمحن، إذ تحتاج المرأة إلى شيء هو من جبلتها وخلقتها، ويحتاج الرجل إلى شيء هو من جبلته وخلقته، والمقصود من الزواج الإعفاف، وأن يحصن الإنسان فرجه، ولذلك لا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يهجر فراشه بغير حق، وما من إنسان يقصر في حق زوجه في الفراش فيكون ذلك التقصير سبباً في وقوعها في الحرام إلا لقي الله بإثمها ووزرها، وما من امرأة تؤذي زوجها في فراشه، وتمنعه من مبيته، وتؤذيه حتى يقع في الحرام، إلا لقت الله بوزره! فالله الله! إنها الحقوق التي لا يجامل فيها! فإن الله ذكر الفراش للنساء في آية من كتابه، فذكر الثلاث العورات، {قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] أنزلها آيات تتلى في كتابه سبحانه وتعالى. فالإسلام دين العبادة والزهادة والخشوع والخضوع، وكذلك دين العفة والحصانة، ودين أعطى لكل شيء حقه وقدره، فليس من حق الرجل أن يحبس المرأة ثم يأتي في آخر الليل تعباناً سهراناً كسلاً خاملاً فيرتمي على الفراش مضيعاً حق زوجه، خاصة إذا كانت في عز شبابها

حق الزوج في الطاعة بالمعروف

حق الزوج في الطاعة بالمعروف أما الحق الرابع: فحق الزوج على زوجته الطاعة بالمعروف: وهذا الحق بينه الله تعالى في كتابه فقال تقدست أسماؤه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] فللرجل حق القوامة على المرأة، والمرأة تحت الرجل تشد من أزره وتعينه وتسدده وتقربه من طاعة ربه ومرضاته، فالرجل له حق القوامة على النساء، ولذلك من حكمة الله وفطرته التي فطر الناس عليها -لا تبديل لخلق الله- أن الرجال أقدر على تدبير وتصريف الأمور من النساء، وفي النساء الدعة والرحمة والحنان واللطف؛ لكي يكمل هذا نقص هذا، ويجبر هذا كسر هذا فسبحان العليم الخبير! وسبحان اللطيف البصير! إذ جعل المرأة على الضعف حتى تسد عجز من الرجل الخشونة، وجعل الرجل في الخشونة حتى يسد ضعف المرأة من اللين. فإذا استرجلت المرأة وأصبحت كالرجال، فإنها قد لعنت بلعنة الله عز وجل: (لعن الله النساء المسترجلات)؛ التي تحاول الواحدة منهن أن تظهر أن لها فضلاً على الرجل، وأنها أصبحت تساويه وتنافسه، وأن دراستها وعلمها وشهادتها قد أهّلوها أن تعصي أمره، وتبتعد عن نهيه، تباً لها من امرأة! عصت ربها، واعتدت حدودها، وخالفت فطرتها ولذلك لن تجد امرأة تسترجل وتخرج عن أنوثتها ورقتها إلا مقتها وازدراها الناس، وسقطت من الأعين مهما كانت تلك المرأة على فطنة وذكاء وعلم. ولذلك ينبغي للمرأة أن تعي رسالتها تجاه زوجها، قال صلى الله عليه وسلم لامرأة من النساء يعرفها بحق بعلها: (إنه جنتك ونارك) أي: هذا الزوج الذي أمامك هو الجنة إن أطعتِ الله فيه، وهو النار إن عصيتِ الله عز وجل فيه، إن أمرك بأمر فقولي بلسان الحال والمقال: سمعت وأطعت لله، لكن بشرط أن يكون هذا الأمر في حدود طاعة الله ومرضاة الله، فإن أمرك بالمنكر فدليه وأرشديه، وخذي بحجزه واهديه لعل الله عز وجل من عذابه أن يقيه، دليه على سبيل الرضا، واهديه إلى محبة الله والتقوى لعل الله أن ينقذه بدلالتك، فإن أمركِ بأمر لم يأذن الله به، فقولي له: إن في هذا معصية لله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. عجب والله! أن تجد المرأة على الصلاح والعفة، وتجد الرجل يأمرها -بناء على أن الطاعة له- بما لم يأذن الله به؛ من الرجال من يأمر امرأته أن تصب القهوة للرجال الأجانب من الرجال -والعياذ بالله- من يأمر أهله بالدخول على الغريب الأجنبي حاسرة لكي تبدي زينتها وجمالها وفتنتها -أعوذ بالله- تباً له من زوج! عصى الله وآذى الله، وفتن المرأة في طاعته ومعصية الله. فالله الله أن يستغل الرجل هذه القوامة فيأمر بما لم يأمر الله به، وإياك أيتها المسلمة المؤمنة أن تؤمري بأمر لم يأذن الله به فتذلي لذلك الأمر، فالذلة لله وحده، والعزة لله وحده، والذلة من العباد لله، فيذلون له وحده، فالأمر أمره، والشرع شرعه، والدين دينه، والأجساد أجساده، والأرواح أرواحه، لا ينبغي أن تستغل إلا في طاعته ومحبته. فإذا اعتدى الزوج هذه الحدود، وأراد أن ينتهك محارم الله فعندها تقف المرأة ناهية له عن المنكر، مبتعدة عن اقتراف ما أمرها به من حدود الله وزواجره. وأيما امرأة وفت لله فأطاعت زوجها أعانها الله على حصول مرضاته عنها؛ فإن المرأة إذا أرضت زوجها كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم زفت إلى الجنان وخيرت من أي أبواب الجنة أن تدخل، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن عنه: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) طوبى لامرأة ماتت وتوفاها الله وزوجها راضٍ عنها. وطاعة الزوج أمر عظيم، ولذلك إذا كفرت عشيرها، وآذت الله في زوجها، فإنها مأذونة بالنار وبئس القرار. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وعظ النساء، فذكرهن بالله عز وجل، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (استغفرن الله واتقين النار فإني أُريت أنكن أكثر حطب جهنم، قلنا: ولم يا رسول الله؟ قال: بكفركن! قلنا: أيكفرن بالله؟ قال: لا، وإنما يكفرن العشير)؛ أي: تكون المرأة عند زوجها يحسن إليها ويكرمها، وتأتي لحظة من اللحظات تحصل منه هنة من الهنات أو زلة من الزلات، فتمد يدها والذهب في ذلك اليد الذي امتن به زوجها عليها، لتقول له: ما رأيت منك خيراً قط، وبهذه الكلمة تتبوأ مقعدها من النار والعياذ بالله. حق الزوج على الزوجة عظيم، فلا تخرج إلا بإذنه، ولا تدخل أحداً إلى بيت الزوجية إلا بإذنه، كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حقوق الرجال على النساء: (ولا يوطئن فرشكم إلا من تأذنون) أي: لا يوطئن تلك الفُرش إلا من أذنتم أن يطأها، بمعنى أنها لا تأذن لأحد أن يدخل بيت زوجها ولو كان قريباً حتى يأذن الزوج.

حق الزوجة في النفقة

حق الزوجة في النفقة الحق الخامس من حقوق الزوجية: حق النفقات: وهو حق للزوجة على الزوج، فعليه أن يطعمها ويكسوها بالمعروف، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح هذا الحق، حين سأله معاوية رضي الله عنه وأرضاه: (ما حق الزوج علينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها إذا اكتسيت). حق النساء في النفقة من الحقوق الواجبة واللازمة، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشتكت له هند فقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك، أفآخذ من ماله لولدي، فقال: خذي من ماله ما يكفيكِ وولدك بالمعروف). ولها حق السكنى حتى تؤوي عرضك عن الحرام، فتسكنها حيث سكنت {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق:6] وتطعمها من حيث طعمت، وتكسوها من حيث اكتسيت، وتكون تلك الكسوة والنفقة بالمعروف {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لا تضار امرأة زوجها بتلك النفقة، ولا يضار الزوج زوجته بتلك النفقة، ليست النفقة سبيلاً للإجحاف، فبعض الأزواج إذا أعطى المرأة نفقتها امتن عليها بتلك النفقة، وقال: فعلت لك وفعلت لك حتى يذهب معروفه عليها، وبئس والله ما فعل، فذلك -كما يقول العلماء- من سوء العشرة، وقد يكون ذنباً على الإنسان إذا قصد به أذية المرأة والزوجة. وهنا أمر ينبغي أن يتنبه له: ليس معنى إيجاد النفقة أن تبغي المرأة على زوجها، أو يبغي الرجل على زوجته، فمن الناس من ينفق لا كالنفقة، ومن النساء من تطالب زوجها بنفقة تجحف به، وقد تبلغ به إلى حد الدين! وذلك تكليف للنفس بما لا يطاق. فعلى المرأة المؤمنة إذا كانت ترجو لقاء الله والدار الآخرة ألا تحمّل زوجها ما لا يطيق، ومن النساء من إذا ذهبت إلى البيوت ونظرت إلى ما فيها من الجمال والمال أقامت الدنيا وأقعدتها حتى يفرش مثل ذلك الفراش، ويبسط مثل ذلك البساط، فالله الله أيتها المؤمنة أن تكوني سبباً في الإجحاف بالزوج. إنه حق ولكنه بالمعروف، لا بالإسراف، ولا بالإجحاف، فليس من حق الزوج أن يكون ثرياً غنياً بخيلاً على زوجه وأبنائه؛ حتى إن الابن ينكسر قلبه إذا دخل الغريب بيت أبيه، وحتى إن الزوجة ينكسر قلبها إذا دخلت الغريبة بيتها، بل ينبغي للزوج أن يكون وفياً، فإذا بسط الله لك الدنيا فابسط ولكن بقدر ووجه يوجب رضوان الله عز وجل. دخل رجل على الحسن بن علي رضي الله عنه -وكان في أول أمره في فاقة وشدة- فوجد بيته قد فرش بأحسن الفراش، ووضع فيه أحسن البساط، فقال: [ما هذا رحمك الله؟ قال: إنا أقوام إذا وسع الله علينا وسعنا، وإذا ضيق الله علينا ضيقنا] أي: مادام أن الله أنعم علينا، فلماذا لا نوسع ولكن بالمعروف. ودخل بعض الصحابة على عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فوجد الستور والبساط والفراش، فقال: [ما هذا يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: غلبتنا النساء]. أي: إذا كان عبد الله بن عمر الصحابي الجليل، يقول: غلبتنا النساء، أي: أنه من شيمته ووفائه لما سألت زوجُه أن يحسن إليها في بيتها أكرمها، ولكن بشرط ألا يكون ذلك بإجحاف وإسراف، فطاعة الله فوق طاعة المخلوق. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم الحق والصواب، وأن يهدينا وإياكم لمنهج السنة والكتاب.

وصية في حفظ الحقوق

وصية في حفظ الحقوق أحبتي في الله: وصية أخيرة وهي: أن نحفظ حقوق الأهل والزوجات، وأن نعاهد الله على الوفاء بها لوجهه، طوبى لزوج ما أمسى ولا أصبح إلا ويومه خير له من أمسه، وطوبى لزوجة ما أمست ولا أصبحت إلا ورضا زوجها خير لها من أمسها، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ينجينا من الأمانات والواجبات، ومن حقوق الأزواج والزوجات! إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله.

الأسئلة

الأسئلة

توجيه إلى دعم المشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج

توجيه إلى دعم المشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج Q هذا خطاب من المشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج نتلوه على فضيلتكم: فضيلة الشيخ محمد المختار الشنقيطي وفقكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فبحمد الله تعالى وتوفيقه أهداف هذا المشروع تتحقق في حل مشاكل الشباب والشابات بالزواج وبناء الأسر الصالحة المستقرة والسعيدة، ومع استمرار تعاون الجميع معنا في حث الإخوة المسلمين على مواصلة الدعم لهذا المشروع الذي نراه من خير المشاريع التي تنفع المسلمين، والمستفيدون حتى الآن بلغوا ألفين وسبعمائة وأربعة وثلاثين شاباً وشابة، صرف لهم مبلغ ثمانية عشر مليون ريال، وبلغ عدد المواليد الأوائل للذين تزوجوا عن طريق هذا المشروع مائة وستة وأربعين مولوداً، صرف لهم مبلغ مائة وثمانية وأربعين ألف ريال، بارك الله فيكم وجزاكم عن الجميع كل خير. الأمين العام للمشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج الشيخ فريح بن علي العقلا A ما شاء الله! أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي من تسبب في هذا المشروع وقام عليه كل خير، وبيض الله وجوههم وجزاهم عن المسلمين والمسلمات كل خير، فنعم والله العمل! إعفاف أبناء وبنات المسلمين، ولا شلت يمين أنفقت لإعفاف أبناء المسلمين وبناتهم، وإني والله إذ أسمع هذا الكلام لأقول في نفسي: يا ليت لي مثلهم من العمل! ويا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيما! وإن كنت أوصيكم وأوصيهم وأوصي كل مؤمن بالإخلاص لوجه الله تعالى، فإن الأعمال لا يبارك فيها بشيء أعظم من الإخلاص لوجه الله! وهنيئاً ثم هنيئاً لهذه القلوب الطيبة التي تذكرت حاجة المسلمين في هذا الزمان المليء بالفتن والمحن، فأخذتها الحمية والغيرة أن تعف أبناء المسلمين وبناتهم، جزاهم الله كل خير، وأعظم لهم المثوبة والأجر، ونسأل الله العظيم أن يثبت أقدامهم على هذا الخير العظيم. وأعينوهم أعانكم الله، أعينوهم بالدعم المادي الذي يراد به وجه الله، فلربما أنك تنفق المائة والمائتين والثلاث ترجو بها وجه الله لتعف بها فرجاً إلى لقاء الله، وقد يكون من هذا المال الذي تنفقه فرجاً محصناً إلى لقاء الله، وقد تكون منه الذرية -كما سمعنا- فهذه الذرية إذا نويت أنها ذرية مؤمنة، وتريد أن تعينها على طاعة الله فلك مثل أجرها، نعم والله العمل! هذا والله الذي يبقى ويدوم من العمل الصالح. إن المجتمع بحاجة إلى هذه الجمعيات الخيرية الطيبة التي تساهم في إصلاح المجتمع، فتحل مشاكله، وتعيش مع هذه المشاكل، وتضع لها الحلول المناسبة، نسأل الله العظيم أن يبقي هذا الخير ويبارك فيه، وأن يجزي المشايخ والإخوة الأفاضل الذين قاموا عليه كل خير، جزاهم الله كل خير بما صنعوا، وأسأل الله أن يبارك عمل الجميع في طاعته ومرضاته، وأن يرزق الجميع الإخلاص لوجهه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

كيفية التعامل مع المرأة التي لا تطيق الجلوس مع زوجها

كيفية التعامل مع المرأة التي لا تطيق الجلوس مع زوجها Q زوجتي حامل من شهرين، وهي تحس بما يسمى بـ (الوحم)، حيث أنها تكرهني وتكره مجالستي عند الجماع، وتحس بضيق شديد ينتهي بالبكاء، وأنا في حيرة أدعو الله أن يخلصني منها، فما هو توجيهكم لمثل هذه، وجزاكم الله خيراً؟ A أخي في الله: هذا بلاء ابتلاك به الله فاصبر واحتسب، فما صبر عبد في بلاء إلا آجره الله وأحسن له العاقبة في بلائه، فاصبر لوجه الله، واحتسب إمساكها لوجه الله، لو كان الناس لا يمسكون الزوجات إلا إذا رضوا فأين الشيمة والوفاء؟ وأين الصبر والحب والصفاء؟ وأين الحب لمرضاة رب الأرض والسماء؟ وأين احتساب الأجر في طاعة رب الأرض والسماء. أخي في الله: اصبر عليها واحتسب في صبرك عليها. وأما البلاء الذي ذكرته فإن كان عارضاً أصيبت به، فإن علاجه أن يعالجه الإنسان، وأما إذا كان شيئاً آخر كأن يكون بلاء ابتليت به من نفس أو عين أو سحر أو غير ذلك، فاستعن بذكر الله واطرح بين يدي الله، وناده وناجه، فإنه نعم المولى ونعم النصير! إن أغلقت الأبواب فتح بابه، وإن خاب الرجاء لم يخب العبد في رجائه، فأحسن الظن بالله، وتعلق بالله، فإنه إليه المشتكى وهو المستعان وعليه التكلان، والله تعالى أعلم.

الترغيب في الزواج من الصالحات

الترغيب في الزواج من الصالحات Q هل من كلمة للذين لا يرون الزواج من الطبيبات الصالحات الملتزمات؟ وهل هناك مانع في الزواج من الطبيبات؟ وما ذنب الطب والطبيبات حتى يرفض الزواج منهن؟ A لا أستطيع أن أرغب في الطبيبات ولا في المهندسات ولا في البيطريات، أنا أرغب في المرأة الصالحة، فإذا كان الرجل يريد امرأة صالحة ووجد امرأة صالحة فلينكحها، ويطلبها على كتاب الله وسنة رسول الله، أما إني أرغبك في الطبيبات أو غير الطبيبات وألقى الله بإثمك لو خاب ظنك، فأنا لا أستطيع أن أتحمل وزرك أمام الله. لا أرغب إلا فيمن رغب الله (فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا الذي أُرغب فيه، وأما غير ذلك فما أستطيع أن أتحمل وزره. لا أستطيع أن أتحمل مسئولية أحد أمام الله، أنا أرغب في ذات الدين كما رغب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أرغب لا في هذه ولا في هذه، وأنت أدرى بنفسك إن كانت المرأة تعمل طبيبة أو معلمة أو أي عمل من الأعمال، وتعرف أنك تستطيع أن تحفظها وأنها حافظة لدينها وعرضها، وبعيدة عن المنكرات والمحارم والسيئات فنعم والله المرأة، عفها وعف نفسك! أما أن أتحمل مسئوليتك أو مسئوليتها أمام الله، والله لحمل الجبل أهون عندي من أن أتحمل مسئولية أحد، فهذه أمور صعبة، ونسأل الله العظيم أن يرزق الصالحات الصالحين، وأن يمتعهم بالطيبات والطيبين، والله تعالى أعلم.

توجيه للنساء في مسألة تعدد الزوجات

توجيه للنساء في مسألة تعدد الزوجات Q هل من كلمة إلى نساء ملتزمات يضايقن أزواجهن كثيراً عندما يعلمن أن أزواجهن يريدون الزواج عليهن؟ وهل من كلمة للمطلقات اللاتي يرفضن الزواج من متزوج بواحدة أو اثنتين أو ثلاث؟ وهل من كلمة للاتي بلغن في السن عتيا ويرفضن الزواج من متزوج؟ A أما الرجال إذا أعيتهم الحيلة فعندهم سلاح التعدد، إذا كنَّ ملتزمات يعلمن أمر الله عز وجل فالقضية مفروغ منها، ينبغي على المرأة المؤمنة التي تؤمن بالله، وترضى بحكم الله وشرع الله، وترضى بما أذن الله عز وجل به، وذلك في كتابه المبين وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الأمين، أن ترضى بحكم الله، وألا تضيق ذرعاً بشرع الله، فإن الله تبارك وتعالى وعظ العباد بقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36]. من عصى الله عز وجل ورسوله، وانتهك حدوده، فلم يرضَ بشرعه ودينه، أو استخف بذلك الشرع وبذلك الدين، فإنه قد ضل ضلالاً مبينا بشهادة الله عز وجل في كتابه. فإياك أختي المسلمة أن تضايقي زوجك في طلب الثانية إذا كان ذلك الطلب بالمعروف، ائذني له ما دام أن الله قد أذن بالتعدد وأباحه، فقد كان لمن هو خير منا ومنكِ -وهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين- عدد من الزوجات، فما ضقن بذلك ذرعا، وفيهن القدوة الحسنة، والأسوة الكاملة لكل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر. ما بال المرأة تمنع زوجها من أن يطلب التعدد فيكثر سواد الأمة، ويوجب خروج الأبناء والبنات الصالحات؟! إن التعدد سبيل لوصل الأرحام، وائتلاف القلوب، ولذلك تجتمع الأنساب، وتجتمع القبائل على تباعدها واختلافها وتنافرها، تجتمع بالأرحام فيتزوج الرجل من هذا، ويتزوج الرجل من هذا فتصبح أرحامه في كل مكان، وتصبح بيوت المسلمين كالبيت الواحد؛ لو مرض الرجل تأوه لمرضه بيوت كثيرة، وذلك من فضائل التعدد. ولكن نقول كلمة للرجال كما نقولها للنساء: إن التعدد الذي أذن الله به هو التعدد الذي فيه العدل والإنصاف، وليس الذي فيه الظلم والإجحاف والإسراف، فإن العبد المؤمن الذي يخاف الله ويراقب الله في حقوق أهله ويعدل بين قرابته وزوجه يقيم بيوت الزوجية على العدل والإنصاف، لا إجحاف ولا إسراف، هذا هو التعدد الذي أذن الله به، أما إذا كان الذي يعدد أو يرغب في التعدد يريده قضاء للشهوة، وتمتيعاً بالنزوة، ولا يريد أن يكون ذلك على الوجه المعروف، فهو الذي لم يأذن الله به، وهو التعدد الموجب لغضب الله وسخطه، وكما قلنا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: إنه يوجب الشلل للعبد بين يدي الله عز وجل فضيحةً على رءوس الأشهاد. فمن كان من الرجال يخاف الله في حقوق النساء، ويعدل ويساوي بينهن، ويؤدي حقوقهن كاملة، فله أن يعدد، أما امتناع النساء عن الزواج ممن عدد، فإياكِ أختي المسلمة أن تنطلي عليك تلك الشعارات الزائفة، وتلك الكلمات المسعورة ممن لا يخاف الله ولا يراقبه، فكم من رجل عنده الزوجة والزوجتان والثلاث وهو وفيّ كريم، لو أنك دخلت بيته وعشت في كنفه لذقت الحياة السعيدة التي هي أسعد ما تكون للمرأة. وكم من رجل لا فراش له ولا زوجة وهو ظالم غاشم، لو تزوجتِه كان سبباً عليك في العذاب في الدنيا والآخرة، فالعبرة كل العبرة بصلاح الزوج؛ إذا أرادت المرأة الخير كله فلتبحث عن دين الرجل واستقامته وخلقه، فإن وجدت ذلك فلترضاه ولو ثانية أو ثالثة أو رابعة، فهي مؤمنة تحب الله وتحب دين الله. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبصرنا بالحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

ضرورة الاهتمام بالكلمة الطيبة من الزوج للزوجة

ضرورة الاهتمام بالكلمة الطيبة من الزوج للزوجة Q إن الله لا يستحي من الحق، إنني متزوجة من عشر سنوات تقريباً، ولم أسمع كلمة طيبة حنونة من زوجي إلا في أيام زواجنا الأولى فقط، فهل هذا يرضي الله؟ وما هو توجيه فضيلتكم في هذا، لعلمي أن زوجي بإذن الله يخاف الله، وأخاف عليه من عذاب الله؟ A والله إنه مما يؤلم ويشجي كثيراً أن الواحد منا تجده من ألطف ما يكون مع الناس، ومن أرق ما يكون مع الناس، حتى تجده رقيقاً مع أعدائه، يسبه العدو فيتبسم، ويدعي أنه حليم رحيم، ولكن ما إن يدخل إلى بيت أهله حتى -نسأل الله السلامة والعافية- يكشر عن أنيابه، ويعتريه العبوس، ويؤذي أهله وزوجه أين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)؟! أين وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها وآيات الكتاب التي تلوناها التي تأمرنا بالعشرة بالمعروف؟! لو كنا نؤمن بالله أو نخاف الله لاتقينا الله في الحقوق، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (هي تصوم وتصلي وتؤذي جارتها قال: هي في النار)، الله أكبر! فإذا كان الإنسان يشح ويبخل بابتسامة يدخلها على زوجه فأعوذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نسألك العافية من سوء الخلق. ولذلك أرى أحق الناس بحسن الخلق هم أهل الالتزام والهداية، إن الرجل يكون عنده أكثر من زوج لبناته، ولكن ينظر إلى الشاب المهتدي نظرة خاصة، فالله الله أن تعاب الهداية بأسبابنا! أو ينظر إلى الهداية بأسبابنا، لن تكون مهتدياً حقاً حتى تكون المرأة التي عندك أحظى وأوفى امرأة في أرحامك كلهم؛ ويكون أحب أصهار ذلك الرجل إلى قلبه، فإذا بلغ بالواحد منا أن يكون ديناً صالحاً يخاف الله، ولا يبتسم في وجه امرأته فنعوذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والكلمة الطيبة للمرأة تذهب بها وتأتي، والله إن المرأة قد تؤذيها وتسبها وتشتمها وتهينها، وبمجرد أن تعطيها كلمة رقيقة -سبحان الله- تنقلب رأساً على عقب، فالمرأة ضعيفة تحتاج إلى كلمة رقيقة، وإلى من يجبر كسرها؛ إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقى على المنبر ويقول كما في صحيح البخاري: (والله لا آذن، والله لا آذن، والله لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها) المرأة ضعيفة تحتاج إلى من يواسي ذلك الضعف، فليكن من شيمتك ووفائك إدخال السرور عليها، فابتسامة تبتسم بها لزوجتك تشتري بها رحمة الله عز وجل. فلذلك نعوذ بالله من هذا الخلق، وأظن أنه من السداد والتوفيق أن نعيد النظر في معاملاتنا لأهلنا، ووالله إن كثيراً من المشاكل التي تقع في بيوت الزوجية أسبابها تضييع مثل هذه الحقوق، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وإياكم من سوء الخلق إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

وصية في الحذر من الخيانة الزوجية

وصية في الحذر من الخيانة الزوجية Q هذه رسالة من سائل يطلب توجيه كلمة فيها تذكرة للغافلين والغافلات تخوفهم بالله رب العالمين من الخيانة الزوجية، حتى لا تنهدم بيوت المسلمين، وجزاكم الله خيرا؟ A بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فجزاك الله خير الجزاء بما سألته وطلبته. إخواني في الله: إن الله تبارك وتعالى أوجب على عباده المؤمنين وفرض على عباده المتقين أن يحصنوا فروجهم بتحصين الله، وأن يعفوا أنفسهم عن الحرام الذي لم يأذن به الله، فالرجل إذا أكرمه الله عز وجل بفراش الزوجية فقد أحصن، فحرام عليه أن يطأ امرأة لا تحل له، وقد ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد من نار أهون عليه من أن يمس امرأة لا تحل له) فكيف بمن جامع؟! وكيف بمن استحل محل أخيه؟! وكيف بمن أفسد فراش مؤمن؟! وكيف بمن أفسد دين مؤمنة؟! أحبتي في الله: إن الزنا والخيانة في الزوجية جريمة عظيمة توجب غضب الله وسخطه خاصة من المرأة، فإن المرأة إذا مكنت من فراشها، وسهلت للزاني البغيِّ الاعتداء عليها، فإنها قد خلطت الأنساب، وآذت الله رب الأرباب، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله أغير من أن تزني أمته أو يزني عبده) والله ما من امرأة زنت فخلطت فراش زوجها، وخانت في فراش بعلها، فولد لها من ذلك الزنا ولداً أدخلته عليهم وغريباً أوجدته بينهم، إلا حملت أوزاره، وباءت بإثمه والعياذ بالله. وويل ثم ويل لذلك الباغي الذي لم يخف الله في فراش أخيه، فتسلط على عورة مؤمن من المؤمنين، فأفسد عليه فراشه، وأراق في ذلك الفراش الماء! لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل حينما وطأ المسبية، وهي حل له أن يطأها، ولكن بعد استبرائها، فاستعجل فوطأها قبل استبرائها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيغذوه في سمعه وبصره، لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه إلى قبره). الزنا جريمة من الجرائم، ومصيبة من المصائب، ولذلك أخبر الله تبارك وتعالى أنه فاحشة ومقت وساء سبيلا، فما زنا رجلٌ ولا زنت امرأة إلا مقتا من الله عز وجل، وأظلم نور الطاعة في وجهه ووجهها! حرام على كل مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدخل على فراش زوجها غريباً يستمتع بالحرام الذي لم يأذن الله أن يستمتع به! حرام على كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تطلع إلى عورات توجب وقوعها في السيئات والفواحش والمنكرات! إن المؤمنة لها من خوف الله وخشيته ما يردعها عن حدود الله تبارك وتعالى. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا ويسلمكم، وأن يطهر الفرش لنا ولكم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم بقاء الزوجة مع الزوج صاحب المعاصي

حكم بقاء الزوجة مع الزوج صاحب المعاصي Q أنا امرأة لا أريد زوجي لسببين: الأول: أنه يتعاطى المخدرات وقد نصح مرات، والثاني: أنه عقيم، وهو يرفض أن يطلقني، وأنا الآن في بيت أهلي أكثر من سنتين، فما الحل؟ هل هناك في الشرع ما يفصل بيننا، ويضع حداً لهذا الأمر من غير أن يطلق هو، أفيدونا بارك الله فيكم؟ A بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فتسألين عن زوج لك ابتلي بالمسكرات والمخدرات والعياذ بالله، وأنه نصح مرات وكرات، وأنه لم يمتثل أمر الله عز وجل إذ نصح، وأنك قد بقيت في بيت أهلك عامين، وهل هناك سبيل للفراق بينك وبينه. أولاً: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت بعلها إلا إذا أذن الله لها بذلك الخروج، هلا سألت قبل أن تخرجي من بيت زوجك، أيحل لك الخروج أم لا يحل؟ فإن إساءته لا تدعوك إلى الإساءة، ولا توجب لك حل الخروج من بيته، والبعد عن عصمته، فأنت ما زلت زوجة في عصمته وملكه، لذلك فإنه لا يجوز لك الخروج من بيته إلا على الوجه المعروف. ثانياً: عليك أن تبذلي كل ما تستطيعين في تذكيره بالله ونصيحته ودلالته على طاعة الله ومرضاته، وإن من النساء من كانت مبتلى بما بليت به، فما زالت تنصح وتنصح حتى هداه الله. وأعرف امرأة سألت والدي مرات وكرات، حتى بلغ بها في آخر المرات إلى درجة اليأس، وما زال الوالد رحمه الله يأمرها بالصبر، ويأمرها أن تدعوه وتذكره بالله، حتى جاء الفرج في آخر لحظة فتاب فتاب الله عليه. فلو صبرتِ لجعل الله لك فرجاً ومخرجا، ولو اتقيت الله فبقيت في بيت بعلك لجعل الله لك فرجاً ومخرجا، وكان بعضهم مبتلى بالمسكرات والمخدرات، حتى يقول: كنت بعيداً عن الله عربيداً سكيراً والعياذ بالله، فما زالت تنصحني وتذكرني بالله حتى عرفت سبيل بيت الله، وأصبحت من أهل المساجد، ومن أهل طاعة الله. فلذلك أختي في الله أوصيكِ بأمور: أولها: أنه لا يحل لك الخروج إلا بعد نصحه، فإن أبى فإنه يحل لك إذا خفتِ منه الضرر، بمعنى أنه يسكر في بيتك أو يشرب المخدرات في بيتك، فتخافين على نفسك أن يقتلك أو تخافين أذيته، فحينئذ يحل لكِ الخروج، أما ما عدا ذلك إذا كنت في مأمن منه، وكان سكره خارجاً عن بيته، فاستعيني بالله، وأكثري من نصحه وإرشاده، واصبري فإن العاقبة للتقوى، وأما إن أردت أن تبيني منه، وأن تحل العصمة بينكِ وبينه، فذلك يكون على الوجه المعروف، ترفعين الأمر إلى القضاء، وتبيّني ما أنت عليه عند القاضي فينظر في أمرك، وحينئذ يقرر الخلع أو الفسخ بما يراه أصوب وأرشد، ومثلي لا يستطيع أن يحدد لك؛ لأنني سمعت من طرف ولم أسمع من الآخر، فهذا هو جماع ما سألتِ عنه، والله تعالى أعلم.

ففيهما فجاهد

ففيهما فجاهد ذكر الله عز وجل بر الوالدين والإحسان إليهما في أكثر من آية من كتابه الكريم، حتى قرن برهما بتوحيده سبحانه، وقد تكلم الشيخ -حفظه الله- عن كيفية بر الوالدين في الحياة وكيفية الإحسان إليهما، وكذلك تكلم عن كيفية برهما بعد مماتهما، ذاكراً آثار بر الوالدين وعلاج ما قد يكون عائقاً للمرء عن برهما.

بر الوالدين في حياتهما

بر الوالدين في حياتهما الحمد لله رب العالمين، والصلاة على المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71]. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله: إن للوالدين حقاً عظيماً وفضلاً -بعد فضل الله- جليلاً كريماً، وصى الله به عز وجل الملأ وتنزل به الروح الأمين من فوق أطباق السماوات السبع العلى. اثنان إذا ذكرتهما ذكرت البر والمعروف والإحسان، اثنان إذا ذكرتهما تحركت في القلوب الأشجان والأحزان اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، مضت أيامهما وانقضى شبابهما وبدا مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلباً رقيقاً، ينتظران منك براً رفيقاً، وقفا ينتظران والجنة وراءهما والجنة تحت أقدامها، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسء إليهما، طوبى لمن برهما ولم يعقهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن سرهما ولم يحزنهما، طوبى لمن أسعدهما ولم يشقهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن نظر إليهما نظرة الحنان، وتذكر ما كان منهما من البر والعطف والإحسان، طوبى لمن شمر عن ساعد الجد في رضاهما فما خرجا من الدنيا إلا وقد كتب الله له رضاهما، طوبى لمن سهر ليله وأتعب نهاره وأضنى جسده في حبهما وابتغاء رضاهما. أيها الأحبة في الله: في هذا الزمان الذي عظمت غربته، وفي هذا الزمان الذي اشتدت كربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء، ولم ترحم البنات رقة الأمهات، في هذا الزمان الذي تولى فيه البرور، وانقطعت فيه المودة إلى أعقاب الهوى والشرور، في هذا الزمان الذي عظمت غربته واشتدت كربته يحتاج المؤمن إلى من يذكره بحقيهما، يحتاج المؤمن إلى من يدله على عظيم فضلهما، لذلك تنزلت من الله عز وجل الآيات، تحث المؤمن على البر بالآباء والأمهات، وصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ووصى أمته من بعدهم أن يبروا ولا يعقوا، وأن يحسنوا ولا يسيئوا، وأن يكرموا ولا يهينوا. ثلاث كلمات مشتملات على وقفات: الوقفة الأولى: مع البر في الحياة. والوقفة الثانية: مع البر بعد الوفاة. والوقفة الثالثة: مع الثمرات وما يجنيه أهل البر من الخيرات. فاللهم إنا نسألك قولاً سديداً وعملاً صالحاً رشيداً. أيها الأحبة في الله: الوقفة الأولى: مع من متع الله عينيه وسر خاطره وناظريه برؤية أبويه، مع من أكرمه الله بحياتهما فكم من قلوب تمنت بقاء الوالدين والله تفضل عليك بوجودهما. فيا من متع الله ناظريك! ويا من أسعد الله عينيك! وصية بالوالدين وصاك الله عز وجل في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين بالوالدين إحساناً، قال الله في كتابه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]، وقال جل ذكره: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8]، وقال تقدست أسماؤه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف:15] وصية من الله جل وعلا إليك أن تحسن إلى الوالدين.

كيفية الإحسان إلى الوالدين

كيفية الإحسان إلى الوالدين وكيف يحسن الإنسان إلى أبويه؟ يحسن الإنسان إلى أبويه بخصلتين كريمتين يقول العلماء: من حفظ الله له هاتين الخصلتين فبر بهما فقد أحسن إلى والديه، الخصلة الأولى: في اللسان. والخصلة الثانية: في الجوارح والأركان. أما اللسان: فمن حق الوالدين على الإنسان أن يصونه، فلا يؤذيهما بالكلام الذي يكسر خاطرهما، يحافظ على لين الكلام، ويحافظ على كريم المنطق مع الوالدين، وقد جمع الله عز وجل في اللسان لمن أراد بر والديه صفتين: الصفة الأولى: القول الكريم. الصفة الثانية: العفة عن القول الذي لا يليق. فمن وفقه الله للقول الكريم وصان لسانه عن أن يؤذي والديه؛ فقد بلغ الإحسان إلى والديه بلسانه، فما عليه إلا أن يتقي الله فيما بقي من جوارحه وأركانه. أما القول الكريم: قال بعض العلماء: إن الله عز وجل أمر به ومنه أن يشعر أباه بالأبوة وأمه بالأمومة، فلا ينادي أباه باسمه بل يناديه فيقول: يا أبتاه! أو ينادي أمه فيقول: يا أماه! ولقد أخبر الله عز وجل عن هذا الأدب الكريم حينما قال عن نبيه إبراهيم وهو يخاطب أباه على الشرك والكفر: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] لم يناده باسمه وإنما قال: يا أبت، قال بعض العلماء: إن الابن إذا دعا أباه بالأبوة أشعره بعلو المرتبة عليه. ومن دلائل الإكرام والإجلال باللسان: ألا يتكلم الابن في مجلس فيه أبوه إلا في حالتين: الحالة الأولى: أن يتكلم عن علم. الحالة الثانية: أن يتكلم عن حاجة. ولذلك كانوا يعدون من سوء الأدب مع الوالدين كلام الابن بحضرة أبيه وأمه دون حاجة، وكان الإمام محمد بن سيرين إمام من أئمة التابعين إذا حضرت أمه خشع وأصابه السكون، فيسأل الغريب: ما باله؟ فيقولون: هكذا يكون إذا حضرت أمه، من سوء الأدب إذا حضر الوالد أن يهذي الابن فيما لا حاجة فيه. أما الخصلة الثانية في اللسان: أن يقول القول الكريم كما قال الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24] القول الكريم وكف الأذى باللسان فلا يقل لهما أف. قال بعض السلف: لو كانت هناك كلمة أقل من أف لنهى الله عز وجل عنها، فيكف الإنسان لسانه في هاتين الحالتين، فيقول الكلام الطيب الذي يدخل السرور على والديه ويغض عن الكلام الذي يجرح الوالدين، فكم من كلمة تكلم بها الابن جرحت أباه إلى الممات في قلبه، وكم من كلمة تكلمت بها البنت جرحت أمها إلى الممات في قلبها. الكلمة إذا خرجت لا تعود وإذا رمى الإنسان بالكلمة المؤلمة لأبيه وأمه فإن أذاها وشدة بلاها لا يقتصر على ما فيها، بل يضاعف على ذلك وجود الحنان والشفقة في قلب الوالد والوالدة، لذلك وصى الله من أراد البر أن يقول القول الكريم. أما الخصلة الثانية التي ينبغي للإنسان أن يحفظها في جوارحه وأركانه: طول الصحبة للوالدين، فقد فرض الله على الإنسان أن يصحب والديه، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يخرج عن والديه في سفر أو في غربة ما لم تكن واجبة إلا بعد استئذانهما، قال الله عز وجل في كتابه: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقبلت أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (أحي والداك أو أحدهما؟ قال: نعم. بل كلاهما، فقال عليه الصلاة والسلام: أفتبتغي الأجر والمثوبة من الله؟ قال: نعم. قال: ارجع إليهما فالزمهما وأحسن صحبتهما) الله أكبر! قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة ويبايعه على الجهاد، يريد أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً مجاهداً فيقول له: أحي والداك؟ ثم يقول له: أفتبتغي الأجر، ثم يقول له: الزمهما وفي رواية: (صاحبهما). ولذلك قال بعض العلماء: لا يجوز للإنسان أن يخرج عن والديه إلا بعد استئذانهما، ولا ينبغي للإنسان أن يعيش في بلد غير بلد والديه إلا عند الاضطرار والحاجة، إذا فارقت الوالدين فقد أسكنت قلوبهما ألم الفرقة، وأوجدت في قلبيهما ألم الغربة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم عليه الرجل قال: يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد قال: (أحية أمك؟ قال: نعم. قال: الزم رجلها فإن الجنة ثم) أي: الجنة التي تطلبها والتي تريدها وتنشدها عند رجل أمك، ولذلك كان من أول ما ينبغي على المسلم الذي يريد بر الوالدين أن يصحبهما، أحق من يصاحبك هم الوالدان، وأحق من تكون معهما وتطيل الجلوس معهما فتدخل السرور عليهما برؤيتك هما الوالدان. ولذلك يقول بعض العلماء: من تغرب عن الوالدين في طلب عيش أو في ضرورة فليدمع، وليسأل الله جل وعلا أن يغفر ذنباً حرمه القرب من الوالدين، البعد عن الوالدين فوات لخير كثير لو لم يكن إلا دخولك على الوالدين في زيارة أو قضاء حاجة حتى سلام الإنسان على والديه من البر الذي يرحمه الله تعالى به. ومما يوصى به من أراد بر الوالدين ورد جميل الوالدين، أن يحفظ الجوارح وأن يكون في خدمة والديه، ولذلك قالوا: ينبغي عليه أن يطعمهما إذا جاعا، وأن يكسوهما إذا عريا، وأن يحسن صحبتهما بالمعروف إذا احتاجا، فكم من ساعات قضى بها الإنسان للوالدين الحاجات غفر الله عز وجل بها الذنوب والخطيئات، وأوجب بها الستر وفرج بها الهموم والغموم والكربات! كم من ابن بار بر والديه أدخل السرور عليهما فقام من عندهما وقد قضى لهما حاجتهما، فرفعت له الكف من والديه فلم تخب أكفهما فيما دعت وسألت، فخير ما يقضيه الإنسان حوائج الوالدين. ومن كان في حاجة والديه كان في بر ورحمة ولطف من الله جل وعلا، قضاء حوائج الوالدين مقدمة على حوائج الأبناء، ومقدمة على حوائج البنات، ومقدمة على حوائج الزوجات، وعلى حوائج الإخوان والأخوات، إذا وفق الله الإنسان فصان لسانه وصان جوارحه عن أذية الوالدين ولزمهما فأحسن صحبتهما وأدخل السرور عليهما فإن الله تبارك وتعالى قد وفقه لخير كبير وفضل جليل غير حقير.

بر الوالدين بعد مماتهما

بر الوالدين بعد مماتهما أما الخصلة الثانية والوصية الثانية التي يحتاجها من أراد بر الوالدين فهو: بر الوالدين بعد الممات، فأحوج ما يكون الوالدان إلى بر ابنهما إذا خرجا من الدنيا فصارا إلى دار البلاء، فما أحوجهما إلى دعوة صالحة أو استغفارة أو رحمة صادقة يرفع بها الابن كفه إلى الله تبارك وتعالى، قال: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما قال: نعم. الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما). جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ابتلاه الله بفقد والديه يريد أن يسأل هل بقي من حقهما شيء؟ فقال: يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به بعد موتهما قال: نعم. فلا يزال بر الوالدين ديناً على الإنسان مادامت روحه في جسده، ومن ظن أن البر ينتهي بوفاة الوالدين فقد أخطأ، فلا يزال بر الوالدين ديناً في عنق الإنسان إلى أن يلقى الله جل جلاله، يحتاجان إلى دعوة صادقة ويحتاجان إلى استغفارة تسبغ بها شآبيب الرحمات وتضفى بها من الله عز وجل المغفرات، فأحوج ما يكونان إليه برهما بعد موتهما، فيكثر الإنسان من الاستغفار لهما وكلما كان الإنسان ذاكراً والديه بعد وفاتهما فإن الله يفي له كما وفى لوالديه. والله ما ذكرت والديك بعد وفاتهما إلا سخر الله لك من يذكرك كما ذكرتهما، والله ما ذكرت الوالدين بدعوة صالحة فنفس الله بها في القبور كرباتهما أو رفع بها درجاتهما؛ إلا سخر الله لك من يذكرك إذا صرت إلى ما صاروا إليه، فإن الجزاء من جنس العمل. أما الوصية الثانية في بر الوالدين بعد الوفاة: صلة قرابة الوالدين، وأحق من تصل أبناء الوالدين، فإن الإنسان قد يتوفى أبوه ويترك له إخوته وإخوانه وهما أحوج ما يكونون إلى عطفه وبره، فلذلك كان من أصدق البر للأب العطف على يتيمه والعطف على صغيره، فمن ابتلاه الله فكان أكبر إخوانه فقد صار ديناً عليه أن يفي لأبيه بعد وفاته؛ فيحسن إلى إخوانه وأخواته، فمن أجل القربات وأفضل الطاعات أن تحسن إلى يتيم الوالدين، ولذلك قال العلماء: إن الإحسان إلى اليتيم على مراتب: أعلاه: اليتيم القريب، وأقرب قريب إذا كانوا إخوة لك، فإن الإخوة إذا فقدوا الأب احتاجوا إلى من يسد ذلك الفراغ الذي كان فيه الأب، احتاجوا إلى أخيهم الكبير في كلمة حنونة أو عطف أو بر أو إحسان، أو دفع شدة أو كربة بعد الله جل وعلا، فإذا قابل الأخ إخوانه بهذا العطف وهذا البر كان أصدق ما يكون من ذكره لحق والديه عليه، ولذلك كان من أشد ما يكون على اليتيم أن يبلى بأخ يسيء إليه ولا يحسن إليه، فخير ما يوصى به من فقد والديه وخلف له الوالدان أبناءً وبناتاً يحتاجون إلى عطفه أن يبر الوالدين بالعطف على أولئك الصبية الضعفة، وأن يحتسب عند الله جل وعلا إدخال السرور عليهم. الخصلة الثالثة في بر الوالدين بعد الوفاة: صلة أهل ود الوالدين من الأرحام -العم والعمة والخال والخالة- بزيارتهم وتفقد أحوالهم والإحسان إليهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه). مشى عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه في سفره من المدينة إلى مكة وكان عنده دابة يركبها ويتروح عليها إذا تعب، فرأى أعرابياً يسير فنزل عن دابته وألبسه العمامة وحياه وأكرمه، ثم لما مضى قال له أصحابه، لم أعطيته الدابة رحمك الله؟ قال: إن هذا كان أبوه صديقاً للخطاب في الجاهلية، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه). قال بعض العلماء: إنما كان براً؛ لأن صديق الوالد إذا رأى ابن صديقه ذكر الوالد فترحم عليه، وذكر جميل أفعاله وأثنى عليه، فكان ذلك من بر الوالدين، ولذلك تعتبر هذه وصية لمن فقد والديه أن يحسن إلى أصحابهما -إن من أبر البر أن يصل أهل ود أبيه- يتفقدهم بالزيارة، وإن وجد منهم خلة أو حاجة سدها يحتسب عند الله عز وجل برها، فهذه من القربات التي تكون للوالدين بعد الممات.

آثار بر الوالدين

آثار بر الوالدين لبر الوالدين آثار:

انشراح الصدور

انشراح الصدور ومن آثار البر: انشراح الصدور. ولذلك قل أن تجد باراً منقبض الصدر، وقل أن تجد إنساناً باراً تضيق عليه الحياة أو يشكو نكدها أو همها؛ لأن من بركات البر وآثاره الحميدة على الإنسان في نفسه انشراح صدره، فإن القلوب تنشرح بطاعة الله وأعظم الطاعات بعد عبادة الله بر الوالدين، فمن وجد في قلبه ضيقاً أو حرجاً فليتفقد حقوق الوالدين عليه، فلعله أن يكون أساء إلى الوالدين بكلمة أو أساء إلى أمه أو أبيه بزلة فليطلب سماحها عل الله أن يذهب عنه همها وغمها.

إجابة الدعاء

إجابة الدعاء الأمر الثاني الذي يجنيه البار بالوالدين: إجابة الدعوة، فإن البار بالوالدين الغالب أنه يكون مستجاب الدعوة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أويس القرني قال: (يأتيكم أهل اليمن أرق قلوباً فيهم أويس القرني -رجل كان باراً بأمه- وكان به برص فدعا الله عز وجل فأذهبه إلا قدراً يسيراً في قدمه، من رآه منكم فليسأله أن يدعو له) فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع علو قدره وارتفاع مكانه وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد البعوث في الجهاد حتى وجده فعزم عليه بأن يستغفر له. فمن فضائل البر إجابة الدعوة، وقل أن يكون الإنسان باراً بوالديه ويحجب عن دعوة، ما من إنسان يوفق لبر الوالدين إلا كانت دعوته مستجابة، وإذا توسل لله عز وجل ببر الوالدين فرج الله كربته ونفس الله همه وغمه، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الثلاثة النفر الذين دخلوا الغار (قال الثالث: اللهم إنك تعلم أنه كان لي والدان، وكنت آتي بالعشي فأحلب فلا أغبق قبل غبوقهما، وإني قد نأى بي طلب الشجر يوماً فتأخرت عليهما، فقدمت وقد ناما فاحتلبت لهما وقمت على رأسيهما فكرهت أن أوقظهما حتى طلع الصبح، والصبية يتضاغون عند قدمي، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، ففرج الله الصخرة عنهم حتى خرجوا). فمن كان باراً بوالديه استجاب الله دعوته وفرج الله كربته، والله لن تجد باراً يساء في الحياة غالباً، لن يطلب طريقاً إلا سهله الله له، ولن يقرع باباً إلا فتحه الله في وجهه، ولا تمنى أمراً من الخير إلا يسر الله له سبيله. بر الوالدين من أعظم الأسباب التي توجب الرحمة من الله في تيسير الأمور، والعكس بالعكس، فإن العاق ما حضر مكاناً إلا كان شؤماً على أهله، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم فكيف بالذي عق والديه؟! فالمقصود: أن من أراد أن يجني ثمرة البر فمن أعظمها أن الله يجيب دعوته وأن الله يفرج كربته، وأن الله تعالى يكون معه في شدته وعسره.

تقبل العمل

تقبل العمل من أعظمها وأجلها تقبل العمل؛ فإن الإنسان إذا كان باراً بوالديه كان مقبول العمل، وإذا تقبل الله العمل نفع الله به صاحبه في الدنيا والآخرة، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحملون هم القبول، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [لو أعلم لو أن لي صلاة مقبولة لاتكلت، فمن بر والديه فإن الله يتقبل عمله] قال الله تعالى في كتابه فيمن بر والديه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف:16] فجمع لمن بر والديه بين هاتين الثمرتين قبول العمل وتكفير الخطيئة، فيقبل عمل الإنسان وتكفر خطيئته. قال بعض العلماء: إن البار إذا أصبح وفعل الطاعة وأمسى قبل عمل يومه، وإن العاق لو أطاع الله يومه فإن عقوقه قد يكون سبباً في حرمانه القبول للطاعة والعياذ بالله، فلو أصبح صائماً وبات قائماً وأغضب أباه وأمه لم يقبل الله عز وجل عمله، فإن الله تبارك وتعالى ذكر في قطيعة الرحم أنها تلحق بالإنسان العمى والصمم فقال جل وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] فإذا كان هذا فيمن قطع رحمه، فكيف بمن عق والديه والعياذ بالله، فخير ما يجنيه من بر الوالدين قبول العمل.

أسباب بر الوالدين

أسباب بر الوالدين أيها الأحبة في الله! من أراد أن يبر الوالدين فليأخذ بالأسباب: الأول: أعظمها الدعاء، فيسأل الله البر ويستعيذ من العقوق. الأمر الثاني: أن تحس أن وجود الوالدين ليس بدائم، وأنه سيأتي اليوم الذي يفقد الإنسان فيه أمه أو أباه، ولا شك أن ذلك قادم إن عاجلاً أو آجلاً، فإذا وجدت الوالدين أمامك فاحمد نعمة الله عز وجل بوجودهما ولا تضمن أن تمسي ولا تراهما، فإن هذا مما يعين على البر ويشوق الإنسان إلى اغتنام وجود الوالدين. الثالث: استشعار حسن العاقبة، فإن الإنسان إذا أحس برضى الله عز وجل عنه فإن ذلك يشوقه إلى الإحسان والبر للوالدين.

عوائق بر الوالدين

عوائق بر الوالدين إخواني في الله! إن من أعظم العوائق التي يجدها الإنسان في بر والديه هي:

الابتلاء بأبوين قاسيين

الابتلاء بأبوين قاسيين أولاً: أن يحسن إلى الوالدين ويسيئا إليه، أن يرحم الوالدين ويعذباه، أن يقول لهما القول الطيب فيردا عليه بالخبيث، أن يفعل الخير بهما فيردا عليه شراً، أن يذكرهما بخير فيردا عليه بسوء، فإذا ابتلاك الله بأب لا يرحمك وأم لا ترحمك فاعلم أن أفضل البر بر مثل هذا، أفضل ما يكون البر إذا وجدت أباً إذا أحسنت إليه أساء إليك، وأفضل ما يكون البر إذا وجدت أباً تكرمه فيهينك، وترفعه فيضعك، لا يبالي بحسنتك، إن رأى منك حسنة كفرها، وإن رأى منك سيئة أذاعها، فإذا بليت بمثل هذا فاصبر، فإن أفضل ما يكون البر في مثل هذا، فإن الله قد يريد أن يرفع درجتك ويعظم أجرك بهذا البر فيسلط عليك أباً لا يبالي بإحسانك إليه، فأفضل ما يكون البر إذا وجدت من الأب الإساءة، أو وجد الإنسان من الأم الإساءة، فما عليه إلا أن يصبر ويصطبر عل الله عز وجل أن يعوضه خيراً. ذكروا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان أبوه شديداً عليه وكان باراً به؛ حتى إنه رضي الله عنه نزل بوادٍ بمكة فجمع التراب ونام وقال: كنت أرعى لأبي الخطاب في هذا الوادي الإبل وكان فظاً غليظاً يضربني، قال بعض العلماء: إن الله عز وجل أخرج من عمر هذه الكلمة في هذا الوادي الذي بر فيه والديه فقال هذه الكلمة وهو خليفة وإمام للمسلمين، لكي يعلم حسن العاقبة من الله، أهانه أبوه في الجاهلية فكان يكرمه، وأساء إليه فكان يحسن إليه، فعوضه الله عز وجل أن جعله إماماً من أئمة المسلمين. فمن صبر على الوالدين واحتسب؛ خاصة عند الأذية وعند الإهانة؛ فإن الله تبارك وتعالى لن يضيع إحسانه، ولذلك كثيراً ما يجد الشاب الصالح أباً لا يبالي به، ويكون له إخوة يقسون على أبيهم فيخاف الأب منهم ولكن يحسن فالأب يهينه، ويحس الأب أن هذا الصالح بإكرامه له وبره له قد أصبح مهاناً في عينه، فيتألم الشاب الصالح من أثر ذلك ويجد في نفسه، ولكن اصبر وصابر، فإن كان أبوك أو كانت أمك لا تبالي بإحسانك فما هي إلا حسنات تخط في ديوانك، وإذا كان الأب يجحد البر فإن الله لا يجحده، وإذا كان الوالدان يجحدان الإحسان فإن الله لا يجحده، فما عليك إلا الصبر وما عليك إلا احتساب الأجر، وأن تحس من قلبك أن الله يريد بك خيراً حينما سلط عليك أباً لا يرحمك.

قرناء السوء

قرناء السوء كذلك أيضاً من عوائق البر التي تعيق الإنسان: قرناء السوء، فإن كثيراً من الناس قد يبتلون -والعياذ بالله- بعقوق الوالدين بسبب قرناء السوء، فكم حقر الأب وكم حقر الأم في عين الولد صديق لا يخاف الله، وقرين لا يتق الله، فغير قلب الابن على أبيه وغيرت قلب البنت على أمها، فمن الشقاء أن يبلى الإنسان بقرناء السوء، فما على الإنسان الذي وجد من قرينه إهانة لوالديه إلا أن يتركه، إذا أحسست بأن جلساءك يعينوك على العقوق وأنك لا تجد منهم من يثبتك على البر والإحسان فاتركهم والله يعوضك خيراً منهم. أيها الأحبة في الله: إن الله تبارك وتعالى إذا يسر للإنسان البر ورأى دلائله فما عليه إلا أن يشكر، فإن الله تأذن بالمزيد لمن شكر، إذا وجدت سرور الوالدين بك ورضاهما بما كان منك فاحمد الله عز وجل على نعمته، واسأله المزيد من فضله، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا البر برحمته. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تسبغ شآبيب الرحمات على الوالدين، اللهم اغفر لأمواتهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم اجزهم عنا خير ما جزيت والداً عن ولد، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، اللهم أسبغ عليهم شآبيب الرحمات، وكفر عنهم الخطيئات، وارفعهم عندك في أعلى الدرجات. اللهم من كان منهم حياً اللهم فأسعده ولا تشقه، اللهم أسعده ولا تشقه، اللهم ارحمه ولا تعذبه، اللهم أعظم أجره وكفر خطيئته ووزره، وأحسن خاتمته إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق Q إن أمر الوالد ابنه أن يأتي له أو يشتري له أمراً محرماً كالدخان مثلاً هل يجيبه أو لا، وإن كان في امتناع الابن ورفضه ذلك ربما يتطور الأمر وتحصل مشاكل كبيرة في المنزل مثل مخاصمة الأم أو إلى غير ذلك، فما هو الصواب في هذه المسألة؟ A أما الذي أعرفه أن للأب السمع والطاعة إلا في معصية الله؛ ولأن تحمل الجبال الشم على ظهر الإنسان ولا يفتي بما حرم الله، لا أستطيع أن أجد لك مخرجاً أن تأتي بأمر محرم لأمك وأبيك، لا أعرف نصاً من كتاب الله ولا سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم تبيح لك أن تطيع مخلوقاً في معصية الخالق، وأما الطريقة التي تتخلص فيها من البلاء فابذل والله يعينك، فإن الله ييسر لليسرى لمن أراد ذلك، والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن ينهى عن المنكر ويأتيه إذا خلا به

نصيحة لمن ينهى عن المنكر ويأتيه إذا خلا به Q إني أشعر بيني وبين نفسي بالذنب والإثم؛ بأنني أنكر على والدي كثيراً من المنكرات ولكن إذا خلوت بنفسي انتهكت كثيراً من المحارم، ماذا تنصحني وفقك الله فضيلة الشيخ؟ A أوصيك ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنه قد جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف أقواماً من أمتي يأتون بأعمال كأمثال الجبال فقال ثوبان: جلهم لنا، صفهم لنا يا رسول الله! لا نكون منهم ونحن لا ندري، فقال: أما إنهم منكم يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون، إلا أنهم أقوام إذا خلوا بحدود الله انتهكوها) فينبغي عليك أن تربي في نفسك تقوى الله عز وجل، وأن تقوي في نفسك وازع الإيمان الذي يحول بينك وبين معصية الرحمن، واتق الله فيما تقوله، اتق الله فيما تذكر به، واسأل الله جل وعلا أن يسلمك وأن ينجيك مما بليت به، فإنه لا عاصم من الضلالة إلا الله. نسأل الله العظيم أن يمن علينا بالقول السديد والعمل الصالح الرشيد، والله تعالى أعلم.

كيفية توبة عاق الوالدين

كيفية توبة عاق الوالدين Q كيف تكون توبة عاق الوالدين وفقكم الله؟ A أما إذا كان الوالدان حيين فيبدل الإساءة حسناً، وبدلاً من أن كان يسيء إليهما يحسن إليهما، ويغير الفظاظة والغلاظة إلى اللين، ويدخل عليهما يقبل رأسيهما ويجلس عند رجليهما ويضفي الحنان إليهما، ثم يغير ما كان عليه من الإساءة، فإن كانت هناك أمور قد فعلها أغضبتهما فعل ضدها وأرضاهما. أما إذا كانا ميتين فقد مضيا إلى ربهما، وقال بعض العلماء: إدراك برهما وإزالة عقوقهما أولاً بصلاح الإنسان قالوا: ما يعتبر باراً لوالديه بعد الموت إلا إذا كان صالحاً؛ لأنه لا تستجاب دعوته ولا تقبل حسنته إلا بالصلاح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أو ولد صالح يدعو له) فقالوا: أول حق للميت على ابنه لكي يبره أن يكون صالحاً، يحاول أن يكون صالحاً في قوله وعمله. الأمر الثاني: أن يكثر من الدعاء والاستغفار لهما، وقد نصت طائفة من العلماء على أن الإنسان إذا عق والديه في الحياة فأكثر من الاستغفار والترحم عليهما وصلة أرحامهما وأحسن إلى قرابتهما أن الله يكفر خطيئته بالعقوق، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

حكم معارضة الأب ابنه في زواجه بامرأة صالحة

حكم معارضة الأب ابنه في زواجه بامرأة صالحة Q تزوجت امرأة صالحة والحمد لله، إلا أن والدي لم يكن موافقاً على هذا الزواج وتجاهلت هذا الأمر لصلاح المرأة، ما هو الحكم الآن هل ترى أنني أطلقها أم ماذا أفعل؟ A إذا وجد الإنسان امرأة صالحة وكان أبوه لا يرضاها فإنه إذا ذكر عيباً أو ذكر أمراً يعتبر وجيهاً في امتناعه من زواج ابنه بهذه المرأة فإنه يجب عليه بره قولاً واحداً. أما إذا كان لم يذكر شيئاً فإن الصالحات موجودات وكثيرات والحمد لله، إذا لم تتيسر هذه فيتيسر غيرها، ولذلك أقول: إنك لربما تجد المرأة صالحة ويعلم الله أن صلاحها لا يثبت ولا يدوم فيسخر الله لك الأب يقول لك: لا. لا تتزوجها أو يسخر الله لك الأم تقول: لا تتزوجها. لكي يبتلي الله أمرك، فإن بررت عصمك من فتنة انتكاسها، وإن عققت أوقعك فيما يكون من سوء عاقبتها، وقد تكون المرأة على صلاح واستقامة، ولكن يعلم الله أن ذريتها غير صالحة، ويعلم الله أن ما يكون منها ليس بصالح. ذكر بعض الإخوة أنه عرضت عليه امرأة صالحة وكان باراً بأبيه فحاول فيه إخوانه وخلانه يقول: حتى هممت أن أقطع أبي وأعقه وأتزوجها، ولكن وجدت أحد العلماء سألته فقال لي: بر أباك ولعل هذا البر أن يعصمك الله به من شر، ثم شاء الله عز وجل أن تزوجها غيره فلما تزوجها غيره تركها وتزوج غيرها وكانت قريبة له يرضاها أبوه، وكانت على صلاح لكن دون صلاح الأولى يقول: وشاء الله عز وجل أن انتكست المرأة الأولى -والعياذ بالله- فالله حكيم في خلقه فإذا وجدت الوالد والوالدة يمتنعان من شيء فإن الله يعلم وأنت لا تعلم، فبر والديك فإن عواقب الأمور هي المهمة وقد ترى المرأة على صلاح في بدايتها لكن ما تعلم نهايتها. وكذلك أقول للمرأة، إذا حضر الزوج فإن بعض النساء يرغبن في الزواج من رجل ويرغب الوالد من رجل آخر، ويكن ذا دين واستقامة، وليس على الذي اختاره الأب من محذور شرعي فتختار هي ذلك وتقول: هذا أفضل من هذا، فيشاء الله عز وجل أن يكون مثلما يكون في النساء فلعل الرجل الذي تختاره المرأة لا يستديم صلاحه ولعله أن يكون ديناً لكن طباعه ليست بحميدة، وقد تكون ذريته ليست بصالحة، فإياك إذا عرض الأب عليك أمراً ليس فيه معصية لله أن تترددي لحظة واحدة في القبول، ولذلك ينبغي للمرأة أن تبر. عرض أب على ابنته أن تتزوج من ابن عمها وكان كبير السن -يعني: أكبر منها سناً- ولكن فيه قوة الشباب وليس بذي هرم ولكنه في الخمسة والأربعين تقريباً، وكانت البنت في قرابة العشرين فعرض عليها ابن عمها فأبت وأصرت وعاندت، فجاء من يذكرها بالله عز وجل وينصحها فقالت: ما دام أن أبي اختاره فإني قد رضيت به، وكانت تكره هذا الزوج وتمقته وتحتقره، وصبرت وصابرت وتزوجت ودخل بها، فإذا بالله عز وجل يقلب قلبها وإذا به أحب إليها حتى في بعض الأحيان من أهلها وقرابتها، ثم شاء الله عز وجل أن يخرج من ذريتها صبية من خيار الصبيان، ولا زالت تربي وتجد الخير في الزواج من هذا الرجل، الآن بعض النساء بمجرد أن تبلغ تضع في ذهنها أن تتزوج على طريقة معينة تحس أن الوالد والوالدة إذا تدخلا في أمرها أن الدنيا قامت وقعدت، فترد على أبيها وتسفه رأيه وتغضب وتحدث مشكلة في البيت، وتقيم الدنيا وتقعدها سبحان الله! متى كانت نساء المؤمنين ترفع الواحدة بصرها في وجه أبيها؟ من أين جاءنا هذا البلاء؟ متى كانت المرأة تعترض على أبيها في زواج لم يكن فيه معصية الله عز وجل؟ كانت المرأة على حسن ظن: هل أحد يشك في صدق الوالدين؟ هل أحد يشك في حب الوالدين الخير لك؟ من الذي يتهم والديه بحب الشر للإنسان؟ فالوالد قد يصر على قريب -ابن عم- لعلمه أن القريب يستر العورة ويغفر الزلة، وأنه يحس أن ابنة عمه فضيحتها فضيحة له، ويصبر ويصابر لأشياء يراها الوالد قد لا تراها المرأة، نحن لا ندعو إلى التعصب والجمود على العادات، ولكن مع ذلك نريد المرأة أن تكون عاقلة فاهمة لا نريد إلغاء حقوق الوالدين ولا نريد فتح الباب، إنما نريد أن تقدر الأمور بقدرها، المرأة إذا عرض عليها الوالدان الزواج أو الرجل إذا عرض عليه الأمر في الزواج والداه ينبغي عليه أن أن يبادر ببر الوالدين ما لم يجد معصية وحداً من حدود الله. بل إن بعض النساء عرض عليهن شارب خمر -والعياذ بالله- وكان يصلي ولكن مبتلى بشرب الخمر وكان ابن عم للوالد فقالت لأبيها: أنت تأمرني أن أتزوجه -كانت امرأة صالحة- قال: نعم. آمرك بذلك ولا تتزوجي غيره، قالت: إذاً أنا لا أرضاه إلا من أجل برك، والله يعلم أني ما قبلته إلا من أجل رضاك، فشاء الله عز وجل بمجرد أن دخل زوجها عليها ما مضت فترة يسيرة حتى هدى الله قلب ذلك الزوج على يديها، وأصبح يحبها ويكرمها ويحس أنها أنقذته من النار، حتى إنه يثني عليها ويقول: دلتني على طريق المساجد، فعلت بي وفعلت بي، فأصبح خير زوج لها بالبر. فالذي نريد أن ينظر الأبناء والبنات في حق الوالدين من السمع والطاعة وإجلال للأمور وتقديرها بقدرها. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا في القول والعمل، وأن يعصمنا من الزلل، والله تعالى أعلم.

حكم طلب الزوجة للطلاق بسبب وجود مشاكل بينها وبين أم الزوج

حكم طلب الزوجة للطلاق بسبب وجود مشاكل بينها وبين أم الزوج Q إنني شاب متزوج وقد أخذت والدتي معي في بيتي، ولكن حصلت مشكلة كبيرة بين زوجتي ووالدتي وطلبت زوجتي مني الطلاق أو إخراج والدتي من البيت؛ خاصة وأن زوجتي ابنة خالتي وأمها أخت أمي، وبينهما قطيعة رحم، ماذا أفعل أثابكم الله؟ A هذه المسألة تحتاج إلى نظر ما هو السبب الذي من أجله طلبت بنت الخالة الطلاق. وهل وجود الأم يتسبب في الضرر بها والتضييق عليها؟ يحتاج الأمر إلى نظر، فإذا أمكن أن يأتيني السائل بعد الصلاة حتى أنظر في أمره وإن شاء الله أسأل الله أن يوفق للصواب في ذلك، والله تعالى أعلم.

تقديم بر الوالدين على مجالس العلم ونحو ذلك

تقديم بر الوالدين على مجالس العلم ونحو ذلك Q أجلس مع أناس أحسبهم صالحين ولكن يتعارض جلوسي مع ما يريد والدي أو والدتي ماذا أفعل أثابكم الله؟ A إذا أمر الوالد ابنه أن يجلس في البيت لحاجة أو سأله أن يذهب لحاجة وتعارض ذلك مع مجلس علم أو نحو ذلك من خصال البر؛ فإنه يقدم بر أبيه على الجلوس في مجلس العلم، وهذا أمر واضح بين من خلال النصوص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر جريجاً العابد فإنه لما نادته أمه وهو في الصلاة قال: يا رب! أمي وصلاتي؟ فنادته فقال: يا رب! أمي وصلاتي؟ فنادته في الثالثة فقال: يا رب أمي وصلاتي، فدعت عليه وقالت: اللهم لا تمته حتى يرى وجوه المومسات -يعني: الزانيات والعياذ بالله- ففتن في دينه حتى عصمه الله تبارك وتعالى من فتنته كما ثبت في صحيح مسلم. ولذلك ترجم له الإمام النووي وغيره باب إذا دعاه والداه وهو في صلاة النفل وجبت عليه إجابتهما، يقطع الصلاة النافلة ويجيبهما، هذا في صلاة النفل وهي مقام الإنسان بين يدي الله وهو في طاعة من أجل الطاعات يقطعها من أجل إجابة والديه، فكيف إذا كان إنسان في أمر من فضائل الأمور في مجلس علم أو غيره، فلذلك يقول العلماء: إن الإنسان يقدم حاجة أبيه وأمه على مجلس العلم شريطة ألا يكون ذلك العلم فرضاً ولا يمكنه التوفيق بين الأمرين، والله تعالى أعلم.

حكم السفر إلى بلاد لا يأمن فيها المرء على دينه بأمر من الوالد

حكم السفر إلى بلاد لا يأمن فيها المرء على دينه بأمر من الوالد Q يعلم فضيلتكم ما للسفر إلى الخارج من أضرار، ويقول: أنا طالب في المرحلة الثانوية في القسم العلمي وأبي يريد أن أسافر إلى بلاد مشهورة بالكفر لتعلم اللغة الإنجليزية أو بعض العلوم التي يمكن أن تدرس في البلاد، هل أطيعه أم أخالفه، وماذا أفعل أثابكم الله؟ A الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فتسأل أخي في الله عن حكم السفر إلى بلاد قد لا تأمن الفتنة فيها، وأن أباك يدعوك إلى الخروج إليها بحجة التعلم فيها، والجواب: أنه إذا غلب على ظنك أنك تقع في الحرام وأنك تصيب الآثام، فإنك لا تلتفت إلى أمره ويعتبر حق الله مقدم على حقه ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن الحفاظ على دينك وصيانة دينك أمر مطلوب واجب عليك، وأما بر الولدين فحده وحدوده ألا يكون بمعصية الله جل وعلا، بحيث أمرك بأمر يفضي بالمعصية ويفضي للوقوع بالمحذور فلا يلزمك بره ولا طاعته، ولكن ينبغي عليك أن تلتمس الأسباب والطرق التي يمكنك بها أن تقنعه بالعدول عن رأيه، وأن تنظر من قرابتك من يؤثر عليه، وأن تستعين بالدعاء عل الله أن يصرفه عن أمره، وأسأل الله العظيم أن يكتب لك ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم المزاح مع الوالدين

حكم المزاح مع الوالدين Q ما حكم المزاح مع الوالدين، وما حكم أن يناديهما باسميهما بدون يا أبي أو يا أمي مازحاً لهما؟ A والله بئس المزاح، والله ما أدري هل عند الإنسان حياء أن ينادي أباه باسمه ولو كان مازحاً، هل عنده حياء يستطيع أن يجرأ على أن يخاطب أباه باسمه، والله مثل هذا يعزر، يقول بعض السلف: والله لو سألتني أن أصف أبي ما استطعت أن أصفه، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: ما رفعت بصري في وجهه يوماً قط، وأنت تمزح معه! والثاني قيل له: ما بلغ بك من برك لوالديك قال: والله ما رقيت على سطح تحته أبي أو أمي، وأنت تمازحه وتغلبه، هذا لا ينبغي، أنا أرى أنه خلاف الأولى فينبغي أن تشعره بالإجلال والإكبار، أشعر والديك بالإجلال والإكبار والإعظام في حدود الشرع، إذا شعر الوالد أنك تجله ما يمزح معك. لكن عندما يعلم أنك -أستغفر الله- لعاب يمزح معك، إذا رأيت إنساناً يلعب أو يمزح تمزح معه، لكن إذا رأيت إنساناً وتجله ما تمزح معه أبداً؛ لأنك تجله وتحترمه ولا تفعل معه هذه الأمور، لكن إذا كان يستخف بالوالدين يمزح معهما، لكن أشعر الوالد بالإجلال والاحترام والإكبار لا يمزح معك أبداً، فتكسب من رضاء الله أكثر مما تكسب من إدخال السرور بالمزاح، فينبغي للإنسان أن يطلب الأكمل وأن يطلب الأجمل من أجل بر والديه، يقولون: لو أن الإنسان أشعر والديه بالإجلال قلّ أن يمزح معه والده؛ لأن الإنسان -مثلاً- لو فعل أي خصلة من الخصال التي تنبي على أنه يرى والده شيئاً كثيراً منعت الأب وكفت الأب عن أن ينزل إلى منزلة المزاح، نسأل الله العظيم أن يجبر الكسر. لكن الأولى والأحرى أن تترك ذلك، إلا إذا دعاك إلى المزاح ما حيلة المضطر إلا ركوبها.

كيفية بر الزوجة لأبويها وزوجها

كيفية بر الزوجة لأبويها وزوجها Q أرجو التوضيح بالنسبة للزوجة كيف لها أن تبر والديها وزوجها أثابكم الله؟ A ينبغي على الزوج أن يعين زوجته على بر والديها، وينبغي على الزوجة أن تعين زوجها على بر والديه، وهذا سؤال نحب أن نتكلم عليه بالعموم، فينبغي للزوج أن يتقي الله في زوجته وأن يحملها على البر، والله ما أعنت زوجتك على بر الوالدين إلا بارك الله لك فيها، فإن المرأة إذا كانت بارة بوالديها وجدت أثرها في بيتك، ووجدت أثرها في ولدك، لأن الله سيخرج منها ذرية بارة، فكن أول من يعين الزوجة على بر الوالدين، لا تنتظر الزوجة أن تقول لك يوماً من الأيام: أريد أن أذهب إلى أمي، بل من نفسك؛ لأن أمها لها حق عليها، فتقول للزوجة: هل لك أن تصلي رحمك، هل لك أن تزوري أمك، على فترات تراها أنها فعلاً تحدث البر وأنها تدخل السرور على أم الزوجة، فإذا فعلت ذلك فإن الله يأجرك ويعظم لك الأجر، وهذا من العشرة بالمعروف. ينبغي للزوج أن يكون حي القلب يستشعر هذه المواطن التي لها آثار حميدة حتى على الزوجة، الزوجة إذا شعرت أن الزوج يجل أمها وأنه يحرص على برها فإن ذلك يكون له أثر كبير حتى في أخطاء الزوج، فإن الزوجة تغفر للزوج خطأً متى ما وجدته معيناً على طاعة الله عز وجل. الأمر الثاني: بالنسبة للزوجة مع الزوج، كذلك أيضاً فإن بعض الزوجات تكون حجر عثرة دون بر الزوج لوالديه نسأل الله السلامة والعافية، والله لا خير في الزوجات ولا الأبناء والبنات إذا قطعوا عن الآباء والأمهات، من الذي له الحق والفضل بعد الله عز وجل أعظم وأجل من حق الوالدين، يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت:8] هذه وصية من الله عز وجل أوصاك بوالديك أضعاف أضعاف وصيته لأهلك وزوجك، فأي مكانة للزوجة أمام أم وأمام أب، لا مكانة لها إذا دعتك إلى معصية الله عز وجل أو حقرت من شأن الأم أو أنقصت من مكان الأم، إذا قالت الزوجة أي كلمة تشعر بانتقاص الأم فكفها واردعها وانهها عن ذلك، ولا يكن زواجك وسيلة إلى عقوق والديك فإن حق الأم أعظم من حق الأب، قال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك). ما قال: زوجتك، ما قال أبناؤك، كله ينسى أمام الأم والأب، فمن حق الزوج على زوجته أن تعينه على بر الوالدين، بعض الزوجات تتدخل في كل صغير وكبير من شأن الأم وتحاول أن تمنع زوجها حتى في بعض الأمور الضرورية لو اشتراها لوالديه جلست تحاسبه وجلست تثبطه، وبئس والله المرأة التي لا تخاف الله ولا تتقي الله في بعلها وزجها، ينبغي للمرأة أن تصون لسانها، وألا تتدخل في بر زوجها لوالديه، فإن أول من يجني الثمرات في البيت هي الزوجة، متى ما كان الزوج باراً بأبيه وأمه فإن الزوجة هي التي تجني الثمرات؛ لأن الله يعينه وييسر أمره ويشرح صدره ويكون آثار ذلك كله على بيته، وقل أن تجد امرأة مكرت بوالدي زوجها إلا مكر الله بها، فإن المرأة إذا جعلت الزوج لئيماً ينسى معروف الوالدين سيأتي يوم من الأيام وينسى معروفها. فإن الذي نسى معروف أمه التي كان بطنها له وعاء، وثديها له سقاء، وحجرها له حواء، سيأتي يوم من الأيام ينسى امرأة من عرض الناس؛ لأن اللؤم الذي دفعه -والعياذ بالله- إلى المكر بهذا الفضل العظيم سيدفعه إلى المكر بحق الزوجة والأبناء، فلتتق الله الزوجة في حقوق الأباء والأمهات على الأزواج ولتكن معينة له وتقول له: جزاك الله خيراً، وإذا سمعت منه أنه وصل أمه قالت: جزاك الله خيراً، وكيف حالها، وسألت وتملقت حتى ولو تكلفت، كل ذلك من أجل أن تثبت الزوج على طاعة الله، وتعينه على مرضات الله، فالمقصود: أنه ينبغي للزوج والزوجة أن يراقب كل منهما ربه وأن يتقي الله، وأن يعلم أن الله سائله عن معاملة تنتهي بصاحبه إلى خير أو شر. نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم.

الابتعاد عن الوالدين لطلب الرزق

الابتعاد عن الوالدين لطلب الرزق Q أنا شاب أعمل في جدة ومعي زوجتي وأولادي، ولكن والدي يعيشان في قرية بمفرديهما، فهل أنا عاق لهما بأني هنا وهم هناك، علماً بأني قد حاولت معهم أن يسكنا معي ولكن رفضا، وأنا أزورهما كل شهر مرة، أرشدني وفقك الله للخير؟ A هذه المسألة فيها تفصيل: إذا كان الوالدان في الموضع الذي هما فيه؛ فيه عمل ويتيسر لك فيه العمل ووجود الوظيفة فإنه ينبغي عليك القرب من الوالدين، وأن تكون بجوارهم وفي البلد الذي فيه الوالدان، قال: (يا رسول الله! أقبلت أبايعك على الجهاد، قال: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) فلا يجوز للإنسان أن يتسبب في البعد عن والديه دون حاجة، وقد انعقد قول جماهير العلماء بل حكى بعض العلماء الإجماع على أنه لا يجوز السفر في النوافل إلا بعد استئذان الوالدين، لو أردت أن تخرج إلى عمرة نافلة والوالدان في البلد لا يجوز أن تخرج إلا بعد استئذانهما. من عظيم حقهما قال: (ارجع إلى والديك فإن أذنا لك فجاهد، وإن لم يأذنا لك فالزمهما) أي: كن معهما، فهذا يدل على حق الوالدين في القرب، والله يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] أمر بالمصاحبة وأن تكون المصاحبة على وجه المعروف لا على وجه الإساءة، فالبعد عن الوالدين فيه عدة أضرار منها أن الوالدين لو احتاجا -خاصة إذا لم يكن لهما غيره- فمن يسألا ومن يطلبا بعد الله عز وجل، وقد يحتاجا إلى سؤال الغريب وقد يحتاجا إلى الخروج، وقد يصيبهما السقم والمرض، فاتق الله في الوالدين خاصة بعد كبرهما وضعفهما وحاجتهما إليك. الأمر الثاني: إذا كان المكان الذي فيه الوالدان لا يتيسر فيه العمل فحينئذٍ تستأذنهما في الخروج، وتخبرهما بأنك خارج لطلب المعيشة، وترضيهما وتأخذ بإذنهما، فإن ذلك مما ييسر الله عز وجل به أمرك، قال بعض العلماء: إذا وجد عملاً بديل في نفس الموضع الذي فيه الوالدان لم يحل له الخروج ووجب عليه البقاء؛ لأنه يبحث عن طلب الرزق وقد تيسر له الرزق في الموضع الذي فيه الوالدان، فحرم عليه أن يعقهما بالخروج دون حاجة، هذا بالنسبة لقضية خروجك عن الوالدين. وأما قضية أنك حاولت فهذا شيء تؤجر عليه من الله عز وجل، وكونهما امتنعا يوجب عليك أن تنظر في المسألة على التفصيل الذي ذكرناه، فتكون قريباً من الوالدين وتقوم بحقهما على الوجه المعروف، والله تعالى أعلم.

المدة التي يجب فيها زيارة الوالدين

المدة التي يجب فيها زيارة الوالدين Q ما هي حق الزيارة للوالدين إذا كانا يسكنان خارج المنزل؟ A نزل نفسك منزلة الوالدين وأنت أدرى بالجواب. نزل نفسك منزلة الوالدين متى تحب أن ترى ابنك وتنزل المرأة نفسها منزلة أمها، وبناءً على ذلك فإنه سيظهر للإنسان الجواب.

حكم اللقطة

حكم اللقطة Q وجد أبي بعض الأشياء في الطريق، فأخذها ثم أخبرته أنه لا يصح له أخذها، بل تسليمها إلى المكان المخصص لهذا الأمر فرفض بحجة أنه وجدها فهي له، ولكن عندما خرج من المنزل أخذتها شفقة وخوفاً عليه من العقاب من الله سبحانه وتعالى وسلمتها لإحدى الجهات المختصة، فغضب عليَّ غضباً شديداً، ما هو الدور الذي كان ينبغي عليَّ فعله أثابكم الله؟ A هذه المسألة فيها تفصيل: إذا كان الشيء الذي أخذه الوالد حقيراً أو لا تتبعه همة صاحبه فقد ملكه بأخذه، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تمرة وجدها: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الحقير الذي يجده الإنسان أنه لا يشترط تعريفه، ولا يجب على الإنسان إعطاؤه الغير بل يملكه بقبضه. وأما إذا كان شيئاً عظيماً وشيئاً ذا بال فإنه في هذه الحالة لا يملكه الأب وينبغي عليه التعريف، وكان ينبغي عليك بدل أن تأخذ المال وتقع في غضب الوالد أن تخبر الجهات بأنه من فقد أمراً بصفة كذا وكذا فليخبروك، ثم بعد ذلك تقوم بإخبار الوالد بذلك وأخذ حق الإنسان له. وأما أخذك على نية الخوف على الوالد فالله يأجرك على حسن نيتك، وهو أمر صحيح وفعل صحيح، لكنه خلاف الأولى، والله تعالى أعلم.

مسائل الطلاق لا يفتى فيها أمام العامة

مسائل الطلاق لا يفتى فيها أمام العامة Q شخص قال لامرأته وهو غاضب: إذا ذهبت إلى بيت أختك فأنت طالق وهو غاضب السؤال: أنه يريد الآن أن تذهب زوجته إلى أختها وخاصة أن أختها مريضة فماذا يفعل؟ A هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، هل إذا علق الإنسان الطلاق على أمر ثم أراد أن يرفعه؛ فيها خلاف معروف بين العلماء، ولذلك مسائل الطلاق لا يفتى فيها أمام العامة والأولى أن ترد إلى المحاكم.

الأصلح للابن المتزوج إذا أراد أن يسكن بمفرده

الأصلح للابن المتزوج إذا أراد أن يسكن بمفرده Q إذا أراد الشخص أن يتزوج وأن يسكن بمفرده وترك والديه هل يجوز له ذلك أما ماذا يفعل؟ A إن أمكن أن يكون الإنسان قريباً من والديه وغلب على ظنه السلامة من الفتن فإنه لا شك أنه أولى وأحرى، فكل ساعة يرى الإنسان فيها والديه فيها بر لهما لو لم يكن في الدخول عليهما إلا السلام لكفى، فإن الوالدين إذا كنت قريباً منهما سألاك واحتاجا إليك، وكنت قريباً من حوائجهما، ولكن إذا ابتعدت عنهما فاتك من البر خير كثير، فالذي يوصى به كل إنسان إذا تزوج أن يكون قريباً من والديه ما أمكن، فإن لم يتيسر له ذلك أو غلب على ظنه أن القرب قد يوقعه في المشاكل أو قد يتسبب في حصول بعض الإحن والفتن، فإنه قد يكون من السلامة أن يبتعد عن والديه، فيبتعد ابتعاداً لا ينقطع عنهما به، فيجعل وقتاً لزيارتهما وتفقد أحوالهما، والسلام عليهما والجلوس معهما، فلهما حق كبير على الإنسان في ذلك، والله تعالى أعلم.

حكم رفض الابن إخبار الأم عن حالته المادية إذا سألته

حكم رفض الابن إخبار الأم عن حالته المادية إذا سألته Q والدتي تطلب مني أن أخبرها بأحوالي المادية فأرفض أن أخبرها حيث أنني إذا أخبرتها فسيضايقها ما أنا فيه من حال، فهل يجوز لي أن أخبرها أم أرفض، وكيف يكون برها في ذلك؟ A أخبرها ويجب عليك إخبارها؛ لأنها سألتك، ولا يجوز لك ردها، أما ما اعتذرت به من كونها يؤلمها حالك فإن الله تبارك وتعالى سيجعل ذلك الألم سبباً في دعائها لك، وما الذي يدريك أنها إذا تألمت رفعت الكف وأنت غائب عنها فسألت الله أن يغنيك من فقرك وأن يسدك من ضعفك، ما يدريك أن الله يسخرها لك حتى تدعو لك بظهر الغيب، فاحتسب عند الله فإذا سألتك فأخبرها، لكن إذا أردت أن توري وأن تأخذ بالتورية فهذا أمر يرخص فيه بعض العلماء؛ ولكن الذي تطمئن إليه النفس أن تخبرها والله تعالى سيجعل في إخبارك لها خيراً، والله تعالى أعلم.

من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس

من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس Q والدي تارك للصلاة ووالدتي عكس ذلك ولله الحمد، وعندما استقمت أنا وهداني الله علمت أن هذا خطأ عظيم، ولا بد من الفراق، فنصحت والدي عدة مرات بالصلاة وبينت له عظم هذا الأمر، ولكن رفض وأبى حتى وصل الأمر إلى طلبت والدتي منه الطلاق ولكنه رفض، فأوصلت الأمر إلى المحكمة وتم الفراق ولله الحمد، ولكن من ذلك اليوم ووالدي يقول: قد تبرأت منك؛ لأنك هدمت المنزل، وحاول بشتى الوسائل إيذائي، ولكن ما زال الأمر على ذلك وهو دائم الدعاء عليَّ، وحاولت عدة مرات أن أدخل الأقارب في هذا ليكون صلحاً ولكن لم يزل الأمر كما هو، أرشدني أثابك الله لما فيه الصلاح والصواب؟ A أولاً: أما أنت فقد عاملت الله ومن عامل الله فإنه لا يخيب، فمفاتيح الدعاء وأبواب السماء بيد الله جل جلاله، ولو دعا عليك آناء الليل وأطراف النهار وكان الله معك فإنه لا يضرك دعاؤه بإذن الله، ولو أصابتك منه دعوة فإن الله يعظم بها أجرك ويرفع بها قدرك ويحسن العاقبة لك، فأبشر بخير، فوالله ما عامل عبد ربه فخاب يوماً من الأيام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس) فأنت أرضيت الله مع سخط أقرب الناس إليك، ولم تبال مع وجود القرابة ووجود الصلة أن تصدق مع الله حتى أقمت حكم الله عز وجل، ولا شك أن الرجل الذي لا يصلي بالكلية لا يحل لمرأة أن تبقى تحته، فيجب عليها أن تطلب الطلاق وأن تسعى في فكاك نفسها، فإما أن يستقيم على شرع الله وإما أن تتركه والله يعوضها خيراً منه. الأمر الثاني: ما فعلته من طلب الصلح والأخذ بالأسباب من كونك سألت القرابة أن يدخلوا بينك وبينه فقد أخذت بالأسباب، فاستدم ذلك فلعل يوماً من الأيام أن ييسر الله لك الأمر، وأن ييسر لك هذا الذي تطلبه، فيشرح صدر أبيك فيصبح محسناً لا مسيئاً إليك، فلا تيأس من روح الله، فإن الله تعالى معك ويعينك، فأحسن الظن بالله جل وعلا، وإني لأسأل الله العظيم أن يعجل بتفريج كربتك، وأن يرزقك رضاهما، وألا يتوفاهما إلا وهما راضيان عنك، بيض الله وجهك وجزاك الله خيراً، والله تعالى أعلم.

التفصيل في شراء حاجيات المنزل على الابن الذي ابتلي أبوه بشرب المخدرات

التفصيل في شراء حاجيات المنزل على الابن الذي ابتلي أبوه بشرب المخدرات Q والدي مبتلى بشرب المخدرات؛ أريد أن أبر والدي بشراء بعض مقاضي المنزل التي يحتاجونها، ولكن إذا فعلت ذلك سوف يرتاح هو من مصاريف المنزل ثم يشتري بماله ما شاء من المخدرات، أرجوك فضيلة الشيخ! أن تدلني إلى الطريق السليم الذي أبر فيه والدي، كما أرجو منك فضيلة الشيخ! أن تدعو لوالدي؟ A أسأل الله العظيم في هذا المجلس أن يشرح قلبه وأن يهديه وأن يصلحه وأن يزيل عنه ما ابتلاه به، وأن يقر عينك به عبداً صالحاً. أما ما سألت عنه من كونك تقوم بمصاريف البيت هذا فيه تفصيل: إذا أمرك الوالد بذلك فما عليك إلا بره، وتقوم بتذكيره وتخويفه بالله جل وعلا لعل الله أن يشرح صدره على يديك، فينجيه من هذا البلاء، ولذلك من أعظم حقوق الوالدين على الابن أن يدلهما على الخير كما فعل أنبياء الله، كما أخبر الله عن نبيه إبراهيم، فتحرص على دلالة أبيك على الخير سواء كان ذلك في عقيدته أو كان في معاملته، فاحرص -أخي في الله- على تذكيره بالله عز وجل. أما إذا كان أبوك لم يأمرك بذلك ورأيت أن من المصلحة أن تجعل مصاريف البيت عليه حتى يقل المال الذي بيديه فهذا أولى، بل قد يتعين إذا كنت إن كفيته المصاريف أعنته على الحرام، وبناءً على ذلك فالذي يظهر أنه يفصل فيه فإن أمرك بالمصاريف وجب عليك الإنفاق في حدود طاقتك ولا تلزم بشيء خارج عن قدرتك، وأما إذا لم يأمرك ورأيت المصلحة كما ذكرنا في أن تكون أعباء البيت عليه حتى يقل شراؤه لذلك الحرام فافعل ذلك ويلزمك، والله تعالى أعلم.

كيفية نصح الوالدين وإرشادهم بالتي هي أحسن

كيفية نصح الوالدين وإرشادهم بالتي هي أحسن Q ورد في السؤال السابق كيف يرشد والده إلى ترك هذا المنكر ووردت أسئلة كثيرة في الطريقة السديدة في نصح الوالدين وإرشادهم بالتي هي أحسن؟ A أولاً: لا تذكر والديك إلا وأنت مخلص لوجه الله عز وجل، فلا تذكره حمية وتقول هو يشرب المخدرات ويفضحنا ونريد أن نكتفي عار الفضيحة، تذكره وليس في قلبك إلا الله، فإن الكلمة إذا خرجت من القلب استقرت في القلب، والكلمات الصادقات أبى الله إلا أن يجعلها في القلوب، فاصدق مع الله عز وجل بالإخلاص. الأمر الثاني: أن تنظر إلى أفضل الأوقات التي يكون الوالد فيها مرتاح البال مستجم النفس خالياً. الأمر الثالث: تقدم عليه في أفضل الأوقات وأنت تحس كأنك أمام غريق يريد الموت، وتحس أنك أمام إنسان عظيم الحق والقدر عليك، فتقدم عليه ولسانك يلهج بأن يشرح الله صدره وأن ييسر لك الأمر في نصحه، فتسأل الله العظيم أن يفتح لك قلبه فإن مفاتيح القلوب بيد الله جل جلاله، فاسأل الله أن يهديه، فإذا جلست معه فخذ بالكلام الطيب والموعظة الحسنة والقول الكريم وقل: يا أبت! إن الذي تفعله لا يرضي الله، إن الذي تفعله يسخط الله، يا أبت! إني أخاف عليك عذاب الله، يا أبت! إني أخاف أن يمكر الله بك، يا أبت! يا أبت وقل ذلك وقلبك يحترق عل الله عز وجل أن يشرح صدره بموعظتك. فإن نبي الله إبراهيم ينادي أباه وهو على الشرك يقول له: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] لم تعبد؟ ينكر عليه ذلك الأمر، حتى إذا رد عليه أبوه رداً غليظاً قال: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] قال بعض المفسرين: (ملياً) إلى الأبد لا تكلمني، هل قال له فعل الله بك وفعل، أنت ما فيك خير أنت ما تقبل النصيحة أبداً، قال: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] فقابل كل ما يكون من الوالد بكل حنان وبكل ذلة كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] اخفض له جناح الذل، فوالله إذا شعر الوالد أنك مشفق عليه فإن ذلك يؤثر فيه، وذلك له أثر عظيم على قلبه، فاصدق مع الله عل الله عز وجل أن يشرح صدره. الوصية الأخيرة: إذا لم يفتح الله قلب الوالد لك فاطلب من يؤثر على الوالد من القرابة ومن غير القرابة كإمام الحي ونحوهم من أهل الفضل وأهل العلم والصلاح، وبث لهم ما تراه على الوالد من الأخطاء عل الله أن يوفقهم لنصيحة تؤثر فيه، والله تعالى أعلم.

حكم الإلحاح على الوالدين

حكم الإلحاح على الوالدين Q نحن مجموعة من الشباب نجتمع دائماً على طاعة الله وفي بيوت الله، وفي بعض الإجازات نذهب إلى المدينة المنورة أو مكة المكرمة أو أي مدينة أخرى لطلب العلم، وأيضاً ترويحاً عن النفس، ولكن نفاجأ ببعض الشباب الذين لا يذهبون معنا والسبب في ذلك الأهل، فعندما نقول لهم: أبلغوا أهلكم يقولون: أبلغناهم، وإذا قلنا لهم: حاولوا مرة أخرى يقولون: تكفي مرة واحدة، فإذا قلنا لهم الثانية فإنهم يقولون: إنه يعتبر عصياناً لهم، فهل المحاولة مع الأهل لأجل الموافقة على الذهاب فرضاً لمحاضرة أو مجاورة، أو المحاولة معهم أكثر من مرة بطرق مختلفة يعتبر عصياناً لهم؟ أرشدونا، وجزاكم الله خيراً. A الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فتسأل -أخي في الله- عن هؤلاء الشباب الذين تطلب منهم أن يعيدوا مع الوالدين الكرة لكي يذهبوا معكم في هذا السفر، فهل ذلك من العقوق إذا حاولوا مع الوالدين أو ليس من العقوق؟ هذا الأمر كرهه بعض العلماء وقالوا: إن إلحاح الابن على الوالدين ليس من كمال البر؛ لأن الأم والأب على شفقة ورحمة، فإذا رأيا من الولد الإلحاح والإصرار أخذتهما الشفقة وأخذهما الحنان فوافقا على كره، ولذلك قالوا: لا ينبغي للابن أن يلح على الوالدين، ولذلك كان من كمال البر إذا عرض الأمر عليهما ألا يلح عليهما في ذلك الأمر، ولكن إذا تركت ذلك فإن الله يعوضك خيراً منه، وفي هذه الحالة فإن طلب الكمال أولى، وعدم حثهم على الإلحاح أولى إن شاء الله، ولعل الله أن يعوضهم خيراً من الخروج معكم، فإن الله تعالى قد يبتلي الإنسان ببر والديه فيطلب خيراً ويعلم الله أنه لو خرج قد يفتن فيعصمه الله من الفتنة بامتناع الوالدين، وهذا كثير، فلذلك أوصي بتركهم إن سألوا الوالدين وأراد الوالدان بمحض اختيارهما دون إلحاح عليهما فلا حرج، والله تعالى أعلم.

التوحيد في الحج

التوحيد في الحج خلق الله تعالى الثقلين وأمرهم بعبادته، وجعل للعبادة شرطاً لا تقبل بدونه، وهو الإخلاص والتوحيد، فالإسلام بكل شعائره وفرائضه مرتبط غاية الارتباط بكلمة التوحيد، ومن تلك الشعائر شعيرة الحج، والتي هي من أعظم الشعائر التي تحيي في قلب العبد توحيد المعبود سبحانه وتعالى؛ لكثرة الأعمال التي توقف الإنسان مع ربه موحداً متفكراً، تائباً من أي تقصير أو زلل.

كل شعائر الإسلام تدور حول كلمة التوحيد

كل شعائر الإسلام تدور حول كلمة التوحيد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فأحييكم بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وفي بداية هذا اللقاء، أحمد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى على عظيم نعمته، وجليل فضله وجميل منته، أن جمعني بكم في هذا البيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله فـ (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده). وكم من أقوام جلسوا لذكر الله فقاموا من مجالسهم وقد بدلت سيئاتهم حسنات (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] ثم إنني أشكر بعد شكر الله عَزَّ وَجَلَ من كان له الفضل بعد الله في تهيئة هذا اللقاء من المشايخ الفضلاء، وأخص بالذكر الشئون الدينية في الحرس الوطني، أسأل الله العظيم أن يعظم أجور الجميع، وأن يتقبل منا ومنكم صالح القول والعمل. أيها الأحبة في الله! أساس الدين والملة وقاعدة الإسلام العظيمة التي عليها صلاح الدين والدنيا والآخرة، والتي من أجلها أنزل الله كتبه، ومن أجلها أرسل رسله مبشرين ومنذرين، بل ومن أجلها كانت الدنيا والآخرة، ومن أجلها نصب الميزان، ونشر الديوان، وكانت الجنان والنيران. إنها القاعدة العظيمة التي عليها مدار الصلاح والفلاح والربح والخسارة، فمن قام بها وأداها على وجهها أسعده الله في الدنيا والآخرة، ومن ضيعها وأضاع حقوقها {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] إنه التوحيد والإيمان واليقين، والإحسان الذي هو أساس كل خير، ومنبع كل فضيلة وبر، من أصلح لله إيمانه وكمَّل توحيده وإخلاصه فتح الله له أبواب رحمته وزاده من عظيم بره وفضله، وإذا دخل الإيمان إلى القلوب اطمأنت بالله علام الغيوب. إنه التوحيد الذي أخبر الله عَزَّ وَجَلَ أن ما من أمة إلا وبعث إليها رسولاً يأمرها {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. إنه التوحيد شهادة (أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله) التي هي مدار الصلاح والفلاح في الدين والدنيا والآخرة. جعل الله شعائر الإسلام كلها تدور حول هذه الكلمة، تغرس في القلوب الإيمان بالله علام الغيوب، وتغرس في النفوس اليقين بلا إِلَهَ إِلَّا الله، فكل ما في هذا الكون يدل على صدق هذه الكلمة، وكل ما في هذا الكون يشهد بمعناها (أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله) ما من ليل ولا نهار ولا عشي ولا إبكار إلا وهو يؤذنك ويعلمك أَنّه لا إِلَهَ إِلَّا الله، إقبال الليل يذكر حينما كان الإنسان قبل ساعات وهو في ضياء النهار، فإذا به في ظلمة بقدرة الله جل جلاله، ثم يمضي الليل ويرخي سدوله، ويبسط العبد كفه فلا يراها من الظلمة، وما هي إلا سويعات قدرها الله جل جلاله حسبت بثوانيها ولحظاتها فإذا انتهت وانقضت آذن الله بالنهار: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] هذه الدلائل الزمانية والدلائل المكانية، أشجار وأحجار، وما على هذه البسيطة من جبال ووهاد ونجاد وسهول وهضاب، كلها تذكر بلا إِلَهَ إِلَّا الله، وعلى ذلك دارت شرائع الإسلام كلها، فالصلاة عمود الإسلام التي تحقق معنى لا إِلَهَ إِلَّا الله، ففي الدعوة إلى الصلاة شهادة أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا دخل العبد إلى مسجده وأراد أن يؤدي فريضة ربه، استفتحها بقوله: الله أكبر، الله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، فيستفتح بالتوحيد، ويختم صلاته بالتوحيد، السَّلامُ عَلَيَّكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ، وهي دعاء بالسلامة والرحمة على العباد. تفتتح بالتوحيد وتختتم بالتوحيد، وتحتوي جميع أركانها على التوحيد، من قراءة القرآن والتسبيح في الركوع والسجود وغير ذلك من الأذكار القولية والأفعال كلها تدور حول لا إِلَهَ إِلَّا الله. وهذه الزكاة لا يدفعها العبد إلا وهو يعلم ويوقن بهذه الكلمة؛ لأنه يعلم أن المال مال الله، وأن الله أغناه من الفقر، وأعزه من الذل، وكساه من العري، وأطعمه من الجوع، وأغدق عليه هذا المال، فإذا قدم الصدقة خالصة من قلبه فقد حقق معنى لا إِلَهَ إِلَّا الله، أطاع الله جل جلاله وامتثل أمره وأدى زكاته طيبة بها نفسه، وأداها وطلب أصحابها فوضعها في أيديهم أمانة يلتمس بها مرضاة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تحقيقاً لهذه الكلمة وإيماناً بما فيها. كذلك الصيام فما جاعت الأحشاء ولا ظمئت الأمعاء إلا بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، آثر العبد ما عند الله على شهوة نفسه ولذة كبده وطعمة بطنه ولذة فرجه لمرضاة الله ربه، جميع شعائر الإسلام تدور حول هذه الكلمة العظيمة.

وقفات مع التوحيد في الحج

وقفات مع التوحيد في الحج إن شعيرة الحج التي جعلها الله سبحانه وتعالى قاعدة من قواعد التوحيد، تدل على كلمة لا إِلَهَ إِلَّا الله من بدايتها إلى نهايتها، ومن مشعر إلى مشعر، ومن منسك إلى منسك، والعبد يدور حول كلمة التوحيد والإخلاص لا إِلَهَ إِلَّا الله.

التوحيد في سعة الرحمة والحلم

التوحيد في سعة الرحمة والحلم ومن مشاهد التوحيد التي تدل على عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفضله وكرمه؛ سعة الرحمة وسعة الحلم، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صفاته أنه حليم ورحيم، فأنت إذا قرأت الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) علمت علماً جازماً أن الله لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة المطيعين، ومن حلمه ورحمته أنه إذا وقف أقوام أبناء ستين وسبعين عاماً ببابه لحظة من اللحظات، أراقوا فيه الدموع، وأظهروا فيها الحسرات واللوعات على ما سلف وكان من الذنوب والعصيان، فاستقالوا واعتذروا لربهم وتابوا واستغفروا فغفر الله ذنوبهم؛ بل وبدل الذنوب حسنات. أي كرم وأي فضل هذا! والله لو تأمل الإنسان عظمة هذا الرب لأحس بقيمة هذه الحياة، فلا لذة لهذه الحياة إلا بمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن عرف الله جل جلاله أقبل على الله صدق الإقبال، فأتم خشيته وهيبته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحبه جل جلاله، هذا الرب الكريم، أمم تعصيه وتذنب وتسرف، ومع ذلك يبدل السيئات حسنات، فلا يغفر فقط بل يبدل الذنوب والسيئات حسنات سبحان الله ما أكرمه! لنا مليك محسن إلينا من نحن لولا فضله علينا تَبَارَكَ الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف فإذا علم العبد عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في حلمه ورحمته ومنه وفضله، أحس أنه لا يزال بخير ما كان مع الله جَلَّ جَلالُهُ، كذلك يحس أنه مادامت هذه الأمم كلها تنادي الله جَلَّ جَلالُهُ في لحظة واحدة والله يسمعها ويراها، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيرحمه كما رحمهم، وسيلطف به كما لطف بهم، ولكن ما عمل الإنسان إلا أن يوقن بالله جَلَّ جَلالُهُ وأن يسلم لله قلبه، فلا تضيق عليك أي ضائقة ولا تنزل بك أي ملمة إلا أحسنت الظن بالله عَزَّ وَجَلَ. من الأمور التي يستفيدها الحاج في حجه: حسن الظن بالله عَزَّ وَجَلَ؛ لأنك إذا رأيت هذه الأمم كلها وتعلم علم اليقين أن فيهم المغفور والمرحوم ولربما -ونحن لا نستكثر على الله ولا نستبعد على الله وليس على الله بعزيز- أن يقول لأهل الموقف كلهم: انصرفوا قد غفرت لكم. بغي من بغايا بني إسرائيل زانية -أعاذنا الله وإياكم- مرت على كلب يلهث الثرى فرحمته فملأت خفها وسقته، فشكر الله لها فغفر لها ذنوبها، فقط بشربة ماء، ورجل مر على غصن شوك، وهو مطروح في طريق المسلمين، أخذته الشفقة فأحب الإحسان، وقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين، فزحزحه عن الطريق فزحزحه الله عن نار جهنم، هذا الرب الكريم الحليم الرحيم، ليس هناك للعبد مثل حسن الظن بالله جَلَّ جَلالُهُ. ولذلك في الحديث الصحيح يقول الله تعالى: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له، ومن ظن بي شراً كان له). من ظن بالله شراً -والعياذ بالله- كالذين يعكفون على الأشجار والأحجار والقبور ويضغون بأصحابها، ويضيفون عليهم الألقاب والكلمات التي لا تليق إلا بالله جَلَّ جَلالُهُ، تعالى الله عما يقول المشركون علواً عظيماً. هؤلاء في خيبتهم وخسارتهم لأنهم أساءوا الظن بالله عَزَّ وَجَلَ، ما عرفوا الله عَزَّ وَجَلَ، فلو عرفوه ما التفتوا إلى شيء سواه -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك إذا أحسن العبد ظنه بالله عز وجل تلقاه الله برحمته وفاز بعفوه ومغفرته، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشملنا بذلك العفو والمغفرة.

التوحيد في يوم النحر

التوحيد في يوم النحر من مشاهد التوحيد: إذا كان يوم النحر الذي وصفه الله عَزَّ وَجَلَ بيوم الحج الأكبر، هذا اليوم الذي يستفتح الناس فيه رمي جمرة العقبة، فيتذكرون موقفاً من مواقف التوحيد لإمام من أئمة الحنيفية صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ إبراهيم الخليل، هذا النبي الممتحن الذي امتحن في لا إله إلا الله فصدق مع الله فصدق الله معه، شعائر الحج تذكر به صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ في إيمانه وتسليمه، ومن ذلك يوم الحج الأكبر، هذا اليوم المبارك يستفتحه العبد إذا أشرقت شمسه برمي جمرة العقبة إذا تذكر خليل الله وهو يرى في الرؤيا أنه يقتل ولده ويذبحه، أي امتحان مثل هذا الامتحان، امتحنه الله في بلده ووطنه فخرج من بلده مهاجراً إلى الله، فأبدله الله الأرض المقدسة، ثم امتحنه الله عز وجل في عشيرته وقومه فتركهم لله، فجعل الله في ذريته النبوة والكتاب. ثم امتحنه الله عز وجل في ولده وفلذة كبده أن يذبحه {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] وانظروا كيف الذرية الطيبة وأهل التوحيد كيف يجعل الله عز وجل ذريتهم طيبة، قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34] {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ} [الصافات:102] انظروا كيف التوحيد والتسليم إذا جاءك أي أمر من أوامر الله أن تفعل شيئاً أو تترك شيئاً هذا وهو في صغره يسأل أن يضحي بروحه ونفسه {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] هذا التوحيد والإيمان ثم انظر إلى التوحيد {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات:102] ما قال: ستجدني واتكل على حوله وقوته، لا، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ، الله أكبر! تصور إذا قدمت روحك للموت استجابة لأمر الله كانت رخيصة لأمر الله جَلَّ جَلالُهُ، تسليم وتوحيد وانظر كيف يأتي الفرج مع كمال التوحيد. يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] حتى جاء في الأخبار والسير أن إسماعيل يقول لوالده: يا أبتِ! لا تذبحني وأنا مقبل إليك، ولكن اكفني على وجهي حتى لا تنظر إلي فتدركك الشفقة، حتى الابن يعين على الإيمان والتسليم، لذلك تجد الأب إذا كان موحداً صالحاً أنشأ الله له الذرية الصالحة، والعكس أيضاً، ولذلك صلة بن أشيم كان له أربعة من الولد وتقدم للجهاد في سبيل الله فماذا قال هذا الأب الصالح أمام الغزو وأمام العدو- انظروا الشجاعة والإيمان التي ينبغي أن يكون عليها الموحد الموقن الذي لا يمكن أن يفلح في الدنيا إلا بهذا الإيمان الذي يورث الشجاعة- قال لأحد أبنائه وهو الكبير: تقدم يا بني! فإني أريد أن أحتسبك عند الله، أي: أريدك أن تموت أنت قبلي فأحتسبك عند الله عز وجل، ما جاء هو يتقدم فراراً من أن يرى ولده يذبح أمامه، هكذا كانت الأمة الموحدة الموقنة المخلصة، فإبراهيم عَلِيهِ الصَلاةُ وَالسَلام يقول له ابنه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] يقول الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أسلما: أي: استسلما، ومثله أن يأتيك أمر الله في بيتك وأهلك وزوجك، فحينما تستسلم وتنفذ أمر الله يأتيك الفرج، أما أن تذهب فتبحث عن الرخص فتتأول وتجتهد فبهذا يسلم العبد إلى حوله وقوته نسأل الله السَّلامة والعافية. لكن إذا سلَّم وتوكل واعتقد في الله، فالله لا يخيبه، يقول الله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:103 - 105] فجاءه الفرج من الله {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] ففداه الله جَلَّ جَلالُهُ من فوق سبع سماوات بالإسلام والاستسلام والتوحيد، فإذا رمى المسلم جمرة العقبة تذكر هذا الابتلاء، وتذكر أنه سيمتحن في أهله وماله ونفسه وفلذة كبده، فينبغي أن يقدم ما عند الله على ما عند نفسه، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا كمال الإيمان والتسليم. كذلك أيضاً بعد رميه لجمرة العقبة يذبح إذا كان متمتعاً أو قارناً، فإذا ذبح هديه ذبحه لله جَلَّ جَلالُهُ وهذا مشهد من مشاهد التوحيد إراقة الدماء لفاطر الأرض والسماء، حتى إن الإنسان إذا أراق دم البهيمة قال: باِسْمِ اللهِ، الله أكبر، فسمى الله وكبر على بهيمته تأسياً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقرباً إلى الله عَزَّ وَجَلَ في هديه، وقع الدم عند الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، وتأتي يوم القيامة بجلودها وشعرها وأظلافها وجميع ما فيها في ميزان العبد، لكن إذا كانت بالتوحيد كانت لله، ولم تكن لأي شيء سواه، لا تذبح لوثن ولا لشجر ولا لقبر ولا لولي، ولا تذبح خوفاً من الجن أو عند النزلة من أجل إرضاء الجن، لكن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إخلاصاً وتوحيداً {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] أي: ذبحي، كما قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] فهذا مشهد من مشاهد التوحيد. كذلك أيضاً يقف الإنسان يتحلل من هذا النسك فيحلق شعر رأسه قربة لله عَزَّ وَجَلَ وطاعة لله جَلَّ جَلالُهُ، كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتدور مناسك الحج وشعائر الحج كلها مع الإيمان والتسليم مع كمال اليقين لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا ذلك التسليم والإيمان. وجماع الخير كله أن يكون عند العبد قلب حي، فإن الذكر والانتفاع بهذه العبادات يفتقر إلى نفس مؤمنة إلى قلب مقبل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى يتفكر ويتدبر ويتبصر، ويجد هذه المعاني الكريمة والآثار العظيمة التي تزيد من إيمانه ويقينه بالله جَلَّ جَلالُهُ. اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وآخر دعوانا أن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

التوحيد عند مفارقة الأهل والأولاد

التوحيد عند مفارقة الأهل والأولاد أولها: ما يخرج من بيته لا يخرج ولم يخرج إلا وهو يعلم أن الله يسمعه ويراه، ولا يخرج من بيته مفارقاً لأهله وولده وحبه وزوجه إلا والله أحب إلى قلبه من الكل. تتعلق به الصبية ترده عن مسيره يتعلق به الأبناء والبنات وتستمسك به الزوجات، فيعلنها صيحة طاعة لله فاطر الأرض والسماوات، فيفارق فلذات الكبد، ويفارق أرضاً وموطناً ربما كان في مشرق الأرض أو مغربها، كل ذلك عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. الله أكبر من آثر ما عند الله على ما عند نفسه وعلى ما عند الناس. الله أكبر يوم خرج الحاج المؤمن الموحد مؤثراً ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها، حتى إن من الناس من يخرج وهو في قمة الغنى والثراء، قد يكون في حياته كلها ما خرج من بلده ومن مسكنه، ولكن الله أخرجه والإيمان والتوحيد أخرجه، عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لو أنفقت له الملايين ما خرج، ولكن خرج لأنه يؤمن بالله واليوم الآخر.

التوحيد في الاغتسال والإمساك عن محظورات الإحرام

التوحيد في الاغتسال والإمساك عن محظورات الإحرام كذلك أيضاً يخرج العبد في مسالكه وشعبه والشعاب التي يطرقها في مسيره وهو مؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي أول لحظة من لحظات الحج يريد أن يدخل في نسك الحج فيغتسل ويتجرد، وإذا به يتذكر الآخرة في ذلك الاغتسال وذلك التجرد. قال بعض العلماء: المؤمن في عبادة الحج يتذكر الآخرة في أكثر مشاعر الحج منذ أن يأتي ويخلع ثيابه عن جسده حيث يتذكر إذا خلعت منه بلا حول ولا قوة، ويتذكر إذا نزعت منه فغسل وكفن، فهو اليوم يغسل نفسه ويلبس رداءه وإزاره، ولكن ستأتي عليه ساعة لا محيص عنها، ولا مفر منها، فيتذكر أنه مقبل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ومن قواعد الإيمان: الإيمان بالآخرة وما فيها من البعث بعد الموت والحساب والجزاء، فالحج يذكر بذلك كله، فإذا خرج بحجه وعمرته أمسك عن محظورات الإحرام، فيمسك عن الطيب والنساء والشهوات والملذات طاعة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، سبحان من أحل له تلك الشهوات وتلك الملذات قبل أن يدخل في حجه وعمرته، وأصبحت عليه حرام في نسكه، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يحكم ولا معقب لحكمه عبادة توقيفية لا يستطيع الإنسان أن يقدم أو يؤخر بل يسلم تسليماً، ويؤمن ويوحد توحيداً كاملاً في العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

التوحيد أثناء الطواف حول البيت

التوحيد أثناء الطواف حول البيت ثم إذا أراد أن يطوف بالبيت تذكر عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعزه وجبروته في هذا البيت الذي شرفه وكرمه وفضله، فهو إذا وقف أمام البيت تذكر من بناه إمام الحنفاء وقدوتهم صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلِيهِ إبراهيم الخليل الذي بنى هذه القواعد من أجل التوحيد، وأرسى هذا البناء من أجل كلمة الإخلاص، ومن أجل أن يعبد الله وحده لا إله غيره ولا رب سواه. ولذلك سأل الله عَزَّ وَجَلَ وابتهل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجنبه وذريته عبودية الأصنام، وسأل الله أن يجعل حياته كلها له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا لأي شيء سواه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35] فسأل الله الإخلاص وسأل الله التوحيد، فإذا وقفت أمام ذلك البيت تذكرت هذه القدوة الكاملة الفاضلة التي اختارها الله عَزَّ وَجَلَ لمن بعده إماماً في التوحيد والإسلام والاستسلام. ثم إذا طاف العبد بالبيت تذكر أنه لا يطوف بهذه الحجارة إلا عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يطوف تعظيماً للحجر، ولا تعظيماً لهذا الجماد، ولكن تعظيماً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله هو الذي أمره وهو الذي أوجب عليه هذه العبادة فلا يسعه إلا التسليم {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء:65] ولذلك وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أمام الحجر، فقال كلمته المشهورة: [أما إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك ما قبلتك] أي: أن الدين كله قائم على هذا التسليم، إن جاءت العبادة سلم بها العبد وأتى بها على وجهها دون غلو أو شطط، ودون زيادة واعتقاد في الأحجار والأشجار والمواضع, وإنما يعتقد في الله وحده لا إله غيره ولا رب سواه.

التوحيد في الدعاء

التوحيد في الدعاء ثم إذا أدى شعائر الحج بين جموع المؤمنين، وعاش تلك الساعات واللحظات التي يقف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متذللاً متبذلاً خاشعاً متخشعاً تذكر عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ومن أعظم ما يذكر به العبد في عبادة الحج الدعاء، فمن أعظم المشاهد تأثيراً في النفوس وتأثيراً في القلوب مما يزيد العبد ثقة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإيماناً وإيقاناً فيه جل جلاله، إذا تأمل ونظر وادّكر واستبصر في هذه الأمم التي اجتمعت على اختلاف لغاتها، وتعدد لهجاتها، وتباين أقطارها وأمصارها، وإذا بها في لحظة واحدة ترفع أكفها إلى الله، فلا يخفى عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مكانها، ولا تخفى عليه أصواتها ولا لهجاتها، ولا تخفى عليه مسائلها ولا تعييه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حوائجها. الله أكبر إذا عجت ببابه الأصوات، واختلفت المسائل والحاجات، وتباينت في اللغات واللهجات، ففتح الله أبواب سماواته، وتأذن بنزول رحماته ومغفراته وبركاته، فلم تعييه المسألة، ولم تعجزه حاجة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يسمع دبيب النملة في الليلة الظلماء، تقول عائشة رضي الله عنها: [والله إني لمن وراء الستر وخولة تجادل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوجها يخفى عليَّ بعض كلامها فسبحان من وسع سمعه الأصوات] فسمعها من فوق سبع سماوات، امرأة مظلومة جاءت تشتكي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت عائشة يخفى عليها بعض كلامها، وليس بينها وبين المرأة إلا الستارة، والله يسمعها من فوق سبع سماوات يسمع جميع هذه الأصوات فتقول: لا إله إلا الله، الله أكبر حينما يحتاج العبد حاجة والله يعلمها قبل أن يحتاج ومطلع عليها قبل أن تكون: علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، سُبْحَانَهُ جل جلاله وتقدست أسماؤه. تضطرب كتفك بجوار الأكتاف، ويضطرب جسم الإنسان مع غيره من إخوانه وخلانه في الإسلام، ومع ذلك كله يسمع شكواهم ومسائلهم وحوائجهم، فيوقن بأنه لا إِلَهَ إِلَّا الله، هل طردنا الله عن بابه -حاشاه- حتى نقف على أبواب المشاهد والقبور؟ هل ردنا الله سبحانه عن دعائه حتى ندعو غيره ونتوسل بما سواه؟ هل عظمت حوائجنا على الله سبحانه وتعالى حتى تنزلها بغيره؟ لا والله {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88] {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83] (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته وما بلغته أمنيته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) لا ينقص من ملك الله جل جلاله شيئاً ولا يعجزه شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. تأمل رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يخرج المحتاج من أهله وولده وحِبه، والله ما أخرجه إلا لشيء أعظم وأفضل مما خرج منه، ولا يمكن أن يخرج الإنسان من تلك الشهوات وتلك الملاذ، ومن بين الأبناء والبنات إلا عوضه الله خيراً مما ترك؛ لأن الله كريم، فتؤمن بلا إله إلا الله وتوقن أن عند الله فضلاً ورضواناً، وأن الله ما أخرج هذه الجموع إلا لفضله ورحمته. ولذلك أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله رضي لمن آمن به ووحده، ونزل في تلك المنازل موقناً مؤمناً مخلصاً، وأدى الشعائر على أتم الوجوه وأكملها، أن يرجع إلى أهله بلا ذنب ولا خطيئة. أن يرجع إلى أهله كيوم ولدته أمه أن يرجع إلى أهله وولده نقياً من الذنوب والخطايا، فلربما رجع إلى أهله وولده وقد عتقت رقبته من النار، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. فإنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من النار من يوم عرفة) ومعنى العتق من النار: أنه لا يمكن أن يدخل العبد النار أبداً، مهما كان حاله، ولاشك أن هذه بشارة له أنه سيموت على التوحيد، ويموت على الإيمان، ويموت على خصال الخير والبر، ويختم له بخاتمة السعداء جعلنا الله وإياكم منهم. يوقن العبد وهو يرى هذه المشاهد يرى هذه الأمم كلها جاءت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيزداد ثقة بالله جل جلاله ويتفكر ويتدبر هل حاجتي تعجز الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كلا والله، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فبمجرد أن ترى ذلك توقن إيقاناً كاملاً أن مسائلك وحوائجك لا ينبغي أن تنزل إلا بباب الله جل جلاله، فالدعاء والسؤال والحاجة لا يجوز أن تنزل إلا بالله وحده لا شريك له، ومن أنزل حاجته بغير الله زاده الله فقراً، ومن أنزل حاجته بالله تأذن الله له بالفرج العاجل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11].

الأسئلة

الأسئلة

حكم حج الرجل عن المرأة والعكس

حكم حج الرجل عن المرأة والعكس Q طلب مني أحد الإخوان الحج عن زوجته المتوفية وهو قادر للحج عن نفسه حجة الإسلام، وللعلم فإني كنت قد نويت الحج هذا العام فما حكم ذلك؟ وماذا يلزمني عند النية عندما أريد النسك إذا حججت عنها؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. A إذا كان الزوج لم يحج عن نفسه وسأل رجلاً أن يحج عن امرأته فلا بأس، يجوز للرجل أن يحج عن امرأة ويجوز للمرأة أن تحج عن الرجل، وفي الحديث: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراًَ لا يستقيم على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم حجي عنه) كما في الصحيح في حديث الخثعمية. فقوله: (حجي عنه) فهو رجل وهي امرأة فدل على أنه يجوز أن يكون الوكيل رجلاً عن امرأة، وامرأة عن رجل، فلا بأس أن يحج سواءً كان أجنبياً أو كان قريباً لا بأس بذلك، ولاشك -إن شاء الله- أنك لو حججت عن امرأته ونويتها عن حجتها التي هي فرض عليها إن كانت قصرت وضيعت ووجب عليها الحج وحججت عنها، فهذا لاشك أنه من التعاون على البر والتقوى، ويكون زوجها إذا لم يحج عن نفسه حجته تلك عن نفسه، فتبرأ ذمة الميت المتوفى، والله تعالى أعلم.

من انتقل من ميقاته إلى ميقات آخر أحرم من الثاني

من انتقل من ميقاته إلى ميقات آخر أحرم من الثاني Q رجل يعمل في مدينة الرياض وأهله في منطقة تهامة، وأراد أن يحج هو وأهله هل يحرم من ميقات أهل نجد أم يحرم من يلملم؟ أفيدونا أفادكم الله. A إذا ذهب الشخص من الرياض إلى جهة الجنوب، ما دام أنه وراء الميقات الذي هو يلملم، فإنه يجوز أن يسافر من الرياض إلى جهة الجنوب، ويقضي جميع حوائجه ثم يحرم من ميقات الجنوب، لأن سفرته من الجنوب إلى مكة هي سفرة النسك، وسفرته الأولى من الرياض إلى الجنوب سفرة حاجة. مثلاً: لو أنه سافر إلى الباحة أو سافر مثلاً إلى أبها فإنه في هذه الحالة ينتقل من ميقات الشرق إلى ميقات الجنوب، لأن المواقيت على الجهات الشمال مع الغرب، والشمال المحض، والغرب المحض، والشرق المحض، فلذلك جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (وقت صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الشام الجحفة ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة) فهذه مواقيت جعلت على حسب الجهات؛ فإذا جاء من جهة المشرق وقصد المغرب أو قصد الجنوب أو قصد الشمال خارجاً عن حدود المواقيت فحينئذٍ يؤخر إحرامه إلى الميقات الثاني، ولا يحرم من الميقات الأول، وعلى هذا لا يلزمه أن يحرم من السيل، وإنما يحرم من يلملم إذا كان يمر بها وحاجته، وهكذا إذا كان من أهل المدينة وكانت عنده حاجة في ينبع، فإن ينبع ساحلية وميقاتها ميقات أهل المغرب والشام فيحرم من رابغ، ولذلك ثبت في الصحيح من حديث أبي قتادة أنه خرج من المدينة مع السرية التي بعثها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: (خذوا ساحل البحر) فأخذوا ساحل البحر فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم وأخر إحرامه إلى رابغ وهي الجحفة؛ لأنه عندما ذهب إلى الساحل أصبح ميقاته ميقات أهل الساحل، واختار الصحابة الأفضل فأحرموا من ذي الحليفة، وأخر أبو قتادة إلى محل الإجزاء، فدل على أن من انتقل من ميقات إلى ميقات أو سافر سفراً إلى ميقات آخر أخذ حكم أهله وألغى حكم الميقات الأول، والله تعالى أعلم.

فضيلة إنفاق الحاج على نفسه وجواز إنفاق الغير عليه

فضيلة إنفاق الحاج على نفسه وجواز إنفاق الغير عليه Q داعية طلبت من إحدى الحملات أن تكون مشرفة معهم في هذه الحملة، وتقول: إنها رصدت مبلغاً من المال لحج هذا العام وقد عرضوا عليها أن تحج معهم مجاناً، فما هو الأفضل أن تحج معهم بمالها هذا أم تستخدمه في شيء آخر نافع؟ A أسأل الله العظيم أن يعظم أجر الأخت السائلة وأمثالها من الصالحات نحسبهن ولا نزكيهن على الله، فلا تزال الأمة بخير مادام فيها النساء الصالحات، وفي النساء خير كما في الرجال، ولاشك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعد بالأجر المؤمنين والمؤمنات، وأثنى في كتابه على الصالحين والصالحات، وزكى من فوق سبع سماوات قلوباً خشعت له سُبْحَانَهُ من المؤمنات {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] فشهد الله من فوق سبع سماوات أنهن صالحات وقانتات وحافظات، فهذا فضل عظيم على الأمة أن يوجد في نسائها من يخاف الله ويتقيه خاصة في هذه الأزمنة، فنسأل الله العظيم أن يكثر من أمثالها. أما الأمر الثاني أختي السائلة: فالخروج إلى الحج مع الرفقة الصالحة من الرجال والنساء معونةٌ على ذكر الله وطاعته، وإذا طُلب منك أن تحجي فلا تحجي إلا بمالك ولا تؤثري غيرك بالنفقة، فإذا كنت في حملة فقولي لتلك الحملة: أدفع كما يدفع غيري، ولا تجعل الداعية ولا يجعل الداعي ولا طالب العلم أجر علمه ونصحه أن يركب معهم فيطعم من طعامهم ويأكل من أكلهم، لا، إنما يجعل أجره لله والدار الآخرة: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وقال الله عن أنبيائه: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] فأجر كل من يدعو إلى الله على الله سبحانه وتعالى، فأوصيكِ أن تقولي لهم: إما أن أدفع كما يدفع غيري، وأنت إذا قلتِ لهم ذلك إن شاء الله سيعينونك على هذا الخير، وأما بالنسبة للمبلغ الذي رصدتيه وأنت تنوين الخير والبر، فكما ذكرنا تبدئين بنفسك وتحرصين على أن يكون هذا الخير لك، لأنه لا إيثار في القربات، وتحجين معهم، إذا كان ذلك يعينك على الخير والبر وفيه معونة للغير على الخير، نسأل الله العظيم أن يتقبل من الجميع، والله تعالى أعلم.

حج المرأة بدون محرم مسافة القصر

حج المرأة بدون محرم مسافة القصر Q ما حكم حج الخادمة في المنزل الذي لا يوجد معها محرم، وهل من استقدم هذه الخادمة يكون في محل المحرم لها، وهل حجها صحيح إذا حجت، أفيدونا حفظكم الله؟ A الأصل الشرعي الذي دل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر لا للحج ولا لغيره إلا بمحرم؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم) فلا يجوز للمرأة أن تخرج من دون محرم. وفي الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: (يا رسول الله! إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجَّة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك) لا بد في حج المرأة من محرم ولا تسافر إلا ومعها ذو محرم، لكن لو كانت الخادمة في مكة، فليس بسفر؛ لأن المشاعر في مكة، لذلك يجوز في هذه الحالة أن تكون مع رفقة مأمونة يأخذها مع زوجته أو مع أخواته محتشمة محافظة، هذا لا بأس به؛ لأنه ليس بسفر إذا كانت في مكة، وإذا كان دون مسافة القصر من الحرم كما هو مقر في الأصل الشرعي، والله تعالى أعلم.

عتق الله رقاب الحجاج يوم عرفة

عتق الله رقاب الحجاج يوم عرفة Q هل يوم عرفة للحاج فقط من ناحية المغفرة والعتق من النار، أم هو لعموم الناس على وجه المعمورة وخاصة المسلمين إذا تقيدوا بتعاليم الدين الإسلامي؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم عرفة) وهذا اللفظ من المعهود في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتبر لفظاً مطلقاً، وتارة تأتي السنة باللفظ المطلق وتريد التقييد، ويكون التقييد بالمعروف والمعهود، فكأنه حينما قال: من يوم عرفة مراده بذلك الحجاج الذين هم وقوف بيوم عرفة أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعتق رقابهم من النار، فهذا يدل على أن الفضل مختص بمن وقف بعرفة ولا يمتنع؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعتق رقبة الإنسان من النار بشيء غير هذا، فالله على كل شيء قدير. الله سبحانه وتعالى قد يعتق رقبة الإنسان بصدقة واحدة، وقد يعتق رقبة الإنسان بدمعة واحدة يدمعها من خشية الله عَزَّ وَجَلَ، وقد يعتق رقبة الإنسان بكلمة طيبة بر فيها أمه أو بر فيها أباه، فالله على كل شيء قدير. ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) نصف تمرة قد تكون وقاية لك من النار. وفي الصحيح أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها تحمل صبيتين، فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل صبية تمرة ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أن تأكلها فاستطعمتها إحدى البنتين هذه التمرة، قالت عائشة رضي الله عنها: فأخذت هذه المسكينة الأرملة التمرة وأعطتها لبنتها وآثرتها على نفسها، قالت: فعجبت من صنيعها، فلما دخل عليها رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرته خبرها، فقال لها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أتعجبين مما صنعت! إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك) تمرة واحدة، هذا فضل عظيم لو جاء الإنسان يتفكر ويتدبر في عظمة هذا الرب الكريم الجواد، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الجنة أدنى للعبد من شراك نعله والنار مثل ذلك). أي: إذا اتقى الله وأحبه وأخلص لله ووحده وأطاعه، فإن الله سبحانه وتعالى يحجبه عن النار، فالعتق من النار -قيل: إن هذا اللفظ مطلق وقيد على أتم وجوهه وأكرمه، ولا شك أنه للحجاج على أتم الوجوه وأكملها، لكن لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى يعتق في يوم عرفة غير الحجاج؛ لأن فضل الله سبحانه وتعالى لا ينحصر بيوم عرفة ولا يقتصر على يوم عرفة بل يده سخاء الليل والنهار لا تغيظها نفقة، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفرح بتوبة التائبين، جَلَّ جَلالُهُ، وتقدست أسماؤه، والله تعالى أعلم.

حكم ترك تقبيل الحجر الأسود

حكم ترك تقبيل الحجر الأسود Q أنا ذاهب إلى الحج والعمرة ولكني لا أُقبّل الحجر الأسود، والذي يمنعني من ذلك شدة الزحام فما رأي فضيلتكم في ذلك؟ A اترك الأمور بالتساهيل، فالإنسان لا يقول من البداية: لا أُقبّل، أي شيء من السنن غير الواجبة إذا ترتبت عليه مفسدة أو ترتبت عليه مضرة، وما أمكن أن تطبق إلا بهذه المفاسد والأضرار فتترك؛ لأنه ليس بواجب، لكن لا تقل هكذا من البداية لا أُقبّل الحجر، قل: إن شاء الله، فإن الله ييسر ويسهل. فإن استطعت أن تقبله ولو كان عليه زحام دون أن تؤذي أحداً ودون أن تضر بأحد، حتى تتمكن من الحجر فهذا فضل عظيم، وإذا لم يتيسر إلا بأذية وإضرار فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يمكن أن يعصى الله من حيث يطاع، ولذلك لا يقبل الحجر إذا كانت هناك أضرار ومفاسد أو فتن، بل على الإنسان أن يتق الله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ومن ترك التقبيل لعذر فإن الله يكتب له أجر التقبيل، لأنك تركت التقبيل خوف الفتنة، فالله يكتب لك أجر من قبل؛ لأن عندك العذر، والله سبحانه وتعالى يكتب الثواب عند وجوده، والله تعالى أعلم.

التلبية شعار التوحيد

التلبية شعار التوحيد Q كثير من الحجاج لا يستشعر فضل وأثر التلبية والتكبير في المشاعر حتى تكاد لا تسمع صوتاً مرتفعاً بها إلا ما شاء الله، فهل من كلمة توجيهيه لمن أراد الحج حول هذا الشيء؟ A التلبية شعار التوحيد، ولذلك قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أَهَلّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). لا إله إلا الله اجتمعت في لبيك اللهم لبيك؛ لأن لبيك اللهم لبيك إثبات، ولبيك لا شريك لك لبيك نفي، فلابد أن تثبت لله عَزَّ وَجَلَ ما أثبت لنفسه، وأن تنفي عن كل شيء سواه، ذلك الشيء الذي أثبته له عَزَّ وَجَلَ، ولذلك قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] فهذا جماع كلمة الإخلاص النفي والإثبات، فكلمة لبيك اللهم لبيك عهد بين الحاج وربه، قيل لبيك: من ألب في المكان إذا أقام، كأنه يقول: أنا مقيم على طاعتك وتوحيدك إقامة بعد إقامة، وقيل: لَبَ من لُب الشيء وخالصه، أي إخلاصي وتوحيدي لك يا ألله إخلاصاً بعد إخلاص؛ لأن كل عبادة تتبع الأخرى، وقيل: لبى إذا واجه الشيء، فتقول: داري تلب بدارك: أي تواجهها، فكأنه يقول: وجهي وقصدي ووجهتي كلها إليك يا ألله، وجهة بعد وجهة، فهو يتجه إلى الله في الطواف، ثم بعده في الصلاة، ثم بعده في السعي بين الصفا والمروة، ثم بعده في المشاعر كلها، من مشعر إلى مشعر يتجه إلى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فكلمة التلبية تدل على التوحيد والإخلاص، لابد أن يستشعر معناها، والعلماء رحمهم الله قرروا أن العبادة إذا تلفظ بها الإنسان إذا كانت قولية من الذكر القولي فيتلفظ به الإنسان لا يعي معناه ولا يتدبر ذلك المعنى، ولا يقوله من قلبه، فإن ذلك لا ينفعه تمام النفع، ولذلك لابد أن يتدبر الإنسان معنى التوحيد في التلبية، وإذا قلنا: إن التلبية من لب: بمعنى أجاب، فإنه يقول: أنا مجيب لك يا ألله، إجابة بعد إجابة؛ لأن الله أمر إبراهيم أن ينادي بالحج، فكل معاني التلبية تدور حول الطاعة والعبودية والإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليستشعر العبد معنى (لبيك اللهم لبيك) وكذلك قوله: (لبيك لا شريك لك لبيك) أمر مهم جداً، فالذي لا يبرأ من الشرك ويرضى بالشرك -والعياذ بالله- يكون له حكم أهله والعياذ بالله. (إن الحمد) فالحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، سره وعلانيته في الدنيا والآخرة لله جَلَّ جَلالُهُ، ولذلك استفتح الله الأمور بحمده، فاستفتح أحبها وأشرفها إليه وهو كتابه ورسالته، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] وختم الآخرة كلها، فقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] فلله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد عشياً وإبكاراً، وله الحمد سراً وجهاراً، تَبَارَكَ اسمه، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره. (والنعمة لك) النعمة كلها لله والفضل كله له، فإذا لبى المسلم بهذه التلبية واستشعر فيها هذا المعنى وأنه يعتقد أن الفضل كله لله وليس لأحد سواه، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] فالله هو صاحب النعمة وموليها، وكذلك أيضاً بالنسبة لبقية أذكار الحج. وينبغي بالنسبة للتلبية رفع الصوت بها، ولذلك كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر أصحابه كما في الصحيح تقول: (لبيك اللهم) ترفع بها صوتك، فإذا سمع صوتك وأنت تلبي الحجر والشجر والمدر شهد لك بين يدي الله جَلَّ جَلالُهُ. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وأنت وحيد فأذن وارفع صوتك، فإنه لا يسمع صوتك جن ولا إنس ولا حجر ولا مدر إلا شهد لك يوم القيامة) كذلك إذا لبيت فإن الأرض تشهد وفي سنن ابن ماجة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا لبى المسلم لبى ما عن يمينه ويساره من حجر وشجر ومدر حتى تنقطع الأرض) كله يلبي، هذا الجماد يحب ذكر الله جَلَّ جَلالُهُ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يكثر من هذه التلبية، وأن يرفع بها الصوت. نسأل الله العظيم أن يحيي بنا هذه السنة، وأن يعيننا على تطبيقها، ولا يستحي الإنسان، فالتاجر يصيح في تجارته بخمسة بعشرة بعشرين، ولا يحس أن في ذلك غضاضة؛ بل يتشرف ويفتخر بذلك، فكيف بمن يتاجر تجارة الآخرة، فكيف بمن ينطق بكلمة لا أصدق منها وهي كلمة التوحيد وما دل عليها، فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يستحي أو يخجل من الناس، فإذا كنت بين قوم غافلين فارفع بها صوتك واعتز بدينك وربك، ينبغي للمسلم أن تكون فيه الحمية والقوة، لكن القوة ببصيرة، والقوة بالرحمة التي جاء بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يستحي الإنسان ولا يستنكف عن هذه الأشياء بل هي عزة له ورحمة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، والله أعلم.

دور الموحدين في محاربة البدع

دور الموحدين في محاربة البدع Q يرى في مكة والمدينة بعض الحجاج يقعون في بدع وشركيات، ويلطخون عقيدتهم بالخرافات والخزعبلات، فما هو دور الموحدين، وما هي نصيحتك لهؤلاء؟ A بِاسْمِ اللهِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن الله تعالى أكرم الحرمين وأنعم عليها -بل على الإسلام كله- بهذه الدولة المباركة التي حفظت حمى التوحيد، وحرصت كل الحرص على حماية جناب التوحيد من الشرك والخرافات، فمن يعرف المدينة والحرمين قبل هذه النعمة العظيمة، فإنه يعرف جليل ما أنعم الله على الإسلام والمسلمين، فقد كان الناس في كثير من الجهل والبدع والضلالات والخرافات، وكانت أموال الناس تؤكل بالباطل، وكانت تحيا بدع المضلين، وتمات سنن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، ولكن الله منّ على العباد بهذا النور وهذا الخير الذي تبددت به دياجير الظلم والظلمات، وأشرقت به أنوار التوحيد والرسالة، وعظم به الخير على هذه الأمة، وصلح حالها والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً. إن وقع شيء من الإخلال من بعض الوافدين فينبغي أن يوجهوا وأن يعلموا، وأن يدلوا على ما هو أحكم، وعلى صراط الله عَزَّ وَجَلَ الأسلم الذي هو صراط التوحيد، نوصي كل من يرى أمراً من الأمور التي تخالف عقيدة التوحيد والإخلاص أن يبين الحق وأن يدل عليه؛ لأنه يتكلم بسلطان الحق، والله يؤيده ويفتح عليه، ويجعل له من أمره رشداً {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] فيحرص طلاب العلم والعلماء والدعاة وكل مؤمن موحد على التوحيد وينبغي أن يغار عليه، الهدهد جاء إلى سليمان وقد غار حينما رأى أهل الشرك يعبدون الشمس، وهو حيوان جاء طائراً يطير بجناحيه، غار على التوحيد والإيمان، والسماوات والأرض والجبال تكاد تنهد وتندك إذا دعي لله الولد لو أذن لها لانهدت واندكت {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:91 - 94] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا كانت الجبال تنهد غيرةً على التوحيد والإيمان، فكيف بقلب المؤمن الذي يخاف الله ويرجو رحمته، فإنه أولى وأحرى، وبين له بالتي هي أحسن أولاً أن يكون عندك علم وتقول: هذا لا يجوز وهذا شرك وهذا يخرج العبد من الإسلام، قد يكون بين الرجل والشرك كلمة واحدة يستغيث فيها بغير الله ويستجير فيها بغير الله والعياذ بالله، وقد تكون منه فعلة واحدة تخرجه من ربقة الإسلام فيشرك بالله {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] نسأل الله السَّلامة والعافية، فيحرص الإنسان على توجيه هؤلاء، وكثير من هؤلاء لا يفقهون ولا يعلمون، فهم أتباع كل زاعق وناعق كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبهم في نار جهنم، فالواجب نصيحتهم ودلالتهم إلى الخير، لكن ينبغي أن يحرص على الكلمة الطيبة والتوجيه المؤثر وبالتي هي أحسن ما أمكن، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ينقذ بك بكلمة عبداً من النار، فيكون ذلك أعظم لأجرك وأتقى لربك، واللهُ تَعَاَلَى أَعْلَم.

المواعظ

المواعظ الموعظة طريق لهداية الضالين، وسبيل لنجاة العاصين، والموعظة في المحيط الأسري مسئولية يشترك فيها الأب والأم، حتى إذا صلحت النواة الأولى للمجتمع -التي هي الأسرة- صلح المجتمع بأسره. ولكن الموعظة لا تؤتي ثمارها اليانعة الطيبة، إلا إذا كان الواعظ عاملاً بما قال، ملتزماً بما وعظ.

دور الموعظة في حياة القلوب واستقامتها

دور الموعظة في حياة القلوب واستقامتها الحمد لله الذي نزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الأحبة في الله! إن للمواعظ أمراً عظيماً في القلوب، كم نبهت من غافلين، وكم أرشدت من حائرين، كم هدت ودلت إلى صراط الله المستبين، المواعظ زاد القلوب وطمأنينتها، وسلوة الصدور وانشراحها، أحبها الله وحببها للصالحين، فجعلها قرة عيون عباده المؤمنين المحسنين، يا لله كم من قلوب خشعت، وكم من عيون من خشية الله بكت، وكم من نفوس اهتدت، وكم من أرواح على طاعة الله ثبتت، يا لله كم من كلمات طيبات مباركات خشعت لها قلوب المؤمنين والمؤمنات، وفُتِّحت لها أبواب السماوات! {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. الموعظة هي الكلمة الجامعة لخير الدين والدنيا والآخرة، الموعظة وصية الله للأولين ووصيته للآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، شرف الله المواعظ حينما وعظ عباده المؤمنين، فذكرهم بحقوق الدين، أخذ بمجامع قلوبهم إليه فذكرهم بما يجب عليهم، ونهاهم عما حرمه عليهم. المواعظ شرفها الله جل وعلا يوم جعلها رسالة الأنبياء والمرسلين، فصدعوا بالحق وبما أمر به رب العالمين، المواعظ زاد القلوب وسلوة الأرواح، وسبب ثباتها على طاعة الله جل وعلا، فكم من مجلس ذكر حضره عاق فعاد تائباً! وكم من مجلس موعظة حضره شقي طريدٌ بعيدٌ فقام منه سعيداً! وكم من مذنب خطّاء كثير الذنوب عظيم العيوب آوى إلى الله في مجلس يذكِّر بالله فقام وقد بدِّلت سيئاته حسنات! يا لله كم من كلمات طيبات مباركات صلحت بها أحوال المؤمنين والمؤمنات! ما أحوجنا إلى كل كلمة تقربنا إلى الله، ما أحوجنا إلى كل كلمة تذرف بها العيون من خشية الله، ما أحوجنا إلى كل كلمة تُخشع قلوبنا لذكر الله، ما أحوجنا إلى المواعظ إذا خرجت من قلوب صادقة وألسنة موقنة محقة.

موعظة الأبناء مسئولية الوالدين

موعظة الأبناء مسئولية الوالدين الأسرة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى الموعظة والنصيحة الجامعة، الأسرة المسلمة اليوم من الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوان والأخوات وآل كلٌ والقرابات هي أحوج ما تكون إلى الموعظة، تحتاج إلى الموعظة في زمان عظمت غربته، وجلت محنته، حتى أصبح المصلي بين أهله غريباً، والذاكر لله بين أهله كأنه يقول شيئاً عجيباً غريباً في زمان عظمت فتنته، وجلت محنته؛ حتى أصبح فلذات الأكباد ربما يجهلون توحيد رب العباد في زمان عظمت فتنته، وجلت محنته، حتى كثرت فيه الشهوات، وعظم فيه سلطان الملهيات والمغريات، فوقف المؤمن متعطشاً متلهفاً لكل كلمة تدله على ربه، وتأخذ بمجامع قلبه لكي تهديه إلى الصواب؛ فيكون من أهل طاعة رب الأرباب. أيها الأحبة في الله! الواعظ في الأسرة يكون والداً شعر بالأمانة والمسئولية، وتكون أماً حنوناً مشفقة تخاف على فلذات كبدها من النار تخاف أن يفرّق بينها وبين أولادها في يومٌ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. الموعظة كلمات طيبات يقوم بها الأبناء وتقوم بها البنات، كلمات طيبات هي أكبر من كل أحد إلا الله وحده، فكلنا يحتاج إلى الموعظة، فقد تكون من الوالد، وقد تكون من الولد، يوجه الوالد ولده آمراً له بطاعة الله، ناهياً له عن حدود الله ومحارمه، وكأنه يأخذ بحجزه عن نار الله وغضبه، والوالدة تأخذ بحجز أبنائها وبناتها بوصية جامعة لخير الدين والدنيا والآخرة، والابن يرى أباه قد ضل عن السبيل، وجار فيما يكون منه من فعل وخيم، فتأخذه حميّة الدين والخوف من رب العالمين، فيذكِّر أباه وينصحه ويأخذ بحجزه عن نار الله كما فعل أنبياء الله، والبنت الصالحة ترى أمها قد جارت وحادت عن سبيل ربها، فتقف لها ناصحة مشفقة مبينة حتى تقودها إلى الله وتنتهي بها إلى رحمته، والأخ الصادق يرى أخاه قد تهاوى إلى الرذائل، وقد عميت بصيرته عن الفضائل، فيأخذ بحجزه عن نار الله وقد تفطر قلبه شفقة وحناناً عليه، يريد أن يرحمه برحمة الله. فتخرج الكلمات الطيبات المباركات من الآباء والأمهات، والأبناء والبنات، والإخوان والأخوات، بعظات بالغات بينات، تخشع لهن قلوب المؤمنين والمؤمنات.

وعظ الأبناء باتباع أوامر الشرع

وعظ الأبناء باتباع أوامر الشرع أعظم الحقوق حق الله جل وعلا، ومن حقوقه سبحانه: أنه أحل الحلال وحرم الحرام، تنشئ ابنك من الصغر على أن يحل حلال الله وأن يحرم حرام الله، وأن يتبع شرع الله، وأن يقول كلما سمع أوامر الله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. تنشئ ابنك على محبة الدين، والاستسلام لرب العالمين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أحل أشياء فلا تحرموها، وحرم أشياء فلا تحلوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) فتعود أبناءك على محبة هذا الدين، وذلك عن طريق ربطهم بالعلماء وإتيان حِلق الذكر، وتعودهم أن يسألوا عن الصغير والكبير، والجليل والحقير، والخردلة والقطمير من أمر هذا الدين، فإذا عظمت وشيجتهم بالدين من خلال العلماء العاملين والأئمة المهديين؛ ألفوا الطاعات والباقيات الصالحات، وسمت أرواحهم إلى الخيرات، وزكت بفعل ما يرضي الله جل وعلا في الحياة وما يوجب حسن الختام عند الممات.

وعظ الأبناء بالمحافظة على الصلاة

وعظ الأبناء بالمحافظة على الصلاة من الحقوق التي ينبغي على الآباء والأمهات أن يعظوا أبناءهم بها: حق الله -كما ذكرنا- في الصلاة والزكاة، لأن الله يقول حاكياً عن لقمان أنه قال لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] أمره بالصلاة، وأثنى على نبيه إسماعيل أنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55 - 56]، من هذا الأب الموفق الذي يريد أن يكون عند ربه مرضياً؟ من أراد ذلك فليعظ أبناءه كلما أذن أذان للصلاة، فاعلم أنك تكون عند الله مرضياً إذا تفقدت أبناءك وبناتك -صغاراً وكباراً- في الصلاة، فأخذت كبيرهم إلى المسجد وتابعته فيما تعظه وتأمره به.

وعظ الأبناء بتعظيم شعائر الله وخشيته

وعظ الأبناء بتعظيم شعائر الله وخشيته من حقوق الله جل وعلا، تعظيم شعائر الله في قلوب الأبناء والبنات، وغرس معاني الدين في نفوسهم، ومن ذلك: أن يحرص الأب على إبعاد أبنائه وبناته عن المحرمات والمفسدات والملهيات والمغريات، التي توجب سخط الله في الحياة والممات، تنشئ ابنك على الخوف من الله، والخشية منه في السر والعلانية، تعوِّده أن يخاف من الله جل وعلا ويخشاه ويتقيه، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أنس بن مالك رضي الله عنه إلى حاجة -وكان أنس صغير السن خادماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فانطلق أنس، فرأى صبياناً يلعبون، فجلس يلعب معهم، فخرج له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمسكه، وقال: يا غلام! لولا أني أخاف الله لضربتك بهذا المسواك). انظر كيف يُعلم الابن، ويعلم الصغير الخوف من الله، وعندها حين قال النبي هذه الكلمات -ماذا تتوقعون من أنس أن يحس في قرارة قلبه من هيبة الله جل وعلا عندما يعلم أن محبة الله وخشيته قد حالت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضربه؟! عوّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمة صغاراً وكباراً، شباباً وشيباً وأطفالاً على تعظيم الله جل وعلا، والحذر من حدوده ومحارمه، ولذلك قال الله بعد ما نهى عن المحرمات: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] وعظنا الله، فحرم علينا محرمات ينبغي تعليمها للأبناء والبنات، ليس بعيب أن تجلس مع أولادك مع أبنائك وبناتك وتبين لهم ما الذي حرم الله عليهم، من: قول الزور، وغيبة المسلمين، والنميمة، والسب والشتم، وأذية المسلمين باللسان أياً كانت هذه الأذية، ليس بعيب أن تجلس مع أبنائك وبناتك فتذكرهم بحرمات الله التي نهى عنها في السمع والبصر، فتذكرهم أن الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، فتجعلهم على خوف من الله جل وعلا. فلا إله إلا الله! كم من عيون غضت للأبناء والبنات بالنصائح الطيبة من الآباء والأمهات، وكم من ابن وقف على حرمة من حُرَم الله ونظر إلى شهوة مغرية فتذكر وعظ أبيه فخاف من الله، ولربما كان أبوه ميتاً فصارت رحمة عليه بعد موته، كل ذلك بالموعظة الصالحة والكلمة والوصية النافعة.

وعظ الأبناء بحق الله وتوحيده

وعظ الأبناء بحق الله وتوحيده أحب الكلام إلى الله ما ذكّر بالله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]، تبتدئ الأسرة المسلمة موعظتها بأعظم الحقوق وأجلها على الإطلاق؛ وهو حق الله جل جلاله، حقه في توحيده وإفراده بالعبادة، والإخلاص لوجهه. فالناصح والواعظ من الوالد والولد والوالدة يذكِّر من ينصحه بعظيم حق الله عليه، وجميل منته لديه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] قالها لقمان لفلذة كبده يذكره بالعقيدة والإيمان {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أخذ بمجامع قلبه إلى الله، وذكره بأعظم الحقوق وهو حق الله. يا بني! يا فلذة الكبد! يا من هو كلحمي ودمي! لا تشرك بالله، نهاه عن أعظم نهي نهى الله عنه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) يذكِّره أن الله رضي له التوحيد والإيمان وكره له عبودية الأوثان، يذكره بالسماء ومن بناها، وبالأرض ومن طحاها، وبالجبال ومن أرساها، يذكره بشواهد التوحيد، ودلائل وحدانية العظيم المجيد. كم من أبٍ ذكر ابنه في ظلمة ليل بمن جعل الظلام في ليله، فما أمسى الابن إلا وتذكر الله! وكم من أم صالحة ذكّرت بنتها بربها وأخذت بمجامع قلبها إلى خالقها، فوحدت وأسلمت واستسلمت! وكل ذلك في ميزان حسناتها. يحتاج الابن أن تذكره بالله في كل لحظة وطرفة عين، تذكره بجبار السماوات والأرض تذكره بمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه؛ حتى يخوض الحياة مؤمناً ويعيش موحداً، حتى تقبض روحه مع السعداء والأولياء الحنفاء. ينتظر ابنك -في كل لحظة وفي كل طرفة عين- أن تذكره بحق الله، حتى ولو بالكلمة العابرة، ومما تذكره بالله أن تذكره بحقوقه العظيمة، فتأمره بتقواه، وتحثه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتستجيب لأمر نبيك صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) الأب الصالح يذكر ابنه بالصلاة، ويعظه حتى يحبب إلى قلبه الوقوف بين يدي الله جل وعلا، والعبد الصالح يأخذ أبناءه إلى بيوت الله بالليل والنهار، والعشي والإبكار. والله إنك ما علّمت ابنك الوضوء فصب الماء على يده أو جسده إلا كتب الله لك أجره، ووالله إنك ما علّمته الصلاة وكيف يقرأ فاتحتها، وكيف يحسن ركوعها وسجودها، وكيف ينتصب بين يدي الله فيها إلا كان لك مثل أجره كلما وقف بين يدي الله مصلياً، ولو علّم غيره كتب الله لك الحسنات، ورفعك إلى عظيم الدرجات، فالصالحات الباقيات، فمن أمر أبناءه بالصلاة وتفقدهم بالعشي والإبكار والصبح والمساء، أعظم الله أجره، وثقل ميزانه، وأورث في قلوب أبنائه حبه، فكم من آباء ربوا أبناءهم في الصغر على هذه الطاعة المرضية، فما كبروا إلا على حبهم وتقديرهم وإجلالهم لآبائهم، قال بعض العلماء: حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الأولاد بالصلاة، ومن عوّد نفسه أن يأمر أولاده بالصلاة، اعتاد أولاده من الصغر على السمع والطاعة، وقل أن تجد أباً كان يتفقد أبناءه في الصغر -حتى شبوا على حب الصلاة- إلا وجدته يحيا الحياة السعيدة يعيش بين أبنائه حميداً وليموتن قريراً سعيداً، وليدركن صلاح أبنائه إذا ضمته اللحود، وهجمت عليه الكروب، فرفع ابنه كفه إلى الله شافعاً، يسأل ربه أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، فمن وفى لله وفى الله له، ليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، لا يعرفنا الله بأحسابنا ولا بأنسابنا ولا بأموالنا، بل يعرفنا بديننا وإخلاصنا وتوحيدنا وقيامنا بحقوق ربنا، هذا الذي بيننا وبين الله. ولما كانت الأمة راكعةً ساجدة، أبناؤها وبناتها كبارها وصغارها لا يضيعون حقوق الله؛ عزّت وسادت وكانت في رحمة من ربها، ولما تناسى الناس حقوق رب الجنة والناس، وأصبح الأمر بالصلاة تعقيداً وتضييقاً ونفر الناس منه؛ ضاعت كرامتهم، وعظمت بليتهم، فأصبح الوالد مجهولاً -والعياذ بالله- حتى عند فلذة كبده.

الموعظة سبب سعادة العبد في الدنيا والآخرة

الموعظة سبب سعادة العبد في الدنيا والآخرة إنها المواعظ التي هي طريق إلى سعادة العبد، لا يستطيع الأب ولا تستطيع الأم أن تقوم بالموعظة إلا إذا كان هناك سلاح يتسلح به كل واحد منهما، ألا وهو العلم والبصيرة، والنور الذي يهدي الله عز وجل به من اتبعه سبل السلام {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16]. ما أحوج الآباء والأمهات إلى معرفة جملة من الأحكام والأمور التي تتعلق بتعليم الأبناء والبنات، وتوجيههم وتربيتهم، ما أحوجهم إلى أن يسمعوا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهديه وإلى سيرته العطرة ومواقفه الجميلة الجليلة النضرة، كيف كان يأمر بالتوحيد؟ وكيف كان يغرس العقيدة في قلوب الصغار؟ (يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) الله أكبر! ما أعظمها من كلمات وقعت في قلب حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه! حتى أصبح إماماً من أئمة الدين، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكلمات التي هي من أسباب السعادة للعبد في الدنيا والآخرة. (يا غلام! احفظ الله يحفظك) وهذا يجمع جميع أوامر الله ونواهيه، احفظ الله بفعل أوامره، واحفظ الله بترك نواهيه. ثم يقول له عليه الصلاة والسلام: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) فالمخلوق بين أمرين بين رحمة وعذاب، وبين نعمة ونقمة، فإذا كان في نعمة اعتقد الفضل كله لله، وسأل ربه أن يبارك له فيها، وإن كان في نقمة علم علم اليقين أنه لا ينجيه منها إلا الله وحده لا شريك له، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء سبحانه وتعالى، وعندها تهون عليه مصائب الدنيا كلها. إنها المواعظ التي تذكِّر العباد بالله وتهديهم إلى صراطه جل وعلا، إنها المواعظ التي ابتدأها خير الواعظين سبحانه إله الأولين والآخرين، فوعظنا وذكّرنا في كتابه المبين، وسار على هذا النهج المبارك صفوته من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

افتقار المواعظ إلى القدوة الصالحة

افتقار المواعظ إلى القدوة الصالحة أيها الأحبة في الله! المواعظ تفتقر إلى أمر عظيم، إذا وجدت في الأب والأم، فإن الله ينفع بها وتقع في القلوب كوقع الغيث على الأرض الطيبة، إنها تحتاج إلى قدوة صالحة، الأب الذي ينصح أبناءه وبناته لابد وأن يكون قد أقام نصيحته لأنه لهم قدوة، ولابد أن يكون إماماً هادياً مهدياً، حتى ينفع الله بنصيحته، وتكون كلماته مؤثرة في النفس عميقة الأثر في القلب؛ لأن الله جبل الأولاد على محبة الوالدين والتأثر بنصيحتهما، وأنهم يشعرون شعوراً عميقاً أن الأب لا يغش أولاده، وأن الأم لا تغش أولادها، فهم يتقبلون النصائح منهما، فيحتاجون إلى القدوة التي تدلهم مع القول بالفعل، فابنك إذا رآك إذا أذن المؤذن تخرج إلى المسجد مبكراً؛ سبقك إلى المسجد، وإذا رآك عند ذكر الله تفيض عيناك من خشية الله فاضت عيناه من خشية الله، وإذا رآك ابنك وقافاً عند حدود الله، لا تغتاب المسلمين، ولا تسب المؤمنين كان ابنك عفيف اللسان عن عباد الله المسلمين. والبنت إذا رأت أمها قوّامة، صوّامة، ذاكرةً لربها، منيبة إلى خالقها، أحبت الله من كل قلبها، الله أعلم كم من ذريات صلحت بالقدوة الصالحة! الأبناء والبنات ينتظرون الفعل قبل القول، ولذلك قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فالإمامة في الدين والموعظة التي تذكّر برب العالمين تحتاج إلى الفعل قبل القول، قال بعض السلف: عظوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف نعظ ونحن صامتين؟ قال: عظوا الناس بأفعالكم وأخلاقكم قبل أن تعظوهم بأفواهكم.

الرفق واجتناب الكلمات الجارحة في الموعظة

الرفق واجتناب الكلمات الجارحة في الموعظة كذلك تحتاج الموعظة إلى كلمة صالحة صادقة مؤثرة، كالقول البليغ الذي يحكم الوالد اختياره؛ المهذب الذي لا يجرح القلوب ولا يؤثر في النفوس ولا ينفر في الدعوة، هذا الذي ينتظره ابنك وتنتظره ابنتك، فإذا رأيت الابن أو البنت مخطئاً، فعليك -رحمك الله- بالقول الكريم والموعظة الحسنة والكلمة المؤثرة استجابة لقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، فالقول البليغ والموعظة البليغة مؤثرة في النفوس؛ ولذلك كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الخلق بياناً وأحسنهم كلاماً؛ فإذا وعظ الموعظة أثر في القلوب، قال العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا)، فكانت مواعظه عليه الصلاة والسلام منتقاة، فعلى الوالد والوالدة أن يحرصا على عدم جرح المشاعر، فلا ينبغي تنفير الأبناء والبنات من الطاعة والدين، ولا ينبغي إذا أردنا أن ننصح أو نعظ أن ننفر أبناءنا وبناتنا من الخير والبِر، بل علينا -إذا رأيناهم أخطئوا- أن نقول الكلمة التي تقع في النفوس موقعاً بليغاً. والدٌ يقول لولده أخطأ: يا بني! والله إنك أعز في قلبي من أن تقول هذه الكلمة التي لا ينبغي لمثلك أن يقولها، تصور يبكى الابن مباشرة، ويقول: يا أبتي! سامحني. ووالد يقول لولده-أعاذنا الله وإياكم-: أيها السخيف! يا من لا تستحي! فنفر الابن وصد عن موعظته، فالله الله أن تكون حجر عثرة بين أبنائك وبين رحمة الله وتذكر وأنت تعظ، وتذكري -أيتها الأم الصالحة- وأنت تعظي أبناءك، وبناتك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) تذكروا -يا معاشر الآباء والأمهات- أن الدين رحمة وأن الإسلام رحمة، وأنه نور وهدى، تهدى به القلوب في الكلمات، وتهدى به القلوب في العبارات، لا تجرحوا به المشاعر، فقد كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد الموعظة؛ لا ينفر من موعظته، ولا ينفر من قوله وهديه وسمته، فما أحوجنا إلى أن نتأسى به صلوات الله وسلامه عليه. كم من أبناء وبنات قرت عيونهم بالصلاح والاستقامة والفلاح بالمواعظ التي اشتملت على الكلمات الرقيقة المهذبة، والعكس بالعكس، فكم من قلوب نفرت، وكم من أبناء وبنات وذريّات صدّت بسبب الكلمات الجارحة، فليتق الله الآباء والأمهات في هذه المواعظ وفيما يختار لها.

وعظ الأبناء بتعظيم حقوق العباد

وعظ الأبناء بتعظيم حقوق العباد مما ينبغي على الآباء والأمهات من النصيحة والموعظة للأبناء والبنات، التذكير بالحقوق العظيمة وهي حقوق العباد، فبعد أن يذكر الآباء والأمهات الأبناء والبنات بحقوق الله جل وعلا يذكرونهم بحقوق المسلمين والمسلمات. المسلم له حق عظيم على أخيه المسلم، ما كانت تنشأ البنت في بيت من بيوت المسلمين إلا وقد عرفت ما الذي لها وما الذي عليها تجاه أخواتها المسلمات، وما كان الابن ينشأ في بيت من بيوت المسلمين إلا وقد عرف ما الذي له وما الذي عليه تجاه إخوانه المسلمين. كانت الأمة تربي أبناءها وبناتها وفلذات أكبادها على تعظيم حقوق المسلمين، كان أبناء المسلمين وبناتهم ينظرون إلى أخوة الإسلام نظرة التقديس والإكرام، حتى إن المسلم ليقدر أخاه في الإسلام أكثر من تقديره لأخيه في النسب، وذلك حين كان الإسلام أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وغاية رغبتهم وسؤلهم، فكانوا يعرفون حقوق المسلمين وعظمها، وكان الآباء والأمهات ينشئون الأبناء والبنات على معرفة ورعاية حقوق العباد، ومن أعظمها: حقوق الوالدين، فكان الوالد يأخذ ولده معه إلى زيارة جده، فيجلس ذلك الوالد بين يدي أبيه -الذي هو الجد- على مرأى ومسمعٍ من ابنه، مجلاً مكرماً لأبيه، لا يتكلم بحضور أبيه، ولا يمكن أن يرد لأبيه طلباً، ولا يعيي أباه في المسألة، خادمٌ له في حاجته، قائم له في سعيه، وإذا بالابن ينظر إلى أبيه وقد صار صغيراً، وقد رآه من قبل كبيراً، وذلك لأنه أمام أبيه، فيتعلم كيف يبره في الغد، فانظروا إلى الشمائل العطرة والأخلاق الجميلة الجليلة النضرة التي كانت تتربى عليها بيوت المسلمين، وهكذا الأم كانت تأخذ بناتها الصغار إلى الجدة فتجلس بين يديها بكل إكرام وإجلال وإعظام، لتعلم بناتها كيف البر. كان الأب يأخذ أبناءه إلى الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وآل كل والقرابات، ما كان يوجد بيت من بيوت المسلمين تمر عليه أيام فيها سعة أو إجازة إلا وخرجت جموعهم في السفر للسياحات والنزهات، لا والله. بل يخرجون لصلة الأعمام والعمات وآل كل والقرابات؛ فكتبت الخطوات، ورفعت الدرجات، وتأذن الله برحمة المؤمنين والمؤمنات، يوم كانت الأمة في فقر وشدة وضعف، ولكن بارك الله لها في أرزاقها وأقواتها وأوقاتها، فقل أن تجد رجلاً مبتلى بمرضٍ في نفسيته أو في عقله أو نفسه؛ بسبب الصلة والرحمة التي رحم الله عز وجل بها الأمة. كانت الأمة كالجسد الواحد تنشئ أبناءها وبناتها على معرفة الحقوق والواجبات، والقيام بالأمانة والمسئوليات، وكذلك ينشئون الأبناء على تعظيم حقوق أخوة الإسلام، ويبتدئ هذا بالمواقف، فأول ما يبدأ الأب والأم بالجار، فينشأ الابن والبنت على تعظيم حقوق الجيران، فمن أبناء المسلمين من عاش مع أبيه عمراً طويلاً ما سمعه يوماً يسب جاره أو آذى جاره، أو اغتابه أو ذكره بسوء، ومن أبناء المسلمين من عاش مع أبيه دهراً طويلاً، لم يحتج جاره يوماً إلى أحد -بعد الله- غير أبيه، فكان الجار ينزل حاجته بأبيه على مسمع ومرأى من الابن؛ فنشأ الابن على إكرام الجيران، وأصبحت شمائل الإسلام وأخلاق الكرام مغروسة في قلوب المسلمين بالأفعال قبل الأقوال، وذلك يوم كانت معتزة بدينها متمسكة بالإسلام، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حسن التأسي بهم، وما زال الخير -والحمد لله- موجوداً في الأمة، ولا زالت بقية باقية تشفق على أبنائها وبناتها وفلذات أكبادها، فتسعى لتنشئهم على طاعة الله عز وجل.

الموعظة إذا كانت لله عظم نفعها

الموعظة إذا كانت لله عظم نفعها إن هذه المواعظ صلاح للأسر، وسعادة لها في الدنيا والآخرة، هذه المواعظ لا تكون نافعة ولا مؤثرة إلا بشرط واحد، وأساس واحد، أقام الله عليه هذا الدين كله، أقام عليه السموات والأرض، ومن أجله سيكون السؤال والحساب والعرض، وهو الإخلاص لله تبارك وتعالى. اعلم رحمك الله تعالى أنك بين موقفين إما أن ترى ابنك أخطأ فتأخذك حمية الدين أو تأخذك حمية الجاهلية، فإياك أن تضيع على نفسك الأجر، لا تقل: فضحتنا وشهّرت بنا، ولكن قل: يا بني! {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] ذكره بالله، ولتخرج الكلمة من قلبك صادقة لوجه الله جل وعلا، فكل موعظة خرجت من قلب صاحبها والله يعلم أنه يريد وجه الله نفع الله بها، وكانت مباركة وبقيت مع من سمعها وعمل بها، فالكلام إذا أُريد به وجه الله طاب، وفُتِّحت له أبواب السموات {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فالله الله في مواعظك أن تفتح لها أبواب السموات حينما تخلص لوجه الله. إذا رأيت ابنك قد أخطأ، فلتأخذك حمية الدين ولتخف عليه من رب العالمين، وتقول: يا بني! والله لو عصيت ربك فإني لا أغني لك من الله شيئاً، واذكر وأنت تقول هذه الكلمات الطيبات المباركات، اذكر رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقفٌ أمام قريش أمام قرابته وبني عمه وبناته، يقول لهم: (يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنكِ من الله شيئاً) كانت الموعظة والنصيحة لله، فالذي يعظ أبناءه لله، وتخرج كلماته خالصة من قلبه، ليس خوفاً أن يعيّبه الناس أو من الفضيحة، ولكن خوفاً من فضيحة الأشهاد، خوفاً من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوم يُفرّق فيه بين الوالد وولده، والأب وابنه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] يرى ابنه على معصية فيقول: إني أخاف من هذه المعصية اليسيرة أن تفرق بيني وبين ابني يوم القيامة، فيا بني! اتق الله، فإذا خرجت الكلمة من قلب صادق بارك الله فيها، فأبناؤك ينتظرون منك الإخلاص، وبناتك -أيتها الأم الصالحة- ينتظرن منك الإخلاص، ولذلك إذا وعظ الواعظ مخلصاً لله بارك الله في موعظته. انظر إلى ذلك المثل الذي ضربه رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أصعب المواقف وأعظمها وأشدها، جعله عبرة لعباده المؤمنين: (امرأة فقيرة محتاجة جاءت إلى ابن عمها وهو مغرم بها، يساومها على الحرام وعلى نفسها وعرضها والعياذ بالله، فلما رأى حاجتها قال لها: لا أعطيكِ حتى تمكنيني من نفسكِ -وهي ضعيفة محتاجة وفي فاقة شديدة ولكنها عفيفة مؤمنة- فلما رأت أنها مضطرة وأعيتها الحيلة، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -في هذا الحديث الصحيح- عن هذا الرجل: اللهم إنك كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها، وكنت أراودها عن نفسها فأبت حتى احتاجت يوماً من الأيام، فقلت لها: لا أعطيك حتى تمكنيني من نفسك، فلما جلست منها، وفي رواية: فلما قعدت منها مقعد الرجل من المرأة، قالت: اتق الله، ولا تفضن الخاتم إلا بحقه)، الله أكبر! موقف تنهزم فيه المرأة مهما أوتيت من قوة، ولكنها خافت ربها واتقته، وطهُرت واستسلمت لخالقها، فقالت النصيحة من كل قلبها، قالت له: (اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه) فرعدت فرائصه من خشية الله، وترك المال لها وقام. الله أكبر! ما أطيب الكلام إذا خرج لوجه الله وحده لا شريك له! ما كان لله عظُم نفعه وجلّت بركته في الدنيا والآخرة. وإذا وقف العبد بين يدي الله جل وعلا -وكان ناصحاً واعظاً- لأهله وولده- فإنه يرى أمام عينيه تلك الكلمات التي خطها ملائكة حافظون، لا يغشون ولا يكذبون، يراها كاملة أمام عينيه في يوم ينفع الصادقين صدقهم، نعم، تجد الصادقين هم المخلصون، فإذا نصحت أبناءك وبناتك، فانصحهم بقلبٍ يريد وجه الله، بقلب ليس فيه إلا الله، ليس فيه أحد سواه، وكم من آباء نصحوا أبناءهم وبناتهم المرات والكرات دون فائدة؛ لأنهم نصحوهم خوفاً من الفضيحة، ونصحوا لعادةٍ أو تقليد، ما نصحوا لله ولا في الله، ولا ابتغاء الأجر عند الله، فالله الله في هذه الأساس.

الصبر وارتباطه بالموعظة

الصبر وارتباطه بالموعظة عليك أن تعلم أن الموعظة أحب الكلام إلى الله جل وعلا، فالله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] فإذا أردت أن تعظ أسرتك المسلمة، فاعلم -أنك إذا كنت واعظاً- أن الكلام الذي تقوله هو أحب الكلام إلى الله جل وعلا، فإذا علمت أنه أحب الكلام إلى الله سبحانه وتعالى عظُم صبرك وتحمُّلك، فإذا سمعت كلمةً نابية أو رأيت صدوداً أو إعراضاً فلا تيأسن. فمهما رأينا من الفتن التي أحاطت بأبنائنا وبناتنا، ومهما سمعنا من الحوادث والملهيات والمغريات، فإنا صابرون وعلى ربنا متوكلون وإنا على الصبر مرابطون، فتوكلوا على الله، وعليك أن تكرر النصيحة والموعظة، فالله يكتب أجرها ويحب سماعها، ولن يضيع عند الله ثوابها {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] فاصبر رحمك الله ولا تيأس ولا تعجز. واعلم أن قلب ابنك موقوف على رحمة من الله يهدي بها قلبه، فاجتهد في الدعاء في سجودك وتهجدك، وفي ليلك ونهارك، وصبحك ومسائك أن يهدي الله ذريتك، أَكثر من الدعاء لأبنائك وبناتك، فمهما رأينا أو سمعنا من أبنائنا وبناتنا، فلنستعن بالله ربنا، ولنعلم علم اليقين أن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولنعلم علم اليقين أن الكلمة أو الموعظة الصادقة كمثل شجرة: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25]، فاجتهدوا -رحمكم الله- واصبروا وصابروا واعلموا أن الله سبحانه وتعالى معين لمن استعان به، ومؤيد لمن استنصر به، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمدنا بعونه وبتوفيقه، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك، وهو رب العالمين.

آثار المواعظ وثمارها

آثار المواعظ وثمارها

رضا الله والنجاة من عذابه

رضا الله والنجاة من عذابه أول آثار المواعظ: رضوان الله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد يتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً، يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، فلربما دخلت على ابنك أو ابنتك فسمعت من أحدهما كلمة نابية، فقلت له: يا بني! اتق الله، وأنت لا تلقي لها بالاً، يكتب الله لك بها رضاه إلى يوم أن تلقاه، فتذكر هذا واعلمه علم اليقين، وما أطيبه من أثر! طابت به أحوال المؤمنين والمؤمنات! ومن آثار المواعظ: أن الله يكتب لك أجرها وثوابها، ويحسن لك ذخرها في الدنيا والآخرة، ولذلك قل أن تجد والداً كثير النصح لأولاده، وقل أن تجد والدة كثيرة النصح لأولادها إلا وجدت بركة النصح في بيتهما وأهلهما وولدهما. البيوت التي تقوم على المواعظ تغشاها السكينة وتتنزل عليها الرحمة، وتجدها أصلح حالاً من كثيرٍ من البيوت. من ثمرات المواعظ: أنك إذا أدمنت النصيحة، ثم نزل -لا قدر الله- عذاب على الأمة، أنقذك الله بفضله ورحمته، ثم بدعوتك وموعظتك، لا ينجو من العذاب إلا من وعظ وأخلص، ولذلك لما قالت أمة: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] فأنجى الله الذي ينهون عن السوء في الأرض، وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. فلو حلّت عقوبة أنقذك الله منها، ولذلك البيوت التي تنتشر فيها المنكرات والمحرمات، إذا نزل العذاب على العاصي، تجده ينتشر على البيت كله والعياذ بالله، فتجد قلوباً مغلفة وآذاناً صماً، وأعيناً عمياً، نسأل الله السلامة والعافية.

صلاح المجتمع واستقامته

صلاح المجتمع واستقامته ومن آثار الموعظة: أن البيوت إذا صلحت صلح المجتمع كله، والأسر إذا صلحت واستقامت؛ صلح المجتمع كله، وبارك الله في أمة تأمر بما أمر وتنهى وتزجر عما نهى عنه وزجر، يبارك الله في الأمة كلها، ولذلك لما كانت بيوت المسلمين تقوم على هذا الخير، كانت بيوت المسلمين لا تعرف الواجبات والمحرمات فقط، بل كانت تعرف المستحبات والفضائل، أما الواجبات والمحرمات فهذه البدهيات. كان الطفل الصغير ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف حتى لربما مر على الرجل وهو يبيع في تجارته بعد الأذان، فيقول له: اتق الله وصلِّ. كانوا يعظون أبناءهم، في الكمالات لصلاح الأسر؛ لأن الواجبات فصلت، والمحرمات تركت، ما هي الكمالات؟ كانت الأسر تعظ بإكرام الضيف، ونصرة المظلوم، وإعانة المحتاج، والتضحية والإيثار، كانوا في مراتب الكمالات، ليس الواجبات أو المنهيات، كانت الأمة في هذا المكان العظيم والمنزلة الشريفة الكاملة، فعلينا أن نُصلح الأمة بصلاح الأسر، ولا تقل: من أنا؟ فلربما صلاح بيتك صلاح للأمة كلها، ولعل الله أن يوجد بيتاً في الحي، يقوم على الموعظة تتأثر به الأسر من حوله، فلربما جاءت امرأة زائرة لهذا البيت المسلم الذي قامت فيه الموعظة كما ينبغي أن تقام، فقالت: يا أم فلان: لِمَ لا تفعلين كذا وكذا؟ إن أبا فلان نهانا، وإن أبا فلان قال لنا كذا وكذا، فذكّرتها بالموعظة، فبكت وانطلقت إلى بيتها، فأخذت بحجزها عن نار الله وغضبه، فكم من خير انتشر، وكم من بر علا وظهر بفضل الله جل وعلا ثم بالموعظة لما نشرت. الموعظة خيرها عظيم وبركتها عظيمة؛ بركتها حتى في اللسان الذي يتكلم بالموعظة، ويذكر بالله عز وجل، يطيِّبك الله به حياً وميتاً، فلماذا زكى الله الأنبياء والعلماء والأخيار والأتقياء والصلحاء؟ بفضله سبحانه ثم بما قاموا به من ذكره وشكره والدعوة إليه سبحانه {وَمَنْ أَحْسَنُ} [فصلت:33] من هنا بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، فثمرات الموعظة عظيمة وآثارها جليلة كريمة.

الموعظة أجر مستمر

الموعظة أجر مستمر ومن ثمرات المواعظ: أنك ما ذكرت موعظة فسمعتها أذن وعملت بها جارحة إلا كُتب لك أجر صاحبها، وأن هذه الموعظة إذا تعلمها أحد، فعلّمها غيرك كان لك مثل أجره وأجر من اهتدى بها إلى يوم القيامة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من دعا إلى هدى، كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيء) الله أكبر! ما أعظم آثار هذه المواعظ، وما أعظم أجرها وخيرها وبركتها عند الله سبحانه! ولذلك شرف الله المواعظ حتى شرّف مجالسها، فمن خرج من بيته إلى مجلس موعظة وذِكر، وإذا خرج المؤمن من بيته إلى محاضرة ومجلس ذكر أو موعظة أو إلى خطبة يريد وجه الله، كُتبت له خطواته، ووضعت الملائكة أجنحتها له رضاً بما يصنع، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) فمن يذهب إلى المواعظ فهو طالب علم، لأنه يريد أن يعلم من هو الله، وكيف يطيع الله، ويريد أن يعلم أين سيبل الله، فكم من مذنب خطّاء كثير الخطأ جاء إلى المواعظ لكي يُدل على الله ويُهدى إليه، فبشّره الله عز وجل برحمته، فأصبح سعيداً من ذلك المجلس إلى يوم القيامة، وهذا فضلٌ من الله ومن بركات وفضائل مجالس المواعظ. ومن فضائل المواعظ: أن الله زكاها وشرفها، حتى إن العبد إذا حضر مجلس الذكر مرّ وجلس حتى ولو لم يقصد مجلس الذكر، إذا مر وجلس في مجلس الذكر؛ غفر الله له ذنوبه، وهذا فضلٌ عظيم، وخيرٌ كبير، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم خذ بنواصينا لما يُرضيك عنا، واجمعنا مع الأنبياء والشهداء والصالحين، إنك ولي ذلك، وأنت أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية استغلال المرأة المسلمة أوقات الفراغ

كيفية استغلال المرأة المسلمة أوقات الفراغ Q كيف تقضي المرأة المسلمة وقت فراغها؟ وما هي الوسائل المعينة على قضاء الوقت فيما ينفع؟ A أولاً النساء يختلفن، فالمرأة ذات الزوج ليست كالمرأة التي لا زوج لها، فالمرأة أول ما ينبغي عليها هو أن تصرف وقتها في الواجبات والفرائض والحقوق، فإذا صرفت وقتها في الحقوق والفرائض، بارك الله لها في وقتها، ثم بعد ذلك تتدرج إلى الفضائل والمستحبات، وأفضل ما تنفق فيه الأعمار ويمضي فيه الليل والنهار هو ذكر الله الواحد القهار، أفضل ما قُضيت فيه الساعات ومضت عليه اللحظات ذكر الله جل جلاله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45] {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42] فاذكري الله قائمة قاعدة بالليل والنهار، والصبح والعشي والإبكار، وتذكرينه بالقلب الحاضر. وأفضل الذكر تلاوة القرآن، ثم بعد ذلك قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خير ما قلت أنا والنبيين من قبلي، لا إله إلا الله ... ). وكذلك كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً، -أيضاً- تقضي المرأة المسلمة وقتها في فضائل الأعمال من الإحسان والبر مما يقرب إلى الله عز وجل، وأعظم ما يكون الإحسان: أن تبدأ بالإحسان إلى نفسها بتعلم العلم النافع، فتبدأ بحفظ القرآن، ومذاكرة القرآن ومذاكرته ومراجعته، وتحاول أن تجعل لها ساعات معينة تحفظ فيها شيئاً من كتاب الله عز وجل أو تقرأ شيئاً من أحكام دينها؛ في صلاتها وزكاتها وحجها وعمرتها وصيامها وغير ذلك من أمور عبادتها. كذلك عليها أن تبدأ بتعلم ما أوجب الله عز وجل عليها، فإن كانت متزوجة تعلّمت الحقوق الزوجية، وتعلمت كيف تربي أولادها، وسألت عن ذلك؛ لأن هذا ما يسميه العلماء العلم الفرض العيني، وهو العلم الذي يكون فرض عين على الإنسان، وهو أن الإنسان إذا تلبس بشيء وجب عليه أن يتعلم حكمه، فتتعلم المرأة المسلمة كل شيء فرض عليها، وتتعلم الحقوق والواجبات التي فرض الله عليها للأقربين، ثم بعد ذلك تحرص على أن تكون في أوقاتها بين أمرين: الأمر الأول: نفع دين. والأمر الثاني: نفع دنيا، فإذا لم تستنفد الوقت في هذه الفضائل، استنفدته في شيء يعود عليها بالنفع في دنياها، وبما يعود عليها بالرزق الحلال، فتتعلم صنعة طيبة تستفيد منها لها ولأبنائها فتعف به نفسها عن الحرام، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن نبي الله موسى آجر نفسه عشر حجج على عفة فرجه وطُعمة بطنه) صلوات الله وسلامه عليه، فالمرأة تعف نفسها بالطعمة الحلال، فتتعلم حتى كل شيء يختص بالنساء من حياكة وغزل، ونحو ذلك؛ لتكون صنعة في يدها، تنفع بها نفسها وأولادها، فالمهم نفع الدين والدنيا، فالوقت إما أن يقضى في نفع ديني أو نفع دنيوي، فهذا هو الذي ينبغي على المرأة المسلمة أن تحرص عليه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في أعمارنا وأقوالنا وأفعالنا، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.

أخذ الناس بالظاهر والله يتولى السرائر

أخذ الناس بالظاهر والله يتولى السرائر Q رجل يشك في زوجته أنها لا تصلي، ولكن عندما يسألها تحلف له أنها تصلي عندما يذهب إلى المسجد، فهل برئت بذلك أم لا؟ A قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أكل سرائرهم إلى الله) فإذا رأيت زوجتك تتوضأ وظهرت عليها آثار الصلاة ولم تر شيئاً يناقض هذا الأصل فلا يجوز الشك، وينبغي على المسلم أن يعلم أن هناك عدواً خفياً، وهو الشيطان الرجيم، الذي قعد للبيت المسلم ليفرق شمله، ويشكِّكُك في كل شيء حتى في أقرب الناس إليك، حتى في فلذة كبدك من أبنائك وبناتك: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] هذا من النزغ في القلوب، فاستعذ بالله عز وجل إذا جاءك الشيطان وشكَّكَك بأنها فعلت معصية أو تركت واجباً، فأنت تعظها وتقول لها: يا فلانة! هل صليت؟ تقول: نعم، ممكن أن تأخذ ببعض الأمارات والعلامات وتعمل بها، فإذا عملت بذلك فقد برئت ذمتك، أما إذا وضحت الدلائل، فالصلاة لها نور في الوجه، والمصلون لهم نور في وجوههم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصلاة نور) ونورها لا يخفى، ولذلك كل إنسان مع زوجته يعرف حالها وهي في الحيض، وحالها إذا كانت تصلي، فوجهها في الصلاة غير وجهها في الحيض، وهذا معلوم ويدركه كل إنسان عنده فراسة، وعموماً إذا ظهرت واجتمعت القرائن على صلاتها لا يجوز الشك، فالشك لا خير فيه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث) والله تعالى أعلم.

دور الأمة عند فقد علمائها

دور الأمة عند فقد علمائها Q إن ذهاب العلماء ثُلمة في هذا الدين، فما هو توجيهكم لطلاب العلم تجاه هذا الموقف حتى تسد ثغرات هذا الدين؟ A إلى الله المشتكى، إي ورب الكعبة، ثُلمة في الدين ومصيبة في قلوب المؤمنين، لا يجبُر كسرَها إلا الله رب العالمين، العلماء أئمة الدين، الهداة المهتدون، جعل الله بقاءهم رحمة، وقبضهم إليه نقمة وعذاباً على العباد، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من علامات الساعة: (قبض العلماء)، يا لله كم من أمة أحبت ربها وأحبها ربها بسببهم، يا لله كم من أمة زكت وصلحت وأصلح الله بها بسببهم! يا لله كم من ضال -بإذن الله هدوه- وكم من تائه أرشدوه! وكم من غاوٍ دلوه! وكم من حائر أخذوا بحجزه إلى صراط الله! فقدت الأمة علماءها، وأصبحت في غربة في كثير من مسائل دينها، وكان من أعظم ما بلينا به ونشتكي إلى الله مصابه، فقد عالم الأمة وإمامها سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلف أهله في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم افسح له في قبره ونور له فيه. يبكيه طالب علم كان علّمه وتائه عن سبيل الرشد أرشده نبكي عليه جميعاً إن مفقده لم يبق من مسلم إلا وأجهده سحت على ذلك العبد الرضا ديم من الرضا وأنار الله مرقده رحمه الله برحمته الواسعة، وأنار قبره بأنواره الساطعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير الجزاء، وفقدت الأمة كذلك العالم الحجة والإمام الصالح: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة، وأنار قبره ونور مضجعه، وجزاه عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير الجزاء، فكم بين للأمة حديث رسولها صلى الله عليه وآله وسلم، وكم سهرت عيناه وخطت يداه -جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- كي يبين للأمة الهدى من الضلال، والحق من الباطل، أسأل الله العظيم أن يُعظم أجره وأن يجزل مثوبته، وأن يلحقنا به غير خزايا ولا مفتونين، ونسأل الله العظيم أن يبارك لنا فيما بقي من علمائنا، وأن يعظم نفعهم، وسلوتنا وجود العلماء الذين نسأل الله أن يبارك في علمهم وأن يبارك في جهودهم وفي طلابهم، وأن يُعظم الأجر لهم في الدنيا والآخرة. أيها الأحبة في الله! فقد العلماء ثلمة في الدين، ولذلك ينتشر الجهل والبلاء ويعم الفساد في الأمة إذا فقدت علماءها، والعالم الصالح الورع هو الذي ورث العلم عن أهله واتصل سنده إلى رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، فنقصد مشكاة من مشكاة النبوة وعلماً من أعلام الدين، فالإنسان تنزل به النازلة في ظلمة الليل في أهله وزوجه لا يدري زوجته حلالٌ أم حرام، وتنزل به النازلة في متجره وسوقه لا يدري أكان المال حلالاً أم حراماً، وتنزل به النازلة وليس لها إلا الله ثم العلماء، ولا يعلم قدر ما يقدمه العلماء للأمة إلا الله وحده لا شريك له، فهو الذي يجزيهم ويتولى ثوابهم سبحانه، وهو الذي يعلم كم سهروا من أجل أن يحلوا المعضلات ويزيلوا اللبس والمشكلات، وهو الذي يعلم كم جاهدوا وجالدوا وصبروا واصطبروا؛ ولذلك قذف في قلوب العباد حبهم، وأورثهم المحبة التي ينفق الناس من أجلها الملايين من أجل أن يكتسبوها ولم يستطيعوا إليها سبيلاً، ولكن مقلب القلوب والأبصار أورث العلماء محبة الناس لعظيم حبه سبحانه لهم، فالله إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، فأهل العلم هم أحباب الله وأولياؤه وصفوته من خلقه. وأما وصيتي: أولاً: أن نحفظ حق العلماء الذين قُبضوا وأن نكثر من الترحم عليهم، ونذكر حسناتهم، ونكف عن سيئاتهم وعوراتهم، لا نذكرهم إلا بالجميل، فمن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. ثانياً: الحرص على نشر علمهم وفتاويهم، وما بلغوه للأمة، فهذا من أعظم الوفاء وخاصة على طلاب العلم. ثالثاً: على طلاب العلم أن يجدّوا ويجتهدوا وأن يتداركوا من بقي من علماء الأمة، وأن يحرصوا على طلب العلم عليهم، وأن يصبروا في ذلك ويصابروا، ويحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجبر كسرنا وكسركم، وأن يعظم الأجر لنا ولكم وللمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

نشوز المرأة وعلاجه

نشوز المرأة وعلاجه Q كيف يكون وعظ المرأة الناشز على زوجها؟ A المرأة لا يجوز لها أن تنشز على زوجها، والنشوز هو: الشيء المرتفع، العرب تقول: أرض ناشز، إذا كانت مرتفعة، كالهضبة ونحوها، فالمرأة في الأصل تحت الرجل، هذه حقيقة لا يستطيع أحد أن يكابر فيها؛ لأن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، فشرفه بهذا الشرف ثم خلق منه حواء، وقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] هذه حقيقة ينبغي للمرأة المؤمنة أن تُسلم بها تسليماً، وألا يغرها هذه الدعاوى المغرضة لأعداء الإسلام أن المرأة والرجل سواء، هذه حقيقة ينبغي أن تعيها وتكون على بينة؛ لأنها نصوص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واضحة جلية. قال عليه الصلاة والسلام: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها؛ قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت) فالمرأة الصالحة تدرك هذا، والحمد لله أن نساء المؤمنين يدركن هذا، ولا ينطلي عليهن ما يروجه أعداء الإسلام من مثل هذا، فالنشوز يأتي بسبب الدعاوى المغرضة من أعداء الإسلام لإغراء المرأة أن تكون متمردة على زوجها، وهذا من أسوأ ما وقع في المجتمع الإسلامي، بل في المجتمعات كلها، ولذلك ما صلحت الأسرة المسلمة إلا بهذه الحقيقة، أن تكون المرأة مع زوجها معينة له على كل خير وبر، فقد قادت الأمة العالم من المحيط إلى المحيط لما كانت المرأة مع زوجها كأكمل ما تكون المرأة مع بعلها، تحسن له التبعل، وتحسن له السمع والطاعة، وتحسن له القيام على ولده، وتحفظه في غيبته، فكانت الأمة بخير حال. فلذلك النشوز شر وبلاء، ولخطر النشوز ذكره الله في كتابه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34]، المرأة تنشز عن زوجها بصور؛ إما أن تنشز في القول أو في الفعل، النشوز بالقول: ترفع صوتها عليه أو تخاصمه، وبدل أن يأمرها تأمره، بدل أن ينهاها هي التي تنهاه، يقول لها مثلاً: اخرجي من هنا، فتقول: اخرج من هنا أنت، تنشز بالفعل، يقول لها: هذا ضعيه هنا فتضعه في مكان آخر، هذا كله من النشوز، وقد تحدث حركات تدل على التهكم والاستخفاف، فإن فعلت ذلك واسترجلت على بعلها وعصت ربها؛ لُعنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لعن الله المترجلات من النساء). فالمرأة الصالحة المؤمنة التقية النقية تراقب الله في حق بعلها، وأمور الأمة سائرة على هذا الأصل، ولا تظن المرأة أن هذا عيب أو نقص لا والله، بل كمال؛ لأن الله فضّل من فضّل، وجعل في المرأة ضعفاً وهو كمالٌ فيها، فهذا الضعف يحتاج إلى قوة، وهذه القوة هي التي تكون عليك، وهذه فطرة الله، لا تبديل لخلق الله، فإن نشزت المرأة خرجت على الفطرة وخالفتها وأصبحت هي التي تأمر وتنهى، والله يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]. ونشوز المرأة قد يكون داخل البيت وقد يكون خارجه، فيكون داخل البيت بتغيير أمور ما أذن الزوج بتغييرها، أمرها زوجها في داخل بيتها بأمور -كما ذكرنا- فتخالفه وتعصيه، ويكون خارج البيت بالخروج من دون إذنه، وأيما امرأة خرجت من بيتها من غير إذن زوجها فقد نشزت وعصت، فإذا كان رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم يبين حق الرجل في الإذن للمرأة بالخروج من بيته، فقد ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد، فلا يمنعها)، فإذا أرادت أن تخرج إلى الصلاة فلا تخرج إلا بإذن زوجها، فكيف بما سوى الصلاة؟ هذا يدل دلالة واضحة على أن المرأة تقر في البيت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] فالأصل أن المرأة لا تنشز عن زوجها ولا تعصي بعلها. فإذا نشزت جعل الله عز وجل علاجاً لذلك: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ثلاثة حلول: أولاً: الموعظة، تقول لها: يا فلانة! اتقي الله، واعلمي أنك قد عصيت ربك، يا أم فلان! إن الله عظم حقي عليك، يا أم فلان ما هكذا تكون الزوجة، فيعظها ويذكرها بالله عز وجل ويخوفها من عقوبة الله العاجلة والآجلة، فإذا ذكّرها ووعظها المرة والمرتين والثلاث، فإنه يعظها بالقول المؤثر؛ لأن الإسلام فيه ترغيب وترهيب، الموعظة بالترغيب يقول لها: أنت أكمل من أن تكوني بهذه الحالة، كنت جميلة بعيني وأنت مطيعة، فكيف تغير حالك اليوم، ولا يقول لها: لست جميلة أو يذمها، يقول: والله إني أرى فيك اختلافاً، فأنت قد أحسنت بالأمس وكنت على كمال وإكرام! ما أجملك -بالأمس- وأنت مطيعة! فالمرأة تغار، فيحرك فيها المحبة بأكثر من أسلوب، فيبدأ بالأسلوب الأخف فالأخف، لأن أئمة الإسلام قرروا قاعدة أنه لا يجوز استخدام العقوبة الأعلى مع وجود ما هو أخف منها، والله عز وجل دل على هذا: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34]. بعض النساء يؤثر فيهن المدح، يقول لها: ما شاء الله كنتِ بالأمس من أحسن وأكمل النساء في نظري! -والمرأة من أحسن النساء في نظر زوجها؛ لأنه ما عنده غيرها- فتقول له: واليوم؟ فيقول: أنت أدرى. هذا جواب واضح، وعتاب وتوبيخ مضمّن، وهذا أسلوب من أكمل الأساليب، فالإنسان الحكيم العاقل، يحاول ألا يصل إلى الوعظ بالذبح، بل يكون وعظه مهذباً كاملاً، كما ذكرنا في صفات الواعظ، فبدأ الله بالموعظة، ثم ذكر بعد ذلك الهجر في المضجع، ثم إذا أعيت الحيلة يضربها ضرباً غير مبرح، ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يعنف تعنيفاً يؤذيها، وإنما يضربها الضرب الذي يؤثر في مثلها، ويردعها عن غيها وخطئها، والله تعالى أعلم.

خطوات في دعوة الأسرة

خطوات في دعوة الأسرة Q فضيلة الشيخ! ما هو دور الابن تجاه إعراض الأسرة أو أحد أفرادها عن دعوته إلى الله سبحانه وتعالى؟ A إن الموعظة قد تكون من الابن لوالديه، وتكون منه لإخوانه وأخواته، والواجب عليه أن يترسّم النهج الذي ذكرناه، يبتدئ أولاً: بالإخلاص لله عز وجل. ثانياً: يتعلم العلم النافع، ويسأل العلماء ما الذي يأمرهم به، وما الذي يبدأ به، ويبين لهم بعض الأخطاء الموجودة، ولا يقول: أبي يفعل وأمي تفعل، حتى لا يغتاب أباه أو أمه، بل يقول: هناك شاب له أب يفعل كذا وكذا، وهناك والد يفعل كذا وكذا، فيكون ذكياً حتى في سؤاله، حافظاً لحرمة والديه، لا يكشف ستر الله على أهله وأسرته. ثالثاً: بعد تعلمه عن طريق العلماء وجلوسه في حلق الذكر وبعد علمه ما الذي ينبغي أن يبتدئ به؟ ينبغي أن يعلم أن الحق أكبر من كل أحد، وأن الله سبحانه وتعالى أمره إذا علم أن يُعلم غيره، فلا تأخذه هيبة الوالد والوالدة، فالحق أكبر وأعظم، وينبغي عليه أن يكون جريئاً على طاعة الله، ولكن مع الأدب، فإن إبراهيم يقول لأبيه: يا أبت ناداه بالأبوة، ما قال: يا فلان، وإنما ناداه بالأبوة اعترافاً بالفضل وبالجميل، والله يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] (إن جاهداك) أي: كانوا في جهاد من أجل إغوائك، ومع ذلك يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فينبغي على الابن أن يبدأ بنصيحته ولا يتهيب. رابعاً: ينظر أقرب الأسرة إلى الخير، فبعض الأحيان تكون الأسرة عاصية ولكن قد يكون الأب والأم أقربها قلباً، وقد تكون الأخت أو الأخ، فيبدأ بأقربهم إلى الخير، ولا ينصحه أمام الغير، وإنما ينصحه على خلوة وانفراد ويعظه ويذكره بالله عز وجل، سواءً كان تذكيراً مباشراً، أو تذكيراً بواسطة شريط مؤثر أو موعظة بليغة ونحو ذلك مما يعين الله عز وجل ويبارك فيه. وعليه -أيضاً- أن يحرص كل الحرص على عدم تنفير أهله وإخوانه؛ لأن الأقربين لهم حق عظيم، وأفضل ما تكون الموعظة موعظة الأقربين، وأعظم أجر وثواب للداعية إلى الله هو الداعي لأهله، ولذلك قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فالنصيحة والموعظة والدعوة إلى الله في الأقربين أعظم أجراً عند الله سبحانه وتعالى من غيرهم، وواجب عليه أن يحتسب عند الله عز وجل الأجر، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل. خامساً: مسألة القدوة، الابن الذي يأتي ويجلس بين يدي أبيه فيشعره بأنه أب وهو أولى بالتقدير، ويكون أحسن الأبناء في البيت براً وإحساناً، ربما يغير البيت بفعله قبل أن يغيره بقوله، كم من أب رأى ابنه تغير في تصرفاته واحترامه وإجلاله وتقديره، فقال له في يوم من الأيام: يا بني! ما الذي غيرك بهذا الشكل؟ فيجيب: يا أبت! جلست في مجلس الشيخ فلان فأثّر فيَّ، فقال له: اذهب بي إلى فلان، فهدى الابن أباه بدون أن يتكلم وأخذ بحجزه عن النار دون أن يعظ، وهذا كله من توفيق الله عز وجل للابن الصالح الموفّق الذي يؤدي حق والديه كاملاً، وحقوق إخوانه وأخواته أيضاً، ويظهر لهم التزامه وطاعته وهدايته، فيبدأ بالبشاشة والمودة والمحبة والهدية وتأليف قلوبهم للخير، فهذا هو الذي ينفع الله بدعوته، وتأتي الموعظة في آخر شيء فتكسر الأقفال وتلك القيود المغلقة والآذان الصماء حتى يفتح الله عز وجل ويتأذن برحمته وهو أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم.

درجات إنكار المنكر

درجات إنكار المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فرضه الله؛ لكن لابد لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يتحلى بصفات، منها: الإخلاص لله تعالى دون ما سواه، واستشعار الأجر من الله، وأن يكون قدوة في القول والعمل، ولابد للداعية من شيءٍ مهم، ألا وهو التحمل والصبر على ما يجده من الناس في سبيل الدعوة إلى الله. ولإنكار المنكر شروط ومراتب يجب مراعاتها، والإتيان بها وفق ما بينها الشارع، والأخذ بمراتبها حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة؛ حتى تتحقق المصلحة المرجوة من هذا الإنكار، وتقام الحجة.

وصايا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر

وصايا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وفي بداية هذا اللقاء أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي فضيلة الشيخ كل خير, فإنه كان له الفضل بعد الله عز وجل في تيسيره والدعوة إليه, وأسأله تعالى أن يشكر سعيكم وأن يعظم أجركم وأن يجزل لنا ولكم المثوبة وأن يجمعنا جميعاً في دار كرامته. أيها الأحبة في الله:

الاهتمام بقضية القدوة الصالحة

الاهتمام بقضية القدوة الصالحة وقبل أن نخوض في كيفية قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن نركز على أمر ثالث مهم جداً لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر, هذا الأمر هو: القدوة الصالحة. فالإنسان إذا أراد أن يأمر بما أمر الله به, وأن ينهى عما نهى الله عنه, ينبغي أن يخاف ويخشى أن يمقته الله جل جلاله, وأن يجعله ممن -والعياذ بالله- يأمرون ولا يأتمرون, وينهون فيفعلون ما ينهون عنه -نسأل الله السلامة والعافية- أولئك الذين سمّى الله وحذر عباده منهم، فقال سبحانه وتعالى يعتب على بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أليس لديكم عقول تعقلكم وتحبسكم عن هذا الأمر الذي هو ضرب من الغي والهوى والضلال؟ نسأل الله السلامة والعافية. لا يمكن للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يضع الله له القبول في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حتى يكون قدوة, وهذه القدوة ظاهرة بينك وبين الناس, إذا أحب الناس العبد هابوه, والهيبة بالمحبة لها أثر في السلوك والتقويم والتوجيه. ولذلك لما بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام كمل أخلاقه وجمل آدابه وانعقدت القلوب على حبه, والشهادة له بالخير والصلاح والقدوة الحسنة, فكان يسمى بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. فإذا أراد الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فينبغي أن تظهر شمائل الإسلام وآدابه وأخلاقه ورحمته وفضله وبره وجميع ما فيه من خير من خلال أقواله وأفعاله وسلوكه وتصرفاته, فإذ سمع الناس كلام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر, فإنهم أول ما ينظرون إلى أخلاقه وأفعاله وآدابه, فإن وجد التوافق بين القول والفعل أحبوه وهابوه, ووقع ذلك الكلام موقعاً بليغاً في النفوس, ليست القضية أن نتكلم ولكن القضية أن نكون دعاة ونحن صامتون, قال بعض السلف من الأئمة رحمة الله عليهم وكان من العلماء العاملين، قال لطلابه يوماً من الأيام: ادعوا الناس وأنتم صامتون, قالوا: كيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: تأدبوا بآداب الإسلام, وتخلقوا بأخلاقه، وادعوا الناس بأفعالكم قبل أن تدعوهم بأقوالكم. الرجل الكامل المهذَّب الفاضل، الذي إذا رأيته كأنما ترى أخلاق الإسلام وآدابه إذا سمعته أو تفقدت أحواله كأنك تذكر سنة النبي صلى الله عليه وسلم, تظهر من خلال الأقوال والأفعال والسلوك والتصرفات، وتجده في مجتمعه محبوباً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم محبوباً لا تنفر القلوب منه, ولا تمله ولا تسأمه, ومن رآه أحبه, إذا قابل الناس يقابلهم بالبشر والسرور، قال جرير بن عبد الله: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي) , فالرجل إذا كانت آداب الإسلام في وجهه وأخلاقه وأفعاله أَثَّرَ, قال أنس رضي الله عنه وهو صبي صغير يقوم على شأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ولقد خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما لمست حريراً ولا ديباجاً ألين من كفه صلى الله عليه وسلم, ولا قال لي يوماً قط: أف). انظروا! هذا بالنسبة لصغار الناس ما قال له قط: أف، وهو أنس وناهيك عن أبي حمزة رضي الله عنه وأرضاه فضلاً ونبلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأما بالنسبة لـ جرير فمن كبارهم, وأما بالنسبة لأهله وزوجه تقول عائشة رضي الله عنها: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً وضع بين يديه) , ما كان يتكلم ولا يجرح المشاعر من كمال أدبه وأخلاقه وشمائله بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه. الإسلام والدعوة بالأعمال والأخلاق والآداب, الرجل إذا رأى شمائل الإسلام من خلال الأقوال والأفعال تأثر, بعض الناس يدعو ولو لم يتكلم, فالناس فيهم فطرة، وهذه الفطرة جبلوا فيها على حب الخير والقرب منه وتعظيم صاحبه, وعلى كراهية الشر والنفرة منه واحتقار صاحبه -مهما كان- مهما رأيت لأهل الشر من تعظيم فإنه في الظاهر, وأما في القلوب أو عن قناعة فلا, ومهما رأيت من خير فاعلم أن في الباطن تعظيمه وحبه؛ لأنها فطرة الله التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير, ولن تجد لها تحويلاً ولا تبديلاً. فالقلوب تنتظر قبل الكلمة الفعل, فليحرص الإنسان على تطبيق شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه وأخلاقه, فالسنة أصبحت اليوم غريبة بين الناس, حتى أصبحت غريبة بين الأخيار فضلاً عن غيرهم, فالناس إذا رأوا من هذا الداعية الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شمائل الإسلام, أحسوا عندما ينهاهم أنَّ وراء هذه الكلمات ووراء هذا التوجيه قلباً يخاف الله جل جلاله, وأن وراء هذه الكلمات ووراء هذا التوجيه حب الخير, وليس المراد به الشماتة والاحتقار والانتقاص والغفلة عن الذات والنفس, {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] فلا يوفق إلا الله سبحانه وتعالى. إذاً لا بد من أن نقدم بالقدوة الحسنة التي فيها التأثير, ويكون لها عمق الأثر في النفوس.

الصبر والتحمل

الصبر والتحمل الأمر الرابع: أن نهيئ أنفسنا للدعوة إلى الله, وتهيئة النفوس للدعوة إلى الله عز وجل تدور حول نقطة مهمة من أهم النقاط وهي: الصبر والتحمل, فإنك تقوم برسالة عظيمة وأمانة جليلة جسيمة تحتاج إلى صبر, ولذلك قال الله لنبيه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]. الإسلام بشمائله وآدابه ومعاملاته وعباداته ثقيل, قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] وقال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] يحتاج الأمر إلى صبر وإلى جلد. أقوى وأعظم صبر هو صبر النفوس الذي يكون بتمالك النفس عند الغضب, وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) فلا بد من الصبر والتحمل الذي أشار إليه لقمان وهو يوصي ابنه: {أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] أي: اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وراءه التعب والعناء والنصب, يكون التعب نفسياً؛ لأنك تتحمل هم الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, مثلاً: لو كان في نطاق حيك أو مسئوليتك منكر فإنك ستحمل همين: أولاً: جمع النصوص والأدلة التي اعتنت بمعالجة هذا المنكر, فتتأملها وتنظرها وتبحث فيها، فهذا همٌ يحتاج إلى صبر على العلم والبصيرة التي تأمر بها وتنهى. ثانياً: تحمل هم المواجهة: كيف تواجه؟ كيف تتكلم؟ كيف تقف في وجه الإنسان؟ ولذلك سأل موسى عليه السلام ربه أن يثبت قلبه لهمّ المواجهة، ولذلك قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] فلا نستطيع أن نفعل شيئاً إلا بالله جل جلاله، قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28] , فإذاً لا بد للإنسان أن يتحمل هذا الهم. بعد ذلك تأتي النتائج والآثار للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فيأتيك السفيه بسفهه, والإنسان الغوي بغيه وفجوره, ويأتيك الناس على اختلاف طبقاتهم, وعلى اختلاف منازلهم في مجابهة الخير وكراهيته، والتنفير منه وسوء الظن بأهله, وهذا يحتاج إلى صبر, ونفس قوية وشكيمة وعزيمة.

الإخلاص شرط العبادة وأساسها

الإخلاص شرط العبادة وأساسها هناك أمر هو أهم الأمور، به تطمئن القلوب وتنشرح الصدور, هو أساس الدين ووصية الله للخليقة أجمعين, هذا الأمر جعله الله قاعدة الفلاح ومنبع الخير والإصلاح, ما هدى الله قلب عبد إليه إلا سدده ووفقه, وأرشده ويسر له, هذا الأمر هو الإخلاص لله جل جلاله, فاتحة الأمور وأساس كل خير, قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليخلصوا له وليوحدوه سبحانه وتعالى. الإخلاص الذي جعل الله فيه السعادة والنجاة والخلاص, اختار الله منا قلوبنا فلن ينظر إلى ألواننا وأحسابنا وأنسابنا ولكن إلى قلوبنا وأعمالنا, من تكلم وعمل لله أسعده ووفقه وسدده وثبته, وهي وصية الله للأولين والآخرين, التي عليها مدار كل خير, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه. أول ما ينبغي أن نتواصى به جميعاً وأن يشد بعضنا من أزر بعض فيه؛ تصفية القلوب لله جل جلاله, الداعية المخلص لله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لله في قوله فتح الله له القلوب, وشرح الله له الصدور، وأصبحت كلماته ومواعظه وتوجيهاته وأوامره ونواهيه كالغيث لتلك القلوب, يحيي الله عز وجل به تلك القلوب بما نظر من إخلاصه وإرادة وجهه العظيم, قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال الرجل بخير إذا قال قال لله, وإذا عمل عمل لله] وقال بعض السلف: كم من عمل قليل كثرته النية. الإخلاص خير وبركة ورحمة وهدى, إذا نظر الله إليك وأنت تأمر واطلع على قلبك فلم يجد فيه شيئاً سواه جل جلاله, بارك في هذا الكلام, وتلقته الملائكة في صحيفة عملك؛ لكي تراه خالصاً لوجهه الكريم، في {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11] {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] هل أرادت وجه الله، أو أرادت أي شيء سواه؟ الإخلاص هو الوصية الأولى التي لا تملها أذن مؤمن ولا يسأم منها عبدٌ صالح, ونحتاج دائماً أن نتواصى بهذا الأمر العظيم, نحتاج دائماً أن نكون مخلصين، فبمجرد أن تخرج من بيتك تخرج وليس في قلبك إلا ابتغاء وجه الله, وبمجرد أن تقعد في عملك تقعد وليس في قلبك إلا رجاء رضا الله, وإذا تكلمت جعلت الله نصب عينيك, وإذا عملت جعلت الله نصب عينيك, فيشرح صدرك وييسر أمرك {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] كم فتح الله بالإخلاص من القلوب! وكم أنار به من مناهج ودروب! كل ذلك بالإخلاص, ولما أخلص الأئمة والسلف الصالح جعل الله الخير في كلامهم ومواعظهم وأوامرهم ونواهيهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بالإخلاص لوجهه الكريم. أيها الأحبة في الله: إنه والله لشرف عظيم, أيُّ أمانة حملتموها؟ وأي مسئولية قُلدتموها؟ حينما حملتم هذه الرسالة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, هذه الرسالة التي تولى الله أمرها من فوق سبع سماوات, فأمر سبحانه بالمعروف ونهى عن المنكر, فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة على الله بعد هؤلاء الرسل, ولكي تقوم عليهم الحجة وتنقطع عنهم المعذرة, تولاها الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين, كانوا حملة النور؛ اطمأنت بهم القلوب وانشرحت بهم الصدور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كانوا يأمرون بما أمر الله به, وينهون عما نهى الله عنه, فرفع الله ذكرهم وأعز شأنهم وأبقى في القلوب حبهم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من أهم الأمور وأعظمها في قلوب الأخيار والصالحين, فكما أنه رسالة الكتاب والسنة التي اعتنى بها رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، فقد اعتنى بها العلماء والحكماء والأخيار والصلحاء, وإذا أردت أن تنظر إلى مقام الإنسان في دين الله عز وجل ومقدار تعظيمه لله سبحانه وتعالى فانظر إليه في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأنه إذا عظم الله في قلبه عظم أمره ونهيه, فكان وجهه يتمعر لله سبحانه وتعالى إذا انتهكت حرماته, وكان لسانه ينطلق بالتذكير والموعظة والتوجيه والإرشاد والدلالة على الله سبحانه وتعالى؛ لعظيم شعوره بعظمة الله سبحانه وتعالى وعظيم حقه جل جلاله. ولذلك وصَّى لقمان ابنه فقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فأمره أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر, فهي الرسالة السامية والمرتبة الشريفة الكاملة العالية، التي ينال الإنسان بها الفلاح، قال سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. فشهد الله أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أنه مفلح، وإذا شهد الله لعبد أنه مفلح فهو المفلح, فلا أصدق من الله حديثاً ولا قيلاً. الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مرحوم في رحمة الله, متى ما تكلمت بما أمر الله به ومتى ما نهيت عما نهى الله عنه, فأنت تخوض في رحمة الله سبحانه وتعالى, قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] أي: لما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فإني سأرحمهم, ولذلك تجد الإنسان كلما أقام حجة الله على عباده أصابته الرحمة, وجعل الله عز وجل في قلبه من الطمأنينة والثبات واليقين، ولا يزال المبلغ لرسالة الله الآمر بما أمر الله الناهي عما نهى الله عنه لا يزال له من الله معين وظهير متى ما كان مخلصاً لوجه الله سبحانه وتعالى. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجاة من الخسارة: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإْنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. فلذلك -أيها الأحبة في الله- نحمد الله من كل قلوبنا, ونشكره على عظيم فضله علينا حينما يسر لنا وسهل لنا أن نبلغ رسالته, وأن نقيم حجته, وإنه لمن دلائل حب الله للعبد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أن يضع له القبول في الأرض, فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا أخلص لوجه الله عز وجل، وعلم الله من قلبه أنه يريد وجهه ويريد ما عنده؛ فتح له أبواب الخير, ويسر له الدعوة، ووضع له القبول في الأرض, ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه). أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا ذلك الرجل. تصور! لو أنه نودي في السماء: إني أحب فلاناً باسمك، أليس هذا شرفاً عظيماً ومقاماً كريماً؟ قال: (فيحبه جبريل، ثم ينادي: يا أهل السماء إن الله يحب فلاناً -باسمه- فأحبوه, فيحبه أهل السماء، قال صلى الله عليه وسلم: ثم يوضع له القبول في الأرض).

استشعار فضل مقام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر

استشعار فضل مقام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الوصية الثانية بعد الإخلاص الذي كان حديثنا عنه في النقاط الماضية: أن نستشعر فضل هذه الرسالة وفضل هذا المقام, فنحن إذا أخلصنا لوجه الله وشعرنا بأن الله نفحنا برحمته, ووهبنا نعمته, أجللنا هذه النعمة وأحسسنا بعظيم فضلها, فشعر الإنسان أن عليه واجباً لله سبحانه وتعالى, وعندها يستطيع أن يقوم بهذه الأمانة على أتم وجوهها.

دعامتا الصبر

دعامتا الصبر ثم إذا يسَّر الله عز وجل للإنسان الصبر فإنه يحتاج إلى أمر مهم يقوي قلبه على الصبر, هذا الأمر يتلخص في نقطتين: الأولى: عاجل ما أعد الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من حسن العاقبة. والثانية: ما ينتظرك عند الله جل جلاله, فلربما أنك هذا اليوم تهان وتسب وتشتم فتغيب عليك الشمس وقد كتب في صحيفة عملك: يوماً من الأيام أوذيت فيه في الله.

عاجل ما أعد الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من حسن العاقبة

عاجل ما أعد الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من حسن العاقبة أما أمر الدنيا فإن الله تكفل لك بالعاقبة, لن يقف أحد يبلغ رسالة الله جل جلاله فيؤذى ويهان إلا جعل الله عاقبته أفضل العواقب, وأسماها وأشرفها، ولو احتقره الناس, ويظهر ذلك جلياً من قوله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] يعني: لا تنظر إلى حالك الآن، ضع النظرة إلى الغد، ولا تنظر إلى حالك فإن النبي صلى الله عليه وسلم سُمي الساحر والأفَّاك والأبتر والصابئ، ومات وهو سيد الأولين والآخرين, واسمه صلى الله عليه وسلم يقرن بالنداء: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] , ليس المهم أن تهان الآن, وليس المهم أن يسخر منك الرجل اليوم, ولكن الأهم ما هي العاقبة؟ ما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة؟ أذكر حادثةً لطيفةً يقول فيها عروة بن الزبير رحمة الله عليه -هذا الإمام العظيم من أئمة السلف- كلمة تنبه على هذه النقطة: [والله ما من عبد يقف موقفاً لله فيهان فيه، إلاَّ أوقفه الله موقفاً أعز منه وأكرم] وتوضيح ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فريد في قلة وضعف من أصحابه, والرسالة أيامها سرية، والدعوة سرية، فجاءه أمر الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] , فوقف عليه الصلاة والسلام على الصفا فنادى في قريش فعمم وخصص أي: نادى بطون قريش كلها, فجاءت بطون قريش بقضها وقضيضها ووقفت بين يديه, فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن قال كلمته المشهورة: (قولوا: لا إله إلا الله) هذه الكلمة التي قامت عليها السماوات والأرض، ومن أجلها سيكون الحساب والسؤال والعرض, هذه الكلمة العظيمة التي من أجلها خلقوا ومن أجلها بعثوا، لما قالها لهم كان جواب أبي لهب عليه لعنة الله أن قال له على رءوس الأشهاد: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ تصوروا -أيها الأحبة في الله- النبي صلى الله عليه وسلم على رءوس الناس, ثم يقول له على رءوس الملأ: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ وهو عمه, وحينما تأتي الأذية من قريب لك تكون الأذية صعبة جداً, فظلم ذوي القربى أشد من ظلم الأبعدين؛ لأن القريب لا تستطيع أذيته؛ لأنك إن آذيته كأنما آذيت نفسك, فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟! فاحتقره وسفهه وآذاه. ثم تمضي الأيام وتتابع السنون والأعوام، فيوقف الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام على الصفا -التي بالأمس شتم عليها وأهين- ومعه مائة ألف من أمته وأصحابه، كلهم يقول: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رده الله إلى مكة عزيزاً كريماً رفيع الذكر, يقول أنس: [أنظر أمامي فإذا الناس مد البصر, وأنظر وراءي فإذا الناس مد البصر, كلهم يقولون: ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟] ولذلك لما رقى على الصفا كأنه ذكر ذلك اليوم الذي كُذِّب فيه على الصفا فكان أول ما رقى عليها قال: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده) عظمت عنده، فالعاقبة من الله مضمونة, فالذي يقوم برسالة الله ويؤدي حجة الله على العباد، مهما جاءه من المهانة والمذلة فمهانته كرامة, ومذلتة معزة, لا تنظر إلى كلام الناس واحتقارهم وأذيتهم ولكن انظر إلى عاقبتك عند الله جل جلاله. فهذا فيما يكون في الدنيا, ولذلك كلما وجدت الإنسان يقوم لله بحجته ويبلغ لله عز وجل عظيم رسالته، وجدت الله عز وجل يضع في قلوب العباد حبه والهيبة منه والقبول له، ووجدته في أسمى المنازل, الناس تشتري السمعة بالأموال, ولكن العلماء والدعاة إلى الله والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر نشر الله ذكرهم, وأبقى في العباد حبهم بما قدموا لله جل جلاله من صالح القول والعمل. لا تنظر إلى كلام الناس ولا يهمك أن يتكلم من تكلم, فإن اللسان الذي يتكلم على الحق أخرس، ولو كان صاحبه أبلغ الناس, واللسان الذي يقف في وجه الحق مقطوع ولو بعد حين, ولذلك قطع الله دابر المجرمين, وقطع الله دابر المفسدين, وجعل العاقبة للمتقين, فهذا أمر مهم جداً لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

عاقبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر

عاقبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أما بالنسبة للعاقبة التي تكون، فإن الإنسان إذا أهانه أحد أو تكلم عليه أو عنفه أو وبخه فما عليك، فأنت بريءٌ من المسئولية إذا كنت تسير على نهج الله عز جل, مثلاً: لو مررت على رجل فأنكرت عليه منكراً أو غيرت منكراً, فقال: يا ظالم أو قال يا كذا فسبك وشتمك وأهانك فإنما يتسلط على الحق, ولا يتسلط عليك؛ لأن الذي فعلته هو أمر الله جل جلاله, والذي نهيت عنه هو نهي الله جل جلاله, فالشتم الذي يكون منه والأذية ليس في عرضك منه شيء, وأنت في سلامة منه، ولكن الله هو الذي يتكفل بأمره, ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يهين أحداً من أولياء الله عز وجل والدعاة والهداة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يسلم من سوء الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- وقل أن تجد إنساناً يحتقر العلماء أو يتنقصهم أو يذمهم أو يحاول دائماًَ أن لا يمكنه من دعوته إلى الله عز وجل أن يسلم كذلك من سوء الخاتمة كما يحصل لبعض الفساق حينما يؤذيك بلسانه أو يحتقرك أو يشيع في حيه أنك شديد وأنك عنيف كل هذا لا تبالي به, لكن المهم للداعية والآمر بالمعروف أن يوطن نفسه على هذه الأمور حتى يصبر؛ لأنها عزيمة على الرشد، وتقوي النفس على طاعة الله سبحانه وتعالى, وتقويها على محبة الله جل جلاله. ثم لنا قدوة في الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم، حينما أوذوا في الله, وكان لهم ما كان, فأعظم الله أجرهم, قال الله تعالى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69]. الأولى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب:69] وهنا أذية، ومعناها: إذا أوذي موسى فإننا سنؤذى، هذا هو الأصل الذي نتكلم عليه أولاً. ثم قال تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] فالذي برأ موسى سيبرئك؛ لأن الرسالة واحدة والمصدر واحد. الثانية: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] قال بعض العلماء: من أمر بطاعة الله ونهى عن معصية الله فأوذي؛ فإنه وجيهٌ عند الله سبحانه وتعالى, وله كرامة عند الله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.

شروط إنكار المنكر

شروط إنكار المنكر إذا علمنا هذه الأمور التي ينبغي أن يوطن بها الداعية والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر نفسه فالمنكر الذي أمامنا لا بد فيه من أمور:

أن يدل دليل على أنه منكر

أن يدل دليل على أنه منكر أولها: أن يدل دليل الكتاب أو دليل السنة الذي هو الدليل الشرعي على كون هذا الأمر منكراً, فإذاً لا بد من ثبوت الدليل على كونه منكراً, فإذا ثبت الدليل على كونه منكراً؛ فحينئذٍ توجه الخطاب علينا: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) , وهذا الحديث فيه نقاط مهمة: النقطة الأولى: علمنا أنه لا بد أن يكون منكراً, فكون الشيء -مثلاً- مختلفاً فيه ويرى الشخص أنه جائز وحلال وهناك -مثلاً- عالم من أهل العلم مشهود له بالعلم عنده دليل وحجة على كونه حلالاً، وأنا أعتقد أنه منكر لكن كونه هو يقلد عالماً يعرف بتمسكه بالكتاب والسنة ويفتيه بأنه ليس بمنكر وليس بحرام فهو يتعبد الله بما ظهر له، فهذه مسألة مهمة جداً.

التثبت من وجود المنكر

التثبت من وجود المنكر النقطة الثانية: قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا) ومعنى رأى أي نتأكد, ونتحقق, ونتثبت, لا نعجل في الناس، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فقط التبين والتثبت, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إلا أن تروا منكراً عندكم فيه من الله برهان) جمع بين الأمرين, كوننا نرى فلا نتتبع الظنون, وكونه يكون منكراً عندنا فيه من الله حجة وبرهان. وهذه أصلاً طبيعة إنكار المنكرات، فكل إنسان إذا ابتلي بعمل فسيتأثر من خلال عمله, وكانوا يقولون -مثلاً- القاضي من كثرة ما يمر عليه من جرائم الناس والفحش وما يقع منهم من مصائب، ربما يصبح عنده نوع من ردة الفعل؛ لأنَّ الإنسان ضعيف والنفس البشرية ضعيفة قد يتعجل وما يتحمل فيقول: لا يسلم من الناس إلا القليل, بسبب ما يرى وقد يرى أناساً سيماهم الخير ويقعون في المنكرات. فطبيعة معالجة المنكرات والوقوف فيها قد تجعل الإنسان يصل إلى درجة يتحسس فيها أكثر من اللازم, وهذا نبه عليه العلماء في إنكار المنكرات, فكوني أتعامل مع المنكرات، يقتضي مني ألا أتعجل، والسبب في ذلك أن أعراض الناس محرمة, وقد قرن الله العرض بالدم، ففي خطبة حجة الوداع يقول صلى الله عليه وسلم في الخطبة المشهورة التي ما قام النبي صلى الله عليه وسلم في أمته مقاماً مثلها, وقد جمع الله فيها الأمة عليه صلى الله عليه وسلم، وما جمع الله مجمعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم مثل حجة الوداع، فكان فيها أن قال للأمة: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم) فجعل العرض مقروناً بالدم, فكما أن دم المسلم حرام وماله حرام كذلك عرضه حرام. ولذلك عظم الله أمر العرض، وقطع بالكلام في الأعراض شهادة الشاهد, فالذي يقذف -والعياذ بالله- بلسانه غيره بالزنى ولا يقيم البينة ولو كان من الصحابة فإنه يجلده؛ لأن الله خاطب به الصحابة، يقول العلماء: ولو كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقم أربعة فإنه يجلد, كما فعل عمر رضي الله عنه بأبي بكرة رضي الله عن الجميع, ليس هناك مجاملة في أعراض الناس, أعراض الناس محترمة، ولذلك عظم الله عز وجل ذلك في كتابه فنهى عن الظن: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] ومعنى هذا: أن القليل من الظن يصيب، والكثير فيه خطورة, وخلل على الإنسان ينبغي أن يتنبه له, توضيح ذلك: أن الإنسان لا يقدم على تتبع شيء إلا إذا احتفت قرائن قوية على وجود هذا الشيء وظهرت القرائن فالشريعة تُعمل القرائن القوية, لكن إذا لم يكن هناك دليل بين وواضح فالأصل في المسلم سلامته, وعدم المساس بعرضه إلا بحجة ودليل, ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تتبع العورة فقال: (إنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) , فإذاً الأصل أننا نقول في المسلم: أنه سالم حتى يدل الدليل على وجود خلل فيه أو نقص.

ضرورة إنكار المنكر

ضرورة إنكار المنكر (من رأى منكم منكراً) إذا ثبت عندنا أنه منكر، وتحققنا أن هذا مما لم يأذن الله عز وجل به ورسوله عليه الصلاة والسلام ورأينا واطلعنا, قال صلى الله عليه وسلم: (فليغيره) فالأصل عندنا في المنكرات أن لا تبقى، وأنه ينبغي أن نهيئ كل السبل والأسباب للقضاء على المنكر؛ لأن المنكر فساد في الأرض، والله لا يحب المفسدين, وكذلك المنكر حجر عثرة دون الخير, فما من بدعة تظهر إلا وماتت مقابلها سنة, وما من شر يظهر إلا ومات مثله من الخير, ولذلك ضرب الله القلوب بعضها ببعض حين غفلت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فالأصل أن المنكر يغير, وهذه قاعدة وأساس في الدين, جعله الله سبباً في فلاح هذه الأمة، بل وفي نجاتها كما في حديث السفينة الذي تعلمونه. فإذاً (فليغيره) يدل على أن الأصل في المنكر أنه يغير.

مراتب تغيير المنكر

مراتب تغيير المنكر ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم هذا التغيير قال: (فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) فكون النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الأمور مرتبة يدل على فائدة مهمة وهي: أن قضية تغيير المنكرات لم يسندها الله لا إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل, بمعنى: أنه لا يتحكم فيها أحد باجتهاده, ولكن أوحى إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بهذه الثلاث المراتب: تغيير باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب, (وليس وراء ذلك مثقال خردلة من إيمان) إذا لم يغير باليد، ولا باللسان، ولا بالقلب فليس وراء ذلك مثقال خردلة من إيمان.

الإنكار بالقلب

الإنكار بالقلب النقطة الأخيرة التي هي التغيير بالقلب, فالقلب هو آخر المراحل, فالإنسان إذا أعيته الحيلة أن ينكر بيده أو ينكر بلسانه، فإنه لا يجوز له أن يتخلى عن الإنكار في القلب, فإن الحب في الله والبغض في الله, من أوثق عرى الإيمان فتحب في الله ولو كان أبعد الناس منك نسباً، تحبه لأنك تراه على طاعة الله والاستقامة, وتبغض في الله ولو كان أقرب الناس منك، فما نفع ابن نوح بنوته لنوح عليه الصلاة والسلام, ولا نفع زوجته كونها زوجة له، ولذلك تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه لما أشركوا بالله عز وجل, ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في هذه القاعدة من حديث أنس في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب الرجل لا يحبه إلا في الله ... ) فهذه قاعدة الولاء والبراء, بمجرد أن تعلم أن إنسان يتعاطى المنكر تبغض فعله, أما هو فهو مسلم وأخوك في الإسلام, ولا تيئس ولا تقصر في دعوته وهدايته وإرشاده, وتبذل كل ما تستطيع لكن كما قيل لـ أبي ذر: [أتبغضه؟ قال: لا. إنما أبغض عمله] يعني فعله هو الذي يبغضه. ولذلك ربما ترى إنساناً يشرب الخمر -والعياذ بالله- أو يزني ولكن فيه خير, ابتلاه الله سبحانه وتعالى بهذا الابتلاء فلم يخرج من دائرة الإسلام, يشهد بذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما جلد شارب الخمر سبه الصحابة وعابوه, فقال صلى الله عليه وسلم: مه -كلمة زجر وتوبيخ- لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم إنه يحب الله ورسوله) , وفي هذا يقول العلماء: فيه دليل على تعظيم أعمال القلوب, فإن ظاهره فيه إساءة, لكن لما انعقد باطنه على حب الله ورسوله عظَّم الله هذا منه, ولذلك الرجل الذي قتل مائة نفس آخرها عابد -نسأل الله السلامة والعافية- ملوثة يده بسفك الدماء البريئة, حتى إذا كان في آخر عمره خرج بنصيحة العالم الذي قال له: ما يمنعك من التوبة هو إن قريتك قرية سوء, وقرية بني فلان بها قوم صالحون فارتحل إلى تلك القرية, فخرج في آخر عمره، لكن خرج بقلب تائب إلى الله جل جلاله, فحضره الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, ملائكة العذاب تقول: قتل مائة نفس آخرها عابد, وملائكة الرحمة تقول: إنه تاب إلى الله, يقول بعض العلماء: فعظمت عند الله نيته الصالحة؛ لأنه تاب وأناب وأقبل على الله سبحانه وتعالى, حتى الخطوات التي خطاها قربه الله بها إلى رحمته, ما وُجد قريباً إلى قرية الصالحين إلا قدر شبر, وفي رواية: فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي, وإلى هذه أن تقاربي. معناه: أنه كان قريباً إلى قرية الشر, فانظروا إلى رحمة الله بعباده، وقد قال تعالى: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] وهذا خطاب للعصاة والمذنبين الذين أسرفوا على أنفسهم. فالمهمة والهدف أن نأخذ بالقلوب إلى الله جل جلاله. والوصية الأخيرة التي أختم بها هذه الكلمة: أن نعمة من الله سبحانه وتعالى يتذكرها الإنسان إذا حجز عبد عن النار بسببه, تصور لو أن الله قيضك لإنسان في غيه وفجوره وانتزعته هذا الفجور إلى رحمة الله سبحانه وتعالى. التنبيه على نقاط مهمة مثل: جذب الناس إلى حلق العلماء, فلا نقتصر على الأداء العملي, لا بد من التوجيه, قد ترى أمامك إنساناً عاصياً فتدله على حلقة عالم, تدله على من يعينه على تجديد التوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى, فلا نقتصر على الإجراء الشكلي, بل ينبغي أن يكون عندنا توجيه, ويكون عندنا إرشاد، ودعوة إلى الخير ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين, غير ضالين ولا مضلين, وأن يجعلنا ممن وفق للقول السديد والعمل الصالح الرشيد, إنه ولي ذلك وهو على كل شيء شهيد, وأسأل الله العظيم أن يجزي المشايخ ويجزيكم كل خير على ما تكبدتم من مشقة الحضور. وختاماً أسأل الله أن يجعل ما قلناه وعملناه خالصاً لوجهه الكريم ليس فيه لأحد سواه حظ ولا نصيب, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

درجة بين الإنكار بالقلب والإنكار باللسان

درجة بين الإنكار بالقلب والإنكار باللسان قال العلماء: يدخل في التغيير بالظاهر أحياناً أن تغير منكراً ولا تتكلم, وهي الدرجة التي بين القلب وبين اللسان, مثلاً: تغير الوجه، والعبوس في وجه المبتدع, والعبوس في وجه الضال, فشخص تراه صاحب بدعة نصحته وذكرته لكنه أبداً ما استجاب ولا تستطيع أن تغير بدعته باليد؛ لأنها بدعة عقدية, ماذا تفعل؟ تعبس في وجهه؛ لأن هذا العبوس قربة إلى الله عز وجل وطاعة؛ لأنه غيظ لله, ولذلك جعل الله إغاظة العاصي قربة إليه سبحانه وتعالى, وكان عليه الصلاة والسلام لا يغضب لنفسه إنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله عز وجل, تقول عائشة رضي الله عنها: (فكان لا يسب ولا يصخب وإنما يُعرف في وجهه). وهذا من أفضل ما يكون عليه الإنسان الداعية الموفق، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر, وهذه ميزة الأخلاق الحميدة, فإنك تكون مع الناس بأسلوب يدل على كمال الإسلام وأخلاقه الجميلة، لكن بمجرد أن تعبس أو يتغير وجهك كل الناس يسألون: ما الذي غير فلاناً؟ لأنهم اعتادوا منك الأخلاق الطيبة والأخلاق الحميدة. فإذاً هذا نوع من التغيير وهو التغيير بالصفات والملامح بالعبوس والإعراض والصد. وذات مرة دخل يحيى بن معين ومن معه على الإمام أحمد رحمة الله عليه، وكانوا قد أجابوا في فتنة القرآن بالتورية، فلما دخل على الإمام أحمد أعرض عنه الإمام, فصار يحيى يقول: حديث عمار حديث عمار والإمام أحمد يعرض ولا يجيبه ولا يتكلم معه, حتى قام يحيى، ومراد يحيى: أن عماراً أكره على الكفر، فقال الكفر وعذره الله عز وجل {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] لكنَّ الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو إمام أهل السنة في زمانه لم يرض بهذا فلما خرج ابن معين وقف على الباب وأنصت ليسمع ماذا يقول الإمام أحمد، فسمع الإمام أحمد يقول: يقولون حديث عمار، إنما عمار مُسَّ بعذاب وهؤلاء لم يمسوا بعذاب. أي: لم يراه مكرهاً إلا بعد الأذية ويحيى لم يؤذ, فقال: كيف تجيب قبل أن تؤذى؟ فقال يحيى: ما تحت أديم السماء أفقه منه. أي: من الإمام أحمد رحمة الله عليه, فالشاهد: الإعراض، ولذلك أمر الله بالإعراض عن الجاهلين, والإعراض من إنكار المنكر؛ لأنه احتقار وازدراء.

الإنكار باليد

الإنكار باليد التغيير باليد ضرب له العلماء رحمة الله عليهم أمثلة مثل: تكسير آلات اللهو, وكذلك أيضاً تكسير النبي عليه الصلاة والسلام الأوثان كما ثبت حينما دخل إلى مكة فإنه كسر الأوثان, وكذلك إبراهيم: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58] , يقولون في التغيير باليد: إنه يقطع دابر الشر؛ لأن به ينعدم هذا المنكر ويزول, وبناءً على ذلك فالأساس والقاعدة التي هي الأصل في التغيير, أنه متى ما أمكن للإنسان أن يغيره بيده فليغير بيده, هذا الأساس والقاعدة, ولذلك قال علي رضي الله عنه لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها, ولا تمثالاً إلا كسرته, ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) هذا من التغيير باليد؛ لأنه إذا استشرفت القبور عُظِّمت, فكانت ذريعة إلى الشرك والعبادة, فالمقصود أن التغيير باليد سنة وهدي, وهو أول المراتب، وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم, كما في حديث القرام؛ والقرام ستارة كانت على سهوة حجرة عائشة رضي الله عنها -كما في صحيح مسلم - فرأى عليه التصاوير فأخذه بيده عليه الصلاة والسلام ونزعه وهتكه. فهذا يدل على التغيير باليد. وهناك أمور ينبغي التنبيه لها: قد يكون الإنسان وهو في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عنده ضوابط معينة لتغيير المنكر, فمثلاً: لو كان هناك توجيه بأن لا تكسر هذا المنكر الآن من أجل أمور، مثلاً: لإقامة دلائل يحتاج إليها, فلو فرضنا أن الإنسان بمجرد أن جاء وكسر المنكر, كيف ندين صاحب هذا المنكر ما دام المنكر أزيل؟ إذاً تكون مهمتي أنا كوني أحفظ هذا المنكر لكي يصل إلى الجهة المختصة يعتبر من إنكار المنكر؛ لأنه وسيلة إلى إزالته وإلى تكسيره؛ لأن البعض يقول: كيف أكون آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر وأنا لم أكسِّر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فليغيره بيده)؟ نقول: إن الوسيلة إلى التغيير تغيير, كونك تحفظ هذا المنكر لكي يكون حجة ودليلاً في بعض الأحيان، مثلاً: لو فوجئنا بمكان لصنع الخمر -لا قدر الله والعياذ بالله- فيكون إنكار هذا المنكر أن أكسره وأن أزيله بالكلية، وهذا لا شك فيه, لكن -مثلاً- لو أردنا أن نعرف مَنْ أصحاب الجريمة الذين قاموا بهذا العمل؟ من الذين يتعاونون مع هذا الشخص؟ من الذي يأخذ منه ويعطيه؟ قد تكون -مثلاً- بيئات أخرى تتعامل مع هذا المصنع للترويج، فعندما نتريث قبل أن نكسر, هذا من مصلحة الأمر بالمعروف, وهذا من تغيير المنكر, فالوسائل آخذة حكم مقاصدها كما يقول العلماء, فليست القضية لتغيير المنكر أن يكون الإنسان مباشراً ما دام أن هناك تنظيماً يقصد من ورائه الوصول إلى معالجة المنكرات بأفضل الأساليب. أيضاً هناك نقطة: قد يكون من المصلحة أن لا نغير الآن باليد، قد يكون هناك أمور وظروف وملابسات معينة يكون التوجيه للإنسان فيها أن يقتصر فقط على مراقبة هذا المنكر, فقد يقول الإنسان: كيف أراقب المنكر وأراه أمامي وبعيني ولا أفعل ولا أقدم؟ فنقول: قد تكون هناك مصالح، بمعنى أنه قد تقع مفسدة أعظم لو أنه أزيل هذا المنكر باليد. ولذلك أنا أقول: لا بدَّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حسن الظن، ولا يمكن أن يتم بين الإخوة والأحبة والمشايخ وطلاب العلم ذلك إلا بالتعاون وبحسن الظن, مثلاً: إذا جاءني توجيه من فوق بأن أتريث في هذا الأمر فلا داعي لسوء الظن: هذا تقصير هذا تساهل, لا, قد قال عليه الصلاة والسلام: (فليغيره بيده) لكن نحن نظن ونحسن الظن بمن يأمرنا بهذا الشيء -إن شاء الله- أنه يريد التغيير, لكن كيف؟ ما هو الأفضل؟ ما هي الطريقة؟ هذا أمر بينه وبين الله عز وجل، ولذلك من أمثلة هذه: لو أن عندنا أفراداً وعندنا -مثلاً- من فوق الأفراد ومن له التوجيه الأعلى, فلو أنك أتيت في حي فيه منكر، قد ترى بعض الناس يتعاون معك في القضاء على هذا المنكر من عامة الناس, ترى إنساناً -مثلاً والعياذ بالله- قد فتح بيته للحرام منزلاً أو دعارة -والعياذ بالله-, فشره متعدي، فإذا جئت لإنسان متعاونٍ متحمسٍ ويريد الخير -ولا شك أن هذا الحماس وراءه خير, وهذا أمر نحب أن ننبه عليه- فينبغي أن نحسن الظن به لكن نوجهه, فهذا الفرد حينما تأتي وتقول له: يا أخي انتظر, ولا تعجل؛ لأنك أنت تريد أن تصل إلى ما وراء هذا المنكر، من الذي يأتي به؟ قد يأتيك مباشرة ويقول لك: قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى من منكم منكراً فليغيره بيده) الآن تدخل هذا تقاعس هذا تأخير لماذا؟ لأنه لا يعلم ولا يعرف ما هي المصلحة، ما هي الأهداف التي تنظر إليها أنت, كما أن هذا يقع منك كفرد؛ فإنه يقع مع عامة الناس وتقول له: يا أخي تغيير المنكر يحتاج إلى بصيرة وإلى تجربة؛ لأنك أنت مرت عليك أمور دعتك إلى هذه الحكمة وهذا التروي, وكذلك من هو فوقك إذا كان أكثر تجربة وأكثر بصيرة, فالأصل أن الإنسان يحسن الظن, ولا يعجل, وقد تكون هناك ظروف تحكم عليك بأنه ليس من المصلحة تغيير هذا المنكر مثلاً بالكلية, فهذا أمر مهم جداً, في قوله: (فليغيره بيده).

الإنكار باللسان

الإنكار باللسان ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (فإن لم يستطع فبلسانه) ويقول بعض العلماء: التغيير باللسان مقدم على التغيير باليد ولهم عليه دليل صحيح، وهو حديث عائشة رضي الله عنها, وحاصل هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من غزوة تبوك -على قولٍ عند بعض أهل الحديث- قدم عليها فوجد القرام هذا وفيه صورة فقال لها أولاً: (أميطي عنا قرامك هذا) هذا أول ما قال لها، فكأن عائشة -كما يختار جمع من العلماء- نسيت أن تزيله, فدخل عليه الصلاة والسلام فإذا بالقرام في وجهه فأمسك القرام وهتكه. يقول العلماء: أول ما يبتدئ الإنسان بالتوجيه؛ لأن كون الشخص بنفسه يزيل المنكر هذا نوع من الإيمان والتسليم, ولذلك يتربى الناس على التسليم, بمعنى: أن كونه بنفسه يأخذ الشيء ويكسره، كما أنه هو الذي أوجده هو الذي يكسره، هذا من أرفع الدرجات، ولذلك يقول العلماء: من أهم ما يكون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقناع الناس، بأن هذا منكر فيجتنبوه وهذا معروف فيفعلوه ويأتوه. ولذلك الحرص على إقناع الشخص بكونه منكراً أولى, وقد فعل الصحابة ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو طلحة لـ أنس: انظر، فخرج فنظر فإذا بمناد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس! إن الله حرم الخمر. فأمره أن يريقها فجرت بها سكك المدينة. من الذي أراق الخمر؟ الناس لما اقتنعوا، (لما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قال عمر: انتهينا انتهينا). ثم يقول العلماء: انظر إلى أسلوب القرآن! ما قال الله: انتهوا، بل قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] وهذا كما يقول المفسرون: من أرفع أساليب الإقناع؛ لأن الشخص تقول له: ليتك تفعل كذا, أو هل تفعل كذا, فتحدث عنده شوقاً للامتثال, فلما نزلت هذه الآية بمجرد الانتهاء كما في صحيح مسلم صاح عمر: (انتهينا انتهينا) أي: ما لنا بعد أمرك ونهيك سبحانك وتعالى, وانتهينا أي: كففنا عن هذا الأمر. (فليغيره بلسانه) كيف تغير بلسانك؟ الشخص الذي أمامك يتعاطى المنكر وفيه جانبان: جانب داخلي الذي هو الباطن, وجانب ظاهري, الجانب الداخلي قناعته بالمنكر, والجانب الظاهري وجود المنكر, ويتعامل مع هذا المنكر, فأعظم ما يكون من التغيير أن تصل إلى سويداء قلبه, فتجتث من قلبه الشر، (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) , فتحرص على أن تجعل في قلبه قناعةً كاملةً بحرمة هذا الشيء, وتعتمد على أساليب من أهمها أسلوبان: أسلوب الترغيب، وأسلوب التنفير, وكلاهما أسلوب القرآن. ولذلك تجد الله عز وجل في كتابه ينهى عن الحرام ثم يذكر عواقبه الوخيمة في الآخرة من عذاب جهنم وسخطه وغضبه -نسأل الله السلامة والعافية-, هذا أسلوب الترهيب, وكذلك استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم، قال أبو ذر: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا ... ) , فالمقصود أن تستخدمه فتأتي -مثلاً- أمام صاحب المنكر وتتلو عليه آية من كتاب الله, وحديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتوجيه، فتأتي بالتوجيه بالأسلوب المؤثر المقنع؛ لأن الناس يختلفون, يقول العلماء: هناك آيات للترغيب وهناك آيات للترهيب, فإذا كان الذي أمامك من النوعية التي لا ينفع فيها الترغيب؛ لأن فيها قسوة وفيها نوعاً من الكبرياء بالباطل، تقرعه بآيات الزجر وآيات التخويف؛ لأنك إذا جئته بآيات الترغيب كان ضعفاً, ولذلك ينبغي أن تظهر عزة الدين وترفع من المعروف الذي تأمر به وتحقر من المنكر الذي تنهى عنه, فتذكره بقوارع التنزيل, وتذكره بالجنة والنار, وتقول له: يا أخي خف الله عز وجل أمامك قبر أمامك حساب أمامك صراط أمامك جنة ونار، وتذكر له من الكلام الذي يدل على الترهيب، فلما تأتي هذه الكلمات المضيئة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تصادف قلباً فارغاً وإن كان فيه الشر, لكن الله سبحانه وتعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] , فتبدأ بالتقريع، فمثل هؤلاء النوعية التي تتعاطى المنكر بنوع من الكبرياء والعزة يصلح لها أسلوب التوبيخ والتقريع، ويكون الكسر للمنكر في عينه وفي وجهه أبلغ في إهانته وزجره, وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك حينما حصلت قضية عمرو بن أمية الضمري فذهب إلى بني النضير؛ وكانوا يهوداً بالمدينة، وبينه وبينهم عهد, فجاء يريد أن يأخذ منهم المعونة على الدية, فجاءهم عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكر وأهل كيد، فقالوا له: انتظر تحت الحائط حتى نعطيك الدية, وأرسلوا سفيهاً من سفهائهم لكي يرمي عليه حجراً فيقتله صلوات الله وسلامه عليه, فلما جلس جاء جبريل بالوحي وأخبره بما يكيدونه به، فانطلق عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ومعه أصحابه لا يدرون ما الخبر, ثم أرسل إليهم: أن اخرجوا من دياركم, قالوا: نخرج, فكتب عبد الله بن أبي بن سلول قائلاً لهم: لا تخرجوا أنا أنصركم على عادته من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} [الحشر:11] خدعةً, فبقوا, فلما بقوا آذن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فخرج إليهم بالقوة فحاصرهم خمسة عشر يوماً من ربيع الأول -صلوات الله وسلامه عليه- فلما حاصرهم قالوا: نخرج, قال: أما الآن فلا. انظروا كيف عزة الإسلام! جاءهم أولاً فقال لهم: اخرجوا, ثم قال بعد أن رفضوا: أما الآن فلا, الآن أنتم تحت قهرنا وقوتنا ولا تخرجون إلا وأنتم صاغرون, فأذلهم عليه الصلاة والسلام وكانت ما أفاء الله على رسوله وكانت نعمة من الله عز وجل على نبيه حتى خير أن يضع أمواله وغنائمه حيث شاء, فكانت كسراً لشوكة الأعداء بقوة. كذلك أهل الباطل والغيظ، لما تأتيه باللين في مقام لا يصح فيه اللين، فإنه ليس من الحكمة في شيء قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] فالحكمة: هي وضع الشيء في موضعه, فتبدأ بتغييره باللسان بأسلوب التقريع والتوبيخ إذا كان الذي أمامك عنده أنفة وله سوابق وجرائم وهو إنسان مستفحل في الشر, فهذا يقرع ويوبخ ويؤنب، ويبين له عاقبته وما ينتظره من العاقبة الوخيمة في الآخرة. أما لو كان إنساناً لا سابقة له, إنسان خُدع وغُرر به وما إن دخلت عليه حتى أصابته الذلة, وترى من دلائل الحال والقرائن أنه نادم وأنه متأثر فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) قال العلماء: ذوي الهيئات هم الذين لم تعرف لهم سوابق, يكون من أسرة طيبة وبيت طيب ولكن قرناء السوء زجوا به إلى هذه العاقبة الوخيمة, فلتقف على مثل هذا وتقول له: يا فلان أين أبوك؟ أنت ابن من؟ حتى لو كانت الذكرى بالأمور الدنيوية فتذكره ببيته وبشرفه, تقول: ماذا جنيت؟ وتجعله يؤنب نفسه, هذا من التغيير باللسان. فالتركيز على قضية الترغيب والترهيب لاجتثاث الشر من القلوب؛ لأنه ليس من تغيير المنكر أن نأتي ونكسر المنكر، والرجل مقتنع قناعة كاملة بأن هذا معروف؛ لأنك إذا كسرته اليوم سيعيده في الغد، وإذا كان لا يفعله في الظاهر فسيفعله في الباطن, وإذا كان يتقيك في العلانية فإنه لا يتقيك في السر, ولكن إذا اجتثثت الشر من قلبه وذكرته بالتغيير باللسان وأصبح عنده القناعة، فإنه يغير ظاهراً وباطناً، وسراً وعلانية كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فمن أكمل التغيير باللسان, استخدام أسلوب الترغيب والترهيب, وينبغي على من يستخدم هذا الأسلوب أن يراعي الحال ومناسبة الحال, فمن صلح فيه الترغيب لا يعطى أسلوب الترهيب؛ لأن الذي تجد عنده انكساراً هو شخص رأيته وقع في جريمته ثم وجدت عنده الانكسار الكامل, فلو جئت تزيد عليه بالآيات ربما يصل به الخوف إلى درجة اليأس من رحمة الله, وهذا أمر مهم جداً. ولذلك تجد بعض العصاة والمذنبين -وهذا يمر علينا من فتاوى الناس وأسئلتهم- يشعرك أنه لا رحمة تنتظره عند الله جل جلاله -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا لأنه أوغل في جانب الخوف, ولذلك يقول العلماء: في عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا بد من الخوف والرجاء, فلا يغلب جانب الخوف ولا يغلب جانب الرجاء, لأنهما جناحان, جناحا السلامة كما يقول بعض الأئمة، وينبه عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتبه, وهذا صريح الكتاب كما قال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] , لا نستطيع أن نأتي بالتخويف فقط، ولا نأتي أيضاً بسعة رحمة الله، ونلين مع الناس حتى تذهب هيبة الإسلام والعمل والمحتسب, لا بد من الوسطية, فإن كان المقام يقتضي الترغيب رغبنا, وإن كان المقام يقتضي الترهيب رهبنا.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية النصيحة التي تبرأ بها الذمة

كيفية النصيحة التي تبرأ بها الذمة Q فضيلة الشيخ! لي جيران لا يؤدون الصلاة في جماعة فهل تبرأ الذمة بإرسال شريط أو فتوى أو كتاب للجيران, أو لا بد من المناصحة؟ A لا بد من المناصحة, لا بد أن تنصحهم وتشعرهم أنك غير راضٍ عما هم عليه، تأتيهم وتزورهم, أو تدعوهم إليك ليزوروك وتجلس معهم, وتقول لهم: أنتم جيران وحقكم كبير عليّ, ومن حقكم عليَّ وحقي عليكم: أن نتناصح، وأن يذكر بعضنا بعضاً، فالصلاة مع الجماعة واجبة قال صلى الله عليه وسلم للأعمى: (أتسمع النداء؟ قال: نعم, قال: أجب فإني لا أجد لك رخصة ... ) , وهو أعمى وتكون الظلمة والمطر. ومن حديث ابن عباس: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) , فهذا أمر عظيم جداً فيبين لهم وينصحوا ويذكروا, فإذا أقمت الحجة عليهم فقد برئت ذمتك، والله تعالى أعلم.

كيفية التعامل مع المنكرات المنتشرة

كيفية التعامل مع المنكرات المنتشرة Q فضيلة الشيخ! هناك منكراتٌ تفشت وعمت مثل: حلق اللحى، وإسبال الثياب، وشرب الدخان، فكيف يكون الإنكار في مثل هذه الحالات؟ A تنكر بقدر ما تستطيع, مثلاً: لو رأيت إنساناً يحلق لحيته، وجئته بأسلوب مؤثر وقلت له: يا أخي! النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحية وإحفاء الشارب، وذكرته وبينت له هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا أجر وقربة, كذلك أيضاً إذا كان إعراضك عنه يؤثر فيه؛ لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه, فتنكر عليه على قدر ما تحمله من طاعة الله. يا إخواني! من أهم الأمور التي ينبغي للإنسان أن يجعلها نصب عينيه أن يعامل الله سبحانه وتعالى, ربما يجلس إنسان أمامك يشرب الدخان -أكرمكم الله- في وجهك، تصوروا! أولاً: لم يستح منك, ولم يهابك, ولم يجاملك, ماذا بقي له؟ ماذا تنتظر؟ هو على شره، وقد أظهر الشر في وجهك ولم يبال ولم يستح ولم يقدر, فأنت أقم عليه حجة الله، لا نقول: تضربه, أو تؤذيه, بل أقم حجة الله عليه وقل له: يا أخي! اتق الله أولاً في نفسك هذه التي تعذبها, وثانياً: اتق الله في مالك الذي يسألك الله عز وجل عنه, يا أخي! تذكر لو أنك الآن في قبرك هل ترضى أنك تشرب هذا البلاء؟ نقطة ثانية: بدل أن تأتيه مباشرة بالتخويف ممكن أن تقول له: أسأل الله العظيم أن يعافيك من هذا البلاء, لما تبدأ بالمودة وتقول له: أسأل الله أن يعافيك من هذا البلاء يحس أنك تراه كالغريق، يقول لك: آمين، وربما لا يجيبك, فتقول له: يا أخي! خفف من هذا البلاء بدل من أن تشرب عشرة اشرب خمسة, وأعطه الحل، ولذلك يقول العلماء: لا تبين المنكر دون وضع حل له, ولذلك قال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة:54] فهذا تبيين المنكر, {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:54] ما اقتصر على تبيين المنكر؛ لأنك إذا بينت له المنكر ولم تبين له الحل يقف حائراً, ولذلك ينبغي أن تبين له الحل وتقول له: يا أخي! خفف, يا أخي! ارفق بنفسك, لا تعذب نفسك، هذا أمر مهم جداً, هذا بالنسبة لمن يتعاطى المنكر خاصة في وجهك فتصدع بالحق وتبين له وتعذر إلى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، فإذا لم تعذر إلى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة فإنه سوف يتعلق بك يقول: يا رب سل هذا رآني على المنكر ولم ينصحني, فالإنسان قدر ما يستطيع يبلغ رسالة الله بالأسلوب الطيب والتوجيه السديد, لعل الله عز وجل أن يعظم له الأجر بذلك، والله تعالى أعلم.

ضرورة مراعاة المصلحة في الإنكار

ضرورة مراعاة المصلحة في الإنكار Q يقول كثير من الناس: إن التغيير باليد مقتصر على رجال الهيئة، فهل يكفي هذا إذا وجدت منكراً أن أتصل بالهيئة وتبرأ ذمتي بذلك؟ A لا شك أنه إذا كانت الهيئة تقوم بمهمتها -وهذا هو الظن بها- أن تتعاون معها، خاصة وأنك إذا غيرت بيدك, قد يحصل أمور لا يحمد عقباها, افرض لو غيرت بيدك وجاء الرجل وجعلك معتدياً عليه واستعدى عليك, فحينئذٍ يكون هناك جهاز مختص بتغيير المنكر فإذا أمكنك أن تتصل به وأن تنسق معه فهذا أمر مطلوب, فيحاول الإنسان بقدر الاستطاعة حتى لا يؤذى أهل الحق, ولا يتسلط أهل الباطل عليهم, فلذلك يتصل الإنسان بالهيئة لتغييره, لكن لو كان الأمر ممكناً للإنسان في حدوده أن ينكره ويغيره بيده وبلسانه مباشرة فليفعل, لكن في الأمور التي تترتب عليها مفاسد أو تكون منها أضرار أو تفتح لأهل الشر سبيلهم، فإنه ينبغي أن يتقيها, يعني: قدر المستطاع، ويدل على هذا قوله تعالى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] انظر هارون أمام عجل يعبد من دون الله, لكنه انتظر مجيء موسى الذي قال: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} [طه:97] وأخذ بالقوة حتى أخذ هارون ينكر عليه هذا, قالوا: إنه إذا تيسر الإنكار باليد بوجود من يقوم به، فالإنسان يتعاون مع الهيئة ويتصل بهم، وقد تكون هناك مصالح في هذا الأمر, لكن نترك الأمر بالمعروف نهائياًَ بناءً على وجود هيئة الأمر بالمعروف فلا, إنما يقوم الإنسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر استطاعته, فإذا أمنت المفاسد وتحققت المصالح فثم شرع الله, تبدأ وتنكر وتبين بغض النظر عما سيكون من العواقب الحميدة أو الوخيمة، وأما إذا تيسر وجود من يقوم بهذا الأمر فإن الإنسان يحرص على إقامته, والله تعالى أعلم. أسأل الله العظيم أن يجزيكم كل خير, وأن يجمعنا في دار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومصالحه

حِكَمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومصالحه Q فضيلة الشيخ! يصاب المسلم بشعور الإحباط عندما يرى كثيراً من المحرمات والكبائر, وكذلك يجد من يورد عليه بعض أحاديث الفتن ويقول: هذا زمان الفتن، فيكون في عمله ضعف ويقل عمله, فما هو توجيهكم؟ A أما بالنسبة لكثرة المنكرات أو وجودها فهذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]. ثم إن وجود المنكر فيه حِكَم لله سبحانه وتعالى: أولاً: استدراج لأهل الفساد؛ لأنه يستدرج، والله سبحانه كيده متين: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. ولذلك يستدرج الله العبد من حيث لا يحتسب, حتى إنك ربما تمر على صاحب المنكر وهو يفعل المنكر بكل طمأنينة وارتياح فاعلم أنه مستدرج, إذا رأيت صاحب المنكر أنه بلغ به أن يظهر منكره وهو مرتاح مطمئن النفس لا يحس بشيء، فاعلم أن هذا من الاستدراج لله جل وعلا وكيده به؛ لأنه لو خاف لقل المنكر, لكن يتركه الله سبحانه وتعالى ويعطيه القوة ويعطيه الجلد. الأمر الثاني: أن ظهور المنكر يكون بحكمة لله سبحانه وتعالى بسبب انطفاء الإيمان من القلوب، وقد ذكر بعض العلماء عن رجل أنه كان يسفك الدماء -والعياذ بالله- وكان معه رجل يعرفه في الخير, وكان الرجل مستقيماً في أول أمره -نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على طاعته، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا- وفجأة -والعياذ بالله- أصابه فساد فانتهك في الخمور حتى أصبح -والعياذ بالله- مصراً على البغي والفجور, الشاهد: قال العالم للرجل: أرأيت حينما قتلت أول مرة؟ قال: نعم, قال: ماذا أصابك؟ قال: أصابني خوف, قال: وفي الثانية؟ قال: لم أبالِ, وفي الثانية والثالثة لم يبال كذلك، هذا أمر عجيب! يقول بعض العلماء: لأنه لما نزع الإيمان من قلبه -نسأل الله السلامة والعافية- أحس بالضيق؛ لأنه كان في سعة فانتقل إلى الضيق, فالمرة الأولى كُبت عدو الله بسبب خروجه -نسأل الله السلامة والعافية- من كمال الإيمان (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ورد في الحديث: (أن الإيمان يخرج منه حتى يصير كالظلة ثم يرجع إليه ناقصاً على قدر ما انتهك من حدود الله) فالشاهد: أن كثرة المنكر استدراج من الله سبحانه وتعالى لأهل الشر. ثالثاً: قوة لأهل الخير, لأن هذا الأمر مسلَّم, حتى الحكماء يقولون: قوة الخير بوجود ما يضاده. ولذلك انظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة فجعل الله في وجهه المشركين, وانتقل إلى المدينة فوجد الأنصار والرجال والعدد والعدة وكل شيء يحتاجه بين يديه, بين أمة تفديه بأرواحها, الأنصار كانوا يحبونه وكانوا لا يرضون بأن يمس بأذى صلوات الله وسلامه عليه, ومع ذلك سلط الله عليه اليهود والمنافقين أن يكونوا بجواره, فجمع الله له الكفر بين طائفتين: طائفة تظهر وطائفة تسر, حتى نعلم شعائر الإسلام، نعلم كيف نعامل, يعني: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من عجائب ما مر -وهذا في الصحيحين - أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم على مجلس من مجالس الأنصار فاختصموا فيه حتى هموا أن يضربوا بعض والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم, فهذه فتنة بحضور النبي صلى الله عليه وسلم, وتقع الفتنة ابتلاء من الله واستدراجاً. قضية الإفك عرض النبي صلى الله عليه وسلم, خاض فيها من خاض, وهذا يدل على أن الشر وجد ابتلاءً، حتى يظهر إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين, وتنكشف حقائق الناس, ولذلك لا بد من وجود هذا الابتلاء وكثرة المنكرات. الأمر الرابع: فيه خير لأهل الخير، فافرض أنك خرجت من بيتك فرأيت منكراً ماذا سيكون في قلبك إذا كان هناك إيمان؟ ستتألم ويتمعر وجهك وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل, هذا الغيظ الذي في قلبك قربة إلى الله سبحانه وتعالى, وعمل صالح، وشهادة منك أنك غير راضٍ على هذا. وقد يكون وجود المنكر أيضاً ينبه, فالآن لما ترى المنكر تخاف على نفسك وتخاف على أهلك وولدك. وآخر ما أختم به مثالاً من الأمثلة: لو أن الناس في سفينة, والسفينة هادئة دون أمواج وهي على البحر دون أن تجد أي شيء يعكر صفاها, هل يشعرون بمقدار النعمة التي هم فيها؟ قد يغفلون, لكن حينما يمرون بهذا الوضع فيرون أمام أعينهم سفينة تغرق وأناساً تتلاطم بهم الأمواج ماذا سيفعلون؟ سيحمدون نعمة الله على ما هم فيه. فلذلك كثرة الفتن لا تدعو الإنسان لأن يتقاعس أو يضعف أو يجبن, لا. والذي يهمنا -أيها الإخوة- أن نبلغ رسالة الله, وأن نؤدي أمانة الله، وهذه الأيام وإن عظمت فتنها لكن الأجر فيها عظيم, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (للعامل فيهن مثل أجر سبعين, قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً وهم لا يجدون على الحق أعواناً) يقول العلماء: مثل أجر سبعين من الصحابة قالوا: نعم, توضيح ذلك قالوا: في أيام الصحابة لو جئت تنكر منكراً كل الناس معك, وكل الناس تقول: أنت على حق, وهذا منكر وجزاك الله خيراً، ويقفون معه ويشدون من أزره, لكن الآن إذا جاء إنسان ينكر منكراً قالت له الزوجة: لا تنكر, ما نحتاج إلى مشاكل, وقال له الأولاد: لا تنكر, وقال له الأخ: لماذا أنت تؤذي الآخرين؟ مالك ومال الناس؟! ثم جاءه المجتمع: ما هذا؟! يا فلان لماذا تؤذي الناس؟ لماذا تضيق على الناس؟ إذا تكلمت الزوجة وضيقت عليك فلك أجر, إذا تكلم الابن وضيق عليك فلك أجر، والمجتمع كذلك, فتأخذ الأجر من هنا ومن هنا حتى تبلغ أجر السبعين, وهذا يدل على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الزمان, خاصة إذا كان الإنسان جمع بين العلم والعمل والدعوة الصادقة الخالصة لوجه الله الكريم. نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. والله تعالى أعلم.

حكم انتظار الشكر والثناء على العمل من البشر

حكم انتظار الشكر والثناء على العمل من البشر Q هل تذمر الرجل من تجاهل أعماله، وعدم الشكر على أعماله, وظهور ذلك في نفسه رغبة للشكر, هل يطفئ من إخلاصه وينقصه؟ A إذا كنت تعمل لله فانتظر شكر الله جل جلاله, فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] فشهد الله من فوق سبع سماوات أن من عمل له عملاً صالحاً، أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً, فتحرص -بارك الله فيك- على أن لا تنتظر إلا ثناء الله, ولا تنتظر إلا مدح الله عز وجل, فإذا فعلت ذلك فإن الله سيجمع لك مدح الدنيا والآخرة, وفي الحديث -وقد حسنه بعض العلماء- يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للعبد صيتين -أي: سمعتين- صيتاً في السماء وصيتاً في الأرض, فإذا عظم صيته في السماء وضع له في الأرض) وتجد العلماء لهم في الأرض محبة وذكر, حتى إن كثيراً من العوام يسمع بالشيخ فلان فيحبه ولو لم يره, قد يكون يحبه ولو لم يسمع منه كلمة, ولكن مما سمع من أقواله وأفعاله, لماذا؟ لأن الله وضع له صيتاً في السماء ثم وضع له في الأرض. فأنت إذا عملت ابتلاك الله, ومن ابتلاءات الله أنه قد ينسي من فوقك أن يشكرك, قد يكون الله يحبك؛ لأنه لو شكرك فتنت, فأصبحت تعمل للشكر, فقد يريد الله أن يصطفي قلبك له جل جلاله, فلا يجعل أحداً يحمدك ولا أحداً يشكرك, فتصبح واضعاً بصرك في الأرض مطأطأ الرأس كأنك مغمور لا أحد يشعر بك, والخفي له مكانة عند الله سبحانه وتعالى, هذا العبد الخفي: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه إن كان في الساقة ففي الساقة …) إن قالوا له: تقدم، تقدم, قالوا: تأخر، تأخر, المهم أن يعمل في طاعة الله عز وجل. الأمر الثاني: إحسان الظن, فهو من الأمور المهمة سواء في أمور الدين أو الدنيا، إذا أحببت أن يتسع العيش, وكانوا يقولون: من سعادة الإنسان -دائماً- أنه إذا وجد شيئاً يعتبر خطأ ممن هو فوقه أو من هو مثله أو ممن هو دونه, التمس له مخرجاً, سبحان الله! إذا حصل شيء كأن لم تشكر فقلت: إنهم نسوني, أو مشغولون, لو كنت مكانهم لشغلت, ثم هذا واجب عليّ فلا أنتظر فيه شكراً, لما تلتمس له مخرجاً يتسع قلبك, لكن بمجرد أن يضيق الإنسان، هؤلاء ما يشكرون, ويبدأ يتذمر فيدخل الشيطان عليه فيقول له: أنت لا أحد يشكر عملك, إذاً لا تعمل، ويبدأ -والعياذ بالله- تنحل عقد الخير منه عقدة عقدة, وتنحل عزيمته على الخير عقدة عقدة؛ لأنه يعمل للناس لا لرب الناس -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا من أعظم الابتلاء. فانتظر شكر الله واحمد لله جل جلاله أن صرف عنك فتنة المدح خاصة في أمور الدين, الإنسان يحرص على أن ينتظر ثناء الله سبحانه وتعالى لا ثناء أحد سواه, فأنعم بها، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى, ولله حِكَم, بعض العلماء قد يعيش في زمانه لا يحمده أحد, شيخ الإسلام ابن تيمية -لو تقرأ سيرته- كان أعداءه وخصومه من كل حدب وصوب، ولما توفي وضع الله له القبول من الذكر والتعظيم, حتى إذا قيل: شيخ الإسلام؛ ما يُنصرف إلا إليه, هذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى, قد يعلم الله أنه لو وضع لك الشهرة أمام الناس تفتن, سبحانه! ما أحلمه! وألطفه! وارحمه بعباده. نسأل الله العظيم أن يجعل قلوبنا له, وأن يجعل شكرنا منه سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.

كيفية تحصيل الإخلاص

كيفية تحصيل الإخلاص Q فضيلة الشيخ! تكلمت عن الإخلاص فكيف نحصله؟ A الإخلاص لله عز وجل نور يقذفه الله في القلوب, ومن أعظم الأسباب التي تعين على الإخلاص أن تكثر من دعاء الله عز وجل أن يجعل أقوالك وأعمالك خالصة لوجهه الكريم, فإننا لا نستطيع بحولنا وقوتنا أن نكون مخلصين، ولكن التوفيق من الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88]. فإذا افتقرت إلى الله أغناك, وإذا علم الله أنك تحب الإخلاص وفقك إليه ويسره لك، ولذلك أكثر من دعاء الله: اللهم إني أسألك الإخلاص في القول والعمل, اللهم اجعل عملي خالصا لوجهك, دائماً تكثر منها, إذا خرجت من بيتك في الصباح تكثر من هذا الدعاء, إذا كنت في السجود بين الآذان والإقامة التي ثبتت بها الأحاديث الصحيحة، تدعو الله أن يجعل قلبك مخلصاً لوجهه الكريم, وتعتذر إلى الله من كل رياء ومن كل شرك في عملك وقولك حتى ينفحك الله برحمته وييسر لك هذا الأمر العظيم. الأمر الثاني مما يعين على الإخلاص: كثرة قراءة القرآن مع التدبر والتأمل {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] فالإخلاص من عمل القلوب, ويحتاج الإنسان إلى هاد يهديه وهو القرآن, فإنه قل أن تجد إنساناً يكثر من تلاوة القرآن إلا عمر الله قلبه بالإخلاص؛ لأن القرآن فيه الوعد والوعيد والبشارة والنذارة والتخويف والتهديد فيكسر القلوب لله جل جلاله, والقرآن يخرجك من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة, وينزعك من مراقبة العباد إلى مراقبة رب العباد سبحانه لا إله إلا هو, ولذلك إذا أردت الإخلاص أكثر من تلاوة القرآن. ثالثاً: زيارة المقابر، فتجعل لك ولو في الأسبوع مرة واحدة تزور فيها المقابر، وتنظر إليها حتى تحتقر هذه الدنيا التي أنت فيها، فتصبح أعمالك وأقوالك لهذا الذي أنت مقبل عليه, وتذكر دائماً أنك في مثل هذه اللحظة ستمر عليك وأنت رهين الأحداث والبلاء, لا مال ولا بنون, لا يكون للإنسان إلا ما عمل وأراد به وجه الله جل جلاله. فلذلك من الأمور التي تعين على الإخلاص كثرة ذكر الآخرة، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:46] كأن سائلاً سأل: ما هي؟ فقال: {ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] هذه من خاصة ما يصطفي الله عز وجل, فإذا ملأ الله قلبك بذكر الآخرة أخلصت لله سبحانه وتعالى. ولذلك لا تجد إنساناً قلبه مليءٌ بالدنيا ويخلص أبداً, القلب وعاء إما دنيا وإما آخرة, فمن الأسباب التي تعين على الإخلاص كثرة ذكر الآخرة. ومن الأمور التي تعين على الإخلاص: قراءة سير العلماء، فعندك كتب مثل: سير أعلام النبلاء , وكتاب البداية والنهاية لـ ابن كثير , وغيرها من الكتب، فقراءة التاريخ, وقراءة سير السلف الصالح؛ لأنها تحيي في النفوس الهمة العالية للخير, ثم تضعك أمام قدوة، ولذلك قال الله عز وجل: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فقصص الصالحين تثبت الفؤاد, وتثبت القلوب. فمن الأمور التي تعين على الإخلاص قراءة سير العلماء، قال الإمام أبو حنيفة: سير العلماء أحب إلينا من كثير من مسائل الفقه. هذه من الأمور التي تعين على الإخلاص, فيحرص الإنسان دائماً على قراءة هذه السير. النقطة الأخيرة: استشعار عاقبة الإخلاص، تصور لو أنك واقف بين يدي الله جل جلاله, وعرض على الله جميع ما قلت وما عملت, فقال الله لك سؤالاً واحداً: هل أردت بهذا وجهي أو غيري؟ فهو أمر عظيم, والله يا إخوان إنه أمر عظيم، كان بعض السلف إذا قيل له: حدثنا، يقول: حتى تأتينا النية, لا يستطيع أن يحدث حتى يستشعر أنه يتحدث لله سبحانه وتعالى, فلذلك يقول سفيان الثوري إمام العلم والعمل في زمانه: ما وجدت أشد عليّ من نيتي إنها تتقلب عليّ, أي: ما قابلت شيئاً أعظم ولا أشد من قلبي. إنها تتقلب علي, أي: تارة أصرفها للآخرة فتنقلب إلى الدنيا وإلى الناس, حتى لو غيرتَ المنكر يأتيك يقول: ما شاء الله سار الناس يذكرونك, وأنت كذا، وهذا شيء طيب، وتسمع الذكر في المجالس ابتلاءً, وتمحيصاً, وقد تجد الرجل يخلص ويخلص إلى آخر لحظة فيأتيه شخص ويقول: ما شاء الله فعل الله بك كذا, وصنع الله بك كذا, فيعجب فيهلك, قال مطرف رحمه الله: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أبيت قائماً وأصبح معجباً]. فلذلك ينبغي للإنسان أن يخاف, وإياك وفتنة المدح والثناء, خاصة الذي يمدحك في وجهك، فاتق الأمور التي تحول بينك وبين الإخلاص، والله تعالى أعلم.

حياة القلوب

حياة القلوب اللسان نعمة من الله تعالى على العبد، يجب عليه أن يشكر الله عليها، وذلك باستغراقها في ذكره سبحانه وتعالى وشكره، وتسبيحه وحمده، وتوحيده وتكبيره. ومن نعم الله على المؤمن أنه لا يطمئن قلبه، ولا ينشرح صدره إلا بذكر الله عز وجل وما والاه، أما صاحب القلب القاسي فعكس هذا تماماً، فتراه يكثر من فضول الكلام ولغط الدنيا، حتى إنك تجده في غفلة عن الآخرة والعياذ بالله.

أسباب كثرة الحديث في لغط الدنيا

أسباب كثرة الحديث في لغط الدنيا الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أما بعد: إخواني في الله: اللسان نعمة من الله تبارك وتعالى على العبد، وهذه النعمة تستوجب من العبد أن يشكرها لا أن يكفرها، وأن يسخرها في محبة ربها ومولاها سبحانه وتعالى، ويكون ذلك باستغراقها في ذكر وشكر يرضي الله عز وجل، فإذا كان الإنسان قد أراد الله عز وجل له التوفيق ألهمه استدامة الذكر، ولذلك من ذكر الله كان في حصن حصين من عدوه وهو إبليس لعنه الله، والعكس بالعكس. ولن تجد الإنسان قد انشرح قلبه واطمأن فؤاده، وأصبحت نفسه طيبة مطمئنة إلا وجدته محافظاً على ذكر الله عز وجل، والعكس بالعكس، فالذين يكثرون الكلام في فضول ولغط الدنيا غالباً ما تجدهم قد قست قلوبهم، وكذلك تجدهم في بعد وغفلة عن آخرتهم، ولذلك نصح العلماء رحمهم الله باغتنام الحديث فيما يرضي الله عز وجل، وحذر العلماء والأخيار من فتنة القول التي توجب قسوة القلب. فالمقصود: أن الإنسان إذا كان مبتلىً بكثرة الحديث في لغط الدنيا ننظر في الأسباب، الأمر الأول: أحياناً يكون السبب القرناء الذين تجلس معهم، فإذا كان القرناء الذين يجلس معهم الإنسان أقوام شغلتهم الدنيا عن الآخرة، وألهتهم فضول الدنيا عن الآخرة، وعن التجارة الرابحة مع الله تبارك وتعالى، فالعلاج أن تلتمس قرناء أخيار أهل ذكر وشكر وعبادة وطاعة وإنابة إلى الله عز وجل، هذا إذا كان السبب الخلطاء، وهذا هو من أعظم الأسباب: القرناء. الأمر الثاني: قد يكون السبب ضعف الإيمان في القلب، فإن الإنسان إذا ضعف إيمانه اتجه إلى ما هو ضد ذلك، وهو فضول أحاديث الدنيا، والاشتغال بلغط هذه الأحاديث التي قد تنتهي به إلى ما لا تحمد عقباه. الأمر الثالث: هذا الضعف -ضعف الإيمان- علاجه: أخذ الأسباب التي تعين على قوة الإيمان بدرجة يكثر فيها ذكر العبد لربه، وكذلك اغتنامه للسانه في طاعة الله عز وجل، قد أفلح والله من رزقه الله لساناً ذاكراً، وأفلح والله من رزقه الله لساناً شاكراً، وما الذي يجنيه الإنسان من هذه الحروف والكلمات، إما كلمة له وإما كلمة عليه، كلمة تسره إذا لقي الله عز وجل، ويبيض بها وجهه، ويثقل بها ميزانه، وتنصع بها صحيفة عمله عند ربه يوم القيامة، فالإنسان يحافظ على أن يكون من أهل ذكر الله عز وجل، ويحافظ على مرتبة السلامة وهي الصمت، فإذا لم يجد من يعينه على ذكر الله يقتصر على الصمت. الحلم زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مهذارا ما إن ندمت على السكوت بمرة ولقد ندمت على الكلام مرارا والكلمة إذا خرجت من الفم لن تعود أبداً، فهي إما للإنسان وإما عليه، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يمسك بلسان نفسه ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد] كم كلمة تلفظت بها فاشتريت بها رحمة الله، وكم كلمة تلفظ بها العبد أوجبت سخط الله وغضبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) تتكلم بكلمة واحدة تثني بها على الله عز وجل. كنت جالساً لوحدك فتذكرت آلاء الله عز وجل، وقلت: كنت محروماً فأعطاني الله، وضعيفاً فقواني الله، وجاهلاً فعلمني الله، وخائفاً فأمنني الله وكنت وكنت هذا الكلام التي تتلفظه وتثني به على الله عز وجل يكتب الله لك به الرضا، وقد تكون هذه الحروف تلفظها وتتكلم بها لا تلقي لها بالاً تصعد إلى السماء، هذا الكلام اليسير الذي تثني به على العلي الكبير يصعد إلى الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] تصعد فتفتح لها أبواب السماء، لكي تنتهي إلى ذلك المكان الذي شاء الله أن تنتهي إليه، لماذا؟ لأنها كلام يحبه الله ويرضاه. والعكس بالعكس -والعياذ بالله- قد يتكلم الإنسان بالكلمة لا يلقي لها بالاً يكون فيها غيبة، أو نميمة، أو لمز، أو انتقاص للناس، يهوي بها في سفال -والعياذ بالله- وليأتين عليه يومٌ يتمنى فيه أن أمه لم تلده حتى لا يتكلم بتلك الكلمة. والعبد قد ينجو بكلمة صالحة، وقد يهلك بكلمة طالحة، ينصب للعبد ميزانه وينشر له ديوانه ويقال: هات ما عندك من صلاح وطلاح، فيأتي بأعماله الصالحة لكي توزن، ويأتي بأعماله السيئة لكي توزن، فتستوي كفة الحسنات والسيئات، وتأتي تسبيحة واحدة أو تحميدة أو استغفارة توجب نجاته من عرصات يوم القيامة وهي كلمة واحدة. فالمقصود: أن العبد إذا تكلم أو كان في مجلس أن يحرص على أحد أمرين: إما أن تكون من أهل الكمال -رحمك الله- بالكلام الطيب، والتذكير بالله عز وجل، وتقريب القلوب إلى الله عز وجل، أو على الأقل تكون صامتاً وهو حال أهل السلامة، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولذلك قال بعض السلف: [من علم أن الله يسأله عن كلام فيه؛ قَلَّ قوله إلا فيما يعنيه] من علم أن الله سيسأله عن قول فيه، يعني: الكلام الذي تكلمه بفمه، قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه. ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله حريصين على عدم كثرة الكلام، والثرثرة فيما لا يرضي، خاصة إذا كانت فيما لا يرضي الله عز وجل، الآن بعض الشباب الأخيار يصلون ويخرجون من تلك البيوت الطاهرة ثم نزل بهم القدم إلى الوقوع في ذلك، فأنت إذا صليت في مسجد من المساجد تخرج بانشراح عجيب، وطمأنينة غريبة، حتى إذا جلست المجلس ونطقت بكلمة واحدة من غضب الله وإذا بالقلب يضنك، وإذا بذلك الانشراح يخلفه انقباض، وذلك النور تعقبه الظلمة، فإذا بالقلب قد تغير، وإذا بالنفس التي كانت مطمئنة متلهفة على طاعة الله إذا بها على العكس أو الضد من ذلك والعياذ بالله. فالمقصود: لا بد من مراقبة اللسان والكلام الذي يتفوه به، فهذا من علامة السعادة والتوفيق -جعلنا الله وإياكم من أصحابها- ولذلك ذكروا عن بعض السلف أنه كان يحصي عدد الكلمات التي يتكلم بها من الجمعة إلى الجمعة، ولذلك يقول بعض الفضلاء: لو أن إنساناً جرب يوماً من الأيام أن يكتب بعض كلامه لأخذ صفحات كثيرة، فكيف بكل الكلام. فالمقصود: أنه ينبغي الحذر من هذا، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم لساناً ذاكراً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

علاج العجب والرياء والوسوسة

علاج العجب والرياء والوسوسة Q هناك مجموعة من الأسئلة عن الرياء والعجب، وسائل يعاني من الوسوسة في الرياء، وسائل يسأل: عن معنى قول الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: إن الرجل ليعمل العمل أمام الملأ من الناس وهو أخلص ما يكون، ويعمل العمل في خفاء عن أعين الناس وهو من أقبح الرياء؟ A هنا قضيتان وردت في السؤال: القضية الأولى: قضية العجب، والقضية الثانية: قضية الرياء في العمل الصالح. أما قضية العجب فهو: شعور من النفس يجعل الإنسان مدلياً على ربه -والعياذ بالله- كأنه يعتقد أنه استوجب الطاعة على الله، وأنه ذاك الرجل الذي قد بلغ ما بلغ من طاعة الله ومرضاة الله بحوله وقوته، نسأل السلامة والعافية. العُجب من أعظم البلايا وأشد الرزايا، وقد يكون الإنسان من أصلح خلق الله قولاً وعملاً، ولكنه عند الله في سفال بسبب عجبه بعمله، وقد يكون العبد من أقل الناس عملاً، ولكن عنده شعور بالتقصير، وعنده ندم في حق العلي الكبير، ومحبة لأن يكون مكملاً لذلك النقص، وإذا به يرفعه الله بهذا الشعور إلى أعلى الدرجات، إن الندم الذي يصحب التقصير نعمة من الله عز وجل، وإن كان المفروض أن الإنسان يشحذ نفسه إلى الكمال. لكن المقصود: أن الإنسان قد يغتر بكثرة الصلاح والعمل، وقد بين الله تعالى ذلك حينما قص لنا خبر ذلك الذي عجب بصلاحه وقوله، فأورده الله عز وجل الموارد، وكانت نهايته خسارة الدنيا والآخرة، يقول تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176] انظر ماذا كانت النهاية, النهاية أن جعل بمثابة الكلب -والعياذ بالله- لا يحفظ الخير لربه. فلذلك يبكى على هذا العبد، أعطاه الله عز وجل ما أعطاه، وبلغه ما بلغه وآتاه، فأدلى على الله بعمله، وكان في عجب من صلاحه حتى تأبى على الرسالة حينما عرضت عليه أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت أرجو أن أكون ذلك الرجل، فعجب بنفسه؛ فأورده الله السفال -والعياذ بالله- كان آتاه الله عز وجل من آياته ما أعطاه، فكانت كلماته عجيبة في التذكير بالله عز وجل، ثم كانت الخاتمة -والعياذ بالله- خاتمة سوء، بماذا؟ بسبب الغرور والعجب. ولذلك مواضع عديدة ذكر الله عز وجل فيها خاتمة الذين كفروا وقرنها بالغرور، فلذلك الإنسان الصالح الموفق يجاهد نفسه في ترك الغرور، إذا دخل الغرور للداعية أفسد الله دعوته، وإذا دخل الغرور لتالي القرآن حبطت قراءته وذهب أجره، وإذا دخل الغرور للإمام هلك في أمانته، وإذا دخل الغرور للشاب الصالح تلف في صلاحه، الغرور لا يدخل في شيء إلا أهلكه، قال بعض السلف: والله ما دخلت مجلساً وأنا أرى نفسي أحقر القوم إلا رفعني الله فكنت أعلاهم، ولا دخلت مجلساً أرى نفسي أعلى القوم إلا جعلني الله أسفلهم. ولذلك كان من سما ت السلف الصالح رحمهم الله أنهم ما كانوا يغترون، ولذلك تقرأ في قصصهم وتراجمهم، فتجد أن من أبرز الصفات التواضع واحتقارهم لأنفسهم، كان إبراهيم النخعي هو المرجع في الفتوى في الكوفة، ذلك الإمام الجليل والعابد الصالح، وكان آية في الفقه والفهم، ومع ذلك كان لا يجلس تحت سارية في مجلس بعينها خوف الغرور والشهرة، كان يخاف أن يجلس تحت سارية حتى لا يقصده الناس في ذلك الموضع رحمه الله، وهو إمام جليل ذو قدم راسخة في طاعة الله عز وجل ومرضاته، حتى أثر عنه أنه مكث ثلاثين سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام رحمة الله عليه، ومع ذلك يحتقر نفسه هذا الاحتقار. كان سفيان الثوري رحمه الله وهو من أئمة السلف والمحدثين الأجلاء، إذا جلس في المجلس وهو إمام وأي إمام، صلاح وديانة واستقامة وعفة، كان إذا جلس في المجلس ضم ركبة إلى ركبة، وأدلى بعينيه بين ركبتيه أو على ركبتيه، كأنه من الجلاس فيجلس في أطراف المجلس؛ من التواضع واحتقار النفس. من كمال الرجل وصلاحه إذا ازداد من الخير لا يغتر بل ينزل إلى الناس. إن كريم الأصل كالغصن كلما ازداد من خير تواضع وانحنى كريم الأصل، من كثرة الخير الموجود فيه يتواضع للناس ولا يغتر، ما يريد من الناس أن تقوم له وتقعد وتبجله، ويأخذ الدنيا كلها سمعةً ورياء، لا، ما يريد هذا، يريد فقط مرضاة الله عز وجل، ثم تجده يتدلى للناس مثل غصن الشجرة إذا جاء الثمر فيه ماذا يفعل؟ كلما ثقلت الثمرة ماذا يفعل الغصن؟ ينزل، وصف الله الجنة فقال: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:23]. فلذلك هكذا أهل الخير والصلاح، إذا كنت على صلاح واستقامة تواضعت للناس، الشاب الصالح الذي أصلح الله قوله وعمله ليس عنده غرور لا في القول ولا في العمل، إذا جئت قلت له: الناس يفعلون الجرائم وكذا. يقول لك: أنا المجرم، المسيء، المقصر في جنب الله عز وجل. ما يقول: فعل الله بهم وفعل، يغتر بنفسه، تقول له: الناس. يقول: دع الناس، أين أنا وأنت من رحمة الله عز وجل؟ أين أنا وأنت من طاعة الله؟ ويتهم نفسه بالتقصير، هذا شأن أهل الصلاح والفلاح -ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم- فلذلك من طريق الكمال وطريق أهل الكمال احتقار النفس حتى تسمو إلى درجات الرضا. الأمر الثاني الذي ورد في السؤال: الرياء: وهو لا يأتي إلا بسبب ضعف الإيمان، والله تعالى أشار إلى أن الرياء من صفات أهل النفاق، وجعل من علامة النجاة منه تحقيق التوبة بثلاثة أمور: فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:145 - 146] إذاً تابوا وأصلحوا، الذي هو تحقيق التوبة، فأصبحا بمثابة الشرط الواحد، واعتصموا بالله فأصبح معاذاً لهم وملاذاً، وأخلصوا دينهم لله. إذاً كيف ينجو الإنسان من الرياء؟ بهذه الأمور: التوبة من الرياء، وإصلاح العمل، بعد أن كان يرائي يصبح ما يرائي؛ لأنه من دلائل التوبة الصادقة، واعتصموا -الاعتصام بالله- والمراد بذلك: الاعتصام بكتاب الله، فيقدم ويؤخر الرجل وفق تقديم القرآن وتأخيره، ثم الأمر الأخير: وأخلصوا دينهم لله، فيرجع إلى الإخلاص، إخلاص الديانة والعبودية لله، فالرياء بلاء من الله تبارك وتعالى يبتلى به العبد، وسببه -كما قال العلماء-: ضعف الإيمان، ولذلك يجعل الله عز وجل في ضد أهل النفاق أهل الإيمان، ولما ذكر الله توبة المنافقين قال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146]. ولذلك بعض المفسرين يأتي بعبارة لطيفة يقول: فأولئك مع المؤمنين، ولم يقل الله تعالى: في المؤمنين؛ لأن تحقيق النجاة من الرياء أمر من الصعوبة بمكان، فقال: مع المؤمنين، ولم يقل: في المؤمنين، ثم قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:146] ما قال: وسوف نؤتيهم أجراً عظيماً، وهذه نكات لطيفة في القرآن أشار إليها الإمام القرطبي وغيره في تفسيره. المقصود: أن الإنسان إذا أراد أن ينجو من الرياء، ينظر أولاً: ما سبب الرياء؟ الرياء ما يمكن أن يدخل القلب إلا إذا ضعف فيه الإيمان، فالجاهل بربه هو الذي يرائي، ولذلك عظم عنده الشيطان، ومحبة رؤية بني الإنسان له في طاعته وذكره وشكره، وهان عليه ألا ينظر الله إليه -نسأل الله السلامة والعافية- ما عرف الله عز وجل، لو عرف من هو الله الذي يتعبده كان بكل قلبه يتمنى فقط أنه يقف بالطاعة وليس أن يرائي في الطاعة. فذلك أول طريق للعلاج من الرياء: الإيمان، أن تتعرف على الله عز وجل، ولذلك جرب، سبحان الله! إذا قرأت شيئاً من صفات الله عز وجل الواردة في القرآن أحببت الله، وأحببت أن تعمل العمل بينك وبين الله، ولذلك من دلائل النجاة من الرياء: أن تجد العبد أحب ما يكون إليه أن يكون العمل بينه وبين الله، لا ترمقه عين، ولا تسمع به أذن، بل بعضهم يتمنى ذلك، ويفرون من رؤية ومعرفة الناس، كل ذلك خشية الفتنة. وهذا هو شأن السلف الصالح رحمهم الله، إن كانوا علماء عجبت لفرارهم من الرياء، حتى إن الواحد يدخل بين الناس كواحد منهم. عبد الله بن المبارك رحمه الله لما أراد أن يستقي من البئر قال له أحد تلامذته: نسقيك يا إمام! فقال: رويداً هلم بنا ندخل مع الناس. فدخل مع الناس، هذا ضربه، وهذا أصاب من ثوبه ما أصاب من طشاش الطين، فتغيرت ثيابه، وتغير لونه من الزحام، فلما خرج قال له تلميذه: قد كنا نكفيك المئونة، أي: هلاّ تركتنا نكفيك المئونة؟ قال: ما طاب لنا العيش إلا بهذا، دخلنا مع الناس وخرجنا مع الناس. أي: كواحد من الناس. فهذه من دلائل أهل الصلاح، والله إذا دخل الصلاح إلى القلب تمنى الواحد أنه في عافية من أن يراه أحد، العبد الصالح شأنه عجيب، والله تعالى وصفه بذلك فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا} [القصص:83] لمن يا رب؟ {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83] فالعلو هو شأن أهل الرياء، يحبون أن يرتفعوا إلى الأنظار، ويكسبوا تمجيد، وثناء، ومدح الناس، يريد أن يكون ذلك الرجل الذي يشار إليه بالبنان، ولكن العبد الصالح لا يريد هذا. والله إنه يبلغ بالعبد في الإخلاص أنه يكره أن الناس تعرفه، ويمقت ذلك، ويحاول أن يتهرب منه، بل إنني أذكر بعض العلماء رحمة الله عليهم ذات مرة في موقف من المواقف حصلت قضية فبكى وكان في مجلسه وكان مع بعض الطلاب وكنت معهم، فقيل له: ما هذا؟ قال: هذا من البلاء الذي بليت به، أصبحت معروفاً بين الناس، يا ليت أن الناس ما عرفوني. هذه فتنة، هذا بلاء، وجلس ي

شرح حديث: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة)

شرح حديث: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة) Q هذا سائل يطلب شرحاً موجزاً لحديث: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة)؟ A لكل عمل شرة: الإنسان إذا أقبل على العمل الصالح والطاعة وجد في نفسه -خاصة في بدايته- أنه شره، وأنه يريد أن يستغرق الطاعة بكل ما يستطيع، وهذا من نعم الله تبارك وتعالى، فالخير دائم إليه، ومحبب إلى القلوب والنفوس، ففي البداية تجد أنك تريد أن تقبل على الخير بكليتك، وهذا أمر موجود، تجد بعض الشباب إذا ابتدأ الهداية يود أن جميع حركاته وسكناته في طاعة ومرضاة الله من لذة وحلاوة الإيمان التي خالطت بشاشة قلبه. لكن هذه الشرة لها فترة تعقبها أحوال، بمعنى: يضعف فيها الإيمان، ويضعف فيها القلب عن محبة الرحمن، وهذه سنة من الله عز وجل له فيها الحكمة البالغة، أحياناً تجد من نفسك في بداية شهر رمضان أنك لو استغللت كل لحظة وثانية من هذا الشهر في محبة الله عز وجل، هذا كمثال بسيط كنا فيه منذ أيام قليلة، فلما دخل الإنسان ونافس في الأيام الأولى والثانية والثالثة فألف الطاعة، فتأتيه الفترة، هذه الفترة لله فيها حكم، من الحكم: أنه يظهر فيها صدق الصادق، بعض الناس إذا جاءته الفترة استمسك، وأصبح في ابتهال ودعاء وإنابة إلى الله عز وجل، وخوف أن يسلب منه ذلك العمل الصالح، وهؤلاء هم الأخيار، وهم أعلى الناس مقاماً في العمل الصالح، وتجده يتألم، يكون محافظاً على قيام الليل والنوافل والطاعات، حتى إذا أصبح منه -ولو شيئاً يسيراً- من التقصير في أمور ليست بالواجبة يتألم ويضجر، ويحس أنه قد فقد حياته؛ لأنه من حياة قلبه يحس أن مصيبته كل المصيبة دينه، وأنه إذا أصيب بنقص في دينه أنها هي الخسارة، عبد طائع منيب لله يحس أنه ينبغي أن تستغل الحركات والسكنات والأوقات في محبة الله. هذه الحلاوة إذا جاءت في بداية العمل لا بد من وجود ضعف بعدها؛ لأنه لو كان الإنسان دائماً في طاعة واستقامة فإنه قد يخرج عن الحد المألوف، وقد يتجاوز إلى مقام التنطع والغلو في الدين، ولكن الله يبتلي العبد بنوع من الضعف، ويكون لهذا الضعف حكمة بحيث يشوق بعد ذلك إلى الخير أكثر، فبعض الأخيار يكون -مثلاً- على طاعة، ثم يسلب الطاعة، فتأتيه فترة، فإذا جاءته الفترة والضعف استمسك بالفرائض، لكن عنده شوق إلى العمل الصالح، فلو عاد للعمل الصالح مرة ثانية يعود أكثر شوقاً وأكثر حرصاً. ولذلك ينبغي للإنسان أن يحسن الظن بالله عز وجل إذا سلب أي شيء من الطاعة، وأن يدمن سؤال الله عز وجل أن يعيدها إليه، والله تعالى أعلم.

كيفية التأثر بالقرآن

كيفية التأثر بالقرآن Q هناك أكثر من سائل يسأل عن قراءة القرآن، وأنهم لا يجدون التأثر الذي وجده السلف الصالح، فكيف يعيش مع القرآن، ويصبح له ذلك الأثر الكبير، ويكون لهم منطلقاً إلى تغيير حياتهم إلى ما هو أفضل؟ وجزاكم الله خيراً. A أما التأثر بالقرآن، ووجود نفعه في القلوب، وحياة الإنسان، فهذه منحة من الله عز وجل يختص بها من شاء. القرآن له رجال، وله صفوة اختارهم الله عز وجل له، فهم أهل القرآن العالمون به العاملون بأحكامه وشرائعه -جعلنا الله وإياكم منهم- والله ما دخلت محبة القرآن إلى قلب عبد فأعقبها تطبيق هذا القرآن إلا كان أشد الناس تأثراً به، وإن من دلائل السعادة والإيمان الحقة محبة القرآن، ومحبة سماعه وتلاوته والحياة، والعيش معه، هذا هو الذي سعد به السلف الصالح، ونالوا به مراتب الفوز والكرامة، وأذاقهم الله به حلاوة الإيمان، فعاشوا عيشة طيبة هنيئة راضية، ما بين ذكر وشكر، وكلام مستقيم، وفعل قويم، كل ذلك حينما كانوا مع القرآن. من كان مع القرآن كان الله معه، ومن عاش مع القرآن أحيا الله قلبه بالقرآن، وما حييت القلوب بشيء مثل القرآن، ولا استنارت ولا أشرقت بشيء مثل كلام الرحمن، وإذا لم تسعد القلوب للقرآن فلأي شيء ترتاح، وإذا لم تهتد بالقرآن فبأي شيء تهتدي؟ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] أي حديث هذا؟ القرآن الذي هو الآية العظمى، والهداية الكبرى، والمنحة الجليلة من الله، هدىً وأي هدى. هذا القرآن ما عرفنا قدره؛ ولذلك لما عرف قدره السلف الصالح رحمهم الله اكتحلوا السهر، فباتوا مع القرآن، وظمئوا الهواجر وهم يتلون القرآن، ما وجدوا فترة ولا ضعفاً ولا خوراً مع القرآن، وكان الواحد منهم من مجلس قرآن إلى مجلس قرآن، يجلس في بيته يتلو القرآن، حتى إذا خرج للناس قضى حوائجه فإن وجد الغفلة من الناس تلا القرآن، بل أعرف أخياراً إلى عهد قريب والله يمشون في السوق وألسنتهم تلهج بتلاوة القرآن. هذا القرآن من عاش معه حيي مع السعادة، وعاش والله الحياة الطيبة المباركة، جرب وحافظ على تلاوة القرآن، فتالي القرآن لا يعرف قسوة القلب، وإحياء الليل بالقرآن يلين القلب، وإن كان في البداية وجد قسوة القلب بعد فترة والله يلين قلبه، هذا القرآن لا يمكن أن تبقى معه قسوة، قال تعالى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] يعني: القرآن {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر:23] فلذلك إذا عشت وحييت مع القرآن والله أصبت الحياة الطيبة. ولما كانت هذه الحياة عزيزة، فهي لا تكون حياة طيبة إلا إذا استجمعت صفة واحدة، يعني: لن تكون حياتك مع القرآن كاملة إلا استجمعت صفة وعقب هذه الصفة أثر، ما هي الصفة؟ الصفة: التأثر بالقرآن، أن تقف مع كل آية من القرآن بل تقف مع كل كلمة، تقف معه لكي تتدبره وتتأمله كما نزل رحمك الله، وهذا الكتاب ما نزل من فوق سبع سماوات إلا لكي نقف معه المواقف الصادقة، ونتدبره ونتأمله ونجد فيه الذكرى، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]. {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] هذا أول شيء التدبر، ثم بعد ذلك {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] فهناك ثلاث مراحل: اقرأ القرآن، وأثناء القراءة تدبر، ثم بعد التدبر يأتيك أثر يسمى الذكرى، فإذا جاءت الذكرى جاء لها أثر ثالث وهو العمل الصالح سواء كان قولاً أو فعلاً، خذ سورة من القرآن اقرأها، ثم قف مع الكلمة الأولى والثانية، والسطر الأول والثاني موقف المتأمل المتدبر، سرعان ما تمضي لحظات يسيرة تلامس فيها هذه الآيات القليلة شغاف قلبك، وتلامس هذه الحروف والكلمات فؤادك وروحك، وإذا بك بعد هذا التدبر تحس أنك وجدت أثراً. ولذلك تجد بعض الأخيار الصالحين إذا تلا القرآن أو الآية أحياناً لا يستطيع أن يكملها، يقف فيتأثر فما يستطيع أن يكمل، وبعضهم تغرورق عينه من الدمع، وبعضهم يبكي ويجهش بالبكاء، هذا من أثر التدبر، والتدبر يكون أثناء القراءة أو السماع قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:83] ثم قال تعالى: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] (من) سببية كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25] أي: بسبب خطيئاتهم، فقوله تعالى: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] معناها: أن إفاضة العين بالدمع كانت بسبب معرفة الحق. إذاً: إذا وجد السماع مع المعرفة التي تكون عن طريق التدبر والتأمل تأتي الذكرى، وترى بعدها عجباً عجاباً، إذا دخلت الآية إلى القلب واستقرت فيه لا بد لها من أثر، وكونك تشكي أنك لا تجد الأثر فإن هذا أمر لا بد له من أسباب، لكن ما من إنسان يقرأ ويجمع هذه الثلاثة الأمور: القراءة مع التدبر، والتهيؤ للذكرى، للعمل، إلا وجد أثر القرآن، ما من آية من كتاب الله تقرأها وتتدبر فيها، وتدخل إلى سويداء قلبك والله لن تصنع ذلك إلا بقيت في قلبك ما شاء الله أن تبقى. ولذلك العبد الصالح يقرأ القرآن، وإذا به ينجو من السيئات بالقرآن، وكيف هذا؟ مثلاً: قرأ سورة، خذ من أيسر السور مثلاً سورة القارعة: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:1 - 11] قرأ هذه السورة الكريمة، فعلم نهاية الدنيا، وانتهاء كل شيء فيها، من جبال تسير كالعهن المنفوش، ثم علم أن العاقبة ميزان حسنات أو سيئات، ثقل بحسنات أو ثقل بسيئات، ثم رأى منظرين: عيشة راضية، ونار حامية؛ فلما علم هذا دخلت قلبه. هذه الآيات لما تدخل القلب ثم تأتي المعصية لن تجد مع هذه الآيات مكاناً في القلب، وإذا جاء داعي الهوى وهذه الآيات في القلب لن يجد مكاناً معها، فسرعان ما تجده يمتنع من محارم وحدود الله بآيات من القرآن، بعض الأخيار تأتيه الشهوة، ويأتيه موقف من المواقف العصيبة التي يمتحن بها في دينه، والله تردعه آية واحدة من كتاب الله عز وجل، تردعه آية في ذكر الجنة، أو النار، أو العرض، أو الحساب، أو الميزان قرأ هذه الآية منذ أمد، فجاءته الشهوة وتزينت له وتجملت، فتحركت هذه الشهوة ودخلت إلى القلب، فلما دخلت القلب جاءت تحرك الآيات الموجودة فيه، فجاءه ذكر تلك الآيات، فتذكر آيات الصحف: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق:7 - 9] فإذا بلذة الآخرة تنسيه لذة الدنيا، وإذا بعظة الآخرة تصرفه عن عظة الدنيا، وإذا بالإنسان قد اتجه إلى الله عز وجل. فالمقصود: لماذا نقرأ ولا نجد الأثر؟! لأننا ما جمعنا هذه الثلاث الصفات: قراءة مع التدبر، مع الأثر الذي يعقب التدبر. إذاً: ما هو العلاج؟ العلاج إذا نظرت إلى أي آية في كتاب الله انظر إليها نظرة المتفكر والمتدبر، انظر إليها وأنت تحس أن الله يخاطبك بها، المشكلة أننا نقرأ القرآن ونظن أنه يخاطب به غيرنا، السلف الصالح رحمهم الله يقرءون القرآن بقلوب ترى كأنها هي التي تعاتب، وكأنها هي التي فعلت وأسرفت، يقرأ صفات في النكال والعذاب يحس أنه من أصحابها، ويقرأ صفات في النعيم والخير يحس أنه ليس من أهلها؛ وهذا من احتقار النفس في جنب الله. ولكننا على العكس: نقرأ آيات في ذكر النار فنحملها على غيرنا، ونقرأ آيات في ذكر الجنان فنعد أننا قد قطعت لنا تلك المنازل، فرق كبير، قال بعض السلف: [والله ما عرضت نفسي على القرآن إلا عددت نفسي من الراسخين في النفاق] ليس منافقاً فقط، بل من الراسخين في النفاق، هكذا كانت حياة السلف رحمهم الله، كانوا يقرءون القرآن بقلوب حية تتفاعل مع هذا الكتاب المبارك. فاقرأ وتأمل، واعرض نفسك وعملك وأقولك وأفعالك على القرآن، سرعان ما تعيش معه. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم حلاوته وتلاوته، وأن يجعلنا وإياكم من المهتدين المرحومين به، والله تعالى أعلم.

مراتب الكياسة وكيف تكتسب

مراتب الكياسة وكيف تكتسب Q الناس في الكياسة مراتب، فمن الناس من دان نفسه، ومنهم من أتبع نفسه هواها، ومنهم من كان بين هذا وذاك، فما هي الوسائل التي يتبعها الإنسان ليملك زمام نفسه ويسخرها في طاعة الله؟ A أما بلوغ درجة الكمال في الكياسة فهذه منحة ربانية، وعطية إلهية يمنحها سبحانه وتعالى لقلوب تعرفه، وجوارح تتعبده، الإنابة إلى الله عز وجل إلى درجة يكون الإنسان فيها كيساً يحفظ نفسه عن محارم الله، ويشحذ همته لطاعة الله عز وجل، هذه مرتبة وأي مرتبة، مرتبة أهل الفلاح، والصلاح، والفوز والنجاح، فإن أنبياء الله تمنوا وسألوا الله أن يجعلهم من أهلها، حتى قال نبي الله سليمان الذي له المكانة عند الله، يقول الله له تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:25] هذا النبي الكريم يضرع إلى الله يقول: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالِحِينَ} [النمل:19]. إن مرتبة الكياسة توجب صلاح القول والعمل، وهي مرتبة عظيمة، ويستطيع الإنسان بلوغها إذا شاء الله له ذلك، فيدعو الله عز وجل أن يجعله ممن حفظ قوله وعمله عن أن يصيب محارم الله، الإنسان الكيس هو: الذي يحسن القول والعمل، والمعاملة لله تبارك وتعالى، وتجد حاله حال حزم وانتقاص موجب للكمال، حال حزم بمعنى: أنه لا يعطي نفسه هواها، ولا يتمنى على الله الأماني، ولذلك قالوا من الحكمة: الكيس -ويروى أيضاً أثر- من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. دان نفسه أي: أهانها وأذلها في الظاهر لطاعة الله عز وجل، ولكن في الباطن أكرمها، من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز أي: الذي فقد الكياسة، من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، من أتبع نفسه هواه: مسترسل في غيه وهواه، وفجوره وبعده عن تقواه. فإذاً: الكياسة تستوجب من الإنسان الحزم، ومن أمثلتها: العبد مثلاً يقول: أريد أن أصوم اليوم، فيأتيه الشيطان ويقول له: لا. إلى غد، الحياة طويلة وأنت شاب. فيقول: لا. الآن أصوم. إذاً هو أخذ بالحزم، وعمل لما بعد الموت، لكن إذا كان عاجزاً محروماً من الكياسة يقول: نعم. الحياة طويلة، إذاً إلى غد. كذلك عندما يريد أن ينفق من المال، مر على مسكين أو محروم أو بائس أو أرملة أو يتيم أو جاءه إنسان {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38]. ويأتيه إنسان يقول له: عندنا قضية تحتاج إلى مساعدة، تحتاج إلى سخاء وجود، فيأتيه الشيطان ويأتيه الهوى، يقول له: يا أخي! أنت الآن ما تزوجت، أنت ما فعلت كذا ولا كذا، ابنِ مستقبلك -كما يقولون- فيأتيه هوى وحظوظ النفس، لكن إذا كان كيساً حازماً ماذا يقول؟ يقول: أليس الكون كون الله، والمال مال الله، والفقر والغنى من الله؟ فما الذي تغنيه عني أموالي لو شاء الله أن أكون فقيراً؟ وما الذي يضرني لو أني أنفقت في طاعة الله عز وجل؟ وكما قال الشاعر: أروني بخيلاً طال عمراً ببخله وهاتوا جواداً مات من كثرة البذل فإذا تحركت في النفس معالم السخاء والجود والعطاء في محبة رب الأرض والسماء؛ جاء الحازم لكي يقوي تلك الهمة، ويشحذها على طاعة الله، ولكن جاء العاجز فقال: كيف أضيع مستقبلي وأبني مستقبل غيري؟ كيف أهدم حياتي وأصلح حياة غيري؟ فيعيش مع أشجان يعمرها بسوء الظن بالله عز وجل. الكيس عبد صالح يعرف كيف يعامل الله عز وجل، مثلاً جاءه حديث نفس بالطاعة، الآن أنت جالس فجاء حديث النفس بالطاعة، لو قمت وتوضأت وصليت ركعتين، فإن كان كيساً قال: ركعتان كم فيهما من حسنات؟ فقام مباشرة وتوضأ وصلى ركعتين، وناجى ربه وناداه، وسأله من خيري الدنيا والآخرة، هذه كياسة حرص على الطاعة شحذ همة، ولذلك بعض الأخيار إذا جئت تدعوه إلى أي عمل خير، ما ينتظر، كل شيء يحتمل التأخير إلا طاعة الله. من الكياسة: حسن المعاملة لله عز وجل. والعكس بالعكس -والعياذ بالله- إنسان خامل، نائم، يريد أن يصل إلى الدرجات العلى وهو في شهوات وملهيات، وتسويف في طاعة رب البريات، شتان ما بينهما، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] كلا والله، الله عدل لا يمكن أن يساوي بين الفريقين، وشتان ما بين الطائفتين. فالمقصود: لا بد للإنسان أن يشحذ همته إلى الكياسة، وأن يحاول أن يستجمع من نفسه ما يدعوه إلى كسب الوقت في طاعة الله ومرضاة الله عز وجل، جاءك حديث نفسك، فقال لك: هناك محاضرة لشيخ داعية. فيأتي الشيطان يقول: ما هو عنوان المحاضرة؟ الصبر، سمعنا عن الصبر كثيراً. عاجز، خاذل، لكن بعض الأخيار لو سمع عن الصبر مائة مرة، كلما سمع كأنه أول مرة يسمع، يقول: يا الله، محاضرة كي نذهب. يريد أن يشغل وقته في طاعة الله. عندنا مجلس فيه إخوان يقرءون كتاباً مفيداً يتذاكرون العمل، يقول: بسم الله، يا الله. حازم، ما يسوف ولا يضيع في طاعة الله -جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل- والله إنها لحياة القلوب، ونسأل الله أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بذكره وشكره، والله تعالى أعلم.

سبل التخلص من الذنوب التي يصعب على النفس تركها

سبل التخلص من الذنوب التي يصعب على النفس تركها Q أكثر الأسئلة يشتكي أصحابها من عدم قدرتهم على الابتعاد عن معاصٍ معينة، فعلى سبيل المثال: هذا سائل يقول: أنا شاب كلما تبت إلى الله رجعت إلى المعاصي، فقل لي شيئاً ما إن تمسكت به لن أرجع إلى هذه المعاصي بإذن الله؟ وآخر يقول: كيف أخلص نفسي من تعلقي بمعصية وشهوات كثيراً ما بكيت منها ولا أستطيع تركها، أرشدوني أثابكم الله؟ A يقول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]. أخي في الله: هو طريق واحد، إما أن ينتهي إلى الجنة أو إلى النار، والله تعالى بين أنك لن تنجو ولن ينجو عبد من النار إلا بأمرين: أحدهما يتركب من الآخر، ما هما الأمران؟ {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات:40] يتركب على الخوف من المقام والموقف بين يدي الله {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] ما هي النتيجة؟ {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41] هذا هو الطريق الوحيد الذي تنجو به من عذاب الله وسخط الله. يا هذا! الأيام مراحل تطوى بك لكي تقربك إلى الله عز وجل، كل يوم تصبح فيه فتأتيك دواعي المعاصي، تذكر يا أخي ما هذا اليوم؟ هذا اليوم خطوة إلى الله عز وجل خطوة تقربك إلى الله سبحانه وتعالى خطوة تدنيك من الله عز وجل، إذا كانت الأيام والليالي لا تزيد العبد صلاحاً فوالله لا خير في العيش، لماذا نطلب الحياة، ونطمع فيها؟ والله والله لقد تنكد العيش، ولم يعد للعبد أمل في العيش إلا أن يزاد فقط له من الحسنات، والله ثم والله ثم والله! لو علم العبد أن الحياة لا تزيده من الله قرباً لسأل الله الموت؛ لأنه لا ينجو، الحياة ملئت بالفتن وبالمعاصي وبالمحن، كلما وقف الإنسان في سبيله إلى الله جاءته هذه الفتن والمحن من كل حدب وصوب، من القريب والبعيد، ممن يعرف وممن لا يعرف. إذاً أخي في الله! هو طريق واحد: طريق الناجين، ووالله لا نجاة في غيره أبداً، طريق واحد، قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]. فلذلك أخي في الله! هذه المعصية كل يوم تصبح فيه تفكر وانظر، أولاً: أدعوك أن تقطعها بالكلية، أصبحت اليوم فجاءك الشيطان يحدثك بهذه المعصية فاجتهد وجاهد أن تترك هذه المعصية لله عز وجل. وأوصيك بأمور وبوصايا: الأمر الأول: إذا أصبحت فاعتبر كأنه آخر يوم لك من الدنيا، ووالله لا أضمن أن أقوم من مجلسي هذا، وليس أن أنتظر الصباح، لا أحد يضمن، الإنسان لا يضمن نفسه في طرفة عين. بينما امرؤ بين يديك حيا إذ صرت لا تبصر منه شيئا في طرفة عين فقط، تأتي -سبحان لله! - إلى البيت الصباح تخرج منه ترى جارك، يمكن أحياناً ساعات وإذا بصراخ وعويل، ماذا هناك؟ فلان مات، حادث أو ما شابه، إنا لله وإنا إليه راجعون، ما يملك أحد لأحد من الله شيئاً. إذاً: هذه الحياة مطايا تقربنا من الله عز وجل، إذا أصبحت أول شيء تحدث نفسك كأنه آخر يوم عهدك من الدنيا، فإذا استطعت أن تترك المعصية بالكلية فوالله قد فزت، استعن بالله ثم بالدعاء، أكثر من الدعاء، كذلك أيضاً ذكر الله عز وجل حتى تكون في الحصن الحصين، الفرار إلى الأخيار، إلى مجالس الذكر، تستجمع هذه الأسباب في يومك ذلك. ابتعد ما استطعت أن تبتعد، ولا أظن إن شاء الله إذا فعلت هذه الأسباب إلا وسيوفقك الله عز وجل، ولا تستلم، المشكلة أن الإنسان إذا اعتقد أنه ضعيف خذله الله عز وجل، لكن إذا اعتقد أنه قوي بإذن الله، وأحسن الظن بالله يوفق. الأمر الثاني: إذا كان لا سمح الله ما استطاع الإنسان أن يكبح جماح الشهوة، فما هو الحل؟ يحاول أن يقلل منها، حولها من معصيتين إلأى واحدة، وإذا كانت أربع إلى اثنتين، قدر ما يستطيع، فإن تقليل المعصية جزء من التوبة إلى الله عز وجل، ويعتبر جزء إنابة إلى الله سبحانه وتعالى، تخفف من المعصية. الأمر الثالث: انظر إلى الأسباب التي تحرك المعصية، إن كان النظر اكسر النظر بخشية الله وارمه في الأرض، وإن كان الخلوة لا تجلس لوحدك، بعض المعاصي تتحرك بالخلوة، يختلي الإنسان فيقوى سلطان الشيطان عليه فيتحرك لفعلها، إن كان مثلاً النظر إلى أشياء أو سماع أشياء لا تستمع، المهم تتعاطى الأسباب التي تعينك على البعد من هذه المعصية، وجماع الخير: أن تتذكر أنك إلى الله عز وجل صائر، وأنك ستسأل عن هذه الروح التي أنفقت لياليها وساعاتها في معاصي الله عز وجل. ثم سل النفس: ما الذي جنيته؟ كم من شهوات أصابها العاصي ما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة؟ وكم من رحمات أصابها المطيع فماذا بقي من تعبه؟ بالأمس القريب كنا في رمضان، كان هناك صيام وقيام وعناء في طاعة الله، ما الذي بقي من التعب؟ ذهب النصب والتعب وثبت الأجر إن شاء الله، فلذلك الواجب على الإنسان أن يعزي نفسه ويسليها بذلك، وأسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] ولذلك يقول بعض العلماء: إن في هذه الآية دليل على أن العبد إذا تحركت نفسه إلى المعصية، وكان يستدمن الخوف من الله عز وجل فإنه غالباً ينجو منها؛ لأن الخوف من الله أثره ترك الهوى، والمعصية مما تهواه النفوس وتميل إليه. فلذلك علاج ترك المعاصي والطريق الأمثل: الخوف من الله، ولذلك أكثر من ذكر الله عز وجل، واعرف من هو الله الذي تريد أن تعصيه، وبإذن الله عز وجل سيكون ذلك أعظم زاجر لك عن معصية الله، والله تعالى أعلم.

الإنسان بين داعي الخير ومضلات الفتن

الإنسان بين داعي الخير ومضلات الفتن الحقيقة أود أن يكون ختام حديثي لهذا المجلس المبارك كلمة. أقول وبالله التوفيق: إن الله تبارك وتعالى قد جعل العبد مخيراً بين سبيلين: سبيل هدىً وسبيل ضلال، سبيل رحمة وسبيل عذاب، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] فالعبد مخير بين السبيلين، وهو مذكر بالداعيين: داع إلى الجنة، وداع إلى النار. والله عز وجل إذا أراد بالعبد خيراً ألهمه أن يصغي بسمعه لداعي الخير ومحبة الله عز وجل، وإذا أراد به شراً -والعياذ بالله- أصغى بسمعه إلى داع الهوى والردى. إخواني في الله: كلمة أذكركم ونفسي بها بالله عز وجل: في هذا الزمان الذي عظمت فتنته، واشتدت محنتة، وأصبح العبد في محنة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، قد كنا نصلي ويقول الإنسان في دعائه كما في الدعاء المأثور: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) كنا ندعو بهذا الدعاء، وكما قال بعض العلماء من الفضلاء المعاصرين، قال: كنت أدعو وأقول كما ورد الحديث: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) وأنا بقلب منصرف، ولا أحس بقيمة هذه الدعوة كما ينبغي، فلما رأيت فتناً عظيمة، ومحناً جليلة، أدركت عظيم هذه الدعوة، حتى إذا قلتها أصبحت أقولها وقلبي يستشعر معناها. كلما تأخر الزمان جاءت الفتن وعظمت المحن، حتى أصبح الإنسان مخيراً بين الداعيين على الحقيقة، العبد يكون على صلاح واستقامة، فيخرج من بيته فيبلى بفتنة في السمع، والبصر، والقول، والعمل، وإلى الله المشتكى. كسر لا يجبره إلا الله، ونقص لا يكمله إلا الله عز وجل، إنها (فتن كقطع الليل المظلم، يمسي العبد فيها مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! فخير ما يوصى به المؤمن: أن يحس أنه لا نجاة ولا فلاح إلا بالاعتصام بالله تبارك وتعالى، والرجوع إلى كتاب ربنا، والاحتكام إلى أهداب شرعنا، وتحكيم ذلك في كل صغير وكبير، والسير على وفقه في كل جليل وحقير. إخواني! تنكد العيش، وتنغصت الحياة، ووالله لم يعد للعبد صوان إلا بطاعة الله تبارك وتعالى، أظلمت الحياة وكانت قبل منيرة حينما كان الخير أكثر من الشر، ولكن عم البلاء وطم، وأمر لا يشتكى إلا إلى الله عز وجل. المخرج: أن يحاول الإنسان قدر استطاعته أن يلوذ بالله تبارك وتعالى، وأن يعوذ بالله سبحانه وتعالى فإن الفتن وقعها على القلوب أشد من وقع الجمر على الجسد، إنها تكوي القلوب فتظلمها من بعد النور، وتعميها من بعد البصيرة، وتصرفها عن الخير إلى الشر. ولكن أحبتي في الله! من أراد الله عز وجل له السعادة والتوفيق ألهمه أن يستبصر بالثقلين والنورين المباركين: كتاب ربنا، وسنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه. والله إن من دلائل النجاة -خاصة في هذا الزمان- الوقوف عند القرآن، والتأدب بآدابه، والالتزام بحدوده، ولا يغرنك قلة السالكين، وندرة الثابتين، فالموعد عند رب العالمين، وما على الإنسان إلا أن يسعى في فكاك نفسه من عذاب إله الأولين والآخرين. من أراد الله عز وجل أن يغيثه من هذه الفتن والمحن شرح قلبه بالقرآن، فعاش مع آياته وعظاته، وارتاح لما فيه من الذكرى والعظة من رب العالمين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصدُورِ} [يونس:57] فمن أراد أن يشفي الله صدره من الفتن، وأن يغيثه من المحن، فليلتزم بهذا الشفاء والدواء، ثم سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، يتعلمها الإنسان، ويعلمها الغير، ويلتزم بها قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تثبت قلوبنا على طاعتك، وأن تشرح صدورنا لمرضاتك، وأن تجعلنا من خاصة عبادك المتقين، من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن توفقنا لكل عمل يرضيك عنا، وأن ترزقنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة، اللهم إنا نعوذ بك من حياة تبعدنا عنك، ومن حياة توجب غفلتنا عن ذكرك وشكرك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، نستغفرك اللهم ونتوب إليك. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأخوة الإيمانية

الأخوة الإيمانية الأخوة في الله منحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يشاء من عباده، وهي من أعظم وأوثق عرى الإيمان ومما يوثق هذه العلاقة ويجعلها سبباً لنيل الأجر؛ أن تكون لله وفي الله، لا لأحد سواه، وأن تكون قائمة على التناصح بين الإخوة، ومن لوازم الأخوة أن يكون الأخ كريماً مع أخيه، مساعداً له في قضاء ما يستطيع من حاجاته.

آثار الأخوة الإيمانية

آثار الأخوة الإيمانية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وفي بداية هذا اللقاء أزجي عاطر الشكر والثناء لهذه الجامعة المباركة جامعة أم القرى بفرعها بالطائف أن كانت سبباً في هذا الجمع المبارك الكريم, وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي القائمين عليها خير الجزاء, وأن يعظم لنا ولكم المثوبة منه إنه فاطر الأرض والسماء. أيها الأحبة في الله! خلة من الخلال وخصلة من أطيب الخصال, خلة من خلال المتقين وعباد الله الأخيار الصالحين, وخصلة من خصال المهتدين, إنها الحب والأخوة في الله والدين، إنها الأخوة الإيمانية التي قامت على الآيات والعظات القرآنية, أرسى دعائمها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, وسار على نهجها أولو النهى, حتى خبطت أقدامه في الجنة مع الرضا, إنها الحب في الله, هذا الحب الذي أقسم النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي من أصحابه أنه يجده في قلبه, ففي الحديث الصحيح عن معاذ رضي الله عنه وأرضاه قال: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي وقال: يا معاذ! والله إني لأحبك) , فنعم المحب ونعم الحبيب. إنها الأخوة الإيمانية والمحبة المبنية على الشريعة المرضية. إنها الأخوة التي إذا سكنت في القلوب هدى الله عز وجل أهلها, وأصابهم بالزكاة في قلوبهم وطهرها. إنها الأخوة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه الأخيار, من المهاجرين والأنصار، فسطروا بها في دواوين المجد والعز صفحات البذل والإيثار, كانوا قبلها متباعدين, فأصبحوا بها -بفضل الله- متقاربين, كانوا متعادين فأصبحوا بها متآخين, كانوا متباعدين متباغضين متدابرين {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] ولكن من غيره سبحانه يجبل تلك القلوب على المحبة، ويقلبها على الصفاء والمودة، فانقلبت تلك القلوب من الشحناء والبغضاء إلى المودة والحب والصفاء، فلا إله إلا الله من يوم اجتمعت فيه قلوب أولئك الأخيار, ولا إله إلا الله من يوم آخى المصطفى فيه بين المهاجرين والأنصار. إنها الأخوة التي حملت رسالتها هذه الأمة جيلاً بعد جيل, ورعيلاً بعد رعيل, حب وصفاء وود وإخاء, يتألم المؤمن لآلام إخوانه, ويحس بإحساسهم ويشعر بأشجانهم. إنها الإخوة التي صورها النبي صلى الله عليه وسلم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, فكم عين للمسلم سهرت لآلام المسلمين, وكم من قلوب فارقتها الراحة في المضاجع لآلام المؤمنين. إنها الأخوة التي يحس فيها المؤمن أنه من أخيه ولأخيه على الطاعة والدين, فوالله ما فتحت قلبك لحب في الله، إلا تأذن الله لك بحبك من فوق سبع سماوات، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: وجبت -ثبتت واستقرت- محبتي للمتحابين فيّ, وللمتجالسين فيّ, وللمتزاورين فيّ). الله أكبر! محبة انتصبت من أجلها أقدام الراكعين والساجدين, وجرت بها دماء الشهداء المجاهدين, محبة ظمئت من أجلها أحشاء الصائمين, وتألمت لها قلوب العابدين الخائفين, كل ذلك طلباً لهذه المحبة من الله, وجبت حينما تفتح قلبك لأخيك لله وفي الله, ما أعظمها من محبة توجب عند الله الزلفى والقربة، ما أعظمها من محبة, إذا فتحت قلبك لها تأذن الله بحبك، فأي يوم أعز وأشرف من يوم تغيب فيه الشمس عليك والله قد أحبك؟ وأي يوم أجل وأشرف حينما يكون الله محباً لك؟ كل ذلك لهذه المحبة حينما تفتح سويداء قلبك لإخوانك لله وفي الله, ألم تعلم أنك لو خرجت من بيتك يوماً من الأيام, فاطلع الله على فؤادك وقلبك أنك خارج لأخيك لله وفي الله ناداك منادٍ من الله: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة نزلاً, وبهذا الخروج وبهذه الزيارة ترفع الأقدام إلى الله، وتكتب الخطا عند الله, فقد أوجب الله الحب منه للمتزاورين فيه, ولكن فيه سبحانه, (والمتجالسين فيه) فلئن فتحت باب بيتك يوماً من الأيام لإخوانك وخلانك وقلبك ولسانك على الحب سواء, فلئن فتحت باب دارك، فلقد فتحت باب رحمة الله عليك، ولئن جلست معهم تثبتهم وتسليهم وتذكرهم بطاعة باريهم فنعم والله المجلس، حينما تقوم والله راضٍ عن جلوسك وعن إخوانك.

دعائم الأخوة الإيمانية

دعائم الأخوة الإيمانية إن الحب الخالص والصادق يكون لوجه الله, وهذا الحب وهذه الثمرات الكريمة لا تكون إلا بقواعد ودعائم أرساها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

قضاء حاجة المحتاج

قضاء حاجة المحتاج أما العلامة الثالثة التي تدل على الحب في الله فهي أعلى مراتب الحب في الله, وهي: مرتبة الكمال, حينما تكمل الدين بالدنيا, حينما تستر عورة أخيك أو تفرج كربته أو تؤنس وحشته, فتكون خير أخ وعضد له بعد الله جل جلاله, الأخ يحتاج إلى أخيه, تمر به الظروف والفتن والمحن, يحتاج إلى من يقف معه ويمده بمال أو يواسيه في شدة الحال, فقف مع إخوانك, فكم من إخوان بذلوا أوقاتهم لإخوانهم في الله ففازوا بمرضاة الله جل وعلا, ما الذي تأخذه من الدنيا غير تفريج الكربات، ورفعة الدرجات لما تسديه إلى الأرامل والبائسين والمحتاجين من إخوانك المؤمنين. إن من أعظم القربات وأعلاها عند الله قدراً تفريج كربات المسلمين, فاحتسب إذا سمعت أن أخاك بحاجة إلى مال؛ أن تعينه بالمال إذا استطعت, لا يكون المال أعز عليك من أخيك في الله, ابذل المال لوجه الله, فوالله ما أنفقت لأخيك مالاً ترجو به رحمة الله إلا أصابتك دعوة الملكان: (اللهم أعط منفقاً خلفاً) فلك الخلف من الله, كم من يد مدت إلى أخيها تعينه في شدة الظروف, والله يعلم أنها آثرت بهذا المال نفسها وأبناءها فعوضها الله إيماناً, وعوضها خشوعاً فأصابت خيري الدنيا والآخرة, الخلف من الله مضمون, والربح منه مضمون, فليكن مصداق الحب في الله تفريج الكربات عن الإخوان في الله, كم من رجل يقول لك: أحبك في الله وهو يعلم أنك محتاج إلى ماله, ولا يمد لك شيئاً منه، كيف يطيب العيش للغني المسلم وقد كشفت عورة أخيه المسلم؟! وكيف يلذ العيش للغني المسلم وقد تقرحت أحشاء وأمعاء الأيتام والأرامل من المسلمين؟! كيف يلذ العيش للمؤمن الصادق وهو يعلم أن أخاه يتضور جوعاً؟! ذكروا عن بعض الصالحين أنه كان غنياً ثرياً كثير المال, جاءه رجلٌ يوم من الأيام في شدة البرد, وكان هذا الرجل قد بسط الله له من الخير شيئاً كثيراً, فجاءه هذا الرجل -والناس بعضهم دليل خير ومفتاح خير- جاءه ولم يأته لغرض من الدنيا, ولكن جاءه لحاجة إخوانه المسلمين, فقال له: إن بموضع كذا وكذا أسرة فيها أيتام وأرامل ليس عندهم طعام ولا لباس يقيهم البرد, فنادى ذلك الرجل حاجبه -والرجل الذي يقوم على أمواله- فلما دخل عليه قال: انتظر, قال: فدخل إلى غرفته ولبس ثياباً خفيفة في شدة البرد, ثم دخل على حاجبه وقال: إنه قد بلغني أن بموضع كذا وكذا أيتام وأرامل، وأنهم قد آلمهم البرد فلا طعام معهم ولا كساء, اذهب إليهم فأطعمهم واكسهم واملأ أيديهم من المال, وإني في ملاءتي هذه أجد من البرد ما يجدون حتى تعود إليّ. إنها قلوب تحس بما يحس به إخوانه المسلمين. توفي علي زين العابدين ففقد أكثر من ثلاثين بيتاً كان بالليل يقرع الباب عليهم بالصدقات والطعام, لا خير في المال إذا لم تستر به عورات المسلمين, وتفرج به كربات إخوانك المؤمنين, أيُّ خير للملايين إذا اكتنزتها، وخرجت منها صفر اليدين من رحمة الله والعياذ بالله, ما الذي تستفيده من المال إذا أسرك فأصبحت أشجانك وأحزانك معه فخرجت صفر اليدين من المعاملة مع الله, فلقد بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقيم العبد يوم القيامة بين يديه، فيقول له: عبدي! ألم أسودك؟ ألم أعطك؟ ويذكره بالنعم, ثم يقول: فماذا عملت لي؟) فلو وقفت بين يدي الله وسألك الله عن إخوانك في الله, عن مكروب في دينه علمت أنه مديون فلم تفرج كربه, وعن مكروب علمت أنه بحاجة إلى من يثبته فلم تثبته, فليس تفريج الكربات يختص بالأموال, ولكن يكون بحسن المقال, إذا لم يكن عندك المال وعلمت أن أخاك مهموم أو مغموم، فابذل إليه كلمة، فكم من كلمة من أخ فرج الله بها الهموم, الأخ يحتاج إليه أخوه بكلمة تثبته خاصة في الأحزان والأشجان. ولذلك شرع الله عيادة المرضى وشرع تشييع الجنائز والتعزية، كل ذلك لكي يتثبت الله بها قلوب المؤمنين بكلمات إخوانهم المؤمنين, فلذلك ينبغي للمؤمن أن يسعى إلى أعلى مراتب الأخوة, وأن يفضل إخوانه على نفسه. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الحب فيه, والولاء فيه, اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعلنا ممن وجبت محبتهم لك يا ذا الجلال والإكرام, اللهم إنا نسألك أن نحب بحبك من أحبك, وأن نعادي بعداوتك من عاداك, وأن تجعلنا سلماً لمن سالمت، وحرباً لمن حاربت, عوناً لأوليائك, حرباً على أعدائك, يا ذا الجلال والإكرام, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.

الإخلاص في المحبة

الإخلاص في المحبة أول دعائم الحب في الله: إخلاص العمل لله, أن تفتح القلب وأن تشعر أن الله يسمعك ويراك, فيرى هذا العمل من القلب وليس لأحد له فيه حظ ولا نصيب, تفتح قلبك لا لجمال, ولا لمال, ولا لحسب, ولا لنسب, ولكن لله جل جلاله, حينما تحب المسلمين ولو كانوا عنك بعيدين, وحينما تحبهم ولو خالفتهم لوناً أو مرتبة أو عزاً أو شرفاً فلا فضل إلا بالتقوى. إنه الحب الخالص لله، وما الذي ضر كثيراً من الشباب اليوم غير دخول الدواخل في المحبة لله, فكم من شباب في بداية الهداية والاستقامة فتحوا القلوب لله جل وعلا حتى وجبت لهم المحبة من الله والرضا، فما مضت الأيام إلا والمجالس عامرة بذكر الله الملك العلاَّم, وكم من شباب -في بداية الهداية- وجدوا طعم الأخوة ولذة الحب في الله, لما كانت القلوب خالصة لله علام الغيوب، يوم خرج الشاب من بيته يتعطش لأخٍ يواسيه أو يسليه أو يثبته على طاعة باريه, فخرج من البيت صادقاً محتسباً مخلصاً لله جل جلاله, ولكن تغيرت القلوب فغير الله عز وجل ما بها من الخير إلا أن ينيب العبد أو يتوب. لذلك أيها الأحبة في الله! الوقفة الأولى مع الحب في الله: أن يكون خالصاً لله جل وعلا, الحب في الله عبادة تعلقت بالقلوب، فكما أن اليد والقدم والجوارح تتقرب إلى الله، كذلك للقلب أعمال تكون عبادة بينه وبين الكريم المتعال, ومن أعمال القلوب التي يجب إخلاصها لله علام الغيوب: الحب في الله جل وعلا أشرف وأعز مطلوب. أما الوقفة الثانية: فإنك إن أخلصت لله جل وعلا فاعلم أن إخلاصك في الحب لله له أمارات وعلامات ومن أجلها وأشرفها: أن تحس أن قلبك اتجه لأخيك طاعةً لباريك، لا لأي شيء سوى ذلك, أن تتجه شُعب هذا القلب إلى الإخوان والخلان, إما لطاعة من ذكر أو شكر أو عناء أو عبادة أو خوف أو إنابة أو خشوع, ترى أخاك يوم تراه راكعاً فتحبه لركوعه, أو ساجداً فتحبه لذلته وخضوعه, أو يده سخاء على الأيتام والأرامل فتحبه من خلال ما يحبه الله من القول والعمل, تحبه من جهة الأعمال الصالحة والقربات والطاعات, ولذلك أحق من يحب في الله, وأحق من يتأذن الإنسان بأخوته في الله هم العلماء والدعاة إلى الله, لأنهم أعظم الناس خيراً وأعظمهم طاعة وبراً, إذا نظرت إلى العالم استهوى قلبك ما فيه من الخير الكثير والفضل المستطير, ذلك الخير الذي نفع الله به القلوب فأنار به السبل والدروب, فتحب العالم يوم تحبه, وكأن لسانك يقول: أحبك يا عالم الأمة من سنة أحييتها, أو بدعة أمتها, أو شعيرة أقمتها؛ تحبه حينما تتذكر، فكم من تائه أرشده, وكم من طالب علم علمه, وكم من ليل اكتحل السهر فيه لكي يحل للأمة معضلة, أو يكشف لهم مدلهمة أو مشكلة, تحبه من قلبك لأنه على ثغر من ثغور الإسلام, حتى إذا نظرت إلى ذلك الداعية إلى الله, نظرت إليه يوم نظرت وقد تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه وبيانه, تجذب القلوب إلى الله, وتنير الدروب في محبة الله لا يرجو الثواب إلا من الله, فيتجه قلبك إليه لله وفي الله, حتى إذا فعلت ذلك أحبك الله بحب أوليائه، وتأذن لك بذلك الحب الذي لم يستوجبه عبد إلا وفق للخير كله. حب العلماء وحب الدعاة والهداة إلى الله سمة من سمات الصالحين, فكلما كان الإنسان صالحاً مستقيماً براً سائراً على نهج ربه فإنه يحب العلماء من كل قلبه, كلما تمكن الإيمان من القلوب كلما اتجهت إلى أولئك الصلحاء وأولئك الأخيار, الذين تأذن الله لهم بالحب في الأرض والسماء, فوضع لهم القبول بين العباد ونشر خيرهم بين الحاضر والباد, فهذه من أعظم الدلائل على الحب في الله. ولقد ضرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الصادق حينما أحبوا النبي صلى الله عليه وسلم صدق المحبة, أحبوه للنبوة, أحبوه لعظيم بلائه للأمة, أحبوه حينما رأوا ذلك الخير العظيم والنفع العميم الذي أجراه الله على لسانه صلوات الله وسلامه عليه. بعثت قريش رجلاً يوم الحديبية لكي يكشف خبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتفاوض معه في صلح الحديبية، فخرج سهل حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم, فهاله ذلك المنظر المهيب من حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, فلما رجع قالوا له: ما وراءك يا سهل؟ ما الذي رأيته؟ ما الذي سمعته؟ فقال سهل: والذي يحلف به سهل من اللات والعزى لقد دخلت على كسرى وقيصر فما رأيت أشد حباً من أصحاب محمد لمحمد, والذي يحلف به سهل ما رفعوا أبصارهم إليه إذا حدثهم, ولا تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه، رضي الله عنهم وأرضاهم, وتأذن بأعالي الفردوس مسكناً لهم ومثواهم، إنهم الصحابة الذين أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أصحابه. ولقد ورث التابعون هذا الحب الصادق فأحبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فما كان الرجل من التابعين يرى عالماً من علماء الصحابة إلا كاد أن يرفعه على رأسه لعظيم حبه له في الله جل جلاله. دخل أبو إدريس الخولاني رحمه الله على الجامع بدمشق , فرأى رجلاً براق الثنايا يجتمع الناس حوله, إذا اختلفوا رجعوا إليه, فيفصل بينهم فيما اختلفوا فيه, فسألهم وقال: [من هذا الرجل؟ قالوا: معاذ بن جبل صاحب النبي صلى الله عليه وسلم, يقول رحمه الله: فلما كان اليوم الثاني بكرت وهجرت -أي: جئت مبكراً إلى المسجد في الهجير, وذلك بعد صلاة الظهر لكي يدرك صلاة العصر- قال: فلما دخلت المسجد وجدت معاذاً قد سبقني إليه] رضي الله عنه وأرضاه, كانوا أئمة ومشاعل نور في القدوة الصالحة- قال: فلما قضى صلاته أتيته من قبل وجهه وقلت له: إني أحبك في الله. قال: آلله, قلت: آلله -أي: أحبك في الله- قال: آلله, قال: والله-أي إني أحبك في الله- فقال رضي الله عنه وأرضاه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ, وللمتزاورين فيّ, وللمتجالسين فيّ) فكان التابعون رضوان الله عليهم يحبون علماء الصحابة ويجلونهم، وما زالت هذه الأمة تعظم علماءها ودعاتها وأهل الخير بينها, ولن تجد الأمة ترفع من شأن العلماء وتحب الدعاة والصلحاء إلا جمع الله بهم الشمل, فاتحدت بهم الكلمة وحصل الخير العظيم والنفع العميم, فكم من أزمنة خلت وأيام مضت كانت الأمة في أوج عزها، حينما أكرمت العلماء وأعزت الدعاة والهداة إلى الله لعلمهم أنهم دعاة الخير, وهداة الخير وأهل السداد والرشاد, فطوبى لمن أحبهم في الله, وتأذن بالحب من الله.

النصيحة أو التناصح

النصيحة أو التناصح أما العلامة الثانية التي تدل على حبك لله وفي الله, فثمرة من ثمار الخير تدل على حسن الطاعة لله والبر, ثمرة ما كانت في المؤمن إلا دلت على دينه واستقامته وحبه لله جل وعلا, وحبه لعباده الصالحين, أتدرون ما هذه الثمرة العظيمة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماداً في الدين؟ إنها النصيحة, فإذا أردت أن ترى أخاك الصادق فانظر إلى ذلك الناصح المشفق, الذي ينظر إليك نظرة الغريق, ويعطف عليك بكل حنان وبر وإحسان، وحسن كلام وبيان, ينتشلك من النيران والعصيان, لكي يواسيك أو يسليك أو يثبتك بتلك النصيحة الصادقة على طاعة باريك. إنها النصيحة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة, الدين النصيحة, الدين النصيحة, قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) فإذا وجدت أخاك يأخذ بحجزك من النار فإنه الأخ الصادق, والأخ المشفق، والمحب الذي برأ من الخسارة وتأذن بالربح مع الله في التجارة {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] آمنوا ثم عملوا الصالحات ثم تواصوا, والغالب في أخيك الذي ينصحك أنه لا ينصحك إلا بعد دين, يتغلغل في قلبه حتى يغار عليك إذا رآك على خطيئة أو معصية, إذا سمعت أخاك ينصحك أو يوجهك أو يرشدك، فاعلم -والله- أنه يريد لك الخير من الله, أخوك الصادق الذي يبذل لك الكلمات المشرقة المضيئة من قلب صادق, فهذه من دلائل الحب في الله. ثم إذا أردت أن تنصح أخاك وأن توفي هذه العلامة حقها وقدرها فهنا أمور: أولاً: أن تنصح أخاك وأنت مخلص لله جل جلاله, تكلمه وأنت تستشعر أن الله يسمعك ويراك, تكلمه وليس في قلبك إلا الله جل جلاله, تشتري رحمة الله بهذه الكلمات, والله ما من نصيحة خرجت من قلب إلا وقعت في القلب شاء صاحبها أم أبى, أن تخرج النصيحة من قلبك الصادق المخلص لوجه الله جل جلاله تعامل الله، فكم من كلمات صادقة خالصة قد لا ينفع الله بها في حينها ولكنها تبقى في القلوب, تقرع أصحابها ولو بعد حين, قد تنصح أخاك اليوم ولكن لا يستجيب، وقد يستهزئ ويسخر وقد يسفه رأيك أو يستهجن قولك، ولكن تمضي الأيام تلو الأيام, وتأتي تلك الساعة التي يتأذن الله فيها بدخول تلك النصيحة التي لا زالت عند سمعه حتى تدخل إلى سويداء قلبه يوم تدخل, فينجيه الله بها من النار, فيكون في ميزان حسناتك. كم من إخوان أحبوا في الله أمضوا أوقاتهم في النصيحة والدلالة على سبيل الله, خطوا في دواوين الحسنات أجوراً, وخطوا في دواوين الحسنات مثاقيلاً منها، فطوبى لهم وحسن مآب. أخلص لله عز وجل في نصحك وتوجيهك, والتمس أفضل الأوقات، وليكن نصحك بتعاهد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم, وإياك والإكثار من النصيحة، قال الصحابي رضي الله عنه وأرضاه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة) التمس أفضل الأوقات, والتمس أفضل العبارات، وأخرجها من قلبك ولو استطعت أن تلفظ الدمع من عينيك إشفاقاً على أخيك, كل ذلك لكي تفوز بطاعة باريك.

الأسئلة

الأسئلة

الدال على الخير كفاعله

الدال على الخير كفاعله Q أشهدك بالله يا شيخنا الفاضل، أني أحبك في الله وأستمع لمحاضراتك عن طريق الأشرطة, وسؤالي هو: أني أرغب في أن أسمع منك محاضرة عن اليتيم، لما يعايشه في مجتمعنا -في بعض المجتمعات- من معاملة بعض زوجات الأب, والذين هم تحت رعايتهم, وما يعايشه من معاملة قاسية من زوجة الأب؟ A أحبك الله الذي أحببتني من أجله, وأرجو الله أن يوفقني لما سألته وطلبته ولك أجره بالدلالة عليه, والله تعالى أعلم.

حكم قطيعة الرحم وأسبابها

حكم قطيعة الرحم وأسبابها Q ما هي الوسيلة المناسبة لدعوة قاطع الرحم, حيث أنه يوجد هناك من هم على نسب، لكنهم متقاطعين لا يتزاورون في الله, بل بلغ الأمر بهم أنهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض, وحتى السلام لا يلقيه بعضهم على بعض ولا حول ولا وقوة إلا بالله, وما هو الطريق الصحيح لإصلاح القلوب من الحسد والبغضاء؟ A من أعظم وأنجع وأنجح الأدوية أن تذكرهم بالدار الآخرة، فلا يهذب سلوك المؤمن ويقوم طريقه شيء -بعد توفيق الله- مثل ذكر الآخرة, من ظن وأيقن أن أمامه دار اللحود والبلاء, وأن بين يديه الموقف بين يدي الله جل وعلا, فإنه يدعوه ذلك أن يراقب الله في كل صغيرة وكبيرة. قطيعة الرحم من أعظم الكبائر , وأعظم الذنوب وأجلها معصية لله علام الغيوب, ولذلك ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان إذا جلس في المجلس يقول: [أحرج بالله على قاطع رحمٍ, ألا يجلس معنا, وأن يقوم من مجلسنا هذا] فيقول: إني سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم) إذا كان هذا فيمن جاور قاطع الرحم فكيف بقاطع الرحم -والعياذ بالله- ولذلك قال الله عز وجل فيمن قطع رحمه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]. يقال: إن الإنسان إذا قطع رحمه يصيبه الصمم وعمى البصيرة, بمعنى أنه لا ينتفع بموعظة يسمعها بأذنه -والعياذ بالله- ولا يعتبر بآية يراها بعينه, فيختم عليه تماماً والعياذ بالله, فهذه من ثمرات قطيعة الرحم. ومن ثمراتها: أنك تنال إثم من قطعت وذلك إذا كان قريباً ولم تصله, فإن الله يحاسبك عن قطعه, لمَ قطعته؟ كذلك أيضاً من ثمرات قطع الرحم: أنك إذا قطعت الرحم فورثه الابن أو الابنة حملت وزره والعياذ بالله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] فاتق الله في الرحم، خذ ابنك وعوده زيارة الأقارب, وإذا كان رحمك لا يسلم عليك ويغضب عليك؛ فصله فكأنما تسفه المل كما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني, وأحسن إليهم ويسيئون إلي, قال: إن كان كما قلت، فكأنما تسفهم المل) , فاعلم أنك الرابح وأنهم الخاسرون, وأنك الناجي وهم الهالكون. أما الطريقة التي تعظ بها من قطع رحمه، أن تنظر إلى الأسباب التي من أجلها قطع الرحم, فإن كانت الدنيا فاقطعها من قلبه, وعلق قلبه بالله جل جلاله, وذكره بالأخوة وبالقرابة, قل له: أخوك وابن عمك وابن أختك وابن خالتك أوصاك الله جل وعلا به وهو من البر, تقطعهم من أجل شبر من الأرض يفرق بين الأخ وأخيه, ويفرق بين ابن العم وابن الخال وابن الأخ وابن الأخت، كل ذلك على شبر من الأرض, أصبحت القلوب مليئة بهذا كله, كان الرجل يتنازل عن بيته لأخيه المسلم فضلاً عن قريبه, يراه بحاجة إلى بيت فيتنازل عن ذلك البيت, فإنا لله وإنا إليه راجعون من ضعف الإيمان في قلوب الناس, ما بُلي الناس بهذه المصائب والجرائم إلا بسبب ضعف الإيمان في قلوبهم, فانظر إلى السبب الذي من أجله قطعت الأرحام, وذكرهم بالجنان والنيران, والموقف بين يدي الواحد الديان, وأعلمهم أنها حقوق لا يرضى عنها الرحمن, إلا إذا أديت على الوجه الذي يرضيه سبحانه الديان. فكن -أخي في الله- على بصيرة في تذكيرهم بالله جل وعلا, فكم من نصائح تبذل لقطعة الرحم لا تفيد شيئاً, ثم خذ بالأسباب من اختيار الوقت الذي تؤثر فيه النصيحة والأسلوب المؤثر, نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل, وأن يوفقنا في القول والعمل, والله تعالى أعلم.

حكم من يريد الحج وعليه دين

حكم من يريد الحج وعليه دين Q عليّ ديون لإخوة لي في الله، ولست مطالباً بتسديدها في وقت معين, بل إن بعضهم أعطاها دون أن يفكر في أن ترجع إليه, وأنا أريد الحج فما الحكم وجزاكم الله خيراً؟ A من كان عليه دين فلا يجوز له أن يحج إلا بعد أن يستأذن صاحب الدين, ولكن إذا كان الدين أقساطاً على الشهور وأدى الإنسان قسط آخر شهر كذي القعدة فإنه يجوز له أن يحج, ولذلك لا يجب الحج على المديون, لأنه لم يستطع إلى البيت سبيلاً, وإنما يجب على من يجد فضلاً عن قوته من زاد وراحله, فالمقصود أنك لا تحج إلا بعد استئذانهم. وأما ما ذكرته من أن بعضهم لا يفكر في رجوعه فإياك أن تتساهل في الدين, إذا أخذت أموال الناس فلا يغرك اليوم أنه لم يبالِ بك ولكن خذها وفي عقيدتك أن تردها, قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) فإياك أن تأخذ الدين وأنت تفكر ألا ترده, ولذلك نفس المؤمن مرهونة بدينه, حتى إن الشهيد يستشهد في سبيل الله فيحبس ويرهن -قيل: عن النعيم في قبره- حتى يؤدى الدين عنه, ولذلك لما تحمل أبو قتادة الدينارين, قال: (يا رسول الله، هما عليّ قال: فما زال يلقاني النبي صلى الله عليه وسلم في سكك المدينة ويقول: أديت عنه؟ فأقول: لا بعد, حتى لقيني يوماً فقال: أديت عنه؟ قلت: نعم, قال: الآن بردت جلدته) أموال الناس عظيمة, ولذلك جعل الله حرمة المال كحرمة الدم, فإياك أن تتساهل في الدين, وأن يكون همك قبل أن تنام أن تفكر دائماً في سداد الدين, ولذلك استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) فاستعن بالله عز وجل في أداء حقوق الناس, ونسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الخلاص من حقوق العباد والله أعلم.

حكم الاقتداء بالحي

حكم الاقتداء بالحي Q هل يجوز أن يقتدى بالحي؟ A أما الحي فإن كان على صلاح واستقامة فهو قدوة, لأن الله عز وجل أمرنا أن نقتدي بمن أحب, وقال عن عباد الله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] قال بعض العلماء: بمعنى أكثر الخير منا حتى يرانا الناس فيقتدون, ما حيت الأمة إلا بالأحياء, من الذي يبث الخير غير العلماء والدعاة الذين إذا نظرت إليهم ذكرك بالله منظرهم, وإذا استمعت إليهم ذكرك بالله مخبرهم, الحي قدوة إذا كان صالحاً في قوله وعمله, ولا حرج على الإنسان أن يقتدي بحي ولكن لا ينبغي الغلو في الصالحين, ولا ينبغي التنطع واعتقاد صلاح إنسان بعينه, بمعنى أنك تزكيه في جوهره, بعض الناس يطعن أخاه ويقطع رقبته, فيقول: فلان من الصالحين, يا فلان أنت من الصالحين فادع لنا, لا يجوز للإنسان أن يزكي على الله جوهر الإنسان، فيقول: فلان من الصالحين، ولكن يقول: أحسبه ولا أزكي على الله أحداً, أرجو أن يكون صالحاً, أرجو أن يكون فيه خير, أرجو أن يكون رجل خيراً, ونحو ذلك من الكلمات التي لا يتحمل مسئوليتها أمام الله عز وجل. ولذلك إياك أن تزكي أحداً على الله، قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] ولذلك لا يجوز التبرك بآثار الصالحين, ولا شرب فضلتهم على اعتقاد صلاحهم, ولا التمسح بثيابهم ولا أماكن صلاتهم, ولا عبادتهم لأن ذلك يفضي إلى الشرك -والعياذ بالله- والكفر والخروج من الملة, ومن اعتقد فيهم الاعتقاد الذي يصل إلى الغلو فإنه يكون مشركاً قد حرمت عليه الجنة خالداً في النار مخلداً فيها والعياذ بالله. فإياك والغلو في الصالحين, تأخذ القدوة ولكن لا تبالغ فيه, فإن الأمور بالخواتيم, كان عمران بن حطان آية في علم الحديث وفي الصلاح, تزوج ابنة عمه وكانت خارجية، فقال: أنصحها حتى تتوب، فأصبح خارجياً والعياذ بالله, ونسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله العظيم بعزته وجلاله إذا رزقنا الصلاح أن يثبتنا عليه, وأن يزيدنا منه إلى لقائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

حكم الكلام في أعراض المسلمين

حكم الكلام في أعراض المسلمين Q لي صديق قديم وأخ كريم دخل على قلبه داخل شك في أهل قبلته ومشاعل دعوته, فكرهني لحبهم, أقترب إليه وهو يهرب مني, أذكره بالخير ويذكرني بالشر, ألقاه مبتسماً ويلقاني عابساً مقطباً جبينه, ولقد قررت أن أزوره وأخشى أن يسمعني ما أكره أو يغتاب عالما ً أو داعية نكاية بي, فكيف أتأدب في زيارته وأبين له ظلامته، شكر الله لكم وحفظكم؟ A هذه المسألة ينبغي للمسلم أن يلتزم فيها بما أمر الله بالتزامه, إذا اختلفت أنت وأخوك في أمر فاعرضه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, وخذ ما ينتقده على من شاء, فاعرض كلامه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, فإن وجدت حقاً قبلته, فالحق أحق أن يتبع, وإن وجدت باطلاً نصحته ووجهته، فإن كان من الذين لا يستمعون النصيحة ويحرصون على الأذية والفضيحة، فإنا لله وإنا إليه راجعون وإلى الله المشتكى, وهو حسبنا وكفى. فينبغي للإنسان أن يعرض الخلاف بينه وبين أخيه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, لا يمنعك إذا خطأك أخوك أن تصغي بإذنك إلى خطئه فلعل الصواب معه, وكذلك أيضاً لا يمنعك إذا رأيته على خطأ وخلل أن تسدي إليه النصيحة. أما ما ذكرته من كونه يصر ويعاند، فالأصل المقرر عند العلماء أن الإنسان إذا كان ممارياً كثير المراء والجدل لا تنفع معه النصيحة, فإن الأولى تركه وعدم الاشتغال به, يا هذا إن العلماء لا يضرهم كلام من تكلم فيهم, يا هذا إنه قد تُكلم فيمن هو خير وأحب إلى الله منا، هذا رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أوذي، ولذلك لما كانت وقعة حنين قال بعض الصحابة: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم, وقال بعضهم: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله, تقال في النبي صلى الله عليه وسلم, فلما بلغت مقالته النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) هذا النبي موسى عليه الصلاة والسلام يقول الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب:69]-ثم ماذا بعد هذا- {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} [الأحزاب:69] الله هو الذي يتولى أمر الصلحاء والعلماء والدعاة والأخيار، هو الذي يبرؤهم, وكم من خيِّر شاع وذاع بطعن الإنسان, خيِّر شاع خيره وذاع خبره بسبب كلام الناس فيه, انظر إلى أبي هريرة حافظ من حفاظ الصحابة يقول فيه الإمام ابن حجر: حافظ الصحابة ووعاء من أوعية العلم, جاء في آخر السنة السادسة من الهجرة إلى المدينة فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر , انظروا إلى حرص هذا الصحابي وفضله على الأمة, ما استطاع أن يجلس ولكن سافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، لم ينتظره أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ولكن سافر ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة حتى كان رضي الله عنه كما يصف: [لقد كنت أصرع من الجوع بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته, فيأتي الرجل ويضع قدمه على عنقي يظن أن بي الجنون, وما بي الجنون ولكن بي الجوع] يقول: كنت أصحبه على ملئ بطني, يجوع من أجل ألا يفوته مجلس من مجالس النبي صلى الله عليه وسلم, اللهم ارض عنه, اللهم أرضه وارض عنه واجزه عنا خير الجزاء, خلال سنوات يسيرة حفظ الآلاف من الأحاديث, تعرفون هذا الحفظ وهذا العناء والتعب ماذا كانت عاقبته؟ عندما أصبح يحدث بالأحاديث قال بعض الناس: أبو هريرة يكذب على رسول الله, صحابي جليل يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (اللهم حببه إلى عبادك المؤمنين) يقولون: يكذب على رسول الله, إذا كان أبو هريرة يقال فيه: إنه يكذب, فأين نحن؟ يقول رضي الله عنه ذات يوم في مجلس: [يا أهل الكوفة -ويقبض لحيته- أنا أكذب على رسول صلى الله عليه وسلم؟ ثم يقول: الله الموعد] فالموعد بين العلماء وبين من يتكلم بهم في سائر الأزمنة والأمكنة الله، والله الحكم العدل الذي بين يديه تجتمع الخصوم وعندها ينصف الظالم للمظلوم. فلذلك إياك أن تدخل في خلاف العلماء, ولذلك قالوا: العالم مع العالم إذا اختلف كطرفي المقص من دخل بينهم قضم, لا تدخل بين العلماء, ولذلك يا ليت العلماء يختلفون ويرد بعضهم على بعض, الخلاف موجود من قديم, ولكن البلاء ثم البلاء لهؤلاء المتطفلون الذين يورثون الأحقاد بين العلماء, وينقلون الكلام بينهم, وإلا فإن علماءنا أخيارنا وقدوتنا وعلى رءوسنا وأعيننا, ولكن البلاء في نقل الأحاديث من المغرضين، نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم وأن يكف بأسهم عن المسلمين. فالمقصود -أخي في الله- أن الكلام في العلماء قديم ليس وليد اليوم, شيخ الإسلام ابن تيمية إمام من أئمة العلم وديوان من دواوين العلم والعمل والدعوة والجهاد والصدع بالحق ونفع المسلمين، وكم نشر الله به من السنن, وأحيا به من الشرائع, ومع ذلك رحمة الله عليه آذاه أعداؤه, فقالوا: يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه, ويبغض الصالحين وحاشاه, فجعل الله كلام أعدائه سبباً في رفعة ذكره إلى يوم القيامة, فاعلم -أخي في الله- أن للعلماء رباً تولى أمورهم, وأن للدعاة والهداة خالقاً لا يضيعهم, وأنها إذا خرجت الكلمات منهم فالله ظهيرهم وهو حسبهم ونعم الوكيل. فلذلك الذي أوصي الإنسان أن يتقي الله في نفسه, لا تسمع لمزاً في العلماء, لا ينظر الله إليك وقد أصغيت بإذنك لإنسان يقع في العلماء, ولذلك إذا أعرضت عن العالم ضررت بنفسك ولم تضر العالم شيئاً, كما قال بعض السلف: يا بني لا تعرض عن العالم, فإنك إن أعرضت عنه أضررت نفسك ولم تضر العالم شيئاً, ولن تضر إلا نفسك, وقال الجد رحمه الله: فمن صد عنا بحسبه اللوم والقلى ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته يجلس الناس يتكلمون في العلماء وهم أوعية علم فتجلس والله فلان فيه، وفلان فيه وفيه، وتحرم طلب العلم والانتفاع والرواية وأخذ الخير عنه حتى يأتي اليوم الذي ينتقل فيه إلى رحمة الله فتعض على أصابع الندم, وتقول: آه لقد غشني فلان وفلان, وتحمل على ظهرك الأثقال والأوزار بغيبة ولمز العلماء, فلنتق الله عز وجل، ونسأل الله العظيم أن يسلمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن, ونسأل الله العظيم أن يصلح أحوال المسلمين وأن يجمع بين قلوبهم, وأن يؤلف بينهم على طاعته ومرضاته والله تعالى أعلم.

الإقبال على الله بالتوبة والندم ينجيان العبد من أن يؤخذ بذنبه

الإقبال على الله بالتوبة والندم ينجيان العبد من أن يؤخذ بذنبه Q إني شاب ضائع منغمس في المعاصي، وأنا والله لم أكن أقصد حضور هذه الجلسة، ولكن شدني صوتك من خارج هذا المخيم, وأخبرك أيها الشيخ أني فعلت المعاصي, وأنا أشهد الله أني تائب لله على يديك، ولكن أرجوك أن تدعو الله لي في هذا الجمع المبارك والله يحفظك؟ A أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتوب علينا وعليك, وأن يتولى إساءتك بالعفو والصفح, وأن يجعلنا وإياكم وإياه من عباده المنيبين. أخي في الله! أبشر برحمة الله وأحسن ظنك بالله, فما خاب عبد أحسن ظنه في الله, فما ضرته معصيتك ولا نفعته طاعتك, وأبشر بالخطا التي خطوتها إلى هذا المجلس من الذكر, فإن عبداً تاب إلى الله وقد قتل مائة نفس, جاء إلى عالم فقال له: إن قريتك قرية سوء فامض إلى قرية كذا وكذا فإن بها قوماً صالحين, فخرج إلى القرية الصالحة فأدركه الموت في الطريق, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقالت ملائكة الرحمة: إنه قد جاء تائباً إلى الله, وقالت ملائكة العذاب: إنه قتل مائة نفس آخرها عابد, فأوحى الله إليهم أن يقيسوا ما بين القريتين, وفي رواية: بعث ملكاً إليهم أن قيسوا بين القريتين, وفي رواية: فأوحى الله إلى هذه أن تقاربي أي: قرية الصالحين, كانت بعيدة ولكن قربتها رحمة الله بعباده وحلمه بخلقه, فعزت عند الله تلك الخطوات حتى غفرت دماء مائة نفس من الله جل جلاله, مائة نفس غفرت من خطوات لله جل جلاله، خطوات التوبة العزيزة عند الله جل وعلا, يوم تخطو إلى المسجد تائباً من ذنب بينك وبين الله جل وعلا, يوم أن تخطو إلى حلقة ذكر وأنت منكسر وتحس أنك أحقر الناس بذنبك الذي أصبته, فأبشر برحمة الله. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا وعليكم بالتوبة النصوح, وأن يجعلنا وإياكم من عباده المهتدين, والله تعالى أعلم.

حكم التعلق بالأشخاص وكيفية علاج ذلك

حكم التعلق بالأشخاص وكيفية علاج ذلك Q هناك ظاهرة التعلق بالأشخاص فما هو علاجها والسبيل إلى النجاة منها؟ A أما التعلق فبلاء وأي بلاء! ذلك البلاء الذي تتألم وتتأوه منه القلوب, فحق عند الله ثابت لا مرية فيه, معلوم بسنته أن من أحب لغير الله عذبه الله بحب شيء سواه, كل من أحب شيئاً لغير الله عذبه الله بذلك الحب, ولذلك تجد أشد الناس عذاباً أهل العشق, وتجدهم يهيمون في أودية الدنيا، يرتعون ويعذبون ليجمع الله لهم بين عذابي الدنيا والآخرة وهم يفتنون. أعظم البلايا تعلق القلوب بغير الله جل وعلا على وجه لا يرضي الله, إن التعلق اتجاه القلوب إلى الصور والمناظر والجمال, ويجلس الإنسان طليق الوجه حسن العبارة لا لله جل وعلا, وتخرج منه الكلمات المنمقة المعسولة المكذوبة، الفاجرة الجائرة الخارجة عن منهج الله وصراطه, هذا من أعظم البلايا وأشد الرزايا، فلذلك ينبغي للإنسان أن يعلم من قرارة قلبه أن من أشد البلايا وأعظمها انصراف القلب لغير الله جل جلاله, فإياك أن ينصرف قلبك أو شعبة من شعب قلبك إلى غير الله جل جلاله, واجتهد من الليلة أن تجعل قلبك لله, تمسي وليس فيه إلا الله, وتصبح وليس فيه إلا الله, تتفقد حالك ما الذي فعلته من الطاعات فتشكر الله جل جلاله, وما الذي فعلته من المعاصي فتندم وتتوب وتريق الدمعة الصادقة بينك وبين الله جل جلاله, تجعل القلب لله فإن القلب مخلوق لله, وما خلقه الله إلا لعبادته جل جلاله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ما خلق الله هذه المضغة إلا لكي تسكن بتوحيده وحبه وتعظيمه وتمجيده، واليقين فيه وإخلاص العمل له جل جلاله, ما خلقت لكي تهيم في تلك الأودية السحيقة المليئة بعذاب الدنيا والآخرة. ولذلك كم من شباب ذاقوا حياة التعب والنصب الذي لا يعلمه إلا الله، حتى وصل بأحدهم أنه فتن في صلاته وعبادته نسأل الله السلامة. أما الحل والعلاج والدواء ففي أمور: أولها: دعوة صادقة تهدها في دياجير الظلمات في الأسحار إلى المليك القهار مقلب القلوب والأبصار, تسأله أن يصرف قلبك إليه جل جلاله, وقل: يا رب أذنبت, يا رب هاأنا بين يديك أسألك أن تخلص قلبي لك وحدك لا شريك لك، هذا أول أمر. الأمر الثاني: أن تأخذ بأسباب حب الله جل وعلا, لماذا تحب؟ ولماذا تتعلق بمخلوق ضعيف لا يغني عنك من الله جل وعلا شيئاً؟ عذاب ونصب يؤذيك ولا يرضيك, يضرك ولا ينفعك بإذن الله جل جلاله, فما الذي تريد منه؟ هل إذا مرضت يشفيك؟ هل إذا ضللت يهديك؟ هل يطعمك ويسقيك؟ لا يغني عنك من الله ولا من باريك شيئاً, فاتق الله. ينبغي للإنسان أن يحس أنه لا ينفعه ذلك شيئاً عند الله جل وعلا, فخذ بالأسباب التي من أعظمها الدعوة الصادقة أن يخلص الله قلبك له وحده لا شريك له. السبب الثاني الذي يعين على انصراف القلب عن التعلق -وهذا من أقوى الأسباب-: ألا يقع التعلق إلا بسبب خلل في الصلوات الخمس, خذوها قاعدة لن يقع شاب ولا شابة ولا رجل ولا امرأة ولا صغير ولا كبير في معصية إلا بسبب التفريط في الصلوات الخمس, فإذا أردت أن يعصمك الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن فأعط هذه الصلوات الخمس حقها وقدرها, دليل ذلك قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا} [البقرة:45]-يا عبادي يا من آمنوا بي، استعينوا بماذا؟ استعينوا بالصبر إذا ابتلاك تصبر {بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] , وقال تعالى في الآية الثانية: {أَقِمِ الصَّلاة} [الإسراء:78] أقمها خالصة صادقة، {إِنَّ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45] ما قال: والصلاة، إنّ: حرف توكيد يثبت الأمر ويحتمه, {إِنَّ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45] أي: إذا أعطيتها حقها وقدرها، {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] بمجرد ما تعطي الصلاة حقها في الوضوء والطهارة, بدل أن تأتي في الركعة الأخيرة تأتي مع تكبيرة الإحرام أو تأتي عند الأذان, بل تأتي قبل الأذان فلا يؤذن إلا وأنت في المسجد, فتخرج يوم تخرج من المسجد وأنت آخر من يخرج, فتنادي بتلك الدعوة وتصعد إلى السماء: حفظك الله كما حفظتني, دعوة من عبادة تفتح لها أبواب السماء تذهب هدر, ولذلك جرب والله ما من صلاة تتم طهارتها وركوعها وسجودها إلا حفظك الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن كالصلوات الخمس. ثم إذا أردت أكمل من ذلك فأكثر من النوافل, فإن وجدت قلبك يحب زيداً وعمراً لجمال أو لمال أو لحسب أو لنسب فقم واركع بين يدي الله جل وعلا, واصرف هذه اللحظات لله جل وعلا, واجعل في آخر الصلاة لك دعوة, فإن من مظان الإجابة أدبار الصلوات, فاجتهد في الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يخلص قلوبنا بالحب له جل جلاله, وألا يبتلينا بحب أحد سواه. ثم هناك أسباب دنيوية، فانظر إلى هذا الشخص الذي تعلق قلبك به, يحب غيرك ويتعلق بغيرك, فلماذا تعلق القلب به؟ ثم انظر إليه في أشنع الصور, انظر إليه في أحقر الصور, انظر إليه نائماً ذليلاً، إذا نام سال لعابه على وجهه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً, مخلوق ضعيف تافه حقير لا يغني عن نفسه من الله شيئاً, تصرف شُعب قلبك الذي هو نجاتك وهلاكك إلى هذا العبد المسكين, فلذلك ينبغي للإنسان أن يجتهد في هذه الأمور. ومن الأسباب التي تدفع التعلق كثرة غشيان حلق الذكر, والتأثر بالمواعظ, وعرض القلوب على الآخرة من مشاهدها ومن زيارة القبور وتفقد مجالس الصالحين, والفرار من الجلوس مع المرد, إياك أن تجلس مع الأمرد إذا وجدت فتنته في قلبك, إياك أن تختلي به, إياك أن تحرص على مجالسه, إياك أن تحرص على زيارته, ولكن تفر منه فراراً من الله إلى الله, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.

الأخوة الصادقة.

الأخوة الصادقة. والأخوة الدنيوية Q ما رأيك فيمن تصاحبه في الله ويعرض عنك لا لشيء، وإنما لأشياء دنيوية ليس لها ذلك الشأن, فأرجو أن توجه تلك النصيحة لهؤلاء الشباب الذين يفعلون مثل ذلك؟ A باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد: أنت تشتكي -يا أخي في الله- من تغير قلوب بعض إخوانك وخلانك الذين يحبونك في الله، ثم يعرضون لأمور من الدنيا، هذه من البلايا التي تكون في الحب في الله, أن يعرض الإنسان عن أخيه لفقر يده أو مسكنته أو رثاثة حاله, فكم من أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره, قال بعض العلماء: من أسباب إجابة الدعاء ثلاثة أشياء: 1/ رثاثة الإنسان, كأن يكون فقيراً لا مال عنده. 2/ رفعه الكف إلى السماء. 3/ طول السفر. استنبطوا ذلك من الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, أما رثاثة الثوب فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فالله لا يزن الناس بثيابهم, ولا مناظرهم, ولا ألوانهم, ولكن بقلوبهم وأعمالهم, فإذا أحببت أخاً في الله ورأيت عليه رثاثة المنظر وصدق العبودية لله فأحبه من كل قلبك, فإن الحب لله لا لشيء سواه. وأما الصفة الثانية وهي: طول السفر, والصفة الثالثة وهي: رفع الكف, فقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يارب! يارب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنىّ يستجاب لذلك) فذكر أبلغ صفات الدعاء والتضرع فجمع الثلاثة الأوصاف, فالمقصود أنه لا يُلتفت إلى المظاهر, فكم من مظاهر رثيثة لا يعبأ بها الإنسان ولكنها تبطن جواهر عزيزة عند الله جل وعلا, كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد الواحد منهم في الصلاة بدت عورته من وراء ظهره, رضي الله عنهم وأرضاهم. وخرج مصعب بن عمير من الدنيا بشملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه, وإذا غطوا بها قدميه بدا بها وجهه, فقال صلى الله عليه وسلم: (غطوا بها وجهه, واجعلوا على رجليه إذخراً أو شيئاً من الإذخر) هذا الذي خرج به من الدنيا, صحابي جليل شهير قتل في سبيل الله, وخرج من الدنيا بشملة, فلو رأيت هذا الصحابي في حالة رثاثته ومنظره، كيف يكون الحال؟ {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] نزلت حينما قال أعيان قريش والأغنياء والأثرياء: يا محمد، نحِّ السفهاء عنك -هؤلاء السفهاء الذين هم أذلاء حقراء في الدنيا نحهم عنك- حتى نجلس معك, فأنزل الله عز وجل عليه: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] وقال في الآية الثانية لنبيه: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52] فلا تعرضن عن أخيك في الله ليكن قلبك قلباً حياً مؤمناً بالله جل جلاله, يعامل الناس بإيمان صادق, لا بالمظاهر ولا بالصور ولا بالدنيا ولا بالغنى ولا بالمراتب ولا بالوظائف ولكن لله جل جلاله, ينظر الله إليك عبداً مؤمناً صادقاً تلقى أخاك قلبك كقالبك، تبشّ بوجهه وتبدي له السرور ولو كان حقيراً في منظره, حقيراً في ثوبه, وفي ذاته, ولكن تكرمه لله جل جلاله, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ -من هم الأغنياء أو الأثرياء أو الرفعاء؟!! - أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً) , ما معنى الموطئون أكنافاً؟ أناس متواضعون إذا جاءهم الذين فيهم ذلة المنظر أقبلوا عليهم كما يقبل على من عز منظره, وقد يقبل الإنسان المؤمن الصادق على أخيه في الله ذي المنظر الرث أكثر مما يقبل على الغني. فهذا أمر أطلت فيه للحاجة الماسة، فكم من أواصر حب في الله تغيرت حينما أحس أخوك أنك تحبه للدنيا, فرآك تهش لأخ ثري أكثر مما تهش لإنسان فقير ضعيف, فزن إخوانك بالدين, وليكن مبدؤك وميزانك مبدأ رب العالمين, والميزان الذي نصبه للعالمين {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن أحب فيه صادقاً، والله تعالى أعلم.

كلمة أخيرة

كلمة أخيرة هذه رسالة من هيئة الإغاثة الإسلامية بالطائف أحب منكم أن تستمعوها, يقول: فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, يشاء الله أن يعيش المسلمون اليوم مرحلة حرجة جداً لعلها بإذن الله تمثل آخر الليل الذي خيم على الأمة الإسلامية، والذي سيعقبها بإذنه تعالى فجر جديد من العمل والأمل, ولعله لم يعد خافياً على أحد تلك المآسي الرهيبة، وصنوف الهوان التي تلحق بالمسلمين في أماكن كثيرة من العالم، كالبوسنة والهرسك وليبيريا وكشمير والهند والصومال وموزمبيق وبورما وكردستان وفلسطين وأماكن كثيرة, حتى أصبح اللاجئون تزيد نسبتهم عن (90%) في العالم, وأمست الأقليات المسلمة تعاني من هدر لحقوقها في حين تواصل المنظمات الأجنبية عمليات تهجير للأطفال والأيتام. خلاصة الأمر: أعينوا إخوانكم أعانكم الله، وابذلوا فإنه لا يضيع البذل عند الله. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وصايا لطلبة العلم

وصايا لطلبة العلم العلم كالغيث للقلوب، يحيي الله عز وجل به الأفئدة بعد موتها، ويوقظها من رقدتها، وينبهها من غفلتها، وهذا العلم لا يكون رحمة حقيقية للإنسان إلا إذا كان خالصاً لوجه الله، مع العمل به في أرض الواقع والحقيقة.

قواعد ووصايا لطلبة العلم

قواعد ووصايا لطلبة العلم الحمد لله العظيم الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عن الشبيه والمثيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله هادياً ودليلاً، فنعم الهادي والدليل، اللهم صل وسلم عليه، وعلى آله، وأتباعه إلى يومٍ تصير فيه الجبال كالكثيب المهيل. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وفي بداية هذا اللقاء فإنني أشكر بعد شكر الله عز وجل جامعة أم القرى، ممثلةً في عمادة شئون الطلاب، أن هيأت هذا اللقاء بكم على هذه الأرض الطيبة المباركة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكتب لنا ولكم الخُطا، وأن يجعلها موجبةً عنده للمحبة والرضا. أيها الأحبة في الله! يا معشر طلاب العلم! يا من اختاركم الله عز وجل من بين الناس، لكي تأخذوا مشاعل النور والهداية، فيفتح الله بكم إذا شاء قلوباً طالما أُغْلِقت، وأسماعاً قد صُمَّت، وأعيناً طالما عَمِيت، والله على كل شيء قدير، فلِلَّهِ في أهل الخير نعم، ومن أجلِّها أنه شرفهم بالخير وجعلهم هداةً وحَمَلةً له، وأنتم يا معشر طلاب العلم! يا من فتح الله قلوبكم بكتابه، ونوّر أبصاركم وبصائركم بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كم نحن بحاجة إلى أن نقف أمام هذا الحق العظيم، وهو حق طلب العلم، وكم يحتاج طالب العلم دائماً إلى من يذكره بجليل هذه النعمة وعظيم هذا الحق، فلذلك كانت هذه الكلمة، التي أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا فيها القول السديد، وأن يجعلها نافعةً لنا ولكم يوم البأس الشديد. أيها الأحبة في الله! إن العلم كالغيث للقلوب، يُحيي الله عز وجل به الأفئدة بعد موتها، ويُوقظها بعد غفلتها، وينبهها من بعد منامها. هذا العلم لا يكون رحمةً حقيقيةً للإنسان إلا إذا أخلص فيه لوجه الله الكريم، فأول ما يُوصَى به طالب العلم، أن يكون قلبه لله جل جلاله، أن تكون السريرةُ سريرةً تقيةً نقيةً، تراقب اللهَ جل جلاله، وتريد ما عند الله عز وجل، في كل صغيرٍ وكبير، وفي كل جليلٍ وحقير.

الإخلاص لله سبحانه وتعالى

الإخلاص لله سبحانه وتعالى القاعدة الأولى التي تقوم عليها هذه العبادة الجليلة، وهي: عبادة العلم: الإخلاص لله سبحانه وتعالى:- أن نتجه إلى الله بقلوبٍ ليس فيها أحدٌ سواه، فيأخذ طالب العلم هذا النور وهذه الرحمة وقلبه يريد ما عند الله جل جلاله، يأخذ هذا النور وهو يرجو رحمة الله في كل كلمةٍ يسمعها ويقولها، فتكون أشجانُه وأحزانُه لله جل جلاله، فلا يزال بهذا الإخلاص تخطو به في صحيفة عمله الحسنات، ويستوجب بها عند الله رِفْعة الدرجات. الإخلاص الذي رفع الله به شأن العلماء، وجعل عبادتهم بريئة من غير الله عز وجل، وهو السر الذي فضَّل الله به سلف هذه الأمة على خَلَفها، ولذلك قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بل إخلاص الدين لله هو: الدين الذي لا يقبل الله سواه. فلا قبول لهذا العلم، ولا قبول للتعلم والتعليم إلا إذا أراد الإنسان وجه الله الكريم.

فتح الأسماع والقلوب للعلم

فتح الأسماع والقلوب للعلم الوصية الثانية: أن نفتح لهذا العلم أسماعنا وقلوبنا، وأن نحس أن هذه الأسماع -حقيقةً- تتشرف وتتكرم بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:- أن ينطلق طالب العلم وهو يشتعل قلبه شوقاً لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيفتح قلبه وقالَبه لماء الوحي، حتى إذا نزل ذلك الماء على ذلك القلب كان كالغيث الطيب على الأرض الطيبة؛ وما من إنسان يُعطِي العلم سمعه وقلبه، إلا نفعه الله بهذا العلم، ولذلك كانت أول وصيةٍ من الله لموسى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]. وأن نستمع للعلم، وأن يكون عندنا الشوق والتلهف إلى مجالس العلماء، وإلى حِلَقِ العلماء، وأن ننطلق إلى رياض الجنة ننافس فيها إخواننا، ونسابق فيها خلاننا، حتى نكون على أفضل ما يكون عليه المجد في طاعة الله عز وجل. إن هذا العلم رحمةٌ من الله عز وجل، وكلما ازداد الإنسان من هذه الرحمة رفع الله قدره، وأجلَّ مكانه، وأعلى ذكره. وأن نفتح لهذا العلم أسماعنا، وأن نفتح له قلوبنا، وكان بعض السلف يقول: [من استمع للعلم وأعطاه قلبه، فإن الله ينفعه لا محالة بهذا الاستماع للعلم]. وأن نفتح لهذا العلم كل جوارحنا. فإذا وفق الله طالب العلم لكي يكون عنده الشوق إلى مجالس الذِكر ومجالس العلماء ورياض العلماء؛ فإنه لا يلبث بعد فترة حتى يجمع خيراً كثيراً.

ترجمة العلم إلى الواقع

ترجمة العلم إلى الواقع الوصية الثالثة: أن يُتَرْجِم هذا العلم للواقع:- أن يخرجه الإنسان من قرارة القلب إلى القالَب، أن نخرج الأقوال والهدي الذي نسمعه إلى الواقع، فبعد أن يتأثر طالب العلم بالوحي، ويسكن في قرارة قلبه يستمسك به، ويطبقه، ويلتزمه، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] قال: استمسك، ولم يقل له: أمْسِك، وإنما قال له: استمسك؛ فالاستمساك بهذا الدين: إذا تعلم طالب العلم سنة أو حكمة تمسك بها، وعمل بها، وأشهد الله على أنه من أهلها؛ فإذا سمعتَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى سنة أو يدعو إلى خيرٍ وهدى؛ فكن عاملاً بذلك العلم، كن مطبقاً له، تترجمه على جوارحك، ولذلك إذا وفق الله طلاب العلم إلى العمل بعد العلم، جعلهم قدوة، قال الله في كتابه عن علماء بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. ترجمة العلم إلى الجوارح فيه حياة العلم، وكم من سننٍ حيت لما خرج طلاب العلم، فنشروها أمام الأمة بلسانٍ يذكرُ الله وجوارح تترسم هدي الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطبيقُ العلم وترجمتُه بالعمل، وإخراجِه إلى الواقع حتى تراه الناس، فحينما تراك ترى السنن في أقوالك، وترى السنن في أفعالك، فبعض طلاب العلم إذا رأيته تذكرت هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طلاب العلم من شرح الله صدره للعلم والعمل، حتى إذا رأيته ذكرت الله، إذا رأيته قد عمل بما عَلِم.

الصبر والتحمل واحتساب الأجر

الصبر والتحمل واحتساب الأجر الوصية الرابعة والأخيرة التي أختم بها هذه الكلمة هي: الصبر والتحمل واحتساب الأجر: طالب العلم يعامل الله، والمعاملة مع الله فيها ابتلاء واختبار وامتحان، ولا بد لطالب العلم أن يَجِدَ الشدائد، وأن يَجِدَ المحن، وأن يَجِدَ من يثبطه ومن يخذِّله. فأول صبرٍ يُوصَى به طالب العلم: الصبر على وساوس الشيطان: فإن الشيطان لن يدع لطالب العلم باب خيرٍ يطرقه إلا وجاءه من كل حدبٍ وصوبٍ حتى لا يَبْلُغَه، لا يمكن أن يترك طالب العلم وأن يُخَلِّي بينه وبين الخير؛ لأن الله عز وجل أخبر أن المؤمن مبتلىً، ودرجة طالب العلم فوق درجة المؤمنٍ العامِّي، فلا بد أن يكون مبتلىً، تعيش مع نفسك في الوساوس، فأول ما يأتي الشيطان للإنسان يخذِّله، يقول له: مَن أنت؟! من أنت حتى تطلب العلم؟! فلستَ بعالم، ولا أبوك بعالم، ولستَ من بيت علم، حتى يخذِّله عدو الله، ويجعلَ في قلبه اليأس من رحمة الله، والقنوط من روح الله. فما على طالب العلم إلا أن يُحسن الظن بالله، وأن يقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. فمَن فهَّم سليمان وعلَّم داوُد قادرٌ على أن يفهِّمك ويعلِّمك؛ فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكم من طلاب علمٍ كانوا على جاهلية وبُعْدٍ من الله تبارك وتعالى؛ ولكنهم أحسنوا الظن بالله! فما مضت الأيام ولا انقضت الأعوام إلا وهم أئمة هدى، ومشاعل خيرٍ وحب لله ورضا، فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكن قوي العزيمة على طاعة الله، وقد تأتيك المحن التي تحتاج إلى الصبر في أهلك وذويك؛ فتجد من يخذِّلك عن طلب العلم، ويجعل العوائق بينك وبين طلب العلم من حاجات الناس، وحاجات الأهل وأغراضهم، فاستعن بالله، فإنه نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. لا بد من الامتحان والاختبار حتى في طلب العلم، ولا يزال طالب العلم يُبتلَى ويمتحَن، حتى أنه يبتلَى وهو في مجلس العلم، ويُختبَر حتى في العلم الذي يتعلمه، ولذلك إذا نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجدته من أول لحظةٍ في الوحي إلى آخر لحظةً من الدنيا وهو يتقلب في البلاء صلوات الله وسلامه عليه. فأول لحظةٍ في الوحي: أخَذَه جبريل فغَطَّه حتى رأى الموت. وآخر لحظةٍ من الدنيا قال فيها: (آه! إن للموت لسكرات). فلا بد من البلاء، ولا بد من الامتحان، ولذلك حكمةٌ من الله عز وجل أنه جعل الدنيا دار بلاءٍ وعناءٍ وعِنَّةٍ على المؤمن؛ ولكن هذا البلاء رفعةٌ للدرجات، وتكفيرٌ للسيئات، ومضاعفةٌ للأجور والحسنات، وكم من إنسانٍ صُبَّ عليه البلاء فأمسى يوم أمسى وصحيفته مملوءةٌ بأجورٍ لا يجدها بكثير صلاةٍ ولا صيام. فاصبر على طلب العلم واحتسب البلاء الذي تجده، واحتسب عند الله ما يقال عليكَ أو يقال لك، فقد يُبْتَلى الإنسان حتى بمدح الناس وَثنائهم، فإن الجاه والسمعة والشهرة قد تقتل الإنسان من حيث لا يدري، فما على الإنسان إلا أن يجاهد ويحتسب عند الله عز وجل أن يثبته وأن يوفقه. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم أئمة هدى، هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. أحبتي في الله: إن العلم مسئوليةٌ عظيمة، وواللهِ ما من جماعةٍ انفردوا بهذا العلم وأخذوا على أنفسهم أن يكونوا طلاب علم إلا تحملوا المسئولية بين يدي الله عن ذلك، ولذلك كل طالب علمٍ دخل إلى جامعة، أو جلس في حلقة، أو لازمَ شيخاً فليعلم أنه بمجرد دخوله وبمجرد ملازمته قد وَضَع قدمه على عتبة المسئولية بين يدي الله جل جلاله، وأنه سيحمل على ظهره أمانة يُوقف بها بين يدي الله، إما أن تشقيه وإما أن تسعده وترضيه. فاعلموا إخواني أن التخصص في العلم وحل هذه الحِكَم من الكتاب والسنة ما هي إلا حجج تكون للإنسان أو على الإنسان. جاء بعض السلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكان يسألها المسائل، فقالت له يوماً من الأيام: [أَيْ بُنَي، أَكُلَّ ما عَلِمْتَه عَمِلْتَ به؟! فقال: يا أماه، إني مُقصر. وجلس يشتكي من تقصيره، فقالت له: يا بُنَي! لِمَ تستكثر من حُجَج الله عليك؟!]. فينبغي لنا أن نستشعر أن هذا العلم الذي نتعلمه حُجَجٌ لله علينا، وأن وراءنا أمم تنتظر هذا الوحي بفارغ الصبر، وراءك أهلُك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك حيُّك ينتظر هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك أهلُ بلدتك وعشيرتك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، فاتقِ الله فيما تعلمتَ، وكن غيوراً على هذا الدين، وبُث الحِكَم من كتاب الله وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. فاحتسبوا -إخواني- الأجر عند الله، واعلموا أن هذا العلم لا يُراد به الدنيا، وإنما يُراد به ما عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرِح رائحة الجنة). اللهم إن نسألك الإخلاص في العلم والعمل، ونسألك بعزتك وجلالك أن تجعل هذا العلم حجةً لنا لا حجةً علينا. وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حث للشباب وطلبة العلم على الاهتمام بقضايا الأمة والمسلمين

حث للشباب وطلبة العلم على الاهتمام بقضايا الأمة والمسلمين Q نطلب من فضيلة الشيخ كلمةً -تحثُّ الشبابَ- عن دور طالب العلم نحو قضايا هذه الأمة والمسلمين، علماً بأنه يوجد في هذا المخيم معرض عن أحوال المسلمين في أنحاء العالم. فكلمةً نودُّها من شيخنا الفاضل لإخوانه ولطلابه تحثهم على الاهتمام بهذا الأمر، وعلى جمع التبرع لإخواننا المسلمين، علماً بأن هناك مكتباً خاصاً لهيئة الإغاثة قد عمل معرضاً في هذا؟ A الله المستعان! وإلى الله المشتكى، ماذا يقول الإنسان -حقيقةً- في جراحٍ لا تزداد إلا نزيفاً؟! لكن نسأل الله العظيم أن يجبر كسرهم. الحقيقة: عَظُمَت الفتن والمحن، وخاصة في هذا الزمان، وتكالَب أعداء الله ورسوله على أولياء الله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] تكالب الأعداء من كل حدبٍ وصوب على أولياء الله، يقتِّلونهم، ويشرِّدونهم، وييتِّمون أطفالهم، ويرمِّلون نساءهم، وكان من البلاء ما لا يعلمه إلا الله جل جلاله. فالذي أوصي به إخواني في خضم هذه الفتن والمحن ما يلي: أولاً: التعلق بالله جل جلاله واليقين بِهِ سبحانه: فما يقف المؤمن أمام الفتن والمحن بشيء مثل وقوفه باليقين بالله جل جلاله، وهذا اليقين يغرس في قلبه إيماناً كاملاً بأن الكلمة كلمة الله، وأن الدين دين الله، وأن الرسالة رسالة الله، وأنها ستَبْلُغ ما أراد الله أن تَبْلُغ وإن رَغِمَت الأنوف، وذلت لله جل جلاله. فأول ما أوصي به: ألا تكون هذه الفتن سبباً لتحبيط الهمة، وضعف النفوس؛ ولكن تكون سبباً لقوة الإيمان بالله، وقوة التعلق بالله، والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى. فينبغي أن يكون عندك يقين بأن أعداء الإسلام مهما فعلوا فإن الله وراءهم، ولهم الرصد، وهو {بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120]. عندما دخل التتار على دولة الإسلام وخلافة المسلمين وضعوا تراث الأمة في نهر دجلة، حتى ساح بلون المداد، تراثُ أمةِ قرونٍ عديدة وُضِع في النهر؛ لكي تسير الخيول عليه لتعبر نهر دجلة، حتى أصبح ماء دجلة متلوِّناً بلون المداد، فهل انتهى الإسلام؟! أبداً، بل عاد يُمَكَّن أقوى مما كان عليه، فالإسلام دين يَغْلِب ولا يُغْلَب، ويَنْفُذُ ولا يُرَدُّ، لا يستطيع أحدٌ أن يقف في وجهه. جاءت سخينة كي تغالب ربها وليغلبن مغالب الغُلابِ مَن هذا الذي يستطيع أن يقف أمام ملك الملوك؟! ومن هذا الذي يستطيع أن يطفئ نور الله جل جلاله؟! إن هذه الفتن لَمَّا نسمعها تؤلم القلوب؛ ولكن الذي نخشاه أن شباب الصحوة أو الشباب الأخيار قد تخور قواهم أمام هذا السيل الجارف من الكيد للإسلام والأذية لعباد الله؛ ولكن صبرٌ جميلٌ، فإن الله بالرَصَدِ، والله يُمْهِل ولا يُهْمِل، والقوة لله، والأرض أرضُ الله، والكون كونُ الله، والخلق خلقُ الله، والأمر أمرُ الله، ولَيُنَفَّذَنَّ أمرُ الله جل جلاله. فعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة كان من عجيب ما يقع غالباً أنه إذا اشتدت الفتن والمحن يجعل الله فَرَجَها من حيث لا يدور بالحسبان، فكل ما اشتدت الفتن على المؤمنين خاصةً الفتن التي يراد بها الدين يأتي الفرج منها غالباً من حيث لا يحتسب المؤمن. فانظر في غزوة بدر، حيث التقى المسلمون بالكفار، فكانت الغلبة للمسلمين؛ لكن القتال قتال ماذا؟! قتالٌ حِسِّي. لكن يوم الأحزاب قال الله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ. } [الأحزاب:10] الله أكبر! نبي الله والصحابة الذين هم صفوة الأمة يقول الله عنهم: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. } [الأحزاب:10]! وماذا بعدها؟! {. وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] ما معنى {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]؟! معناه: أنه بلغ بالصحابي، مرتبةً مِن كيد الشيطان، سبحان الله العظيم! قد يدخل الشيطان على الإنسان بشيء من الهم والغم ما يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى! يقول الله عن هذا الأمر العظيم: {هُنَالِكَ. } [الأحزاب:11] ما قال: هناك؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى {هُنَالِكَ. } [الأحزاب:11] أي: في ذلك المقام العظيم من الابتلاء والامتحان، {. ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ. } [الأحزاب:11] ليس ابتلاءً واحداً، بل {. وَزُلْزِلُوا. } [الأحزاب:11] انظر كيف يكون الزلزال إذا ضرب أرضاً! فكيف بزلازل القلوب؟! فكذلك تُزَلْزَل مثلما زُلْزِلَ الصحابة، {وَزُلْزِلُوا. } [الأحزاب:11] كما قال الله عن الأنبياء وصفوة الأنبياء في ذلك الأزمنة، قال: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:11] إذا كان الله زلزل الصحابة زلزالاً شديداً؛ فكيف بنا نحن الفقراء؟! فالكُفْرُ مِثْلَما مَرَّ، الحق هو الحق، والباطل هو الباطل، وإن تغير الستار، وتبدل الشعار؛ فهو ملة الكفار، شئنا أم أبينا؛ وإنما هي أيامٌ تَمُرُّ؛ ولكن الحقيقة واحدة، حقٌّ وباطل. فإياكم ثم إياكم أن تكون هذه المآسي المؤلمة -ولا شك أنها جارحة للقلوب ومؤلمة للقلوب- لكن لا ينبغي أن تكون سبباً للتخذيل، بل ينبغي أن تكون سبباً لقوة الشكيمة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] إنه اليقين، فما تقف أمام الشدائد والمحن والفتن بشيء أقوى من اليقين بالله جل جلاله، وأن يكون عندك قوة ثقة بالله سبحانه وتعالى في أن الكلمة ستَنْفُذ، وأن الأمر سيمضي، إن عاجلاً أو آجلاً. الأمر الثاني: ينبغي أن نأخذ بالأسباب: وهي: إلهية، وكونية، أي: شرعية، وكونية. فالشرعية هي: ما أمرنا الله عز وجل بها، ومن أعظمها: الدعاء:- أن نكثر من الدعاء لإخواننا، فأقل ما فيه أنك في السحر إذا أوترت ودعوت لإخوانك تترجم عما في قلبك من أنك بذلت شيئاً لإخوانك، فتدعو لهم، وتذكَّر -أخي- أرملة من المسلمين فقدت زوجها من أجل لا إله إلا الله! تصوَّر أنها لو كانت قريبتك أو كانت أمك أو أختك أو ابنتك فكيف يكون حالك؟! هل يهنأ لك العيش؟! هل يهنأ لك البال؟! هل ترتاح؟! فلذلك يجب أن تدعو لهم وأن تستشعر أن إخوانك يفتقرون منك الدعوة الصالحة، والدعاء سلاح المؤمن، فيجب أن نكثر من الدعاء لإخواننا، وأن نجعل هذا الدعاء أشجاناً وأحزاناً مع أشجان إخواننا وأحزانهم. والكونية هي: الأخذ بالأسباب التي نؤمر بها في الدين:- بأن نعد لأعدائنا ما أمر الله بإعداده، فمن استطاع أن يعين بنفسه فليُعِن بنفسه، ومن استطاع أن يعين بماله فليُعِن بماله، ومن استطاع أن يعين بالكلمة التي تدل على افتقاره وحاجته للوقوف معي فليَقُل. فينبغي أن نكون مع إخواننا، فنعيش أشجانهم وأحزانهم، ولذلك لما بلغ خبر مقتل عثمان رضي الله عنه إلى أبي حميد الساعدي قال: [اللهم لك عليَّ ألاَّ أضحك أبداً] وذلك من شدة ما سمع من مصاب أخيه في الله عثمان الخليفة الراشد، فكيف بأعراض تُنْتَهك! ودماء تُسْفَك! وغيرِ ذلك مِن نساءٍ للمسلمين يُرَمَّلْن! ويُيَتَّم أطفالهن؟! وإلى الله المشتكى. فالذي نحب أن نقوله: أنه ينبغي أن نوطِّن أنفسنا، وأن نعد العدة لأعداء الله عز وجل -وذلك لِمَا ذكرنا-، على قدر استطاعة الإنسان ووسعه، فيبذل كل ما يستطيع لإعانة إخوانه والوقوف معهم، ويقف الوقفة الصادقة. الأمر الأخير: الإخلاص:- إذا أردنا أن نقف مع إخواننا يجب أن نقف بإخلاص، ولَمَّا يتحدث الإنسان في هذه القضايا يجب أن يتحدث بإخلاص، فلا يتحدث من أجل غَلَبَة شخصية، أو حَنَقٍ شخصي أبداً، بل يجب أن يتحدث من واقع إسلامي وبشعور إسلامي نابع من القلب يريد وجه الله، حتى تكون الكلمات هادفةً ومؤثرةً وبالغةً إلى القلوب. اللهم إن نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تعجِّل لإخواننا بالفرج. اللهم انصر المستضعفين من عبادك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أجمعين. اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك بأعداء الدين. اللهم يتِم أطفالهم، ورمل نساءهم، وشتت شملهم، وفرق جموعهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد على القوم الظالمين. اللهم إنا نسألك ثباتاً في هذه المحنة يرضيك عنا يوم لقائك. اللهم ثبت قلوبنا بتثبيتك. اللهم إنا نسألك اليقين بك، والتوكل عليك، وصدق الالتجاء إليك. لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. اللهم إنا نسألك لإخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها أن تشفي مُصابهم. اللهم اجبر كسرهم. اللهم أطعم جوعاهم. اللهم اسقِ ظمآهم. اللهم ارحم موتاهم. اللهم ارحمهم برحمتك الواسعة. اللهم أنزل عليهم من الصبر والسلوان والثبات أضعاف ما أُنْزِل عليهم من البلاء. اللهم أزل عنهم العناء. اللهم اكشف عنهم البلاء. اللهم كفر بذلك ذنوبهم. اللهم ثقل به موازين حسناتهم، وارفع به درجاتهم، وتقبل شهداءهم، برحمتك يا أرحم الراحمين. لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

مواقف من حياة والد الشيخ/ محمد الشنقيطي

مواقف من حياة والد الشيخ/ محمد الشنقيطي Q نرجو من شيخنا الكريم أن يعطينا بعض الأشياء عن حياة أبيه، وبعض المواقف! وهذه أمنية كل طالبِ علمِ سَمِعَ بأبيكم ويريد أن يعرف هذا الشيخ العالم الرباني، وجزاكم الله خيراً؟ A والله إن هذا سؤالٌ مفاجئ، والمشكلة أن الشخص إذا فوجئ بالسؤال لا يكون مستحضراً، فالله المستعان. من أهم الأمور التي كنتُ ألمسها في الوالد -رحمة الله عليه-: قضية الإخلاص: فقد كان أهم ما يعتني به -عليه رحمة الله- قضية إخلاص العمل لله جل جلاله، وأذكر أني ذات مرة راجعتُه في مسألة، وكان فيها دَخْلٌ من الدنيا؛ فقال لي: يا بني! إن الله عليم بذات الصدور. واللهِ إن هذه الكلمة إلى الآن في قلبي، كلَّما وجدتُ شيئاً مِن دَخْل الدنيا تذكرتُ قوله: إن الله عليم بذات الصدور، فقال: بذات ولم يقل: بالصدور: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43] أي: بحقائق ما فيها من إرادةِ وَجْهِهِ، أو إرادةِ الدنيا. كذلك مما أذكره فيه -رحمة الله عليه-: كثرة العبادة الخفية: فقد كان يجلس مع الناس ولا تَظْهَر عليه كثرة العبادة؛ ولكن ما إن يخلو بجوف الليل حتى أسمع نشيجه وبكاءه من غرفته رحمة الله عليه. وأذكر أنه كان كثير القيام في الليل: حتى إنني أذكر ذات مرة أنه كان هناك أحد المشايخ يستبعد أن يختم الشخصُ القرآنَ في ليلة، ويقول: إنه بعيد جداً. فجئت إلى الوالد رحمه الله، وكنت حينها في السنة الثانية من الكلية، وقلت له: إن هناك مَن يستبعد ختم القرآن في ليلة، وأنا -في الحقيقة- قلت للشيخ: هذا ليس ببعيد -أي: أثناء إلقائه للمحاضرة-؛ لأن الشخص خلال ربع ساعة أو اثنتي عشرة دقيقة يكون قد انتهى من الجزء، هذا إذا كان في ليالي الشتاء، فمن الممكن أن يختم في ليلة واحدة. فالشاهد أنني ذهبت إلى الوالد رحمة الله عليه فذكرت له ذلك. فقال: هذا بسيط، ختم القرآن في ليلة بسيط، وهو خلاف السنة -فكما تعلمون أن السنة ألا يُخْتَم القرآنُ في أقل من ثلاث ليال-؛ لكن الشاهد أنه قال: هذا سهل جداً. فما زلتُ به رحمة الله عليه، فقلت له: كأني أشكِّك، وكأني مع الشيخ إذْ يقول: إن هذا بعيد. حتى قال لي: واللهِ يا بني! الحمد لله، مرَّت علي في بداية الطلب سنوات، لا أستفتح بعد العشاء بالقرآن إلا ويأتي السحر وأنا في آخر القرآن. رحمة الله عليه. وكان معروفاً عنه أنه ما كانت عنده صبوة إلى الحرام. وكان أهم شيء عنده الوقت: حتى أنه كان في أيام الطلب -كما يذكر لي أحد كبار السن الموجودين الآن عن خالٍ له كان قريباً من الشيخ الذي ارتحل الوالد لأخذ العلم عنه- يقول: كان يقْدُمُ وما يخالط أحداً من طلاب العلم؛ لأنه كان رحمة الله عليه لا يحب الاختلاط بالناس إلا إذا كان فيه فائدة، ولا يأنس بكل أحد، ولا يرتاح لكل أحد، فهو حريص على شغل الوقت بالفائدة. فمن أهم ما لاحظتُ فيه: الحرص على الوقت، كان إذا دخل البيت -كما ذكرتُ- أولَ ما يستفتح بالصلاة، وما أذكر في حياته أنه دخل المنزل وجلس، حتى والله في المرض يصلي جالساً؛ لا يدخل البيت إلا ويستفتح بما كتب الله له، ثم ينقلب مباشرة إلى فراشه، وأمام فراشه ما لا يقل عن عشرين كتاباً، فمكتبته فيها ما لا يقل عن أربعة آلاف أو خمسة آلاف كتاب، والمكتبة الأساسية في البيت التي كان جمعها رحمه الله ليس فيها كتاب إلا وقرأه من جلدته إلى جلدته، رحمة الله عليه، فقد كان كثير القراءة والمطالعة بشكل عجيب جداً! وعنده خصلة وجدتها فيه، في مسألة العلم: أنه لا يمكن أن يتكلم في شيءٍ يجهله: فأي شيء يجهله لا يتكلم فيه أبداً ولو كان الأمر ما كان، ولو كان من أوضح الواضحات إلى الله، فالشيء الذي لا يعرفه يمسك عنه، وكان يستشهد بقول الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] فيقول: هذا هو التكلف. ويستشهد أيضاً بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]. فلا يتكلف في شيء لا يعرفه، وهذا -في الحقيقة- من أجلِّ نعم الله على طالب العلم إذا رزقه الله هذا العلم، وهو أنه لا يتكلم في شيء يجهله؛ فإن هذا من دليل أمانته، ولذلك هما العالِم وطالب العلم إذا كانا وقَّافَين عند حدود الله، لا يتكلمان في شيء يجهلانه! أيضاً من الخصال التي وجدتُها فيه رحمة الله عليه: عدم مبالاته بالدنيا؛ أقبلت أو أدبرت: حتى أنني أذكر أنه ذات مرة -وهذه قَصَص عادية؛ لكن لعل الله أن ينفع بها- حفر بئراً، وكان قد كلَّفه ما لا يقل عن مائتين وخمسين ألفاً، ولم يشأ الله أن يخرج فيه ماء، فجاء هذا الذي حفره وقال: والله يا شيخ! إن هذا يُحْتَمل أن يكون شيئاً قد سد الماء الجاري. يريد أن يخفف الصدمة على الوالد. أي: الظاهر أن الماء الجاري قد سده شيء ما أثناء الحفر، وإن شاء الله ربما في المستقبل يتحسن. فقال: يا بني! والله لو أن هذه المزرعة كلها ذهبت فإني راضٍ عن الله. كان لا يبالي أبداً بهذه الدنيا، سواءً أقبلت أو أدبرت، وقلَّ أن يُسأل شيئاً فلا يعطيه، رحمة الله عليه. دخلت عليه ذات يوم فوجدته يبكي، فلما رآني قلب وجهه إلى جهة الأخرى للفراش، ومسح الدموع، ثم جلس عادياً، وكان قليل البكاء رحمة الله عليه، إلا أني لا أذكر أني رأيته يبكي غالباً إلا في فقد عزيز، أو في عبرة، أو في الليل؛ لأني كنتُ أدخل عليه في بعض الساعات في جوف الليل. فنَشَجَ ثم جلس معي كأنه ما به شيء، وأنا قد رأيته يبكي؛ فخشيتُ أن يكون جاءه شيءٌ يسوءُه، فنزلتُ به وقلت: يا شيخ، خيراً إن شاء الله! قال: لا. خير، ماذا تريد؟! يريد أن يصرفني عن الشيء الذي رأيته، فألححت عليه وقلت: يا شيخ رأيتك تبكي، وكنتُ أحب أن أعرف السبب! فقال لي -والله بهذا الحرف-: ما لي لا أبكي وأيتام فلان توفي أبوهم، وليس عندي شيء أرسل لهم. أي والله قال هذه الكلمة. وأذكر فيه -رحمة الله عليه- أنه كان يعودنا على الرأفة بالمساكين والأيتام: وهذه كانت فيه خصلةً عجيبة! حتى أنه كان يقول لي: إذا مررتَ على المرأة تسأل فلا تجاوزها حتى تعطيها شيئاً، ولو أن تعطيها غُتْرَتَكَ التي على رأسك. فكأني استعجبتُ من هذا الكلام. فقال: لأنك تعرف المرأةَ إذا احتاجت ماذا تفعل؟! لأنها إذا احتاجت قد تقع في الزنا، وهي عورة من عورات المسلمين، فلا يليق بك أن تمر بها إلا وقد كفيتها، فلو كانت كاذبة فإن الله يأجرك على حُسْن النية، ويعاملك على حُسْن نيتك. فكان -رحمة الله عليه- عطوفاً، ربما كان راتبه أكثر من سبعة آلاف أو ثمانية آلاف في ذلك الزمان، فما كان يأتي عليه منتصف الشهر إلا وقد استدان رحمة الله عليه. الدنيا هذه سواءً أقبل منها أو أدبر عنها لم ينفعه الله بها كثيراً، فإذا أراد الله أن يفرِّغ طالب العلم للعلم نَزَعَ من قلبه الدنيا، ولذلك تجده أغنى ما يكون بالله، وأفقر ما يكون لله جل جلاله. فهذه من بعض المواقف التي تَحْضُرني. الموقف الأخير: وأقوله لعله أن يكون سبباً في الترحُّم عليه: فإني أشهد الله العظيم -والله شهيدٌ على ما أقول- أنني دخلتُ عليه قبل أن يتوفى بقرابة ثلث ساعة أو نصف ساعة واللهِ العظيمِ لا أذكر أنني رأيته أشرق وجهاً ولا أبهج نفساً من تلك الساعة، رحمة الله عليه. أسأل الله العظيم أن يجمعنا به في مستقر رحمته.

موقف خطيب وإمام يتهم في عقيدته من قبل بعض الشباب الملتزمين

موقف خطيب وإمام يتهم في عقيدته من قبل بعض الشباب الملتزمين Q أنا إمام وخطيب في أحد الجوامع، ولقد اتُّهِمْتُ في عقيدتي من بعض الشباب الملتزمين، والذي أعْلَمُه من نفسي أني أعتقد معتقد أهل السنة والجماعة -وإن كنتُ لا أعلم في مسائل العقيدة كثيراً-! فماذا أفعل معهم؟! وما هي نصيحتكم إليهم؟ A الذي تفعله: أن تدعو هؤلاء الذين يتكلمون في عقيدتك، وأن تجتمع أنت وإياهم بين يدي إنسان من أهل العلم، فيعرضوا ما عندهم من الشبه والمآخذ، وتتقي الله فيما يقولون؛ فإن كانوا صادقين صَدَقْتَ وبيَّنْتَ حجتك بكلامك، فما كان من صوابٍ قَبِلْتَه وما كان من خطأٍ رددتَه. فإن كان القوم قومٌ بُهْتٌ، وأصحابُ استعجال وأغراضٍ وأهواء فاصبر أخي في الله؛ فإنه لا بد من الابتلاء، يقول الله عز وجل عن نبيه موسى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] الله أكبر! قال: {آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب:69] فَلَمْ يتركْه، بل قال: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} [الأحزاب:69]. فكل من تقلَّد إمامة أو منصباً دينياً، وطُعِنَ فيه، فالله هو الذي يتولى أمره، {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] فما ذكر صلاة موسى، ولا عبادته؛ ولكن ذكر بلاءه، وطَعْنَ الناس فيه، ثم قال بعده: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69]. فإذاً: على طالب العلم أن يعلم أن الوجاهة التي يريدها سوف يجد أمامها الطعنَ في عقيدته، والطعنَ في منهجه، والطعن في رأيه. ثم إننا نقول لكل طلاب العلم: اتقوا الله في أنفسكم، فإن الله ما أرسلنا حَفَظَة على العباد، وما أرسلنا متتبعين لعورات الناس: (فإن من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في عقر بيته). فعلينا أن نتقي الله في عورات المسلمين، وأن نتقي الله في أعراض المسلمين، وأن نتقي الله فيما نقوله في إخواننا، وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، وأن نكره لهم ما نكره لأنفسنا، فهذا من دلائل الإيمان، وليس معنى هذا أن نترك الحبل على الغارب لأهل البدع والأهواء، لا؛ ولكن انتقدْ ببَيِّنة، وإذا رأيت إنساناً من أهل البدع فاذهب إليه، وانصحه، وذكِّره بالله، وأقِمِ حجة الله عليه. فيا أخي! إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى عبدة الأوثان، فيقول: (اللهم اهدِ قومي فإنهم قومٌ لا يعلمون) فكيف بإنسان قد يكون عنده خطأ أو شبهة، ولعل الله أن يشرح صدره على يديك؟! ولذلك فإن من أفضل ما تكون الدعوة: الدعوة إلى سلامة المعتقد، فمِن أَحَبِّ الدعواتِ إلى الله، ومِن أَحَبِّ العلمِ وأشرفِه وأكرمِه: علمُ العقيدة، فإذا كان الإنسان يحس بجلالة هذا العلم وفضله وعظيم منزلته عند الله فينبغي أن يكون أفضل الناس في غرسه في قلوب الناس، فتكون عنده المنهجية السديدة، فلا ينفِّر الناس، بمعنى: أنك بمجرد أن ترى خطأ على شخص لا تجلس فتثلِّب فيه حتى يكره الحق، فهذا صعب -يا أخي- ولكن هيئ له أمراً يدعوه إلى ترك هذه البدعة، وترك هذا الهوى، زُرْه -مثلاً- المرة الأولى، والمرة الثانية لوحدك، والمرة الثالثة مع طلاب العلم، والمرة الرابعة مع شيخ؛ وأوصي بالعلماء الذين يعرفون نصحه. فابذل كل ما تستطيع وكأنك أمام إنسان غريق، فإن الله عز وجل قد ينقذه على يديك. وهذا أمر مهم جداً؛ أن نكون ناصحين، وأن يكون النصح لعامة المسلمين، وأئمة المسلمين، وعلمائهم، بالشكل الذي يُرَغِّب في الحق لا الذي يُنَفِّر منه. إن التُّهَمَ هذه التي تقال والتي تحاك لا يجوز لمسلم أن ينقلها بلسانه إلا على بيِّنة، فلو أنك سمعتَ عن إنسان يقال عنه: أن في عقيدته كذا، فإن هذه الكلمة -ولو نقلتها نقلاً فقط- فإنك تحاسب عنها بين يدي الله، ويكون هذا الشخص خصماً لك بين يدي الله، واللهِ إنك ما تقول عن إنسان في عقيدته شيئاً إلا جاء يوم القيامة يخاصمك بين يدي الله عز وجل، فيقول: يا رب، سَلْ هذا، فقد قال فيَّ كذا وكذا: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] هذا إذا كان عظيماً في القذف وفي الإفك، فكيف في العقيدة؟! سبحان الله! فقد أخبر الله أن ((الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] هذا في ماذا؟! هذا في ما إذا قذف في العرض، فكيف بمن يقذف في الأفكار والمناهج! فيقال: فلان ضال في منهجه، وفلان زائغ في منهجه، وفلان كذا، فلا يُتَحَرَّى؟! نحن لا نفتح الباب -بما نقول- لأهل البدع والأهواء، فلا مانع أن تحذر من أهل البدع، وأن تبين خطأهم، وأن تبين ما هم عليه؛ ولكن على بيِّنة. والمراد: أن نتقي الله في أعراض المسلمين الذين تقال فيهم الشائعات من العلماء والدعاة والأخيار والأئمة دون بيِّنة، فهذا ليس من شأن المسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] وفي قراءة: {. فَتَثَبَّتُوا} [الحجرات:6]. وجاء في الحديث: (ألا إن التَبَيُّن من الله، والعجلة من الشيطان) وهو حديثٌ مُتَكَلَّمٌ في سنده؛ لكن معناه صحيح، فإن العجلة من الشيطان؛ لأن الشيطان يريد نقل الشائعة بسرعة، ولذلك تجد من ينقل هذه الشائعات مريضَ القلب يعتني بسرعة نقلها، وواللهِ إنه ليبلغ ببعضهم أنه يفرح أن يجد على الداعية أو على الشيخ مآخذاً، فيكون -نسأل الله السلامة والعافية- كالذباب؛ لا يقع إلا على النجس والخبث -والعياذ بالله-، وهذا من آفات القلوب وأمراض القلوب، نسأل الله أن يسلمنا منها. وهذا كلام عام للناس جميعاً، واللهِ لا نعني به طائفة ولا أمة؛ ولكن نعني به كل مَن خالف هذا المنهج الذي قامت عليه نصوص الكتاب والسنة. فينبغي علينا أن نحفظ أعراض المسلمين، وأن يكون عندنا الحرص على توجيه الناس أكثر من تنفيرهم، يقول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ وأبي موسى وهما ذاهبان إلى قومٍ كافرين من أهل الكتاب: (يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، بَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا). فالإنسان المُعَسِّر لَمَّا يأتي ليدعو فإنه يُنَفِّر غيره بالأسلوب، يقول عبادة بن الصامت: [يُحْكَى عن معاذ رضي الله عنه كلمة حكيمة: إنكم تسمعون الزلة عن العالم، فلا تعجَلوا عليه -لا يوجد أحد كاملاً، بل لا بد للعالِم أن يقع في الخطأ، فلا تعجَلوا عليه- فإنه أحرى أن يراجع نفسه]. أي: أن العالم إذا جئتَ إليه فلا تقل له: قال فلان، وقال فلان، فتُهَيِّئَ له وَضْعاً يجعله يُصِر على خطئه؛ لأنك بهذا تكون قد أسأت في حقه؛ لكن لا تعجَل عليه، بل تراجعه وتذكره بالله، وتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وإذا بك تجده قد استفاق وانجلت عنه العماية؛ فيدعو لك بخير؛ فتكون سبباً في توجيهه، وهذا من حق العالِم علينا. المقصود من هذا كله: أن هذه الأمور ينبغي التنبُّه لها. وأما ما ذكرتَه -أخي السائل- فإني أوصيك بشأنه أن تَعْرِض ما أنت فيه وتَعْرِضهم على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وجدت منهم إعراضاً ووجدتهم قوماً لا يعتنون إلا بأذيتك، ولمست منهم الحسد فاصبر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لك فيه أسوةٌ حسنة، فقد قيل عنه: الساحر، والأفاك الأثيم، والمجنون، والأبتر، والصابئ، ومات وهو سيد الأولين والآخرين. والله إن الله سيضعك في مرتبةٍ إذا أحبك، ولو أن الخلق كلهم أرادوا أن ينزلوك عنها شعرة واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وإذا غضب الله على العبد وأراد الخلق كلهم أن يرفعوه درجة واحدة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فلا تأبه بهم. يقول الشاعر: إن يحسدوك فلا تعبأ بقائلهم هم الغثاء وأنت السيد البطلُ قيلت هذه في الإمام الحافظ/ عبد الغني المقدسي -رحمة الله عليه- واقرأ في التاريخ، وابدأ بصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-. كنتُ أقرأ في سيرة أبي هريرة، فوقفتُ أمام عبارة عجيبةٍ مِن القِدَم! عجيبةٌ والله! أبو هريرة يُتْرَك بلا طعام ولا شراب -كما في صحيح مسلم- وكان يُصرع حتى يأتي الرجل ويضع قدمه عليه، ويظن أنه مجنون، وما به إلا الجوع، رضي الله عنه وأرضاه، يُصرع من أجل ماذا؟! من أجل أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْثِراً به على ملء بطنه؛ لأنه يريد أن يحفظ لنا سنته -رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الخلد مثواه ومأواه-. هذا الصحابي الجليل يلقبه الحافظ ابن حجر بحافظ الصحابة، أسلم يوم خيبر، ومع ذلك حفظ ما لم يحفظه مَن كان قبله في الإسلام مِن كثرةِ حفظه وملازَمَتِه للنبي صلى الله عليه وسلم. هذا الصحابي لَمَّا حفظ أتعرفون ماذا جرى له؟! جاء في الخبر عنه رضي الله عنه أنه في يوم من الأيام -تعرفون أنه كان يحدِّث بالأحاديث، فلما أَكْثَرَ أصبح الناس يشكِّكون في الكلام الذي يقوله- فقال ذات يوم: [يا أهل الكوفة! أنا أكذب على رسول الله؟! أنا أكذب على رسول الله؟! اللهُ الموعد] وقَبَضَ على لحيته! سبحان الله! نظرتُ إلى هذا فعلمتُ أن لطلاب العلم أسوة بهذا الصحابي الجليل، فأنت تحفظ العلم، وتتجند للدعوة إلى الله، ثم تجد فلاناً يطعن في رأيك، وفلاناً يطعن في منهجك، وفلاناً فيه -أقل ما فيه- أنه إذا وجدك صالحاً قال: فلانٌ ليس عنده علم؛ حَسَداً منه، المهم عنده أنك لا تأخذ أحداً، ولا يجلس معك أحد. فأقول لمثل هذا: لماذا يا أخي؟! ينبغي التآلف والتكاتف، وأن يحس الإنسان أنه يشد على يد أخيه! فنسأل الله العظيم أن يسلمنا من أمراض القلوب، وأن يصلح الحال، وأن يوجب لنا من عصمته فيما عند الله تعالى.

حكم الدخول في الجماعة الثانية والجماعة الأولى ما زالت في التشهد الأخير

حكم الدخول في الجماعة الثانية والجماعة الأولى ما زالت في التشهد الأخير Q إذا دخلتُ المسجد ووجدتُ الجماعة في التشهد الأخير، وهناك جماعة أخرى تتوضأ، فهل أدخل في الجماعة الأولى أم أنتظر الجماعة الثانية؟ وهل لو دخلتُ في التشهد الأخير في الجماعة الأولى أكسب أجر الجماعة، أم الأفضل أن أنتظر الجماعة الثانية؟ A هذه المسألة أحب أن أنبِّه عليها؛ لأن فيها سُنَّةً عن النبي صلى الله عليه وسلم أضاعها كثير من طلاب العلم اليوم، وقد يوجد من يقول: إنه بهذا القول -الذي يُعْتَبر خلاف السنة- يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فقال عليه الصلاة والسلام: (فما أدركتم) أي: أيَّ شيءٍ أدركتموه، حتى لو أدركتم الإمام قبل السلام ولو بلحظةٍ واحدة فكبروا، ولا يجوز لأحد دخل المسجد أن ينفرد عن الإمام، ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلين اللذين صَلَّيا مُفْرِدَين قال: (ألستما بمسلمَين؟! ما منعكما أن تصليا في القوم؟!)، والإسلام يحارب الشذوذ، هذا الشذوذ الذي ينفرد فيه عن جماعة المسلمين يحاربه، ولذلك قال: (ألستما بمسلمين؟! ما منعكما أن تصليا في القوم؟!)، فدل على أن كل من دخل إلى المسجد ينبغي عليه أن يدخل مع الإمام، حتى أنهما قالا: (صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا؛ فإنها لكما نافلة) كل هذا من أجل ألا ينفرد الإنسان عن إخوانه؛ لأنه إذا انفرد ساءت به الظنون، وفُتح بابٌ لأهل الأهواء والبدع أن يتركوا أهل السنة ويحتجون بجواز ذلك في الشرع. فالمقصود: أنه لا يجوز لأحد دخل المسجد أن ينفرد عن الإمام، وإنما ينبغي الدخول معه. المسألة الثانية: إذا دخلتَ مع الإمام وأدركتَ التشهد، وكان أحد بجوارك، فقل له: إذا سلم الإمام فأْتَمَّ أنت بي. هذا لأنك منفرد، فإذا سلم الإمام قُم فكبِّر ويكبر معك، واقرأ وصلِّ به كأنكما لم تدركا شيئاً مع الإمام، أي: كأنكما منفردين، هذا إذا كنتما أدركتما الإمام في التشهد الأخير، أو أدركتماه بعد رفعه من الركعة الأخيرة، هذا كله تعتبر أنت فيه منفرداً يجوز للغير أن يأتم بك. فالمسألة التي ذكرتَها هي: أن تكبر معه. وذهب طائفة من العلماء إلى أن فضل الجماعة يُدْرَك بالتسليم، فمن أدرك الإمام في التشهد، فسلم الإمام وقد دخل في الصلاة، قالوا: فقد أدرك الفضل؛ فضلَ الجماعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن خمساً وعشرين ضعفاً من الأجر يكون على المشي إلى المسجد، فأنت مدركٌ لفضل الجماعة. وبناء ًعلى هذا فإنه لا يجوز الانفراد، ولا يجوز الوقوف إلى أن تدخل الجماعة الثانية، وإنما يكبر الإنسان ويدرك الإمام. أما أيهما أفضل: الجماعة الأولى أم الثانية؟ فأقول: تكبِّر؛ لأن تكبيرة الإحرام منك قد وقعت في وقتٍ سابقٍ للجماعة الثانية، ولذلك فإن العبرة بتكبيرة الإحرام، فمن كبر تكبيرة الإحرام -مثلاً- في الساعة الثانية، وصلى ولو مع واحدٍ جماعةً أفضل مما لو انتظر جماعةً كثيرةً إلى الساعة الثانية وعشر دقائق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليصلي الصلاة، وما يصليها في وقتها، ولما فاته من وقتها خيرٌ له من الدنيا وما فيها) فقوله: (ولما فاته من وقتها) أي: قليلاً كان أو كثيراً. فاحرص على فضل الوقت، فإنه لا شك أن دخولك مع الجماعة الأولى مع إحداث جماعةٍ ثانية بعد السلام أفضل من بقائك وانتظارك. والله تعالى أعلم.

علاج من ابتلي بحب المردان

علاج من ابتلي بحب المردان Q كيف يفعل من ابتلي بحب المردان؟ وكيف يعالج نفسه من ذلك؟ A عليه أن يدعو الله، ويأخذ بالأسباب: فيدعو الله عز وجل أن يعافيه من هذا البلاء، ولا يجلس معهم، ولا يحرص على مجالسهم، وإذا وجد الفتنة يقوم، ولا يحل له أن يجلس في مجلس يجد فيه الفتنة مِن أمرد، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحذرون من صحبتهم، والجلوس معهم. فعليه أن يدعو الله، ويأخذ بالأسباب، فإذا وفق الله الإنسان للدعاء والأخذ بالأسباب -التي مِن أعظمِها: أنه لا يكثر من مجالستهم ولا صحبتهم ما أمكن- فإن الله يعصمه. أيضاً القضية الثالثة: أن المحبة والتعلق سببها ضعف الإيمان، فالغالب أن الإنسان لا يتعلق ولا يحب محبة غير شرعية إلا بضعف الإيمان -والعياذ بالله-، والذي يريد من الله عز وجل أن يشفيه من هذا عليه أن يعالِج هذا البلاء بقوة الحب لله جل جلاله؛ لأن القلب هو وعاء الحب، فإذا مُلِئ بمحبة الله وأصبح مليئاً بحب الله لم يجد حبُّ ما سواه مكاناً في ذلك القلب، ولذلك لا بد أن تحاول دائماً على هذا، فهو من أهم ما ينبغي أن يعتني به الشاب المهتدي، أول ما يعتني به بعد التوفيق للهداية أن يقوي الإيمان في قلبه، وذلك بمحبة الله المحبة الصادقة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]. فالذي يريد أن يكون على كمال الإيمان عليه أن يملأ قلبَه حباً لله، فإذا جاءت محبة مَن سواه هانت عليه؛ لأن أمامه محبة الله جل جلاله، فإن كان يحبه لجمال؛ فإن الله جميل، لِمَا ثبت في الحديث الصحيح: (وإذا كشف الحجاب عن وجهه لأهل الجنة نسوا النعيم الذي هم فيه، وتركوه، واشتغلوا بذلك الجمال، ورؤية ذلك الجمال، ثم ينقلبون إلى أهلهم - كما في صحيح مسلم - فيقولون: لقد ازددتم بعدنا جمالاً، فيقولون: والله لقد ازددتم بعدنا جمالاً). من جمال النظر، يقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] النضرة هذه كمال النعيم والبهجة والسرور الذي تراه في وجه الإنسان، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] لكن هذه النضرة بماذا؟ {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]. فإذا كنت تحب الجمال فالله كمال الجمال والجلال جل جلاله، وتقدست أسماؤه. وإن كنت تحب المال فالله بيده خزائن السماوات والأرض، بيده سحاء الليل والنهار لا تُغِيضُهَا نفقة. تَفَكَّر في أي شيء أنت تحب من أجله أحداً، وانظر إليه في جوار الله جل جلاله، ستجده لا يُعَدُّ شيئاً، فالإنسان الذي يريد أن ينصرف قلبُه عن الخلق إلى الخالق جل جلاله يُعَظِّم في قلبه حبَّ الله، فيصبح القلب مملوءاً بحب الله، فإذا امتلأ القلب بحب الله أتت المرحلة الثانية وهي أن القلب لا يتجه إلى حب شيء إلا من خلال حب الله، ولذلك بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء والبراء، وأن الحب في الله والبغض في الله مِن أوثق عُرَى الإيمان، لماذا؟! لأن معناه أن القلب قد امتلأ إيماناً إلى درجة أنه لا يتجه إلا إلى حبيب الله، ولا ينقبض إلا عن عدو الله، كما قال الله عن هؤلاء: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:22] ثم انظر إلى تعبير القرآن! قال: {كَتَبَ} [المجادلة:22] كأن الإيمان نُقِش في هذه القلوب، الله أكبر! {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:22]. فالإنسان الذي يريد ألا يتجه قلبه إلى حب شيء غير الله عليه أن يملأ قلبه بحب الله، فحب المردان والتعلق بالمردان جاء من فراغ، وهذا الفراغ هو ضعف الإيمان، فنسأل الله العظيم أن يكتب لنا ولكم السلامة والعافية. ثم ماذا تستفيد؟! هب أنك نظرت إلى مَن جَمَّل الله صورتَه! ما الذي تستفيده؟! ما الذي تجده؟! ما هي الفائدة؟! ما هو الأثر؟! هل يزداد إيمانك؟! لا والله، حتى إن بعض السلف لما نظر إلى أحد الناس وهو ينظر إلى الأمرد قال: [والله لتَجِدَنَّ غِبَّةَ هذا ولو بعد حين]، فمكث عشرين سنة، وذات ليلةٍ أُنْسِيَ القرآنَ فيها -والعياذ بالله-. فالإنسان لا يأمن مكر الله عز وجل؛ ولكن يأخذ بالأسباب التي تعينه، فإذا نظر اللهُ إليك وأنت في معصية؛ ولكنك تأخذ بالأسباب التي تريد أن تنجو بها من هذه المعصية، وتفر من الله إلى الله، فأبشر بكل خير. ونسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياك السلامة والعافية. والله أعلم.

نصيحة لشارب الدخان

نصيحة لشارب الدخان Q إني أُشْهِد اللهَ العلي العظيم أني أحبك في الله. وسؤالي يقول: أنا إنسان منَّ الله عليَّ أن هداني منذُ سنوات ولله الحمد، إلا أنني أرتكب معصيةً في الخفاء، وهي شرب الدخان، ولا أستطيع تركه، فما توجيهكم لي جزاكم الله خيراً؟ A أولاً: أُشْهِد الله على حبكم جميعاً فيه، وأسأل الله العظيم كما جمعنا في هذا المكان أن يجمعنا في مستقر رحمته {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] وأحبك الله الذي أحببتني من أجله. وأما ما سألتَ عنه من معصية الدخان، فأسأل الله العظيم -أمِّنُوا- أن ينزع من قلبك حبَّه، وأن يوفقك إلى تركه، وأن يعجِّل لك بالفرج. أخي في الله! إن كل شيء يشربه الإنسان أو يطعمه يحاسِبه الله عز وجل عليه، ففي كل لحظة يشرب الإنسان فيها هذا البلاء يكوِي نفسه بنار؛ نار الدنيا قبل نار الآخرة، ولو كان الإنسان -والعياذ بالله- مبتلىً بالدخان، فإن هذه الصغيرة قد تكون وسيلة للكبيرة؛ لأن الإنسان -كما يقول العلماء- إذا داوم على الصغائر قد تنتهي به إلى الكبائر، والذي جعلك تهجر فراشك في جوف الليل إذا سمعتَ المنادي ينادي إلى الصلاة، والذي جعلك تخرج في شدة النهار، وفي شدة الحر والقَرِّ للعبادة والصلاة، وهذا الجهاد الذي جاهدت به نفسك، واهتديت والتزمت به، أهونُ منه تركُ الدخان؛ ولكن الشيطان خبيث، يقول لك: لن تستطيع، وهذا أمر صعب، فأنت داومتَ عليه سنوات؛ ولكن أقول: اعزم، فوالله الذي لا إله إلا هو ما من إنسان يصاب بذنب ويَصْدُق مع الله إلا صَدَق الله معه؛ لكن المهم الصدق؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (وأسألك العزيمة على الرشد). فالأمر يحتاج إلى عزيمة فقط: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115] فالمشكلة في العزم، وإلا لو أنك عقدتَ العزم على ترك الدخان، فأول ما تجد المعونة والتوفيق مِن الله جل جلاله، وأول ما تجد الحب مِن الله؛ لأنه بمجرد ما تجد في نفسك الكراهية لهذا الشيء فإن الكراهية تعتبر من أعمال القلوب، وقُرْبَةٌ بينك وبين الله، يقول الله: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً} [الأنفال:70] فإذا علم الله في قلبك أنك تكره الدخان أعانك؛ لكن اصْدُق مع الله. وأوصيك بوصية ثالثة حتى تترك الدخان: إذا أصبحت فاجعل آخر عهدك بالدنيا غروب الشمس، وهذا أمر خطير جداً، حتى أن بعض العلماء قال: لا آمن على من شرب الدخان مسٌ -والعياذ بالله-، فهَبْ أنك ستموت عند غروب الشمس، واللهِ -بإذن الله عز وجل- ستجد معونة من الله في تركه، وهذا يكون في أي معصية، فاعتبر أن غروب الشمس هو آخر أمد لك، وهذا من أعظم العون الذي يعين على الطاعة، ويعين على ترك المعصية، فقصِّر الأمل في الدنيا، فالدخان مَن ابتلي بمرض من أمراضه ومات منه ربما يكون قاتلاً لنفسه -والعياذ بالله-، فلا آمَنُ عليه من ذلك، وهذا -حقيقة- فيه شبهة، أعني أن هذا الحكم ليس ببعيد؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] فإذا كان هو يعلم أنه سبيلٌ للسرطان، والسرطان سبيلٌ للموت -والعياذ بالله-، أو سبيل للأمراض الخطيرة في الرئة، فكأنه يعلم أن هذا السم الذي يتحسَّاه ينتهي به إلى نار جهنم، ولذلك ثبت الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تحسَّى سُمَّاً فمات منه فهو في نار جهنم يتحسَّاه خالداً مخلداً فيها) -والعياذ بالله-. فالأمر خطير جداً -يا إخوان-، فمسألة الدخان يقرر بعض العلماء أنه لا يُؤمَن على الإنسان إذا بُلِي بمرضٍ بسبب هذا الدخان أن يكون قاتلاً لنفسه! وتُحْكَى حول هذا الأمر عِبَرٌ عن الثقات، ينبغي للإنسان أن يعتبر بها: فقد بلغ ببعضهم أنه وُجِّه إلى القبلة ولم يتوجه -نسأل الله السلامة والعافية- وما عُرِفَ عنه إلا شرب الدخان. ومنهم من كان -والعياذ بالله- يشرب هذه البلاء التي تسمى الشيشة، فيقول مُلَحِّده: فلما وضعتُه في القبر وجدتُ رائحتها في قبره، نسأل الله السلامة والعافية. فالأمر خطير جداً؛ لأن هذه الأرواح أمانة، فالله سبحانه وتعالى يحاسب صاحبها عليها. فنسأل الله العظيم أن يسلمنا من ذلك، وأن يعافينا وإياكم وذرياتنا من هذا البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً). والله تعالى أعلم.

كيفية الوقاية من الشيطان

كيفية الوقاية من الشيطان Q إني أحبك في الله، ثم ما هي الوقاية من الشيطان؟ A الله المستعان. أما الوقاية من الشيطان فقد بيَّنها الله عز وجل في قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200]. فمِن أعظم الحرز، ومِن أعظم الحفظ، ومِن أعظم الحياطة: كثرةُ ذكرِ الله جل جلاله. فالذي يريد أن يكون في مأمَن من الشيطان عليه أن يُكْثِر من ذكر الله، وألا يفْتُر لسانه عن الاستغفار، والتهليل، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، فإن ذكرتَ الله ذَكَرك الله، فإن ذكرته في نفسك ذكرك في نفسه، وإن ذكرته في مَلَأٍ ذكرك في مَلَأٍ خير من الملأ الذي ذكرته فيه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]. فالذي يريد من الله أن يعصمه من الشيطان ويحفظه من الشيطان: يكثر من ذكر الله، خاصة تلاوة القرآن، فإن العبد إذا كان تَلَّاءً للقرآن هابه الشيطان وخافه؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: عن عمر رضي الله عنه أنه قدم على امرأةٍ كان عندها ابنٌ به مس، وقال لها: [انظري إلى نجي صاحبك، فاسأليه عن أبي موسى -غاب عليه خبر أبي موسى، وكان أبو موسى من أكثر خلق الله تلاوةً للقرآن هو ومعاذ بن جبل كما هو معروف من سِيَرهم- قالت: أتسألني عنه؟! ذاك الذي يخرج منه كالشهب لا أستطيع أن أقربه؟!] تعني: لا أستطيع أن اقترب منه، والشهب هذا هو: القرآن؛ لأن القرآن على الشيطان مثل الشهب، لا يطيق كلام الله عز وجل، ولذلك لا يستطيع أن يمكث في البيت الذي تُقْرأ فيه سورة البقرة ثلاثة أيام، فهو في حرز من الله أن يدخله الشيطان. فالقرآنُ وكثرةُ تلاوتِه يورث انشراح الصدر، والذي يريد أن يكون من الصالحين والسابقين إلى الخيرات عليه أن يكثر من ذكر الله، واللهُ قد أثنى على هؤلاء فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] والله يا إخوان إن هاتين الآيتين ما يقرأهما الإنسان إلا ويتفطر قلبه حزناً، إن الله يوصيك من فوق سبع سماوات أن تذكره، وهو غنيٌ عن الذكر وأنت أفقر ما تكون إلى هذا الذكر؟! وإذا أمسى الواحد نظر في صحيفة عمله كم ذكر الله جل جلاله! فلا يجد إلا أذكار الصلاة، هذا إذا كان يحافظ على أذكار الصلاة، فأين تلاوة القرآن؟! كم جزءاً قرأ؟! ثم كم تسبيحه؟! كم استغفاره؟! كم تهليله؟! كم تحميده؟! كم تكبيره؟! لا يجد إلا القليل. هذا من الرزايا. ولذلك ليس غريباً أن تجد الشخص سَمْتُه سَمْتٌ صالح؛ لكن قلبه خاوٍ، وذلك لأن ذكر الله قليل. فلا تنشرح الصدور إلا بذكر الله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ولا ترتاح النفوس، ولا تبتهج إلا بذكر الله جل جلاله، والذي يريد السعادة والأنس يأنس بالله، ولذلك واللهِ تجد إنساناً ولو كان وحيداً فريداً مع كتاب الله تجده كأن الدنيا بين يديه حقيرة؛ لكثرة ذكر الله، يقول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم في جبلٍ قريبٍ منَّا، هنا بجوار منطقة خليص اسمه: جمدان وهم مسافرون، يقول لأصحابه: (سيروا، هذا جمدان، سبق المفرِدون، قالوا: وما المفرِدون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) سبقوا، ولذلك تأتي يوم القيامة فتجد الصالحين قد سبقوك بمراحل كثيرة، وناساً كانوا يتقلبون أناء الليل وأطراف النهار مع كتاب الله، ومع الاستغفار، ومع الدعوة إلى الله، ومع الذكر، وفي الخيرات، يُشْغِلُون أنفسهم بطاعة الله. فالذي يريد أن يكون في عصمةٍ من الشيطان، وحفظٍ من الشيطان عليه أن يكثر من ذكر الله، فإن مَن ذَكَرَ الله ذَكَرَه الله، ومَن ذَكَر الله فنِعْمَ -واللهِ- الحالُ حاله، نسأل الله العظيم أن يعيننا على ذلك، وأن يجعلنا من أهله. والله تعالى أعلم.

كيفية نصح من لا يصلي

كيفية نصح من لا يصلي Q في يوم من الأيام وأنا أتحدث مع أحد زملائي وأسأله عن أحواله قال لي: متضايق ومضطرب. فقلت له: صل ركعتين، وبإذن الله سيزول هذا الاضطراب. وكان هذا في وقت الضحى، فأريد أن أنصحه بفائدة ركعتي الضحى. فقال لي عبارة: لا تتعب معي، هل تعرف من متى أنا لَمْ أصلِّ؟! منذُ رمضان العام الماضي. فأُصِبْتُ بالذهول، فنصحته أن يبدأ من هذه الصلاة؛ من صلاة الظهر. فأريد منك يا فضيلة الشيخ! توجيهي كيف أبدأ مع هذا وهو زميلٌ لي؟! A يقول الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] فمِن أعظم الرزايا والبلايا على الإنسان: تركُ الصلاة، ولذلك لا يُؤمَن على الإنسان الذي يترك الصلاة غالباً، لا تُؤمَن له سوء الخاتمة؛ لأنها هي الصلة بين العبد وربه، وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: [إذا حضرت الصلاة فلا تشتغل بشيءٍ سواها؛ فإن من ضيعها فهو لما سواها أضيع] تأسياً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن صلحت صلح عمله، وإن فسدت فسد عمله). فالمقصود: أن ترك الصلاة مصيبة عظيمة، والذي أراه أن تداوم على نصح هذا الشاب. الأمر الثاني: أن تنقله من بيئته إلى بيئة صالحة، فكثيرٌ من الشباب يكون فيهم خير؛ ولكن الشر يأتيهم من البيئة الفاسدة، فخذه وانتشله من بيئة الضلالة إلى بيئة الهدى، وخذه إلى الأخيار ومجالس الأخيار حتى يدخل النور إلى قلبه؛ فينشرح صدره، ويطمئن فؤاده، وبإذن الله عز وجل سيجد خيراً كثيراً. وإذا لم تتمكن من أخذه لانشغالك أو نحو ذلك فمن الممكن أن توصي أحد الأخيار أن يتعاهده، وتتعاهده أنت، وأوصيك أن تحتسب، فلعل هذا العبد إذا أنقذه الله على يديك أن يكون لك طريقاً إلى الجنة؛ لأنه ما من إنسان يهتدي على يديك إلا كانت صلاته وزكاته وعبادته وطاعته كلها في ميزان حسناتك، وهذا فضل عظيم. فأوصيك أن تجتهد، فهذه تجارة رابحة، ولذلك فإن الأخيار والدعاة الصادقين يفرحون لَمَّا يرون مثل هذه النماذج؛ لأنهم يعاملون الله جل جلاله، يفرحون؛ لأنها تجارة رابحة مع الله، صلاته وعبادته كلها في ميزان حسناتك. ولذلك ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن العبد إذا قام يوم القيامة جاءت أعماله كالغمامات، يُنشر له ديوانه، ثم تأتي أعماله كالغمامات يقول: يا ربِّ! ما هذا؟ فيقول: سننٌ هَدَيتَ أو دَعَيتَ إليها كان لك مثل أجور من عمل بها). فيحتسب الإنسان في هذا. ونسأل الله العظيم أن يشرح صدره على يديك، وأن يهدينا وإياه إلى سواء السبيل. والله تعالى أعلم.

حكم الخروج إلى الجهاد مع رفض الوالدين

حكم الخروج إلى الجهاد مع رفض الوالدين Q لا أجد في نفسي القدرة على الاستيعاب للعلم، وأنا طالب في الجامعة؛ ولكني أريد الجهاد، وأبي يرفض هذا الأمر! فكيف الحل؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فَهْم العلم وضبطُه يحتاج إلى تفريغ القلب له، وقلبُك مشغولٌ بما أنت تحبه، وإذا تعلق القلب بحب شيء انصرف عن كل شيءٍ سواه، فلعل ضعف فَهمك وإدراكك سببه أنك لم تعطِ العلم ما يستحقه من الإقبال ومن العناية، ولذلك لم تجد له أثراً في نفسك، فأنت تحب شيئاً غير العلم، وقلبك منصرفٌ إلى هذا الشيء، و {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]. فإذا كنت تريد العلم فأعطِ العلم كُلَّك يعطيك بعضَه، فكيف إذا لم تعطِه شيئاً؟! الأمر الثاني: قضية الجهاد: فلا يجوز لمن كان عنده والدان أو أحدهما أن يخرج إلى الجهاد إلا بعد استئذانهما، ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) هذا الحديث الصحيح فيه فوائد: أولها: أن الرجل جاء يبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد، كما ورد في الروايات الأخرى في السنن، وفي روايةٍ في السنن أيضاً صحيحة: (قال: يا رسول الله! أقبلتُ أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: أحيٌّ والداك أو أحدهما؟ قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأحسن صحبتهما) رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أريد أن أهاجر وأكون معك، وأجاهد، مِن أفضل ما يكون: عِلْمٌ وجهادٌ، فقال له: (أحيٌّ والداك أو أحدهما؟ قال: بل كلاهما، قال: أفتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال: ارجع إليهما فأحسن صحبتهما). وفي الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أقبلتُ من اليمن -أكثر من ألف كم- أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحَيَّةٌ أمك؟ قال: نعم، قال: الزم رجلها فإن الجنة ثَمَّ). فالذي يريد رحمة الله عز وجل إذا وجد الوالدان فإن حقهما مقدمٌ على الجهاد، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: بر الوالدين، قلتُ: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله). ثانيها: أخذ العلماء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم حُكْماً شرعياً، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الصحابي: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم) لم يسأله: أهما كافرَين أم مسلمَين؟ أهما بحاجة إليك أو ليسا بحاجة إليك؟ أعندك إخوة أو ليس عندك إخوة؟ بل سأله: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد). والقاعدة في الأصول: أن (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال). ترك الاستفصال، أي: لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم منه. في مقام الاحتمال، أي: في مقام يحتمل أن يكون الوالد بحاجة أو ليس بحاجة. ينزل منزلة العموم في المقال، أي: الْزَمْ والدَيك سواءً كانا بحاجةٍ إليك أو لم يكونا بحاجة إليك. السبب في هذا أنه ليست القضية قضاء حاجة الوالدين أبداً، القضية تقوم على حكم جليلة: منها: أن الوالد والوالدة لا يستطيعان فراق الابن، وهذا شيء لا يملكه الوالد ولا تملكه الوالدة، نبي من أنبياء الله، يعقوب عليه السلام يعلم أن ابنه سيعود إليه، يقول تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] فهو نبي من أنبياء الله، ويعلم أن ابنه سيعود إليه وتبيضُّ عينه من البكاء، {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84] فكيف بغيره؟! هذه نماذج وقصص ما ذكرها الله في القرآن عبثاً، ذكر لك نموذجين للأب والأم: الأب: في يعقوب. والأم: يقول تعالى عن مريم: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ …} [مريم:23] أي: ألجأها {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] كأن الله يقول: إذا كان هذه التي يقال لها: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] فمع هذه العناية الإلهية تقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] فكيف بالأمهات الأخريات؟! هذه نماذج ذكرها الله من حنان الوالدَين وعطفهما وعظيم حقهما، حتى يعلم الإنسان أن القضية ليست قضية كونهما بحاجة إليك أو ليسا بحاجة، القضية قضية العاطفة، ولذلك قد يخرج الابن للجهاد دون استئذان والدَيه، فيبلغ استشهاده الوالدان، فيتسخطان على القدر، فينجو الابن ويهلك الوالدان، ويكون ذلك أعظم ما يكون من العقوبة، وهذا ذكره العلماء في الحِكَم المترتبة على استئذان الوالدَين. ولعل الله له حكمة؛ يعلم أن خروج الإنسان للجهاد في هذه الفترة فيه فتنةٌ له، أو أنه لا يخلُص، أو أن هناك أمامه أمورٌ تعيقه عن أن تكون شهادته مقبولة، فيبتليه الله بالوالدين، يقول له الوالد: لا، لا تخرج، وتقول الوالدة: لا تخرج، فيصبر ويحتسب حتى يبلغ رضا الوالدين، ثم يجمع الله له بين الحسنيين، فوالله ما أرضى أحدٌ والديه وترك الجهاد إرضاءً لهما إلا جعل الله له باب شهادة قريبة أو بعيدة، فيحتسب الإنسان، ما دام النص يقول: بالاستئذان، ما نخرج إلا بعد الاستئذان، لا اجتهاد مع النص، ولا آراء مع النصوص، ونقف مع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. وبالنسبة للقضية الثانية وهي: قضية خروج الإنسان للجهاد: حبذا لو يسبقه علمٌ أو تسبقه درجة من العلم حتى يكون أرفع ما يكون؛ لأن: أعلى المراتب عند الله: مرتبة النبوة. ثم بعد مرتبة النبوة: مرتبة العلم. ثم بعد مرتبة العلم: الشهادة. ثم: الصلاح. أربع مراتب جمعها الله في قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ. } [النساء:69] هذه أعلى درجة من الجنة {. وَالصِّدِّيقِينَ. } [النساء:69] تعرفون مَن هم الصديقون؟ إنهم العلماء العاملون {. وَالشُّهَدَاءِ. } [النساء:69] بعدَهم {. وَالصَّالِحِينَ. } [النساء:69]. وإنما علت مرتبة العلماء؛ لأنها وراثة وخلافة تلي مقام النبوة، ولذلك كان مقامها أعلى من مقام الشهادة. المقصود: أن يحتسب الإنسان إذا أبى والداه، وينبغي أن يُعلم أنه ينبغي للإنسان إذا أبى والداه عن الاستئذان ألا يلح عليهما، ولذلك قرر طائفة من العلماء على أنه لو ألح على والديه وأحرجهما بالإذن أنَّ الإذن وجوده وعدمه على حدٍ سواء؛ لأنه لم يأخذ برضاهما، وإنما أَخذ بكُرهٍ لهما. فينبغي للإنسان أن يحتسب، إذا وجد الرضا فليعلم أن الله قد اختار له الرضا، وإن لم يجد فما عليه إلا أن يصبر والله يأجره، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم وادياً -يقول هذا وهو في طخوم الشام، في غزوة العسرة- ولا قطعتم شِعباً إلا كانوا معكم، إلا شاركوكم الأجر، قالوا: يا رسول الله، وكيف وهم في المدينة؟! قال: حبَسهم العذر). فإذا امتنع الوالدان من الإذن لك فقد حبَسَك عذرٌ شرعي، فاعلم أن الله يأجرك، وأن الله يبلغك مراتب المجاهدين. والله تعالى أعلم.

أهمية الحرص على الوقت وترتيبه لطالب العلم وحكم القول بالمجاز في القرآن

أهمية الحرص على الوقت وترتيبه لطالب العلم وحكم القول بالمجاز في القرآن Q ما هي وصيتكم لطالبٍ علم لا يقيم لوقته موعداًً محدداً، بل يجعل الظروف هي التي تحركه مع أنها تكون في مرضاة الله؟ وما حكم القول بالمجاز في القرآن؟ كما يطلب الدعاء منكم لنا! A أما بالنسبة للمسألة الأولى: فإن ترتيب الوقت عاملٌ مهمٌ جداً في الاستفادة لطالب العلم، يُرتب طالب العلم الوقتَ، والأفضل والأكمل بل هو الأصل أن طالب العلم يلتزم بشيخ، ويكون شيخه عالماً عاملاً ملتزماً بالكتاب والسنة، يلتزم به، ويصحبه، ويرافقه، يتأسى بالسلف رحمهم الله، فإذا لازم هذا العالِمَ كان معه، ورتب وقته على حسب دروس هذا العالم، وعلى حسب مجالسه. وأما بالنسبة لإضاعة الوقت فهذا من أعظم المصائب التي تكون على طالب العلم، أعز شيء يملكه طالب العلم: الوقت، والذي يريد العلم يحفظ وقته. وكان الوالد رحمه الله إذا ذُكر عنده أحد -أعني: من طلاب العلم- يقول: نِعْم طالب العلم؛ لأنه يراه حريصاً على وقته، وإذا رأى إنساناً كثير الزيارة للناس، كثير الاشتغال بفُضول الدنيا لا يَعُدُّه طالبَ علم؛ لأن مفتاح طلب العلم: الحفاظ على الوقت. ولا أعرف مثله رحمه الله في حرصه على الوقت، وأذكر أنه كان بمجرد ما يدخل البيت يستفتح بالصلاة، فيصلي ما كُتِب له، ولا أذكر أنه دخل وجلس على فراشه في حياته كلها معي، أو أنه دخل وجلس على فراشه قبل أن يصلي، إلا إذا كان وقتَ نهي، فيدخل، ثم ينقلب على كتبه، ويقرأ فيها ما شاء الله أن يقرأ، حتى إنه في بعض الأحيان يستمر إلى قرابة منتصف الليل، وإذا دعي إلى مناسبات أو ولائم يأخذ كتابه معه، فإن وجد في هذه المناسبة الفوائدَ أو مجلسَ ذكرٍ وعلمٍ جَلَسَ، فإن وجدهم فلانٌ قال وفلانٌ قال، أخذ كتابه وذهب في ظل شجرة يقرأ حتى يحضر وقت الغداء فيتغدى، ثم يمضي. فطالب العلم أعز شيء عنده الوقت، خاصة إذا كان خرج من مدينته لطلب العلم في مدينة ثانية، وما ترك والديه، ولا ترك إخوانه، ولا قرابته عبثاً، فينبغي للشخص الذي يسافر عن أهله أن يحترق في قرارة قلبه على كل ساعة؛ لأنه حَرَم والديه رؤيته، فينبغي أن يكون الشيءُ الذي من أجله فارقهم أعزَّ من الشيء الذي يكون من أجله موجوداً بينهم. فينبغي الحرص على الوقت، وإضاعةُ الأوقات في القيل والقال والتراهات من أعظم الآفات التي تُضَيِّع على طالب العلم الخيرَ الكثير. فأهم شيء: الحرص على الوقت. ومن الحرص على الوقت أيضاً: إذا جلس طالب العلم مع عالم أو مع طالب علم، فإنه يستفيد، أعني: إذا جلس مع طلاب العلم لا يجلس هكذا صامتاً، بل يسألهم مسألة إن كانوا دونه في العلم، ويطرح عليهم مسألة، ثم يفيدهم بها، وإن كانوا أعلى منه ذاكَرَهم وتواضَعَ للعلم، فهو دائماً يكون في مذاكرةٍ للعلم، فإن مذاكرة العلم عبادة، والإنسان يشتري رحمة الله في طلب العلم في كل لحظاته وحركاته، ويحتسب، حتى إذا جلس مع الناس فإنه يستفيد أو يفيد. هذه رسالة لطالب العلم. أما قضية المجاز في القرآن: فهذه مسألة خلافية: من العلماء من قال: لا مجاز في القرآن. ومنهم من قال: فيه المجاز. والصحيح: أن المجاز موجودٌ في القرآن في غير أسماء الله وصفاته، والدليل على وجوده: أنه لا يستطيع أحد أن ينكر وجود المجاز في اللغة، فالمجاز موجودٌ في اللغة، وهو بلسان العرب، قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10] فهل يوم القيامة يعبس على الحقيقة؟! وقال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] هل القلوب بلغت الحناجر حقيقة؟! لا، إنما هو كناية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] تَمسوهن: كناية عن الجماع. فهذا كله تجوُّزٌ في العبارة. ولكن في أسماء الله وصفاته ليس هناك مجاز. والسبب الذي جعل العلماء يقولون: بنفي المجاز عموماً في القرآن إقفال باب التأويل على الأشاعرة؛ ولكن من الممكن أن نُقْفِل عليهم باب التأويل بأن نقر بوجود الأسلوب؛ ولكن في أسماء الله وصفاته نناقشهم بالطريقة التالية وهي: نقول لهم: إن مما اتفق العلماء عليه: أنه إذا تعارضت الحقيقة والمجاز، فإن الأصح حمل الدلائل في الكتاب والسنة على الحقيقة ما لم يدل الدليل على المجاز، فلما قال الله: {بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: يديه، حملناها على الحقيقة، فلما لم يوجد دليل من الكتاب والسنة على صرف اللفظ عن الحقيقة بقينا عليها، فقلتم: بالصرف - أعني: الأشاعرة - بدلالة العقل، ولا نعتبرها دليلاً كافياً للعدول عن ظاهر القرآن، فمن الممكن مناقشة الأشاعرة -حينما قالوا بالمجاز في الأسماء والصفات- مناقشةً بهذا الأصل، وهذا الأصل قرره الأصوليون في باب تعارض الحقائق. وعلى العموم فإن القول بوجوده أو عدم وجوده يقرر بعض العلماء أنه خلاف لفظي؛ لأنهم يقولون: الأسلوب موجود؛ ولكن اختلفوا هل يُسَمى مجازاً أو أن العرب تكلمت به على هذه الصفة؟! لأن الكلام موجود، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ثكلتك أمك) ما معنى ثكلتك أمك؟! معناها: فقدتك، هل يقصد النبي صلى الله عليه وسلم الفَقد؟! (رَغِم أنف امرئ أدرك أحد أبويه أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة) هل رَغِم المراد به الرُّغام حقيقة؟! كل هذا كنايات؛ لأن اللغة العربية لغةٌ واسعة، وهذا هو الذي يعتبر من سماتها وهو: سعتها، فإنه قد يراد ظاهر اللفظ وقد يراد غير اللفظ. فالمقصود أن الأسلوب موجود، قال صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى! أحابِسَتُنا هي؟!) عقرى حلقى، معناهما: عَقَرَها الله، حَلَقَها الله، كناية عن مصيبة، هل يراد أن المصيبة تصيبها؟! ليس المراد ذلك، إنما المراد كناية، كل هذا كنايات، ويعتبر من التجوُّز في العبارة. والله تعالى أعلم.

علاج الفتور في مراجعة القرآن

علاج الفتور في مراجعة القرآن Q أحفظ شيئاً من القرآن؛ ولكني لا أراجعه، كلما بدأت في المراجعة فما أنتهي من جزءٍ حتى أنشغل ويصيبني الفتور في المراجعة، وهكذا كلما بدأت، فأعطني علاجاً بارك الله فيك؟! A أكثر من الاستغفار، فهذا سببه ذنب، فمن وجد أنه في طلب العلم يحال بينه وبين العلم فليعلم أن هناك ذنباً حال بينه وبين العلم. فأكثِر من الاستغفار حتى يرحمك الله عز وجل، ولذلك قال تعالى: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]. والأمر الثاني: أن تأخذ جدولاً مرتباً للمراجعة، فترتب ختمك للقرآن كل ثلاثة أيام أو عشرة أيام، كل ليلة ثلاثة أجزاء، أو كل يوم ثلاثة أجزاء، ثم تحافظ على هذا ولو بلغ الأمر مبلغه، فلو أنك كل يوم تقرأ جزءاً ولو حدث ما حدث فلا تترك هذا الجزء، وبإذن الله بعد فترة يقوى حفظك، ويسهل عليك القرآن، هذا مِن تَعاهُدِ القرآن، أقل شيء: أن تجعل لك في اليوم جزءاً، ولو حدث ما حدث لا تترك هذا الجزء، واللهِ إن الأمر يسير، فالآن لو خرجتَ من هذا المكان إلى البيت، جرِّب وابتدئ بجزء، فما تصل إلى نصف الطريق إلا وأنت خاتِمُه؛ لكن مَن يعمل؟! الأمر يسير؛ لكن مَن الذي يعمل؟! فلذلك الإنسان يجاهد، يجعل له برنامجاً أو يرتب له وقتاً معيناً لمراجعة القرآن، ويكون ترتيبه للمراجعة على قدْرٍ يتناسب مع ظروفه. هذا بالنسبة للمراجعة، أمْثَلُ طريقة: أن يحدد له جزءاً أو قدراً معيناً من القرآن يراجعه خلال شهر أو خلال عشرة أيام أو خلال ثلاثة أيام، وهذا أكمل. ولذلك الإمام الشافعي لما جاءته امرأة وسألته عن حجية السنة، قال: أنظريني ثلاثة أيام، لماذا؟! لأنه كان يختم القرآن كل ثلاث ليال، فلما كانت الليلة الثالثة كَبَّر في السحر؛ لأنه بلغ قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وهذا إنما يكون في الثلث الأخير من القرآن. فهكذا كان السلف، ولذلك لما تقرأ كتب السلف تجد عندهم شواهد عجيبة من القرآن، أحياناً يأتيك بآية يستنبط منها معنىً لطيفاً، تستعجب كيف استحضروا هذه المسألة! لماذا؟! لأنهم قوامون الليل بالقرآن، فيختم أحدهم كل ثلاثة أيام، فالمسائل التي تنزل به خلال الثلاثة أيام وهو مشغول بتلاوة القرآن تمر عليه الحجج، وكل شيء كان عندهم يعرضونه على كلام الله، وكان الإمام الشافعي يقول في كلامٍ معناه: أنه ما من معضلة إلا وقد جعل الله حلها في القرآن، فكانوا مع هذا القرآن. فالإنسان يجعل له برنامجاً معيناً يختم فيه القرآن، وبإذن الله يعينه على ذلك. والله تعالى أعلم.

حكم ترك الدعوة بحجة قلة العلم

حكم ترك الدعوة بحجة قلة العلم Q كثير من طلبة العلم يقفون عن الدعوة بحجة أنه ليس لهم علم، فيقصِّرون في هذا الجانب، فما رأيكم؟ A لاشك أنه لا بد للدعوة من العلم؛ ولكن -يا إخواني- ينبغي أن يُفَرَّق بين قضيتين: الدعوةُ إلى أصولِ الدين، والقواعدِ العامة، أو النهيُ عن المنكرات العامة الواضحة التي لا تحتاج إلى كثيرِ علم. والدعوة الخاصة. فالدعوة العامة: مثل الدعوة إلى التوحيد، شخصٌ أمامك يعبد الوثن، لا تقل: أنا لن أدعوه حتى أتعلم؛ لأن هذا أمر يستوي فيه عامة المسلمين وهو الدعوة إلى أصل الدين، ويعتبر فرض عين على كل إنسان رأى إنساناً يعبد غير الله أن يدعوه إلى توحيد الله جل وعلا، ولا يُعْذَر أحد بترك هذا الأصل؛ لأنه أمر من الواضحات، أعني: لا يقول أحد: لا، أنا لن أدعو أحداً كائناً من كان حتى أتسلح بالعلم الكامل! كذلك أيضاً: لو رأيتَ إنساناً على الزنا، أو على شرب الخمر -والعياذ بالله- فإن الزنا وشرب الخمر منكران واضحان لا يحتاجان إلى كثيرِ علم، فالنهي عنهما أو التحذير منهما لا يحتاج إلى كثيرِ علم، فهذان يستوي في الدعوة فيهما العلماء والعامة، ولا يُعذر أحدٌ بتركهما. الأمر الثاني: وهو الدعوة إلى خصوصيات الأحكام والمصائب التي تنزل بالناس، ويحتاج فيها إلى علم، وبصيرة، ونور، ومعرفة، فهذه للعلماء، ولا يقف أحد أمام الناس يتكلم في مسألة أو حكم شرعي إلا على بيِّنة: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57]. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] لا بد من نور الوحي. هذا في الدعوة إلى المسائل والأحكام الخاصة. أما بالنسبة للدعوة العامة، فهذه يستوي فيها كل أحد. ومن هنا ندرك خطأ بعض الناس، حيث يقولون: كل واحد يدعو، وإذا شئت تقول: تتكلم بما فتح الله عليك أمام الناس، فقد يأتي هذا الجاهل حديث العهد بالجاهلية ويقف أمام طلاب علم، وأناس لهم معرفة؛ لكي يتكلم بما فتح الله عليه، فيخبط خبط عشواء. هذا من التفريط ومن الإفراط. فأما التفريط: أن نجد -مثلاً- من يقول: نترك الدعوة حتى يكتمل علم الإنسان؛ فلا يزال الشخص قابعاً على الكتب وعلى العلم، تاركاً المنكرات عن يمينه ويساره، ومن أمامه وخلفه، قرير العين عليها يقول: لا بأس، حتى أنتهي من العلم كاملاً ثم أدعو الناس، لا. القضية وسطية، فالمسائل التي لا يُعذر أحدٌ بجهلها ومسائل أصول الدين مثل شخص لا يصلي فكل إنسانٍ مطالب بدعوته، شخص -مثلاً- لا يزكي كل إنسانٍ مطالب بدعوته. هذه أمور واضحة. أما المسائل الدقيقة فهذه تُعطى لطلاب العلم، وتترك للعلماء، ويُترك القول الفصل فيها لأهل العلم. والمقصود: أن كون طالب العلم يبقى ويقول: أنا لا أدعو حتى أنتهي من طلب العلم، فهذا تقصير، ويتحمل التَّبِعَة، بل يدعو على قدر علمه، ونحن لا نطالِب أن يدعو بما هو فوق علمه؛ ولكن نطالبه بالدعوة على قدر علمه، فطالب العلم -مثلاً- الذي تعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل، حتى ولو كان في أحكام العبادات، فيا أخي! لو قام بعد صلاة العصر كل يوم يتكلم عن هدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو طالب علم، أو يتحدث عن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، هل هذا صعب؟! أو يتحدث عن صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال السنة! ويبين للناس، فما يتعلم أحد سنة منه إلا كان شريكاً له في الأجر، ولا يدل إنساناً على هدي إلا كان لك مثل أجره، ولو أن هذا الإنسان علم أبناءه وبناته وأهله أو جيرانه أو نطق بهذه السنة كان له مثل أجرهم، فهذا فضلٌ عظيم! فلذلك أقول: إن طالب العلم يعلِّم؛ ولكن على قدر علمه. القضية الثانية: أنه ينبغي أن يصحب هذا العلم شيءٌ من القدوة الحسنة ما أمكن. والله تعالى أعلم.

الألفة بين الزوجين

الألفة بين الزوجين إن من المهم في الحياة الزوجية دوام الألفة بين الزوجين، وذلك يكون بعدة أمور، منها: الشعور بالأمانة والمسئولية، مع وجود الرحمة والرفق بينهما، وأن يعي كل من الزوجين رسالته على الوجه الصحيح، يضاف إلى ذلك المحافظة على العهود التي بينهما، ثم أن يؤدي كل من الزوجين للآخر حقه، مع الغض عن الإساءة والتقصير الذي يقع.

الوصية الأولى: الشعور بالأمانة والمسئولية

الوصية الأولى: الشعور بالأمانة والمسئولية الحمد لله الذي خلق الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الجلال وله الأسماء الحسنى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده رسوله الذي اصطفي واجتبي، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي النهى، وعلى جميع من سار على نهجهم واقتفى. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله العظيم الكريم في بداية هذا المجلس المبارك أن يبارك لأهل هذا الزواج في زواجهم. اللهم بارك لكلا الزوجين في زواجهما، اللهم بارك لهما وعليهما، واجمع بينهما في خير، اللهم ارزقهما الذرية الصالحة التي تقر بها الأعين. أيها الأحبة في الله: هذا الموضوع -موضوع الألفة الزوجية- موضوع عظيم، يحتاجه أهل الإسلام؛ لكي يعي المسلم عظيم هذه الرسالة النبوية، وهذه الشعيرة المحمدية التي بعثه الله عز وجل بها رحمة للعالمين، ونعمة لخلقه إذا اتبعوه أجمعين. إن الحياة الزوجية تبتدئ رسالتها من أول لحظة يعقد فيها الإنسان على المرأة، حيث يحس فيها أنه قد تحمل المسئولية أمام الله، وأنه قد وضع في عنقه أمانة عظيمة يقف بها بين يدي الله جل جلاله. إذا كتب عقد القران فمعنى ذلك أنها مسئولية وأمانة بين يدي الرحمن، فلذلك يحس الإنسان أنها حياة مبنية على أسس وواجبات شرعية، فليست هي اللذة والشهوة وقضاء الوطر، ولكنها مبادئ كريمة، وأسس عظيمة أرساها كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكي يسير المسلم في حياته الزوجية السيرة الحميدة، فيبني للأمة بيتاً يقوم على طاعة الله، وأسرة تحيا لمحبة الله ومرضاة الله. ففي هذه اللحظة الأولى يصبح الإنسان بسببها مسئولاً عن بيت كامل، وعن امرأة، إما أن تكون له طريقاً إلى الرحمة أو طريقاً إلى العذاب، فكم من عقود عقدت انتهت بأصحابها إلى محبة الله ومرضاة الله، وكم من زواجات انتهت بأهلها إلى الجنات والمرضاة، تلك القلوب التي دخلت بيوت الزوجية، وهي تحس برسالة ربها، وتعظيم الأمانة الملقاة على عاتقها، فقامت بواجباتها خير قيام، فربت الأسرة على محبة الله، ومرضاة الله، ودخلت الزوجة على زوجها لكي يقودها إلى رحمة الله، ولكي تقوده إلى مرضاة الله وعفوه. هذه الرسالة العظيمة التي رحمنا الله عز وجل بها، فحصنت بها الفروج، ودلت بها على منهج العفاف والكفاف، هي منهج النبي صلى لله عليه وسلم، ومنهج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وفي كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم مناهج ربانية، وسيرٌ نبوية، تقود المسلم إلى الحياة الزوجية السعيدة. فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أساساً عظيماً ينبغي لكل زوج بعد أن يدخل بيت الزوجية أن يحسه ويستشعره. فأول شعور تحس به: الأمانة، وثاني شعور يرثه الإنسان بعد الشعور بالأمانة: أن يكون خير الأزواج لزوجه، ولذلك كم فاضل الله بين الأزواج، فكم من زوج خير بر كريم حليم رحيم أحبه الله بلطفه لأهله، وعطفه وشفقته على زوجه وولده، وكم من قلوب رحيمة بنت بيوت الزوجية على المحبة والمودة والرحمة فرحمها الله بتلك الرحمة، ولذلك صدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (خيركم خيركم لأهله) كما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. خيركم أي: أعظمكم مقاماً عند الله، وأرفعكم قدراً عند الله، من كان خيراً على أهله، ومن كان رحمة لزوجته ولم يكن عذاباً عليها، ومن كان نعمة لها لا نقمة عليها، ومن كان حكيماً حليماً رحيماً يغزو قلب تلك المؤمنة بالمحبة فتهابه حباً لا كرهاً، وتهابه رغبة لا رهبة ولا أذى ولا إضراراً. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم له تسع نسوة، ما اشتكت واحدة منهن يوماً من الأيام منه صلوات الله وسلامه عليه، تسع نسوة على محبة له وصفاء، وعلى إجلال له وكرامة ووفاء.

الوصية الثانية: الرحمة والرفق

الوصية الثانية: الرحمة والرفق الوصية الثانية بعد الشعور بالأمانة والمسئولية بين يدي الله عن الزوجة وعن هذا البيت: أن يكون الإنسان براً رحيماً، وقد وصانا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الوصية التي أخبر أنها الخير، وأنها الرحمة والبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه). فإذا وقفت -رحمك الله- أي موقف مع زوجتك، وأي موقف مع أولادك وأهلك، فأنت بين طريقين: إما طريق رحمة ورفق، وإما طريق عنت وشدة وأذية وإضرار، فإذا وقفت أمام أي موقف فاعلم أنك مخير بين السبيلين، وأن أمامك هذين الداعيين، فاختر أحبهما إلى الله الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه زين ورحمة: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانة، ولا نزع من شيء إلا شانه). فتقاد بيوت المسلمين وتقاد نساء المؤمنين بالرفق، ولا يقدن بالعنف والأذية والقسر والإكراه، إلا ما أمر الله عز وجل به، ولذلك بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما فيه أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته -إن ذهبت تقومه بالقوة والعنف كسرته ففسدت عليك المرأة، وإن ذهبت باللين والرفق فقد أبقيتها على عوج- فاستمتعوا بهن على عوج) إن أبقيتها استمتعت بها على عوج. ولذلك بعض الناس أو بعض الرجال يشمت بالمرأة، ويقول: أنتِ خلقت من ضلع أعوج، لا والله لم يكن ذلك قصد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قصده من هذه الأحاديث أن نشمت بنساء المؤمنين، لا والله! وحاشاه! فالإسلام أرفع من هذا كله، ولكن المقصود أن يقول لك: إن الذي أمامك يصعب أن تقصره على أمر، فخذه باللين، وخذه بالرحمة وخذه بالمحبة والوفاء، وهذا مجرب. فإن الرجل إذا وفقه الله إلى الكلمة الحليمة الحنونة والمعاملة اللطيفة، ملك قلب المرأة، واستطاع أن يستمتع بها مع هذا العوج، فهذه وصية نبوية، أن نأخذ بالرفق في البيوت الزوجية، وأن يكون المسلم في معاشرته مع أهله، يقيم بيته على الرفق، وعلى الحنان والعطف ما أمكن. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا في مواقف عديدة منها: حين أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن فضل الرجل على المرأة، وأخبر أن المرأة ناقصة عقل ودين، لكن ليس معنى هذا أن الإنسان يتخذ من هذا الحديث شماتةً للمرأة، بل كأنه يقول لك: إن الله خلقها على النقص -ولله الحكمة البالغة- فإن هذا النقص فيه لين ورحمة، جبر الله به خشونة الرجل. فتصور لو أن المرأة كانت كاملة العقل مع كامل العقل، كيف تكون الحياة؟ يقول لها: اذهبي، فتقول: لا أذهب، فيأتيها بعذر فتأتيه بثلاثة أعذار؛ لأن عقلها كعقله، ولكن الله حليم أنقصها في العقل، وجعلها نصف الرجل، وأعطى الرجل القوة، وأعطاها الحنان، وأعطاها اللين والرحمة لكي يكمل هذا نقص هذا، ويجبر هذا كسر هذا، فإذا جاء الابن في موقف يحتاج إلى اللين مال إلى أمه، وإذا جاء إلى موقف يحتاج إلى الشدة مال إلى أبيه، فسبحان الحكيم الخبير! سبحان من هذا خلقه، وهذا تدبيره وأمره! فليعلم أن بيوت الزوجية، وأن نساء المؤمنين يقدن بالرحمة والعفاف والكرامة، أبلغ من أن يقدن بالشدة والعنف.

الوصية الثالثة: أن يعي كل من الزوجين رسالته

الوصية الثالثة: أن يعي كل من الزوجين رسالته الوصية الثالثة: ينبغي أن يعي الرجل وتعي المرأة، كل منهما رسالته في البيت، فإن الله أعطى الرجل خصائص لم يعطها المرأة، وأعطى المرأة خصائص لم يعطها الرجل، ولا يمكن للبيوت أن تقوم إلا بما قلناه: أن يقوم الرجل برسالته، ويهيئ لزوجته ما أمر الله عز وجل من تهيئته، وتقوم المرأة برسالتها في البيت، حتى تهيئ لذلك الرجل المؤمن الصالح بيته على خير ما تهيأ عليه بيوت المسلمين. وبما أن الرجل مطالب باللين مع المرأة، فكذلك هي مطالبة بأن تكون تحت الرجل، وهذه المطالبة -كونها أسفل من الرجل- كرامة للمرأة، فإن المرأة إذا شعرت أن القوامة للرجل، وأن بيتها لها تدير أبناءها وترضع صغيرها وتحفظ عورة زوجها، وتحفظ بيته وأسرته، وتربيهم على الأخلاق الكريمة، كمَّل الله عز وجل ما نقص من بيت الزوجية. وكما أن الرجل مطالب بالرحمة على الزوجة، كذلك الزوجة مطالبة بأن تعي مكانة الزوج، وحق الزوج عليها. ولا ينبغي للرجل أن يتدخل في أمور المرأة، ولا ينبغي للمرأة أن تتدخل في أمور الرجل، فليس من العشرة بالمعروف التي أوصانا الله عز وجل بها أن يكون الرجل فضولياً إذا دخل البيت، فيتدخل في كل صغير وكبير، ويناقش في كل جليل وحقير حتى يدخل في أمور الزوجية التي لا يفقهها ولا يفهمها، بل هذا من الخطأ الذي لا ينبغي للإنسان المسلم العاقل أن يكون عليه. ينبغي للرجل أن يكون عنده عزوف عن الأمور التي لا تليق به، فالمرأة راعية في بيت زوجها، كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) ما معنى راعية؟ معناه أن لها حقاً أن تتفقد أمور البيت، وأن يكون لها حق النظر في شئون البيت وأموره في الحدود الشرعية، فليس من حق الرجل أن يتدخل في كل أمورها، سواء كان صغيراً أو كبيراً. كذلك المرأة ليس من حقها أن تخرج من نطاق بيتها؛ لكي تسأل زوجها عن كل ساعة قضاها خارج البيت، وتتدخل في كل صغيرٍ وكبيرٍ من شأنه، حتى تسأله عن الضيف الذي دخل وخرج، فهذه من الأمور التي يمقتها الله عز وجل قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله كره لنا قيل وقال وكثرة السؤال) فكثرة السؤال من فضول الكلام الذي ينبغي للمسلم أن يبتعد عنه، بل هو مكروه، بل قد يكون ذلك مما يوجب الحرج. فقد يستاء الرجل من تدخل زوجته، فإن بعض الرجال يكون فيه لين ورقة إلى درجة تقوى معها الزوجة، فتتدخل في شئونه الخاصة. فلتتق الله المرأة المسلمة، ولتحفظ لزوجها كرامته، ولتحفظ لزوجها رجولته، ولا تتدخل في هذه الأمور. فإذا أعطى كل واحد من الزوجين حق الآخر، وقدر كل منهم للآخر قدره، فإن الله يحفظ بيوت المسلمين. ولتتصور المرأة مكانة الزوج حينما تعطيه حقه وهو خارج البيت، وليتصور الرجل حينما يدخل بيته، وقد أعطى رسالة البيت للمرأة تربي صغيرها، وترضع طفلها، وتقوم على ما يكون فيه الخير من شأن بيتها، كيف تكون البيوت؟ الرجل إذا دخل البيت ولم يتدخل في الشئون الخاصة، وأخذ يعين زوجته على تربية أولادها، وإدارة شئون بيتها قويت نفس المرأة وحمدت من زوجها ما كان منه.

الوصية الرابعة: حفظ العهد بين الزوجين

الوصية الرابعة: حفظ العهد بين الزوجين الوصية الرابعة التي يوصى بها كلا الزوجين: حفظ العهد، فإن حفظ العهد من الإيمان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الإيمان، وقد فعل ذلك عليه صلوات الله وسلامه، فكان حتى بعد وفاة خديجة حافظاً لعهدها صلوات الله وسلامه عليه، حينما دخلت عليه هالة أخت خديجة فقام يجر رداءه صلوات الله وسلامه عليه. وما ذكر خديجة إلا وأثنى عليها, فكانت عائشة رضي الله عنها، تغار حتى أنها قالت: (أليس قد أبدلك الله خيراً منها؟ فقال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي وكفر بي الناس، وأعطتني ومنعني الناس) سبحان الله! زوجة ميتة ومع ذلك يحفظ حقها صلوات الله وسلامه عليه، فمن شيمة أهل الإيمان أنهم يحفظون حقوق الزوجات. فحفظ الحق هو الذي يصلح الله به البيوت، ويكون في كل صغير وكبير من أمور الزوجية، حتى عندما تدخل البيت، وتراها قد هيأت لك طعامك، فقلت لها: جزاك الله كل خير بارك الله فيك لا شلت يمين منك أي كلمة طيبة، يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83]. أيها الإخوة: هذه أمور قد تكون يسيرة، لكن نذكركم بها؛ لأن الله يأجر عليها، تراها في تعب ونصب، فتأتيها في الظهيرة والقائلة وأنت عليك الهموم والغموم فتضع بين يديك الطعام لكي تذكرك معروفها، فتقول من شيمتك ووفائك لها: جزاك الله كل خير لا شلت يمينكِ حفظكِ الله نِعم ما صنعتِ كلمة يسيرة أوصانا الله بها، فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] الله أكبر وقولوا للناس! كيف بالأهل والزوجات؟! فالله أمرنا أن نقول الكلام الطيب، وأن نبوح بالكلام الطيب، لكن تصور لو جئتها بعد تعبها ونصبها، وقد صنعت لك الطعام وغسلت لك الثياب، فقلت لها: ما الذي صنعت؟ هذا الطعام فيه كذا وكذا، وأخذت تعيب طعامها، كيف يكون حالها؟ كيف يكون حال هذه المرأة الضعيفة التي سخرها الله لك، وقد كان الإنسان عزباً يغسل ثوبه ويطبخ طعامه، ثم قيظ الله له امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تهيئ له طعامه، فيقابل هذا المعروف بالإساءة؟!! ولذلك ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ما عاب طعاماً وضع بين يديه صلوات الله وسلامه عليه (ما عاب طعاماً قط) صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أن الحياة الزوجية لا بد أن تقوم على الصبر، إن وجدت شيئاً طيباً أثنيت ومدحت، وإن وجدت شيئاً غير طيب غضضت وسترت، فإن غضضت عنها، فقد يغض الله عز وجل عنك يوم يقوم الأشهاد، وإن غفرت لها يغفر الله لك يوم يقوم الأشهاد، مع أنك قوي وهي ضعيفة، وتستطيع أن تؤدبها وتستطيع أن تؤذيها، لكن ترفع يديك وتقول: يا رب! إني أخاف منك، وإني قد أعرضت عن خطئها لوجهك، فكم يكون لك عند الله عز وجل من الأجر، فهذه من الأمور المهمة: أن يكون كلا الزوجين حافظاً للعهد. وكما نقول هذا للزوج نقوله للزوجة؛ هذه أمور قد تكون تافهة، لكنها مهمة جداً، فكم من مشاكل زوجية بسبب كلمات خرجت من الألسن في مثل هذه المواقف الحساسة، يأتي الزوج من التعب والنصب لكي تقابله المرأة في ذلك التعب والنصب فتناقشه عن أمر من الأمور، أو تريد أن تصل معه إلى حل قضية من القضايا التي تحتاج إلى راحة ودعة واستفراغ للذهن. فهذه من الأخطاء التي يقع فيها كثير من النساء -أصلحهن الله- فينبغي أن تعلم المرأة أن الله يحاسبها عن زوجها، وأن الله سيوقفها بين يديه، لكي يحاسبها على كل ما فيه أذى لزوجها. وإن باتت وزوجها عليها غضبان، باتت الملائكة تلعنها من عظيم حق الزوج عليها. كوني كبعض النساء الصالحات التي إذا أحست من غضب زوجها عليها بقيت عند قدمه تسأله أن يعفو عنها، كل ذلك خوفاً من أن يغضب الله عز وجل، أو يبيت الذي في السماء ساخطاً عليها. فالمرأة المؤمنة تخاف الله، والمرأة المؤمنة قلبها رقيق، فمن شيمة أهل الإيمان أن قلوبهم رقيقة، وأن قلوبهم لا تتحمل ما فيه سخط الله عز وجل وغضبه، فهذا أمر مهم ينبغي للمرأة المؤمنة أن تعطيه حقه، وأن تقدر للزوج قدره. ومن الأخطاء الشائعة من النساء خاصة، إذا عظم الأمر فكان الرجل كبير السن، ذي شيبة مسلم: تهزأ به أمام أطفاله، أو تسخر به أمام أولاده، وكم من امرأة فعلت ذلك في مشيبها فأحبط الله به عمل شبابها، وكم من امرأة سودت صحائف أعمالها بعد أن بيضتها بالأعمال الصالحة، صبرت على زوجها حتى بلغ المشيب والكبر فأهانته وآذته، فختم لها بخاتمة السوء في حياتها الزوجية والعياذ بالله. وكم من امرأة كانت على أذية لزوجها، وبُعدٍ عن تقديره وإجلاله في بادئ أمرها، فلما شاب ورق عظمه، وابيض شعره، حفظت حقه ووداده، فغفر الله لها سيئات العمر التي مضت. فينبغي للمرأة أن تخاف الله، وأن تراقب الله خاصة في الكبر. وكذلك الزوج ينبغي عليه أن يرعى حق الله في الزوجة، وأن يحفظ حقها وعهدها خاصة في الكبر، فمن العيب القبيح أن تجد الرجل ذي الشيبة يجلس مع أطفاله وامرأته على كبر ومشيب، فيستهزئ بامرأته أو يسخر منها، أو يسميها باسم فيه سخرية، فإن هذا مما لا يرضي الله عز وجل، فإن السخرية والاستهزاء ليست من شيمة أهل الإيمان، فإن الله لا يحب سفاسف الأمور، ولكن يحب معاليها. إذا شاب شعرك، ورق عظمك، وشاب شعرها ورق عظمها، فليس هناك إلا ختم الأعمال بالصالحات، وذكر الله عز وجل بالمرضاة التي توجب المحبة من الله ورفعة الدرجات، ليس بعد المشيب والكبر إلا الأخلاق الفاضلة، والسكينة والوقار التي يتربى عليها أبناء المسلمين، هذه أمور ينبغي أن نتواصى بها، وأن يشد بعضنا أزر بعض، وأن نتقي الله عز وجل في هذه البيوت، وأن نختم حياة الزوجية بمرضاة الله جل جلاله.

الوصية الخامسة: أن يؤدي كلا الزوجين للآخر حقه

الوصية الخامسة: أن يؤدي كلا الزوجين للآخر حقه الوصية الخامسة التي يوصى بها في رعاية الحياة الزوجية: أن يؤدي كلا الزوجين للآخر حقه، وذلك في الحقوق التي أمر الله بها ومنها: - حق المبيت: يؤديه على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، فلا يعرض أهله للحرام. - حق النفقة: ينبغي للزوج أن يعطي الزوجة حقها في النفقة على الوجه الذي يرضي الله بالمعروف: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فمن كان ضيق اليد ينفق على قدر ضيق يده، ومن كان واسع اليد ينفق على سعة يده، ما لم يبلغ الإسراف في إنفاقه، فيكرم زوجته ويعطيها المال الذي يحس أنه يجبر خاطرها به. ولذلك يتصور الإنسان لو أنه أعطى زوجته نفقة، وجاء في يوم من الأيام وزوجته على غفلة، وقال لها: هذا المال هدية مني لكِ، أنتِ لكِ عليَّ معروف كثير، أنتِ لكِ عليَّ فضل -المرأة لها فضل أين ما كان، الله عز وجل يقول بعد الطلاق: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] الله أكبر! حتى بعد الطلاق! فكيف إذا كان الإنسان يعاشر زوجته؟! - فيجبر خاطرها - حق التجمل: فبعض النساء صالحات قانتات عابدات، لكنها تهمل التجمل لزوجها، وهذه قضية ينبغي طرحها، فإن الله أعطى حقاً للزوج كما أعطاه للمرأة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]. فصلاح المرأة لنفسها، أما الزوج فله حق ينبغي أن تظهر له ما يرغبه فيها، ويكسر عينه عن غيرها، أما أن تبقى صالحة عابدة مهملة لحق زوجها فهذا مما لم يأذن الله عز وجل به، فإن حق الزوج فرض، والنوافل والعبادات طاعة وقربة ليست بواجبة، ولا يتقرب إلى الله بشيء أحب إليه مما افترضه عليه، فأول ما تفكر فيه المرأة الصالحة التي تريد الصلاح بعينه أن تكسر عين زوجها، وذلك بما أمر الله به من التهيؤ للزوج. وكذلك الزوج، فبعض الرجال على صلاحه وعلى ديانته واستقامته -لكن صلاحه لنفسه- يهمل حق التجمل للمرأة. أيها الإخوة: دين الإسلام عظيم، حتى في أمور الزوجية، ليس من الحياء أن الإنسان ينكف عنها؛ لأنها حقوق وشرف لك أن تبين هذه الحقوق، وأن تدل عليها؛ لأن بيوت المسلمين تهدم عندما تضيع هذه الحقوق. ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن جلس ذات مرة مع أصحابه وجاء بالمرآة فجعل يكتحل ويسرح شعره، ويقول: [أتجمل لها، أحب أن أتجمل لأهلي كما أحب أن يتجملوا لي] وهو حبر الأمة وترجمان القرآن. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما يدخل بيت الزوجية ماذا كان يفعل؟! تقول عائشة: (كان يبدأ بالسواك) حتى لا يشم أهله منه الرائحة الخبيثة صلوات الله وسلامه عليه. فدين الإسلام دين طهارة، ودين سمو، ودين عفة، فهذه الأمور ينبغي العناية بها. المرأة الصالحة صلاحها لنفسها، لكن ينبغي عليها أن تؤدي حق زوجها، وأن تسعى في كل شيء يغض نظره عن الحرام، ولذلك أباح العلماء الاستمتاع بالمرأة، ونصوا على ذلك من خلال نصوص الكتاب والسنة، لئلا يتعرض الزوج للحرام ولا تتعرض المرأة للحرام، هذه أمور ينبغي التنبه لها. - حق الزواج ينبغي إعطاؤه على الوجه الذي يرضي الله، فكثرة السهر والتفريط في الفراش، هذه أمور ينبغي الحذر منها والبعد عنها وتقوى الله عز وجل فيها، فكم من فراش فسد بضياع حقه، وكم من امرأة تعرضت للحرام بغفلة زوجها عنها، وكم من زوج تعرض للحرام والنظرة المسمومة بغفلة زوجته عنه، فهذه أمور ينبغي التنبه لها. - حق الترويح: أن يحاول الإنسان أن يجعل للزوجة وقتاً للترويح وذهاب ما بها من ضيق، فالمرأة بشر ضعيف إذا جلست بين الأربع الجدران طيلة العام لا شك أنها في يوم من الأيام ستسأم. فإذا أكرمك الله عز وجل بامرأة صالحة قانتة عابدة بعيدة عن الأسواق، بعيدة عن الخروج والتبرج، فليكن من وفائك وشيمتك وعهدك أن تأخذها يوماً في الأسبوع أو يوماً في الشهر، لتروح عنها فتزور أقاربها. أعرف أناساً من أهل العلم والفضل بل من العلماء كانوا يأخذون أهليهم مرة في الشهر، أو المرة أو المرتين في السنة، يخرجون بأقربائهم. وبعض الأزواج لا يخرج زوجته إلا إذا طلبت، وبعض الأزواج قد لا يخرجها حتى لو طلبت، ومن المؤسف أن بعض الزوجات تقول لزوجها: أريد أن أزور عمتي، فيقول لها: ماذا عمتك؟ لا. اقعدي في البيت، وإذا قالت له: أريد أن أزور أمي، قال: لا. ماذا أمك؟ كل قليل تذهبين إلى أمك؟ -وقد تكون لها عن أمها شهوراً- سبحان الله! تسألك صلة رحم أمر الله بها أن توصل. كانت هذه المرأة الصالحة تنتظر منك في يوم من الأيام أن تأتي إليها وتقول: يا زوجتي! طال العهد بك ولم تزوري أمك، وأمك لها عليك حق فاذهبي إليها، لو عرضت عليها كيف يكون وقع ذلك في قلبها؟ والله لو أن الزوج ابتدأ زوجته بمثل هذه الأخلاق لملك قلبها. فإن الزوجة لو جئت في يوم من الأيام تقول لها: أمك لها عليَّ حق، ولها عليكِ حق، وأبيك له عليَّ حق، وله عليكِ حق، فلنذهب لزيارتهما، كيف يقع ذلك في قلبها؟ ولو أنها يوماً من الأيام قالت لك: يا فلان! والدك له عليّّ حق، ووالدتك لها عليَّ حق، أريد أن أزورهم، كيف يقع هذا في قلبك؟ يقع موقعاً كبيراً، فبمثل هذه الأخلاق وبمثل هذه الأمور يكون الترويح وتكون الصلة التي أمر الله بها. أيضاً تكون بركة لك؛ لأن المرأة الصالحة التي تصل أمها وأباها وتصل قرابتها مباركة؛ لأن صلة الرحم بركة: (من أحب أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، وأن يزاد له في عمره، فليصل رحمه). فإذا وفقك الله بامرأة تبحث عن قرابتها وتصلهم، فكن أول من يعينها على طاعة الله ومرضاته، فصلة الرحم من الأمور التي ينبغي أن يتواصى بها. تصور لو أنك في يوم من الأيام جئت إلى والد الزوجة أو والدة الزوجة، وقلت: أريد منكم أن تأتوا عندنا، وتذبح لهم شاة تقصد بها وجه الله، وتقصد بها صلة الرحم، كم يكون لك فيها من الأجر؟ فوالد الزوجة له حق كبير عليك، فقد اختارك ورضِيَكَ من بين الناس لابنته، أو رضِيَك لأخته، هذا شيء ليس بالسهل ولا تستطيع أن تكافئه إلا بالدعاء، فكن خير زوج لأبي زوجتك: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1] فصلهم وبرهم ولو مرة في العام. هل أحد يتصور زوجاً على ديانة واستقامة لم يدع أهل زوجته إلى طعام في بيته يوماً من الأيام؟! ينتظرهم يزورونه، وقد يحرجونه، فيجلسون إلى ساعات متأخرة! والله إن بعض الزوجات تقول: إن أبي وأمي يأتيان ويجلسان إلى ساعة متأخرة في الليل، وينصرفان من عندي بدون عشاء! النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). لما أراد علي أن يتزوج فاطمة قام عليه الصلاة والسلام خطيباً، فذكر أبا العاص - زوج زينب وأبا أمامة - رضي الله عنه وأرضاه فأثنى عليه خيراً، وسبب ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه، أنه لما أخذ أسيراً يوم بدر، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقه من الأسر، قال: أطلقك من الأسر لكن تبعث لي زينب، فمضى إلى مكة ووفى للنبي صلى الله عليه وسلم فبعث له ابنته زينب، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حافظاً لهذا العهد، فأثنى عليه خيراً. فبيوت الزوجية لا بد أن تقام على مثل هذه المعاملة، أن تكون خير زوج لابنة من زوجك، وخاصة إذا كان الشخص ملتزماً أو ينتسب إلى الهداية، فإنه محل نظرة إجلال، ولذلك تجد بعض الرجال يقول: فلان يفعل بي كذا، وقد يكون الزوج الثاني غير ملتزم يفعل أشد منه، ولكن يقول لك: هذا ملتزم، هذا مهتدٍ، كيف يفعل هكذا؟ إذا كان الإنسان على استقامة ينبغي أن يكون خير الأزواج لوالد زوجته. فهذه أمور مما يوصى بها، فإن العناية بالأرحام تحقيق لما أمر الله عز وجل به، فهذا من صلة الرحم، ومن إدخال السرور على الأهل، وقد يدخل الإنسان السرور على زوجته فيكون قربة بينه وبين الله، ولذلك يقول العلماء: "العادات تنقلب عبادات بالنية". فإن إدخال السرور على أهل الزوجة عادة، لكنها تنقلب عبادة باحتساب الأجر عند الله. فكن -أخي- ذلك الرجل، كن ممن يدخل السرور على المرأة، كما أنك تحب أن تدخل السرور على نفسك، فأدخل السرور على نساء المؤمنين، وكن وفياً كريماً.

الوصية السادسة: الغض عن الإساءة

الوصية السادسة: الغض عن الإساءة الوصية السادسة: من الأمور التي يوصى بها للألفة في الزواج: الغض عن الإساءة: فإن الله عز وجل يتجاوز عن عباده، فقد ثبت في الحديث الصحيح: (أن رجلاً كان يدين الناس المال، وكان يقول لوكلائه: إذا وجدتم معسراً فتجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عني، فلقي الله عز وجل فقال الله: نحن أحق بالتجاوز منك، تجاوزوا عن عبدي). فينبغي لك -أيها الإنسان- أن تتجاوز عن أهلك، فإن أحق من تعفو عن زلته، وتغفر خطيئته زوجتك، والمرأة أحق من تغفر له هو زوجها؛ لأن الإنسان بشر، والبشر قد يزل لسانه وقد تزل يده، فإذا كنت حليماً رحيماً ترحم من أخطأ وتعفو عنه لوجه الله، وجب لك الخير، وكم من كربات فرجها الله عن أناس عاملوا الناس باليسر، وعاملوهم بالغض عن الإساءة، ولذلك ورد في الحديث: (أنه ينادي منادِ الله يوم القيامة، في ذلك اليوم العصيب الرهيب: من كان أجره على الله فليأته -أي: من كان له دين على الله في الأجر فليأته- تقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا من عفا عن ذنب) لأنه عفا عن ذنب لوجه الله، فإذا عفوت عن أقرب الناس إليك، وهم أهلك عفا الله عنك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). والله ما ترى عينك إنساناً يرحم الناس إلا وجدته مرحوماً، وما ترى إنساناً يعفو عن زلات الناس ويتسع صدره لأخطاء الناس، إلا وجدته أكثر الناس انشراحاً، وأكثر الناس طمأنينة، وتجد لطف الله عز وجل به في نفسه وفي أهله، وحيثما توجه يجد من الله لطفاً، إن الله يرحم من عباده الرحماء، ويحب من عباده الرحماء، فإذا جئت في يوم من الأيام على زلة وخطيئة للمرأة تستطيع أن تؤذيها، وتستطيع أن تضيق عليها، وتستطيع أن تربيها، وإذا بك تتذكر قدرتك عليها، ثم تتذكر قدرة الله عليك، وتتذكر أنها كما أخطأت أنك أخطأت في الله أكثر مما أخطأت، وأنك إن رحمتها رحمك الله، فقلت في نفسك: عفوت عنها، وأنت تريد ما عند الله عز وجل، فنعم والله ما صنعت. وكم من أزواج أفضوا إلى ما يلقونه من قبل بعثهم ونشورهم في القبور، ولا زالت النساء يذكرن تلك القلوب الرحيمة بكل خير. وأذكر ذات مرة أنه اتصلت إحدى النساء تسأل عن خطأ أخطأته في حق زوجها، فتقول: إني أخطأت في حق زوجي، ولكن تقول: أشهد لله أنني ما رأيت أوسع صدراً منه، رحم الله مجالسته، ما استسمحته إلا سامحني، ولا رأى مني زلة وقلت له: اغفرها لي إلا غفرها لي، وقعدت تبكي ما استطاعت أن تكمل السؤال؛ لأن ذلك الزوج أسر قلبها بالمعروف، وجدته رحيماً حليماً حنوناً. فلعلك أن تكون مثله، بل لعلك أن تكون خيراً منه، إن الهداية والاستقامة تكسر القلوب لله، والمهتدي دائماً تجده رقيق القلب، تجده حليماً رحيماً، لذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أهل الجنة: (إن من أهل الجنة من يدخل الجنة قلوبهم كأفئدة الطير) من الرقة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. تصور أخي! لو أن الزوجة أخطأت فجئت وأقمت الدنيا وأقعدتها وسببت وشتمت، ما الذي تريده؟ هل هذا يصلح؟ هل هذا يقوم؟ قد تزداد المرأة تعنتاً، وقد تزداد -أيضاً- إصراراً على الخطأ، فيشاء الله في يوم من الأيام أن يتسلط عليها الشيطان بالغفلة فتقع في نفس الخطأ، وقد يحدث طلاق والعياذ بالله. لأنك تأتي في وقت الغضب، وتقول: ربيتها وضربتها وآذيتها وتفعل هذا؟! معنى هذا أنها تكرهك، فيأتي الشيطان عليك فيستزلك بالكلمة التي تهدم البيت كله والعياذ بالله. لكنك إذا أخذت الأمور بالسهولة والحلم والرحمة، ووسع قلبك أخطاء الناس، وقلت: كما أن لهم أخطاء فلي أخطاء، فلعل الله أن يغفر لي كما غفرت لعباده، فقد يرجع لك من الله خير. وإنه لمن المحزن أن تجد الواحد منا من أحلم ما يكون وأرحم ما يكون بالناس؛ لكنه إذا دخل بيته يحاسب عن كل صغيرة وكبيرة، وهذا موجود، فالله الله أن تضيق على أمة من إماء الله، فيضيق الله عليك في الدنيا والآخرة. وإني أعرف أناساً يحاسبون الناس على كل صغيرة وكبيرة، والله يعاملهم بمثل ما يعاملون الناس، تأتيهم أمور سهلة ويعسرها الله عليهم: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60] {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33]. ذكروا عن أحد الخلفاء أن رجلاً أخطأ في حقه، فجيء بهذا الرجل المخطئ، فقال الخليفة لجلسائه: ما تقولون؟ قالوا: اضرب عنقه، وإذا برجل حكيم جالس في آخر المجلس، قال له: ما تقول يا فلان؟ قال: أما إنك لو قتلته فإن غيرك كثير قد قتل، ولكن إن عفوت فغيرك قليل فاعف رحمك الله، فعفا عنه وغفر. فلذلك العفو والمغفرة خير وبر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حكمة عظيمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا) هذا الحديث نظرت فيه وإذا به عندما تنظر إلى الواقع تجده من أبلغ ما يكون من الكلام؛ لأنك إذا أتيت تعفو يأتيك الشيطان، ويقول لك: إذا عفوت أهانتك المرأة، وركبت على رأسك، وفعلت بك، وفعلت بك، فأصبح العفو عن الناس سلطان الشيطان على القلوب، فهو يصور أنه ذلة، فكذب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الظن، فقال: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا). فلذلك عندما يأتيك الشيطان ويقول لك: إذا عفوت ركبت عليك المرأة، كما تقول العامة، تقول: لا. أنت تقول هذا، ولكن الله يقول على لسان رسوله: إننا نزداد عزاً. ولذلك انظر عندما تعفو عن خطيئة المرأة، تكسر عينها أمامك، وتحس أنك ملكت قلبها بالمعروف، ولعلك أن تأتي يوماً من الأيام، وأنت ضجيع اللحد والبلى، وتذكر منك هذه الحسنة فتدمع عينها وتذكرك بدعوة صالحة، فإن الله يجزي على الإحسان إحسانا، هذه من الأمور التي ينبغي أن يتواصى بها كلا الزوجين. كما أن الزوج ينبغي أن يعفو، فكذلك الزوجة لا تتابع زوجها في كل خطأ، وبعض الزوجات يخطئن التصرف في بعض الأمور، فتجدها بمجرد ما تحصل الغلطة تشيعها في كل مكان، وتذهب إلى أبيها وأمها وأخيها وأختها، بل قد تشيعها عند القرابة، وعند الجيران، وعند الأجانب والأغراب عنها، وهذه من الأخطاء الشائعة الذائعة التي ينبغي أن نتقيها، وأن يتقيها إماء الله، وأن يبتعدن عنها. فينبغي للمرأة أن يتسع صدرها، وأن تحس أن عورة زوجها عورة لها، وأن تغفر هذه الزلة، وأن تعفو عن هذه الخطيئة، ولا تكون حريصة على محاسبة زوجها في كل صغيرة وكبيرة، وكما قلنا للزوج في فضل العفو، نقول كذلك للزوجة. وكم من نساء صالحات تجدهن يُضطهدن ويُظلمن ويؤذين، والله يعلم ما خرجت منهن كلمة إلى أقرب الناس إليها فضلاً عن أبعد الناس عنها، وأعرف بعض النساء يتصلن عليَّ في بعض المشكلات، وتقول: والله يا شيخ! ما أحد علم بهذه إلا أنت، من صبرها وتحملها، وتمر عليها السنوات وهي صابرة متحملة لوجه الله جل جلاله، فبيض الله وجوههن، وأسأل الله أن يكثر في المجتمع من هذه الأمثال. المرأة إذا زينها الله بالصبر وسعة الصدر باحتمال أذية زوجها وتقصير زوجها، فإن الله يعوضها خيراً، وكم رفع الله من درجات، وكفَّر من خطيئات لنساء صبرن على البلايا، وما تزال المرأة تؤذى وتؤذى حتى يرفع الله درجتها بهذه الأذية، وتبتلى حتى يرفع الله درجتها بهذا البلاء، ولعل الله في يوم من الأيام أن يعوض صبرها خيراً. ولذلك قل أن تجد امرأة تصبر على أذية زوجها إلا جعل الله العاقبة لها خيراً، والغالب في الزوج أن ينقم عليها في آخر حياتها، وهذا له نظائر ووجدت له حوادث، فلذلك نوصى المرأة المسلمة بالصبر والتحمل، إن الله هو الذي يعلم بلاءها، وهو الذي يعلم شكواها. ولذلك لا يفرج همها أحد سواه جل جلاله مقلب القلوب، فلعل زوجها يكون قاسي القلب عليها سنين، وفي طرفة العين يقلب الله عز وجل قلبه حناناً وشفقة عليها، فلا تشتكي إلا إلى الله، ولا تعول في تفريج كربها وهمها وغمها إلا إلى الله، وأيما امرأة آذاها زوجها وأهانها واضطهدها، فلتعلم أن لها نصيراً من الله.

نصيحة لأقارب الزوجة

نصيحة لأقارب الزوجة ينبغي في هذا الباب أن نوصي قرابة الزوجة بتسوية الزوجات، فمثلاً لو جاءتك الأخت تشتكي يوماً من الأيام، أو جاءتك البنت تشتكي زوجها في يوم من الأيام، فينبغي أن يكون الإنسان حكيماً حليماً رحيماً، يوسع صدر الزوجة، ويقول لها: إنه زوجك اتقي الله يا فلانة! الأخت والبنت إذا جاءت تشتكي ووجدت من أبيها وأخيها الكلمة الطيبة التي تثبتها غالباً أنها ترضى، ولعل الله أن يجمع شملهم بك، لكن بمجرد أنها تأتي تشتكي وتقول: فعل بي وفعل، وتأتي تغتاب زوجها ولعل الزوج مظلوماً بهذا الكلام، فينبغي أن يصبر الإنسان وأن يتحمل. أذكر رجلاً من أهل الفضل يحكي لي قصة غريبة لأبي زوجته، يقول: إنه ذات يوم كان رجلاً كريماً رحمة الله عليه، كان من حفاظ القرآن ومن أهل الفضل والأعيان في بلده، كنت أعرفه بالكرم، وقلَّ أن يجلس على غدائه إلا والفقراء عليه، وقلَّ أن يأتي رمضان بساعة الإفطار إلا تجده في الحرم يبحث عن الضعفاء والفقراء حتى يأخذهم إلى بيته -رحمة الله عليه، وأسكنه فسيح جناته- فكان رحيماً بالضعفاء، فجاء يوماً من الأيام ودخل على زوجته لأجل الطعام فوجد الطعام قليلاً، فغضب عليها وضربها حتى كسر يدها من شدة الغضب -كان شديد الغضب وكما يقولون بالعامية: حار، من شدة الحرارة والغضب كسر يدها- فخرجت في الظهيرة تشتكي إلى أبيها، فلما جاءت إلى البيت لم يكن أبوها موجوداً فجلست عند أمها، وجلست تشتكي، فلما دخل أبوها البيت قال: من هذه؟ قالوا: فلانة جاءت تشتكي، فأخذ عصاه وضربها، وما سمع منها شكوى، فقال لها: قومي، لا بيت لك إلا بيت الزوج، فقامت في الظهيرة، تمسك ولدها باليد الثانية، واليد الأولى مكسورة من زوجها، كلما تعبت دفعها من ورائها، يقول الزوج: فما شعرت إلا والباب يقرع بشدة، فهو يقرعه بالعصا، وقد كان يمشى على عصا يتوكأ عليها، فلما قرعه بشدة، يقول: دخلني الرعب أن عمي فلاناً قد جاء، يقول: وتوقعت أنه سيضربني، يقول: فلما فتحت الباب وإذا بالمرأة ومعها طفلها -أكبر أبنائه- قد دفعها إلى داخل البيت، فقال لي: خذ زوجتك، يقول: ما استطعت أن أرفع بصري في وجهه من الخجل، وعدت أنا وزوجتي على خير ما يرام، وما عادت لذلك الفعل بعدها. ويذكرون عن رجل كان من الصالحين، ومن العباد الأخيار جاءته ابنته تشتكي من زوجها، وتذكر عيوبه، فلم يجبها بشيء، فباتت عنده الليلة الأولى، فلما أصبح جلس يبكي أمامها كالطفل، فقالت له: ما بك يا أبتِ؟! قال لها: -وكانوا في بادية وليسوا في مدينة- إبريق الماء الذي أتوضأ به انكسر بالأمس، فقالت: أحضر إبريقاً آخر، فقال: إبريقي يرى عورتي ولا يحق أن أحضر إبريقاً عليه. حفظ الحق بجماد، كأنه يقول لها: ما حفظتِ حق زوجك، وأنا حفظت حق جماد، فانكسرت عينها وأخذت عباءتها ورجعت إلى بيت زوجها، فهذا من أمور التربية. ويخبرون عن رجل آخر أنه جاءته ابنته تشتكي من زوجها، فقال لها: أنت في كرامة وعزة، فقال لزوجته: إياك أن تغسلي الثياب، وإياك أن تطبخي الطعام، وفي اليوم الأول قال لابنته: نريد أن نأكل من يدك فطبخت، وقال لها: نريد أن تغسلي لنا الثياب بيدك الطيبة فغسلت، وفي اليوم الثاني عمل معها كما عمل في اليوم الأول وكذلك في اليوم الثالث، في اليوم الرابع فرت البنت إلى بيت زوجها. لو أن الرجل ذهب -بمجرد ما جاءته ابنته تصيح- إلى زوجها وجلس يسبه ويشتمه، ثم يقال الكلام الذي لا ينبغي أن يقال، وتفضح العورات، ونشتكي ونفعل بك وأنت ما فيك خير، هذا كلام أهل السفلة، وكلام الذين لا خلاق لهم، أما أهل العقل والحكمة، فإنهم يعالجون الأمور بالتي هي أحسن، ويجمعون ولا يفرقون، ويؤلفون ولا يباعدون. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، ونسأله تعالى أن يمن علينا وعليكم بالبيوت التي ترضينا عنه، ويهبنا وإياكم قولاً سديداً وعملاً صالحاً رشيداً. وأختم هذه الكلمة بما بدأنا به: اللهم بارك لأهل هذا الجمع في جمعهم، اللهم بارك لكلا الزوجين في زواجهما، اللهم بارك لهما وعليهما واجمع بينهما في خير، وارزقهما ذرية صالحة تقر بها الأعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رسالة إلى مضطر

رسالة إلى مضطر الدنيا هي دار البلاء والمصائب، والمؤمن بحاجة إلى من يواسيه في هذه الدار ويقف إلى جانبه، فإذا حدث لشخص شيء من هذه البلايا فعليه عدة أمور، أهمها: أن يرضى عن الله، وأن يعلم أن الذي أنزل البلاء لا يدفعه أحد سواه، وهو الله وحده، يضاف إلى ذلك الصبر على هذا البلاء الذي نزل، مع استشعار الأجر الجزيل الذي يوفاه الصابرون يوم القيامة.

الدنيا دار ابتلاء

الدنيا دار ابتلاء الحمد لله مفرج الهموم، الحمد لله مبدد الأحزان والأشجان والغموم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملاذ الهاربين، وعدة الصابرين، وسلوان المصابين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله الأمين، قدوة الصابرين، وإمام المحتسبين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته والتابعين, ومن سار على نهجهم المبارك واستن بسنتهم إلى يوم الدين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: سلامٌ على كل مؤمن مهموم سلامٌ على كل مؤمن مبتلى مغموم سلامٌ على كل مؤمن مبتلى ضرير سلامٌ على كل مؤمن مجروح أو كسير سلامٌ على أولئك الذين فُجعوا بأهليهم سلامٌ على أولئك الذين فجعوا بأحبتهم وذويهم سلامٌ على من فارق الآباء والأمهات سلامٌ على من ودع الخلان والأصحاب والأخوات سلامٌ على من فجع بالأبناء والبنات. سلامٌ عليك إذ ودعت أباً كريما طالما مد يد المعروف إليك سلامٌ عليك إذ فجعت بتلك اليد التي طالما أحسنت بعد الله إليك سلامٌ عليك إذ ودعته دار البلى، وأسلمته إلى يد الردى، فكان آخر عهدك به إذ ولاك قفاه مشتغلاً بما أقدم عليه من الله جل وعلا. سلامٌ عليك إذ رجعت إلى دارك ففقدت صورته وحنانه سلامٌ عليك إذ رجعت إلى دارك فانقطع صوته بينك وبين أبنائك. سلامٌ عليك إذ ودعت أماً حنونا طالما أسدت يد المعروف إليك سلامٌ عليك إذ فجعت بها وقد كان ثديها لك سقاء وبطنها لك وعاء، وحجرها لك حِواء، أسلمتها إلى يد الردى والبلى وما وفيت شيئاً من معروفها عليك، أسلمتها إلى دار البلى وما أديت حقوقها من البر عليك. سلامٌ عليك إذ ودعت الأصحاب والأحباب، وخلفوك في هذه الدنيا وحيداً فريداً مع الذكريات سلامٌ عليك إذ فجعت بهم وعظم مصابك بهم سلامٌ على كل مؤمن مهموم مغموم طريح البلاء، طريح الأذى سلامٌ على من نزل به البلاء في نفسه سلامٌ على من نزل به البلاء فعظم عليه البلاء سلامٌ على من بات طريح الأسرة البيضاء سلامٌ على كل مؤمن فجع بالأعضاء سلامٌ على كل مؤمن ذي عين عميت أو عورت سلامٌ على كل مؤمن له عضو قطعت أو شلت سلامٌ على كل مؤمن ذي قدم بترت أو حسمت سلامٌ على أهل البلايا من عباد الله المؤمنين. عظم الله أجركم، وجبر الله كسركم وعوضكم خيري الدنيا والآخرة على ما فقدتم، فمن لكم غير الله يجبر كسركم؟! ومن لكم غير الله يبدد أشجانكم وأحزانكم؟! ومن لكم غير الله يؤنسكم من الوحشة ويعيد إليكم ما فقدتم من النعمة؟! من لكم غير الله إذا دفعتم عن الأبواب إلا بابه؟! ومن لكم غير الله إذا صرفتم وخاب الرجاء فيمن سواه إلا رجاءه؟! من لكم غير الله أعز مطلوب وأشرف مرغوب؟! سلامٌ عليكم من الله ورحمات سلامٌ عليكم من الله ورضوان ومغفرات عدد ما سكبتم من العبرات، ولفظتم من الآهات والأنات والصيحات. أحبتي في الله: إنها الدار وأي الدار، دار الدنيا والدناءة، إن أضحكتك يوماً أبكتك أياما، وإن سرتك يوماً ساءتك سنين وأعواما، هي الدار التي جعل الله عز وجل شرورها أعظم على المؤمن من شرورها على من كفر، هي الدار التي جعل الله بلاءها على من بر أعظم من بلائها على من فجر، فالمؤمن فيها غريب، والمؤمن فيها ليس منها بقريب، فالمؤمن فيها غريب حتى يلقى الله، فهو ابن للآخرة وليس ابن لهذه الدنيا الدنيئة، تعضه بأنيابها وتقلقه بفواجعها، لكنه وإن آلمته بأشجانها وأحزانها وضرته بأسقامها وآفاتها، فله من الله ألا يخيب رجاء في الله ولا يخيب صاحبه، وله في الله ركن لا يضيع صاحبه، إليه المفزع وفيه المطمع، له من الله سلوان من الكروب، وله من الله رحمة من تلك البلايا والخطوب. إنها الدار المؤلمة إنها الدار المحزنة التي صب الله عز وجل البلايا فيها على المؤمن، لذلك فإن خير ما يحتاجه العبد المؤمن في هذه الدار إذا عظمت مصيبته، وجلت كربته أن يجد من يعينه على أشجانها وأحزانها، أحوج ما يحتاجه المؤمن إلى كلمة من أخيه تثبته، أو رسالة من محب تسليه، أو كلمة صدق عن البلاء تعزيه يحتاج المؤمن إلى إخوان يواسونه في الأشجان والأحزان، ويبددون عنه ما حصل وما كان. يحتاج المؤمن إلى الكلمة الصادقة النابعة من الأخ المشفق، ولذلك شرع الله عز وجل عيادة المرضى، ووعد الله تبارك وتعالى من عادهم بجليل الرضا، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عاد مريضاً فهو في خُرفة الجنة حتى يعود) من خرج لوجه الله عز وجل إلى أخ يواسيه في مرضه، أو يسليه من بلائه، فخطواته في سبيل الله، ولحظاته وأنفاسه في طاعة الله ومرضاة الله. وكان بعض السلف إذا خرج لعيادة المريض يقارب الخطى حتى يطول زمانه في رحمة الله من عيادته. وشرع الله عز وجل تشييع الجنائز، لما في تشييعها من تسلية للمصابين، فالمؤمن قوي بإخوانه، شديد بأعوانه، فإذا وجد هذا يسليه وهذا يثبته وهذا يعزيه هان عليه ذلك الخطب الذي يجده، ويسر الله عز وجل عليه ذلك البلاء الذي يعانيه. لذلك أحبتي في الله! سلوان المصابين وتثبيت قلوب عباد الله المؤمنين المفجوعين المنكوبين، من أجلِّ القربات، وأعظم الحسنات والطاعات التي يحبها الله تعالى. وانطلاقاً من هذا كله فإليك أخي المهموم والمكروب والمغموم كلمات من الأعماق، أسأل الله تبارك وتعالى أن يبدد بها أشجانك، وأن يزيل بها أحزانك، وأن يجعلها خالصةً لوجهه نافعة يوم لقائه.

الوصية الأولى: الرضا عن الله

الوصية الأولى: الرضا عن الله أول وصية أوصيك بها إذا فجعت في نفسك أو أهلك وولدك أن ترضى عن الله، فوالله ما رضي عبد عن الله إلا أرضاه الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء على عظم البلاء، وإذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) من رضي عن الله أرضاه الله في دنياه وأخراه. كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، يوصيه ويذكر له تلك الوصية النافعة؛ فاستفتح كتابه رضي الله عنه بقوله: [أما بعد: فاعلم أن الخير كله في الرضا عن الله]، إن الخير كله أن ترضى عن الله. اعلم أخي في الله! أنه إذا أصابك البلاء فرضيت عن الله أرضاك الله في الدنيا والآخرة، وأقر الله عينك وأثلج صدرك، فكم من مصيبة عادت نعمة من العبد إذا رضي عن الله تبارك وتعالى، وكم من بلايا رضي أصحابها فزادتهم من الله قربا ومن الله رضاً وحبا. أول وصية أن ترضى عن الله تبارك وتعالى، ولهذا الرضا دلائل: أولها: طيب الكلام، وحسن الظن بالله تبارك وتعالى، ومن ثم قال العلماء: "إن العبد إذا رضي عن الله وهبه اليقين في مصيبته" قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] قال رضي الله عنه: [يهدي قلبه: أن يهبه اليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه]. فإذا كان الإنسان راضياً عن الله تبارك وتعالى، وعنده الإيمان واليقين الذي ربى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه، ثبت الله جنانه، ولذلك كان بعض السلف إذا أصيب بالمصيبة أظهر الرضا لله. قام أحدهم بين أناس فجالت يده فقطعت فضحك، قالوا: سبحان الله!! تصاب في يدك فتضحك، قال: "إني ذكرت ثوابي عند الله عز وجل فضحكت". وسار الفضيل رضي الله عنه في جنازة ابنه، فلما سار معهم تبسم رحمه الله، قالوا: لم تبسمت رحمك الله؟! قال: احتسبت مصيبتي عند الله فذكرت ما لي عند الله فسلوت وضحكت. فكلما كان اليقين في قلب العبد وجدته أثبت جنانا، وأشرح لله عز وجل صدرا، والله ما رضي عبد عن الله إلا جعل له من كل همٍ فرجا، ومن كل ضيق مخرجاً.

الوصية الثانية: العلم بأنه لا يدفع البلاء إلا الله

الوصية الثانية: العلم بأنه لا يدفع البلاء إلا الله فإذا حصل الرضا فإن بعد الرضا أمر مهم لا بد من وجوده وهو علمك بأنه لا يدفع البلاء إلا الله، وأنه لا يدفع هذا العناء الذي تجده إلا الله. كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه؛ فأوصى البراء بن عازب رضي الله عنه إذا أوى إلى فراشه أن يقول: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك وفوضت أمري إليك رغبةً ورهبةً إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) أول ما يحس الإنسان بالبلاء إذا أراد أن يفرج الله كربه وهمه، أن يحس من أعماق قلبه أنه لا ينجيه أحد من هذا البلاء إلا الله عز وجل.

جزاء الضارعين إلى الله عند البلاء

جزاء الضارعين إلى الله عند البلاء قال بعض العلماء: ما أصاب الكرب والخطب عبداً فضرع إلى الله تبارك وتعالى إلا أعطاه تفريج الكرب ومع تفريج الكرب زيادة فضلٍ من الله؛ ولذلك تجد بعض الناس يفجع بأهله ويفجع بولده فيعوضه الله حلاوة إيمانٍ تبقى معه إلى لقاء الله عز وجل. أصيب رجل بولده وكان ذلك الرجل من أفجر خلق الله والعياذ بالله تاركاً للصلاة منتهكاً للحدود والمحارم أقسى ما يكون قلباً والعياذ بالله، فشاء الله يوماً من الأيام بعد صلاة العشاء، جاءه ابنه يضحك ويسلو، وشاء الله تبارك وتعالى أن يودعه ذلك الابن فتكون آخر عهده بذلك الابن، فخرج الابن وما هي إلا لحظات حتى جاءه الخبر بأن ذلك الابن انتقل إلى جوار الله. وهذه حال الدنيا، تتمتع بالنظر إلى الابن في الصباح فإذا بك تفجع به في المساء، وتتمتع بالنظر إلى الأب في المساء فإذا بك تفجع به مع بزوغ الصباح، وسبحان من هذا ملكه! وسبحان من هذا أمره! فلما فجع بذلك الابن طاش عنه عقله وعزب عنه رشده، فشاء الله تبارك وتعالى أن يقيض له طالب علم موفق، فذكره بالله بالكلمة تلو الكلمة حتى شرح الله صدره، وآنس الله قلبه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم شاء الله تبارك وتعالى أن يخشع يوماً فيوما، حتى سمعته ذات يوم يقول: والله إني أصبت بابني وإنها نعمة من الله عليَّ إذ ابتلاني بذلك الابن، عرفت الله وكنت له منكرا، واقتربت من الله وكنت منه بعيداً، وآويت إلى الله وكنت منه طريداً، في كلام هذا معناه، مصيبةٌ قربتني من الله تبارك وتعالى. فالله منه العوض، ما رجاه أحد فخاب، ولا أيقن عبد بربه فخسف الله به الأرض من تحت قدمه أبدا. ولذلك قال بعض العلماء: "إذا أراد الله أن يجمع للعبد بين المصيبتين. ابتلاه وسلبه اليقين فيه" والعياذ بالله، إذا ابتلى الله العبد ولم يلتجئ إلى الله بعد البلاء فاعلم أنه والعياذ بالله مستدرج، ولذلك البلاء كل البلاء على الكافر الذي إذا أصابته المصيبة لا يدري أين يذهب، ولا يدري أين يتجه، ولكن المؤمن له باب يقرعه ورب لا يخيب يرجوه. فلذلك أحبتي! كان من لوازم البلاء اليقين في الله عز وجل! أصيب بعض السلف بمصيبة وعظمت عليه هذه المصيبة وكانت آفةً في جسده، وما زال يعرض نفسه على الناس رجلاً بعد رجل حتى يأس من علاج هذا الداء، وقنط أن يشفى من ذلك البلاء، فدخل يوماً من الأيام فإذا رجل يتلو كتاب الله فسمعه يتلو قول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] فقال: اللهم إني مضطر وأنت مجيب، فما قام من ساعته إلا وهو معافى، إذا دخل اليقين إلى قلب العبد لا يمكن أن يبرح وحاجته في قلبه، بل إن بعض الناس يمسي المساء وحاجته تضايقه، وكربته تؤلمه فيتضرع إلى الله بالدعوة الصادقة حتى يعز على الله أن يصبح وحاجته في قلبه فيفرج عليه قبل أن يصبح؛ وهذا من عظيم لطف الله بالعباد.

إبراهيم عليه السلام ويقينه بالله

إبراهيم عليه السلام ويقينه بالله هذا نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أوذي في الله فصبر، فجمع له قومه ذلك الوادي العظيم من النار حتى إذا تأجج ذلك الوادي بناره، واصطلى بجحيمه وسعيره، أُلقي عليه الصلاة والسلام، حتى إذا صار مقبلاً على ذلك البلاء العظيم مسلماً لله عز وجل فيما ابتلاه، فلما قدم قال له جبريل: هل لك من حاجة؟! ذلك الملك الذي لو أذن الله له لخسف الأرض ومن عليها بجناحه، قال: يا إبراهيم! هل لك من حاجة؟! قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فحسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] قال بعض العلماء: "لو قال الله يا نار كوني برداً لأهلكته من بردها"، ولكن قال: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ثم خرج عليه الصلاة والسلام طريداً عن قومه، مهاناً من عشيرته، وحيداً لا مال لا بنون لا إخوة لا أصحاب لا أحباب، فخرج من داره مؤذىً في الله مضطهداً، فلما ولّى وجهه قال عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:99 - 100] فخرج من دار فعوضه الله أطهر من الدار التي خرج منها، عوضه الله الأرض المقدسة، وجعل ذريته ذرية النبوة والصلاح، وجعل فيها ميراث الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك باليقين بالله. فكل إنسان أصابته مصيبة فعلم أنه لا ينجيه منها إلا الله عز وجل فرَّج الله همه وغمه. ثم أمره الله تبارك وتعالى أن يخرج بـ هاجر مع صبيها ورضيعها، أن يخرج من دارٍ كلها جنات وأنهار إلى دارٍ لا ماء فيها ولا أشجار، فجاء فوضعها في ذلك الوادي الذي لا أنيس فيه ولا جليس، فتعلقت به تلك المرأة المفجوعة، وقالت: يا إبراهيم! إلى من تدعنا؟! فولى وجهه عليه الصلاة والسلام قبل الدابة، فتعلقت به ثانية وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! امرأة ضعيفة وصبي ضعيف ليس معهم أحد، تقول له وتتعلق به: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! فلما كانت المرة الثالثة، تعلقت به وألحت فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! فقال: لله، فقالت: إذاً لا يضيعنا الله، ورجعت إلى صبيها وقلبها كله يقين بالله تبارك وتعالى، فتولى عليه الصلاة والسلام، حتى إذا نزل في الوادي وتغيب عن نظرها رفع كفه إلى الله فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] الله أكبر!! إلى يومنا هذا والقلوب تحن وتئن إلى رؤية البيت العتيق، إلى يومنا هذا والنفوس تشتاق إلى رؤية البيت العتيق، فلما جلست تلك المرأة المفجوعة مع صبيها، وعاينت ما هي فيه من البلاء، جاءت تلك الساعة التي صاح فيها الصبي يطلب الماء، وعندها خرجت لكي تلتمس الأسباب، فرقت على الصفا فصاح صبيها فلم تر أحدا، ثم مضت إلى المروة وتعلقت بالله عز وجل تدعوه وترجوه، حتى إذا كانت المرة السابعة أبى الله إلا أن يفرج همها بالصبي نفسه، فجعل تفريج الكرب من تحت قدم الصبي الذي دحس برجله الماء! من أيقن بالله تعالى جعل الله فرجه في نفسه قبل أن يكون بعيداً عنه!

أيوب عليه السلام ويقينه بالله

أيوب عليه السلام ويقينه بالله نبي الله أيوب مكث طريح الفراش أكثر من سبع سنين، كان ذا مال وثروة ونعمة وجاه، قال إبليس: اللهم سلطني على عبدك أيوب، فسلطه الله على ماله فأحرق جميع ماله، فلما رأى ذلك البلاء في ماله قال: الحمد لله، حمد الله تبارك وتعالى وقال في كلام معناه: اللهم وهبتني المال، وأنعمت علي بالمال حتى شغلني عن ذكرك فها أنت قد فرغتني لذكرك وشكرك فلك الحمد رب العالمين! رضي عن الله تبارك وتعالى، وشاء الله تبارك وتعالى أن لا يبقى البلاء عند هذا، وإذا بذلك العدو يسأل الله أن يسلطه على أهله وولده، وشاء الله تبارك وتعالى أن يمكنه من ذلك، ففقد فلذات كبده وفقد أهله واحداً تلو الآخر حتى فجع بهم جميعاً إلا زوجةً واحدة، بقيت هذه الزوجة مع ذلك النبي المصاب، ومع ذلك العبد المبتلى تواسيه وتسليه، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله رب العالمين، وشكر الله على البلاء الذي أصابه، فقال إبليس عليه لعنة الله: اللهم سلطني على نفسه، فقال: لك كل شيء إلا لسانه وقلبه، فبقي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفتر له لسان عن ذكر الله تبارك وتعالى، ولا يمكن أن يفتر له جنان عن حسن الظن بالله تبارك وتعالى، تولى عنه الناس حتى أصبح أنتن ما يكون رائحة، وتركوه إلى جوار المزابل -كما ورد في الأخبار- ولم يبق معه إلا زوجته التي بقيت معه تهتم به، فلما بلغ به الأذى مبلغه، وأصابه ما أصابه من الضر والبلاء؛ عندها تذكر الله تبارك وتعالى، وأحس بعظيم البلاء الذي يجده، فقال الله تعالى يصور ساعة اليقين من ذلك القلب الموقن {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84] لما أراد الله أن يفرج كربه أمره بكلمةٍ واحدة {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] ما أمره أن يقوم وما أمره أن يذهب إلى أحد، وما أمره أن يسأل أحداً أن يفرج كربه، ولكن أمره بأمر واحد: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] فجعل تفريج كربه من تحت قدمه، فلا إله إلا الله رب العالمين!! في طرفة عين تفجرت العين ثم اغتسل منها فما بقي به مرض في جسده وما بقيت به عاهةٌ في بدنه فقام عليه الصلاة والسلام قوياً سوياً من لحظته وساعته، الله أكبر!! ما أيقن أحد بالله فخاب في يقينه، ولا رجاه أحد فخاب في رجائه، ثم أعاد الله تبارك وتعالى عليه أهله وذريته، قال عبد الله بن عباس: [أعاد إليه الأهل والذرية بأعيانهم، فرد عليه الزوجات ورد عليه الأبناء والبنات، ثم رد عليه أضعاف ما كان فيه من النعمة].

حسن الظن بالله أهم باعث لليقين بالله

حسن الظن بالله أهم باعث لليقين بالله ومن الأمور التي تبعث باليقين حسن الظن بالله تبارك وتعالى، والله ما أحسن عبد ظنه بربه إلا كان الله عند حسن ظنه، إذا أصابتك المصيبة فأحسن الظن بالله، وقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار، من قالها فقد أوجب الرضا من الله تبارك وتعالى، ولذلك أحرص ما يكون الشيطان في بداية المصيبة أن يسيء ظنك بالله عز وجل، ولذلك إذا جاءت المصيبة في النفس، أو جاءت في المال، أو جاءت في الولد، جاءك الشيطان فقال لك: لو كان الله يحبك ما ابتلاك! ولو كان الله يحبك ما أصابك بابنك فلذة كبدك! ولو كان الله يحبك ما أفقدك مالك على كبر سنك! ولو كان الله ولو كان الله. ، فهو أحرص ما يكون على أن تكون على سوء ظن بالله عز وجل. فالله الله! أن يسوء ظنك بالله عز وجل، بل قل: الحمد الله، وليكن قلبك مطمئناً بالفرج من الله تبارك وتعالى، فمن اتقى الله جعل له من كل همٍ فرجا ومن كل ضيقٍ مخرجا. أخي! الملك لمن؟ والكون لمن؟ والتدبير لمن؟ من الذي يجير ولا يجار عليه؟ ومن الذي يغيث ولا مغيث سواه؟ والله لو علم المكروب سعة رحمة الله عز وجل ما تألم من كربه، ولو أيقن المكروب بحلم الله به لا يمكن أن يصيبه بلاء في نفسه، وأضرب لك مثلاً يسيراً: لو أنك يوماً من الأيام سئلت عن أرحم الناس بك وأحلمهم عليك؟! لقلت: أبي وأمي، ولكان في قلبك يقين أن لا أرحم في الناس من أبيك وأمك، والله ثم والله لرحمة والديك بك لا تأتي مثقال ذرة في رحمة الله عز وجل بك، وللطف الله عز وجل وحنانه وحلمه ورحمته وأنت تقاسي الآلام وتكابد الأسقام، أشد من رحمة والديك بك، ولكن يريد أن يرفع درجتك، ويحط عنك خطيئتك، ويريد أن تخرج من هذه الدنيا وأنت صفر اليدين من السيئات والخطايا، حتى إذا وافيته وافيته بوجه أبيض مشرقٍ من تلك البلايا، وإنَّ من عباد الله من هو والله حبيب لله، لا يبتليه الله عز وجل إلا لكي يدنو منه، يبتليه لكي يسمع صوته: يا رب! يا رب! إلهي سيدي مولاي يسمع إخباته وإنابته فتكون أصدق شاهدٍ على توحيده لله تبارك وتعالى.

سر ابتلاء الله تعالى لعباده

سر ابتلاء الله تعالى لعباده هذه البلايا وهذه الفتن والرزايا بسطت لك لكي تكون سلماً إلى رحمة الله عز وجل، شعرت أو لم تشعر، وكان بعض السلف إذا نزلت به المصيبة ووهبه الله اليقين عليها والصبر عليها تسلى بالدعاء، حتى أثر عن بعضهم أنه كان يكثر الدعاء ويلح في المسألة حتى يقول: يا ليت أن الله لا يفرج عني كربي حتى تستديم هذه الحلاوة لمناجاته ومناداته. فإذا دخل اليقين إلى القلوب هانت عليها البلايا والخطوب، إذا دخل اليقين إلى الأفئدة تعلقت بالله وحده لا شريك له، ما ابتلاك الله لكي تفزع إلى زيد وعمرو لا والله، وما ابتلاك بالأسقام حتى تتعلق بغيره سبحانه وتعالى، فوالله لو صبت البلايا على العبد لا يمكن أن يجد الفرج والمخرج إلا بالله سبحانه وتعالى، فلذلك يكون الإنسان على يقين بالله تعالى، فلا ملجأ ولا منجى من الله تبارك وتعالى إلا إليه. وقع أحد الناس في ضائقة واشتدت عليه هذه الضائقة، كان مبتلى بمس، وكان هذا المس يقلقه ويزعجه ويؤلمه واشتد عليه ذلك الخطب، وفي يوم من الأيام جاء إلى أحد طلاب العلم واشتكى إليه مما يجده، وقال: والله يا شيخ قد عظم علي البلاء وإني أصبحت مضطراً أفلا يجوز لي أن أذهب إلى إنسان يفك عني هذا البلاء الذي أجده؟! ألا ترخص لي في ساحرٍ أو كاهنٍ يعلم ما أصابني فيكشف عني ما أصابني؟! يقول ذلك وهو في حرقة وألم وشدة وشجن لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، فوفق الله طالب العلم فقال له كلمات ثبت الله بها جَنان ذلك المؤمن، وقال له كلمات شرح بها صدر ذلك العبد المبتلى فقال له في آخر الكلام: إني لأرجو من الله عز وجل إن استعنت بأمرين أن يفرج عنك الكرب والبلاء: أحدهما الصبر والثاني الصلاة. يقول الرجل -وهو أيضاً من طلاب العلم-: فقمت من عنده بيقين قوي في الله عز وجل فصليت ركعتين أحسست أني مكروب، وأنه قد أحاطت بي الخطوب، فاستعذت بالله واستجرت، وإذا بي في سجودي أحس بحرارة شديدة في قدمي ما إن سلمت إلا وكأنه لم يك بي من بأس. أحبتي في الله! هل الساحر يغيثك من دون الله؟! هل الكاهن يجيرك من دون الله؟! الأمر أمره، والقدر قدره، خط عليك هذا البلاء قبل أن تكون وقبل أن توجد {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50]. كتب الله البلايا قبل أن يخلق العباد، ففي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم قال: اكتب! قال: يا رب! ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة) ولذلك ركب عبد الله بن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهديه هدية، وأن يمنحه تلك العطية فقال عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). فمن هذا الساحر ومن هذا الكاهن الذي يستطيع أن يتخطى أمر الله عز وجل؟ ومن هذا العبد الذي يستطيع أن يقضي الوطر لنفسه قبل أن يقضيه لغيره من خلق الله عز وجل؟ فالله الله! أن ينظر الله عز وجل عليك في البلاء، وقد رفعت كفك إلى غير الله. الله الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد تعلقت بغيره جل في علاه. الله الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد صرفت شعبةً من شعب قلبك تعتقد فيها في أحد سواه. الله الله! أن ينظر الله إليك في البلاء وقد تعلقت بغيره وعذت بأحد سواه، فوالله إن وليت عن الله خسف الله الأرض من تحت قدمك، وكم من أقوام استعاذوا واستجاروا بغير الله ففرج الله عنهم الكربات امتحاناً واختبارا، واستدرجهم منه علماً وحكمةً واقتدارا، ثم ابتلاهم بالبلاء الذي هو نهايتهم من حيث لا يحتسبون. ذكروا عن رجل أنه كان يقرب ساحراً، وكان يثق بهذا الساحر ثقةً عمياء، وكان هذا الساحر بزعم ذلك المبتلى يفرج همه، وينفس كربه، والله يستدرجه اليوم تلو اليوم، حتى قوي اعتقاد ذلك الرجل في ذلك الساحر -والعياذ بالله- وقوي اعتقاده في ذلك الكاهن من دون الله -نسأل الله السلامة والعافية- فشاء الله عز وجل لما عظم يقين هذا العبد أن يسلط عليه الساحر فيؤذيه والعياذ بالله بسحره. فلذلك -أحبتي في الله! - من وثق بالله، وأيقن بالله تبارك وتعالى، أحس في قرارة قلبه أن لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، إن فقدت الأموال فإنك لم تفقد ربها، وإن فقدت الأبناء والبنات فإنك لم تفقد من أوجدها ومن خلقها، وإن فقدت الآباء والأمهات، فإنك لم تفقد من جبل قلوبهم إلى الحنان فأحسنوا إليك ووهبوا يد المعروف إليك. فالله الله! أن يخيب ظنك في رجائه، أو تكون من عباده الذين ضل سعيهم بالرجاء في غيره.

الوصية الثالثة: الصبر على البلاء

الوصية الثالثة: الصبر على البلاء الوصية الأخيرة: التي أوصي بها كل مفجوع، وأوصي بها كل مؤمن مفزوع؛ وصية وصى الله عز وجل بها في كتابه وذكرها في أكثر من ثمانين موضعاً من كتابه، إنها الصبر على البلاء، قال الله تعالى يوصي نبيه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] وقال لعباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] وقال مثنياً على نبيه أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص:44]. إذا أنزل الله عليك البلاء فأصبحت صابراً قانتاً لله ينعم الله عليك، فيقول: نِعم العبد أيوب، حينما أصيب في نفسه، وفي أهله وولده فصبر لوجه الله، قال الله تعالى عنه: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] فإذا أردت أن ينعم الله عليك فاصبر، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يصبر يصبره الله) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطي عبد عطاءً أفضل من الصبر) ولذلك جرب في أي بلية نزلت بك أو مصيبةٍ -لا قدر الله- أحاطت بك، إذا صبرت وسلوت وتعزيت أحسست بنوع من الارتياح، وأحسست بطمأنينة وانشراح وذلك عاجل ما يكون للصابرين. أما العاقبة التي تجنيها، فقال عمر رضي الله عنه عن عاقبة الدنيا: [وجدنا ألذ عيشنا بالصبر]، ما طابت الحياة ولا لذت الحياة بشيء مثل الصبر، إن أصابتك المصيبة تعلقت بالله فسلوت فأصبحت لا تقلق ولا تجزع، تحس أن الله تبارك وتعالى سيحسن لك العاقبة، إما أن يزيلها أو يعظم لك الأجر فيها. ولذلك ورد في بعض الأحاديث -ولكن تكلم العلماء في سنده إلا أن معناه صحيح- يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إذا لقي أهل البلاء ربهم يوم القيامة فوجدوا ثوابهم على الصبر تمنوا أن حياتهم كلها في بلاء) والله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] قوله: بغير حساب من الله، ليست بالهينة. وقال بعض العلماء في هذه الآية الكريمة: "إن العبد إذا عظمت مظالم العباد عليه فإن الله عز وجل يوفي المظالم بالصبر"، ولذلك في الصيام قال عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) قال العلماء: "لأن الصيام صبر واحتساب"، فإذا بلي الإنسان بمظالم الناس، وجاءته البلايا فصبر ضاعف الله أجره في الصبر حتى تأخذ المظالم منه حسنة حسنة، ولا يزال الصبر يضاعف أجره حتى يأخذ أجر العمل كاملا، فيوافي الله عز وجل برحمة منه ورضوان. الصبر أعظم خصلة في المؤمن والله تعالى وعد أهلها بقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66] فمن صبر صبره الله عز وجل ومن ثبت ثبت الله عز وجل جَنانه وقلبه، ولذلك أُثر عن بعض الصالحين من السلف والماضين أنهم كانوا يجدون اللذة بالصبر فكان الواحد منهم إذا صبر لا يشتكي إلى أحد، ولا يطلع أحداً على بلائه إلا إذا اطلع من دون علمه، وأذكر بعض العلماء الفضلاء من مشايخنا رحمة الله عليهم، ابتلي ببلاءٍ في جسده فمكث ثلاث سنوات لا يعلم أبناءه بذلك البلاء حتى أنتفخ جلده وتقرح ذلك الجلد، من قوة صبره ويقينه بالله.

أعلى مراتب الصبر

أعلى مراتب الصبر ولذلك الصبر على مراتب، أعظمها وأجلها: ألا تشتكي الله إلى خلقه، وأن لا تبث أشجانك وأحزانك إلا إلى الله وحده لا شريك له، وهذا هو خُلق الأنبياء، قال الله عن نبيه يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فأكمل ما يكون الصبر إذا كتم العبد غيظه، وصبر على بلائه، ووافى الله تبارك وتعالى محسن الظن به، فهذه أكمل درجات الصبر. وليس معنى هذا أنه يحرم على الإنسان أن يبث أشجانه وأحزانه إلى الناس، لا. إنما المقصود أن يكون الإنسان على الأكمل فلا يشتكي إلا إلى ربه، ولا يعول في تفريج كربه إلا على خالقه, ولذلك جعل الله تبارك وتعالى ثمرات الصابرين خيرا. وكان بعض السلف رحمهم الله إذا اشتكى إليه أحد مرضه قال له: "اتق الله! أتشتكي من يرحم إلى من لا يرحم"؟ أي: هل تشتكي الله إلى خلقه؟! فأكمل ما يكون الصبر إذا تعزى العبد بربه، وبث أشجانه وأحزانه إلى خالقه. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل لنا ولكم من كل همٍ فرجا، ومن كل ضيقٍ مخرجا، ومن كل بلاءٍ عافية. اللهم فرج هم المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين. اللهم فك أسرى المأسورين، وارحم عبادك المعذبين، وسلِّ عبادك المصابين. اللهم إنا نسألك يقيناً تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم إنا نسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

معنى سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة

معنى سعادة المؤمن في الدنيا والآخرة Q كيف نوفق بين أن ابتلاء المؤمنين سنة من سنن الله وأن المؤمنين لهم السعادة في الدنيا والآخرة؟ A السعادة ليست في الصور والأشكال السعادة ليست في المناظر وليست في زهرة الحياة الدنيا، السعادة سعادة القلب ولله در الشاعر إذ يقول: ولم أر السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد الراحة والطمأنينة والسعادة التي وعد الله بها المؤمن في قلبه وفؤاده، ولذلك تجد الإنسان فقيراً مدقعاً لا طعام عنده ولا شراب ولا كساء وتقول له: كيف حالك؟! يقول لك: الحمد لله في نعمة وفضل من الله، وتجد الرجل طريح الفراش مشلول اليدين مشلول القدمين أعمى أصم فتخاطبه ويسمعك فتقول له: كيف حالك؟! فيقول لك: الحمد لله. والله إن أحد الشباب من الأخيار أصيب منذ عهد قريب فأصبح -والعياذ بالله- مشلولاً لا يتحرك، لكن كل من يدخل عليه يعجب من قوة إيمانه وثبات جنانه، ويقول: ما رأينا أشرح صدراً من ذلك الرجل، ليست السعادة في المناظر، وليست السعادة في هذا الزهرة، السعادة في التعلق بالله تبارك وتعالى، المؤمن له السعادة؛ لأن عنده اليقين الذي يتعلق به بالله عز وجل. لذلك تجد أغنى الناس أشقى الناس بغناه، تجد له قلباً هنا وقلباً هناك وقلباً مع التجارة وقلباً مع السيارة وقلباً في العمارة، في همٍ ونكدٍ لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، تجده يركب أحسن وأفره السيارات، ولكن داخل قلبه من الجحيم والقلق والاضطراب النفسي ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، مع أنه في عز وكرامة ومال وجاه لكن فقَدَ السعادة الحقيقية، فقَدَ الإيمان بالله والصلة والثقة بالله عز وجل. وأضرب لك مثلاً أوسع من ذلك كله: انظر إلى أغنى الناس تجده أكثر الناس مرضاً، تجده أغنى الناس ولو طلب أي طعام يلبى له، ولكن عنده مرض في السكر، وعنده مرض في الضغط، وعنده مرض في عينه ومرض في قدمه بسبب هذه الأموال والهم الذي أصابه من هذه الأموال، ومع ذلك لا يستطيع أن يأكل إلا طعاماً معيناً، ولا يشرب إلا بطريقة معينة؛ لأنه حرُم السعادة الأبدية، ولذلك قد تجد الإنسان فقيراً مدقعاً حوله أبناءه لطف الله به من حيث لا يشعر. هب يا أخي الكريم: أن الله أعطاك الأموال فعظمت تجارتك وكثرت أموالك وأصبح عندك في كل وادٍ تجارة، وفي كل مدينة تجارة، يتشتت قلبك ويتشتت ذهنك، حتى إن أبناءك يتشتتون بهذه الأموال التي لك، يوماً يسافر ويوماً يغادر ويوماً في مكان كذا ويوماً في مكان آخر، ولا يمكن أن يتمتع الغني، سله متى يتمتع بأبنائه؟ ربما يمر عليه العام الكامل لا يرى ابنه أو ربما يراه يوماً أو يومين، ومع ذلك يظن أنه في سعادة، أي سعادة هذه؟ المال الذي يظن الإنسان أنه سعادة قد يكون سبباً في تدمير حياته كلها، فإن قارون أشقاه الله بماله. ولذلك ذكر لي الوالد رحمه الله قصةً عجيبة، يقول: قامت الحرب العالمية فجئت ذات يوم والطعام قد أصبح شغل الناس، حتى إنه بيع بيت في ساحة المدينة بكيس أرز، نسأل الله ألا يبتلينا بمثل تلك الأيام. الشاهد على هذه العبرة العظيمة يقول: تاجر دخلت عليه عند قيام الحرب -وكان قد اشترى سفينة من الأرز- فجاءه الخبر أن الأرز قد ارتفع وأنه غلي سعره في السوق، فمن شدة الصدمة خر ميتاً من فوق كرسيه، ثم مرت الأيام تلو الأيام واحتجت أن أشتري أرزاً عند انتهاء الحرب، فوقفت على تاجر أيضاً قد اشترى سفينة من الأرز وجاءه الخبر أن السوق قد كسد، فسقط ميتاً من ساعته، فسبحان الله!! أحدهم عند غلاء السوق والثاني عند كساده، ما نفعت الأموال ولا نفعت التجارات، الأموال والتجارات إذا لم تقرب من الله عز وجل فلا خير فيها. إن أيام البلايا التي تكثر فيها التضرع لله عز وجل إذا كشفت كرباتها تتمنى أن تعود لك تلك الأيام التي كنت تناجي فيها الله عز وجل من حلاوة المناجاة وحلاوة مناداة الله عز وجل، هذا كله هو السعادة الحقيقية، فالبلاء الذي يصيب المؤمن يصيبه في الظاهر أما الباطن فلا يصيبه؛ لأن قلبه مع الله ويقينه بالله. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهبنا وإياكم اليقين، وأن لا يبتلينا بشيء لا نطيقه، وأن يجعل بلاءنا وإياكم في السراء والشكر عليها، وأن يجعلنا من الشاكرين والله تعالى أعلم.

علاج قسوة القلب

علاج قسوة القلب Q إني إذا قرأت القرآن لا تدمع عيناي وإذا صليت لا أخشع في صلاتي، فهل هذا من قسوة القلب؟ وما هو العلاج جزاكم الله خيرا؟ A أما إذا كان الإنسان يسمع القرآن ولا تدمع عينه فإنه واحد من رجلين: إما أن يجمع الله له بين المصيبتين فلا يخشع قلبه ولا تدمع عينه، فإنه من القاسية قلوبهم عن ذكر الله الذين توعدهم الله عز وجل بالعذاب والشقاء، فقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]. وأما إذا كان الإنسان لا تدمع عينه ولكن قلبه يخشع، ويجد للآيات أثرا فيذل لله عز وجل ويخضع، فما عليك إذا خشع قلبك أن لا تدمع عينك، فإن الله تبارك وتعالى إذا أعطى العبد خشوع القلب فقد أعطاه الخير كله، ولذلك بين الله تعالى بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]. المقصود من القرآن أن تتدبره وتتأمله وتتأثر بتلك الآيات التي تتلى عليك، وتقرأه بين يديك، فإذا وجدت لهذه الآيات أثراً في قلبك فذلك هو المقصود، فإن دمعة عينك فضل على فضل، وإن لم تدمع عينك فالمهم خشوع القلب، ودمعة العين فضل من الرب من أعطاه أعطاه لحكمة، ومن منعه منعه لحكمة، ونسأل الله العظيم أن يجعلنا من أصحاب الفضلين. ولكن لعلك أن تتألم فتقول: لماذا لم يجمع الله لي بين الخشوعين: خشوع القلب وخشوع العين؟! فأقول لك: ارض عن قسمة الله، لعل الله علم أن لو خشعت عينك فدمعت أن يصيبك الغرور، ولعل الله علم أنه إذا دمعت عينك أن تصبح مرائياً في عبادتك فتخرج صفر اليدين من صلاتك وقراءتك، فلطف الله بك من حيث تشعر أو لا تشعر فارض عن الله فيما قسم، واسأل الله عز وجل الفضلين والإخلاص في كلا الحسنيين والله تعالى أعلم.

حكم ترك التداوي بحجة طلب الأجر من الله

حكم ترك التداوي بحجة طلب الأجر من الله Q ما حكم من أعرض عن التداوي ولم يطلب الدواء بحجة أن المرض مأجور عليه وأنه لا يلجأ إلا إلى الله سبحانه وتعالى؟ A بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فتسأل أخي في الله! عن رجل يزعم أنه لا يتداوى؛ لأن الله تبارك وتعالى يدفع عنه ذلك البلاء وذلك الداء. فأقول: هذا الظن خاطئ ومخالف لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما كتاب الله: فإن الله لما أمر أيوب أن يركض برجله دل ذلك على الأخذ بالأسباب في العلاج، وكان في الإمكان أن يقول الله: قد شفيتك يا أيوب، ولكن أمره أن يركض برجله حتى يعلم العباد أن سنة الله في الكون أن للداء دواء، وأن للبلاء شفاء. وكذلك ثبتت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءه قوم من الأعراب، كما روى الترمذي وغيره في السنن فقالوا: (يا رسول الله أنتداوى؟! فقال عليه الصلاة والسلام: تداووا عباد الله فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله أنزل لكل داء دواء علمه من علمه، وجهله من جهله) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إمام المتوكلين، وقدوة الصابرين، وأسوة المحتسبين، وكان يأخذ بالدواء وكان يتداوى. وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذات طب ومعرفة بالطب، قال لها عروة ذات يوم: [يا أماه! أما علمك بالكتاب والسنة فذلك ليس بغريب، وأما علمك بأشعار العرب فليس بغريب، ولكن الطب من أين أخذته؟ فقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض فجاءه الحكماء فأخذوا يصفون له الدواء فمن ثم]، يعني تعلمت الطب بوصفهم. فدل هذا على مشروعية الأخذ بالأسباب، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الطب، بل قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا تداوى كان ذلك من الإيمان بالله، وقالوا: إن التداوي يعين على الإيمان بالله؛ لأنك إذا أخذت شجرةً مثلاً كانت دواءً لمرض فشربتها فزال عنك السقم قلت: لا إله إلا الله، سبحان من جعل شفاء دائي في هذه الشجرة! ولذلك جعل الله عز وجل شفاء الأسقام في الأعشاب، وجعلها في غيرها من الأدواء، كل ذلك لكي يكون حكمةً وعلماً للعباد وبصيرة، فمن أنكر الداء فإنه مخالف للسنة ولهدي نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو التواكل المذموم، وإنما ينبغي للإنسان أن يأخذ بالسبب وأن يتوكل على الله عز وجل. كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: [ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى، قالوا: وما ثلث العلم؟! قال: الطب، ثلث العلم الطب؛ لأن فيه شفاء الأسقام. ] وهذا الأثر عن الشافعي رحمه الله رواه عنه البيهقي بسنده. لماذا ثلث العلم؟! لأن علم الشرع على ضربين: علم يتعلق بالاعتقاد، وعلم يتعلق بالأبدان والجوارح، فأصبح علم بالظاهر وعلم بالباطن، علم التوحيد وعلم الفروع التي هي محققة للتوحيد، فهذان علمان فهما طب الروح والجسد، بقي طب البدن من الظاهر وهو العلم الثالث، فقال رحمه الله من فهمه وفقهه: [ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى] يعني احتاجوا إلى اليهود والنصارى. فالمفروض على المسلم أن يتعلم الطب، وأن يتداوى، فالذي أنزل الداء أنزل الدواء، ومن أنزل البلاء أنزل الشفاء، فلذلك كان من الإيمان بالله الأخذ بالأسباب والتداوي بها والله تعالى أعلم.

هموم المخدرات

هموم المخدرات المخدرات نار تأكل الأخضر واليابس، تنشر العهر والفساد، وتفتح أبواب الشر، وتغلق أبواب الخير والصلاح. مع المخدرات وهمومها ومخاطرها كانت هذه المحاضرة للشيخ حفظه الله، حيث ناقش فيها ضرر المخدرات وأسباب السقوط في حمأتها، وكيفية علاج ذلك.

أضرار الخمر والمخدرات والتحذير منها

أضرار الخمر والمخدرات والتحذير منها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف بإذن الله عن العباد الغمة، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وصاحب رسالةٍ عن أداء رسالته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وفي بداية هذا اللقاء أزجي عاطر الشكر والثناء للجمعية الفيصلية الخيرية، ولمكتب الدعوة بمدينة جدة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي الجميع خير الجزاء، وأن يتقبل منا ومنهم ما يكون من خير في هذا اللقاء. أخواتي المسلمات! شكر الله مسعاكن، وثقل في موازين الحسنات خطاكن، إذ خرج النساء إلى الدنيا الفاتنة وخرجتن تبتغين الله والدار الآخرة، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثيبكن على هذا الخير العظيم. أخواتي المسلمات! إن الله وعظكن فأحسن وعظكن، وأدبكن فأحسن تأديبكن، وعلمكن الخير وهداكن، هذا كتاب الله بين أيديكن؛ لا تنتهي مواعظه ولا تنقضي آياته وعبره، يقود المؤمنة بالله إلى صراط من الله ورضوان من الله، يقودها إلى محبة الله ومغفرة الله، إنه الكتاب الذي هدى الله به الأولين والآخرين، فيه ذكر الصالحات والقانتات والعابدات والصادقات والصابرات، فيه ذكر الخيرات والحسنات، أقبلت عليه المؤمنة ترجو به غذاء روحها، وسبيل ربها، والتقرب والتحبب إلى فاطرها، فكم قرب الله قلوباً منهن إلى الله! وكم أجرى منهن المدامع من خشية الله! إنه الكتاب الذي هدى الله به إلى الصواب، وأقام به على منهج السداد، وطريق الرحمة والرشد في الأولى والمعاد، هذا الكتاب العظيم فيه الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، والبشارة والنذارة، فيه النداءات إلى الطاعات والخيرات، أو ترك الفواحش وهجر المنكرات، ومن هذه النداءات التي تفتحت لها قلوب المؤمنين والمؤمنات نداء في سورة كريمة نادى الله عز وجل به القلوب المؤمنة الرحيمة، ناداها بذلك النداء لكي يكون سبباً في نجاتها من البلاء، إنه البلاء وأي البلاء! بل الشقاء وأي الشقاء! نادى الله عزوجل به المؤمنين فكسرت من أجله أواني الخمور، وهجرت به أسباب الغي والشرور، فأريقت في سكك المدينة قربة لله، وفراراً من الله إلى الله، هاتان الآيتان الموعظتان الكريمتان تنزلتا من الرحمن لكي يفر بها المؤمن من سبيل الشيطان، ومن داعية الفجور والفسوق والعصيان إلى داعية الحب والطاعة لله الرحمن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91]. سمعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الوقفة الأخيرة مع الشهوة التي مالت إليها النفوس، فأريقت من أجلها الدنان وكسرت الكئوس، وفرت إلى الله جل وعلا بقلوبٍ وعقولٍ سليمة لا يتسلط الشيطان عليها بالعواقب الأليمة والوخيمة. هذه الآية الكريمة أراد الله أن يرحم بها هذه الأمة، فلو كانت الأمة تشرب الخمور، ولو كانت الكئوس باقٍ حلالها فكيف يكون حال الأمة أم كيف مآلها؟! لو تصورنا بقاء حل الخمور كيف يكون حال الناس في الفسق والفجور؟ إنها النعمة التي رحم الله بها هذه الأمة فكشف بها سبباً من أعظم أسباب البلاء والغمة، رحم الله هذه الأمة الطاهرة، هذه الأمة العابدة القانتة الصالحة، فأنقذها يوم حرم الخمور فأريقت في سكك المدينة خوفاً من البعث والنشور، إنها النجاة من ذلك البلاء العظيم والخطر العميم، إنها النجاة من الجحيم وأي جحيم؛ جحيم المسكرات، جحيم المخدارت الذي من أجله انتهكت الأعراض، وسفكت الدماء، وانتشرت الأسقام والأمراض، فيا لله كم من أم عذبت بهذا البلاء! ويا لله كم من آباء لقوا العناء! ويا لله كم فرق بين الأحبة والأصدقاء! إنها الكأس المهلكة والحبة المفنية، إنها الكأس والحبة التي تلتذذ بها النفوس ساعة وتتعذب دهوراً، إنه الجحيم الذي لم يرحم دموع الأمهات، ولم يرحم دموع الأبناء والآباء والبنات، إنه الجحيم الذي وقفت الأم تريق بسببه دموعها على صبيها أو صبيتها يوم أن فارقها في حوادث مؤلمة، إنه الجحيم الذي وقفت فيه الأم تريق دموعها وبينها وبين ابنها وفلذة كبدها قضبان السجون وقد أريقت الدموع على فراقه، إنه الجحيم الذي نظر فيه الأبناء والبنات إلى رب الأسرة وقد انتهك الحدود، وغشي المحرمات؛ فلا يرحم صغيراً لصغره ولا أرملة ضعيفة بين يديه، كم سهر من أجل هذا الجحيم؟ سهرت عيون تكابد شقاءه، وتعاني عناءه، فلا راحم إلا الله ولا مفر منه إلا إلى الله. إنه الجحيم والعذاب الأليم، كأس تقود إلى كئوس، وتعذب الأرواح والنفوس، وحبة تجلب الحبوب، وتنتهي إلى الهموم والغموم والكروب، فيا لله من قلوب سقمت، وأرواح تعذبت وحارت! ويا لله من عقولٍ ذهبت، وأجسادٍ خارت، وشباب غض طري طمس نور وجهه وذهب البهاء من رؤيته، كل ذلك عناء تعانيه الأمة، وويلات تجنيها من هذه الغمة. إنها الكئوس المهلكة، والحبات المردية القاتلة، إنها الحبة التي لعن الله حاملها والمحمولة إليه وبائعها، لعن الله مروجها، لعن الله آخذها ومتعاطيها، إنها الإبرة التي لعن الله حاقنها والمحقونة فيه، وواجد لذتها، وصانعها، وبائعها، وشاريها، وآكل ثمنها؛ كل أولئك لعنهم الله {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:52]. والله ما من حبة حملت في كفٍ إلا حمل حاملها وزرها، وما من حبة تسببت في ذهاب عقل إلا حمل صاحبها إثم ذلك العقل، وما من حبة تكون سبباً في ذهاب نفسٍ إلا حمل حاملها وزر تلك النفس التي هلكت بسببها، إنها الحبوب التي تجنى بها الأوزار وتوجب سخط الجبار، ونقمة القهار، وسطوة الواحد القهار، إنها الحبة المهلكة المردية المشقية.

المخرج من بلاء المخدرات

المخرج من بلاء المخدرات أخواتي المسلمات! وقفة مع هذا العناء وهذا الجحيم وهذا البلاء، يوم تفشى بين قلوبٍ كانت بريئة، ونفوس كانت رحيمة أصبحت من بعده تعاني عناءه وتجد شقاءه وبلاءه، وما المخرج؟ يوم أصبحت الأم ترى ابنها وقد تردى في مهاويها. ويوم أصبح الأب يرى الابن والابنة قد تعاطت كأسها وخارت قواها وتردت في بلائها. ما المخرج من هذا البلاء العظيم، وهذا الضنك الأليم؟! المخرج من ذلك: الفرار إلى الله بالتوبة الصادقة والدعوة الصادقة والإنابة إلى الله، المخرج الأول الذي إذا حققه الإنسان أنجاه من هذا البلاء وما فيه من وعيد: أن تنظر المؤمنة وينظر المؤمن إلى بعده عن ربه، وطول غيبته عن خالقه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. فيا أيتها النفس التي تعذبت بهذا البلاء! هذا نداء فاطر الأرض والسماء: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] فأجيبي النداء، وهلمي إلى طاعة الله جل في علاه، هلمي ولو نادت النفس سبحان الله! أيغفرها بعد كئوس شربت وحبوبٍ أخذت؟ أيغفر تلك الليالي المظلمة وما فيها من السيئات والخطيئات؟ أيغفر تلك الكئوس وما تبعها من الخطيئات؟ نعم والله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53]. الإنابة إلى الله، التوبة الصادقة إلى الله بقلب صادق منيب إلى الله، فما وقف عبد ولا وقفت أمة بباب الله فنحيت عن رحمة الله، إنها التوبة الصادقة التي تبدل بها سيئات الكئوس حسنات، وتغفر بها السيئات والزلات والهنات، التوبة الصادقة قبل أن يدهم الأجل وينقطع الأمل ويجد القلب الوجل، التوبة الصادقة إلى الله جل جلاله الذي يقبل توبة التائبين، ويمحو بفضله ذنوب المسيئين، فلتطو صحيفة الماضي، ولتطو دواوين الماضي، ولتودّع المؤمنة الصادقة زماناً ولى بسيئاته، ولتنب إلى الله جل وعلا منكسرة بين يديه. الوقفة الثانية: أن تصحح المؤمنة مسارها، وأن تكون خير معينة للنجاة من هذا البلاء والعناء، فتهدي إلى صديقاتها ومن بلي بعنائها وبلائها، الكلمات المؤثرة والنصائح الغالية الثمينة، فما أحوج كثير من المسلمات إلى النصيحة البالغة المذكرة بالله فاطر السماوات! ذكري بالله لعل الله أن ينظر إلى تلك الكلمات، لعل الله أن يسمع تلك العبارات فيوجب الحب والرضا والقرب منه جل وعلا، أن تحاول المؤمنة الصادقة أن تغفر زلة الماضي بإصلاح أخواتها وصديقاتها. الوقفة الثالثة مع تلك المرأة المهمومة المغمومة؛ مع ابن تربى في هذا البلاء، أو بنت عاينت هذا الشقاء، أو زوجٍ هوى في هذا البلاء: أن تقف المرأة الصادقة أمام الابن والبنت والأخ والأخت والزوج وغيره، أن تقف بالصبر والتحمل واحتساب الأجر، فيا أيتها الزوجة المظلومة! يا أيتها الزوجة التي تعاني عناء هذا البلاء في زوجٍ تردى فيه، أو ابن كان من متعاطيه! اصبري واحتسبي وذكري بالله جل جلاله، وإياك والضعف والخور، ابذليها كلمات صادقات من قلبك الصادق لعل الله أن يفتح بها القلوب، وينير بها السبل والدروب إلى رحمة الله علام الغيوب، اصبري واحتسبي الأجر، واعلمي أن الله يسمعك ويراك. إن هذه الهموم التي تعيشينها في ظلمة الليل أو ضياء النهار، إن هذه الهموم التي تجدينها بالعشي والإبكار يراها ويسمعها الواحد القهار. يا أمة الله! ابذلي النصائح، واستري الفضائح؛ استري زوجك إن كان مبتلىً بها، وحاولي أن تنتشليه من هذه الغمة، وأن تميطي عن عينيه اللثام فتنجلي الغمة، اصبري وذكري ولو طال الزمان فمن الله التوفيق وعظيم الأجر في الجنان.

أسباب تعاطي المخدرات وعلاجها

أسباب تعاطي المخدرات وعلاجها الوقفة الثالثة: ما هي أسباب هذا البلاء الذي يتردى فيه الرجال والنساء؟ وما هو العلاج لهذا الداء؟ ثلاثة أسباب إذا تهيأت فقد فتح للمخدرات والمسكرات الباب: أولها: الفراغ. وثانيهاً: قرين السوء. وثالثها: وجود الهموم والغموم؛ ثلاثة أسباب.

السبب الأول: الفراغ

السبب الأول: الفراغ أما الفراغ: فإنه السم القاتل الذي يدعو إلى السوء والرذائل، ما من امرأة يعظم فراغها إلا رأت بلاءً في دينها، ولذلك لا يأتي بلاء المسكرات والمخدرات إلا إذا فرغت المرأة وفرغ الرجل، حينما ترمي المرأة رسالة بيتها وراء ظهرها فتصبح خراجة ولاجة، حينما تنسى حقوق أبنائها وبناتها فتدمن الخروج إلى أسواقها ومتاجرها، إذا فعلت ذلك وأصبحت تجد الفراغ هنالك، هنالك تكون الحبة القاتلة أو الكأس المردية والعياذ بالله. علمت يا مجاشع ابن مسعده أن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده ولقد عالج الإسلام هذا الفراغ فليس في حياة المؤمنة فراغ، ينبغي للمرأة الصالحة إذا وجدت فراغاً في وقتها أن تسخره في محبة ربها، فتكثر من ذكر الله وحسن الطاعة لله، الفراغ يقتل بالأعمال الصالحة كما قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: فراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك) الحديث، الفراغ يقتل بالأعمال الصالحة، أو بالمنفعة التي تعود على المرأة في دنياها بالخير العظيم، تقتل المرأة فراغها إما بخصلة من خصال دينها أو دنياها.

السبب الثاني: قرينات السوء

السبب الثاني: قرينات السوء أما السبب الثاني الذي يقود إلى هذه المخدرات، ويوجب الوقوع في هذه البليات: فالقرينات السيئات، من الذي زين كأس الخمر حتى شربت؟ من الذي زين حبة المخدر حتى أخذت؟ إنها الكلمات المعسولة من ذلك الصديق أو تلك الصديقة التي لا تخاف الله، ولا تراقب الله في إماء الله، إنها الصديقة التي لا تصدق في مودتها، إنها القرينة التي كتب الله الشقاء لمن جاورها وصادقها، فينبغي للمرأة المؤمنة أن تفر من قرينات السوء إلى القرينات الصالحات، إلى مجالس الذكر مع الطائعات القانتات العابدات، أن تفر إلى هذا الرعيل الطيب الصالح فتعمر أوقاتها بالجلوس معهن والتواصي بطاعة الله، والشد على ذلك من أسرهن.

السبب الثالث: وجود الهموم والغموم

السبب الثالث: وجود الهموم والغموم أما السبب الثالث الذي يقود إلى هذه المهلكات والمرديات: وجود الهموم والغموم. المرأة قد تجد زوجاً يؤذيها، أو ابناً يعذبها، فتلتفت هنا وهناك مهمومةً مغمومةً وقد أطبقت عليها الدنيا بالهموم والغموم، فتجد من لا خير فيه من تلك القرينات السيئات، تجد من يقول: حبة تنسي الهموم، حبة تنسي الغموم، حبة تزيل الكروب. وعندها تتناول تلك المرأة المهمومة المغمومة شعرت أو لم تشعر ذلك البلاء القاتل؛ لذلك فإن العلاج لهذا البلاء قد بينه الله جل جلاله. فيا أمة الله! إذا ضاقت عليك الحياة بهمومها، أو عضت عليك بأنيابها، إن وجدت الزوج يكفر النعم، إن وجدت الابن يجلب النقم ففري إلى الله بكفٍ ضارعة تشتكي إلى الله. يا أمة الله! إن البلاء يفرجه الدعاء. يا أمة الله! إن البلاء يزيله فاطر الأرض والسماء، فاصدعي بتلك الكلمات، واجأري بتلك الدعوات مع إيمان بالله فاطر الأرض والسماوات، فستجدين الله حليماً رحيماً، وتجدينه جواداً كريماً، فكم من هموم فرجها، وكم من غموم نفسها، وكم من مؤمنة صادقة رفعت كفها إليه فما خابت في دعائها ولا ظلت في رجائها، فاصدقي مع الله، واعلمي أنه لا يبدد الهموم والغموم أحدٌ سوى الله، ناديه وناجيه فللدعاء أثر في القدر، واصدعي بالدعوات بقلب يوقن بالله جل جلاله أنه مفرج الكربات، ناديه حتى تجدين المعونة وكفاية المئونة، ناديه فإنه يحب الدعاء ويجزي عليه عظيم الجزاء. إن الدعاء إيمان وتسليم وإذعان، الدعاء يدل على التوحيد وحسن الظن بالله الحميد المجيد، فاصدعي بالدعوات واجأري إلى الله بها في السجود وفي الصلوات، وخذي بالأسباب الموجبة لمغفرة رب الأرباب، أكثري من الصدقات، وأكثري من الإحسان إلى الأيتام والأرامل، إن أصابك الهم في الزوج والعشير فابذلي بيدك حسنة ترجينها في عورة تسترينها أو كربة عن مؤمن أو مؤمنة بإذن الله تزيلينها. إذا علم هذا فإنه ينبغي أن يعلم أن المخدرات والمسكرات من أعظم البليات، وأعظم المصائب التي تهتك بالأفراد والمجتمعات، ومن أراد أن يعرف خطرها، وأن يرى بأم عينيه عظيم بلائها فليزر دور المرضى، ولينظر إلى تلك العقول التي سلبت والأفهام التي أخذت، ولينظر إلى تلك العلل التي حلت بتلك الأجساد التي ظلمت، ولتأخذ المؤمنة عبرة من غيرها فتكون أبعد ما تكون عن هذا البلاء في نفسها وذرياتها.

وصية عاجلة للنساء

وصية عاجلة للنساء الوصية الأخيرة: يا أمة الله! إن الله حملك المسئولية والأمانة، حملكِ المسئولية عن الأبناء والبنات، حملكِ المسئولية عن هذه الذريات كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها). الله الله يا نساء المؤمنات! الله الله في الأبناء والبنات! الله الله في هذه الرسالة العظيمة التي يُنتظر منكن أداؤها، ويُنتظر منكن القيام بعبئها! لا تتركي الابن والبنت إلى خادمة أو غيرها، أنت الأم، وأنت الحانية، وأنت المربية، وأنت المعلمة، وأنت الموجهة، إلى أين تخرجين؟ وأبناؤك لمن تتركين؟ خذي بأسباب رحمة الله فلعلك أن تعرضي عن الأبناء والبنات فيفتح الله عليك بذلك الإعراض باب البليات، اتقي الله في الأبناء والبنات، واحملي رسالة البيت على أتم الوجوه وأكملها، تقربي إلى الله بغرس الإيمان، بغرس توحيد الرحمن في تلك القلوب البريئة حتى تنشأ على أحسن ما يكون التوحيد والإذعان. يا أمة الله! إن رسالة التربية في عنقك شئت أم أبيت، أخذت أو فررت، فلتقفن بين يدي الله، وليسألنك الله جل جلاله عن الأبناء والبنات، اتقي الله في الذريات، إياك وترك الأبناء والبنات دون تربية تحسين فيها بأداء الرسالة على أتم الوجوه وأكملها. إن كثيراً من الأبناء والبنات إنما تردى في المسكرات والمخدرات بسبب غفلة الآباء والأمهات، ولذلك جعل الله عذاب الآباء والأمهات إذا وقع الأبناء والبنات في المخدرات عظيماً، وتجد الأب وتجد الأم يعاني عناء الابن والبنت حين يقع كلٌ منهما في هذا البلاء؛ لأنهما السبب، السبب الذي نشأ عن تفريطهما وتساهلهما في أداء رسالتهما. فاتقي الله يا أمة الله، واعلمي أنه لا بد من المصير إلى الله، واعلمي أن الله سيسألك عن هذه الأمانة العظيمة، فخذي بمجامع قلوب الصبية إلى محبة الله جل جلاله ومرضاته، كم من ابن وكم من بنت فرت عن هذه البليات بسبب وصية وقعت في القلوب من الآباء والأمهات! إن الأم الصالحة التي غرست في تلك القلوب البريئة المعاني السامية لن تجني من تلك الذرية إلا خيراً، وأبى الله لامرأة تربي صغيرها وتربي بنتها على طاعة الله إلا أن يقر عينها بذلك الخير الذي غرسته، فاحتسبي عند الله في القيام بهذه الرسالة على أتم الوجوه وأكلمها. أسال الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسلمنا وإياكم من هذا البلاء العظيم. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترفع عن هذه الأمة بلاء المسكرات والمخدرات، اللهم ارحم العقول التي ذهبت، وارحم الأجساد التي سقمت، اللهم إنا نسألك أن يرتفع هذا البلاء، وأن يزول هذا العناء، ونسألك اللهم أن توفق من تسبب في إزالته، اللهم إنا نسألك أن تخذل من كان سبباً في نشره، اللهم اطمس على سمعه وقلبه وبصره، وخذه أخذ عزيز مقتدر يا ذا العزة والجلال والعظمة والكمال، ونسألك أن توفق كل من أراد قفل بابه لكل خير، وأن تعظم له الأجر في الدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم مرافقة المحرم الصغير

حكم مرافقة المحرم الصغير Q ما حكم مرافقة المحرم الصغير، مثلاً: عمره في الثانية عشرة؟ A أما بالنسبة للمحرم فله حالتان: الحالة الأول: أن يكون في السفر، فينبغي أن يكون بالغاً يدفع عن المرأة لو حصل اعتداء عليها، وعلى هذا فلا يجتزأ بالصبي الذي في السن الثانية عشرة، وإنما ينبغي أن يكون على قدر يمكن معه أن يدفع عن المرأة لو كان لها ضرر. وأما بالنسبة للحالة الثانية: فهو يكون معها داخل البلد كأن يكون مانعاً للخلوة، كأن تركب في السيارة ويكون معها، فهذا إن شاء الله يعتبر رافعاً للخلوة إذا كان في هذا السن؛ لأنه سن التمييز؛ وسن التمييز تبتدئ في السنة السابعة لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) فدل هذا على أن سن التمييز هو السابعة من العمر. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترفع عن هذه الأمة بلاء المسكرات والمخدرات. اللهم ارحم العقول الذي ذهبت، وارحم الأجساد التي سقمت، اللهم إنا نسألك أن يرتفع هذا البلاء، وأن يزول هذا العناء، ونسألك اللهم أن توفق من تسبب في إزالته، اللهم إنا نسألك أن تخذل من كان سبباً في نشره، اللهم اطمس على سمعه وقلبه وبصره، وخذه أخذ عزيز مقتدر يا ذا العزة والجلال والعظمة والكمال، ونسألك أن توفق كل من أراد قفل بابه لكل خير، وأن تعظم له الأجر في الدنيا والآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين.

حكم شرب الدخان والصلاة خلف من يشربه

حكم شرب الدخان والصلاة خلف من يشربه Q تقول الأخت السائلة: شرب الدخان والسجائر هل يجوز؟ وهل يجوز الصلاة وراء إمام يشرب الدخان؟ وما هو الدليل الشرعي في القرآن والسنة على التحريم؟ وما رأي فضيلتكم فيمن يبيعه في المحلات؟ A أما بالنسبة لشرب الدخان فهو محرم، ودليل تحريمه من وجهين: الوجه الأول: أن الله تعالى وصف نبيه بقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] والخبائث: جمع خبيث، والدخان خبيث وليس من الطيبات. أما الدليل الثاني على تحريمه: فوجود الضرر فيه، فإن العلماء رحمهم الله يقولون: إن الشريعة جاءت بجلب المصالح ودفع المفاسد، ودفعت عن الناس أفراداً وجماعات مفاسد الدين والدنيا والآخرة، فهذا الدخان يفسد الإنسان فيؤذيه في قلبه، ويؤذيه في رئته وفي تنفسه، ويؤذيه ويؤذي من شم رائحته؛ وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، فلو أنه لم ترد آية في كتاب الله بتحريم الدخان ووجدت هذه الدلائل لكانت كافية في تحريمه؛ لأن وجود الضرر فيه يشعر بحرمته؛ لأن الله لا يحل ما فيه ضرر على الناس، ولذلك لو لم تدل الآية على تحريمه لدل وجود الضرر فيه على حرمته فلا يجوز شربه. وأما الصلاة وراء إمام يشرب السجائر فالإمامة منصب شريف، ومقام عظيم منيف؛ ينبغي أن يتقلده الأخيار الذين يخافون الله جل جلاله وتكون فيهم القدوة الحسنة، والسيرة المرضية، والسريرة السوية، ينبغي أن يكون الإمام صالح العقيدة صالح الظاهر، مستقيماً على هدي الكتاب والسنة، وإذا تقلد الإمامة الأخيار انتشر الخير، وعظم النفع للناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم، فلا يجوز للناس أن يقدموا إنساناً يعلمون أنه شارب دخان، ولكن لو تقدم وهو يشرب الدخان فالصلاة صحيحة، ولا يضر الإنسان إذا صلى وراء من يشرب الدخان؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم -يعني: الأئمة- فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: لكم صلاتكم كاملة وعليهم خطؤهم، فلا تزر وازرة وزر أخرى. وأما السؤال أو النقطة الثالثة من السؤال: من يبيعه في المحلات؛ كل شيء يضر الناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم لا يجوز تعاطي الأسباب لنشره، ومن يتعاطى السبب في نشره فإنه يأثم على قدر ما يكون من ضرره، ولا شك أن بيعه محرم، ومن باعه فإنه يأثم، ولو أن هذه السيجارة بيعت فكانت سبباً في سكتةٍ قلبية لعبد حمل -والعياذ بالله- إثمها. وهكذا لو كانت سبباً في مرضه أو سقمه، فمن باع الخير يجني الخير من بيعه، ومن باع الشر يجني الشر من بيعه. وأما السؤال أو الجزئية الأخيرة: ما رأيكم فيمن يبيح شرب الحشيش على أساس أنه غير مسكر ولا يوجد تحريم عليه؟ قال بعض العلماء: من استحل الحشيش فإنه يعتبر كافراً -والعياذ بالله- الحشيش محرمة باتفاق المسلمين، وقد نقل الإجماع على ذلك الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، وكذلك نقله الحافظ ابن حجر الهيتمي في الزواجر، وأشار العلماء رحمهم الله إلى حرمته ودخولها في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر، وللإمام الزركشي رحمه الله رسالة قيمة زهرة العريش في تحريم الحشيش ذكر فيها أكثر من مائة مفسدة دينية ودنيوية وأخروية في الحشيش، فلا يجوز للإنسان أن يقول بحلها، ومن أحلها فالله الموعد، وسيحمل وزر من تعاطاها، والله تعالى أعلم.

حكم تعاطي القات

حكم تعاطي القات Q تقول الأخت السائلة: أريد أن أعرف هل القات محرم مع أنه غير مذهب للعقل، وما وجه التحريم فيه؟ A أول مرة أسمع أن القات لا يذهب العقل، وقد يكون هذا إنساناً ليس عنده عقل فيشرب القات فيستوي ذهاب العقل ووجوده. أما القات فهو محرم لما جاء في الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن كل مسكر ومفتر) والقات فيه الهزة والنشاط والطرب الذي يوجد في الخمر، وصاحبه إذا تعاطاه فإنه مستعد لأن يقوم بالأعمال التي تخرجه عن طوره، ولا يفعلها في حال يقظته وإفاقته، وهو محرم، وللعلماء رحمة الله عليهم كلام نفيس في القات وغيره من المخدرات أشار إليه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم من المتقدمين، وانعقدت الكلمة عند المحققين على أن القات في حكم المخدرات، ويعتبر ملعونٌ حامله، وملعون المحمول إليه، وبائعه وشاريه، وكذلك أيضاً آخذه ومتعاطيه، فلا يجوز حمله ولا بيعه ولا تعاطيه، وقد يقول القائل: لا شيء فيه كما ورد في السؤال، فلتتق الله المرأة وليتق الله القائل في مقالته، إن فيه أشياء كثيرة وذلك بشهادة أهل الخبرة، وقد تكلم الأطباء في بحوث قيمة ومن أنفسها ما كان في المؤتمر العالمي لمكافحة المسكرات والمخدرات، فقد اطلعت على بحوث قيمة للأطباء تدل على أنه في حكم الخمر والمخدرات، وأنه عظيم الأثر، ولذلك يكون صاحبه عصبي المزاج يثور عند أقل كلمة، وقد يبتلى بالصرع -والعياذ بالله- وقد يبتلى بأشياء مضرة. وهنا أقول: ينبغي للإنسان إذا نظر في الشيء فأراد أن يعرف أنه حلال أو حرام أن يتقي الله في نظرته، وأن يعلم أن الأحكام الشرعية لا تحكم بالأهواء، ولا تحكم بالتقاليد ولا بالأعراف، ولكنها تحكم بحكم الله الواحد الديان، ينبغي أن يعلم أن هذا البلاء -أعني القات- مضر بالنفوس، مضر بالعقول، ومفسد للدين، ويورث الأسقام والعلل، فمن قال: إنه حلال. فإنه يخشى عليه الفتنة، فينبغي أن يتقي الله الإنسان. ومن يأكل القات أو يتعاطاه وهو يعلم أو يعتقد أنه حرام ويتعاطاه ونفسه منكسرة ويقول: إني مسيء. أهون عند الله من الذي يتعاطاه مستحلاً له -والعياذ بالله- من يتعاطاه ويقول: ليس فيه شيء؛ فهذا والعياذ بالله على خطر، ومن دلائله الإدمان، فإن صاحبه إذا تعاطاه وأدمنه بمجرد أن يتركه تختل أعصابه، ويختل عقله، وقد يفقد العقل والعياذ بالله، أليست هذه الأمور كلها كافية في تحريمه؟! فالمقصود: أنه حرام، وهذا الذي ظهر بعد الاستقراء، وإن كان وجد من يقول بحله، ولكن الذي يظهر بعد قراءة بحوث العلماء ورسائلهم فيه أنه محرم ولا يجوز تعاطيه، والله تعالى أعلم.

زوجي مدمن للمخدرات

زوجي مدمن للمخدرات Q هذه امرأة تشكو حالها وتقول: إن لها زوجاً يأتيها في آخر الليل وهو مدمن للمخدرات -والعياذ بالله- وإنها عانت العناء الشديد منه، فماذا ترشدها هل تترك بيتها وتطلب من القاضي أن يفرق بينها وبينه؟ أم بماذا تنصحها؟ A أسأل الله العظيم أن يفرج همها وغمها ويفرج هموم كثير من النساء اللاتي بلين ببلائها، أسأل الله العظيم ذلك، وإن كان والحمد لله هذه تعتبر من الأمور اليسيرة أو الظواهر التي ليست متفشية، فالخير لا زال في المجتمع، ولا زال الخير كثيراً، وإنما يخشى على الثوب النقي من الدنس القليل. أختي المسلمة! أوصيك بالصبر واحتساب الأجر، احتسبي عند الله جل جلاله في إنقاذ زوجك من النار، وقد يأتيك الشيطان يخذلك عن هذا الصبر فاحتسبي الأجر عند الله جل جلاله، ألم تعلمي أن كل نصيحة تقولينها وكل كلمة تلفظينها أن الله يشكرها لك؟ احتسبي عند الله جل جلاله، فكما أنك تركعين وتسجدين قربة لله فكذلك صبرك على زوجك وأنت تخوفينه في الله وتذكرينه بالله في ميزان حسناتك. الوصية الثانية: كثير من النساء ينصحن الأزواج ولكن لا تنفع النصيحة، والسبب في ذلك -والله أعلم- ضعف الإخلاص، بعض النساء ينصحن الأزواج من وازع الغيرة أو وازع الشعور بالفضيحة، لكن لو أن المرأة انطلقت من وازع الإيمان واحتساب الأجر عند الرحمن فإن الكلمة تخرج من القلب والجنان، ولا شك أنها ستستقر في الآذان حتى يأذن الله بدخولها إلى ذلك القلب والجنان، الكلمة التي تخرج من القلب تقع في القلب، فلتصدق الأمر بالتذكير بالله جل جلاله، تحاول قدر استطاعتها أن تكون صادقة في تذكيرها بالله جل جلاله، لا تنظر إلى أنه زوج أو قريب أو أنها تخشى الفضيحة لا، إنما تنطلق من منطلق الإيمان، تتكلم وهي تشتري رحمات الله بكلماتها، وتعظ وتنصح وهي تشتري رحمة الله بنصائحها، ذكريه بالله جل جلاله وانصحيه على قدر الاستطاعة. الوصية الثالثة: انظري إلى أقرب الناس إلى الزوج، أو أقرب الناس إليك، إنساناً حليماً عاقلاً حكيماً، ومريه أن ينقذ هذا الحائر التائه من بلائه، تحاول المرأة أن تنظر إلى أقارب زوجها أو أقاربها الصالحين فتعرض عليهم مشكلتها وتحاول قدر استطاعتها أن تستحث هممهم لانتشال ذلك الغريق من بلائه هذه وصية ثانية. أما طلب الطلاق من القاضي فهذا فيه تفصيل: إذا كان هذا الزوج ضرره مقتصراً عليه ولا يتعدى إلى الغير فينبغي الحرص على الدعوة والتذكير والصبر ما دام أن شره بعيداً عنك، وأما إذا كان ضرره متعدياً إليك كأن يأتي سكراناً -والعياذ بالله- أو مخدراً أو مخموراً تخافين على نفسك، على أولادك، على بناتك، أو غلب على ظنك أن الذرية تتأثر به في المستقبل، أو غلب على ظنك أنه سيودي بالبيت إلى كارثة أو بلاء فحينئذٍ يشرع لك طلب الطلاق من القاضي، والله تعالى أعلم.

دور المرأة المسلمة في مكافحة المخدرات

دور المرأة المسلمة في مكافحة المخدرات Q ما دور المرأة المسلمة في مكافحة المخدرات؟ A الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن مكافحة المخدرات والوقوف في وجهها من أعظم الحسنات، وإذا احتسبت المرأة المؤمنة فإن الله يعظم أجرها، ويثقل في الميزان ثوابها، واجب المرأة المؤمنة: أولاً: إسداء النصح والتوجيه، فإذا علمت أن هناك من يتعاطاها، أو أن هناك من يروجها من صديقاتها فإنه ينبغي عليها ويجب عليها أن تخوفها بالله جل جلاله، أن تذكرها بالله، إن كثيراً ممن يتعاطى المخدرات والمسكرات أو يروجها في غفلة تامة عن آخرته، فيحتاج من المرأة المسلمة أن تذكر تلك القلوب الغافلة بالله جل جلاله، ذكري تلك القلوب الغافلة بلقاء الله وسؤال الله عن كل ما ينشأ من هذه الأضرار، وما يكون من البليات والأخطار. أما الأمر الثاني: فإن ارتدع فالحمد لله وخير له من الله، وإن لم يرتدع فيجب على المرأة المسلمة أن تسعى في ردعه بالتبليغ عنه، ولا يجوز السكوت على من يروج المخدرات، وأيما إنسان ذكراً كان أو أنثى علم بمن يتعاطى المخدرات فسكت عنه فإن سكوته يعتبر معونة على الإثم والعدوان والعياذ بالله، فإن سكت عنه وعظم شره كنت مشاركاً له في الإثم؛ فينبغي التناصح، وقد قيض الله عز وجل رجالاً فيهم الخير الكثير، فقد قفل الله بهم أسباب الشر، وقفل بهم أسباب البلاء، وأسأل الله العظيم أن يعظم لهم الأجر في الدنيا والآخرة، وأن يكلل مساعيهم بالتوفيق والسداد. إن الوقوف أمام هذا البلاء فرض محتم على كل فرد من أفراد المسلمين كلٌ على قدر استطاعته، فينبغي النصح والتوجيه أولاً، وإذا كان الإنسان قد ردعته النصيحة فالحمد لله، وإذا لم يرتدع فسوط الله بخلقه لا شك أنه سيردعه عن حدود الله ومحارم الله. الوصية الثالثة من وصايا المرأة المسلمة تجاه هذا البلاء: أن تنصح أخواتها، فإذا رأت أختاً بريئة وقعت في براثن من يروج الحبوب والمخدرات فينبغي نصحها، ولتحاول أن تكون تلك المرأة المشفقة التي تنقذ الغريقة من غرقها، فتأخذ بذلك القلب البريء عن ذلك العناء العظيم، فلعل الله عزوجل أن ينقذ بك أختاً ترفع الكف إلى الله أن يعظم الأجر فيشكر حسنتك، إن الله شكر شربة ماء سقتها بغيٌ من بغايا بني إسرائيل لكلب فشكر الله لها فغفر ذنوب العمر، فكيف بامرأة تنتشل قلباً بريئاً من هذا البلاء العظيم؟! الوصية الرابعة التي ينبغي التواصي بها: الشعور بالمسئولية، وأن الخطر لا يقتصر على متعاطي المخدرات، بل إنه ينتشر عن اليمين والشمال، ويفتك بهذا وذاك. إن بلاء المخدرات لا يقتصر على من يتعاطاه بل يتعداه إلى غيره، فينبغي الشعور بهذا الخطر، فاليوم إذا سكت الإنسان عن ابن الجار وبنت الجار فلا يأمنن غداً إذا هتكت أستاره ودخل ذلك البلاء إلى أبنائه وبناته والعياذ بالله. فينبغي الشعور بهذا البلاء وهذا العناء، إن البعيد إذا تعاطى المخدرات لم تأمن أن يقتلك على قارعة الطريق، ولا تأمن أن ينتهك العرض على قارعة الطريق، فينبغي الشعور بهذا الخطر العظيم والبلاء العميم، وألا تكون المرأة أنانية في إحساسها، بل ينبغي أن تنطلق من منطلق الشعور بالمسئولية أمام الله جل جلاله، ولقد أمر الله المؤمنين والمؤمنات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل خيرية الأمة وهدايتها مقترنة بذلك، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا للعمل بهذه الوصايا، والله تعالى أعلم.

الإيمان

الإيمان الإيمان أفضل الأعمال عند الله تعالى، ولذا كان لأهله مقام رفيع عند الله؛ لكن لابد لمن ادعى الإيمان من علامات، منها: توحيد الله والتوكل عليه، وفعل الطاعات، وله ثمرات، منها: دخول الجنة، ورضا الله عن عبده، وثبات القلوب، وأمن أصحابها في الدنيا والآخرة، وكذلك توفيق العبد لكثرة الطاعات.

فضل الإيمان ومقام أهله عند الله

فضل الإيمان ومقام أهله عند الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إخواني في الله: الحمد لله الذي جمع قلوبنا بالقرآن، وألف بين أرواحنا بالطاعة والإيمان الحمد لله الذي خشعت له قلوبنا، وذلت له رقابنا، وتعفَّرت بالسجود له جباهنا الحمد لله الذي لم يجعل سجودنا لحجر ولا لشجر ولا لمدر ولا لبقر ولا لقبر الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الحمد لله كالذي نقول، والحمد لله خيراً مما نقول. إنه الإيمان، أن تعبد الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وتخشى عذاب الله، تعيش به حميداً، وتموت به قرير العين سعيداً، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقال سبحانه وتعالى: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:25 - 27]. إنه الإيمان الذي غفر الله به الذنوب والعصيان إنه الإيمان الذي أخرج أصحابه بالروح والريحان، ورب كريم راضٍ غير غضبان، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) الله أكبر! ما أعظم مقام أهل الإيمان عند العظيم الرحمن! إنه الإيمان الذي بشر الله أهله بالخير والرحمات والجنان، فقال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] بشر المؤمنين بالرحمات، وبشرهم بالعفو والمكرمات، ويقول مخاطباً نبيه عليه من الله جميل الصلوات: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب:47].

علامات الإيمان

علامات الإيمان والإيمان له أمارات، وله علامات وغايات وثمرات، فهو قول باللسان، واعتقاد في الجنان، وعمل صالح في الجوارح والأركان، أما القلوب فأسكنت التوحيد لله علَّام الغيوب، أما القلوب فإنها أسلمت لله ولم تسلم لأحد سواه، أن تعلم علم اليقين أن لا خالق إلا الله ولا رازق سواه، خلق الإنسان من طين وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، فسبحان من علمك وأنت في أصلاب الرجال وترائب النساء! سبحان من خلقك وصورك وأنت في الظلمات في ذلك الظلام من الأرحام، فلا طعام ولا شراب ولا كلام، ولا يسمعك ولا يراك إلا هو سبحانه العلَّام! سبحانه ما أحكمه! خلق الإنسان فصوره وشق سمعه وبصره، وتبارك الله أحسن الخالقين، ما من شيء في الوجود إلا وهو دليل على أنه الواحد المعبود.

حسن الخلق

حسن الخلق المؤمن كريم الخلال، جميل الخصال تجده على أكمل ما يكون عليه الرجل في كلامه، وفي فعله وإحسانه إلى الناس، يفشي السلام، ويطعم الطعام ويصل الأرحام، يكون على خير الخلال وجميل الخصال؛ لكمال إيمانه بالله الكريم المتعال. ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شمائل المؤمنين الكريمة؛ من العفو عمَّن زل لسانه أو زلت جوارحه وأركانه، واحتساب الأجر عند الله. المؤمن يعفو عمن ظلم، ويعفو عمن أساء، يحتسب الأجر عند الله في عفوه. ومن كريم خلال المؤمنين وجميل خصالهم أمرهم بطاعة الله، ونهيهم عن حدود الله ومحارمه، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيحيون شعائر الله، ويميتون شعائر أعداء الله، كل ذلك علامة للمؤمنين، ودليل صادق على حب الله رب العالمين.

توحيد الله في ربوبيته

توحيد الله في ربوبيته أن توحده في ربوبيته، إياك أن تظن أن الطبيعة أوجدت، أو أن الصدفة قد خلقت، أيُّ طبيعة يزعمون، أُفٍ أُفٍ لهم وما يفترون، فليخرس الأدعياء، ما كانت الطبيعة رازقة، وما كانت يوماً من الأيام موجدة ولا خالقة، الله خالقنا، الله رازقنا، الله ربنا، لا إله لنا غيره. هو الذي بث الأرواح في أجسادها، خلق الخلق فأحصاهم عددا، وقسم أرزاقهم فلم ينس منهم فردا، ما كانت الطبيعة يوماً من الأيام رازقة، بل الله هو الرزاق ذو القوة المتين {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]. سبحانك يوم خلقت! سبحانك يوم كنا في العدم وأخرجتنا وأسبغت الآلاء والنعم! سبحان من خلق آدم بيده فشرفه وكرمه، وأسجد له ملائكته، خلق الإنسان من طين وجعل نسله في سلالة من ماء مهين. حملته أصلاب الرجال وغيبته ترائب النساء، وقذف في تلك الأرحام في ذلك البهيم من الظلام، والتقت النطفة على قدر قد كتبه الله لها {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23]، نعم القادر على خلقه، ونعم القاهر لكل شيء، الباسط للجميل من رزقه. الله خالقنا وخالق كل شيء، جرت الشمس بقدرته، ونوّر القمر بقدرته، وأظلم الليل بقدرته، وأضاء النهار بعظمته، سبحان مدبر الوجود، سبحان الواحد المعبود، سبحان من له الملكوت والجبروت، الحي الذي لا يموت.

توحيد الله في ألوهيته

توحيد الله في ألوهيته الله إلهنا، فإن نزلت بنا الشدائد وأحاطت بنا الصعوبات والمكائد فالله ملاذنا، والله معاذنا، والله حسيبنا من الإيمان، إذا نزلت بك المصائب وأحاطت بك الشدائد والكربات، أن تصدع إلى الله بصالح الدعوات، فلا مغيث ولا مجير سواه، ولا إله غيره ولا مجيب عداه. سبحان من فتحت السماء أبوابها لرحمته! فكم من دعوة أجابها، وكم من كربة كشفها، وكم من هموم وغموم أزالها! سبحان من لا تحصى نعمه، ولا يكافأ فضله ولا كرمه!

امتلاء القلب بتعظيم الله وحبه وإجلاله

امتلاء القلب بتعظيم الله وحبه وإجلاله ومن الإيمان بالله: أن تملأ القلوب تعظيماً لله وإجلالاً له، فتعلم أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، فهو العليم بخلقه لا تخفى عليه خافية، السر عنده علانية، أقرب إلى العبد من حبل الوريد، يعلم ولا يخفى عليه شيء، يحصي ويبدي ويعيد. ومن الإيمان بالله: أن تملأ القلوب بالحب لله، ومن الإيمان بالله صدق الحب لله والشوق إلى رحمة الله، فإن المؤمنين على حب لله رب العالمين. من علامة الإيمان حب العظيم الرحمن، وكيف لا تحبه وما من طرفة عين إلا وله النعم، وله الفضائل والمنن؟! ما من طرفة عين إلا وأنت ترفل في نعمه وفي جوده وفي فضله وكرمه.

الصبر على البلاء وشكر النعماء

الصبر على البلاء وشكر النعماء ومن الإيمان بالله: أن تصبر على البلاء، وأن تشكر النعماء، وأن تعتقد الفضل لله رب السماء. الصبر على البلاء من الإيمان بالله واحتساب الأجر عند الله عز وجل، فما صبر إلا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، أعد للشدائد صبره، أعد للنكبات والفجائع والنائبات أعد لها الصبر واحتساب الأجر.

حسن الظن بالله والتوكل عليه

حسن الظن بالله والتوكل عليه ومن الإيمان بالله: حسن الظن بالله والتوكل على الله سبحانه وتعالى، قال إبراهيم وهو بين السماء والأرض لجبريل وقد أتاه قائلاً: يا إبراهيم! هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فحسبنا الله ونعم الوكيل، فقال الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، من كمل إيمانه في الرخاء ذكره الله في الشدة والبلاء، فمن الإيمان بالله التوكل على الله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].

عمارة بيوت الله

عمارة بيوت الله ألا وإن للإيمان خلالاً، وللمؤمنين خصالاً أثنى عليهم ربهم بها، فالمؤمنون عمار بيوت الله، أهل ذكر الله وطاعته ومحبته {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] المؤمنون {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]. الإيمان ذلة لله، وعبودية خالصة لوجه الله.

إيتاء الزكاة والإحسان إلى عباد الله بالصدقات

إيتاء الزكاة والإحسان إلى عباد الله بالصدقات ومن الإيمان بالله: إيتاء الزكاة والإحسان إلى عباد الله؛ بالصدقات، وتفريج النوائب والكربات، فمن كمل إيمانه كمل جوده وعطاؤه وسخاؤه، من كان مؤمناً بالله حقاً هانت عليه الدنيا وبذلها لآخرته، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر كفكف دموع اليتامى، ورحم البائسين والثكالى، واحتسب الأجر عند الله جل وعلا. (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فمن علامة المؤمنين أنهم يقولون خيراً أو يصمتون، أعفة في اللسان عن أعراض المسلمين، قولهم ذكر أو شكر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71].

سلامة اللسان واستقامة الكلام

سلامة اللسان واستقامة الكلام من علامة الإيمان: سلامة اللسان واستقامة الكلام كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) لسانك يحرسه ويلزمه قلبك وجنانك، فإن كان قلبك يخاف الله كان ذلك اللسان عفيفاً عن عباد الله، وإن كان قلبك يخاف الله كان ذلك اللسان بعيداً عن عيوب عباد الله قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. إذا كمل إيمان العبد حسن نطقه وسلم لسانه، فالإسلام أن يسلم المسلمون من يدك ولسانك، وزلات جوارحك وأركانك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه) وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).

استقامة الجوارح على طاعة الله

استقامة الجوارح على طاعة الله ومن علامة الإيمان استقامة الجوارح على طاعة الله، يوم يأخذ العبد بدين الله، يأخذ به كله لا ببعضه، فيستقيم على شريعة الله، ويلتزم بحدود الله، ويكون حافظاً لما أمر الله بحفظه، بعيداً عما نهى الله عن اقترافه، فمن كمال المؤمنين أنهم لحدود الله حافظين، ولمحارمه مجتنبين، فإذا كمل إيمان العبد كمل تقواه لله عز وجل، فكان إيمانه كاملاً بالاستقامة الحقة، يوم يلتزم بدين الله، ويتمسك بعروة الله، ويسير على نهج الله وطاعته، حتى إذا جاءه الموت كان ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:30 - 33]. فإذا كمل إيمان العبد استقامت جوارحه على طاعة الله، وكان على منهج الله ومرضاته، إذا استقامت القلوب لله بالإيمان استقامت الجوارح والأركان بأطيب الخلال، وأجمل الخصال، فمن علامة المؤمنين أنهم على أكمل الأخلاق وأحبها وأحسنها وأجملها، قال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً).

ثمرات الإيمان وعواقبه

ثمرات الإيمان وعواقبه

حلول الجنان والروح والريحان

حلول الجِنَان والروح والريحان ومن عواقب الإيمان: أن الله ينزل أهله الجنان، ويسبغ عليهم منه الرحمة والرضوان، قال صلى الله عليه وسلم: (يطلع الله على أهل الجنة ويقول: هل رضيتم؟ قالوا: يا ربنا! وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا؟! قال: ألا أزيدكم؟ أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً). فمن عواقب الإيمان حلول الجنان والروح والريحان، وما يكون من العفو والصفح والغفران، ومن عواقب الجنان دخولها والتنعم بسرورها، فالله أكبر! إذا وطئ العبد بابها، الله أكبر! إذا حل بين خيامها، الله أكبر! إذا دار عليه غلمانها وحورها، الله أكبر! إذا ارتشف من رحيقها، الله أكبر! إذا جاور النبيين والصديقين فيها، الله أكبر! إذا رأى منازل الجنان، وزال عنه الهم والغم وما كان من الدنيا من كدر، الله أكبر! إذا انتهت عند باب الجنة الهموم، وزالت عن أهل الطاعات الغموم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:34]. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تكمل إيماننا، اللهم كمل إيماننا، اللهم كمل إيماننا، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، وعملاً صالحاً ورزقاً طيباً، اللهم ثبتنا على الإيمان واختم لنا بخاتمة الصفح والغفران يا كريم يا منان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

حب الله ورضوانه

حب الله ورضوانه ولهذا الإيمان ثمرات أعظمها وأجلها أن الله يحب أهله، ولقد أخبر الله جل وعلا أن أكبر شيء وأعز شيء إذا رضي الله عن العبد، قرضاه أعظم مقصود وأشرف مأمول، فمن أعظم آثار الإيمان وأجلها وأكرمها رضوان الله عن العبد، قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، وقال عن أهل الإيمان: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] وهل الخشية إلا الإيمان. إذا رضي الله عن العبد أرضاه، وأسعده وأولاه، وثبت قلبه على الصراط المستقيم، وجعل الخير له حيثما توجه، يرضى الله عنك في الدنيا ويرضى عنك عند الممات، ويرضى عنك في الآخرة، فإذا كمل إيمان العبد كمل رضوان الله عنه، وإذا رضي الله عنه أرضى عنه خلقه، قال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس).

الأمن والأمان

الأمن والأمان ومن آثار الإيمان، ومن أعظم خيراته: أنه أمن وأمان كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] المؤمنون آمنون في الدنيا؛ لكمال خوفهم من الله، آمنون في الآخرة تتلقاهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، {َتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:103 - 104] فتتلقاهم في ذلك اليوم العظيم بالبشائر والرحمات، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] أولئك هم الآمنون في الدنيا الآمنون في الآخرة. اللهم إنا نسألك إيماناً تؤمننا به في دنيانا وأخرانا، وتوجب به العفو عنا يا أرحم الراحمين.

ثبات القلوب

ثبات القلوب ومن ثمرات الإيمان، ثبات القلوب، فإن من أعظم المصائب وأجلها في الدنيا تقلب القلوب عن طاعة الله، وأعظم ما يكون ذلك التقلب بالانتكاسة عن دين الله وعن شريعته، فإذا كان العبد مؤمناً ثبت الله قلبه بالإيمان {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27]. المؤمنون أهل ثبات وأهل يقين، لا تقلبهم الفتن، ولا تضرهم المحن، ولكنهم على الثبات، عضوا على حبل الله بالنواجذ، واستمسكوا بعروة الله الوثقى، فالجنة والنار نصب أعينهم، والآخرة كأنها قريبة منهم، يثبت الله بذلك قلوبهم، ويشرح بذلك صدورهم، حتى يكونوا على صراط الله ومنهجه. إذا كمل إيمان العبد كملت استقامته وثبتت قدمه، واستمسك بعروة الله الوثقى إلى لقاء الله جل وعلا، حتى إذا جاءه الموت جاءه على خصال الخير، جاءه الموت راكعاً أو جاءه ساجداً، أو جاءه صائماً، أو جاءه في الليل قائماً، أو جاءه حاجاً أو معتمراً أو مزكياً أو واصلاً للرحم أو باراً لأمه وأبيه، يأتيه الموت على أحسن الحالات وأشرف الساعات، لكي يتم الله رضوانه عليه، يثبت الله بالإيمان القلوب، فهذا من ثبات القلوب. أما إذا ضعف الإيمان اختلجت القلوب عن الطاعات، وتلبست بالمعاصي والسيئات، حتى لا يبالي الله بها في أي أودية الدنيا هلكت، إذا ضعف إيمان العبد فإنه يتزلزل وسرعان ما ينتكس قلبه {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].

الهداية والرحمة

الهداية والرحمة ومن ثمرات الإيمان: الهداية والرحمة، قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] وإذا هدى الله قلب العبد وفقه وألهمه، فلا يلتبس عليه الحق بالباطل ولا يلتبس عليه الظلام بالنور، يعلم صراط الله، ويستبين شريعة الله، ويستمسك بعروة الله، فمن بشائر المؤمنين أن الله يهدي قلوبهم أجمعين، اللهم إنا نسألك هدايةً تثبت بها قلوبنا وتشرح بها صدورنا.

التيسير للطاعة

التيسير للطاعة ومن ثمرات الإيمان: أن العبد كل ما كان على طاعة دعته أختها إليها، قال تعالى: {أَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7] فلا يزال ميسراً للطاعات، منشرح الصدر للقربات، لا تفتر له همة، ولا تضعف له نفس، حتى يبلغ بذلك الخير أعالي الدرجات، ويستوجب من ربه جزيل الرحمات.

حياة القلب

حياة القلب ومن آثار الإيمان وعواقبه الحميدة أن الله يحيي به قلب الإنسان، فتصبح أشجانه للآخرة، وأعماله لطاعة الله ومحبته، فمن يؤمن بالله فإنه للآخرة كثير الذكر، كثير التعلق بها، كثير النظر في حالها، فإنه لا يفتر عن ذكر الله جل وعلا بقلبه، يذكر الآخرة في مشاهدها وأهوالها وشدائدها كأنه في ضجعة لحده، موسد في قبره، وكأنه قائم على صراطه، وكأنه واقف بين يدي الله ربه، حتى إذا جاءته الطاعة واشتاق إلى رحمة الله نظر إلى عواقبها الحميدة، فجعل الآخرة نصب عينيه فكأنه ينعم بخيراتها، ويرى ما يكون من جزيل عواقبها.

الأسئلة

الأسئلة

من ابتلاه الله فعليه بحسن الظن بالله والصبر والدعاء

من ابتلاه الله فعليه بحسن الظن بالله والصبر والدعاء Q أنا مصاب باضطراب في الشخصية، ورجفة في جميع أعضاء الجسم، وخوف شديد، أرجو أن تدعو الله لي بالشفاء العاجل على تأمين إخواني المسلمين وجزاكم الله خيراً؟ A أسأل الله أن يشفيك ويشفي كل مكروب ومنكوب، أخي في الله أوصيك بالصبر واحتساب الأجر، وقد مرت عليك الأيام والليالي، ومرت عليك الأسابيع والشهور، الله أعلم كم كتب في ميزان حسناتك من خيرات، الله أعلم كم مرت عليك ساعات وأنت ترتجف وتتأوه، لو تعلم ما لك من الله من المثوبة لتمنيت أن حياتك كلها في هذا، فنعمت عيون المبتلين إذا لقوا الله رب العالمين، ورأوا في دواوين الحسنات الأجور والدرجات، فنعمت هناك عيونهم، وبهجت قلوبهم وارتاحت نفوسهم، ورضوا عن الله ورضي عنهم ربهم. فأوصيك بالصبر، فما أطيب العيش بالصبر! قال عمر رضي الله عنه: [وجدنا ألذ عيشنا بالصبر] حينما تنزل في السمع أو في البصر أو في السكر أو في الضغط أو في غير ذلك من المصائب والمتاعب، فتتأوه في ليلك وعليك الملك، لا تتأوه إلا كتب آلامك وأحزانك وأشجانك، ولا يتألم أهلك وزوجك ووالداك إلا كتب الله لهم أجر ذلك، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلا كتب الله عز وجل ما كان من عناء ونصب وبلاء، حتى ورد في الحديث: (إذا رأى أهل البلاء يوم القيامة ما لهم عند الله من الأجر، تمنوا أن حياتهم كلها بلاء) إذا رأى أهل البلاء ما لهم عند الله من الأجر في البلاء تمنوا أن حياتهم كلها بلاء، تبتلى نفسيتك يأتيك الضيق النفسي والألم فأوصيك بالصبر. ثم اذكر الله ذكراً كثيراً كما أمرك الله عز وجل أن تذكره، وبذكر الله يطمئن قلبك، وتثبت شخصيتك؛ لأن الله يثبت بالإيمان ويثبت بذكره القلب والجنان، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] أوصيك بالصبر واحتساب الأجر، وإياك أن تشكي الله إلى خلقه، فاجعل شكواك إلى الله، فهو منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى وكاشف كل ضر وبلوى، فهو المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، قال يعقوب عليه السلام: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، وقال عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فرد الله ولده إليه وأقر عينه به، وأراه ذلك اليوم الذي اطمأنت فيه نفسه وارتاح فيه قلبه، فاصبر واحتسب الأجر عند الله ولا تشكِ إلا إلى الله. واعلم -رحمك الله- أنك كلما كظمت غيظك، وكتمت سرك، واشتكيت إلى الله جل وعلا، كلما كان ذلك أرفع لدرجتك، إلا أن تشتكي طلباً للدواء، فإنه يجوز للإنسان، بل ينبغي للإنسان إذا وجد طبيباً أن يصارحه بآلامه، وذلك لا يضر في التوكل، فإن سيد المتوكلين وإمام الصابرين صلوات الله وسلامه عليه كان يقول: (وا رأساه) فاشتكى عليه الصلاة والسلام، فلا حرج أن تشتكي ولكن اشتكي إلى الله، واعلم أن الداء والدواء من الله منزل الداء ومنزل الشفاء. الأمر الرابع الذي أوصيك به حسن الظن بالله، لعلَّ الله أن يأتي بالفرج، لعلَّ الله أن يأتي بالمخرج، ثم أحسن الظن بالله فإن الشيطان دائماً جرب لا يأتيك أقل شيء ولو شوكة تشاكها حتى يأتيك الشيطان ويقول: الله لا يريدك الله يكرهك؛ لأن الشيطان لا ينفث إلا الخبث، ولا ينفث إلا سوء الظن بالله، ولا ينفث إلا الأمور الخبيثة، فإياك أن يسوء ظنك في البلاء، إذا جاءك المرض والسقم وجاءك إحساس في نفسك أن الله يمقتك ولا يحبك فاعلم أنه من الشيطان واتفل عن يسارك وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم تعلم سري ونجواي أشكو إليك وأنت أرحم الراحمين، فالله أرحم بك من أمك وأبيك، فإن أيوب لما أصابه البلاء قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] ما ساء ظنه بالله عز وجل أبداً، فلا يأتيك سوء الظن ولو أصابك الضيق النفسي والاكتئاب والتعب والأمراض الشديدة في ضيق النفس وهي من أصعبها، فلا يسوءن ظنك بالله. فينغاظ عدو الله لما يراك وأنت تملأ قلبك بالمحبة لله، وأنت تحسن الظن بالله، وكأن الله ينظر إلى ذلك القلب في خضم البلاء، وينظر إليه في شدة الضيق والكرب وهو مسلم إلى الله لا إلى شيء سواه. القلوب يا إخوان لها أعمالٌ صالحةٌ، وقال بعض العلماء: أعمال القلوب في بعض المواقف أعظم عند الله من أعمال الجوارح، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذُّروا نصفي في البر ونصفي في البحر فلئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به ذلك فأوحى الله إلى البحر أن اجمع ما فيك، وأوحى إلى البر أن اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله جل جلاله) سُحق حتى صار كالرماد، فأين الذين يقولون الآن: إنه إذا انفجرت بالإنسان قنبلةٌ من يعيده؟ يعيده الذي أنشأه أول مرةٍ وهو بكل خلقٍ عليم، سف كالسفساف وسفته الرياح فأخذه البحر وأخذته الصحراء في فيافيها، فقال الله للبحر: اجمع ما فيك، وقال للبر: اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله، قال: (ما الذي حملك على هذا يا عبدي؟ قال: خوفك، قال: قد غفرت لك). قالوا: كمال الإيمان، وكمال الخوف من الله من أعمال القلوب العظيمة عند الله سبحانه وتعالى، فاملأ قلبك بحب الله ولو انصبت عليك الشدائد والمصائب والمتاعب، فاملأه حسن ظن بالله، وتذكر أنه اللطيف والرحيم والكريم والحليم وقل: يا رب أسأت، ولو عذبتني لكنت عدلاً في عذابك، ولكن أرجو رحمتك التي وسعت كل شيء، وأسأله أحد الأمرين: إما أن يعطيك صبراً أضعاف ما أعطاك من البلاء، أو يعطيك كشف الضر والعناء، أما أن تتسخط عليه أو تشكي إلى الناس فلا، واملأ قلبك بهذه العقيدة فإن الله يرفع بها درجتك ويعظم بها أجرك. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يلطف بنا وأن يرحمنا برحمته الواسعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وآله وصحبه أجمعين.

من المقولات الخاطئة: (ساعة لقلبي وساعة لربي)

من المقولات الخاطئة: (ساعة لقلبي وساعة لربي) Q بعض الناس هداهم الله عندما ننصحهم يقولون: ساعة لقلبك وساعة لربك، وبعض الناس يستدل بالحديث: (روحوا القلوب ساعة وساعة) فكيف نردُّ على ذلك، وجهنا أثابك الله؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالنصيحة خير لمن تكلم بها وخير لمن سمعها وعمل بها، النصيحة -في الحقيقة- ما هي إلا حجةٌ تلقى من الله عليك، وستأتي بين يدي الله عز وجل، ويسألك عن هذا الكلام الذي سمعته هل عملت به أو لم تعمل؟ ويقول الله لك: يا عبدي! فعلت كذا؟ فقلت: يا رب فعلت، فيقول الله: ألم ينصحك عبدي فلان، ألم تبلغك حجتي مع فلان؟ فتكون النصيحة حجة لك أو عليك، ليست النصيحة كما يظن الناس أنها مجرد كلام يقال ممن يتكلم به، لا والله! ما هي إلا حجة قيضها الله لكي تلقى في هذه الأذن، فتشهد بين يدي الله عز وجل أنها سمعت، وتلقى في تلك القلوب فتشهد بين يدي الله أنها أصغت وأنها وقرت، فهذه النصيحة ما هي إلا حجة لك أو عليك. فالإنسان الموفق الصالح إذا سمع النصيحة يقول لمن نصحه: جزاك الله خيراً، نعم إنني مقصر وأسأل الله العظيم أن يوفقني، فيرد الرد الجميل الذي يدل على خوفه من الله وخشيته لله سبحانه وتعالى، أما أن يتهرب أو يتهكم أو يعتذر لنفسه فهذا على خطر حينما يقول: ساعة لربك وساعة لقلبك! ما هي الساعة التي للقلب؟ هل المراد بها الساعة التي تنتهك بها حدود الله وتغشى بها محارم الله؟! فبئس -والله- الساعة، لا والله لا يملكها القلب، ولا يرضى بها قلب يؤمن بالله عز وجل. أما إذا كانت من الترويح والاستجمام، والمراد بها الأمور المباحة التي يوسع الإنسان فيها عن ضيق نفسه فلا حرج، كون الإنسان إذا أصابته السآمة والملالة خرج إلى نزهة، أو لاطف أخاه أو مازحه أو ضحك معه بالمعروف لا حرج، كان محمد بن سيرين -سيدٌ من سادات التابعين- إذا جن عليه الليل سُمع البكاء من بيته، يقوم بكتاب الله عز وجل فتبكيه آيات القرآن، وإذا أصبح الصباح سُمع الضحك من بيته، إذا جن عليه الليل أعطى حقه لله، وإذا جاء الصباح والنهار آنس الناس وأدخل السرور على طلابه وأدخل السرور على أحبابه وزواره، وهذه من الأمور التي وسع الله بها على الأخيار، فديننا دين رحمة، ودين تيسير، ولكن بشرط ألا يبالغ في هذه الأمور. وكما مثل العلماء للمرح واللهو بأنه كالملح في الطعام، فإذا كان اللهو مباحاً والمرح مباحاً وزاد عن حده كان كملح في الطعام أفسده، وكذلك طاعة الإنسان الملتزم إذا أكثر في المزاح والعبث والضحك واللهو، ذهب بهاء الهداية وذهب بهاء الإنسان الملتزم بدين الله وشريعته، ونظرت إليه العيون نظرة انتقاص بقدر ما يكون منه من زيادة في هذا الأمر، ولكن إذا أخذ بالمعروف، وبالقدر المعتبر، فإن ذلك خير ولعل القلوب أن تتقوى على الطاعة بما يكون من المباحات، وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا وجد السآمة في مجلس العلم رمى بالطرفة والنكتة التي يضحك بها القوم، وهي من المباح ومن الأمور التي أحلها الله عز وجل دون أن يكون فيها أذية لمسلم أو هتك ستر الله عليه أو نحو ذلك من الذنوب والمعاصي والله تعالى أعلم.

حكم كشف وجه المرأة

حكم كشف وجه المرأة Q يا فضيلة الشيخ، كثير من النساء يخرجنَ من البيت كاشفات للحجاب ثم يذهبن إلى الخياطين وإلى الأسواق، فنريد منك كلمةً للنساء بأن يتمسكن بالحجاب الشرعي؟ A على المرأة المسلمة أن تتقي الله عز وجل في وجهها، كما أنها تتقي الله في سائر جوارحها، فلتتقي الله في هذا الوجه، لتتقي الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تتقي الله عز وجل في جمالها، وتتقيه في هذه النعمة التي أنعم الله بها عليها، وإن المعاصي تطفئ نور الإيمان من القلوب وتذهب جمالها وبهاءها، فلتتقي الله المرأة المسلمة في حجابها ولتدنِ عليها الحجاب وترخه عليها فإنه أتقى لربها، وأبعد لها عن حدود خالقها، وأيما امرأة تساهلت في حجابها وكشفت حجابها للناس؛ فنظرت إليها عين مسمومة ففتنت في دينها، نالت إثمها ووزرها والعياذ بالله. وينبغي على المرأة المسلمة أن تتقي الله في حجابها، وأن تخشى الله عز وجل من أن تفتن عباد الله عز وجل بالنظر إليها، فإن أحبت أن تتمادى في غيها فالله الموعد إذا ضمها لحدها وقبرها، والله الموعد إذا وقفت بين يدي الله ربها وتعلق بها من فتن بالنظر إليها. الوجه عورة وكشفه بلاء وفتنة، فينبغي للمرأة المسلمة أن تخاف الله وتتقيه خاصةً إذا كانت شابة، ولذلك أجمع العلماء على أن المرأة الفاتنة الشابة يجب عليها أن تغطي وجهها، والخلاف في الوجه والكفين الذي يتذرع به البعض محله أن لا تكون هناك فتنة، أما إذا وجدت الفتنة بالنظر إليها، وكانت جميلة فاتنة؛ فإنه -بالإجماع- ينبغي عليها أن تستر وجهها وأن تغطي ذلك الوجه، والله تعالى أعلم.

الخوف والرجاء مطلبان للمؤمن لابد من الجمع بينهما

الخوف والرجاء مطلبان للمؤمن لابد من الجمع بينهما Q فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنه يغلب عليَّ جانب الرجاء على جانب الخوف، وإذا راجعت نفسي على هذا الخلل أقول لنفسي: إني خيرٌ من كثير من الناس، فما توجيه سماحتكم؟ A الله المستعان، أنت على خير، فهل صمت النهار وقمت الليل وبلغت ما بلغه الصالحون الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون؟! أخي في الله: انظر في الطاعات إلى من هو أكثر منك، ولا تنظر إلى من هو دونك، فإذا نظرت إلى من هو أكثر منك احتقرت نفسك وأخذت بأسباب بلوغ الكمال، أما تعظيم الرجاء؛ فإنه لا ينبغي للمسلم أن يفعل ذلك وهو على خطر عظيم، فإن تغليب الرجاء أمنٌ من مكر الله، ولا ينبغي للمسلم أن يكون على هذه الحالة، وكذلك تغليب الخوف قنوطٌ من رحمة الله، ولا ينبغي للمسلم -أيضاً- أن يكون على هذه الحالة، بل ينبغي له أن يجمع بين الأمرين: خوفٌ من الله ورجاءٌ في رحمة الله، وقال العلماء: هما جناحا السلامة لمن يطير إلى رحمة الله جل وعلا، ولذلك ذكر الله أهل الجنة بهاتين الصفتين -يدعوننا خوفاً وطمعاً- فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]. فينبغي الجمع بين هذين الأمرين، وكون الإنسان يقول: إني أُغلِّب جانب الرجاء والله حليم رحيم، لا يأمن أن يقع في حدود الله عز وجل، وكون الإنسان يقول: الله شديد البطش عظيم القوة عظيم السلطان، لربما أهلكني وأنا مقصر في ذنوبي وما كان مني تجاه ربي لربما غلب عليه فيأس وقنط من رحمة الله عز وجل، والعياذ بالله. فينبغي أن تجمع بين الأمرين كما جمع بينهما أصحاب نبيك عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم أجمعين فإن جمعت بينهما سعدت وأفلحت ونجحت وكنت على هدي السلف الصالح، والله تعالى أعلم.

لا بد بعد الإيمان من الابتلاء والتمحيص

لا بد بعد الإيمان من الابتلاء والتمحيص Q فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، نرجو من فضيلتكم تفسير هذه الآية {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]؟ A يقول الله تعالى: {الم} [العنكبوت:1] الله أعلم بالمراد بهذه الحروف، ذكر الله عز وجل هذه الحروف للعرب وهي تتكلم بلسانها؛ لكي يعجزهم ويقول: هذه الحروف من كلامكم، ولا يستطيع أحد أن يدرك حقيقتها إلا بوحي من الله جل وعلا، ولذلك نقول: الله أعلم بالمراد بقوله: {الم} [العنكبوت:1]، وكذلك قوله: {الر} [يونس:1]، وقوله: {المر} [الرعد:1] وقوله: {كهيعص} [مريم:1]. وأما قوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} [العنكبوت:2] أي: أظن الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، فالناس لفظ عام يشمل المؤمنين والكافرين، ولكنَّ المراد بهذه الآية المؤمنين خاصةً لقوله بعد ذلك: {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] أن يتركوا بدون تمحيص من الله، وابتلاءٍ واختبارٍ منه عز وجل، كلَّا. {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179] لابد من الامتحان، ولابد من الاختبار، ولابد من الابتلاء الذي يظهر به حال العبد، فهذه الفتن في قوله تعالى: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا)) [العنكبوت:2] فدل على أن الإيمان قول باللسان كما أنه عقيدة في الجنان وعمل بالجوارح والأركان كذلك هو قول باللسان {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] أي: لا يختبرون من الله عز وجل، فسبحان من يختبرهم! وطوبى لمن اختبر فنجح في اختباره مع ربه، فأظهر لله خلوص قلبه، وصدق إيمانه وصلاح قوله وعمله. أما الفتن التي يفتن الله بها العبد فهي تنقسم إلى قسمين: فتن في دينه، وفتن في دنياه. أما فتنه في دينه فهذه ترجع إلى ما يحدث من الشبهات والأذية؛ مثل ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من كلام كفار قريش لهم ومجادلتهم لهم ومعاداتهم لهم، كل ذلك من فتن الدين، أي: أن الله افتتنهم وامتحنهم بهذه الفتن؛ لكي يظهر صدق إيمان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتلاهم بالشدائد من فتن الدين، ولذلك لما جاء يوم الأحزاب قال الله عز وجل عنه: {إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] معناه أنه إذا وجد الإيمان وجدت الزلزلة ووجد الابتلاء ووجد الاختبار والامتحان من الله عز وجل، فزلزل الله الصحابة زلزالاً شديداً، ولكنَّ هذا الزلزال أظهر كمال إيمانهم وكمال إحسانهم وصدق إنابتهم إلى الله سبحانه وتعالى {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22]. والله يبتليك في نفسك ببلايا الدنيا، فهي -أيضاً- من الفتن، يلتزم الإنسان بدين الله فإذا به يفتن في نفسه فيجد الهموم ويجد الضيق النفسي والقلق والألم والحيرة وكل ذلك؛ لكي يقول: يا ألله، لكي يقول: اللهم إني أرجو رحمتك، لكي يفر إلى الله، ويلتجأ إليه، فيعود هذا البلاء رفعةَ درجةٍ وخيراً له في دينه ودنياه وأخراه، يبتليه في جسده فيفقده السمع ويفقده البصر فيقول: الحمد لله، ما دام ديني سالماً فإنني بخير، قال بعض السلف: ما ابتلاني الله ببليلة إلا كان له عليَّ فيها ثلاث نعم. الأولى: أنها لم تكن في ديني، والثانية: أنه لم يبتلني بما هو أعظم منها، والثالث: أنه رزقني الصبر عليها. فلذلك يحمد الإنسان ربه ويسترجع فيصبح امتحان الله له وفتنته له دليلاً على إيمانه. {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] لا والله بل إنهم يفتنون ويختبرون ويمتحنون من الله عز وجل؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة. قال بعض العلماء: مثل الفتن والمحن لقلوب المؤمنين كالذهب، إذا حك ازداد لمعانه واشتد ضياؤه وحسن بهاؤه، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل وأن يلطف بنا وبكم في الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.

موقف المؤمن من إقبال النفس على الطاعة

موقف المؤمن من إقبال النفس على الطاعة Q فضيلة الشيخ، هذا سؤال ذو شقين الأول يقول: ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان من ناحيتي الزيادة والنقصان، الثاني: كيف يتعامل الإنسان في مرحلتي الإقبال على الله في الطاعة والعكس؟ A أما بالنسبة لمذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان اعتقاد في الجنان وقول باللسان وتحقيق بالجوارح والأركان، تزيده الطاعة وينقصه العصيان، والدليل على زيادة الإيمان بالطاعة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] فأخبر سبحانه وتعالى أنه يزيد المهتدين هدى، وقال تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] فأهل الإيمان دائماً في زيادة وفي كمال وعلو من الله جل وعلا، فدلت هذه النصوص على أن الإيمان يزداد بالطاعة. وأيضاً ينقص بالمعصية كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن). فالإيمان ينقص بالمعصية وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بالنسبة لنقصان الإيمان وزيادته. أما بالنسبة لما سألت عنه من حال الإنسان في حال إقباله على الله، ونشاط نفسه على طاعة الله، وفي حال إدباره عن الله وضعف نفسه عن طاعة الله، فإذا أقبلت نفسك على طاعة الله فجد واجتهد، فتلك رحمة من الله لطف الله بك حينما أعطاكها. فاغتنم الأوقات واغتنم اللحظات إذا وجدت في نفسك انشراحاً للخير فاغتنمه بطاعة الله، وأما إذا وجدت من نفسك التقصير فأوصيك بوصيتين أوصى بها العلماء في حالة الفتور والضعف: الأولى: حدود الله لا تقربها. الثانية: حقوق الله وواجباته لا تضيعها. فإذا حفظت هذين الحقين: الواجبات أديتها والمحارم اجتنبتها؛ فأنت على خير -بإذن الله عز وجل- إذا أصابك الضعف فإياك أن يصل بك إلى تضييع واجب أو فعل محرم، فإذا كنت في هذه الحالة -في حال ضعف النفس- محافظاً على واجبات الله وفرائض الله، بعيداً عن حدود الله ومحارم الله فأنت على خير. فهذا مما ينبغي على المسلم أن يعتني به في حال ضعف إيمانه، وكمال إيمانه، لكن ينبغي على الإنسان إذا ضعفت نفسه أن يتفقد نفسه فيرى ما هي الأسباب -كما ذكرنا فيما قبل- وأن يأخذ بالأسباب التي تزيد في إيمانه لعلَّ الله أن يرحمه بها، والله تعالى أعلم.

وسائل معينة لترك العادة السرية

وسائل معينة لترك العادة السرية Q أنا شاب في السابعة عشر من عمري، أحب الإيمان والدعاة إلى الله، ووالله الذي لا إله إلا هو إني أحبك في الله، ولكن قد ابتلاني الله بابتلاءٍ، -أسأل الله أن يعافيكم مما ابتلاني به- ألا وهي العادة السرية التي كلما فعلتها أحس بنقص في الإيمان، وبعدها أندم وأجزم بأن لا أعود، ولكن يعاودني الشيطان والنفس الأمارة بالسوء فأمارسها، فما هي الأسباب وما العلاج؟ علماً بأني ملتحقٌ بحلقة تحفيظ للقرآن الكريم، وقد يؤثر علي ذلك في حفظي لكتاب الله، وجزاكم الله خيراً؟ A أولاً أحب أن أنبه على أن الأخ ذكر أنه ملتحق بحلقة التحفيظ، وبعض الناس إذا سمع أن إنساناً مطيعاً يفعل معصيةً ربما يسيء الظن بمن ينتسب إليهم، وهذا ينبغي التنبيه عليه، فإن الإنسان إذا وقعت منه المعصية قد تقع في حال ضعف، وقد تقع ابتلاءً من الله له بسبب ذنب بينه وبين الله، أو ذنب بينه وبين عباد الله، فأراد الله أن يعاقبه في الدنيا قبل الآخرة، وقد يكون مستدرجاً من الله، نسأل الله أن لا يجعلنا ذلك الرجل، فإن المستدرج لا يزال يبتلى بالعادة تلو العادة حتى يستدرج إلى الزنا ثم يختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله- لكن أسأل الله جل وعلا ألا يجعل صاحبنا ومن ابتلي بها من أهل الإيمان ذلك الرجل. أخي في الله، أوصيك أولاً بأمور: أولاً: أن تدعو الله عز وجل فسبحان من بيده القلوب! فإن قلبك إذا استقام، استقامت جوارحك، فسل الله جل وعلا أن يهبك قلباً خاشعاً يطمئن بذكره وينفر عن عصيانه، سل الله؛ فإن الله يجيب من دعاه. أما الأمر الثاني: فخذ بالأسباب، لا تجلس لوحدك، ولا تأت إلى فراشك إلا عند النوم وأنت تَعِبٌ. الأمر الثالث: أن تشغل وقتك بطاعة الله، فإن الطاعة تدعو إلى أختها، وإذا عمّرت وقتك بطاعة الله وذكر الله؛ أمنت الفتنة وسلم لك دينك وعصم الله عز وجل نفسك من معاصيه. والأمر الرابع: أوصيك -أخي في الله عز وجل- إذا ابتليت بهذه المعصية وضعفت نفسك أن تديم الاستغفار، وأن لا تقنط من رحمة الله عز وجل ولو عدت إليها ملايين المرات، حاول قبل الوقوع فيها أن تجاهد نفسك، فإن غلبك الشيطان وفعلتها فحاول أثناء فعلها أن تنزع، فإن ذلك خوفاً من الله، فإن غلبك وفعلتها فأرق من عينك دمعة الندم، وبث من قلبك الأشجان والألم لعل الله عز وجل أن يمن عليك بالعفو وهو أهل الكرم. فكن على إحدى هذه الثلاث المراتب، أولاً: أن تجاهد نفسك فإن الله يسمعك ويراك، ويطلع على سرك ونجواك، ويعلم تلك اللحظة وأنت في الصراع في داخل قلبك -أأقدم أو لا أقدم، أقدم أو أحجم- وأنت تصطبر وتتألم وتتأوه، فإذا نزعت في هذه الحالة فهي أكمل الحالات وأحبها إلى الله وأقربها زلفى عند الله، أن تأتيك المعصية فتبقى في جهاد مرير فتكون العاقبة أن تنجو بنفسك منها، لأنَّ الله لا ينجي العبد أثناء الوقوف أمام المعاصي وتيسر أسبابها إلا إذا أحبه، ولذلك يلطف الله بأحبابه كما لطف بيوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإنه لما وقف أمام المعصية لطف الله به؛ لأنه من عباده المخلصين، فهذه المرتبة الأولى أن تجاهد نفسك، وعود نفسك على ذلك. ثم الأمر الثاني: فإن اقتربت منها فاقترب متذمراً، واقترب ساخطاً متألماً، ولا تقترب ضاحكاً مسروراً، فإنَّ الله يمقت هذا الضحك والسرور، ولربما عاقبك الله على أُنسِك بها فغضب عليك، فإذا وقعت فيها وذقت أول لذاتها فاستشعر شيئاً من الآخرة فلعلَّ الله عز وجل أن يلطف بك، وينزعك عن هذه المعصية، فإن نزعت عند بداية العصيان، وعند بداية الذنب، فتلك رحمةٌ من الله جل وعلا، ولك عند الله منزلة، فإنَّ الله يبدل هذه الإساءة منك إحساناً، ويكون انتزاعك منها أثناء تلبسك بها في بدايتها دليل على حبك لله عز وجل، والله سبحانه كريم إذا أتيته بالعقبى التي فيها الإنابة محا ما كان من الإنسان في الأولى من الإساءة، فلعل الله -إذا رأى منك أنك تنزع أثناء المعصية- أن يغفر لك ما كان من العصيان. الأمر الثالث: فإن تمردت النفس وعتت، وطغت وبغت وتلذذت بهذه المعصية، وذقت حلاوتها فبمجرد أن تنزع عنها تب إلى الله وقل: أي شيء فعلت؟! وأي ذنب اقترفت؟! وما يدريني فلعل الله أن يكون غاضباً علي، وأكثر من الندم والاستغفار والتوبة إلى الله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وإذا أصبحت كلما فعلت العادة ترجع إلى الله بتوبة، وكلما يمكر الشيطان بك ويوقعك في هذه المعصية، تريق دمعة الندم وتتوب إلى الله، أبدل الله سيئاتك حسنات، وأغاظ الله عدوك الشيطان، فأصبح ما يكون منك من عصيان، رفعة درجة لك في العاقبة، وهذا من رحمة الله عز وجل، ولكن بالتوبة الصادقة، فإذا تبت إلى الله توبة صادقة بدل الله سيئاتك حسنات. فهذا مما أوصيك به، وأسأل الله العظيم أن يسلمنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.

الجمع بين حديث: (أيكون المؤمن زانيا؟ قال: نعم) وحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)

الجمع بين حديث: (أيكون المؤمن زانياً؟ قال: نعم) وحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) Q فضيلة الشيخ سائل يسأل يقول: ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن المؤمن يكون زانياً ويكون سارقاً فأجاب بنعم، ويكون كاذباً فأجاب صلى الله عليه وسلم بلا، وكيف نوفق بين هذا الحديث والحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)؟ A أما بالنسبة للحديث الأول والذي سئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم، أيسرق؟ قال: نعم، قالوا: أيشرب الخمر؟ قال: نعم، قالوا: أيكذب؟ قال: لا) قال العلماء: لأن أعظم الذنوب التي يعصى الله عز وجل بها الكذب، حتى إن الشرك فيه كذب على الله عز وجل، وافتراءٌ عليه، ولذلك تبوأ الكذب هذه المكانة -والعياذ بالله عز وجل من السوء والإثم- ولأن الكذب يتضمن فساد الظاهر والباطن، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون المؤمن كذاباً، وقال بعض العلماء: إن الإنسان إذا كذب وألف الكذب قل أن يستقيم له لسان -والعياذ بالله- على طاعة الله عز وجل، إذا كان لسانه دائم الكذب فإنه يلعنه الله عز وجل، فلا يستقيم له لسان على طاعة الله، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الكذب من علامة المنافق، فقال: (إذا حدث كذب) فالكذب لا خير فيه، فلعظيم ما فيه من النفاق والتدليس والغش بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن الصادق لا يتلبس به. وأما بالنسبة للزنا وشرب الخمر والسرقة، فإنه قد يسرق الإنسان وهو مؤمن، قد يسرق لوجود الحاجة ووجود الضرورة إلى المال، أو يسرق لغلبة الفتنة بالدنيا، ولكن مع هذا لا يصل إلى ما يصل إليه الكاذب، وهكذا بالنسبة للزنا، وصحيح أنه انتهاك للأعراض واقتراف لفراش المسلم، وأذية له، خاصةً إذا كانت المرأة متزوجة، ولذلك عد النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر أن يزاني الرجل بحليلة جاره -والعياذ بالله- فالزنا ذنب عظيم، وقد وصفه الله عز وجل بأنه: {فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]، ولكن لا يصل إلى ما يصل إليه الكذب؛ لأن الكذب يمكن أن يكون في مرحلة من المراحل سبباً في سفك الدماء، فلو جاء إنسان وكذب على قبيلة، وكذب على قبيلة أخرى، وأوقع بينهم الشحناء لسالت دماء بكذبة واحدة، فلذلك الكذب بلاؤه عظيم وشره كبير، وعظَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمره وأخبر أنه لا يصل إلى ما يصل إليه الزنا من الإثم والخطيئة. فقال العلماء: لعظيم ما يكون من الكذب إلى درجة أنه قد يكون سبباً في الشرك والكفر بالله عز وجل، نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عن المؤمن، بخلاف المعاصي التي لا يسلم الإنسان منها في بعض الأحيان؛ لضعفه وغلبة الشهوة عليه. أما الحديث الثاني وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وقوله في هذا الحديث: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم) فالجواب عن هذا كما يقول العلماء رحمة الله عليهم: أن قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي أنه لا يمكن أن يفعل الزنا وفي قلبه الإيمان بالله عز وجل، حتى ورد في الخبر أنه يخرج حتى يصير كالظلة عليه، فإذا انتهى من زناه وذنبه -والعياذ بالله- رجع ناقصاً عليه بقدر ما أصاب من الذنب، فلا يمكن أن يقع في حدِّ الله عز وجل من الزنا وإصابة هذا الحد العظيم إلا وعنده ضعف في الإيمان، ولذلك قالوا: لا يزني وهو مؤمن، أي: وهو يستشعر عظمة الله ويستشعر هيبة الله عز وجل، وهذا صحيح؛ لأن الله عز وجل أخبر أن أهل تقواه {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. فهذه الأحاديث كل حديث منها على وجه، والقاعدة في الأصول أنه لا يحكم بالتعارض بين النصين إلا إذا استويا دلالةً وثبوتاً ومحلاً، فمحل الحديثين هنا مختلف، حديث الذي ينفي الزنا من المؤمن -أي: أثناء الزنا- أن يكون مؤمناً مستشعراً لعظمة الله، والحديث الذي يثبت أنه يكون منه الزنا بحسب ما يكون منه من ضعف إيمان وتلبس بالعصيان، والله تعالى أعلم.

علاج مرض الشبهة والشهوة

علاج مرض الشبهة والشهوة Q كيف نعالج قلوبنا من مرض الشبهات والشهوات خاصة بالقرآن الكريم أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A أما مرض الشبهة فإنه مرضٌ يأتي بسبب ضعف الإيمان، فالشبهات ترد على الإنسان بضعف إيمانه، فيغذي إيمانه، أولاً: بسؤال الله أن يصرفها عنه وأن يثبته على الإيمان الذي يحول بينه وبين هذه الشبهات، فأول علاج لمن بلي بالشبهات والشكوك والوساوس والأذية في قلبه وفي صدره، أن يستعيذ بالله جل وعلا، لأن الله يقول في كتابه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] فأمر الله بالاستعاذة إذا حصلت الشبهة، فأكثر من الاستعاذة فإن الله يعيذ من استعاذ. أما الأمر الثاني: فأن تأخذ بالأسباب التي تبعد الشبهة عنك، فإذا كانت الشبهة من جليس سوء فابتعد عنه وإياك أن تجلس معه؛ لأن الله أمرك أن تقوم إذا ذكر الله بما لا يليق به في مجالس الظالمين {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]؛ فلا يجوز للإنسان أن يجلس في المجالس التي تثار فيها الشبه ويضعف فيها الإيمان. أما الأمر الثالث من الأسباب التي تعين على انصراف الشبهة: أن تأخذ بالأسباب التي تزيد في الإيمان، ومن أعظم ذلك تلاوة القرآن وتدبره، أن تختار لتلاوة كتاب الله أنسب الأوقات، وأن تقبل على كلام الله وأنت تحس كأن الله يخاطبك، وكأن الله يناديك، وكأن الله يوصيك، فإذا استشعرت بهذا الشعور دخلت الآية إلى سويداء قلبك وتغلغلت إلى جنانك وكان لها أطيب الأثر على جوارحك وأركانك، وكف الله بها عنك الوساوس والشكوك، القرآن فيه الحجج وفيه الآيات، وهذه الحجج والآيات تقوي القلب، وتجعل فيه الحصانة والقوة من هذه الشبهات التي ترد على القلب. أما مرض الشهوة فابتدئ بأسبابها، فما كان من أسباب تثير الشهوة فابتعد عنها، غض البصر عن الحرام، وعن استماع الفحش والآثام، واجعل جوارحك سليمة عن مظان الريب والفتن؛ فإن ذلك يعصم الله به قلبك، فإن الإنسان إذا حفظ سمعه وبصره صانه الله عن الشهوات، ولم يجد الشيطان عليه سبيلاً أن يعلق قلبه بها، ثم خذ بالأسباب التي تزيد في إيمانك حتى تقوى على البعد من الشهوات، وقال بعض العلماء: إن عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم من أعظم الأسباب التي توقع الإنسان في الانتكاسة بشهوة أو شبهة، فيبتعد الإنسان عن عقوق الوالدين وأذية الوالدين, وقطع الأرحام، لأن الله يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] قال: أصمهم فلا ينتفعون بموعظة، وأعمى أبصارهم فلا يهتدون ببصيرة -نسأل الله السلامة والعافية- وكل ذلك بسبب قطيعة الرحم، فأكثر ما يقع الإنسان في شهوة أو شبهة إما بذنب بينه وبين الله وإما بذنب بينه وبين عباد الله. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.

الرياء وحب الشهرة

الرياء وحب الشهرة Q فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا طالب علم وعندي رغبة شديدة في الطلب -ولله الحمد- إلا أنني أجد ميلاً إلى الشهرة وأن يشار إلي بالبنان، ويعلم الله أني أكره هذا الشعور؛ لأنه ينافي الإخلاص، وحاولت دفعه عن نفسي فلم أستطع فهل من نصيحة ينفعني الله بها؟ أعظم الله لكم الأجر. A الشهرة مصيبة، وحب النظر فتنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعلم العلم ليماري به السفهاء أو ليجادل به العلماء -وفي رواية: أو ليصرف وجوه الناس إليه- فليتبوأ مقعده من النار). فالعلم يراد به وجه الله، ولا يراد به أي شيء سواه، وكان بعض السلف إذا أراد أن يحُدث قيل له: حدثنا، قال: حتى تأتي النية، كانوا يخافون من النيات وحب الشهرة وحب الظهور، وقال سفيان الثوري رحمه الله: [ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، إنها تتقلب علي] وهو إمام من أئمة السلف في الصلاح والورع. فحب الظهور، وحب الشهرة، وحب التفاف الناس ونظر الناس فتنة، ويأتي صاحبها يوم القيامة بين يدي الله وقد عمل الصالحات والأعمال الطيبات، (فيقول الله: ماذا أردت بهذا، فيقول: يا رب أردت وجهك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، إنما تعلمت وليقال فلان عالم وقد قيل، اذهبوا به إلى النار) نسأل الله السلامة والعافية. وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا حدَّث بهذا الحديث غشي عليه ولربما يغشى عليه ثلاث مرات، يغشى عليه فيفيق، ثم يغشى عليه فيفيق، ثم يغشى عليه فيفيق رضي الله عنه وأرضاه من شدة أمر الإخلاص في العلم. لذا ينبغي على الإنسان أن يوطن نفسه بالإخلاص قبل العلم، وقد يصاب طالب العلم في بداية طلب العلم بحب الشهرة، ولكن إذا أراد الله به خيراً كسر قلبه في آخر العلم، ولذلك قالوا: أول العلم طفرة وغرور وآخره إنابة إلى الله جل وعلا وخشية. فالعلم قد يكون في أوله شيء من الزهو، فينبغي على طالب العلم ألا يسترسل مع هذه الآفات؛ لأنه ربما يجد من يزكيه ويثني عليه، فلا تغتر بهذا، تعلق بالله فإنه نعم المولى ونعم النصير، والله! إذا رضي الله عنك، وسخطت عنك الخليقة كلها لم يضرك سخطها، وإذا سخط الله عنك ورضيت عنك الخليقة كلها، لم ينفعك شيء أن تكون راضية عنك، تعلق بالله، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه، والغرور والزهو لا فائدة فيه، تصوَّر لو أن الأنظار رفعت إليك والأسماع أصغت إليك ثم انتهى كل شيء، ما الذي تجنيه من نظر الناس واستماعهم والتفافهم حولك إلا أجرٌ ترجوه لآخرتك، فالإنسان العاقل الحكيم لا يلتفت إلى مثل هذا، فالغرور والشهرة وحب الظهور والعجب بالنفس من آفات القلوب، ولذلك قال مطرف بن عبد الله الشخير وهو من أئمة السلف: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً]. فالإنسان الحكيم العاقل لا يلتفت إلى الدنيا فمتاعها قليل وما عند الله خير وأبقى، إن العمل القليل الذي يراد به وجه الله أعظم لأجرك، والعمل الكثير الذي لا يراد به وجه الله لا خير فيه {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] فالله الله أن تجعل علمك وتعليمك هباءً منثوراً، الله الله أن تذهب عليك ساعات ليلك وساعات نهارك دون أن تجني بها حسنة عند ربك، نسأل الله العظيم أن يسلمنا من هذه الفتن وأن يعيذنا منها، والله تعالى أعلم.

الإحسان إلى الوالدين واجب مع الصبر عليهما

الإحسان إلى الوالدين واجب مع الصبر عليهما Q أنا شاب أحب الخير لنفسي وللناس، ولكن والدي يسرف على نفسه بالمعاصي من استهزاء بالدين وإطلاق القبيح من السباب والألفاظ ولا يتورع عن ذلك، ومع ذلك فأنا أخاف عليه خوفاً شديداً حتى أنه أحياناً يأمرني بأشياء لا ترضي الله، فماذا أفعل تجاه هذا الأب، رغم أني إنسان مقصر في جنب الله أيضاً؟ وجزاك الله خيراً. A أما ما ذكرته -أخي في الله- من تذكيرك بالله ودعوتك إلى الله؛ فلا خرس لسان منك داعياً إلى الله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] لا أحسن مما تقول ما دام أنه ذكر لله، ولا أطيب مما نطقت به ما دام أنه دعوةٌ إلى الله، فلا أحسن من هذا الكلام الذي تتكلمه، فأسأل الله العظيم أن يعظم به الأجر لنا ولك ولجميع المسلمين. فالدعوة إلى الله عماد الدين، وهي الخير لعباد الله المؤمنين، فاستدم على ما أنت عليه ثبت الله قلبك ولسانك. أما الوصية الثانية: فلا يضعفك تقصير الأب في جنبك وجنب الناس، وإياك أن يأتيك شيطان الإنس والجن ويقول: أنت تعظ الناس وأبوك في غفلة، فما ضر عكرمة كفر أبيه، ولا ضر الصحابة رضوان الله عنهم ما حصل من تقصير من عشيرتهم ومن قرابتهم، عليك نفسك والله حملك أمرها، فإن استجاب الناس لك فالحمد لله، وخير من الله، وإن لم يستجيبوا؛ فألق الأحمال وأعذر إلى الله الكبير المتعال، وسر إلى الآخرة وقد بلَّغت رسالة الله، وأديت شريعة الله إلى عباد الله، فلا تضعف بتقصير الوالد. وأما ما كان من أذية من أبيك؛ فاصبر رحمك الله على أذيته، واصطبر على ما كان من بليته، فإن الله يعظم أجرك، ولا تقصرنَّ في بره، فإن أبلغ البر إذا آذاك أبوك، ولعلك من التزامك وطاعتك لربك وهدايتك سلط الله عليك أباك؛ لكي يرفع من درجاتك ويعظم من حسناتك، ويكفر ما كان من خطيئاتك وزلاتك، فاصبر رحمك الله، وكثير من الأخيار إذا التزموا أوذوا من الآباء وأوذوا من الأمهات ومن الإخوان والأخوات وهذه الأذية كلها ابتلاء من الله جل وعلا، فاصبر واصطبر ولا يمنعك أذية الوالد لك أن تبره، فإن سعداً رضي الله عنه وأرضاه لما عصت أمه ودعته إلى الكفر وامتنع من ذلك أنزل الله عز وجل عليه: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15]. فبر أباك وأحسن إليه ولعل الله أن يجعل من برك له سبباً في هدايته وصلاحه، نسأل الله له ولجميع المسلمين التوبة والإنابة والله تعالى أعلم.

حكم كشف الطبيبة على الرجال والطبيب على النساء ونصيحة للنساء

حكم كشف الطبيبة على الرجال والطبيب على النساء ونصيحة للنساء Q نريد منك نصيحة للنساء أو موعظة. وهل يجوز للطبيب أن يكشف على المرأة؟ وهل يجوز للطبيبة أن تكشف على الرجل؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأما ما ورد في السؤال من حكم كشف المرأة على الرجل وكشف الرجل على المرأة فإنه إذا وجدت الحاجة فلا حرج في ذلك، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر النساء بخروجهن معه في الغزوات، قالت أم عطية رضي الله عنها كما في الصحيح: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نداوي الجرحى ونسقي المرضى). لا حرج في كشف الرجال على النساء والعكس إذا وجدت الحاجة، أما إذا وجد الطبيب من الرجال للرجال، ووجدت الطبيبة من النساء للنساء، فحرام على المرأة أن تذهب إلى الرجل، وحرام على الرجل أن يذهب إلى المرأة، فلا يجوز كشف الرجال على النساء، ولا كشف النساء على الرجال إلا من ضرورة وحاجة، وتتحقق الضرورة أولاً بوجود المرض، وبوجود الشكوى من المريض، أما إذا لم توجد الشكوى وكان الفحص فحصاً فضولياً أو كمالياًَ فإنه لا يجوز لها أن تكشف ولو لم تجد رجلاً. الأمر الثاني بعد وجود الحاجة: أن تؤمن الفتنة من ذلك الكشف، فيكون الكشف بالوجه المعروف الذي أذن الله عز وجل فيه، فيكشف الطبيب عن المحل المحتاج لعلاجه، ويتقيد بالنظر على قدر الحاجة دون زيادة في الزمان ودون توسع في المكان، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة إذا كشفت على الرجل، أما إذا وجد البديل فإنه كما قلنا يحرم على الرجال أن يكشفوا على النساء ويحرم على النساء أن يكشفن على الرجال. أما ما سألتيه من تذكير أخواتك المسلمات فاعلمي أختي المسلمة أن الله يرضى لك الطاعة ويكره لك المعصية، استقيمي على طاعة الله فإن الله يحب المطيعين، وأكثري من ذكر الله فإن الله يحب الذاكرين، وخذي بخصال الخير التي توجب رحمة الله وأعظمها بر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى ما عندك من الأبناء والبنات، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن، وأدبهن فأحسن تأديبهن إلا كن له حجاباً من النار) فأحسني إلى أبنائك وبناتك، واتقي الله في ليلك ونهارك، وأحسني إلى بعلك، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة: (فأيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ؛ دخلت الجنة) فأحسني إلى البعل وأكرمي العشير، فما رأيت من خير فاحمديه، واشكري الله عز وجل على ما كان منه من خير، وما رأيت من شر وسوء فاستريه لعل الله أن يسترك في يوم تنكشف فيه السرائر والفضائح. أحسني إلى الجيران فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) أحسني إلى الجيران بالإحسان إليهم بالمال بالإحسان إليهم بالدعوة إلى الخير بستر عوراتهم وتفريج كرباتهم، واحتسبي عند الله الجميل. الوصية الأخيرة: أن تكفي اللسان، فإن اللسان مطية إلى النيران: (قال: يا رسول الله! أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!) أمسكي عليك اللسان، وإياك والقيل والقال، وما اشتمل عليه من الغيبة والنميمة، ولا تلمزي إماء الله، واتقي الله عز وجل في أخواتك المسلمات وثبتي القلوب على الطاعات تستوجبي من الله جزيل المكرمات والله تعالى أعلم.

قسوة القلب

قسوة القلب رقة القلوب مهمة في حياة الداعية وطالب العلم وغيرهما؛ لذلك جاءت هذه الكلمات النيرة لتوضيح وتفصيل الأمور التي تيسر السبيل إلى رقة القلوب، فلتلتزم علّ الله أن ينفع بها.

أهمية القلوب التي في الصدور

أهمية القلوب التي في الصدور الحمد لله علام الغيوب، مفرج الهموم والغموم ومنفس الكروب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب الأبصار والقلوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي بعثه بالهدى ودين الحق فأنار به السبل والدروب، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم المبارك، ما آذنت شمس بغروب. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: إخواني في الله: في الجسد مضغة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها أنها (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) هذه المضغة هي محل نظر الرحمن، ومنزل التوحيد والإيمان، اختارها الله تبارك وتعالى لكي تكون محط الإيمان به، الذي هو أعز وأشرف صفة يتخلق بها عبد الله في هذه الحياة، وما قامت السماوات والأرض ولا كان الحساب والسؤال والعرض إلا لأجل الإيمان. هذه المضغة: هي محل هذا الأمر العزيز عند الله عز وجل، ولو وجد الله في الجسد مضغة أعز عليه منها لجعلها مسكناً للإيمان والتوحيد. لذلك أحبتي في الله كم نظر الله عز وجل إلى هذه القلوب، فأحبها وأحب أهلها، وكم نظر إلى هذه القلوب، فآذنها بغضب منه وعذاب.

القلوب محل نظر الرحمن

القلوب محل نظر الرحمن القلوب هي محل نظر الرحمن، فكم من أمة اجتمعت على طاعة بينها كما بين السماء والأرض صلاحاً وفلاحاً بسبب القلوب، كم من أناس جمعتهم المساجد، وقاموا مع كل قائم وركعوا مع كل راكع وسجدوا مع كل ساجد، ولكن بينهم كما بين السماء والأرض؛ لأن القلوب اختلفت والأفئدة تباعدت، فأفئدة لا تعرف إلا الله، وقلوب ما سجدت إذ سجدت إلا لوجه الله، وقلوب ما انتصبت أقدامها إلا وهي ترجو رحمة الله، وقلوب ما نطقت بذكره ولا لهجت بشكره إلا وهي ترجو رحمة الله، إنها قلوب المخلصين، إنها قلوب المتقين العابدين، التي استقر فيها الخوف والخشية من إله الأولين والآخرين. القلوب وما أدراك ما القلوب! هي الميزان عند الله عز وجل، حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد شارب الخمر الذي عصى الله ورسوله فطفق الصحابة يسبونه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم إنه يحب الله ورسوله) إنه يحب الله ورسوله، فظاهره الفسوق، وباطنه المحبة لله عز وجل، فكم من ظواهر تبطنت جواهر لا يعلمها إلا الله عز وجل، ورب أشعث أغبر ذي طمرين، إذا رأيته احتقرته في ملبسه، واحتقرته في منظره وهيئته، تبطن قلباً وأي قلب! له عند الله مكان وجلال وهيبة، لو أقسم على الله لأبره، ولو كاده أهل السماوات والأرض لأعزه الله وما أذله. إنها القلوب التي اختارها الله عز وجل لكي تكون معادن الإيمان والإخلاص للرحمن، لذلك كم تنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات، وكم حذرت في الكتاب والسنة وعلى المنابر من عظات باللغات، تقود هذه القلوب إلى الله وتدلها على رحمة الله، وتريد منها استكانة وخشوعاً وخضوعاً وذلة لله عز وجل.

القلوب هي الميزان في صلاح العمل

القلوب هي الميزان في صلاح العمل أحبتي في الله: القلوب هي الميزان في صلاح العمل، هي الميزان في القرب من الله عز وجل والتعلق في الله عز وجل، حتى ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أبي بكر الصديق، الإمام الجليل، والصحابي الكريم، أفضل الصحابة وأعلاهم عند الله عز وجل مكاناً وشأناً، فدى رسول الله بروحه وماله، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مثواه، هذا الصحابي الجليل نال هذه المرتبة العظيمة بفضل الله، ثم بشيء وقر في صدره، وبإيمان ثبت في قلبه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنه لم يسبقكم بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في القلب) وما هو ذاك الشيء سوى اليقين والتعلق بالله رب العالمين، والاستكانة والذلة والإخلاص في العبودية لله إله الأولين والآخرين. وليس هناك قضية يحتاج المؤمن إلى علاجها وصلاحها وإصلاحها مثل قضية قلبه وفؤاده، نحتاج إلى وقفة مع هذه القلوب، نحتاج إلى وقفة مع هذه الأفئدة التي طال بعدها عن الله وعظمت غربتها عن الله، فكم من شابٍ اهتدى واستمسك بسبيل المحبة والرضا، ولكن في قلبه من القسوة ما لا يشتكى إلا إلى الله جل وعلا، كم من شباب تفطرت قلوبهم وأفئدتهم حزناً يتمنون قلباً رقيقاً، يتمنون من الله عز وجل أن يرزقهم قلوباً تذل لوجهه وترق لجلاله وعظمته، حتى إذا ذكرت بالله اطمأنت وإذا بصرت بالخير اهتدت، فهي أمنية عزيزة عند عباد الله الأخيار. صلاح القلوب ولينها ورقتها وخشوعها لله علام الغيوب، أعز أمنية وأشرف مطلوب.

ضرورة الاعتناء بترقيق القلوب

ضرورة الاعتناء بترقيق القلوب لذلك أحبتي في الله! قسوة القلب ولينه، رقة القلب وغلظه، أمر عظيم، حتى إن الله عز وجل أخبر نبيه، أن صلاح أمور الدعوة إلى الله تقوم على رقة الداعية إلى الله، قال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ولو كان قلبك قاسياً لانفضت هذه الجموع الرقيقة الرفيقة من حولك يا رسول الله. لذلك أحبتي في الله! رقة القلوب يحتاجها أحب العباد إلى الله وهم أنبياؤه والهداة والدعاة إلى الله، وطلاب العلم، وعامة الناس وخاصتهم، وإذا لم تلن القلوب لله فلمن تلين القلوب؟ وإذا لم تذل القلوب لله فلمن تذل القلوب؟ وإذا لم ترق القلوب لكلام الله فلمن ترق القلوب؟ فبأي شيء تلين تلك القلوب؟ أحوج ما نحتاجه أن تكون هذه القلوب رقيقة، حتى إذا قيل لها: قال الله، خشعت واطمأنت وخضعت وأذعنت لله عز وجل، نحتاج إلى رقة القلوب حتى إذا وقف المؤمن تلك الوقفة التي تحتاج إلى القلب الرقيق عل الله أن يرفق به كما رفق بعباده، فيجد من الله نفحة من رحماته. ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث السنن: (أن الراحمين يرحمهم الله) وهل رحمة القلوب إلا بلينها؟!! بل ثبت في الحديث الصحيح عن المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم: (أنه مر عليه الأقرع بن حابس وقد وضع صبيه في حجره يقبله صلوات الله عليه وسلامه من حنان قلبه وفؤاده ولينه، فقال له: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت واحداً منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) أي أيُ شيء أملكه ما دام الله قد نزع الرحمة من قلبك. فلين القلوب يحتاجه الوالد مع ولده، وتحتاجه الوالدة مع ولدها، أمنية عظيمة وغاية سامية كريمة، لا تصلح الأحوال إلا بها بإذن الله عز وجل، ومتى وجدت الأب ذا حنانٍ ورحمة بابنه وبابنته، وجدت ذلك البيت ترفل فيه السعادة، ومتى وجدته حليماً رحيماً بأهله وزوجه رحمه الله، فجعل بيته تضفي عليه السعادة خيراً كثيراً. وكذلك إذا وجدت تلك الأم المسلمة المؤمنة الحقة تضفي على أبنائها حنان القلب النابع من رقة الفؤاد وجدت صلاح ذلك البيت وفلاحه، ومن هذا كله نعلم أن رقة القلوب وذلتها لله، نحتاجها في جميع شئوننا وفي جميع أحوالنا، حتى مع أهلينا وبناتنا. يحتاجها الداعية إلى الله في دعوته، حينما يكون رحيماً بالناس رفيقاً بهم كما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم، يحتاجها طالب العلم، حتى إذا جلس في مجالس العلماء، جلس بقلب يجل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهل توجد حلاوة طلب العلم إلا بعد ذلة القلوب ورقتها؟ ومتى وجدت طالب العلم يجلس في مجالس العلم، بقلب خاشع رقيق ذليل لله عز وجل، وجدت فيه سكينة ووقاراً وبهاء. ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [كان الرجل إذا طلب العلم ظهر ذلك في وجهه وفي يده وفي لسانه وفي تخشعه] أي: أصبح خاشعاً لله عز وجل. إذاً: لا بد من رقة القلوب، ولذلك إذا عزبت هذه الخصلة الكريمة وغابت هذه الصفة التي هي صفة رحيمة عن الإنسان وأصبح قلبه بخلاف ذلك تدمرت حياته، وتنغص عيشه، وتكدر خاطره، وكان من العناء والبلاء ما لا يعرفه إلا رب الأرض والسماء، فما الذي أفسد الدعوة على الداعية إلا غلظه على العباد، وما الذي أفسد الزوجة على زوجها والزوج على زوجته إلا القلوب القاسية التي لا تراقب الله في المعاشرة الزوجية. وكذلك ما أفسد الأبناء وجعل أبناء المسلمين يعيشون ليلهم في حيرة وقلق، حتى ضاع الأبناء وضاعت البنات عن الحنان والرقة والرحمة الأبوية، إلا فوات هذه الخصلة الكريمة، خصلة الكرام وأهل الإسلام: رقة القلوب وإنابتها إلى الله عز وجل. أحبتي في الله: إذا غابت عظم البلاء واشتد العناء، وشهد الله عز وجل من فوق السماء، أنها سبب في البلاء وأي البلاء، بل إنه توعد من فقد هذه الخصلة بوعيد شديد، وعذاب من الله أكيد، فقال سبحانه وتعالى وهو الحميد المجيد: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] ويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، ويل لقلوب تسمع القرآن ولا تخشع عند سماعه، ويل لعيون ذكرت بكلام الله فلم تسح بالبكاء من خشيته، وويل لأسماء ذكرت بوعد الله ووعيده فلم تصغ لكلامه، ويل في الدنيا وويل في الآخرة. ولذلك تجد أصحاب القلوب القاسية في عذاب من الله وعناء، ولو كان الواحد منهم على الفراش الوثير وفي العز والنعمة والخير والجاه والغنى، لكنه يحس أنه في قلق نفسي واضطراب شخصي، لا يقر قراره ولا ترتاح نفسه بسبب هذه الخصلة التي لا يحبها الله. إذا قست القلوب وعد الله عز وجل أهلها بنكد العيش ونغصه وعذابه. لذلك -أحبتي في الله- صفات القلب الحبيبة إلى الله، من أجلها ذلتها ورقتها وخشوعها لله، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل الله وضرع إلى الله أن يعيذه من قلب لا يخشع لوجهه، فقال: (اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع).

الأسباب التي تعين على رقة القلوب

الأسباب التي تعين على رقة القلوب متى بلي الإنسان بقسوة القلب، تنغص عيشه بوعد من الله عز وجل. لذلك -أحبتي في الله- يحتاج المؤمن إلى من يذكره بما يعين على رقة قلبه وفؤاده وما لانت القلوب بشيء مثل سؤال الله ملك القلوب أن يقلبها على الرحمة والرقة، فلذلك كلنا يسأل: كيف السبيل إلى رقة القلوب؟ وكيف السبيل حتى تكون القلوب رقيقة حليمة رفيقة، قريبة من الله، ترجو رحمة الله، وتخشع عند كلام الله، علها تفوز برضوان الله.

السبب الأول: الدعاء

السبب الأول: الدعاء إن أعظم الأسباب التي تعين على رقة القلوب وذلتها لله: الدعاء، وما شرح الله صدر عبد بالدعاء إلا أعطاه مسألته، حتى قال بعض السلف: إني لأعرف متى يجيب الله دعائي، إذا شرح صدري لدعائه. فالله من كرمه لا يشرح صدرك لدعائه إلا وهو متفضل عليك، فليكن أول ما يراه الله من العبد الذي يريد رقة قلبه وفؤاده أن يرفع الكف الصادقة إلى الله، ويسأله أن يهبه قلباً رقيقاً، فكم من أقوام كانت قلوبهم أقسى من الحجارة، ولكن ضرعوا إلى الله عز وجل فلانت، وما أعظم لينها! ولقد كان الرجل في الجاهلية الجهلاء من أعتى الناس وأشدهم فسقاً وفجوراً واعتداءً لحدود الله، ولكن ما إن رحمه الله برحمته ونفحه بفضله إلا وأصبح من أرق الناس قلوباً. عمر بن الخطاب، كان رضي الله عنه في الجاهلية شديداً على الإسلام قوياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجاءت لحظة واحدة قلب الله قلبه، فأصبح من أرق الناس قلوباً، وكان رضي الله عنه إذا قام في الصف يتلو آيات الله خنقته العبرة حتى يُسمع نشيجه من ثالث الصف أو آخر القوم، وما ذلك إلا بفضل الله. فأول ما يفعله الإنسان الذي يريد أن يكرمه الله برقة قلبه وفؤاده أن يدعو الله في صباحه ومسائه، وفي مظان الإجابة أن يرقق قلبه لذكره ويهبه القلب الرقيق الذي تستدر به رحمات الله، وتنال به الدرجات من عند الله عز وجل، قل: اللهم إني أسألك قلباً رقيقاً، واستعذ بالله عز وجل من قلب لا يخشع.

السبب الثاني: تذكر منازل الآخرة

السبب الثاني: تذكر منازل الآخرة أما السبب الثاني الذي هو من الأسباب التي تعين على خشوع القلوب وذلتها لله تبارك وتعالى: أن يتذكر الإنسان منازلاً لا بد من نزولها، ومواطن لا بد من حلولها، أن يصير الإنسان من هذه الدنيا إلى دار قريبة ومنازل عجيبة، يعيش أشجانها وأحزانها، وبين أهلها في أتراحها وأفراحها، أن يزور المقابر وأن ينظر إلى أهل تلك المقابر بعين متفكرة متأملة، في تلك القبور المتدانية، والمنازل المتقاربة، والتي بينها من النعيم والجحيم ما لا يعلمه إلا الله. كم من قبور تقاربت بينها وبين الرحمة والعذاب ما لا يعلمه إلا الله، قبور في أعالي النعيم، وقبور في دركاتٍ من الجحيم ينادون ولا مناد، ويستغيثون ولا مغيث، ويستجيرون ولا مجير، فينظر في أحوالهم ويتذكر كيف لو صار إليهم، وزف بين العباد إلى منازلهم، كم من قبور في الظلمات، وفي الكهوف ملئت أنواراً ورحمات، وكم من قبور حولها الناس يضحكون ويلعبون، ويسرحون ويمرحون، فيها العويل والصراخ، وفيها الفزع الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل. ما نظر المؤمن إلى هذه المنازل ولا تفكر في هذه المواطن إلا جاءه قلبه خاضعاً وفؤاده من خشية الله ذليلاً خاضعاً والعين من خشية الله دامعاً. أحبتي في الله: ما دخل ذكر الآخرة إلى قلب إلا لان لله عز وجل، فالمؤمن الصادق لزيارة المقابر حظ عنده، يزورها ما استطاع زيارتها، ويقف عندها وكأنه من أهلها، ينظر إلى الإخوان والأخوات، ينظر إلى الأحباب، والأصحاب والخلان، والآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد، وينظر إلى ما هم فيه، ويتفكر كيف هم فيه، عله أن يكسر الله عز وجل قلبه من خشيته، فوالله ما استقر ذكر الآخرة في قلبٍ إلا أناب إلى الله، وما الذي أقض مضاجع الصالحين فكانوا {قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] غير ذكر الآخرة، تذكروا منازلها، وعاشوا بين أهلها، فكان حظهم من الليل قليلاً، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] تتجافى جنوبهم عن المضاجع؛ لعلمها أنها ستضطجع في تلك المضاجع. لذلك أحبتي في الله: فإن كان القلب قد وجد الرقة في هذا المشهد وتذكر هذه المنازل وعاش بين أهلها في السرور وفي الشرور، عندها يجد الإنسان رحمة الله بلين قلبه، فإن أصر القلب على العناد واستمر في القسوة عن ذكر رب العباد فخذه إلى منزلة من هذه المنازل، وذكره بصيحة تفزع فيها تلك القبور، وتبتدأ عندها معالم الهول والنشور، ذكره بتراب ينفض عن الأجساد، وبخروجهم من بين تلك الأحجار والأشجار والأعواد فرادى إلى الله، مرتهنين بالأقوال والأعمال، عله أن يرق من خشية الله ويخضع وينيب إلى الله، فإن أبى وأصر! فذكره بمقام طويل وشمس تدنو على الرءوس، ويذكر الجسد بحر شمس الدنيا علَّه أن يحس ببعض لهيبها، لعله أن يتذكر طول القيام بين يدي الملك العلام، فعندها يأبى ذلك القلب إلا خضوعاً وذلةً لله عز وجل، فإن أبى فذكره بالصراط وزلته، والحساب وشدته، والسؤال ومؤنته، وذكره بذنوب خلت في أزمنة مضت، لا يدري المؤمن هل كفي حسابها، وهل ستر عقابها. ذكره بالخطايا والذنوب والرزايا، عله أن يعي مكانه عند الله، ويعلم أن المقام بين يدي الله شديد عليه، فيذل لله عز وجل وينطرح بين يديه، ذكره هذه المشاهد، وأقم له هذه المواقف، عله أن ينكسر من خشية الله، ووالله ما استقر خوف الآخرة في قلب عبدٍ إلا أناب إلى الله عز وجل. وما أخبار السلف وأخبار من مضى من الصالحين هذه الأخبار العجيبة ما كانت ولن تكون بشيء أعظم من توفيق الله عز وجل ثم ذكر الآخرة.

السبب الثالث: تلاوة القرآن مع التدبر

السبب الثالث: تلاوة القرآن مع التدبر وأما السبب الثالث الذي يعين على رقة القلوب: فـ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، كتاب لو نزلت آياته على الجبال لاندكت ولو نزل على الرواسي من خشية الله لانهدت، عرضت أماناته وعباداته ومعاملاته على {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72]. هذا الكتاب الذي سمعته الجن فقالت: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1 - 2]. هذا الكتاب ما إن تصغي أذن إليه وتستحضر مجلساً يذكر به العبد بآياته وعظاته إلا وأثر في الفؤاد، ولذلك أخبر الله عز وجل عن حال من تدبر هذا القرآن وتفكر به، وأنه يجني ثماره الخيرة في دينه ودنياه وآخرته، فقال تقدست أسماؤه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] ما استطاع الواحد منهم أن يتمالك دمع عينه؛ بسبب ما وقر في قلبه من كلام الله عز وجل، كتاب الله حبله المتين، الذي ما تمسك به أحد إلا نجا، جعله الله شفاء لما في الصدور، وموعظة من الله عز وجل الجليل الغفور. هذا الكتاب إذا أردت أن يخشع قلبك ويلين لله عز وجل فأكثر من تلاوته، وإذا تلوت القرآن فاعمل ما يأتي: أولاً: تتلوه وأنت ترجو رحمة الله عز وجل، إذا وضعت القرآن في حجرك فضعه وليس في قلبك إلا الله، ضعه وأنت تحس أن الله يخاطبك، ضعه وأنت تحس بأنها رسالة جاءتك من ملك الملوك، حتى إذا وضعته بذلك القلب المخلص الذي لا يريد إلا رحمة الله، لو أن الخلق أمامك فإنك تتمنى لو قرأت القرآن بينك وبين الله من إخلاصك وعمارة قلبك بالإخلاص. فأول خصلة لمن يريد أن يخشع قلبه لذكر الله أن يكون مخلصاً في تلاوته. ضع القرآن وأنت تتفكر وتستشعر عظمة هذه الرسالة وعظمة من أُرسل بها وعظمة من أرسله، حتى إذا جلست بهذا الشعور وقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أحسست أنك بحاجة أن يعصمك الله عز وجل من عدوك اللدود، فجاءك من الله التيسير والفتح، فأصبحت في حرز وحصن من الله، تستفتح الآية الأولى وأنت تتدبرها وتتفكر فيها، وتستشعر معانيها، والله إن الآية من كتاب الله، إذا تليت بقلب يستشعر معناها ويحس ما فيها، والله قد تبقى مع الإنسان سنين عديدة، آية واحدة من كتاب الله: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11]. كل الآخرة يجمعها لك في آية واحدة، وكل الدنيا خيراً وشراً نفعاً وضراً في آية واحدة، فإذا قرأتها وأنت تستشعر عظمة هذا الكتاب وتتفكر في هذه الآية التي تتلوها، فإنه في بعض الأحيان إذا كان الإنسان يستشعر لذة هذا القرآن وحلاوة آياته لا يستطيع أن يجاوز آية واحدة. والله لو أن القلوب صادقة في تلاوة كتاب الله، لما استطاعت أن تجاوز آية من الوعد والوعيد من كلام الله عز وجل، ولذلك كان بعض السلف يستفتح قيام الليل بآية لا يزال يرددها والبكاء يغلبه. عمر بن الخطاب رضي الله عنه استفتح قيام الليل فقال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] فما استطاع أن يكملها وهو يرددها من البكاء ويغلبه النشيج {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] عن أي شيء يتساءلون، فسمت نفسه إلى عالم غير العالم الذي هو فيه {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:2 - 5] من يقرأ هذه الآيات؟ كيف يكون أثرها في قلبه؟ {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:1 - 11]. أبان لك عاقبة الجماد والحي؟ {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:1 - 4] هذا هو الشخص المطلوب {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} [القارعة:4] الأمة المحشورة والمنشورة، أول قضية هي قضية العبد المسئول. ثم كأن سائلاً يسأل: عرفنا مصير الخليقة فما مصير هذا الجماد؟ قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] ولذلك ما نظرت عين إلى الجبال فنظرت طولها وارتفاعها في عنان السماء إلا احتقرتها عند عظمة الله عز وجل، حينما تتذكر هذه الآية: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] كالعهن المنفوش أي: كالصوف المنفوخ الذي لا يستقر حاله. هذه الجبال الراسيات حينما يتذكر الإنسان في هذه الآيات اليسيرة كيف لا يرق قلبه، وكيف لا يخشع فؤاده، والله إن قلباً يقرؤها ولا يجد أثرها إنه من القسوة بمكان، إذا قرأها الإنسان ولم يجد لها أثراً في فؤاده فليبك والله على قلبه وفؤاده.

الاستكثار من الصالحات وذكر رب البريات

الاستكثار من الصالحات وذكر رب البريات وأما السبب الرابع الذي يعين على رقة القلوب وقربها من الله عز وجل: الاستكثار من الصالحات وذكر رب البريات، فوالله ما أدمن عبد طاعة الله إلا شرح الله صدره لطاعته، وكم من أناس اهتدوا وابتدءوا طريق الالتزام وهم في قسوة وبعد عن الله، وما زالوا يتدرجون في الصالحات حتى أصبح الواحد منهم إذا تلا الآية لا يتمالك عينه، ولذلك يستكثر الإنسان من خصال الخير، فإن الاستكثار منها تنشرح به الصدور، وتطمئن بها للحليم الشكور. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم رقة القلوب وخشوعها، وإنابتها لوجهه وخضوعها. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، ومن علم لا ينفع، نعوذ بك من هؤلاء الأربع. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].

الأسئلة

الأسئلة

أفضل الكتب المرققة للقلوب

أفضل الكتب المرققة للقلوب Q ماذا تنصح من الكتب في أحوال القلوب جزاك الله خيراً؟ A هناك كتاب حبذا لو أن الإخوان يكتبونه وينتبهون إليه ويحصلون عليه وهو القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي أضعناه يا عباد الله! نبحث عن كتب القصص والأحداث والأخبار وكلام العباد، ولدينا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]. يا ليتنا نحس بقيمة هذا الكتاب، وبأثره، الذي إذا لقيت الله وقد أوصيتك به وأنا أحس أني أوصيتك بركن شديد وأمر رشيد، وأسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من أهله. إذا كنت من أهل القرآن فأبشر، يصلح حال قلبك، ويصلح حال قالبك، فلا نعطيك حال القلوب فقط، بل نعطيك ما يصلح القلوب والقوالب، وذاك في كتاب الله عز جل. وأما كتب السلف فهي كثيرة، وقصص السلف وأخبار السلف، تعين أيضاً على رقة القلوب وسير أهل الصلاح والفلاح وتقوى الله عز وجل فيها خير كثير، وكلما كان الإنسان حريصاً على قراءتها وتدبرها كلما كان أحظ الناس بالانتفاع بها، والله تعالى أعلم.

كيفية استغلال الوقت

كيفية استغلال الوقت Q ما هو البرنامج العملي للمسلم حتى يكون مستغلاً وقته في كل وقت وفي كل حين؟ A أما البرنامج العملي الذي إذا فعله الإنسان كان من أسعد الناس وأحظ الناس كسباً لوقته وحاز رضا الله عز وجل فهو يتلخص في جملتين: الأولى: لا يراك الله حيث يحب أن يفقدك. الثانية: لا يفقدك الله حيث يحب أن يراك. أمران: لا تكن في موضع يحب الله أن لا يراك فيه، وتحب أن تقدم على الله في الآخرة وأنت سالم من هذا المرض، ولا يفقدك في موضع يحب أن يراك فيه. أما أن أضع لك برنامجاً عملياً في الأقوال والأعمال، فهذا من الصعوبة بمكان، فالناس يختلفون، فالعامي ليس كطالب العلم، وطالب العلم ليس كالعالم، ثم العامة أنفسهم على مراتب، فوضع برنامج معين من الصعوبة بمكان، ولكن كلمة واحدة: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها). واحفظ وصايا الله التي أوصاك بها فيما بينك وبينه، ووصايا الله التي أوصاك بها فيما بينك وبين عباده، ووصايا الله التي أوصاك بها سراً وعلناً، ليلاً ونهاراً، إذا فعلت ذلك فهذا هو البرنامج الذي يرضي الله عنك، وكله ينحصر في هاتين العبارتين التي عبر بها بعض السلف في تحصيل التقوى فقال: لا يفقدك حيث يحب أن يراك، ولا يراك حيث يحب أن يفقدك. وكل ساعة مرت عليك تذكر لو أنك واقف بين يدي الله هل يسرك أو يسوءك أنك جالس هذا المجلس، فإن كان يسرك فاجلس رحمك الله وطاب مجلسك، وإن كان يسوءك فقم عن ذلك المجلس لوجه الله، خائفاً من عذاب الله، والله تعالى أعلم.

كيفية الخشوع في الصلاة

كيفية الخشوع في الصلاة Q ما هي أفضل الطرق لجعل قلوبنا خاشعة وخاصة إذا تليت عليها آيات الله في الصلاة؟ A يذكرون ذات مرة أن رجلاً حكم القاضي عليه بالحجر؛ -الحجر: أن يمنعه من التصرف في ماله- وكانوا إذا حكم القاضي بالحجر على أحد، يدورون به في السوق، ويقولون: لا أحد يدين هذا ولا يعامل، أي لا يعامله مالياً، فإن عامله أحد بعد ذلك فلا يلوم إلا نفسه، واستأجروا له -أكرمكم الله- حماراً، وداروا به يومه كله، ينادون ويناد المنادي: لا أحد يقرض فلاناً فإن القاضي قد حجر عليه، فلما أمسى المساء جاءه صاحب الحمار وقال له: أين الأجرة؟ قال: ما أجهلك! ما الذي كنا فيه من الصباح؟! حاشاك أخي في الله! لا والله لا أقول: ما أجهلك! ولكن أقول: ما أحبك في الخير! وما أرجاك لرحمة الله والمزيد من ذكر الله! بارك الله فيك وكثر الله أمثالك، ولكن العلاج الذي كنا فيه، وقد يكون الأخ معذوراً، بأن يكون جاء متأخراً ويريد أن نعيد المحاضرة، ولكن على كلٍ هذا الذي كنا فيه وهو ما تنشرح به الصدور وتنيب به إلى الغفور الشكور، فإن الإنسان إذا وفقه الله إلى تحقيق الخصال التي ذكرناها والآداب التي أشرنا إليها، فإنه بتوفيق الله سيكون قلبه خاشعاً. أما مسألة الصلاة فذكر العلماء رحمهم الله: أن الخشوع في الصلاة لا يكون بشيء مثل التدبر في نفس الآيات التي تتلى، عجيب أمر إنسان لا يخشع في الصلاة! إذا قال الإمام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] تذكر العالمين، هذا الوصف الذي وصف الله عز وجل به نفسه، رب العالمين الأولين والآخرين الذي رباهم وغذاهم وأولاهم تفضلاً منه وتكرماً، فإذا قال القائل أو قلت بلسانك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أحسست بعظمة هذا الذي يحمد وأحسست بجلال هذا الذي يحمد، فإذا قيل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] تذكرت من يرحمك وأنت على معصيتك، فيسترك ولو أذن للأرض أن تنخسف بك لانخسفت، ولو أذن للسماء أن ترسل عليك قاصفاً لأرسلت، فتقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] بقلب يستشعر معنى هذه الآية. وعندما تقول {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وإذا بك تنتقل إلى عالم آخر {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ذاك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا أحساب ولا أنساب، ولا إخوان ولا خلان ولا أحباب {فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94]. فإذا قيل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] خرجت إلى ذلك العالم، وأحسست بعالم الآخرة، من الذي يملك الأمر فيه، من الذي يأمر وينهى فيه، من الذي إذا قال: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] لن يستطيع أحد أن يقف بين هذه الكلمة وبين تنفيذها، في طرفة عين لا يمكن أن يرد حكمه، أو يعقب قضاؤه، يحكم ولا معقب لحكمه، وإن قال: خذوه إلى درجات النعيم صدق عبدي، فما أسعدها من لحظة وما أبهجها من ساعة! لن يستطيع أحد أن يحول بينك وبين ذلك النعيم المقيم، الذي نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهله. ولذلك أخي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] لو كان في الصلاة ما يقال إلا: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فإنه يكفى والله. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لك نذل وبك نستعين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] من الذي تشكو إليه إذا جاءتك الهموم والغموم في ظلمات الليل يكون بجوارك الناس فلا تستطيع أن توقظ زوجتك التي بجوارك على الفراش، ولم تستطع أن تشكو بثك وحزنك إلى ابنك القريب منك، من الذي تناديه؟! ومن الذي ترجوه لتفريج الآلام التي تعانيها والأشجان التي تجدها غيره سبحانه وتعالى؟! وكيف تجده حينما تناديه؟ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] بالاستغاثة والاستجارة وسؤال خيري الدنيا والآخرة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ونعم والله المعين. كم من وقفة وقفت فيها وحيداً فريداً كان الله معيناً لك وكان الله سنداً لك، فكيف وجدته جل شأنه، ضاقت بك الدنيا في أموال فسخرها الله لك من حيث لا تحتسب، وضاقت عليك في هموم وغموم، فاستعنت به فكان نعم المعين، فأعانك وأولاك. فإذا قلت: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] تذكرت ديوناً لله ما قضيتها، وهموماً وغموماً لله ما شكرتها، فتقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وأنت تحس بعظمة الله تعالى رب العالمين. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فتذكر أن بلاءك وعناءك يقف على شيء واحد: صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، والله لو كتب الله للعبد الضلال لن يستطيع أن يهتدي، ولو كان من أصلح العباد قلباً فيختم له في آخر لحظة بخاتمة السوء، ولو أراد الله الهداية وكان العبد في دركات الجحيم والغواية، لانتشله الله منها فختم له بخاتمة السعادة والفوز العظيم. إذاً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هي سعادتك في الدنيا والآخرة، وهي التي من أجلها نزل القرآن. الهداية إلى الصراط المستقيم، من أجلها نزلت الكتب، وأنزلت الرسل. وإني أفسر هذه الآيات حتى أدلك كيف تخشع في الصلاة، تخشع لأن ما عندنا قلوب نتفكر، كتاب الله يتلى ولا أحد يعي، نعم هذه الآيات لو تليت بقلوب تتفكرها وأفئدة تتدبرها وجدت حلاوتها، وسرعان ما تخشع لله. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] من هم يا رب الذين أنعمت عليهم؟ هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، قل لي بربك: لو شرح الله صدرك، فأصبحت تسير على نهج الرسول في قولك وفعلك وعملك واعتقادك: أي سعادة أعظم من هذه السعادة؟! اللهم إنا نسألك هذا المقام وهذه المكانة العظيمة، فلذلك تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وقلبك كله أمل في الله أن يبلغك هذا الأمر، صراط أولياء الله وأحباب الله حتى تكون أطيب الناس كلاماً وأطيبهم فعلاً وأكملهم استقامة في الظاهر والباطن لله رب العالمين. ثم تقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وقلبك يرجف من خشية الله {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] هم اليهود الذين لعنهم الله في الدنيا والآخرة فأصمهم وأعمى أبصارهم، فكانت الآيات تنزل عليهم وما تفيدهم شيئاً، قال الله عنهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] (أو) هنا بمعنى (و) فهي تأتي في لغة العرب بمعنى الواو أي: وأشد، فالله تعالى قال: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] والله تعالى لا يشك، فمعنى قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] أي: وأدنى، ومعروف في لغة العرب أن (أو) تأتي بمعنى: (و) فقال تعالى: {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] فتقول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] وأنت تتعلق بالله أن لا يبتليك بما ابتلاهم من الضلال. ثم تقول: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فرطوا وغلوا، وكم من أمة غلت في أنبيائها وفي الصالحين من أهلها حتى أصابهم غضب الله وسخطه -والعياذ بالله- ولذلك قال الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:1 - 5] نسأل الله السلامة والعافية. وقف عمر رضي الله عنه على عابدٍ راهبٍ في كنيسة يتعبد فدمعت عينه، فقالوا له في ذلك وعتبوا عليه الدمعة، يظنون أنه رق لعبادة النصراني، قال: لم أرق لعبادته، ولكني ذكرت قول الله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:1 - 4]. فلذلك يقول الإنسان: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] والضالين الذين زين لهم سوء أعمالهم فكانوا على الضلال: ضلال في الهدى، وفي الأهواء، فالضلال يكون أكمل ما يكون على الكفر والزندقة، ويكون على ما دون ذلك، وهو مراتب منها: البدعة والأهواء، فتجد الشخص يعمل البدعة وهو يظن أنه أقرب الناس إلى الخير، نسأل الله أن لا يطمس لنا ولكم بصيرة، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاهتداء بهدي السلف الذي هو صراط الذين {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]. فإذا تدبرت هذه الآيات ووقفت مع هذه العظات لان قلبك، ثم ما جاء بعد ذلك من فضل، وجاء من الزيادة من كلام الله، زادك خشوعاً إلى خشوعك. ويحاول الإنسان الذي يريد أن يخشع في صلاته قدر استطاعته أن يتعاطى الخشوع، ولو أن يتكلف ذلك بالضغط على نفسه. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم كمال الخشوع بين يديه، والله تعالى أعلم.

أسباب زيادة الإيمان ونقصانه

أسباب زيادة الإيمان ونقصانه Q ما هي أسباب زيادة الإيمان ونقصان الإيمان؟ A مذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإذا كان الإنسان من الله قريباً محافظاً على حدوده ومحارمه، ازداد إيمانه وقوي في الله يقينه. وأما إن كان بعيداً عن الله مضيعاً لحقوق الله منتهكاً لمحارم الله ضعف إيمانه -نسأل الله السلامة والعافية-، ومن ثم ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قال بعض العلماء: لأنه لا يفعل ذلك إلا وقد انتقص الإيمان من قلبه -والعياذ بالله-، فإذا أردت أن يزداد الإيمان في قلبك فلا طريق أمثل من تلاوة كتاب الله وتدبره، ولذلك أخبر الله عز وجل في كتابه: أن القرآن يزيد الذين آمنوا إيماناً ويزيد الذين اهتدوا هدىً وصلاحاً، فإذا أحببت أن يزيد الله في إيمانك فاتل كتاب الله مع التفكر والتدبر. أما الأمر الثاني: فهو فعل فرائض الله وترك محارم الله، تحرص كل الحرص إذا جاءك أمر عن الله أن تفعله، فإذا كنت من أسبق الناس وأحرص الناس على فرائض الله، ازداد إيمانك، وجرب من الليلة كلما دعيت إلى خصلة من خصال الخير كنت من أسبق الناس إليها وإذا بك بعد فترة معلق بطاعة الله عز وجل، وبالإيمان شعلة تضيء في قلبك، لا ترتاح إلا للخير، حتى تبلغ المنزلة التي نسأل الله العظيم أن يبلغنا جميعاً إياها، أن تذوق حلاوة الإيمان، فيكون الإيمان أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك، ولا تكون إلا بحفظ أوامر الله وترك محارم الله. من الليلة إذا دعيت إلى أي فريضة، تحرص على أن تكون أسبق الناس إليها، تدعا إلى الصلاة فتبكر إليها، تحافظ على وضوئها وطهارتها وخشوعها وركوعها وخضوعها وأذكارها وسننها وآدابها، بقدر ما تحرص على هذه الأوامر كلما كنت أقرب الناس إلى الإيمان، وأعظمهم حظاً في الإيمان. وكذلك حقوق الله التي أمرك الله بها في العباد من صلة الأرحام، وأداء حقوق الموظفين والعمال الذين تحت يدك تؤديها على أكمل ما يكون عليه الأداء، إنك إن فعلت ذلك لم تمض فترة إلا والإيمان تخالط بشاشته قلبك، ولذلك ما من إنسان يحافظ على فرائض الله إلا كان أقرب الناس إلى طاعة الله. الأمر الثاني: أن تكون أعف الناس عن الحرام، وأبعدهم عن معصية الله عز وجل، إذا أردت الإيمان أن يكمل في قلبك، وأن تكون ممن ذاق حلاوته ووجدت أثره في فؤادك فكن أبعد الناس عن الحرام. إياك أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وقد نظرت ومتعت النظر في حد من حدوده أو عورة من العورات التي لا يجوز لك النظر إليها. إياك إياك أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وقد أصغيت بسمعك إلى أمر لا يأذن الله لك أن تصغي إليه. إياك أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وقد خبطت قدمك على الأرض إلى حد من حدوده أو حرمة من محارمه. إياك أن ينظر الله إليك يوماً من الأيام وقد امتدت يدك بمال لا يحل لك تمدها به، أو قبضتها على مال لا يحل لك أن تقبضها عليه. إياك إذا أردت حلاوة الإيمان تكون على عفة عن الآثام والحرام، فما أطفأ الإيمان شيء مثل المعصية، ولا أظلم الإيمان في القلوب مثل المعصية، ولا تزال المعصية تلو المعصية حتى يستدرج العبد فيسلب الإيمان كله -والعياذ بالله-. لذلك كان السلف يخافون من المعصية، ونبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: (إياكم -أي احذروا، وهذا أسلوب عند العرب يعتبرونه أسلوب التحذير- ومحقرات الذنوب) ذنب وراء ذنب، حتى يهلك الإنسان بتراكم الذنوب عليه. تشرب شيئاً يسيراً من الحرام، وتقول: هذه واحدة، وإذا بالواحدة تدعو إلى أختها، ثم الأخت إلى أختها، ثم إلى كأس من حد من حدود الله، وبعد الكأس سفك للدماء وانتهاك للأعراض، واسترسال في حدود الله ومحارمه، وعندها لا يبالي الله بك في أي أوديته هلكت. فلذلك يحذر الإنسان الذي يريد الإيمان أن يبقى في قرارة قلبه فليحرص على هذين الأمرين: التزام الفرائض ويكون أسبق الناس إليها وأحرص الناس في فعلها وتطبيقها على هدي الشرع، فتعلم سنن النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه وأخلاقه رجلاً كان أم امرأة، ويكون الرجل وتكون المرأة على أكمل ما يكون عليه المؤمن وتكون عليه المؤمنة، فالإيمان يحتاج إلى هذا العمل. الأمر الأخير في الإيمان: اعلم أن الإيمان يريد رجالاً صادقين، يريد أمة تعرف قيمة المعاملة مع الله عز وجل، أهل الإيمان لا يعرفون الخور والضعف والوهن، يبقى الإنسان أسيراً أمام معصية يقال له: اتركها لوجه الله. يقول: ما أستطيع، هذا ليس بإيمان؛ فالإيمان رجولة كاملة، والله تعالى يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] قالبه في الأرض وقلبه في السماء، يدور مع أوامر الله عز وجل، إن تكلم كان أصدق الناس كلاماً، وإن سمع كان سمعه أعف ما يكون عن محارم الله، وإن تقدم أو تأخر أو أقبل أو أحجم على خير ما يكون عليه حال المرء. هذه هي خصال الإيمان مع دعوة الرحمن وسؤال الواحد الديان، أن يجعلك من أهل الإيمان، ونسأل الله العظيم أن يبلغنا وإياكم كماله، وأن لا يسلبنا وإياكم حلاوته إلى لقائه، والله تعالى أعلم.

ويؤثرون على أنفسهم

ويؤثرون على أنفسهم الأخوة في الله من أجل القربات إلى الله، لذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرس هذه الأخوة في مطلع دعوته، فكان أصحابه خير قدوة لنا في هذا الأمر، ثم سار على ذلك النهج التابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين، وتظهر أعلى مراتب الأخوة بالإيثار الذي هو علامة على صلاح المجتمع.

فضل الأخوة في الله وصفات المتآخين فيه

فضل الأخوة في الله وصفات المتآخين فيه الحمد لله الذي اصطفى لمحبته الأخيار، وصرف قلوبهم في طاعته ومرضاته آناء الليل وأطراف النهار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وعلى جميع أصحابه الأخيار من مهاجرين وأنصار، وعلى جميع من سار على نهجهم واقتفى آثارهم ما أظلم الليل وأضاء النهار. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله: الحمد لله الذي جمعني معكم في هذا البيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله. الحمد لله الذي شرح بالقرآن صدورنا، وأنار بالإسلام قلوبنا. الحمد لله حمداً وهو أهله، والشكر لله جميعه وكله. يعلم الله حبي لكم في الله وشوقي إلى هذا المجلس من مجالس ذكر الله، شَكَرَ الله مسعاكم، وقرن بالجنة طيب خطاكم. وأسأل الله العظيم أن يجمعنا بكم في جنان النعيم حيث الحفاء والتكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. إخواني في الله: إن الأخوة في الله والدين من أوثق عرى الإيمان بالله رب العالمين. إنها الأخوة بكل ما تدل عليه من معاني الحب والوفاء والود الصادق والإخاء. إنها الأخوة التي سار عليها سلف هذه الأمة من الماضين من العلماء العاملين، وطلاب العلم الصادقين، والأخيار والصالحين، ساروا على نهجها متحابين متآلفين، ساروا على نهجها متعاطفين متراحمين، ساروا على نهجها متناصرين متآزرين، يوم كان المسلمون كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)! يوم كان الإسلامُ وكان أهلُه! يوم كان القرآن وكان جيله! يوم كانت عيون المسلمين تسح بالبكاء والدموع لدموع إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها! يوم جمع الله القلوب على هذا الكتاب العظيم، وعلى هذا النور الكريم! فسبحان من جمع شتاتها! وسبحان من ألَّف بينها! وسبحان من وحَّد كلمتها! سبحانه! ما أعظم شأنه! يوم كان الإسلام وكان رجاله! يوم كان القرآن وكان رعيله وأجياله!

صور من أخوة الصحابة وإيثارهم على أنفسهم

صور من أخوة الصحابة وإيثارهم على أنفسهم ولقد غرس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة الصادقة في قلوب المهاجرين والأنصار، يوم وقف الأنصاري أمام أخيه المهاجر فقال: أخي! هذا مالي بيني وبينك، هذه دنياي! نصفُها لي ونصفها لك، هاتان زوجتاي! انظر إلى أحسنهما أطلقها وهي لك. فالله أكبر! ما أعظم سلطان الإيمان على القلوب! والله أكبر! ما أعظم سلطان القرآن على القلوب! والله أكبر يوم استجابت! والله أكبر يوم أذعنت وأسلمت! يوم كان المسلم مسلماً مستسلماً لله منقاداً ذليلا طائعاً! يوم كان ذليلاً على المؤمنين، عزيزاً شديداً على الكفار وأعداء الدين، يوالي في الله رب العالمين، إخوته على نهج الإيمان والدين! يوم كان أولئك الأجيال يوم كان أولئك الأبطال يوم كان أولئك الرجال الذين زكاهم الكبير المتعال من فوق سبع سماوات. وقف رجل من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء في ظلام الليل، في زمانٍ شديدٍ أَمْرُه فقال: يا رسول الله! إني مجهود -أي: بلغ بي الجوع والظمأ ما بلغ- فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم المؤمنين وزوجة من أزواجه -رضي الله عنهن أجمعين-: هل عندكم طعام؟ فأرسلت إليه: والله ما عندنا شيء إلا الماء، فلما رجع رسولُها أرسله إلى زوجة ثانية، فقالت: والله ما عندنا من شيء إلا الماء، فأرسله إلى الزوجة الثالثة، فقالت: والله ما عندنا شيء إلا الماء، حتى انتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -فصلوات ربي وسلامه عليه يوم خلا بيته من الطعام، ومُلِئ حكمةً وإيماناً من القرآن- فلما جاء الرسول من عند آخر زوجة وأخبره بأنه لا طعام، قام في أصحابه فقال: مَن يستضيف هذا أو يطعمه رحمه الله؟ فقام أبو طلحة، وأخذ بضيف النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى طعامه وطعام أهله وزوجه، وقرع الباب على تلك المؤمنة الصالحة فقال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم -فرحَّبَتْ وابتهَجَتْ وسُرَّت- وقالت: والله ما عندنا من طعام إلا طعامي وطعامك وطعام الصبية، فقال لها: أطفئي السراج ونوِّمي الصبية، فلما أُطْفئ السراج ودنا الضيف إلى الطعام جعل أبو طلحة رضي الله عنه وأرضاه يتظاهر بالأكل، كأنه يأكل حتى أتى الضيف على الطعام كله، وبات أبو طلحة جائعاً، وباتت زوجه جائعة فلما غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -غدا إليه جائعاً، غدا إليه مُقْفِر الأحشاء طاوياً؛ ولكن غدا إليه بقلب يحب الله ورسوله، غدا إليه بإيمان، وببر وطاعة وإحسان، غدا إليه بالإيثار- ووقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم، تهلَّل وجه النبي صلى الله عليه وسلم بالبشر والسرور فقال لـ أبي طلحة تلك البشارة العظيمة: (عجب الله من صنيعكما بضيفكما البارحة!) الله أكبر! ملك الملوك وجبار السماوات والأرض يعجب من الإيثار! يعجب من الأخوة الصادقة من الأنصار! يوم جاعت الأحشاء والأمعاء؛ ولكن مُلِئت القلوب بحب الله فاطر الأرض والسماء! عجب الله -والعجب صفة من صفاته كما يليق بجلاله وكماله- عجب الله من الإيمان! وعجب من التسليم والإذعان! وعجب من الصدق والبر والإحسان من أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه! وما هي إلا لحظات حتى ينزل جبريل من السماوات بثناء الله جل وعلا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها على ذلك الصادق الطاهر، وذلك الذي تبطن في قلبه الجواهر من تلك المعاني السامية، {وَالَّذِينَ تَبَوَّئُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. هنيئاً بهذه الشهادة! هنيئاً بمن شهد الله له بالإيثار! وشهد له بالصدق في المحبة والعبودية لله الواحد القهار! طبتَ وطاب غناك! وطبت وطاب ممشاك! وطبت وطاب بذلك لله جل جلاله! إنها المعاني الكريمة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبِ الصحابة؛ قلوبِ أولئك الأخيار من المهاجرين والأنصار، قال يوماً من الأيام للأنصار: (هلمُّوا أعطيكم مالاً من البحرين، فقالوا: لا والله حتى تقسمه بيننا وبين المهاجرين) يميناً وطئت بها الدنيا بالأقدام المؤمنة، أولئك الذين آمنوا، أولئك الذين صدقوا، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج من الدنيا إلا والصحابة قد تغلغل في قلوبهم هذا المعنى الكريم، تغلغل في قلوبهم حب المؤمنين، والتذلل لعباد الله المتقين، تغلغل في قلوبهم ذلك المعنى الذي أخبر الله بحب أهله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54]. فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والأخ يشد أزر أخيه، وفي طاعة الله يثبته ويواسيه. توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم محافظون على الأخوة وعَهْدِها، محافظون على الأخوة وبِرِّها وودادِها، هذا أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه يقول: [والله إني لأدعو لسبعين من أصحابي؛ أسميهم رجلاً رجلاً في سجودي] هذا هو الحب الصادق، والحب في الله، والموالاة في الله يوم أن كانت الدنيا تحت أقدامهم. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: [أُهْدِي إلى رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأسُ شاة وهو جائع ومحتاج، فلما وضع الرأس بين يديه قال: اذهبوا به إلى فلان، فوالله إنه لأحوج إليه مني، فحُمِل ذلك الرأس إلى أخيه، فلما وُضِع أمامه نظر إليه والجوع يكويه فقال: اذهبوا به إلى فلان فوالله إنه لأحوج إليه مني، ثم انتقل إلى الرجل حتى عاد إلى الصحابي الأول، قال رضي الله عنه وأرضاه: سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتداولونه]. كانوا -يوم كانوا- يؤثرون الآخرة! كانوا وكأنهم في السفينة الماخرة إلى لقاء الله والبرزخ والدار الآخرة، فقد هانت عليهم الدنيا، وكان الإيمان في قلوبهم أسمى وأسنى وأعلى وأبهى من حطام الدنيا الزائل، ومتاعها الفاني الحائل.

صور من الأخوة والإيثار عند التابعين

صور من الأخوة والإيثار عند التابعين ولقد غرس أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاني الكريمة، والمعاني الجليلة في قلوب التابعين الأخيار، فهذا إمام من أئمتهم يقول: [والله لو جُمِعَت لي الدنيا في لقمة واحدة، وجاءني أخ في الله لوضعتها في فمه ولا أبالي]. وهذا علي زين العابدين؛ إمام من أئمة التابعين، وسيد من سادات العلماء المجتهدين، كان رحمه الله طيباً بن طيب بن طيب؛ علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين؛ عنه وعن أبيه وعن جده {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34]. يسمونه: زين العابدين؛ لِزَيْنِ عبادته، وكمال خشوعه بين يدي ربه. كان إذا توضأ احمرَّ وجهُه واصفرَّ وتغيَّر، فقيل له ذات مرة: [ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ قال: ألا تدرون مَن أناجي؟! ألا تدرون مَن أقف بين يديه؟!] وهو الله جل جلاله. وكان إذا أراد الحج والعمرة ولبس إحرامه فقال: [لبيك] خرَّ مغشياً عليه، وذات مرة قال: [لبيك! ثم خرَّ مغشياً عليه، ثم أفاق، فقال: لبيك! ثم خرَّ مغشياً عليه، فلما كان في الثالثة قيل له: ما هذا يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك!]. وكان حَيَّ القلب، نقيَّ العبادة، نقيَّ الجوهر رضي الله عنه وأرضاه. هذا الإمام الجليل كان إذا جنَّ الليل، حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام في شدة الظلام؛ ليشتري به رحمةَ الله جل جلاله، وكان يتَلَثَّم فلا يعرفه أحد، فلما توفي -رحمه الله- فَقَدَ أكثرُ مِن ستين بيتاً من بيوت المسلمين وضعفائهم رجلاً كان بالليل يطرق عليهم بالطعام. هذا الإمام كان وحده -رحمه الله- يحمل الطعام على ظهره، فلما أُرِيْدَ تغسيلُه وتكفينُه جُرِّدَ من ثوبه، فانكشف ظهرُه، فإذا فيه أثر الأكياس التي كان يحملها في الظلام، رحمة الله على تلك القلوب المؤمنة، وسلامٌ على قلوب ضمَّت أشلاؤهم! وسلامٌ على قبور ضمَّت أجسادهم! يوم أن صدقوا مع الله جل جلاله، وباعوا الدنيا من أجل إخوانهم المسلمين، وكانوا أحبةً في الله والدين، فكانت الدنيا عندهم حقيرة ذليلة مهينة. كان الواحد إذا لقي أخاه تلقاه والبشر على صفحات وجهه، والسرور على ظاهره، يشعره بالأخوة في الدين، وكان الإمام والعالم منهم لا يستطيع الواحد أن يعرفه بين الناس من التواضع وترك الرياء، رحمة الله عليهم أجمعين، وكانوا إذا دخل بعضهم على بعض أَكْرَموا وتنافسوا للخير وتسابقوا. فهذا عبد الرحمن بن أبي ليلى، أدرك أكثر من مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عنه ابن أبي زياد: والله ما دخلنا عليه إلا حدثنا بأطيب الحديث، وأطعمنا بأحسن الطعام. وكان الحسن البصري رحمه الله سيداً من سادات التابعين، فقد كان رحمه الله إذا دخل عليه أخوه قام فأكرمه بنفسه، وهو الإمام في العلم والورع. كانوا مؤثِرِين للأخوة في الله والدين، وأحبة في الله متراحمين متواصلين متباذلين، يوم كان الإسلامُ وكان أهلُه، يوم كان القرآن دليلَهم، وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامَهم وأمامَهم، يوم كانوا عاملين بكتاب الله، ثابتين بكلام الله، يوم وَصَفَهم الله بأنَّهم {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فكم من عيون منهم سَحَّت بالبكاء لبكاء عيون من المسلمين! أين هذه النماذج الكريمة؟! أين هذه الأمة الطاهرة البَرَّة الرحيمة؟! أين هذه القلوب العظيمة؟! أين هي من نماذجِ اليوم؛ يوم صاح الأيتام، وصاحت الأرامل، فلم تجد لها مغيثاً غير الله جل جلاله؟! أين هذه القلوب الرحيمة؟! أين هذه الأمة الكريمة؛ يوم قَطَّعَت الأرحام، فضلاً عن أخوة الإسلام، حتى اقتتل الرجلان على شبر من الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله! يوم سَبَّ المسلمُ أخاه، وانتهك عرضَه، واستباح غَيْبَتَه على متر أو مترين من الأرض، وإنا لله وإنا إليه راجعون! يوم أصبح الإسلام اسماً على الظواهر، بعيداً عن القلوب والجواهر، وأصبح العبد يوالي في الدنيا، ويعادي في الدنيا، فالناس بها عنده مراتب، نسأل الله السلامة والعافية من حال أهلها.

حقيقة الإيثار وأسبابه

حقيقة الإيثار وأسبابه أيها الأحبة في الله: الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! رحمةٌ من الله الكريم الغفار رحمةٌ أسكنها قلوب المؤمنين، فبذلت وضحت لوجه الله رب العالمين، اقتحم أصحابُها العقبة، ففكوا الرقبة، وأطعموا في كل يومٍ ذي مسبغة، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة، قلوبُ أهلها رقيقة لينة حليمة رحيمة، لا تحتمل فواجع المسلمين، بل تهتز لدعاء المصابين والمنكوبين. الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! أن تجعل القبر أمام الأنظار، فتسعى إلى رحمة الله الكريم الغفار، في إجابة دعوةٍ مِن أرملة، أو دعوةٍ مِن بائسة، أو دعوةٍ مِن مكروب، أو دعوةٍ مِن مهموم أو مغموم، أو كربة تفرِّجها على مديون ومعسر. الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! رحمة الله الكريم الغفار، يوم تُخَطُّ في الدواوين الحسنات، ويوم تُرْفَع به لأصحابه الدرجات، ويوم يستوجب من الله عظيم المغفرات، فكم مِن أيدٍ لهم سَخَتْ آناء الليل وأطراف النهار، فغُفِرَت معها ذنوبُ العمر، ومُحِيَت بِها سيئاتٌ وخطيئات! فالله أكبر! ما أعظم فوز أهله! يوم خلفوا الدنيا وراء ظهورهم، واستقبلوا الآخرة أمام عيونِهم!

الإيمان بالله وإخلاص العمل له

الإيمان بالله وإخلاص العمل له لا إيثار إلا بأمور: أولها وأعلاها وأسماها وأشرفها وأبهاها: الإيمان بالله، وإخلاصُ العمل لله: حينما يسعى العبد حثيثاً إلى الله مُجِدَّاً لا متريثاً، حين يسعى إلى الآخرة، فلا يفتُر عن حسنة يبذلها، أو قُرْبَة بإذن الله يكسب بها إيماناً.

الرحمة واللين

الرحمة واللين ثانيها: الرحمة: فلا إيثار إلا برحمة، ولذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مؤثراً إلا إذا رزقه الله قلباً رقيقاً ليناً رحيماً، وإذا رَحِمَه الله من قسوة القلوب، فأصبح قلبُه يتفطر للأشجان والأحزان، فلا إيثار إلا بهذه الرحمة التي سماها الله: رحمة، وهي لين القلوب. فما أَبْعَدَ مَن قَسا قلبُه عن الإيثار! وقاسي القلب لا يعرف الإيثار إلى قلبه سبيلاً ولا دليلاً. أما لَيِّن القلب فما أحراه بالإيثار! فلِيْنُ القلب الذي هو رحمةٌ من الله علام الغيوب امتنَّ الله بها على نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، فقال جل جلاله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]. إن الإيثار يحتاج إلى قلبٍ رقيق، يحتاج إلى صاحبٍ صِدِّيق رفيق، وإلى ذلك القلب الذي ما إن يبثُّ إليه المهموم هَمَّه حتى يتفطر حزناً وألماً، يحتاج إلى قلبٍ يتسع لهموم المسلمين وغمومهم، وإلى قلبٍ صاحبُه إذا ابتدره المصاب بشكواه دَمَعَت قبل النهاية عيناه، فالإيثار يحتاج إلى قلبٍ رقيقٍ رفيق. فاسألوا الله لين القلوب؛ فَبِهِ يُرْحَم الإنسان، وبه يُكْرَم بالله الكريم المنان. سلوا الله لين القلوب، فبه يُكْسَى العاري، وبه يُطْعَم الجائع، وبه يُمْسَح على رأس اليتيم، وبه يغدو العبد إلى المسكين، وبه يُفَرِّج كربات المنكوبين والمعسِرين بإذن الله رب العالمين. سَلِ الله القلب الرقيق، فإن الله إذا أكرمك بهذا اللين، وأكرمك بهذا القلب الرفيق فتح لك أبواب رحمته، وفتح لك أبواب الخير منه، فلا ترى منكوباً إلا أعنته، ولا ترى مهموماً مغموماً إلا واسَيته، كن رحيماً بعباد الله، كن ليناً بعباد الله المؤمنين، فإن الله وصف المؤمنين بقوله: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. فلا إيمان إلا برحمة، وإذا انتُزِعت الرحمة من القلوب فمَن يسمع ويُصغي لشكوى الأيتام والأرامل والبائسين؟! إذا نُزِعت الرحمة من القلوب، فمن يسمع صيحات المتأوهين ونكبات المفجوعين؟! سل الله أن يجعلك رحيماً، فإن الله يرحم الرحماء. سل الله أن يجعلك رحيماً فإن الله يعطف على الرحماء. سل الله أن يجعلك رحيماً فكم لَطَفَ اللهُ بالرحماء! وكم صرف عنهم من شدائد الدنيا وأهوالها ونكباتها لَمَّا رحموا عباده وما ينتظرهم في الآخرة من رحمات القبور، ورحمات هول البعث والنشور أجلُّ وأسمى وأسنى. فالرحمة واللين إذا دخلتا إلى القلب أصبح صاحبهما يتوهج حنيناً وشوقاً إلى الأعمال الصالحة، يريد مرضاة الله، يبيع نفسه لله مبتغياً الأجر والمثوبة من الله، قال الله في هؤلاء: {وَمِنَ النَّاسِ. } [البقرة:207] أي: ليس كل الناس {ومَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]. {يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة:207] أي: يبيع نفسه. {ابْتِغَاءَ} [البقرة:207] أي: طلب مرضاة الله. يبيع نفسه ويبيع ليله ويبيع نهاره ويبيع تجارته فيأتيه الشيطان فيقول له: هذا مالٌ سعيتَ عليه آناء الليل والنهار، فهو تجارتك وأموالك التي كدحت عليها ونصبت من جمعها، ثم تعطيها لخامل لَمْ يسعَ في تحصيلها؟! فجاهد وصابر واصطبر، وأعطِ لوجه الله جل جلاله إيماناً وتسليماً، فإذا سكنت الرحمة في القلوب فسل الله أن يرزقك القلب الرحيم، فإن الله إذا رزق العبد قلباً رحيماً عَفَّ وكَفَّ عن أذية المسلمين، وكان صاحبه أحرص ما يكون على نفع عباد الله المؤمنين. بهذه الرحمة تصغي إلى من أراد أن يحدِّثك. وبهذه الرحمة يألفك الكبير ويألفك الصغير، حتى إن المهموم يأتيك، ولا يجد بينك وبينه حاجزاً برحمتك به. الرحمة هي الطريق للإيثار.

ذكر الموت

ذكر الموت السبب الثالث، وهو من أعظم أسباب الإيثار، ومن أعظم الأسباب التي تعين المسلم على أن يحفظ نفسه عن أذية المسلمين، وأن يسعى بكل حرص في بذل الخير إليهم طلباً لمرضاة الله رب العالمين، هذا السبب الذي تفطرت به قلوب الصالحين: ذكرُ الموت والبِلَى، وقرب المصير إلى الله جلَّ وعلا: أن يذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه مغموم بين الْجَنادل والْحَفائر، فما ذُكِر الموت في كثيرٍ إلا قلله، ولا في جليلٍ إلا حقَّره. أن يذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه مضموم بالأجداث والبلى والجنادل، حتى إذا ذُكِر ذلك هانت عليه دنياه، وعَظُم عليه ما هو مستقبلٌ له من أخراه. تذكر الموت وسكرته! تذكر القبر وضجعته! تذكر القبر وضغطته! بكيتُ لما علاني الترب منجدلاً صار التراب فوقي فآلمني في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أب ولا أخ ولا صديق يؤنِّسني يوم أن يصير الإنسان وحيداً، قد سار إلى الله ذليلاً حقيراً فريداً، يومئذٍ تهون عليه تجارته، وتهون عليه أمواله، ويهون عليه أولاده، يريد الفكاك، والنجاة، والخلاص! فمَن ذَكَرَ هذه المنازل، وذَكَرَ هذه الجنادل هانت عليه الدنيا، وسَخَت يدُه بالإنفاق لوجه الله، وأخرج المال العزيز على قلبه ليشتري به رحمة الله، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:9 - 12]. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا منهم. فمَن أكثر مِن ذكر هذه المنازل هانت عليه الدنيا التي قَطَع من أجلها رحمه، ومن تذكر هذه المنازل هانت عليه هذه الدنيا التي والى من أجلها وعادى! ما الذي يأخذه الإنسان من تجارته؟! وما الذي يجنيه من سوقه وعمارته؟! وما الذي يخرجه من الدنيا غير زاده وكفنه؟! إنا إلى الله صائرون، وإنا إليه راجعون، وبين يديه مختصمون: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31] يوم يتعلق بك الذليل الذي أذللته، ويتعلق بك أخوك في الإسلام فيقول: يا رب! سَلْ أخي، إنه أهانني يا رب! سل أخي، إنه ما عَظَّمَ أخوة الإسلام التي بينه وبيني، يومها يحس الإنسان بحقارة نفسه وذله بين يدي الله ربه. تذكروا هذه المنازل، فإنها تعين على الجود والسخاء، وتعين على الأعمال الصالحة المقربة إلى الله فاطر الأرض والسماء. تذكَّرْ يوم تَقْرَع القوارع، وتَفْزَع الفوازع، ويُبَعْثَر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور، يوم أن ينادي عليك منادِ الله أن تخرج من قبرك حافياً عارياً إلى لقاء الله، فتخرج ذليلاً حقيراً يوم تخرج إلى الديان وحيداً فريداً يوم أن تصير إلى الله بلا حسبٍ ولا نسب يوم أن تصير إلى الله بلا مالٍ ولا ولد، يومئذٍ تهون عليك تجارتك، وتصغر في عينك عمارتك، يومها تعرف حقارة الدنيا، وذل مقامك بين يدي الله جل وعلا.

ضرورة الحذر من الاعتداء على حقوق المؤمنين

ضرورة الحذر من الاعتداء على حقوق المؤمنين أيها الأحبة في الله: ما ذكر العبد هذه المواقف إلا هانت عليه الدنيا، وأحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، وسعى في خلاص نفسه وفكاكها من ذنوب العباد، فما أشقى مَن عَظُمت مَظالِمُه! وما أشقى مَن عَظُمت مآثِمُه! فويلٌ لمن كثرت خصومته بين يدي الله جل جلاله! وويلٌ لمن آثر الدنيا على الإخوان، فظلم هذا، وأكل مال هذا، وانتهك عرض هذا! وويلٌ لمن أطلق لسانه في غِيبة فلان وعلان، فجاء يوم القيامة وحيداً فريداً بين يدي الله الواحد الديان، وتعلق به صاحبه وقال: يا رب شتمني هذا، يا رب اغتابني ونَمَّني هذا. فالفكاك الفكاك من هذه الحقوق العظيمة، ومن هذه المواقف الجليلة يوم لا حسب ولا نسب ولا جاه إلا الجاه عند الله يوم لا مقرِّب إلا التقوى يوم تنفصم الأمور فلا تبقى إلا العروة الوثقى. اللهم الطف بنا إذا صرنا إلى ذلك المصير، اللهم الطف بنا إذا صرنا إلى ذلك المصير. ما أعظم النجاة إذا خرجتَ من قبرك وقد سترتَ عورات المسلمين، وفرجتَ كربات عباد الله المنكوبين! يوم أن تخرج إلى الله بتلك الصحائف المشرقة يوم أن تخرج إلى الله بحسناتك للأيتام والأرامل يوم أن تخرج إلى الله بتلك الحسنات العظيمة والأجور الكريمة! فكم لك من يدٍ عند الله جل جلاله، إذا نادى منادِ الله فقمتَ إلى تلك المشاهد في ظل صدقتك التي تصدقتَ بها! فما أطولها! وما أعرضها! وما أنعمها! وما أبركها! يوم أن تتلقاكَ الملائكة: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]. فيا أيها الأحبة في الله: ما أعظم الخصومة بين يدي الله في المظالم، يوم يحشر الإنسان من سبع أرضين، قد اختنق حاله في شبر من الأرض ظَلم أخاه فيه! يوم يتعلق به الخصوم، ويُنْصَف منه المظلوم، ويُعطى منه المحروم! ويقول الله كما في الحديث القدسي: (يا عبدي! ألم أنعم عليك؟ ألم أتركك ألم أسوِّدك؟ ألم أرفعك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ماذا عملت لي؟) ثم يقول جل جلاله: (يا بن آدم! استطعمتُك فلم تطعمني، قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت ربي؟! قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمتَ أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت ربي؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقِه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدتَ ذلك عندي؟ يا بن آدم! مرضتُ فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربي؟! قال: مرض عبدي فلان فلم تعدْه، أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي؟). الله أكبر من يومٍ عظُمَت حسناتُه! الله أكبر من مشاهد قَرَعَت قلوب المؤمنين فـ {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. الله أكبر من مواقف أقَضَّت مضاجع الصالحين! الله أكبر من مواقف وقوارع حفَّزَت همم عباد الله مِن السلامة من ظلم عباد الله! فمن أراد السلامة فليبتعد عن المظالم. اتقِ الله في لسانك الذي تطلقه في أعراض إخوانك. اتقِ الله يوم تلمز فلاناً في نسبه؛ فتقول: فلان فيه كذا، وفلان من بني كذا، وتعيِّره وأنت ضاحك باسمَ الثغر، فوالله لك يومٌ موعود، ولقاء مشهود، يبدو إلى الله جل وعلا ما لفظه لسانك: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. إن عورات المسلمين محرمة، واللهُ يغار عليها، فلا يسمعنَّ اللهُ منك كلمة تؤذي بها مسلماً غائباً أو حاضراً، احفظ لسانك، فكم من لسانٍ كبَّ صاحبَه على وجهه في النار، قال معاذ: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نقول؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخِرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟!) حصائد هذه الألسنة: يوم افتخرتَ بقبيلتك، ويوم افتخرتَ ببني عمومتك، فجئت يوم القيامة لم تنفعْك الأرحام، ولا الأحساب، ولا الأنساب، {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3] فلا جاه إلا جاه أهل التقوى، ولا عز إلا عز أهل الدين والهدى. جعلنا الله وإياكم منهم. اللهم آمين. من أحب أن يُسَلِّمه الله من هذه المواقف العظيمة، ومن هذه المشاهد الجليلة فليحفظ لسانه وسِنانه وجوارحه وأركانه عن أذية المؤمنين، إذا سَلِم المسلمون من أذيتك، واجتهدتَ في طاعة الله على قدر وسعك، فأنْعِمْ عند الله وأكْرِمْ بها حياة! ولتخرُجَنَّ من هذه الحياة طيباً مطَيَّباً، فلا تُذْكَر إلا بخير. عُفَّ لسانك عن أعراض المسلمين، عُفَّ لسانك عن إثارة العداوة والبغضاء بين المؤمنين، فمِن أشد الجرائم وأعظمها أن تُقْطَعَ هذه الأخوة وتُقْطَعَ أواصرُها بكلمة من عبدٍ لا يخاف الله ولا يتقيه، يوم أن يُخْرِج تلك الكلمات التي يوغر بها صدور عباد الله بعضِهم على بعض، فهم يصلُّون في المسجد الواحد أمة واحدة يؤمنون جميعاً ويركعون جميعاً ويسبحون ويمجدون ويستقبلون قبلة واحدة ويدْعون رباً واحداً وما إن يخرجوا من باب المسجد حتى يتلقفهم هذا الشرير بشره؛ لكي يبث إلى هذا كلمةَ عداوة، ولكي يبث إلى هذا ما يوجب البغضاء والشحناء. فويل له إذا حمل بين يدي الله وزرها، وويل له ثم ويل له إذا طُبِع عليه، فصار هَمَّازاً مهيناً مَشَّاءً بنميم، لا مكانة له عند الله رب العالمين، والله يقول في كتابه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] أي: لا تطع أهل النميمة، ولا تصغ بسمعك لهم، واحفظ جوارحك عنهم، فإن الله يسلمك من هذه المشاهد العظيمة. احفظ جميع ما وهبك الله من حولٍ وقوة، واستغله في طاعة الله جل جلاله. فإن سَلِمْتَ من ذنوب الناس، وأصبحتَ خفيف الحمل من ذنوب الناس فأنْعِمْ برحمة الله جل جلاله.

العفو والصفح عن المسيء من موجبات رحمة الله

العفو والصفح عن المسيء من موجبات رحمة الله الوصية الأخيرة: أن نشتري مرضاة الله جل جلاله بخصلة من خصال أهل الإيمان: وهذه الخصلة ما حافظ عليها أخٌ مع أخيه إلا عامله الله بها في الدنيا والآخرة! أتدرون ما هي؟! إنها العفو عن المظالم، العفو عن المسيء، العفو عمَّن أساء، فإنها موجبةٌ لرحمةَ الله جل جلاله، يوم أن تقف أمام أخيك الذي يزِلُّ عليك بلسانه، أو يزِلُّ عليك بجوارحه وأركانه، فيأتيك ابن عمك فيقول: يا أخي! خذ بحقك، إنك ذليلٌ إن عفوتَ، وإنك حقيرٌ إن صفحتَ، وإنك كذا، وإنك كذا، فيخذِّلك عن طاعة الله جل جلاله؛ لكن يأبى إيمانُك، ويأبى يقينُك وعلمُك بلقاء الله ربِّك إلا العفوَ والصفحَ لوجه الله جل جلاله. دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فطأطأت له رءوسُ الكفار، وذلَّت له أعناقُ الأشرار، وأصبح يومَها المُلْكُ لله الواحد القهار! وقف صلى الله عليه وسلم يوم الثاني من الفتح وقريش تحته كلُّها، وجاء وقتُ الثأر، وجاء أخذ الحق والقصاص يوم سُفِكَت دماء أقاربه، يوم قُطِّعت أشلاء أصحابه وأحبابه! وقف صلى الله عليه وسلم على رءوسهم والماضي ماثل بين يديه بما فيه من الفجائع، وبما فيه من الأمور التي تُقِضُّ المضاجع! فوقف صلى الله عليه وسلم ساعة الثأر، وأخذ بعضادَتَي باب الكعبة وقال: (يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟! -ما الذي يخطر ببالكم الآن بعد أن أعزني الله وأذلكم، ورفعني ووضعكم، وجبرني وكسركم؟! - فقالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍِ، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء). الله أكبر ما أوسع صدور المؤمنين في الحلم والرحمة! الله أكبر ما أوسع قلب المؤمن! لأنه رجل كامل، والرجل الكامل: هو الذي يعفو ويصفح، ولذلك قال الله عن أهل العفو: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. فعندما يَزِلُّ عليك أخوك في الإسلام بكلمة، فيأتيك الشيطان، وتأتيك حمية الجاهلية أن ترد عليه بعثراتها، وأن تُخْرِس لسانه بأسوأ منها؛ عند ذلك اذكُر الله جل جلاله، وتذكَّر أن هذا اللسان ما يلفظ بكلمة إلا وهي مخطوطة في الديوان، وأنك ستَلْقَى الله جل وعلا؛ لتنتهي بك إما إلى جنانٍ أو إلى نيران، وقل: أستغفر الله لي ولك. جاء رجل إلى الحسن فقال: [إن فلاناً يشتمك، قال: والله لَأُغِيْظَنَّ مَن أَمَرَه بذلك: اللهم اغفر لي ولأخي]. وجاء آخر إلى الحسن فقال له: [فلانٌ يقول فيك كذا وكذا، فقال: أما وَجَدَ الشيطان رسولاً غيرك؟!]. أي: أما وجد الشيطان رسولاً ينقُل الأحاديث على لسانه غيرك؟! فلا بد أن يحاول الإنسان أن يكون سمحاً، وأن يكون حليماً. فإن مَن رَحِمَ الناسَ وعفا عنهم عفا الله عنه، وأنت أحوجُ ما تكون إلى عفوه! ولَئن رحمتَ الناسَ لَيَرْحَمَنَّك الله، وأنت أفقر ما تكون إلى رحمته! فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراحمون يرحمهم الله). وقال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وبرحمة الإنسان وعفوه عمَّن أساء تَعْظُمُ الخيرات، وتَنْزِل من السماء البركات، ويكون للناس خيرُ الدين والدنيا في الحياة وبعد الممات. فليحاول الإنسان أن يشتري رحمة الله عز وجل بالعفو والصفح، إياك أن تأخذك حمية النفس للانتقام! فإنك إن عفوت عن إنسان لوجه الله عفا الله عنك في عرصات يوم القيامة. ولذلك ورد في الحديث أنه: (إذا جُمِع الناس في عرصات يوم القيامة نادى منادٍ على رءوس الأشهاد: من كان أجره على الله فليَقُم، فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا مَن عفا عن ذُلٍّ). فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم منهم. ألا وإن من أفضل العفو وأطيبه وأكرمه: أن تعفو عن المديون المعسر إذا جاء يريد سداد دينه، فإذا نظرتَ إلى أخيك المكروب المعسر، وتجاوزت عنه لوجه الله، تجاوز الله عنك في عرصات يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل يداين الناس، وكان يقول لغلمانه: إذا وجدتم رجلاً معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلما لقي الله قال الله: يا ملائكتي، إن عبدي تجاوز عن عبادي، ونحن أحق بالعفو عنه، تجاوزوا عن عبدي). فمن تجاوز عن المعسر والمديون والمكروب كان أحرى أن يرحمه الله، وهو المكيال الأوفى الذي يوفي اللهُ لصاحبه الأجر بغير حساب. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترزقنا إيماناً يرضيك عنا. اللهم انزع من قلوبنا الشحناء، والبغضاء لعبادك المؤمنين. اللهم هب لنا قلوباً تقيةً نقية. اللهم سلِّمنا وسلِّم منا، وتب علينا وتجاوز عنا. اللهم آمِنَّا يوم الوعيد، اللهم أمِّنْ في يوم الوعيد رَوْعَنا، اللهم استُر فيه عوراتنا، اللهم أمِّنْ فيه روعاتنا، اللهم اغفر لنا فيه، ولآبائنا، وأمهاتنا، ومن حضر مجلسنا، وغاب عنا. لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تغيير لون الشعر بالأصباغ

حكم تغيير لون الشعر بالأصباغ Q ما حكم وضع المرأة لشعرها ما يسمى بـ (الميش)؛ وهو صبغ الشعر بألوانٍ مختلفة، الأشقر منها والبني وغيرهما، مع العلم بأنها مواد كيميائية؟ وجزاكم الله خيراً. A الميش لا يجوز؛ لأنه تغيير للخلقة، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشرة والمستوشرة، والمتفلجات بالحُسْن المغيرات خلق الله). فعَلَّل النهي بتغيير خلق الله تعالى، وهذه مواد كيميائية لا تُؤْمَن، فحتى لو لم تُحَرَّم بهذا اللعن لَحُرِّمت من جهة الإضرار؛ فإن الخِلْقة إذا كانت سوداء وجاءت المرأة وقالت: أريده أشقر أو أسود أو نحو ذلك فتغير الخلقة فكأنها بذلك التغيير لم ترضَ عن عطاء الله جل جلاله، ولذلك استحقت اللعنة. لماذا ورد اللعن؟ لأن الذي يغير لون الشعر لا يرضى بقسمة الله عزوجل، فيقول: لا. الأصفر أجمل، والأشقر أبهى، يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما أعطاه الأجمل، وما أعطاه إلا القليل، فيطلب الكثير؛ فاستحق اللعن والعياذ بالله من هذا الوجه. فلا يجوز استخدام (الميش)، ومن فعله سابقاً فليتُب إلى الله جل وعلا، بل ينبغي دائماً الحفاظ على نساء المؤمنين، وخاصة طالبات العلم والخيِّرات والصالحات، فيبتعدن عن هذه الأمور التي لا تليق بهن. والله تعالى أعلم.

السنة في العقيقة

السنة في العقيقة Q فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يجوز أن أذبح العقيقة وأدعو إليها بعض الأصدقاء، أو أتصدق بثلثها وأهدي ثلثها وآكل ثلثها؟ A أما العقيقة فالأصل فيها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحديث سمرة بن جندب -رضي الله عنهما وأرضاهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلامٍ مرهونٌ بعقيقته تُذْبَح عنه يوم سابعه) وجاء في حديث عائشة: (تُقََطَّع جدولاً) وجدولاً بمعنى: لا يُكسَر فيها عظم، قال بعض العلماء: وردت السنة بذلك حتى يكون تفاؤلاً بسلامة المولود، والفأل يحبه الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الفأل، ويكره الطِّيَرَة والتشاؤم) فالفأل الحسن محمود وغير مذموم؛ لأن فيه حُسْن ظن بالله جل جلاله، فلا يُكْسَر فيها عظم وإنما تُقَطَّع من مفاصلها، ثم أنت بالخيار بين أمور: الخيار الأول: إن شئت طبختها وأحسنتها وهيأتها:- فإذا فعلت ذلك فادعُ إليها الفقير والغني، وخُصَّ بالدعوة قرابتك، فإن أحق مَن يُدْعَى إليها الأقرباء، فيدعو الإنسانُ إليها قرابته من النسب، وقرابته من الأصهار، والأرحام كأقارب الزوجة. وهذا مِن أفضل ما يكون كونك تهيئها للمساكين والمحتاجين وتدعوهم وتكرمهم؛ ولكن لا تدعوهم فتهينهم، فيجلسون في أضعف المجالس، فهذا لا ينبغي، إنما ادعُهم واحمد نعمة الله جل وعلا، قال بعض السلف: ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان! سفيان إمام عالم، كان إذا حضر عنده الفقراء أجلسهم في صدر المجلس، فكانوا يشعرون بالعزة والكرامة وهم ضعاف يحتقرهم الناس. فإذا أعطاك الله عز وجل نعمة ودعوتَ لها فادعُ إليها الفقراء، وأنا أنبِّه على هذا الأمر؛ لأنه يحصل فيه خطأ شائع ذائع، حيث يُنْزِل الإنسانُ أقرباءه وأبناء عمومته ويجعلهم في الصدر، ويأتي بالفقير لكي يَكْسِر خاطره ويهينه فيجلسه في أضعف المجالس ويحتقره وربما رمى له بالكلمة الجارحة، فبئس والله ما فعل! ولربما عاد بذنوبٍ أكثر من الأجور. فاتقِ الله، وليكن عندك من حب الله والولاء في الله ما يردعك عن هذه الأمور التي لا ترضي الله من حمية الجاهلية وضعف العقول، نسأل الله السلامة والعافية. الخيار الثاني: أن تقطِّعها جَدْولاً وتقسِّمها: قال بعض العلماء: اقسمها ثلاثاً فتعطي الأغنياء الثلث، وتعطي الفقراء الثلث، وتعطي أهلك الثلث، كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] فالقانع: هو الغني الذي فيه قناعة، والمعتر: هو المُعْتَوِر السائل الذي يَعْتَوِرُك بالحاجة. قالوا: فاقسمها إلى ثلاثة أقسام: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:36] الثلث. {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} [الحج:36] الثلث. {وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] الثلث. وهذا هو الهدي، فألحقوا العقيقة به بجامع أن كلاً منهما دم لازم القول بالوجوب. والله تعالى أعلم.

وصايا في غض البصر عما حرم الله

وصايا في غض البصر عما حرم الله Q لقد انتشر في هذا البلد ما يسمى: بالبث المباشر. أرجو منكم نصح أهل هذه البلاد جزاكم الله خيرا. ً A ما أظن -إن شاء الله- أنه موجود، وأسأل الله عز وجل أن لا يوجد هذا الشيء. وأوصي بأمور: الأمر الأول: تقوى الله الذي لا إله غيره:- وأن يعلم كل إنسان أن {السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]، وأن البصر بريد الزنا، وطريقٌ إلى الحرام، وأنه لا يزال العبد يُمَتِّع بصره بالمناظر الخليعة حتى يَمْقته الله جل وعلا، ويطفئ نور الإيمان من وجهه، ولذلك قال العلماء: الغالب أن صاحب النظرات المسمومة والمحرمة لا يأمن الفتنة في دينه. وأُثِر عن بعض السلف: أنه رأى رجلاً من حفاظ القرآن ينظر إلى شابٍّ أمرد نصراني فقال له: والله لتجدن غِبَّ هذه النظرة ولو بعد حين! أي: لا تَخْرُج من الدنيا حتى يعاقبك الله على هذه النظرة المسمومة، فمكث عشرين سنة، وبعد عشرين سنة نام ليلته، فأصبح لا يحفظ من القرآن حرفاً واحداً، نسأل الله السلامة والعافية. كل الشرور مَبداها من النظرِ ومُعْظَمُ النار من مُسْتَحْقَر الشررِ كم نظرة فتكت بقلب صاحبها فتك السهام بلا قوسٍ ولا وتَرِ والمرء ما دام ذا عينٍ يقَلِّبُها في أعين الغِيْد محفوفاً على خطرِ يَسُرُّ مُقْلَتَه ما ضَرَّ مُهْجَتَه لا خير في سرور قد جاء بالضررِ ويلٌ لهم من الله إذا نشرت بين يدي الله النظرات! ويلٌ لهم من الله جل جلاله يوم تُكْشَف بين يدي الله تلك النظرات! ويَحْمِل صاحب ذلك البث المسئوليات والتَّبِعات عن الأبناء والبنات! ويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لمن أدخل البلاء على أهله وولده ففُتِنَت تلك القلوبُ البريئةُ عن صراط الله وطريقه! ويلٌ له من الله يوم يحمل بين يدي الله وزرهم! {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]، يفر مخافة هذه المظالم التي جناها عليهم! ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأعظم بلاء يُدْخِله الإنسانُ على أهله: ما فيه فتنةٌ لهم. الأمر الثاني: كل من أَدْخَل فتنةً فاقتدى به غيره فإنه يحمل وزر كلِّ من جاء بعده إلى يوم القيامة:- فلو أن شخصاً كان الأول في إدخال الفتنة، فاقتدى به أحدٌ، فوالله ما مِن أحد يُدْخِل إلى هذا البلد أو إلى هذا المكان من هذا شيء إلا حَمَل إثمه ووزره بين يدي الله إلى يوم القيامة والعياذ بالله: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا يَنْقُص من أوزارهم شيء). {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]. ثم يا أخي: اتقِ الله في البصر! الله نوَّر لك نور البصر! كم من أعمى كفيفٍ لا يرى، واللهُ قد أعطاك هذا النور الذي والله لو قُبِض هذا النور لا يستطيع أطباء الدنيا أن يعيدوه لحظة من اللحظات! هل سمعت أن إنساناً كفَّ بصرُه فاستطاع الأطباء أن يردوه إلا إذا كان مرضاً عارضاً؟! إذا سلب الله البصر، وإذا ختم الله على السمع والقلب والفؤاد فلا يستطيع أحد أن يغني لصاحبه من الله شيئاً: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] نسأل الله السلامة والعافية. هذا البصر أعطاه الله لك، وكلُّ لحظة مكتوبة، وكل ثانية محسوبة، لم يعطِه الله لك عبثاً، بل أعطاه لك لكي تتقرب إليه، وتشتري رحمته! فتنظر في ملكوته فتقول: لا إله إلا الله! وتنظر إلى السماء فتقول: سبحان مَن {بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:27 - 29]! وتنظر إلى الأرض فتقول: سبحان مَن {دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:30 - 31]! وتنظر إلى ملكوته وجبروته وعزِّه! وتمر على الديار الخالية فتقول: لا إله إلا الله! سبحان مَن جعلها خراباً بعد أن كانت عزاً وجاهاً. وتمر على ديارٍ كانت خرِبة، فأصبحت عُمراناً وخيراتٍِ وحساناً فتقول: لا إله إلا الله! مخرج الحي من الميت! سبحانه لا إله إلا هو! كل هذا حتى تشتري رحمات الله بهذه النظرات. هذا هو الذي تشترى به الرحمات، فالصالحون يفوزون برحمات الله بالأبصار، والفاسد يتهاوى ببصره في الجحيم ودركات العذاب المقيم، اللهم سلِّمنا وسَلِّم مِنَّا. ثم الأمر الثالث والوصية الأخيرة: قلَّ إنسان ينظر إلى هذه المحرمات فيرجع إلى دينه سالماً والعياذ بالله:- فالغالب فيمن يشاهد الأفلام الخليعة والمناظر الفاتنة ألا يرجع إلى دينه سليماً إلا أن يرحمه الله، ويحتاج إلى توبة وبكاء وتضرع صادق، وهذا بالتجربة. فسل الله العافية، فإذا عافاك الله إياك أن تقترب منها! فإنها السم القاتل للدين لا للدنيا، إياك أن تقترب ولو للحظة، فإذا قال لك الشيطان: انظر لحظةً. فقل: الله الله أخشى أن تمتد بي هذه العين إلى أن أسَقط! وإن قال لك: انظر لِلَحظة. فقل: أخشى العماية في الحشر: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126]. فالله الله في هذا البصر! واتق الله، فإن الإنسان إذا نظر إلى هذه المفاتن الغالب أنه لا يَسْلَم، وإذا حفظتَ البصر حفظ الله دينك، فإنك إذا غضضتَ فإن العين لا تبكي يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكيةٌ أو دامعةٌ يوم القيامة إلا ثلاث أعين: عين بكت من خشية الله ... ) إذا جلستَ بعد العشاء فتذكرتَ ذنوبك وأنت خالٍ وحيدٌ في غرفتك فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون! ما أعظم ما فعلتُ! أحسنَ اللهُ إليَّ وأسأتُ! وأكرمني وأهنتُ! واستغفر وتُب، وفِضْ بالدمع، حتى يظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، (. إلا ثلاث أعين: عين بكت من خشية الله. وعين سهرت في سبيل الله. وعين غضت عن محارم الله). حتى وأنت في الطريق إذا مرَّتْ عليك عورة من عورات المسلمين فقل: أستغفر الله العظيم! فإن هذا الغض يُكْتَب لك حسنات عند الله، فلا تزال هذه في صحيفة عملك حتى توافى بها يوم القيامة، فالناس يبكون في عرصات يوم القيامة، وعينك لا تبكي بهذا الغض. نسأل الله أن يحفظ أبصارنا، وفروجنا، وجوارحنا. والله تعالى أعلم.

حكم الإيثار في القربات

حكم الإيثار في القربات Q السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ: هل الحديث: (لا إيثار في الطاعة) صحيح أو ضعيف؟ A هذه قاعدة من قواعد أهل العلم: (لا إيثار في الطاعة) وبعضهم يقول: (لا إيثار في القُرْبة) ومعنى هذه القاعدة: أن الإنسان لا يفضل غيره في الدين. توضيح ذلك: أن الصف الأول -مثلاً- قُرْبة وطاعة، فلا يحق لك أن ترجع عن الصف الأول وتدخل غيرك ولو كان أخاً لك في الله؛ لأنه زُهْدٌ في الأجر، ولا يجوز للمسلم أن يزهد في الأجر. واختلف العلماء في هذه المسألة: فقال بعض العلماء: يجوز الإيثار في الطاعات، ولهم أصلٌ في ذلك. ولكن الصحيح والأقوى: أنه (لا إيثار في القُربة) وأن الإنسان ينبغي عليه أن يحرص على القربة، وقد دل على ذلك دليل السنة: فإن ابن عباس كان يوماً من الأيام جالساً عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره الأشياخ، فأُتِي بشرابٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى منه أعطاه للذي عن يمينه وهو ابن عباس وقال قبل أن يعطيه: (يا غلام! أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه -النبراس، والقبس الوهاج علماً وحكمة-: ما كنتُ لأوثر بنصيبي منك أحداً -أي: لا أفضِّل في الدين، هذا محل الشاهد- فأخذه فتله بيمينه صلوات الله وسلامه عليه) فهو أقرَّه، واعتبرها قربة؛ لأنه لم يؤثِر بهذا الأمر الذي هو طاعةٌ وقربةٌ لله جل جلاله. فأصح الأقوال: أنه (لا إيثار في القربة). والله تعالى أعلم. ولكن استثنى بعض السلف مسألة، منها: استثناء الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس؛ إمام دار الهجرة، في قوله: أحب لأهل المدينة إذا حضر الحجاج أن يتقاصروا عن الروضة. الحجاج من الآفاق يقدمون وساعاتهم وأيامهم قليلة، فأحَبَّ لهم التقاصر، ففَهِم بعض أصحابه رحمة الله عليه: أن هذا يدل على أنه يجيز الإيثار في القربة؛ ولكنها مسألة خاصة لا تقتضي التعميم. والله تعالى أعلم.

حكم صيام التطوع في السفر

حكم صيام التطوع في السفر Q أنا أدرس بكلية البنات بالخرج، وأصوم يومي الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، فهل يُعَدُّ صيامي هذا من التكلف والمشقة، لأنني سمعتُ بأن هذا فيه مشقة على النفس، أرجو توضيح ذلك، مع العلم أن الخرج تبعد عن الحوطة بـ (85) كيلو متراً. وجزاكم الله خيراً؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأنتِ تسألين عن حكم صيام التطوع في السفر، وهل يعتبر صيامكِ للإثنين والخميس من الغلو والكلفة والمشقة أو لا يعتبر؟ فأصح أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: أن الناس يختلفون: فمن كان منهم مُطِيقاً للصوم ولو كان مسافراً فإنه يُشْرع له أن يصوم، ولذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي أن يصوم وذلك في السفر. قال العلماء: لأنه يطيق السفر. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس مِنِ امبر امصيام في امسفر) فهو محمول على المشقة، ولذلك قال: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون). فإذا كان صيامك في السفر يلحق بك المشقة، وقد يحول بينك وبين الواجبات، ويحصل به تعذيبٌ للنفس وعناءٌ فإن الأفضل تركه. وقال بعض العلماء بكراهيته في هذه الحالة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس مِنِ امبر امصيام في امسفر). وأما إذا كان صيامكِ قد ألِفْتِيه واعتدتيه، ولم يؤثر عليكِ في السفر، ولا يؤثر على طاعةٍ واجبةٍ عليكِ، فهنيئاً لهذا الفضل والخير الذي حباك الله به، واستديمي الصيام على خير. والله تعالى أعلم.

الخوف من الرياء حكمه وأنواعه

الخوف من الرياء حكمه وأنواعه Q إني عند قيامي ببعض الأعمال: كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخشى من الرياء والسمعة، فأرجو توضيح ذلك! مع العلم بأني أعاني نفسياً من أن تكون أعمالي فيها سمعة ورياء، وجزاكم الله خيراً. A نعم النفس المؤمنة الخائفة التي تتهم نفسها بالتقصير دائماً! قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال المؤمن الصالح يتهم نفسه]. فقول القائل: هذا العمل ما أردتُ به وجه الله، هذا القول: (ما أردتُ به وجه الله) يعني به أنه يتهم نفسه بالتقصير في الإخلاص. فإن كان شعورك بالتقصير يحول بينك وبين العمل فهذا من الشيطان، وإن كان شعورك بالتقصير يدفعك إلى المبالغة والصدق في الإخلاص فنِعْم والله الشعور! فهو شأن عباد الله الأخيار؛ ما فعلوا طاعة إلا احتقروها، قال بعض السلف: [المؤمن يحمل الهم في الأعمال الصالحة في مواقف حمل هم الصواب، فإذا وُفِّق للصواب حَمَل هم التوفيق لعمل الصواب] فكم من صوابٍ تعملُه ولا يوفِّقِ الله لفعله، فقيام الليل مَن منا يقوم الليل؟! وصيام الإثنين والخميس من منا يصومهما؟! وصيام يومٍ وإفطار يومٍ من منا يفعله؟! فأولاً: الصواب. ثم التوفيق لعمل الصواب. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أسألك العزيمة على الرشد) فإذا وُفِّقَ العبد لعمل الصواب، وتهيأ لعمله حَمَل هم الإخلاص فيه، وألا يريد به إلا وجه الله جل جلاله، فإذا وُفِّق للإخلاص وختم عملَه وكان صواباً خالصاً لوجه الله حَمَل هَمَّ القبول من الله جل وعلا، ولا يزال هَمُّ القبول في قلب المؤمن حتى يلقى الله، فتنكشف الحقائق له؛ هل عملُه مقبول فيهنأ، أو غير مقبول فيحزن، فإن العبد يُنْشَر له عمله، فيقول الله جل جلاله: (قد جعلتها هباءً منثوراً) فتُنْشَر له الحسنات والأثقال؛ ولكن ما أراد بها وجه الله. وجاء في الخبر: (إن العبد تُنْشَر له الحسنات والأعمال الصالحة، فيقول الله له: اذهب فخذ أجرك ممن راءَيْتَ له) اذهب إلى جماعتك الذين كنت تريد منهم الفخر والرياء وتحب أن يمدحوك، اذهب وخذ منهم الأجر اذهب إلى قرابتك إلى الناس إلى مسئولك إلى مديرك إلى والدك إلى والدتك إلى ابنك إلى زوجك إلى كل من راءَيْتَه، فخذ أجرك منه، فإن هذا العمل لم يُرَدْ به وجهُ الله جل جلاله. فأما إذا كان هذا الحديث يدعوكِ إلى ملازمة الإخلاص فهو حديثُ خير، يَحْمِل على الطاعة والبِر، وهو مَحمود غير مذموم. أما إذا كان يمنعكِ عن العمل الصالح، وأصبح الإنسان كلما أراد عملاً صالحاً جاءه الشيطان وقال له: أنت لا تخلص فيه؛ فهذا من الشيطان؛ ولكن اجتهدي واعملي العمل، فإن وجدتِ فيه الرياء فقولي: أستغفر الله وأتوب إليه. فإن الله يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. والله تعالى أعلم.

حكم لبس الحجاب الذي فيه زينة

حكم لبس الحجاب الذي فيه زينة Q صدَرَت فتوى من الشيخ ابن عثيمين -جزاه الله خيراً- عن لبس العباءة التي فيها زينة من (قيطان) و (كِلْف) بأنها لا تجوز؛ لأنها تجعل الحجاب زينة في نفسه، فهل ينطبق الحكم على الغطاء المسمى: شِيْلَة، حيث أني أرى كثيراً من الأخوات يلبسن غطاءً به (كِلْفٌ وقيطان) أرجو توضيح ذلك، وجزاكم الله خيراً؟ A جزى الله سماحة الشيخ الوالد محمد العثيمين -رحمه الله- كل خير على هذه الفتوى، وهي قولٌ سَبَقَ أن نبَّه عليه العلماء، فقد ذكر أهل العلم رحمهم الله: أن المرأة يحرم عليها أن تُظْهِر الزينة فيما ظهر من بدنها؛ لأن الله جل وعلا نهى عن إبداء الزينة: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] فحرامٌ أن ترى هذه الزينةَ عينٌ غير عينِ الزوج. وتشمل تلك الزينة: الحلي. والخلاخل. والأسورة. ونحوها مِن التي تُكْشَف عند مشي المرأة، أو عند أخذها أو عطائها فهذه من الزينة. كذلك: الزينة الباطنة، كزينة الوجه من كحل ونحو ذلك، كل هذه من الزينة المحرمة. ومما ذكره العلماء من الزينة المحرمة: الزينة في اللباس، فقد نص العلماء على تحريم الزينة في اللباس؛ لأن المرأة إذا نُقِشَت عباءتُها قد ينظر الرجل إليها فيَرى النقوش، فينظر أولاً من أجل النقوش، فيجره ذلك إلى النظر إلى مفاتن المرأة، وقد تقول المرأة: إن وجود النَّقْش في العباءة ليس بزينة، فنقول: نعم، هو ليس بزينة في الظاهر؛ ولكنه يقود إلى استرسال النظر، وإلى الوقوع في المحظور، والوسائل آخِذَةٌ حكم المقاصد كما هو مقرر في قواعد الشريعة، والله تعالى أعلم، فلا يجوز وضعها في الحجاب، ولا في الشِّيْلات، ولا في كل لباس ظاهر. أما اللباس الباطن الذي لا يطَّلع عليه الرجل من الخارج فهذا لا حرج فيه، ولا عُتْبى على المرأة في وضعه على شرط أن لا تراه عينٌ ممن حرَّم الله رؤيتها إليه. والله تعالى أعلم.

الحث على الدعوة إلى الله

الحث على الدعوة إلى الله Q يا شيخ! إني أحبك في الله، وأرجو يا شيخ أن تحث شباب الصحوة على الدعوة في هذه المنطقة بالذات؛ لأنهم يهتمون بأنفسهم فقط دون غيرهم من الشباب الغافلين عن ذكر الله، من حيث النصيحة ونشر الشريط الإسلامي وغيرهما من أساليب الدعوة! جزاكم الله خيراً. A جزاك الله خيراً، وأسأل الله أن يكتب لك الأجر، ويعلمُ الله كم سُرِرْتُ حينما لقيتكم، ويعلم الله شوقي إلى لقائكم. وأسأل الله أن يكثر الخير فينا وفيكم، وأن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين وأوليائه المتقين، وأن يكثر فينا وفيكم الصالحات والصالحين. إخواني في الله: أفضل الأعمال وأحبُّها إلى الله: كلمةٌ تَهدي القلوب إلى الله كلمةٌ تدل بها على السبيل كلمةٌ تكون بها دليلاً ونعم الدليل! يوم تَهدي إلى الله العظيم الجليل. ولقد شهد الله في كتابه أنَّ أحبَّ الكلام إليه من أوليائه كلامٌ هَدَى إليه سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] فـ (مَنْ): بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله جل جلاله! فأطيب الكلام بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم: كلام يهدي إلى الله جل جلاله. تكلم فلعل كلمة تُذَكِّر غافلاً! تكلم فلعل كلمة تنبِّه وتوقظ نائماً! تكلم بالكلام الطيب ولو لم يكن لك شرف إلا أن تكون من خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نبوَّتَه وَرِثَها العلماء والصلحاء في كل زمان ومكان، فكُنْ من أولئك المشاعل للنور والهداية. أيها الأحبة في الله: أولُ ما ينبغي على الداعية: أن يكون قدوة في نفسه. فحاول قدر استطاعتك أن لا تسمع بأمر من أوامر الله إلا فعلته، وألا تسمع بنهي من نواهي الله إلا اجتنبته وتركته. وأن تكون فيك الأخلاق والآداب الإسلامية التي تدل على أنك مسلم حقاً ومؤمن صدقاً، فإذا أصبحتَ بهذه المثابة، فوالله إنك لداعٍ ولو لم تتكلم بلسانك. قال جعفر الصادق لأصحابه -ذلك الإمام من أئمة أتباع التابعين- قال لهم: [ادعوا وأنتم صامتون، قالوا: رحمك الله! كيف ندعو ونحن صامتون؟! قال: ادعوا الناس بأخلاقكم وآدابكم قبل أن تتكلموا بألسنتكم]. فالآداب والأخلاق والشمائل الحميدة لا يزال الشاب الصالح الوضيء المشرق وجهه من طاعة الله يدعو بها ولو لم يشعر. فالوصية الأولى: الأخلاق: أن تلتزم بآداب الإسلام، وتكون نفسك تواقة إلى معالي الأمور، فتسعى وتسمو إلى حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتبيع نفسك في مرضاة الله، فتجلس في المجالس، وتشتغل بذكر الله، وإذا سمعت أحداً يغتاب آخر تقول له: يا أخي! اتقِ الله! وإذا سمعت أحداً ينقل نميمة تقول له: يا أخي! اتقِ الله! وإذا سمعت أحداً يتكلم فيما لا يعنيه تقول له: يا أخي! اتقِ الله! فلا تزال الكلمة تخرج منك تلو الكلمة، وتخط لك الأجور التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله. ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً يكتب الله له به رضاه إلى يوم يلقاه) فتَمُرُّ على رجل شاربٍ للدخان فتأتيه بالنصيحة الثمينة وتقول له: يا أخي! أي نفس تعذبها؟! وأي روح في مهدها تقتلها؟! أما تتقي الله في نفسك؟! يا أخي! اتقِ الله في هذا المال الذي أعطاك الله إياه، وحرمه الفقير غيرك! أما تتقي الله أن تسعى في هلاك نفسك؟! فقولك: (أما تتقي الله) وأنت لا تبالي بهذه الكلمة يَكْتُبُ الله لك بها رضاً لا سخط بعده إلى يوم القيامة: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ... ). وقد تجلس في البيت فترى المنكر، فتنصح النصيحة، وتخرج منك غيرة على دين الله وحدوده ومحارمه فيكتب الله لك بهذه الغيرة رضاً لا سخط بعده أبداً. فمَن بذل نفسه للدعوة إلى الله، واشترى رحمات الله بالكلام الصالح والتذكير بالله فأنْعِم به مِن رجل! وأنْعِم به مِن داعية ومِن متكلم! وما الذي يأخذه الناس من المجالس غير كلمة تقرب القلوب إلى الله؟! وما الذي نأخذه من الدنيا غير طاعة الله جل جلاله؟! {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. سبحانه! لا إله إلا هو! فالله لا يريد منا شيئاً إلا العمل الصالح، والذي بيننا وبين الله هو: العمل الصالح، وأفضل الأعمال وأحبها: الدعوة إلى الله. والوصية الأخيرة: لن يكون هناك شاب تائهٌ ضائع تعرفه وتقصر في دعوته، إلا كان لك خصماً بين يدي الله جل جلاله:- فإذا مررتَ على جارك وعرفتَ أنه لا يصلي، فسكتَّ عنه، أتى يوم القيامة يتعلَّق بك وهو يقول: يا رب! سَلْ جاري، فإنه ما دعاني إلى الصلاة يوماً من الأيام! فإذا رأيت جارك على منكر أو معصية فقلت: ما لي وله، وما لي وللناس؟ فهذه كلمة يسيرة؛ لكنها عند الله عظيمة، فإذا وقفتَ بين يدي الله، علمتَ هل هذا من شأنك أو ليس من شأنك! كذلك تذكير الغافلين، فالناس فيهم خير، خاصةً في هذه البيئات المسلمة، الناس على الفطرة، واللهِ إن فيهم خيراً مهما عملوا من سيئات وذنوب، واللهِ إن العبد تجده على أشد ما يكون من معصية لله جل جلاله، وما إن تقرعه بآية من كتاب الله إلا ويطأطئ رأسه ذليلاً ويقول: جزاك الله خيراً. فهذا نعمةٌ وخيرٌ في الأمة المسلمة؛ لكن الإنسان إذا كان شاباً وبه طيش وغرور يحتاج منك إلى يد حانية، ونصيحة غالية، ثم إذا نصحتَ إياك أن تكون حجرة عثرةٍ عن سبيل الله وصراط الله، بل انصح بالتي هي أحسن، انصح باللين والرفق، وأشْعِر الذي تنصحه، كأنك يدٌ تريد أن تنتشل غريقاً، ولستَ بصاحب تشهير ولا أذيةٍ ولا تعيير؛ ولكن صاحب بِرٍّ ودعوةٍ وإحسانٍ وصلاح. نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. والله تعالى أعلم.

الأسباب التي تؤدي إلى لين القلوب

الأسباب التي تؤدي إلى لين القلوب Q السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله. ما هي الطرق التي تؤدي إلى لين القلوب؟ جزاكم الله خيراً. A باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأحَبَّكَ الله الذي أحببتني من أجله، وأُشْهِدُ الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم فيه، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا بكم جميعاً في دار كرامته {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]. أخي في الله: أنت تسأل عن الأسباب التي تلين القلوب! أعظمُ هذه الأسباب وأجلُّها: أن تسأل الله أن يرزقك قلباً ليناً، وأن تستعيذ بالله من القلب القاسي:- فإن الناس لضعف قلوبهم وعقولهم يظنون أن قوة القلوب هي الرجولة والفحولة؛ ولكن أقول: لين القلوب هو الرجولة الكاملة، والإيمان الكامل. فسَلِ الله أن يعطيك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاءٍ لا يُسْمع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع). سَلِ الله أن يعيذك من القلب القاسي، وسَلِ الله أن يرزقك قلباً ليناً رقيقاً رفيقاً بعباده، فإنه سبحانه وحده مقلِّب القلوب والأبصار، وهو وحده الذي يستطيع في لحظة واحدة وطرفة عين أن يقلِّبها فتصير أذل ما تكون لعباد الله المؤمنين، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. جعلنا الله وإياكم منهم. اللهم آمين. السبب الثاني الذي يعين على لين القلوب: كثرة ذكر الآخرة:- أن تتذكر أنها ستمرُّ عليك مثل هذه اللحظة وأنت ضجيع القبر والبِلَى، والله لَتَمُرَّنَّ عليك ولو بعد حين! وكم من ضاحكٍ منا قد نُسِجت أكفانُه وهو لا يدري! فكثرة ذكر الموت والدار الآخرة وقُرب المصير إلى الله يلين القلوب، ويجعل الإنسان في همٍّ وغمٍّ من الآخرة وحدها حتى يخلف جسر جهنم وراء ظهره. أما السبب الثالث -وهو داخلٌ في السبب الثاني-: زيارة المقابر: زُرِ القبور، وقِفْ بين أهلها، وانظر إلى حال أغنيائها وفقرائها! إنهم جيرانٌ لا يتزاورون! وسكانُ لَحْدٍ وشِقٍّ منه يبعثون! ينادُون ولا مجيب! ويَسْتَعتبون ولا مُعْتِبٌ ولا مستجيب! قد زالت فوارقهم! وذابت أنسابهم! وصاروا إلى الرفات. صاحِ هذه قبورنا تملأ الرحبَ فأين القبور من عهد عادِ؟! خفِّف الوطء! ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجسادِ انظر في الأمم التي مضت وانقضت وولَّت! كم بينها أناسٌ آكَلُوك! كم بينها أناسٌ شارَبُوك! كم بينها أناسٌ زاوَرُوك! كم بينها أناسٌ بينك وبينهم المودة والمحبة قد انقطعوا إلى الله، وصاروا إلى لقاء الله، وانقطعت عنهم الحيلة، وأصبحوا رهناء بما قالوا وما فعلوا! فمَن تذكَّرَ هذه المنازل هانت عليه الدنيا، وأصبح لَيِّن القلب يفكر في نجاته من لقاء ربه جل جلاله. ومن الأسباب التي تعين على لين القلوب: زيارة المرضى وعيادتهم: واسمع إلى هذا يتأوه! واسمع إلى هذا يشتكي! واسمع إلى هذا قد كُسِرت ساقه! وهذا قد قُطِعت يده! وهذا قد كُفَّ بصره! وقل: الحمد لله الذي عافاني؛ لكي تحس أنك حقيرٌ ذليلٌ تحت سطوة الله جل جلاله، حتى يذهب الغرور الذي يرفع الإنسان عن قدره ومكانه، حتى تعرف من أنت تحت رحمة الله جل جلاله وسطوته ونقمته، فإن العبد تراه قوي البدن صحيح الجسم ما أن يبتليه الله بسقمٍ خفيف في عضو من أعضائه حتى يَخِرَّ كالميت مجندلاً يتأوه من سقمه ومرضه. الله أكبر! ما أعظم سلطانه إذا أخذ! وما أعظم سلطانه إذا نزل! فهذا يلين القلب ويعرِّف الإنسانَ بقدره. ومما يلين القلوب: زيارة الصالحين، وحب الصالحين، وغشيان حِلَق الذكر، فهم القومُ لا يشقى بهم جليس:- فلا تزال تزور حِلَق الذكر، وتسمعُ المحاضرات والندوات، حتى يُلَيِّن الله قلبك؛ لأن الوحيَ وكلامَ الله وكلامَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلامَ الصالحين وكلامَ الدعاة والهداة كالغيث للقلوب، يُلَيِّنها ذلك بإذن الله جل جلاله. فأكْثِر من سماع الذكرى، وأكْثِر من سماع المواعظ، فإنها تقرِّبك إلى الله جل جلاله. ومن الأمور التي تلين القلوب: البُعْد عن أهل الغفلة الذين يكثرون من ذكر الدنيا فإن عاشرتهم قسا قلبُك، وإن عاشرتهم نسيتَ ربَّك ولَهَوْتَ مع اللاهين، وجَرُّوك إلى ويلات، وأخَذْت ترتع في أودية الدنيا السحيقة، ولن يكون لك منها إلا ما قسم الله لك، ولن تخرج إلا بما كتب الله لك من الرزق، فلا تزال تلهث معهم، ولا يزال الإنسان يشتغل بأحاديثهم؛ باع فلانٌ، واشترى فلانٌ، وقَضَى فلانٌ، وعُمِّر فلانٌ، وهَدَم فلانٌ، حتى تأتيه قاصمة الله فلا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك. نسأل الله السلامة والعافية. فإياك والجلوس مع أهل الغفلة! ابحث عن الصالحين، عن قومٍ إذا رأيتَهم ذكرت الله جل جلاله. أما الوصية الأخيرة: فامسح على رأس اليتيم، وواسِ الأرملة والمسكين يلين الله قلبك، وصِلْ رحمك، واعفُ عمن أساء إليك، واتخذ من الصالحات سبيلاً: فإنك لا تزال تفعل الصالحات حتى تتغشاك الرحمة تلو الرحمة، حتى يصبح قلبك ليناً لله جل جلاله، حتى إنك لن تسمع آية إلا فاضت عيناك من الدموع لله سبحانه وتعالى. والناس في لين القلوب على مراتب، فمَن كَمُلَت له هذه الأسباب، فإن قلبه يلين. ألا وإن أعظم الأسباب وأجلها: تذكر كلام الله جل وعلا. وكثرة تلاوة القرآن. والاعتبار بمواعظه. والوقوف أمام مشاهده. فإن ذلك يلين القلوب. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يليِّن قلوبنا وقلوبكم، وأن يعيذنا وإياكم من القلب القاسي، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم.

رحمة الضعفاء

رحمة الضعفاء إذا أراد الله أن يسعد عبداً من عباده ملأ قلبه رحمة، حتى يعظم خيره، ويضاعف أجره؛ فكم من رحماء توطنوا القبور وأمامهم بشرى ما قدموه من القول والعمل، فكم من أرملة ترفع كفها داعية بالخير لهم، وكم من يتيم ومحروم يسأل الله أن يملاً مضاجعهم مضاجع الروح والريحان. إنها الرحمة التي ينبغي للمسلم أن يتخلق بها، وأن يكون من أهلها.

من آثار الرحمة

من آثار الرحمة الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يليق بجلال ربنا وعظمته وكماله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبدٍ يخاف من لقائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وعلى من سار على نهجه ومنواله. أما بعد: فأحييكم بتحية الإسلام: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وفي بداية هذا اللقاء أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي المشايخ الفضلاء الذين تسببوا في هذا اللقاء خيراً، وأسأل الله العظيم أن يكتب لكم الخطا، وأن يوجب بها الحب والرضا، فإن الدنيا فانية وكل ما عليها زائل، ولا يبقى إلا ما أريد به وجه الله، ومن ابتغى ما عند الله أقر الله عينه، والقليل من العبد في معاملته مع الله كثيرٌ عند الله بمنه وفضله وكرمه، فقد تكون الخطوة إلى طاعةٍ وبر موجبةً لمحبة الله للعبد محبةً لا يسخط بعدها أبداً، وقد تكون الكلمة من محبة الله لا يلقي لها العبد بالاً يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، فأسأل الله العظيم أن يجعل أعمالنا مقبولةً عنده، وهو أهل الفضل والتكريم. أيها الأحبة في الله: إن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة لعلمه سبحانه أن عباده أفقر ما يكونون إلى رحمته كتب على نفسه الرحمة وقسمها بين خلقه وعباده، فإذا أراد الله أن يسعد عبداً من عباده ملأ قلبه بالرحمة، حتى يعظم خيره، ويضاعف أجره، وتكفر خطيئته وترفع درجته. إنها الرحمة التي قام عليها الإسلام {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. إنها الرحمة التي لا تنزع إلا من شقي، قال: (يا رسول الله! إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً، قال: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!). إنها الرحمة التي إذا دخلت إلى القلوب اطمأنت وانشرحت، وإلى الخير سابقت وأسرعت {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] من دخلت في قلبه الرحمة صار ليّن القلب يهش لطاعة الله، ويبش في مرضاة الله، سباقاً إلى كل شيءٍ يشتري به رحمة الله. الرحمة هي: أمرٌ غيبي لا يعلمه إلا الله علام الغيوب، الله أعلم كم أسكن من رحمته في القلوب، فإذا أراد سبحانه بعبده خير الدنيا والآخرة جعل حظه من ذلك وافراً، فمن سكنت في قلبه الرحمة رحمه الله في الدنيا والآخرة. رحمه الله في الدنيا فلطف به في النكبات، وأحاطه بلطفه ورحمته، كما رحم المؤمنين والمؤمنات {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60] ورحمه الله عند موته فلطف به في السكرات وأحسن له الخاتمة، قال بعض أهل العلم: أشهد أني ما علمت إنساناً رحيماً فساءت خاتمته. فغالباً ما يكون المرحوم الذي ملئ قلبه بالرحمة قرير العين عن ربه، حتى في آخر لحظات عمره، إذا أسكن الله الرحمات في قلب عبده رحمه في لحده، ورحمه في قبره حتى بدعوات المؤمنين والمؤمنات. فكم من رحماء توطنوا القبور وهم بشرى ما قدموه من القول والعمل، ماتوا وما ماتت مكارمهم، ماتوا وقد أتبعهم الله بصالح الدعوات، فكم من أرملة ترفع كفها إلى الله داعيةً بالخير له، وكم من يتيمٍ ومحروم يسأل الله أن يجعل مضاجعهم مضاجع الروح والريحان والنعيم والجنان. إنها الرحمة التي ينبغي للمسلم أن يتخلق بها، وأن يكون من أهلها.

المحتاجون إلى الرحمة

المحتاجون إلى الرحمة

الأيتام من أشد المحتاجين إلى الرحمة

الأيتام من أشد المحتاجين إلى الرحمة أيها الأحبة في الله: أحوج الناس هم الضعفاء الأيتام، واليتيم قد انكسر قلبه بفراق أبيه، فهناك يتيمٌ لا يعرف أباه ألبتة، وهناك يتيم عاش مع أبيه أجمل اللحظات وقضى معه أفضل الساعات، وإذا به فجأة يختبئ عنه إذ صار في عداد الأموات، فأصبح منكسر القلب، مهموماً محزوناً يمضي مع الناس، فيرى كل ابنٍ مع أبيه، يمسح عليه ويحسن إليه، ويقف وحيداً فريداً كأنه يسائل أين أباه، وأين الرحمة التي أسدى إليه وأولاه، ولذلك إذا أراد الله بعبده الرحمة جاء إلى مثل هذا فمسح على رأسه، وجبر قلبه، وأحسن إليه بالقول والعمل، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة) فلليتيم حق ينبغي أن يحفظ، والله من فوق سبع سماوات يخاطب أفضل عباده وأشرفهم منزلةً عنده ويقول له: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]. يقول العلماء: أعظم ما يكون القهر لليتيم إذا جاء في شدة الحاجة والمسغبة منكسر القلب، مهموماً محزوناً فصفعته على وجهه فخيبت أمله، أصعب ما يكون على اليتيم إذا جاء في شدة الحاجة والضيق ملتجئاً إليك بعد الله سبحانه أن تفرج كربته وأن تحسن إليه، والأمل منعقد بك، وإذا بك تخيب أمله -لا قدر الله- وترده، فذلك أعظم ما يكون من القهر وهو قادرٌ على أن يقوم بحاجته. وعلى المسلم أن يعلم أن الله تعالى لا يمكن أن يوفق للخير إلا من أحب، ولذلك قال العلماء: إن السعي في حوائج الناس لا يكون إلا بقوة الإيمان، ورجاء ما عند الله سبحانه وتعالى. لن تجد إنساناً حريصاً على إسداء الخير إلى الناس، وتفريج كرباتهم، والعطف عليهم، وإدخال السرور عليهم، إلا مؤمناً يرجو الله والدار الآخرة.

العصاة والمذنبون من أحوج الناس للرحمة

العصاة والمذنبون من أحوج الناس للرحمة وأحوج الناس إلى الرحمة هم العصاة والمذنبون، ولكنهم يحتاجون إلى رحمة التوجيه والهداية لطاعة الله، فإن الإسلام رحمة، والهداية والالتزام رحمة، وهناك أممٌ تنتظر منك أن تدلهم عليها، وأن تهديهم بإذن الله إليها، وأن تأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله، فتحببهم في طاعة الله ومرضاته، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا رحمة مهداة). هذا الالتزام وهذه الاستقامة وهذه الهداية رحمة منحها الله لك، فإذا أردت أن ترحم بها عباده رحمك الله عز وجل، وبارك لك فيها، فما دعيت إلى هدىً إلا كان لك أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء. الرحمة أفضل ما تكون بالدلالة على الخير، فكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ودلوا إلى المَعلَم والدليل فأصابوا رحمة الله العظيم الجليل. والعصاة والمذنبون وإن أذنبوا وأخطئوا لكنهم ينتظرون الكلمة وينتظرون التوجيه والله يعينك ويسددك ويلهمك ويوفقك، ومن كان لله كان الله له، فقد تتكلم بالكلمة داعياً إلى رحمة الله، يكتب الله بها رضوانه إلى يوم أن يلقاه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه) قد تمر على العاصي، وهو في غفلته وشهوته وسكرته فتوقظه من الغفلة وتنبهه من المنام، وتأخذ بمجامع قلبه إلى الله، فتقول له: اتقِ الله، واعلم أنك صائرٌ إلى الله، وأن الله سائلك ومحاسبك ومجازيك، فترعد فرائصه من خشية الله، وقد تخرج منك لا تلقي لها بالاً ويكتب الله عز وجل بها رضوانه.

الوالدان والأقارب أولى الناس أن يرحموا

الوالدان والأقارب أولى الناس أن يرحموا أحوج الناس إلى رحمتك أقرب الناس منك، وأولى الناس بذلك الوالدان {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24]. كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه إذا دخل على أمه قال: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! رحمكِ الله يا أمي كما ربيتيني صغيراً، فكانت تقول له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! رحمك الله يا بني كما بررتني كبيرة]. فأحوج الناس إلى رحمتك الوالدان، وذلك بقضاء حوائجهما، والسعي في تفريج الكربات عنهما، وإدخال السرور عليهما، حتى قال العلماء: من الرحمة أن لا تظهر لهما ما أنت فيه من الشجى والحزن، فإذا كنت مهموماً محزوناً فعليك أن تحرص كل الحرص ألا يريا منك الحزن وألا يريا منك الألم، فإنهما يتألمان أشد من ألمك. الرحمة بالوالدين تكون بقضاء الحوائج في الدنيا، وكثرة الدعاء لهما في الآخرة، فإذا كانا أمواتاً فإنهما أحوج ما يكونان إلى دعوة صالحة منك، أن تسأل الله أن يصب عليهما شآبيب الرحمات، وأن يجعل القبور لهم رياضاً من رياض الجنات، فتلك رحمة أودعها الله في قلوب الأبناء والبنات، لو أن الإنسان سبق والديه، فمات قبلهما لتفطر القلب من الوالدين، وللهجت الألسنة صباح مساء بالترحم عليه. ومن أحوج الناس إلى رحمتك أبناؤك وبناتك، وإدخال السرور على الأبناء والبنات واللطف بهم والتيسير لهم، وإدخال السرور عليهم من أجلِّ ما تشرى به رحمة الله، ولذلك ثبت بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قصت عليه عائشة رضي الله عنها: (أن امرأةً دخلت عليها ومعها بنتان، فاستطعمت أم المؤمنين، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدةٍ منهما تمرة ثم أخذت الثالثة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين فأطعمتها، فعجبت أم المؤمنين رضي الله عنها من صنيعها، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصت عليه الخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: أتعجبين مما صنعت؟ إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك). الرحمة بالأبناء والبنات حسنةٌ عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات فأدبهن فأحسن تأديبهن، ورباهن فأحسن تربيتهن، إلا كن له ستراً من النار). وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إمام الرحماء بولده صلى الله عليه وسلم، ولذلك ثبت عنه (أنه كان يقبل الحسن والحسين، فدخل عليه الأقرع فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فقال: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك). وتوفي ابنه إبراهيم ففاضت عيناه من الدمع صلى الله عليه وسلم، فقيل: (ما هذا يا رسول الله؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده). فمن أراد أن يكون رحيماً فليبدأ بأولاده، وليبدأ بأهله وزوجه، فإن الرحمة بالأقربين من أعظم الحسنات، ومن أجلِّ الطاعات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). أحوج الناس إلى رحمتك إخوانك وأخواتك، فيتفقد الإنسان حوائج الإخوان والأخوات، ويدخل السرور عليهم ابتغاء رحمة الله، لا من باب القرابة، ولكن من باب الطاعة والقربة والمحبة وشراء مرضاة الله عز وجل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن صدقة القريب: (إنها صدقةٌ وصلة) فكل ما تقدمه لإخوانك وأخواتك وقرابتك مما تُشْتَرى به رحمة الله، كل ذلك إنما يكون عن رحمة أسكنها الله في قلبك. وكم من أناس هدوا إلى سواء السبيل، ولكنهم في غفلة عن حقوق الإخوان والأخوات، فقد تجد الإنسان حليماً رحيماً بالغرباء، ولكنه فظٌ غليظ بالأقرباء، فأول ما يبدأ الإنسان بقرابته من أهله وولده ووالديه، وإخوانه وأخواته، فإذا انطلق المسلم من بيته حليماً رحيماً فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، من ابتدأ ببيته فكان والداً رحيماً، وكان أخاً رحيماً، وكان كذلك ابناً رحيماً بوالديه، فتح الله له أبواب الرحمة مع المؤمنين والمؤمنات، والله تعالى ييسر لليسرى من جاهد نفسه على ذلك.

الضعفاء والمساكين والأرامل من المتعطشين للرحمة

الضعفاء والمساكين والأرامل من المتعطشين للرحمة ينبغي للمسلم أن يبدأ أول ما يبدأ بالقرابة، فإذا وفقه الله برحمة الأقرباء، نظر الإنسان إلى أحوج الناس للرحمة، وقد ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الإحسان إلى الضعفاء وإدخال السرور عليهم، وكما أن المسلم يرجو رحمة الله في سجوده وركوعه، فإنه يشتري رحمة الله في اللطف والإحسان بضعفة المسلمين، وقد ابتلى الله الأغنياء بالفقراء، وابتلى الأقوياء بالضعفاء، ورفع درجات بعضهم على بعض ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. فالسعيد العاقل من تزيده نعمة الله تواضعاً لعباد الله، ومن تزيده نعمة الله توطئة للكنف لعباد الله وإماء الله، يشتري رحمة الله بالإحسان إلى الضعفاء والفقراء والبؤساء، فيكفكف دموع اليتامى، ويجبر قلوب الأرامل والثكالى، يشتري بذلك رحمة الله. وقد أثر عن علي بن زين العابدين رحمه الله أنه كان إذا جن عليه الليل حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام -وكان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين ومع ذلك تواضع لله عز وجل؛ لعلمه أن الله يحب منه تلك الخطوة، ولعلمه أن جبر تلك القلوب يجبر الله به كسر العبد في الدنيا والآخرة- فخرج رحمه الله في الظلام بعيداً عن الرياء والسمعة والثناء، يشتري بذلك رحمة الله سبحانه، فلما توفي رحمه الله فقدت تلك البيوت من كان يقرع عليهم في جوف الليل، وفي بعض الروايات: كان ما يقرب من ثلاثين بيتاً من ضعفة المسلمين، كان يمشي إليها بخطواته، فمات رحمه الله وما ماتت تلك الخطا، وسيراها بعينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. المشي إلى الضعفاء، والمشي إلى البؤساء له لذة يعرفها من يعرفها المشي إلى المحرومين البائسين له رحمة يجدها من وجدها، فهؤلاء الأئمة الأخيار الصفوة الأبرار، عرفوا مقدار المعاملة مع الله، فاختاروا لنهارهم العلم والعمل، واختاروا لليلهم جبر القلوب المكسورة، وإدخال السرور عليها، فلما أرادوا أن يغسلوه رحمه الله خلعوا ثيابه فوجدوا ظهره متشحطاً من كثرة ما حمل عليه من الطعام، فرحمه الله برحمته الواسعة! كانوا أئمة في الإحسان وجبر القلوب، قد تمر على أرملة في ليلة ظلماء، وقد لا يكون عندها الطعام وهي في شدة الحاجة وشدة المسغبة، فتصيبها برحمة ساقك الله عز وجل بها من طعام أو مال، فتقف حائرة لا تدري ما الذي تقدمه لك، فلا تجد إلا أن ترفع كفها إلى الله داعيةً لك بخيري الدنيا والآخرة، فترجع إلى بيتك قرير العين عن الله، تقول: ربي إني لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقير. فجبر مثل هذه القلوب وإدخال السرور عليها عظيمٌ عند الله سبحانه: (مرت بغي من بغايا بني إسرائيل على كلب فرأته في شدة العطش والهاجرة يلهث -يأكل الثرى- فنزلت فملأت موقها من الركية -أي البئر- وسقت الكلب، فشكر الله لها -أي أن الله أعظم منها هذه الرحمة- فغفر لها ذنوبها) وفي رواية: (فشكر الله لها -أي أن الكلب لا يدري كيف يجازيها فاتجه إلى الله جل جلاله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً فسأل الله أن يشكرها- فغفر الله لها ذنوبها). الله أكبر! لن تجد ألذ من ساعة -بعد الإيمان بالله عز وجل وحلاوة مناجاته- مثل ساعة تحس فيها أنك أدخلت السرور فيها على محزون، أو نفَّست كربة مكروب، أو قضيت ديناً عن مديون تشتت ذهنه وعظم همُّه وظنه فأصابه ذل النهار وهمُّ الليل، فجئت بكل عزيمة إيمانية صادقة، والله مطلعٌ على قلبك، وأنت ماضٍ إليه تشتري رحمة الله لا تريد ثناءً ولا سمعةً ولا رياءً ولكن تريده سبحانه، فيعظم الله لك الثواب والأجر، إنها رحمات يوفق الله لها من أحب، أعطى الله الدنيا لمن أحب ومن كره، ولم يعطِ الدين والرحمة إلا لمن أحب، فالإحسان إلى الناس خاصةً الضعفاء والبؤساء أمرٌ عظيم. ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الإحسان إلى الأرملة والقيام على حوائجها ينزل صاحبه منزلة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، قال صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم: كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) وكان بعض العلماء يفضل السعي في قضاء حوائج المسلمين، حتى إن بعض أئمة السلف كان يفضل قضاء حاجة الأرملة على الاعتكاف في المسجد؛ لأنها إذا سألت ربها وابتهلت إلى خالقها سألت من قلب ودعت بصدق، فينال الإنسان بهذه الدعوة خيري الدنيا والآخرة.

أمور تعين على الرحمة

أمور تعين على الرحمة

معاشرة الرحماء

معاشرة الرحماء كذلك أيضاً مما يحرك القلوب إلى الرحمة والإحسان إلى الناس: معاشرة الرحماء، فانظر في إخوانك وخلانك، فمن وجدت فيه الرحمة ورقة القلب وسرعة الاستجابة لله، فاجعله أقرب الناس منك، فإن الأخلاق تعدي، فإذا عاشر العبد الصالحين أحس أنه في شوق للرحمة، وأحس أنه في شوق للإحسان إلى الناس، ودعاه ذلك إلى التشبه بالأخيار، فكم من قرينٍ اقترن بقرينه، كان من أقسى الناس قلباً، فأصبح ليناً لان قلبه بصحبة الصالحين.

قراءة سيرة السلف الصالح

قراءة سيرة السلف الصالح ومن أعظم الأسباب التي تعين على الرحمة: قراءة سيرة السلف الصالح، الأئمة المهديين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، والوقوف على ما كانوا عليه من الأخلاق الجميلة والآداب الكريمة، كل ذلك يحرك القلوب إلى الرحمة، ويجعل فيها شوقاً إلى الإحسان إلى الناس، وتفريج كرباتهم، وقل أن تجلس في مجلس فيذكر فيه كريمٌ بكرمه، أو يذكر المحسن فيه بإحسانه إلا خشع قلبك. فسير الرجال وسير الصالحين وسير الأخيار تحرك القلوب إلى الخير، والله تعالى يقول في كتابه: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فالله يثبت قلوب الصالحين على الصلاح والبر ما سمعوا بأمرٍ صالح وما سمعوا بسيرة عبدٍ صالح، نسأل الله العظيم أن يجعل لنا ولكم في ذلك أوفر العظة والعبرة.

قراءة كتاب الله عز وجل

قراءة كتاب الله عز وجل فمن أعظم الأسباب التي تعين على الرحمة وتيسر للإنسان طريقها: قراءة كتاب الله جل جلاله، قال العلماء: إن الرحمة لا تدخل إلى قلبٍ قاسٍ، والقلوب لا تلين إلا بكلام الله، ولا تنكسر إلا بوعد الله ووعيده وتخويفه وتهديده، فمن أكثر تلاوة القرآن، وأكثر من تدبر القرآن كسر الله قلبه ودخلت فيه الرحمة.

تذكر مشاهد الآخرة

تذكر مشاهد الآخرة كذلك من الأسباب التي تعين على رحمة الضعفاء: تذكر الآخرة، فإن العبد إذا تذكر مشاهد الآخرة، وصور نفسه كأنه قائمٌ بين يدي الله تجادل عنه حسنته، ويقف بين يدي الله عز وجل وقد نشر له ديوانه، وبدت له أقواله وأفعاله، إذا تصور مثل هذه المواقف قادته إلى الله وحببت إلى قلبه الخير وجعلت أشجانه وأحزانه كلها في طاعة الله ومرضاته.

نماذج من سير السلف في الرحمة

نماذج من سير السلف في الرحمة كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أشد الناس قلباً وأعظمهم صلابة، فلما كسر الله قلبه بالإسلام، كان من أرحم الناس بالمسلمين رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه عاشر رسول الأمة وإمام الرحماء فتأثر به، حتى قال العلماء رحمهم الله: كان أرحم الناس بالناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة. عائشة رضي الله عنها وأرضاها يأتيها عطاؤها من أمير المؤمنين معاوية رضي الله عن الجميع -وهي صائمة- ثلاثون ألف درهم وهي في أشد الحاجة، فتوزعها على الفقراء إلى فلان وآل فلان، ولم تبق منها شيئاً حتى غابت عليها الشمس، فالتمست طعاماً تفطر عليه فلم تجد. الله أكبر! إذا نزع الله الدنيا من قلب عبده وملأه من آخرته، صارت أشجان الإنسان وأحزانه وهمومه كلها لله سبحانه. أثر عن الحسن أنه خرج من ماله مرتين لله عز وجل، وخرج عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه للجهاد في سبيل الله فأعد فرسه وفيه ألف دينار نفقته للجهاد، وعليه عدته وزاده، فجاءه رجلٍ يبكي، وقال: [يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن سبيل منقطع، قال: دونك الفرس بما عليه]. وجاء رجل إلى عرابة وكان من الأجواد والأخيار ومن أهل البر والإحسان، وكان آية في الإنفاق والجود والكرم إذا ما راية رفعت لمجدٍ تلقاها عرابة باليمين وقد كان عرابة في آخر عمره فقيراً، أصابه العمى فكف بصره رحمه الله برحمته الواسعة، جاءه رجل فقير مدقع، فقال له: يا عرابة! وهو ماضٍ إلى المسجد الحرام يتوكأ على عبدين من عبيده، وكانا آخر ما يملك، فقال: يا عرابة! ابن سبيل منقطع، قال: دونك العبدين، قال: إنما أردت أن أختبرك، قال: إن لم تأخذهما فهما حران لوجه الله، ثم رجع يتلمس البيت ويتلمس الجدار، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا أئمة ومشاعل خيرٍ وبر، وما زال الخير في الناس. أثر عن بعض من سلف أنه كان محسناً كريماً لا يسمع بأرملة إلا تفطر قلبه على الإحسان إليها، ولا يسمع بأيتام إلا غشيهم وزارهم وأدخل السرور عليهم. جاءه خبر أن في طرف المدينة بيتاً فيه أيتام، وهم في شدة الجوع والظمأ والبرد، لا يجدون طعاماً ولا لباساً، فقام رحمه الله وخلع ثياب الشتاء ولبس ثياباً رقيقة لكي يشعر بالبرد كما يشعرون، ونادى وكيله الذي يقوم على المال، وقال له: لقد بلغني أن بموضع كذا وكذا أيتاماً تعولهم أمهم، وهم لا يجدون الطعام ولا يجدون اللباس والكسوة، فاذهب إليهم وخذ شيئاً من مالي فأطعمهم واكسهم. فكانوا أئمة خير، وكانوا مشاعل طاعةٍ وبر، نسأل الله أن يبلغنا ما بلغوه.

وصايا للرحماء

وصايا للرحماء

الصبر والاحتساب عند رحمة الضعفاء

الصبر والاحتساب عند رحمة الضعفاء الوصية الثانية: رحمة الضعفاء تحتاج إلى تعب ونصب وتضحية، ولابد للإنسان أن يصبر ويصابر، وأن يحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، وكان بعض الأخيار ينشرح صدره إذا وجد في الطاعة تعباً ومشقة، حتى كان بعض العلماء يقول: يرجى القبول للإنسان إذا عظمت مشقته في الطاعة. فأعظم الناس في الخير من عظم بلاؤه فيه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ثوابكِ على قدر نصبكِ).

الرحمة بالبهائم

الرحمة بالبهائم وكما أن الرحمة تكون للعباد، تكون كذلك للبهائم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال عليه الصلاة والسلام: في كل كبدٍ رطبٍ أجر) وقد (دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، قال بعض العلماء: أخشى من هذا الحديث إنه ما نزعت الرحمة من قلب إنسان إلا ابتلي بالنار؛ لأنها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع إلا من شقي). فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يملأ قلوبنا بالرحمة، وأن يجعلنا من أهلها، وأن لا يجعلنا من الأشقياء والمحرومين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ضرورة الإخلاص

ضرورة الإخلاص أيها الأحبة في الله: الرحمة في الضعفاء لا يقصد بها ثناء الناس، ولا مدح الناس، فإذا زكاك الله أغناك عن عباده، وإذا زكاك مولاك أغناك عن خلقه، فاجعل أعمالك بينك وبين الله، واجعل صفحات البر والإحسان التي تقدمها للضعفاء والفقراء أكره ما يكون أن يعلم بها أحد، فتكره أن تراها عين أو تسمع بها أذن، وليكن في قلبك الشعور أن أحب ما يكون: أن تعمل هذه الحسنة وتقضي وتسد هذه الخلة، ولا يعلم بك أحد إلا الله جل جلاله، أولئك الذين يرجون رحمة الله. وإذا كان الإنسان يريد الرحمة على أتم وجوهها وأكملها، فليخلص لوجه الله، فما كان لله فإنه باقٍ إلى لقاء الله، وما كان لغير الله فإنه يزول بزوال الدنيا، ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يؤتى بالكريم الجواد يوم القيامة، فيقول الله له: عبدي ألم تكن فقيراً فأغنيتك) الله أكبر! ما أعظم مشاهد الآخرة! ما أعظمها من ساعة إذا أوقف الله عبده وحاسبه وسأله وذكَّره نعمته! فقال: (عبدي ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ ألم تكن وضيعاً فرفعتك؟ ألم تكن ألم تكن قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت لي؟ قال: أنفقت لوجهك، وفعلت وفعلت، ولم أترك باب خيرٍ إلا فعلته، فقال الله: كذبت، فقالت الملائكة: كذبت، إنما أنفقت ليقال فلانٌ جواد وقد قيل اذهبوا به إلى النار) نسأل الله السلامة والعافية. اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وبصفاتك العلى، أن تجعلنا ممن قلت له: صدقت وبررت، وقالت الملائكة: صدقت وبررت (ويؤتى بالعبد الصالح فيعرفه الله نعمته، فيقول الله: ماذا عملت لي؟ فيقول: أنفقت لوجهك، وفعلت لوجهك، فيقول الله: صدقت، وتقول الملائكة: صدقت). فعلى الإنسان أن يحرص إذا فرج كربات الناس وأسدى للناس، ورحمهم وتولاهم أن تكون حسناته بينه وبين الله جل جلاله، ولا ينتظر من أحدٍ ثناء، ولكن ينتظر ثناء الله عز وجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه (أن الله تعالى ينادي ويقول: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، وينادي: يا أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيوضع له القبول في الأرض) نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فلا يحبك الله إذا قدمت مثل هذه الحسنات إلا إذا رجوت بها وجهه سبحانه وتعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لمن أراد ترك طلب العلم والدعوة بسبب الذنوب والمعاصي

نصيحة لمن أراد ترك طلب العلم والدعوة بسبب الذنوب والمعاصي Q أنا طالب علم وعندي رغبة في تحصيل العلوم النافعة، لكن في بعض الأحيان أتذكر ذنوباً ماضية، فأندم عليها أشد الندم، وأقول في نفسي: أنا لا أصلح أن أكون داعية، فضلاً عن أن أكون من العلماء، فيدخلني اليأس وتراودني نفسي على ترك الطلب، فما توجيهك لي حفظك الله؟ A والله كلنا ذاك الرجل، إذا ذكرنا ما سلف من التقاعس في طاعة الله والتفريط في جنب الله، أشفق الإنسان على نفسه، حتى إنه يخشى أن يكون مستدرجاً من حيث لا يحتسب، وهذا الذي سألت عنه شيء من الإشفاق والخوف والوجل، فإن العبد الصالح دائماً يبكي على ما مضى، ويخشى مما سلف وكان. يحق لي يا عين أن بكيت أبكي لعلمي بالذي أتيت أنا المسيء المذنب الخطاء في توبتي عن حوبتي إبطاء من منا لم يذنب؟ ومن منا لم يسئ؟ إذا كان هذا الشعور الذي تشعره من الذنب والإساءة فيما سلف، وكان يحرّك الله به قلبك للإحسان وكمال العمل فهي رحمة من الله أسكنها في قلبك لكي تحتقر نفسك، وإذا احتقرت نفسك رفعك الله، إذا كان أهل العلم وطلاب العلم دائماً يشعرون بأنهم في الدون تواضعوا لعباد الله، وخرجوا للأمة مشاعل خير مليئة بقلوبٍ رحيمة حليمة بعباد الله وأوليائه، فعظم خيرهم وبرهم. إن كريم الأصل كالغصن كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى فيكسر القلوب ما إن يتذكر الإنسان ما كان عليه ويقول: من أنا حتى أعلم الناس وأوجههم؟ فإذا صار هذا الشعور يمنعك من الزيادة في طلب العلم، ويريد منك عدو الله إبليس أن يخذلك عن مجالسة العلماء وطلاب العلم فاعلم أنه مكرٌ من عدو الله، وأنه استدراج منه يريد أن يخذلك، فقل له: اخسأ عدو الله، فإن رحمة الله فيما ضيقت عليَّ، وكم من إنسان أذنب وتاب وتفطر قلبه من الذنب فغفر الله له من أول لحظة، ثم جعل الله أشجانه وأحزانه على الذنب رفعة له في الدنيا والآخرة. ولذلك يقولون: إن الذنب قد يعود برحمةٍ على الإنسان، وقد ذكر هذا غير واحدٍ من الأئمة، إذا استصعب هذا الذنب، ودائماً يجعله نصب عينيه لا من باب القنوط ولا من باب اليأس، ولكن من باب الاحتقار للنفس والازدراء بها والمحاسبة لها؛ فهذا شيءٌ طيب، أما أن يصبح الإنسان بمثل هذه المشاعر يقصر في الدعوة ويقصر في مجالس العلم، ولا يريد أن يحمل مشعل الخير للناس فلا، ويأبى الله ذلك؛ لأن هذا الشعور مكرٌ من الشيطان، ورحمة الله واسعة وفضل الله عظيم ومن منا لم يذنب. وانظر إلى ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، في جاهليتهم ثم غفر الله لهم في طرفة عين، فأسلموا وأسلمت لله قلوبهم وقوالبهم، فأقر الله عيونهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبرفعة الإسلام، وعوضهم الله في الفتوحات والغزوات مشاهد صدقٍ كان لهم فيها حسن البلاء وعظيم الأجر من الله سبحانه. فإياك ثم إياك أن يخذلك عدو الله، وكن مستصحباً هذا الشعور دائماً في مجالس العلم وتقول: يا رب كنت جاهلاً فعلمتني، وكنت ضالاً فهديتني، وكنت وضيعاً فرفعتني، فمن أنا لولا فضلك ولولا إحسانك؟! ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ، وتظهر ذلك لله، وقد قال بعض السلف: والله ما دخلت مجلساً ورأيت نفسي أصغر الناس إلا خرجت وأنا أعلاهم، ولا دخلت مجلساً وأرى نفسي أعلى القوم إلا خرجت وأنا أدناهم. وينبغي على طالب العلم دائماً أن يستصحب أنه وضيع إلا أن يرفعه الله، وأن يتواضع للناس، وأن يكون عنده مثل هذا الشعور الذي يحمله على مكارم الأخلاق وحسن المعاملة مع الله، والله تعالى أعلم.

كيفية الجمع بين طلب العلم وبر الوالدين

كيفية الجمع بين طلب العلم وبر الوالدين Q قدمت لطلب العلم الشرعي وتركت والديَّ في منطقتي، فأيهما أفضل: طلب العلم أم بر الوالدين؟ A الأفضل أن تطلب العلم وتبر الوالدين، فإن تيسر طلب العلم في بلدك مع بر الوالدين فهو أفضل، وأما إذا لم يوجد في بلدك من هو أعلم والناس بحاجة إلى علمك، فيجب عليك أن تخرج؛ لأنه تعلق بك حق أمة وأنت مسئول عنهم بين يدي الله، ولذلك قال الله في كتابه: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] والله سائلك عن أمتك وجماعتك وأهلك ووطنك وقريتك ومن أنت معهم، فهذه مسئولية عظيمة. فإذا تعين عليك طلب العلم فقد قال العلماء: هذا يستثنى من استئذان الوالدين، هذه من المواضع التي تستثنى ولا يجب فيها استئذان الوالدين، ولكن الأفضل والأكمل أن تتلطف في أخذ رضاهم، فهذا أمرٌ ينبغي عليك أن تسعى فيه وتحرص على الجمع بين الحسنيين. وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، ويعلم الله سروري بلقاكم في هذا المجلس، وأسأل الله العظيم أن يجزي المشايخ كل خير، وأن يجزي مكتب الدعوة بعنيزة كل خير، فقد كان له الفضل بعد الله في الدعوة إلى مثل هذه المجالس الطيبة المباركة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله.

نصيحة لاغتنام الفرص في مواسم الطاعة

نصيحة لاغتنام الفرص في مواسم الطاعة Q قبل الختام نطلب من فضيلة الشيخ أن يوجهنا بنصيحة، ونحن نستقبل بعد أيامٍ إن شاء الله تعالى عشر ذي الحجة، وهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الأيام التي يحب الله فيها العمل الصالح من عباده، كما أطلب منه كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يخص بها أخواتنا النساء في معاشرتهن ومسلكهن ودعوتهن ولباسهن فجزاه الله عنا خير الجزاء ولو أثقلنا عليه؟ A أيها الأحبة في الله: إن الله تعالى من واسع رحمته بهذه الأمة اختار لها أزمنة محدودة، ومواسم معدودة يتسابقون فيها للطاعات، ويشمرون فيها عن ساعد الجد في المرضاة؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، فينبغي على الإنسان أن يهيئ نفسه لهذه المواسم. وإذا أراد الإنسان أن يوفق في موسم الطاعة فليستقبله أول ما يستقبله بالتوبة، فيكثر من الاستغفار؛ لأنه غالباً يحال بين الإنسان وبين التوبة بسبب الذنوب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) فإن الذنب قد يحال بسببه بين العبد وبين الخشوع، وقد يحال بسببه بين العبد وبين منزلته في الجنة، فإياك ثم إياك أن تفتر عن ذكر الله بالاستغفار، والله تعالى يقول: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت:6] فأكثر من الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل عما سلف وكان. ثانياً: عليك أن تحس بقصر الأجل وقصر العمر، فهي من أعظم الأمور التي تعين على مواسم الخير، والإنسان ما بينه وبين الآخرة إلا قبض روحه، والموت يأتي الصغير فلا ينظر إلى صغره، ويأتي الكبير فلا ينظر إلى كبره، وكم من ممسٍ كتب عليه ألا يصبح، وكم من مصبح كتب عليه ألا يمسي، والله أعلم، فكم من إنسان يضحك وإذا به في طرفة عين قد صار في عداد أهل الآخرة، قال بعض السلف: كم من إنسان يضحك بملء فيه وقد نسجت أكفانه من حيث لا يدري. فالإنسان إذا استقبل مواسم الخير وهو قاصر الأمل، يقول: لا أدري هل أعيش إلى الغد أو لا أعيش. الأمر الثالث مما يعين على اغتنام مواسم الخير: دعاء الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح يومه فيسأله التوفيق للطاعة والبر، وكان يسأل الله خير يومه أوله وآخره وفتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، والله إذا رآك تقف في بابه تسأله من رحمته وهو الكريم سبحانه لا يرد من سأله، فقد تكفل الله لك أن يعطيك سؤلك أو يرفع عنك من السوء مثلما سألت، أو يدخرها لك بالآخرة في منزلة قد لا تبلغها بكثرة صلاةٍ ولا صيام. يقف الإنسان بين يدي الله ويقول: اللهم إني أسألك التوفيق في الخير، وكلما دخلت في موسم خير وبر تسأل الله أن يجعلك أسعد العباد، تقول: يا رب لا تجعلني بذنبي شقياً ولا محروماً، ولا تحل بيني وبين المسابقة في هذا الخير بما كان مني، فإن كنت أنا المقصر وأنا المذنب فأنت الكريم الجواد، فتستشعر بأنك أحوج ما تكون إلى رحمة الله بالدعاء. ثم تصور أخي في الله مما يلهب مشاعرك، ودعاء الله وسؤالك أن تخشى أن تكون أشقى الناس فتقول: يا رب لا تجعلني شقياً، امنن عليَّ بالتوفيق والتسديد والتأييد، ونحو ذلك من مسائل الخير المباركة. الأمر الرابع: الاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المواسم، فأولى الناس بالرحمة والهدى والبر هو الحريص على التأسي بالكتاب والسنة، ولن تستطيع أن تنال الجنة ولا رحمة الله ولا محبته إلا من هذا السبيل الوحيد الفريد، صراط الذين أنعم الله عليهم، والذي اختاره الله لنبيه وختم به وأقفل جميع الأبواب، ولم يبق إلا باباً واحداً لا يدخله إلا من اتبع سنته وسار على نهجه وطريقته. وتحرص في كل موسم أن تسأل العلماء: ما هو هديه صلى الله عليه وسلم في القول والفعل؟! فإذا علمت هديه التزمت هذا الهدي فلم تزد عليه ولم تنقص منه، فإذا فعلت ذلك هديت، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فمن أراد أن يحبه الله فليتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يكون من هديه. وقد ندبنا صلى الله عليه وسلم إلى الاستكثار من الاستغفار في هذه العشر، فتستكثر من الخير في الأقوال والأفعال، فتبدأ أول ما تبدأ بعقيدتك، وهناك أعمال للقلوب من حب الله والخشوع والخضوع والبكاء من خشية الله، ونحو ذلك. ومن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، ما كان بين العبد وربه مما يزيد بتوحيد الإنسان وإيمانه بالله سبحانه وتعالى، فهذه الأمور من أعظم الأمور وأحبها إلى الله، ولذلك ذكر غير واحد من العلماء وأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية: أن أعمال القلوب تفضل كثيراً على أعمال الجوارح، وذلك لما فيه من توحيد الله وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، والله تعالى ابتلى عباده بالإخلاص والتوحيد، وكلما كان القلب مستشعراً لمثل هذه المعالم من محبة الله والخوف والخشية كلما عظم الثواب عند الله عز وجل. فعندما تدخل المواسم عليك حاول قدر استطاعتك أن تكون أكمل الناس خوفاً من الله. وقف بعض السلف في يوم عرفه فقال: والله لو نادى منادي الله: قد غفرت لأهل الموقف إلا واحداً لعددت نفسي ذلك الرجل، فالإنسان لما تدخل عليه مواسم الخيرات ويحس أنه حقير، وأنه مقصر، وأن الله عز وجل له هيبته وله جلاله جل جلاله، وأنه ينبغي أن يهاب ويخشى، فمثل هذه الأمور من أحب الأعمال إلى الله وأعظمها ثواباً عند الله. الأمر الآخر: الأعمال الصالحة من الأقوال والأفعال، يحرص الإنسان عليها، فيبدأ كما ذكرنا بالوالدين والأقربين، ثم بضعفة المسلمين ليحسن إليهم ويتفقدهم ويقضي حوائجهم، ويحتسب الثواب عند الله سبحانه وتعالى، ثم يجتهد في الطاعات من ذكر الله، وكثرة تلاوة القرآن، فكل ذلك مما يحبه الله ويرضاه. وأما نصيحتي لأخواتي المسلمات: فأوصيهن ونفسي بتقوى الله الذي يعلم السر والعلانية. أخواتي المسلمات: إن الله أدبكن فأحسن تأديبكن بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثنى على الصالحات في كتابه فقال: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]. أختي المسلمة: سعادتك في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تكفل الله لمن اتبع كتابه بما يسعده فلا يشقى أبداً، وتكفل لمن اتبع كتابه بالنور والرحمة والشفاء والهدى والسداد في الدنيا والآخرة. يا أَمَة الله: اسمعي لكلام الله فإن سمعتِه يناديكِ فبادري بالاستجابة وبادري بالتطبيق والعمل. يا أَمَة الله: أحب الأعمال إلى الله إخلاص العبادة، فاحرصي على الإخلاص، وإياك والرياء والسمعة وطلب ثناء الناس، فما عند الناس يذهب ويبلى، وما عند الله يدوم ويبقى، وما كان لله قرت به العين بين يدي الله في يومٍ يبعثر فيه من في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير يوم تبلى السرائر. يا أَمَة الله: إن الله فرض عليكِ حقوقاً لوالديك فقومي بها على الوجه الذي يرضي الله من البر والإحسان، فرض الله عليكِ حقوقاً لبعلكِ فأحسني المعاشرة له بالمعروف مستجيبةً لأمر الله، فإن أقر الله عينك بالزوج الصالح الذي يفي لكِ كما وفيت فاحمدي الله على فضله، واسأليه الثبات على طاعته، وإن رأيت غير ذلك من إساءة في العشرة أو إساءة في القول والعمل فاعلمي أن الله لا يضيع لكِ الثواب، وأنكِ تحتسبي عند الله الأجر والمآب، فلا تضعفي ولا تجبني ولا تسيئي إلى العشير. أدي الأمانة إلى من ائتمنكِ ولا تخوني من خانكِ، فإن رأيتِ البعل يكرمكِ فأكرميه، وإن رأيته يهينك فإن الله لا يهينك، واعلمي أن الصبر على البعل في أذيته وإهانته وإذلاله لك فيه ثواب ومرضاة، فاحتسبي عند الله أجرها، والله تعالى مطلعٌ على ما يكون فاحتسبي الأجر عند الله، وكما إنكِ ترجين الثواب في ركوعكِ وسجودكِ فإن صبركِ على البعل فيه ثوابٌ لكِ. يا أَمَةَ الله: إن الله فرض عليكِ حقوقاً لأبنائكِ وبناتكِ فاتقي الله في الأبناء والبنات، وأحسني تربيتهن والقيام على حقوقهن في الطعام والشراب والكسوة، وربيهن على طاعة الله ومرضاته، فكم من أمٍ صالحة هدت ودلت كتب الله لها ثواب ما هدت ودلت، وكم من عالم ثوابه في ميزان حسنات أمه، قالت أم سفيان الثوري وهو يتيم: يا بني اطلب العلم أكفك بمغزلي، رحمها الله برحمته الواسعة، كانت تشتغل بمغزلها وتطعم ابنها وهو يتيم حتى أصبح إماماً من أئمة المسلمين، وديواناً من دواوين العلماء العاملين، وكل ذلك في ميزان هذه المرأة الصالحة. يا أمة الله: إياك والنعرات والدعوات إلى السيئات والشهوات؛ فإن أهل الشهوة يريدون منكِ أن تميلي ميلاً عظيماً، يريد الله لكِ الطهر والعفاف، والخير والكفاف، فكوني لله يكن الله لكِ، اعلمي أن سعادتك في هذا الدين، فمهما رأيتِ من المهانة والمذلة فاعلمي أنها عزة وكرامة، وأن التمسك بالدين والاعتصام بحبل الله المتين قرة عينٍ لكِ في الدنيا والدين. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا سواء السبيل، وأن يقيم لنا المعلم والدليل إنه المرجو الجليل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.

حكم المزاح مع الوالدين

حكم المزاح مع الوالدين Q إني أمازح والديَّ وأضحكهما وأرفع صوتي عندهما، وأعلم أنه يدخل السرور على قلبيهما، فهل عليَّ من حرج؟ وما ضابط المزاح مع الوالدين؟ A من الحياء أن الإنسان لا يستطيع أن يمزح مع والديه، لكن إذا كان الوالد هو الذي يؤذي وهو الذي يمزح فتذل له فلا بأس، أما أن تأتي أنت وتمزح معه وتبدأه، فهذا أمر من الصعوبة بمكان، لكن إذا هجم عليك ومازحك وليس باليد حيلة فما حيلة المضطر إلا ركوبها، فعندئذٍ لا حرج أن تمازحه إذا ما غلبت على أمرك. وقد رخص العلماء في مزح الولد مع والده، وأنه لا حرج عليه في ذلك، لا سيما إذا علم أنه يدخل السرور عليه، ولكن الأفضل والأكمل أنه لا يبتدئ المزاح؛ لأن في ذلك إسقاطاً للهيبة، وذهاباً للحرمة، وقلَّ أن تمزح مع أحد كائناً من كان إلا وكان له بعض الأثر في نفسك. وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها تشريعاً للأمة، فالأكمل والأفضل أن الإنسان يحفظ لوالديه الهيبة، ويحرص قدر المستطاع أن يعوض عن هذه الكماليات بما هو أكمل وأفضل من القيام بحقيهما والرعاية لهما، وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.

حكم مساعدة الناس بقصد المجاملة

حكم مساعدة الناس بقصد المجاملة Q أقوم في بعض الأحيان بتسليف بعض من يحتاج إلى المال، فيعرض عليَّ طلبه، فأقوم بتلبية حاجته، ولكن في بعض الأحيان أقوم بهذا العمل إما بقصد دعوي، أو بقصد المجاملة لهم، فهل أحصل على الأجر بالمجاملة لهم، مع العلم أن بعض المبالغ مضى عليها أكثر من ثلاث سنوات، وهل يجوز لي أن أنوي من الآن أنها تفريج ومساعدة، علماً إني أستطيع أن أذهب إليهم وأطلبهم ما سلفتهم إياه، وفقك الله ورعاك؟ A يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه: (إنما لكل امرئٍ ما نوى) قال بعض العلماء: فيه دليل على أنه لا يكون للإنسان إلا ما نواه، إن كان للدنيا فللدنيا، وإن كان للآخرة فللآخرة، فإذا جاءك أحد وأحرجك فاجعل نية الآخرة هي الأصل، واجعل نية الدنيا تبعاً، أي: تعطيه ولكن تنوي أنك تحتسب أجرها وثوابها عند الله، وتجعل نية المجاملة تبعاً، وهذا لا يضر فيه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] قال بعض العلماء: إنهم فضلوا أن ينالوا العير والغنيمة من المال، ومع ذلك كانت نيتهم في الأصل إغاظة العدو، وكسب مرضاة الله عز وجل، فلم يؤثر ما كان تبعاً. فنية الدنيا إذا كانت تبعاً لم تؤثر، لكن الذي يظهر من السؤال أنك مجامل، وأنك مستحٍ منهم، فإذا كان الأمر كذلك فهي نية دنيا، ولكن إذا نويت من الآن أن تجدد النية، وندمت على ما مضى وسألت الله فإن الله كريم، وفضل الله عظيم، وكونك تقول: إنه بإمكانك أن تأخذ المال منهم الآن، ولكنك تحتسب عند الله التخفيف عليهم، فأنت كذلك مثاب، فاحتسب من الآن، واسأل الله عز وجل أن يعوضك عما سلف وكان، والله تعالى أعلم.

ضرورة الصبر والاحتساب في الدعوة إلى الله

ضرورة الصبر والاحتساب في الدعوة إلى الله Q من الرحمة أن أرحم أهلي وأن أعاملهم بالحسنى وأدعوهم إلى الله، ولكن كلما فعلت ذلك أجد منهم قسوة وعدم قبول، فماذا أفعل وفقك الله وفتح عليك؟ A أسأل الله العظيم أن يسددك ويسدد أمثالك بالخير والبر، المؤمنة الصالحة إذا صلح حالها نشرت الخير والصلاح في أهلها، وأقرب الناس منها، ورأت عظيم حق قرابتها عليها، فقامت بذلك الحق على أتم وجه، فقد زكى الله الصالحات من فوق سبع سماوات: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]. المرأة الصالحة يحترق قلبها على أهلها وذويها، مع ذلك لا تمل ولا تسأم ولا تضعف أبداً، بل إنها تشعر بالقوة، فكلما رأت الصدود والإعراض تقول: الله أكبر! الله فوق ذلك وأعظم وأجل من أن يخيبني، فيبقى عندها الشعور بحسن الظن بالله، وسيريها الله الساعة التي تقر فيها العين بهداية أهلها وذويها، وما ذلك على الله بعزيز، فإن لله حكماً عظيمة، فقد ترى قرابتك يعرضون عنك ولكن لحكمته سبحانه يؤخر هدايتهم، حتى يبتلي صبرك، ويبتلي صدقك، ويعظم أجرك، ويرفع من قدرك في الدنيا والآخرة. فاحتسبي الأجر عند الله، وخذي من نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبره، بماذا آذوكِ؟ غاية ما يكون من الكلمات، والرسول صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته، وشج وجهه وسالت دماؤه، وقتل عمه وبقرت بطنه، فقال: (ربِّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون) فلا يخيب ظن الداعية بالله أبداً، بل إنه يتلقى مثل هذه المواقف بنفسٍ أبية وقلبٍ ثابت يحسن الظن بالله، ويعول في نجاحه على الله، والله مع عبده، والله مع الصابرين. فهذا من الصبر، بل قال بعض العلماء: ألذ ما وجدت من الصبر الصبر على الدعوة. بما فيه من استشعار أن الله يحب منك هذا الصبر من الكلمات الجارحة، والعبارات القاسية، والتذكير بالماضي المؤلم، وغير ذلك من التحقير والتسفيه، ومع ذلك لن تخيبي عند الله، ولذلك قال عروة: [والله ما قام عبدٌ في دعوته إلى الله مقام ذلٍ إلا أقامه الله مقاماً أعز منه] فلن تجد امرأة تهان بين أهلها، وهي تدعوهم حتى يأتي اليوم الذي تكون فيه درة بين من كان يهينها. وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: (قولوا لا إله إلا الله) فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ فسفهه على رءوس الأشهاد، فمضت السنون تلو السنين، فوقف بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم على الصفا معه مائة ألف من أمته وأصحابه يفدونه بأرواحهم وأنفسهم، وقد أعاده الله مقام عزة وكرامة، وهذا هو دأب الله، ولكن الأمر يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى احتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30]. ومن كمال الإحسان: كمال الصبر واحتساب الأجر، فلابد للداعية من الرجال والنساء أن يكون محتسباً للأجر، وقد كان بعض العلماء يفرح بتأخر التوبة، يقول: ربما لو تابوا خدعت بنفسي، واغتررت بإنهم تابوا بحسن أسلوبي، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يعصمني من فتنة، مع أن تذكيرك بالله واستدامة النصح له كله في ميزان حسناتك، فاثبتي ثبتكِ الله وثبت أمثالكِ على طاعته ومرضاته، والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن أراد التوبة من الذنوب والمعاصي

نصيحة لمن أراد التوبة من الذنوب والمعاصي Q أنا شخصٌ عندي بعض المعاصي والذنوب وأريد أن أتوب منها، وأرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فما نصيحتك لي جزاك الله خيراً؟ A أوصيك أخي في الله! أن تقبل على الله تعالى، وأن تعلم علم اليقين أن الله يفرح بتوبتك أشد من فرحك أنت بنفسك، فالله يفرح بتوبة عبده أكثر من فرح الإنسان نفسه بتوبة الله عليه، وهذا من كرمه وفضله، وهو أغنى ما يكون عنا: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً). أشهد لله بذلك، أنه ما نفعته طاعتنا ولا ضرته معصيتنا، فما عليك إلا أن تشعر أن الله يحب منك هذه الخطوة، ويحب منك هذا الإقبال، وأن الله تعالى يرضى عما تقدم عليه من الإنابة إليه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] علم أننا عباده وأننا أفقر ما نكون إليه، وأحوج ما نكون إليه، فهو يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل. اللهم لك الحمد على رحمتك، اللهم لا نحصي ثناءً عليك، كم من مسيءٍ مذنب إذا قال: أستغفر الله تلقاه الله بمغفرته، وكم من مخطئ عظمت عثرته وإساءته فقال: أستغفر الله من قلبه، فتلقاه الله برحمته، فليست هناك ساعة ألذ من ساعة التوبة والإنابة والشعور بالتقصير، فأبشر بخير. واعلم -أخي في الله- أن الشيطان سيحول بينك وبين الله بما يذكرك من المعاصي، فأقبل على الله فإنك سعيدٌ بربك، ولن يستطيع أحد أن يدخل بينك وبين الله جل جلاله. نسأل الله العظيم أن يتوب علينا في التائبين، وأن يجعلنا من عباده المنيبين، والله تعالى أعلم.

كيفية معاملة الخادم والأجير

كيفية معاملة الخادم والأجير Q فضيلة الشيخ طيب الله مسعاك، وكتب الله خطاك في موازين حسناتك، وقد قطعت الفيافي والقفار فجزاك الله خير الجزاء، كيف يعامل الإنسان منا خادمه وأجيره وعامله الذي أتى به من بلاده، خصوصاً وأن مقالةً نسمعها أن خفض الجناح لهم واللين معهم يجعلهم يتكاسلون ويتهاونون في أعمالهم، إجابةً منك تنفعنا وإرشاداً منك يرفعنا جزاك الله خير الجزاء؟ A أشهد الله الذي لا رب غيره ولا إله سواه إني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته، ووالله ما قطعتها إلا وكأني بين أهلي وإخواني، والله أعلم مقدار سروري أن أراكم، وأن أجتمع بكم في بيتٍ من بيوته، وبعد فريضةٍ من فرائضه، وأسأل الله العظيم أن يمتعنا بكم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر. أخي في الله: ما سألت عنه من الأجير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه فقد خصمته: رجلٌ أعطي بي ثم غدر، ورجلٌ أستأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفهِ أجره، ... ) قال العلماء: في هذا الحديث دليل على عظم أمر الأجير، حتى إن الله سبحانه وتعالى صار هو الخصم لعبده، ومن كان الله خصمه فقد خصمه الله، ولذلك قال العلماء: السبب في هذا الحديث أن الأجير ضعيف، وغالباً إذا جاءه مستأجره، وقال له: افعل، أو اتفق معه على شيء لا يستطيع الأجير أن يقول له: أشهِد أو هلم نكتب؛ لأنه يخاف أن يذل أو يؤذى، ولذلك غالباً ما يجعل الله شهيداً وحسيباً على حقه، فتكفل الله جل جلاله أن يأخذ له بحقه في الدنيا والآخرة. فإذا كان أخوك في الإسلام قد قدم إليك من بلادٍ بعيدة، فارحم غربته، وارحم ما فيه من الحزن والألم من فراق الأهل والأوطان والأحباب والخلان، والله تعالى إذا ابتلاك بمجرد أن تتعاقد مع أحد فاعلم أنها ساعة امتحان، قبل أن تكون ساعة كسبٍ وتجارة، فالدنيا بجميع حركاتها وسكناتها امتحانٌ وابتلاء للعبد، فما رزقك الله الحياة إلا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قال بعض العلماء: قال الله: {أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ولم يقل أيكم أكثر؛ لأن الإحسان لا يرزقه إلا السعيد. فإذا جئت تعامل الأجير فاتقِ الله أولاً في العقد الذي بينك وبينه؛ فإن الله يخاطبك من فوق سبع سماوات، ويوصيك ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فبينك وبينه الله في كل كلمةٍ تقولها، وفي كل شيءٍ تضعه بينك وبينه من شروط وحقوق، فتوفي ذلك على أتم وجه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [مقاطع الحقوق عند الشروط]. الأمر الثاني: إذا كلفته بالعمل فلا تكلفه فوق طاقته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في العبد المملوك وهو ملكٌ للإنسان: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحته فليطعمه مما يطعم، وإذا كلفتموهم فأعينوهم) حتى إنه ندب أن تعينه إذا كلفته بالعمل، هذا وهو ملكٌ لك، وملكٌ ليمينك وتحت أمرك، فكيف بالأجير الذي ليس بينك وبينه إلا العمل. إياك ثم إياك أن تستطيل في عرض أخيك المسلم، إياك ثم إياك أن تظن أن كونه أجيراً يبيح لك عرضه؛ لأن الله حرم عليك ذلك، فلا تسبه ولا تشتمه ولا تهينه، ولا تخاطبه بالعبارة التي تحقره بها في لونه أو حسبه أو جنسه أو ذات يده، فإن الله مطلعٌ على ما في قلبك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) إياك أن تحتقره، أو تنظر إليه نظرة ازدراء وانتقاص، فإن الله يحاسبك، ولذلك يقول العلماء: هذه من أعمال القلوب التي يحاسب عليها العبد. لأنك إذا احتقرته في قلبك تأثرت في معاملته، ونظرت إليه ضعيفاً فغلبته لضعفه، أو فقيراً فأذللته بفقره. وعليك أن تعده أخاً لك في الإسلام، وتقوم معه على المعاملة التي بينك وبينه، وكن مسلماً كاملاً في إسلامك، قد سلم المسلمون من لسانك ويدك، إياك أن تمد يدك عليه بالسوء، أو تمد لسانك عليه بالسوء، فإن الله يأخذ الحقوق قصاصاً، وإن مما يهين ويدخل الرعب في قلوب الناس يوم القيامة ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجدون في صحائف الأعمال مثاقيل الذر من الأقوال والأفعال) أي: الأمور اليسيرة التي ما كانت تخطر لهم على بال، فلذلك يتقي الله الإنسان في مثل هذه الأمور. الأمر الرابع: أن الإنسان لا يلزم الأجير بشيءٍ لم يلتزمه، بل ينبغي عليه أن يتقيد فيما بينهما وبين العمل، وأيضاً على الإنسان أن ينظر إلى حال الأجير، فإذا وجده مهموماً محزوناً أدخل السرور عليه، ويرفق به ويرحمه، فإذا كان فيه شدة ظمأ أو شدة هاجرة جاءه بماءٍ بارد احتسبه شربة عند الله عز وجل، وكذلك طعام يدخل به السرور عليه. ولقد رأيت الوالد رحمه الله يأكل مع عماله في المزرعة، وهو عالم يشار إليه بالبنان في المدينة، ولا يحس بغضاضة، بل يشعر بانبساط وبمحبةٍ وألفة، وما سقطت هيبته من قلوبنا؛ لأن الناس يظنون أن هذه المباسطة ذلة، ويقولون: القوة والعبوس والأذية والجفاء صفات الرجولة الكاملة، وكذبوا؛ لأن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً) ولذلك إذا عفوت عن أي مظلمة يقولون: هذا ضعيف، هذا جبان، هذا ليس عنده كمال رجولة، أو ليس برجل، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يكذب هذا فيقول: (ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً) يعني هذا الذي يظنه الناس ذلة هو عزة وكرامة لك. ولذلك يخرج الأجير من عندك وهو شاهد عند خلق الله، وبين يدي الله أنك صاحب عزة وكرامة، (قال: يا رسول الله! كيف أعلم إني أسأت؟ قال: سل جيرانك)، فإن قالوا: أحسنت فقد أحسنت، وإن قالوا: أسأت فقد أسأت، لا تستطيع أن تعرف الرجل على الحقيقة في كمال أخلاقه وجمالها وبهائها وحسنها مثل معاملته للعمال. نعم، كونه يكون حسن الأخلاق، كريم المعشر مع إخوانه وزملائه، هذا أمرٌ طبيعي؛ لأن القرين مع قرينه قد يخافه ويهابه، ولكن أين المحن وأين الابتلاء الصادق أن تسمع عماله يعطرون ذكره بالذكر الحسن، فهذا هو الذي يدل على أنه مؤمنٌ كامل الإيمان إن شاء الله. نسأل الله أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.

نصيحة للعاق لوالديه

نصيحة للعاق لوالديه Q أنا طالب علمٍ ولكن بيني وبين والديَّ مشاكل، فتركتهم حتى إن أبي جاءني وبكى عندي فتركته، فما توجيهكم لي، وما الذي يكون عليَّ في هذه الحالة؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد أخي في الله! اتق الله في أبيك، اتق الله قبل أن تحل بك نقمة من الله، فإن العقوق مفتاح للشر وسببٌ في سلب الخير والبر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أنه لا يدخل الجنة عاق) أيأتيك أبوك الذي تربيت بنعمته بعد نعمة الله؟ أيأتيك أبوك الذي وصاك الله عليه من فوق سبع سماوات أن تخفض له جناح الذل من الرحمة، وأن تقول: رب ارحمه كما رباني صغيراً؟ أيأتيك أبوك ويقف عليك، والواجب أن تأتيه وأن تذل عنده، وأن تخفض له جناح الذل، تشتري بذلك رحمة الله. أخي في الله: تدارك نفسك ومن هذه الساعة تتوب إلى الله، ومن تاب إلى الله تاب الله عليه، وأحذرك من نقمة الله العاجلة، وعقوبته الآجلة أن تنزل بك، وعاهد الله من ساعتك هذه أن ترجع إليه، وأن تدخل السرور إليه، وأن تضحكه كما أبكيته، وأن تسره كما أحزنته، وأن تكرمه كما أهنته. اتقِ الله في والدك، وأحسن إليه كما أمرك الله، والله تعالى يبدل الإساءة بالإحسان لمن وقف في بابه يرجو الصفح والغفران. وأوصيك أخي في الله: أن تبادر بعد انتهاء الصلاة إلى والدك، وأن تجلس عند قدمه باكياً ذليلاً خاضعاً {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] (قال: يا رسول الله! أتيت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد وتركت والديَّ يبكيان قال: أترجو الجنة؟ قال: نعم. قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما) وفي الحديث الآخر: (قال: يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد قال: أحية أمك؟ قال: نعم. قال: الزم رجلها فإن الجنة ثم). فارجع إلى أبيك وتب إلى باريك وقل: يا رب! التوبة مما بدر مني وكان، وارجع إلى والدك فإن الله عز وجل يتوب على من تاب، وكم من عاق كسر الله قلبه بالقرآن ومواعظ أهل الإيمان، فرجع إلى والديه فعادت عليه الرحمة من الكريم الرحمان، فالله كريم جواد، فتب إلى الله وارجع إليه، وصدِّق هذه التوبة بالإحسان إلى والدك وإلى والدتك. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقك لذلك. أخي في الله: فإن أردت أن تكون من العلماء فاعلم أنك لن تكون عالماً هادياً مهدياً إلى إذا هُدِيت في نفسك، ولن تكون هادياً مهدياً إلا إذا بدأت بأعظم حقٍ عليك وهو حق الله في توحيده والقيام بحقوقه وحدوده ورعاية محارمه سبحانه، ثم بِرُّك لوالديك، واعلم أنه لا علم بدون بر، وكم فتح الله لعلماء من الماضين -ممن عرفناهم من مشايخنا- من أبواب السعادة والخير والبركة في علمهم بفضله تعالى، ثم بدعاء الوالدين. وقد ذكر بعض العلماء حين كتب ترجمته بيده فقال: ما عرفت خيراً بعد الإيمان بالله أوصلني إلى هذا بعد توفيق الله مثل بري لأبي، فقد توفي وهو في النزع يدعو لي بالعلم والعمل، فبلغني الله فوق ما يرجو، وهو من العلماء الأفذاذ، وهذا لاشك أنه فضل. وأذكر رجلاً كان في ضعف وضيق، وفي شدة حال وبؤس، كان يذهب ويسعى لوالديه، فإذا جاء بالأجرة في يومه جاء ووضعها على الطاولة، ويستحي أن يمد يده لأبيه، فلما سألته وقلت: ولماذا؟ قال: أستحي أن أرفع يدي على يد أبي فتكون منة على والدي، قال: فكنت إذا وضعت له المال -يحكي لي ذلك وهو عالم من العلماء- بين يديه يدعو الله ويقول: اللهم ارزق ابني القرآن واجعله من أهله، فبلغ أكثر من عشرين عاماً وهو تائه في الأعمال، حتى شاء الله في يومٍ من الأيام وهو عائد من عمله، إذا به يلتقي بعالمٍ كان عمدةً في بلده في الفتوى، فقال: يا بني! ما هذا الذي أنت فيه؟ قال له: ما ترى إني أسعى للرزق، قال: هل لك أن تجعل لي يوماً من أسبوعك؟ قال: نعم، ونعمت عيني بذلك، فما زال يتردد على ذلك العالم، حتى جاء اليوم الذي يناقش فيه رسالته في الدكتوراه في تفسير القرآن العظيم، فلما دعي إلى المناقشة وجلس إذا بشيخه وأستاذه يقوم مهابةً له وإجلالاً لما كان فيه من العلم، وقال: تفضل يا شيخ فلان. ومن المعلوم أن الشيخ لا يتنزل لطالبه في الغالب، وإذا به أمام الجمع قال: هالني ما رأيت فيه من العلم والمعرفة بكتاب الله فعظمته وأجللته، فلما قال له: تفضل يا شيخ فلان جلس يبكي، فقال: تبكي ونحن نريد أن نجلك؟ قال: ذكرت دعوة أبي رحمه الله: اللهم ارزق ابني القرآن واجعله من أهله، فبلغه الله تفسير كتابه وبلغه الله هذه المنزلة العظيمة. بر الوالدين من فواتح الرحمة. فهذا من أعظم الأسباب ونحن في غفلةٍ عظيمة عنه، ولو لم نخرج من هذه المحاضرة إلا ونحن نعيد النظر في سلوكنا مع آبائنا وأمهاتنا، مع أمرٍ قرنه الله بتوحيده، وليس البر السكوت وأن تجلس مع الوالد والوالدة، إنما البر الذلة: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] ولا تنتظر من الوالد أو الوالدة أن يسألك حاجته، بل أنت الذي تمضي إليها وتقضيها وتدخل السرور عليه، ولا تعلم بشيءٍ يفرحه إلا كنت أسبق الناس إليه. أسأل الله العظيم أن يفتح لنا ولكم أبواب رحمته، والله تعالى أعلم.

وصية لصاحب القلب القاسي

وصية لصاحب القلب القاسي Q أنا شابٌ مبتلى بقسوة القلب ولا أستطيع القراءة في الكتب النافعة، ولا تدري -حفظك الله- مدى تأثير ذلك عليَّ، فأنا أتمنى أن أكون من أهل العلم ولكن لا أستطيع، فلعلك من الرحمة بي أن تدلني على ما أسأل الله أن ينفعني به، ولك مني الدعاء، ومن الله المثوبة بإذنه؟ A باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فأما ما سألت عنه أخي في الله! من قسوة القلب: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] والله لا يظلم العباد شيئاً، فأوصيك أخي في الله أن تنظر فيما بينك وبين الله، فقد يبتلى الإنسان بقسوة القلب بصلاةٍ أضاعها، أو زكاةٍ منعها أهلها، وقد يبتلى بقسوة القلب بأمٍ عقها أو أختٍ قطعها. وأوصيك أن تتفقد ما بينك وبين عباد الله من الحقوق والواجبات، فإذا أديتها فابشر برحمة الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. فأوصيك أن تتفقد أول ما تتفقد: حقوق الله عليك، وحقوق الناس وحقوق الأقربين خاصة، فإذا وفقك الله ببر والديك وإدخال السرور عليهما، وكذلك صلة رحمك، فإن الله يرحمك: (إني أنا الله، خلقت الرحم اشتققت لها اسماً من اسمي، فأنا الرحمان وهي الرحم، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته) فقد تكون هناك عمة لا تصلها وتصاب بقسوة القلب، وقد تكون هناك أخت محرومة من زيارتك، فتكون قطيعتها سبباً في قسوة قلبك، وما من إنسان يجد في نفسه أثر ذنب فيحس أنه مقصر فيبحث عن سبب ذلك إلا وفقه الله ودله على الذنب الذي بينه وبين الله أو بينه وبين عباده. ثم أوصيك أخي في الله! إذا قسى قلبك أن تكثر من ذكر الآخرة، وأن تصور نفسك وكأنك في القبر وضجعته، أو في الحساب وشدته، أو على الصراط وكربته وزلته، صوِّر نفسك في مشاهد الآخرة، فإنها تكسر القلوب إلى الله، وأكثر من عيادة المرضى والنظر في أحوالهم حتى يلين قلبك، وأكثر من زيارة المقابر، وعُدَّ نفسك كأنك ذلك الرجل الذي دل إلى قبره، فإذا أحيا الله قلبك إلى مثل هذه المشاهد فقم لطاعته واستجب لرحمته، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يكتب لك ذلك. ثم أوصيك وأكرر الوصية أن تكثر من الابتهال والدعاء لله سبحانه وتعالى أن يكسر قلبك بالرحمة؛ فإن الله تبارك وتعالى كريم جواد لا يرد سائله: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) فنحن في ضلال إلا أن يهدينا الله، فلست أنا بالذي أهدي ولا بالذي يقوم على نفسه أو يقوم ببناية نفسه على الخير، إلا إذا هدى الله ووفق، فاستهدِ الله يهدك إلى الرحمة وإلى أبوابها وأسبابها ويجعلك من أهلها. وختاماً أوصيك أن تبحث عن قرين صالح تكن معه دائماً، لعل الله أن يحيي قلبك بصحبته. والله تعالى أعلم.

من أخلاق المؤمنات

من أخلاق المؤمنات إن الله إذا أراد أن يتم نعمته وأن يكمل منته على عبده، كلله بالأخلاق الفاضلة، وزينه بالخلال الحميدة الجليلة التي طبع عليها أهل الإيمان؛ لذلك وجه الشيخ الفاضل حديثه في هذه المادة إلى النساء، حاضاً لهن على التمسك بأخلاق المؤمنات، حتى يكن خير خلف لخير سلف.

مكانة الأخلاق في الإسلام

مكانة الأخلاق في الإسلام إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فالسلام عليكن ورحمة الله وبركاته. أخواتي المسلمات: أحمد الله تبارك وتعالى أن جمعنا بكن في هذا المجمع المبارك، وأسأله جل جلاله أن يجعل الكلمات خالصة لوجهه الكريم، نافعة يوم لقائه العظيم، وأشكر بعد شكر الله عز وجل اللجنة النسائية بالندوة العالمية على تفضلها بالدعوة إلى هذه الكلمات، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشكر مسعاكن، وأن يعظم في الآخرة أجوركن. أخواتي المسلمات: كم هي نعمة من الله عز وجل عظيمة، ومنة من الله تبارك وتعالى جليلة، تلك النعمة التي أقبلت فيها أمة الله إلى الله، وأقبلت فيها على الله وأنابت إلى طاعة الله، أي ساعة تلك الساعة التي أنابت فيها القلوب إلى الله؟ أي ساعة تلك الساعة التي لبت فيها داعي الله واستجابت فيها لأوامر الله؟ تلك الساعة التي انبعثت فيها النفس اللوامة، وثارت في النفوس أشجان وأحزان تذكرها؛ فاستيقظت من منامها وانتبهت من غفلتها وأنابت إلى ربها، ما أعظمها من ساعة! لكن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يتمم نعمته وأن يكمل منته تممها بالأخلاق الفاضلة، وزينها بالأخلاق الحميدة الجليلة التي طبع الله عليها أهل الإيمان، فأهل الإيمان هم أهل الخصال الحميدة والخلال الكريمة المجيدة، إنها الأخلاق التي طالما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي ربه يناجيه ويناديه، يسأله أن يهديه لأحسنها، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما قام في الليل يناجي ربه قال في دعائه: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، وأنا عبدك ظلمت نفسي ظلماً كثيراً فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني شرها وسيئها فإنه لا يصرف عني شرها وسيئها إلا أنت). فسأله أن يهدي قلبه إليها وأن يدله عليها، وأن يكون هاديه إليها، سأله أن يرزقه كريم الخصال وجميل الخلال حتى يكون قريباً من الكريم المتعال، وهل نزل الكتاب ونزلت السنة على نبي هذه الأمة إلا لكي تتمم من الأخلاق مكارمها، ولكي تزان خلالها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما روى أحمد في مسنده، كان يقول: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فلما أنزل الله تبارك وتعالى على النبي الكتاب، ودله على هذا المنهج الكريم من مناهج الصواب، تمم الله عز وجل بجميع ذلك الأخلاق وجملها وزينها، فتمت نعمة الله عز وجل على البشرية بالدلالة والهداية إليها، لذلك كان من أجلّ نعم الله عز وجل على المؤمن والمؤمنة أن يزينه ويجمّله بالأخلاق الفاضلة. والمؤمنة إذا أضافت إلى إيمانها جمال قولها وحسن فعالها ازدانت عند بارئها وارتفعت عند الله درجتها، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أكرم بالأخلاق الفاضلة فالله تبارك وتعالى يبلغه الدرجات العالية، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم). فكم من مؤمنة بالله زينها الله عز وجل وجملها بالأخلاق، أدركت بكريم أخلاقها وجميل خصالها وجليل خلالها رحمة ربها، ففازت بعظيم الدرجات، وفازت بجميل الحسنات.

جملة من خصال المؤمنات

جملة من خصال المؤمنات لذلك أختي المسلمة خير ما يضاف إلى الإيمان وخير ما يزين به الإحسان أن تكون المؤمنة ملتزمة بدين الله عز وجل بأخلاقه وآدابه، أن تتأدب بتلك الآداب التي دعا الله إليها، وحبب القلوب فيها، فكم أنزل الله عز وجل في كتابه من آيات تدل المؤمنة على رحمة الله عز وجل وعظيم فضله، حتى أدب الله عز وجل بكتابه المؤمنة، وهي ترفع القدم وتضع الأخرى في مسيرها: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] وأدبها وهي تخاطب الرجال الأجانب: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32]. كم وقفت آيات الكتاب أمام هذه الجوهرة المكنونة والدرة المصونة؛ حتى تحفظ بهاءها، وتصون بالأخلاق جمالها وجلالها، فيالله من شريعة كمل الله بها أخلاق المؤمنات، وهداهن بها إلى كريم الخصال الموجبة لمحبة فاطر الكائنات. لذلك أيتها المؤمنة: خير ما يعنى به بعد الإيمان، تحقيق الإيمان بالأخلاق الكريمة، والالتزام بآداب الإسلام، حينما تلقي المؤمنة على نفسها لباس الحياء، وتكتسي بكساء التقوى، وتسير في طريق يوجب من الله الحب والرضا وتستمسك من الدين بعروته الوثقى.

التمسك بالآداب والأخلاق

التمسك بالآداب والأخلاق أما الخصلة الخامسة التي يكمل لله عز وجل بها أخلاق المؤمنة فهي: الأخلاق والآداب التي يحصل بها الخير للناس، فمنها: الجود والسخاء والبذل والعطاء، ولقد كان من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وموعظته للنساء أن قال: (تصدقن فإني أريتكن أكثر حطب جهنم، قلنَّ: ولِمَ يا رسول الله؟! قال: بكفركن للعشير) وفي الرواية الأخرى: (قلن: أيكفرن بالله؟ قال: لا. وإنما يكفرن العشير). فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسم طريق النجاة من تلك النار دعا نساء المؤمنين إلى الإنفاق والبذل والعطاء، كل ذلك كرماً منه وإشفاقاً، فقال: تصدقن، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) فمن كريم خِلال المؤمنة، ومن جميل خصالها كثرة الصدقات، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) ولو كان المبذول قليلاً، فإنه عند الله عظيماً جليلاً، أنفقي من المال، واعلمي أنك موعودة بالإخلاف من الكريم المتعال، أنفقي فلا شلت يمين بذلت، أعطي لوجه الله وليكن ذلك الإنفاق ابتغاء مرضاة الله وما عند الله. ولقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقات، وأخبر أنها من أسباب رحمة الله بالعباد، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة). أختي المسلمة! إن الآداب والأخلاق أمانة عظيمة ومسئولية جليلة، أول من يسأل عنها هم الوالدان، فإذا حملتِ تربية الأبناء والبنات فربيهم على طاعة الله، ونشئيهم على الأخلاق الموجبة للحب من الله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ابتلي بشيء من هذه البنات، فأدبهن فأحسن تأديبهن، ورباهن فأحسن تربيتهن إلا كُنّ له ستراً من النار) فنشئي أبناء وبنات المسلمين على طاعة رب العالمين، وعلى كريم الخصال وجميل الخلال، وكما أنها مسئولية على الأبناء والأمهات، فإنه مسئولية على الداعيات والمربيات، فلتكن كل داعية قدوة حسنة في تعليمها وتوجيهها وتربيتها، فذلك من توفيق الله للمؤمنة. كم غرس في قلوب الطالبات من الخصال الكريمات حينما كانت المعلمات والمربيات على سمت ووقار، وحسن أدب وقرار، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتمم أخلاقنا، وأن يزين بها أقوالنا وأفعالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الحياء والخجل

الحياء والخجل أما الخصلة الرابعة: التي يكون بها جميل الخصال والأخلاق للمؤمنة، وهي من أعظم الخصال وأحبها إلى الله عز وجل: إنها خصلة الحياء والخجل، الحياء الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه أنه لا يأتي إلا بخير، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحياء لا يأتي إلا بخير). أختاه! إن الحياء نعمة وجمال من الله، فما أجمل المرأة إذا اكتست بحيائها، وتمت لها مروءتها، وأصبحت في عفة من حالها! ولذلك كن النساء المؤمنات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد كمل حياؤهن، ويشهد لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الصحابي وصفه قال: [كان أشد حياءً من العذراء في خدرها] فكوني على هذه الخصلة الكريمة. يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فإذا ذهب الحياء ذهب الخير الكثير، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) فمن الحياء البعد عن مواطن الريبة، ومخاطبة الرجال، وإذا وجدت الحاجة ألجمت المرأة بحيائها، وانكسرت من خجلها، وذلك كمال لها لا منقصة فيها، فاستديمي هذه الخصلة الكريمة. ومن الحياء: أن تكون المؤمنة حيية كريمة مع أحب الناس إليها، وأقرب الناس إليها وهم الوالدان، فلقد كانت نساء المؤمنين إلى عهد قريب لا تستطيع المرأة أن ترفع البصر في عين أبيها وأمها، وكانت البنت أشد ما تكون حياء من والديها، فمن نعم الله على المؤمنة أن يستتم حياؤها مع الوالدين، فذلك مما يحبه الله ويرضاه. ومن الحياء: الحياء مع الزوج والعشير، والأخ والقريب، والحياء في وسط النساء، وذلك بإظهار لبس يليق بالمرأة مما يدل على كامل مروءتها وكمال حيائها وخجلها، فلا تكون المؤمنة متتبعة للرخص التي تريق الماء من وجهها، البسي جلبابك وكوني على أكمل الحياء في ثيابك، وأعلمي أن الجمال كل الجمال في هذا الحياء الذي يظهر الله به الهيبة والجلال.

الاستجابة الصادقة لأوامر الكتاب والسنة

الاستجابة الصادقة لأوامر الكتاب والسنة الخصلة الأولى: أول هذه الخصال وأحبها إلى الكريم المتعال، خصلة تعلقت بسويداء قلب المؤمنة، خصلة دخلت إلى أعماق قلبها لا يعلمها إلا الله، تلك الخصلة التي تحقق بها إيمانها وتصدق بها التزامها بشريعة ربها، إنها الاستجابة الصادقة لأوامر الكتاب والسنة، فأعظم أخلاق المؤمنين والمؤمنات وأحبها إلى الله عز وجل: الاستجابة الكاملة للكتاب والسنة، فمفتاح الخير كله في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد شهد الله عز وجل في كتابه أن من أطاعه وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم فقد فاز فوزاً عظيماً، فقال سبحانه يهذب من المؤمن والمؤمنة أخلاقهم في الاستجابة للكتاب والسنة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68] فإن أحببت من الله عز وجل الحب والرضا، يكون ذلك موجباً لكِ للتمسك بالعروة الوثقى؛ فخذي أوامر الكتاب، وسيري على منهجه لكي تهتدي إلى السنة والصواب، خذي بأوامر الدين وعضي عليها بالنواجذ دون تكذيب ولا ميل، خذي بأوامر الكتاب كما أخذته الفاضلات من الصحابيات الجليلات. أختاه: إن مقامك عند الله على قدر العمل بالكتاب والسنة، فإن الله لا ينظر إلى الأنساب والأحساب والجمال والكمال، ولكن ينظر إلى ذلك القلب الذي أقبلت به عليه، أن تسكنيه الاستجابة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ما أكملها وأجلها وأحبها لله من مؤمنة إذا قيل لها قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت بلسان الحال والمقال: سمعت وأطعت غفرانك ربنا وإليك المصير. أختاه: حققي هذا الإيمان وحققي الالتزام بدين الرحمن، حينما تكوني أصدق المؤمنات استجابة للكتاب والسنة، واعلمي أن الله تبارك وتعالى سيسألك عن هذا الدين وعن هذا الكتاب وعن سنة سيد المرسلين، فأيما آية بلغتك فإنما هي حجة لكِ أو عليكِ، واعلمي أن الله تبارك وتعالى سيجعل هذا الكتاب بينك وبينه، فإن استجابت المرأة لمنهج ربها وأحبته والتزمته واتبعته؛ كتب الله لها السعادة، وتأذن لها بالفضل والزيادة. واعلمي أن الله تبارك وتعالى لا يغرس الاستجابة في قلب إلا أحب قالبه، فأحبي أوامر الدين، وخذيها دون تكذيب ولا ميل. ومن الاستجابة لأوامر الكتاب والسنة: فعل فرائض الله، وترك محارمه، وعفة الأقوال والأفعال، فبعد هذه الاستجابة الكريمة تظهر على المؤمنة في أقوالها وأفعالها وخصالها وآدابها آثار الاستجابة لربها. أختي المسلمة: إن هذه الاستجابة تظهر في الجوارح حينما تكون المؤمنة أكمل المؤمنات أخلاقاً في الأقوال والأفعال، تظهر هذه الاستجابة الصادقة في قلب عفيف عن الحسد والبغضاء، والسوء والشحناء، والظن بالمؤمنين والمؤمنات بما يوجب غضب الله عز وجل وعدم مرضاته، فحققي هذه الاستجابة بسلامة القلب والقالب، فإذا أرادت المؤمنة أن تحقق التزامها بالآداب الفاضلة، فإن أول ما يظهر الأثر على لسانها الصادق، وقالبها المحقق لطاعة ربها جل وعلا. الخصلة الثانية: أختي المسلمة: إن في المؤمنة آداباً يحبها الله، وأخلاقاً توجب الرضا من الله، هذه الآداب وهذه الأخلاق الكريمة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبب أصحابه فيها من أعظمها بعد الاستجابة ومن أهم ما يدعو إليها: أن تكون المؤمنة عفيفة في ظاهرها وباطنها، العفاف الذي يكون به الخير للمؤمنة في دينها ودنياها وآخرتها، فما كانت امرأة عفيفة إلا أقر الله عينها بالعفاف، كوني عفيفة في القول والعمل والقلب والقالب. ومن عفة اللسان: صونه عن أذية المسلمين، والتقرب به بذكر إله الأولين والآخرين، ولذلك قال العلماء: إن للسان خصلتين حبيبتين إلى الله، الخصلة الأولى: عفته عن أذية العباد، والخصلة الثانية: حرصه على ذكر رب العباد. أما الخصلة الأولى: أن تسلمي من أن تؤذي مؤمنة بهذا اللسان، فهو عضو صغير لكنه عظيم خطير، فكم أورد صاحبه المهالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له معاذ: أو مؤاخذون بما نقول؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم). كم أمست المؤمنة وقد اشترت رحمة ومرضاة الله بلسانها، ذلك اللسان العفيف عن أعراض المسلمين، والبريء عن أذية المؤمنين، ذلك اللسان المسخر في ذكر إله الأولين والآخرين، استخدمي هذا اللسان في محبة الله، واستكثري به من ذكر الله تفوزين برحمة الله. وإن من الآفات التي قد تتخلق بها بعض المؤمنات والمسلمات: كثرة وفضول الحديث فيما لا يرضي الله عز وجل، ولو كان من المباح، فإن العلماء رحمهم الله قالوا: إن استرسال اللسان في الأمور المباحة، قد يفضي به إلى الوقوع في الحرام. فصوني اللسان واحفظيه عن أذية بني الإنسان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف المسلم الصادق في إسلامه بقوله: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فليسلم المسلمون من لسانك، إياكِ والغيبة والنميمة! وإياكِ وكلمة تؤذي بها مؤمنة بالله عز وجل! صوني اللسان واحفظيه، فإنه خير لك في الدين والدنيا والآخرة. وكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يمسك بلسان نفسه، ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد]. الحلم زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مهذارا فإذا ندمت على سكوتك مرة فلتندمنّ على الكلام مرارا فمن جمال المؤمنة طول صمتها عما لا خير فيه من كلامها، فمن دليل كمال عقل المرأة، وحسن استقامتها وإيمانها أن تكثر الصمت مع حسن السمت، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عظيم الآفات التي تكون من اللسان والزلات، فأخبر أنه قد ينتهي بالمؤمنة إلى النار، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه قام يوم العيد فذكر النساء بالله، ولما أخبر ما أعد الله عز وجل من عقوبته بالنار، سألته امرأة فقالت: ولم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) فإياكِ وكثرة السباب، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة). فمن أخلاق المؤمنة طول صمتها، ولا يعني هذا كثرة السكوت، وإنما المراد أن تصان الألسن عما لا يرضي الله عز وجل، فإذا حفظت اللسان كان ذلك اللسان نعمة لك لا عليك.

حفظ السمع والبصر

حفظ السمع والبصر الخصلة الثالثة من الخصال التي ينبغي للمؤمنة أن تتحلى وتتجمل بها: أن تحفظ السمع والبصر، فقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه أن السمع والبصر محل السؤال، فقال جل جلاله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] صوني السمع وما حوى وما أصغى، والبصر وما رأى، فقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر المؤمنات بآيات؛ فقال جل ذكره وتقدست أسماؤه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] قل يا محمد! قل يا نبي الأمة! قل يا من أرسلك الله رحمة للعالمين! قل للمؤمنات تلك الفئة المباركة التي صدقت والتزمت وآمنت وحققت، ليس لسائر النساء ولكن للمؤمنات، فلا تحفظ البصر كمال الحفظ إلا مؤمنة تخاف من الله، وتخاف من نظرة ترديها وتشقيها، فكم نظرة أورثت شهوة، وكم شهوة أورثت حزناً طويلا، ولله در القائل: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتكت السهام بل قوس ولا وتر والمرء مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد محفوفاً على خطر يسر مقتله ما ضر مهجته لا خير في سرور قد جاء بالضرر لا خير في نظرة أتبعت شهوة، ولا خير في شهوة أتبعت فكرة، ولا في فكرة أتبعت عذاباً طويلاً. فالله الله في هذا البصر! فإن الله تبارك وتعالى سيسأل عن النظر فيما بذل، أفي محبته أم فيما لا يرضيه؟ فاتقِ الله في هذا البصر، فإياكِ والنظرة المسمومة، والنظرة الآثمة المحمومة، فإن للنظر عذاباً، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رحمة الله للمؤمن والمؤمنة التي صانت بصرها وحفظت نظرها، فقال صلى الله عليه وسلم: (كل العيون دامعة أو باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله). فإن أحببتِ ألا تكون عينك باكية يوم القيامة دامعة شاكية فصونيها عما لا يحل النظر إليه، إن المؤمنة الفاضلة التي زينها الله بالأخلاق الكاملة لا يعدو بصرها موضع قدمها، ولذلك كانوا يقولون: إن المرأة العفيفة الحرة لو ضربت على رأسها ما التفتت ولا نظرت من ضربها.

الأسئلة

الأسئلة

حكم زواج المرأة المسلمة بالكافر

حكم زواج المرأة المسلمة بالكافر Q هل يجوز للمرأة أن تتزوج من رجل غير مسلم؟ وأرجو أن تدلها على تعلم القرآن وغيره من الأمور النافعة؟ A أولاً: أهنئ هذه السائلة برحمة الله عز وجل لها بالإسلام، وأسأل الله العظيم مقلب القلوب أن يثبت قلبها على طاعته، وأن يثبته على سبيل محبته ومرضاته، وأما ما سألت عنه أن كونها تريد الزواج بالكافر، فإن الكافرة إذا أسلمت وزوجها على الكفر فسخ النكاح بينهما، ولا يجوز بقاءها تحت عصمة الكافر، قال الله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] فلا يجوز تزويج المرأة المسلمة من الكافر بل ينفسخ العقد بإسلامها، ولا ترد إلى ذلك الكافر: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141]. على خلاف الزواج من الكافرة، فإن الرجل إذا تزوج الكافرة علا عليها، وقد يكون ذلك سبباً في إسلامها، فالمقصود أنه لا يجوز بقاء المسلمة عند الكافر، وإنما تطلق منه طلقة بائنة بإسلامها وتبين منه. وأما ما سألته من معرفتها بالقرآن وتعلمها له بالطريقة الصحيحة، فإن هذا أمر ينبغي الأخذ بأسبابه، وذلك بالرجوع إلى بعض الكتب أو المؤلفات، وإذا تيسر الاتصال ببعض الإدارات الدينية كمكتب التوعية في جدة، فلعلها أن تجد بعض الرسائل القيمة، والله تعالى أعلم.

حكم مشاهدة أفلام الكرتون للأطفال مع وجود الموسيقى

حكم مشاهدة أفلام الكرتون للأطفال مع وجود الموسيقى Q هل نأثم إذا تفرج الأطفال إلى أفلام الكرتون مع العلم أن بها موسيقى؟ A أما الموسيقى فهي محرمة، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي في آخر الزمان أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف والقيان، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين) فلا يجوز ترك أبناء المسلمين وبناتهم يستمعون إلى الغناء أياً كان، وأما بالنسبة إذا سلم المنظور أو المسموع من ذلك فلا حرج، لكن هذه الأفلام -بنقل الثقات- وجد أنها تشتمل على ما يهدم العقيدة، ويفسد الأخلاق، ويربي الطفل على الشرور والإجرام، فهي محرمة لما فيها من ذلك الفساد العظيم والبلاء الجسيم، والله تعالى أعلم.

ظاهرة انتشار العنوسة في المجتمعات

ظاهرة انتشار العنوسة في المجتمعات Q انتشرت العنوسة في المجتمعات، والمشايخ جزاهم الله خيراً ذكروا أسباب هذه الظاهرة، ومنها: غلاء المهور، ومواصلة التعليم، ولكن ثمة أسباب غفل كثير من المشايخ عنها وهي: أن الآباء هم أيضاً سبب في هذه العنوسة، فأكثر الفتيات يتقدم إليهن شباب ملتزمون، ومن عائلات محترمة محافظة، ولكن الآباء يواجهون ذلك بالرفض، وذلك لأنهم يريدون أن يكون هذا الزوج من القبيلة، فهذه عادات وتقاليد موروثة من الآباء أو يكون سعودي الأصل، والرسول صلى الله عليه وسلم كما تعلمون يقول: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه) فهل من نصيحة لعل الآباء يسمعون، جزاكم الله خيراً؟ A أما هذه المسألة ففي الحقيقة قد كثرة الشكوى منها، ولقد وصلني عدد من الرسائل من النساء المؤمنات، ويعلم الله الذي لا إله إلا هو أنني لم أستطع إكمال بعضها من البكاء، لما فيها من الأشجان والأحزان والأمور المروعة والمؤسفة، وهذه من المظالم التي بلي بها كثير من النساء المؤمنات، سواء في الأسباب التي ذكرتها أو غيرها من الأمور التافهة، كالنظر إلى غنى الزوج وثرائه، وعلو مرتبته ومنصبه، فهذه كلها من المآسي التي بلي بها المجتمع في هذا الزمان، وذلك لضعف الإيمان في قلوب كثير من الرجال. والقصص في هذه المآسي كثيرة، ولاشك أنها تعتبر ظاهرة ينبغي فيها عدة أمور: الأمر الأول: العناية بها من أهل العلم والفضل ووجهاء المجتمع، وأن يكون هناك توجيه للآباء بتزويج بناتهم من الأكفاء، وأداء هذه الأمانة والمسئولية على الوجه الذي يرضي الله عز وجل. إن موازين الإسلام ثابتة وأصوله بينة واضحة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الأمور التي تنكح لها المرأة ويزوج لها الرجل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). فلا مانع أن تزوج المرأة من قريبها، وشيء حسن إذا كان ابن العم كفوءاً كريماً صاحب دين وخلق، أو كان القريب ابن الخال أو نحوه كفوءاً كريماً، وزوجاً صالحاً فلا حرج، والأقربون أولى بالمعروف، وينبغي للمرأة أن يتسع صدرها للقريب وأن تحبه وتكرمه، وأن تنظر إلى حقه في القرابة، ولكن الحرج كل الحرج أن يُضحى بالمرأة لإنسان لا دين له ولا أخلاق ولا مروءة ولا كفاءة، فهذا من الظلم الذي يحرمه الله عز وجل على العباد. ووالله ما من أب وولي يوقع موليته في إنسان ليس بكفء إلا حمل أوزارها، وسئل بين يدي الله عز وجل عن همومها وغمومها، وما اكتحلت عيناها السهر في هم ولا غم إلا كان شريكاً لها في ذلك الإثم كله. فلذلك ينبغي للآباء أن يتقوا الله عز وجل، ويخافوا الله عز وجل في هذه المسئولية العظيمة، والأمانة الجليلة، ونحن نقول: لا حرج من النظر إلى القريب الكفء، ولكن الحرج كل الحرج أن يزج بالنساء العفيفات الصالحات الطاهرات لمن لا خير فيه. الأمر الثاني والذي ينبغي أن يعمله كل من سئل عن امرأة: أنه لا مانع أن يمتنع من قريبها، ولكن يبحث عن كفء آخر لها، أما أن يبقي المرأة على عنوستها تراودها الأفكار، وتتعرض لمخالب الأشرار آناء الليل وأطراف النهار، فإنه سيبوء بغضب الله عز وجل الواحد القهار. هذه جريمة عظيمة، ومسئولية كبيرة، فينبغي لكل من حمل أمانة الأبناء والبنات أن يتقي الله عز وجل، وأن يزوج بنته وكريمته من الكفء. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن على المسلمين بصلاح الأحوال إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله.

حكم نتف الحواجب ولبس العباءات المطرزة

حكم نتف الحواجب ولبس العباءات المطرزة Q أرجو تنبيه أخواتي إلى عدم جواز نتف الحواجب، ولبس العباءات المطرزة بالذهب، والرقص في الحفلات؟ A أما بالنسبة لنتف الحواجب فهو النمص الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله ومن فُعل به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصات والمتنمصات). وأما لبس العباءات المطرزة بالذهب فهذا لا يجوز، ولذلك بين العلماء رحمهم الله أنه لا يجوز في لبس العباءة والملاءة أمور: الأمر الأول: أن تكون مطرزة، أو يكون فيها نقش ولو كان خالياً من الذهب؛ لأن هذه النقوش إذا رأيت جذبت الأنظار إليها، ثم جذبت الأنظار إلى من فيها، فحصلت الفتنة. الأمر الثاني الذي ينبغي أن تسلم منه العباءة هو: ضيقها. الأمر الثالث هو: أن لا تكون شفافة بحيث تصف ما وراءها. فلذلك ينبغي للمؤمنة أن تسلم من هذه الأمور، وأن تكون بعيدة من هذه الشرور، وتتقي الله في نظرات المؤمنين، وألا تكون داعية إلى النظر إليها بلبس هذه الملابس الفاتنة. وأما ما سألت عنه من لبس البناطيل أو القصير إلى الركبة، فقد سبق أنه خلاف المروءة، والمرأة التي تلبس القصير على ملأ من النساء تعتبر ساقطة المروءة، ومن سقطت مروءتها ردت شهادتها وسقطت عدالتها، والله تعالى أعلم.

حكم الرقص للنساء وأخذ الأجرة على ضرب الدف

حكم الرقص للنساء وأخذ الأجرة على ضرب الدف Q كثر في هذا الزمان الرقص في الأعراس الإسلامية، وقيل: إن الدف في الأعراس الإسلامية مقابل قليل من المال لا يجوز، فما حكم ذلك؟ A أما بالنسبة للرقص فما كان منه مشابهاً للرقصات الغربية الوافدة فهذا مجمع على تحريمه لمشابهة الكافرات، وأما بالنسبة للرقص فأصح أقوال العلماء رحمهم الله المنع منه، ولذلك قال بعض العلماء في دليل تحريمه وقد استدلوا بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75] قالوا: إن المرح هو الرقص، ولذلك قالوا: إن المرأة إذا رقصت هزت أكتافها، وأبانت شيئاً من سوءاتها، فكان ذلك فتنة لمن نظر إليها ولو كانت امرأة مثلها، كما أن الرجل يفتن بالرجل كذلك المرأة تفتن بالمرأة. ثم هو ليس من كريم الخصال، ولا من جميل الخلال، وإنما هو على العكس من ذلك، ولذلك نهى العلماء رحمهم الله عنه، وأفتى طائفة من أهل العلم رحمهم الله بتحريمه. وأما ما سئل عنه من الدف فإن الدف جائز ومشروع، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف). أما ما سألت من أخذ الأجرة على الدف فإنه جائز ومشروع، ولا حرج في الإجارة على ضرب الدف؛ لأن أهل العلم رحمهم الله أجمعوا على أنه يجوز الاستئجار للمنفعة المباحة، وحيث إن ضرب الدف مباح في الزواج فلا حرج من أخذ الأجرة عليه، لكن إذا كان ذلك على وجه المبالغة، ويتكلف صاحبه أجراً كثيراً، فإن فيه سفه، ويعتبر ممنوعاً إذا كان زائداً عن حده، وتحريمه عند الزيادة عن حده لا يوجب تحريم أصله، كما لو اشترى الإنسان طعاماً أكثر من حقه فإنه سفه، والله تعالى أعلم.

حكم لبس الملابس القصيرة والفاضحة

حكم لبس الملابس القصيرة والفاضحة Q هناك ظاهرة شائعة في هذا الزمن في بعض الأفراح الإسلامية، حيث تأتي الكثير من النساء المدعوات بلباس قصير يصل إلى ما فوق الركبة، وقد يصل إلى نصف الفخذ دون حياء، علماً بأن هذه الظاهرة أصبحت شائعة جداً الآن، فنرجو النصيحة جزاك الله خيرا؟ A لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله المستعان! أما الذي ذكرته أختي السائلة من هذه الظاهرة فيعلم الله أننا كنا نتمنى ألا نعيش إلى زمان نسمع فيه مثل هذا، وأي زمان أشقى على المؤمنين إذا ذهب الحياء بين النساء، وأصبحت المرأة لا تستحي ولا تبالي أن تظهر مفاتنها أمام النساء، وأي بلاء وأي شقاء إذا تربت بناتنا من الصغر على هذا، فرأين النساء الكبيرات، ورأين منهن قدوة في المجتمع يلبسن القصير، أو يلبسن ذلك اللباس المثير، إنا لله وإنا إليه راجعون من موت القلوب، ومن عدم الحياء من الله علام الغيوب، فلقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة عمن يخلو لوحده عرياناً فقال جواباً لمن سأله: (الله أحق أن تستحي منه). فإذا كان الإنسان في خلوته لا يستطيع أن يتعاطى بعض الأمور حياءً من الله فكيف بين الناس؟ فلذلك كان من البلاء العظيم أن نسمع هذه الأمور في مجتمعات المسلمين. إن المرأة التي تكشف عن ساقيها، وتبدي فخذيها امرأة ناقصة العقل والشعور، وقد تحطمت الآداب في صميم قلبها، ولو كان عندها مسكة من العقل لما اختارت لنفسها أن تبدي المفاتن بين النساء، ما الذي تريده من النساء حينما تبدي بياض بشرتها، وجمال ساقيها؟ ما الذي تريده من النساء غير إثارتهن للمفاتن، وتذكيرهن بهذه المحن، وإيجاد القدوة السيئة في هذه المجتمعات الكريمة؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون! أما الوصية: فإني أوصي الخيرات الصالحات أن يذكِّرن هذه النماذج السيئات، وأن يقفن حجر عثرة أمام نشر هذه النماذج السيئة في المجتمع، فإذا رأت المؤمنة من تخلقت بهذه الأخلاق فلتذكرها بالله، فلعل قلبها أن يحيا من بعد موات، ولعله أن يستفيق من بعد منام، ذكروهن بالله وانصحوهن، وخذوا على أيديهن، وكذلك ذكِّروا بنات المجتمع بأخطائهن، وذلك بنشر ما ينبغي نشره من الوعي بين النساء، وتنبيه البنات حتى لا يتشبهن بهن، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهديهن إلى سواء السبيل، وأن يسلِّم مجتمعات المسلمين من هذا البلاء والعناء، والله تعالى أعلم.

صلاح الإنسان يدور مع صلاح حاله مع القرآن

صلاح الإنسان يدور مع صلاح حاله مع القرآن Q صلاح الإنسان كما هو معلوم يدور مع صلاح حاله مع القرآن -هذا حسب رأيي- لكن أشعر بعجزي عن الاستفادة من القرآن، وأن أشعر وكأنه نزل مخاطباً لي، فما هي الوسيلة التي يتم بها صلاح الحال مع القرآن، وبالتالي يكون الإنسان ذاكراً للآخرة بشكل دائم؟ A الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فما ذكرته أختي المسلمة من كون صلاح أمَة الله موقوفاً على القرآن تدبراً وعملاً، وتفكراً وتطبيقاً، لاشك أنه هو عين الصواب، فإن المؤمنة صلاحها موقوف على القرآن، كما أن المؤمن صلاحه موقوف على القرآن. وأما ما ذكرته واشتكته من وجود الفرقة بينها وبين كتاب الله عز وجل، وإحساسها بأنه لا يؤثر في أقوالها وأفعالها فلعل ذلك لذنب بينها وبين الله عز وجل، ولذلك قال العلماء: إن الإنسان يحرم التوفيق في الطاعة على قدر معصيته لله عز وجل، فاستكثري من الاستغفار، وسؤال الله عز وجل أن يهبكِ القلب الحي الذي يتأثر بكلامه، وشرعه ونظامه، سليه فإنه كريم لا يرد سائله، وارجيه فإنه حليم رحيم لا يخيب راجيه، هذا الأمر الأول. أما الأمر الثاني: فما الذي يحول بينكِ وبين هذا الكلام الذي أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير، أحسي وكأن القرآن يناديكِ، وأنكِ أنتِ المعنية بكل حرف فيه، وبكل كلام تقرئيه منه، أحسي أن هذا القرآن يناجيك، وأنه لرحمة الله يدعوك، فإذا وجد هذا الشعور، وكان هذا الإحساس منكِ فإنه سرعان ما يؤثر فيك، فأحسي أن كتاب الله يدعوكِ، وأن كلام الله موجه إليك، فذلك من أعظم الأسباب التي تقودكِ للعمل بما فيه، والله تعالى أعلم.

علاج ظاهرة الفتور في حياة المرأة الداعية

علاج ظاهرة الفتور في حياة المرأة الداعية Q نحن إن شاء الله داعيات إلى الله، ونحاول مجاهدة النفس باستمرار، ولكن في بعض الأحيان نصاب بنوع من الفتور، والرجوع إلى الوراء في طريق العبادة والدعوة، فما نصيحتك لنا حتى نحاول الارتقاء إلى الأعلى، وعدم التخاذل والرجوع إلى الوراء جزاك الله خيراً؟ A أولاً: أسأل الله العظيم أن يكثر من أمثالكن في طاعة الله عز وجل، فأحب المقامات وأشرف المراتب والولايات ذلك المقام الذي يقوم فيه العبد والأمة بتبليغ رسالة الله، والهداية إلى الله، وتحبيب القلوب في مرضاة الله، كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33]. أختي المسلمة! أوصيكِ بأمر عظيم ينبغي لكل مؤمنة تقلدت الدعوة أن تتخلق به وهو: الصبر والتحمل، فإن هذا الفتور الذي تشتكين منه معشر الداعيات هو ابتلاء وامتحان من الله، ولكن صبر جميل، واستدمن ما أنتن فيه من الخير، فنعم العمل عملتن! ونعم القول قلتن! ونعم الدعوة دعوتن! فأحسنَّ الظن بالله. وأما ما ذكرتن من القهقرة والتأخر عن طاعة الله، فالله الله أن تكون المؤمنة يخالف قولها فعلها، فإن ذلك من أسباب المقت من الله، فاحرصي أختي الداعية إلى الله أن يتوافق القول مع العمل، وإذا شعرت بذلك الملل، فاسألي الله عز وجل العافية، وخذي بالأسباب، فلعل هناك ذنباً بينك وبين الله، والله تعالى أعلم.

فضل العلم ومعلمه

فضل العلم ومعلمه فضّل الله سبحانه وتعالى العلم وجعله ميراث الأنبياء، ورفع أهله وفضلهم وشرفهم وزكاهم، ولا يكون ذلك الشرف والفضل إلا بالإخلاص لله سبحانه وتعالى، مع بذل الجهد في تعلمه وتعليمه. فعلى العالم أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتعاطى الأسباب لقبول علمه، وعلى طالب العلم أن يحب العلم ويحب أهله، ويجلهم ويكرمهم ويقدرهم، مع مراعاة الأدب مع إخوانه طلاب العلم، وكذلك التضحية والبذل في تحصيله، وأن يعمل بما علم.

مكانة العلم الشرعي وفضل أهله

مكانة العلم الشرعي وفضل أهله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى نبياً عن نبوته، وصاحب رسالة عن رسالته، صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه ومنواله. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني في الله: إن الله رفع في العلم قدر العلماء وفضلهم وشرفهم وزكاهم، فكانوا من الأتقياء السعداء. فضل الله هذا العلم فجعله ميراث الأنبياء، فضل الله العلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). وفضل الله العلم: (فما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم فيمن عنده) العلم رحِمٌ بين أهله، فيه اجتمعوا، ومن أجله تآلفوا وتناصحوا، ولقد وجبت محبة ربنا للمتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتآخين فيه. فضل الله العلم فرفع أهله الدرجات في الحياة والممات، مات الناس ومات العلماء فما ماتت مآثرهم: مات العلماء فما ماتت مآثرهم وذهبوا فما ذهبت فضائلهم نقشت على صفحات الصدور باقية في صحائف أعمالهم من أراد أن يعرف قدر العلم فليعلم أنه الحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] من أراد أن يعرف قدر العلم فليعلم أنه الخير والبر: (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). من أراد أن يعرف فضل العلم: فليعلم أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع. سلامٌ على قومٍ عرفوا حقوق العلم وأهله، سلامٌ على كل من علَّم وعمل وعلم المسلمين فنفعه الله بعلمه ونفع به الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

الأمور التي ينال بها فضل العلم

الأمور التي ينال بها فضل العلم أيها الأحبة في الله! لا يستطيع أحدٌ أن ينال فضل العلم إلا بأمور، إذا حصلها العبد كملت له فضيلة العلم:

الإخلاص في طلب العلم

الإخلاص في طلب العلم أولها وأعظمها: إخلاص العمل لله جل جلاله، العلم لله، ويُراد به ما عند الله، ولا يزال العبد بخيرٍ إذا قال: قال لله، وإذا عمل: عمل لله، اصطفى الله العلم للآخرة، واصطفى أهله للآخرة، فهم معنا في الدنيا بأجسادهم، وهم في الآخرة فيما هم فيه من علومها النافعة، وأجورها الباقية. إنه العلم الذي لا يمكن أن يجد أحدٌ حلاوته إلا بالإخلاص: (ومن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) أهل العلم أغنى الناس بالله، وطالب العلم والعالم الذي ملأ الله قلبه بالآخرة تنصرف همته لله خالصة، أما طالب العلم الذي يريد وجه الله، مباركٌ له في علمه، وفيما يقوله ويسمعه ويكتبه، ومباركٌ له في كل خطوةٍ يخطوها، وفي كل كلمة يسمعها ويكتبها ويفهمها ويلقنها العباد، فالإخلاص مدار الأعمال كلها عليه، وما بقيت كتب السلف رحمهم الله، وكأنها كتبت بالأمس القريب إلا بالله جل جلاله ثم بإخلاصهم، نظر الله إلى قلوبهم فوجد فيها الإخلاص لوجهه وإرادة ما عنده سبحانه وتعالى، فبارك فيما قالوا وما عملوا وما علموا رحمهم الله برحمته الواسعة. أيها الأحبة! من أخلص لله جل جلاله جعل الله القناعة أمام عينيه، فاغتنى بالله، وافتقر إلى الله، وذاق حلاوة المعاملة مع الله، ولا يستطيع العالم ولا طالب العلم أن يُصلح الناس حتى يصلح ما بينه وبين الله بالإخلاص، ومن أصلح ما بينه وبين الله فنظر الله إلى قلبه أنه يريد وجهه، وأراد ما عنده، فتح الله عليه أبواب الرحمة، وإذا فتحت أبواب الرحمة فلا يغلقها. إذا أخلص العبد لله سبحانه سهل الله له طريق العلم، فجعله محبوباً عند العالم الذي يعلمه، موضوعاً له بالقبول حيثما كان وحيثما تكلم وحيثما سمع، ووضع الله له البركة في جميع ما يكون من أمره. الله أكبر إذا أخلص طالب العلم فخرج من بيته وليس في قلبه إلا الله، فكتب الله له الخطوات والحركات والنفس وما يكون من جميع حاله وشأنه. الله أكبر إذا خرج العالم من بيته، والداعية إلى الله والخطيب إلى مسجده، والواعظ إلى إخوانه وخلانه، يريد أن يعلمهم لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله، يتمنى من إخلاصه أن هذا العلم بينه وبين الله لا يطلع عليه أحدٌ سواه.

القيام بحقوق العلم

القيام بحقوق العلم أما الأمر الثاني فإن الله سبحانه وتعالى جعل للعلم حقوقاً عظيمة، من وفاها فإن الله سبحانه يبارك له في ذلك العلم. ولن يستطيع طالب العلم أن ينال العلم؛ من وجهه إلا إذا أدى حقوق العلم؛ ولن يستطيع العالم أن يجد لذة علمه فيكون علماً نافعاً مباركاً فيه إلا إذا أدى الحقوق التي عليه، فالحق الذي على العالم هو أن ينصح للأمة، وأن يكون صادقاً مع الله جل جلاله، مشفقاً على الخلق، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ملأ الله قلبه بالرحمة فكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوفاً رحيماً صلى الله عليه وسلم، كان عليه الصلاة والسلام رحمة للناس، فإذا كان العالم قد سكنت الرحمة في قلبه، وعرف حقوق الناس عليه، بذل لهم هذا العلم، وضحى وقدم الغالي والرخيص، والمهجة والنفس والنفيس؛ من أجل مرضاة الله سبحانه وتعالى، إن العالم عليه حقٌ وهو أن يعلِّم الجاهل، وإذا وقف الجاهل على بابه وجب عليه أن يعلِّمه، وأن يرشده، وأن يدله، وأن يأخذ بمجامع قلبه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن كان مذنباً رغبه في التوبة والإنابة إلى الله، وإن كان مسيئاً رغبه في الإحسان وعمل أهل الإيمان حتى يفوز بالرحمة والجنان، وإن كان مخطئاً سدده وأرشده، ودله على ما فيه مرضاة الله جل جلاله. إن العالم عليه أمانة عظيمة ومسئولية جليلة كريمة، أن يبذل كل ما يستطيع لتعليم الناس وتوجيههم، والله معه يسدده ويعينه ويوفقه، إن أهل الدنيا يعينون من وقف معهم في تجاراتهم وبيعهم وشرائهم فكيف بمن يتاجر مع الله، وابتغاء مرضاة الله. قد يخرج العالم إلى درسه وموعظته مشتت الفكر من هموم الدنيا وأحزانها، ولكن الله يحبه ويحب علمه فيجمع الله له الأمر في قلبه، فيزيح عنه همه وغمه فيوفقه ويسدده، ومن نظر إلى أحوال العلماء وجد أن معهم من الله عوناً وظهيراً، وأن هذه العلوم والكتب والدروس والمواعظ وهذا الخير الكثير، لن يكون بحول أحدٍ ولا قوته كائنٌ من كان؛ إلا بحول الله وقوته سبحانه وتعالى. العالم عليه أمانة عظيمة في توجيه الناس ودلالتهم للخير، وإن في قصص العلماء عظة وعبرة، خرجت ذات يوم مع الوالد رحمه الله برحمته الواسعة، بعد درسه بعد صلاة الظهر، وكان يوماً شديد الحر في الصيف، فاستوقفه رجلٌ من العامة وهو منهكٌ بعد درسه ما يقرب من ساعة إلا ربعاً في عز الظهيرة والشمس على رأسه والرجل يسأل ويناشده ويكرر المسألة، وهو يراوح بين القدم والأخرى، والله ما كهره ولا شتمه ولا طرده ولا مله ولا أشعره بالسآمة حتى قضى له جميع أمره، فانطلق الرجل وهو يثني ويبتهل إلى الله جل جلاله بالدعوات فلما ولى وانصرف كنت حديث السن قلت: يا أبي! إن هذا قد شق عليك -فضغط على يدي- وقال: والله يا بني لا يحل لي أن تبرح قدمي عن قدمه حتى أجيبه على سؤاله، إذا علم العالم أن الأمانة عظيمة والمسئولية كبيرة، بذل نفسه ووقته وعمره بالتجارة مع الله، فيسهر ليله وهو يعلم أن هذا السهر يخط في صحيفة عمله، ويضني جسده ويتعب فكره وهو يبحث عن المسائل، ويحل بإذن الله المعضلات والنوازل، والله يكتب أجرها لكي يراها أمام عينيه في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

حقوق الأمة على العالم

حقوق الأمة على العالم

تلمس القلوب وتبيين الحق لها

تلمس القلوب وتبيين الحق لها إن مما ينبغي على العالم أن يلمس شغاف القلوب، فإن قلوب المؤمنين تنتظر من العالم أن يفتحها بإذن الله عز وجل بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعد للأمر عدته، فيتسلح بسلاح العلم النافع الموروث من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قدم أحدٌ على العلم فواجبٌ عليه أن يضبط المسائل وأن ينصح للأمة في الجد والاجتهاد والعزيمة الصادقة للوصول إلى الحق، والبحث عن المسائل، ومعرفة أصول النوازل، حتى يكشف للأمة جلي الحق، فيعظم الله له الأجر والمثوبة، ولا بد للعالم من أن يضحي وأن يخرج للأمة هذا العلم النافع الموروث من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر العلماء هذا الحق في حق النصيحة فإن النصيحة الواجبة على العلماء تجاه الأمة: أن يبينوا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والهدى من الضلال ويرشدوا العباد إلى صلاح الدنيا والمعاد، ولن يكون ذلك إلا ببصيرة ودليلٍ من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

تعليم الأمة الأفضل والأحسن

تعليم الأمة الأفضل والأحسن من الحقوق التي ينبغي للعالم أن يراعيها في علمه تجاه الناس وتجاه الخلق: أن يختار لهم أفضل ما يجده، وأحسن ما يجده، لكي يقدمه من العلوم النافعة، فكما أنه واجبٌ عليه أن يتقن العلوم، كذلك يختار أهمها وأولاها وأحقها، وهو: توحيد الله سبحانه وتعالى، وبيان ما لله من حقوقٍ في إخلاص العمل لوجهه، وصدق المعاملة معه سبحانه وتعالى، فيأخذ بمجامع القلوب لله بإخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى، فأفضل العلوم وأحبها إليه سبحانه وتعالى هو التوحيد، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله). كذلك عليه حقٌ عظيم وهو: أن يبين للناس الأحكام، والمسائل العملية المتعلقة بالعبادات والمعاملات، فيبين هدي رسول صلى الله عليه وسلم في عبادته، في طهوره وصلاته، وكيفية أدائه للحقوق التي أوجبها الله عز وجل وفرضها، فيصف للناس صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنهم ينظرون إلى نبي الأمة صلى الله عليه وسلم في خشوعه وتذلله وخضوعه، وموقفه بين يدي ربه، كيف كان يركع، ويسجد، ويقف مع كل صغيرة وكبيرة من هديه صلوات الله وسلامه عليه، إذا فعل ذلك نصح للأمة، وبين لها دينها وأقامها على الهدى من سبيلها، فأصبحت على خيرٍ ورحمة وفضلٍ كثير. كذلك على العالم أن ينصح للأمة فيجمع القلوب على دين الله جل جلاله، فالنصيحة واجبة على العلماء فعليهم أن يجمعوا الناس ولا يفرقوهم، وأن يحببوا بعضهم إلى بعض ويؤلفوا بينهم ولا يشتتوهم، فإن الله جمعنا بالإسلام، وألف بين أرواحنا بالقرآن، الله ربنا والإسلام ديننا، وخير خلق الله صلى الله عليه وسلم نبينا ورسولنا فلماذا نختلف، ونفترق فيدعوهم إلى الأصل الأصيل من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين للناس هذا الأمر الذي عليه صلاح العباد، من اجتماع الكلمة وتآلف القلوب، فيكون حريصاً على ذلك أيما حرص؛ لأن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم باجتماع الكلمة، وتآلف الأرواح، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم، مبيناً حقيقة الإسلام والإيمان: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) لا يمكن للمسلمين أن يكونوا كمثل الجسد الواحد، إلا إذا كان العلماء والدعاة والهداة إلى الله على قلب رجلٍ واحد يقولون بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعملون بذلك ويحتكمون إليه، هذا من أعظم الواجبات وآكد الحقوق والأمانات على العلماء؛ لأن الأمة إذا تشتت وتفرق جمعها؛ فإن القلوب تمتلئ بالضغائن فيتشتت الخلق ويصبح علم الإنسان في بعض الأحيان وبالاً عليه -نسأل الله السلامة والعافية- ينصح المسلم لإخوانه المسلمين ويجمع كلمتهم على الخير والبر. انظر إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه صاحب السوادين والنعلين كان رضي الله عنه وأرضاه، الصحابي الوحيد الذي يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون استئذان، يقول له: (أذنت لك أن تسمع سوادي حتى أنهاك وأن ترفع الحجاب) فكان يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه، هذا الصحابي الجليل مع علمه وفضله يقول فيه حذيفة: [ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، أن ابن أم عبد أعلمهم وأقربهم هدياً وسمتاً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم] كان أعلم الصحابة بالسنة وأعلمهم بهديه، ومع ذلك لما صلى عثمان رضي الله تعالى عنه بالمسلمين وذلك في حجته الأخيرة وأتم الصلاة، أتم الصلاة عبد الله بن مسعود وراءه فقيل له في ذلك، فقال رضي الله عنه: [الخلاف شر] فآثر أن تجتمع الكلمة على عثمان رضي الله عنه وأرضاه وهذا من علمه وفقهه. وكذلك عمر بن الخطاب يراجع أبا بكر رضي الله عن الجميع وأرضاهم، فهو يراجعه في المسألة ويقول: (كيف تقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله). فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة وإنها لقرينتها في كتاب الله]. قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر لذلك فعلمت أنه الحق] اجتماع قلوب العلماء وائتلافها على الكتاب والسنة وعلى الهدي الصالح لسلف الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، ورحمهم الله برحمته الواسعة، أمرٌ مطلوب ومحببٌ ومرغوب، لن تجد الأمة في عز مكانتها ولا قوة شأنها إلا إذا اعتصمت بكتاب ربها وأتلفت أرواحها دفاعاً عن دينها، وأما الشتات والفرقة وغير ذلك مما لا تحمد عاقبته فإنه ضياعٌ للكلمة، وذهابٌ للهيبة، وسببٌ للفشل، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].

سكون رحمة الأمة في قلب العالم

سكون رحمة الأمة في قلب العالم أما الأمر الثاني: فينبغي أن تسكن الرحمة في قلبه، فلن يستطيع العالم أن يبلغ رسالة الله، وأن ينصح للأمة إلا إذا أسكن الله الرحمة في قلبه، فإذا جاءه الحائر جاءه التائه جاءه مشتت الفكر جاءه السفيه بسفهه، والجاهل بجهله، تلقاه بالرحمة، التي يوفقه الله بها ويسدده بها لحسن العمل والتصرف، ولذلك قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يمتن عليه بنعمته: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] فأمره الله عز وجل بالعفو والصفح والرحمة، فلا إله إلا الله إذا سكنت الرحمة في قلوب العلماء، لا إله إلا الله إذا أصبح العالم مشفقاً على الأمة رحيماً بها، إذا جاءه الجاهل تلقاه بالرحمة وتلقاه بالحنان والعطف، كوالد يعطف على ولده، وإذا جاءه المسيء وقد قنط من رحمة الله، ويئس من روح الله، وجد عنده الكلمات المضيئة والنصائح الغالية، ووجد عنده كلمات تدل على أن وراءها قلباً يخاف الله مليئاً بالرحمة يحتسب ثوابها عند الله سبحانه، اقرءوا في تراجم العلماء وستجدون فيها الآثار الكريمة والصفحات المضيئة التي تدل على الشفقة وحب الخير للأمة، ولن يُفلح العالم إلا إذا مُلئ قلبه بالرحمة وبقدر فوات هذه الرحمة، يفوت الخير الكثير. الرحمة: هي التي يقف فيها العالم للفقير، الرحمة: هي التي لا يمكن للعالم أن يميز فيها بين الناس فيرى الناس، في عينه سواسية لا فضل لأحدٍ على أحد إلا بتقوى الله سبحانه وتعالى، إنها الرحمة التي أمر الله عز وجل بها نبيه صلى الله عليه وسلم، بل وعاتبه من فوق سبع سماوات حينما جاءه الأعمى وهو يخشى يريد أن يتزكى، فكان ما كان من رسول الأمة صلى الله عليه وسلم اجتهاداً في الخير فقال الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4] فالرحمة لا بد منها، وبها يستطيع العالم بإذن الله عز وجل أن يسع الناس بحلمه وعطفه وإحسانه وبره.

التضحية لهذه الأمة

التضحية لهذه الأمة أول ما ينبغي على العالم: أن يضحي لهذه الأمة، وأن يبذل من وقته وجهده وفكره وتعبه ما يرجو به رحمة الله سبحانه وتعالى.

الحقوق التي ينبغي للعالم أن يلم بها

الحقوق التي ينبغي للعالم أن يلم بها هناك حقوق ينبغي على العالم أن يلم بها، وان يتفقد نفسه دائماً للوصول إلى مراتبها العالية ومنازلها السامية الغالية، ومن أعظمها وأجلها.

ترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق

ترسّم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه وما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، من الإلف والقرب من الناس، كان الصغير يحس كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكان الفقير يشعر كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكان الحقير من الناس وغيرهم من عامتهم الذين لا جاه لهم ولا قوة يحسون بقربه صلوات الله وسلامه عليه، كان موطأ الكنف، وكان صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وشمائله يجذب الناس إلى علمه، وما قذف الله في قلبه من النبوة والرسالة، يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه واصفاً النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من طلاقة الوجه، وديمومة السرور قال رضي الله عنه وأرضاه: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي) فإذا تبسم العالم فإن هذه الابتسامة كريمة وثقيلة في قلوب الناس؛ لأنها تدل على التواضع والكمال والفضل، وتدل على أنه قريبٌ من الناس، فالعالم يحمل هموماً لا يعلمها إلا الله جل جلاله، ولكنه إذا تبسم تبسمَ الواثق بما عند الله سبحانه، يتبسم كتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ليشتري بها رحمة الله ومرضاته، لا يتبسم للدنيا، ولا يتبسم للجاه ولا للسمعة ولا للرياء، ولكن لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله: كان صلى الله عليه وسلم يأتيه الرجل -بطيشه وخفته وحمقه- فيجذبه من ردائه صلوات الله وسلامه عليه، فما هو إلا أن يصرف وجهه إليه فيتبسم -ولا يلقى العنف بالعنف، ولا يرد السيئة- بالسيئة صلوات الله وسلامه عليه إذا كملت فضائل العالم وكملت أخلاقه، طابت أقواله وأحس من كان قريباً منه بفضله ونبله، قال أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وهو يبين لنا هديه عليه الصلاة والسلام، وخلقه الكامل الفاضل: [لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي يوماً قط أف] صلى الله عليه وسلم. إذا كمل العالم كملت أخلاقه وآدابه، وشمائله وفضائله، فقد أوصى العلماء وأهل العلم أن يكونوا كذلك، فإذا تواضع العلماء ملكوا قلوب الناس، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي تعين على حب الدين والقرب منه وإلف العلماء والقرب منهم يعين على خيرٍ كثير. إن كريم الأصل كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى وينبغي على العالم أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خلقه، سواءً كان مع العدو أو الصديق، مع الصغير أو الكبير، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع بكاء الصبي في الصلاة أشفق على أمه فخفف في صلاته، ولما تكلم معاوية بن الحكم رضي الله عنه في الصلاة، قال معاوية: (فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كهرني ولا شتمني ولكن قال: من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ فقلت: أنا يا رسول الله قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... ) الحديث فكان صلى الله عليه وسلم يتعاطى أسباب التأثير في الناس، فالتواضع خلق لا بد للعالم أن يتخلق به، وإذا تواضع العالم استطاع المهموم والمغموم والمحزون والمكروب أن يبث حزنه، وأن يبدي ما عنده من الهم والغم، فإذا وجد العالم موطأ الكنف أحس أنه كوالده، وأنه سيشفق عليه ويرحمه أكثر من رحمة الأم بولدها؛ لأن رحمة العالم نابعةٌ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي نابعة من الدين، وأما حنان الأم وعطفها فنابعٌ من الدنيا، وشتان ما بينهما، ولذلك كان بعض أهل العلم يقول: أستحب للعالم ألا يبالغ في لباسه، فلا يبالغ في التجمل؛ لأنه إذا بالغ في التجمل والزينة ولبس غالي الثياب، احتقر الفقير نفسه إذا جلس بين يديه، وأستحب له أن لا يتبذل في ثيابه، فإذا جاء الغني ترفع عن سؤاله، ولكن يكون بينهما واسطة، حتى إذا رآه الفقير ألفه، وإذا رآه الغني ألفه فالوسط خيرٌ ومحمودٌ في الأمور كلها.

تعاطي أسباب قبول العلم

تعاطي أسباب قبول العلم ينبغي للعالم أن يتعاطى الأسباب لقبول علمه حيث أن الكلمة الطيبة من العالم طيبة ومؤثرة ومقبولة عند الناس، ومن رفع الله قدره بالعلم فطيب كلامه وأصبح يوجه الناس بالكلمات المؤثرة فإن الله يعظم أجره بعلمه، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يجرح الناس، وكان صلى الله عليه وسلم لا يؤذي الناس بلسانه، جعل نبوته ورسالته مليئة بالعطف والحنان حتى في الكلمة التي يلقيها ناصحاً ومؤثراً، كان صلى الله عليه وسلم إذا رقى منبره يقول وهو يثرِّب على أقوامٍ فيما أخطئوا فيه: (ما بال أقوام) ما كان صلى الله عليه وسلم صخاباً ولا لعاناً، ولما قنت يدعو على رعل وذكوان وعصية التي عصت الله ورسوله أنزل الله عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] وفي السير: أنه أوحي إليه إننا لم نبعثك صخاباً ولا لعاناً إنما بعثناك رحمة للعالمين، فكان صلى الله عليه وسلم في إلفه وتواضعه نموذجاًَ لكل عالم. أتى عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه وأرضاه، وهو على النصرانية، أتى يريد أن يرى حال النبي صلى الله عليه وسلم، وحال هذا المعلم الفاضل الكامل صلى الله عليه وسلم وذلك بعد أن كتبت له أخته سفّانة تصف له ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، فلما أتى عليه قال: [فمضيت معه، فاستوقفته امرأة وهو في الطريق] استوقفت المعلم المربي وهادي الأمة ودالها على الخير، قال: [فوقف لها حتى قضى حاجتها، فقلت: والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء؛ قال: ثم انطلق فاستوقفه صبي فوقف معه، والله ما نزع يده من يده حتى قضى له حاجته، فقلت: والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، قال: فلما دخلت البيت رمى لي بعرض الوسادة إكراماً لـ عدي؛ لأن الضيف يكرم ضيفه وهذه من شيم المسلم، فقلت والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله] فأسلم رضي الله عنه وأرضاه. وأسر ثمامة بن أثال وربطه في المسجد ثلاثة أيام؛ لكي يرى النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ويرى مدرسة الإسلام الأولى، ورسول صلى الله عليه وسلم يوجه ويعلم ويسدد ويدل على الخير، فلما مضت الثلاثة الأيام وفي كل يوم يقول: (ما وراءك يا ثمامة؟ فقال له: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعفو، تعفو عن كريم -أي: من لا ينسى الفضل- فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق ثمامة رضي الله عنه إلى الحائط) انطلق لا مجبراً على الإسلام ولا مكرهاً عليه، انطلق بمحض اختياره، لكن قلبه مأسور بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسل بالحائط ثم جاء ووقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [يا محمد: لقد كان دينك أبغض الأديان إلي، ووجهك أبغض الوجوه إلي، فأصبح دينك أحب الأديان إلي، ووجهك أحب الوجوه إلي] حينما رأى الشمائل والفضائل والآداب، حينما رأى التعليم على أكمل ما يكون من رسول الأمة صلى الله عليه وسلم. إن القلوب تُملك بالأخلاق وبالآداب، فإذا تحلى العالم بالخلق الكريم أحبته القلوب وألفته واقتربت منه وأحست أنه خليقٌ بالحب والود والإجلال والإكرام. إن العالم إذا سعى فإن للناس عليه حقوقاً فيجعل من يجلس معه أنه يحبه ويريد له خيراً فيتواضع له، وكأنه يشعر أن الفضل للناس وليس له، فإذا شعر بذلك تواضع للناس، وكان حليفاً قريباً من الناس، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا من أهله إنه ولي ذلك والقادر عليه.

حقوق ينبغي على طالب العلم حفظها

حقوق ينبغي على طالب العلم حفظها كما أن على العلماء حقوقاً كذلك على طلاب العلم عليهم حقوق ينبغي عليهم أن يحفظوها ولا يضيعوها، ويؤدوها إلى أهلها كاملة على الوجه الذي يرضي الله، وأعظمها كما ذكرنا حق الإخلاص. ثم على طالب العلم أن يعلم أن أول ما ينبغي عليه أن يقذف حب هذا العلم في قلبه، فإذا أحببت العلم أحببت أهله، وأحببت من حمل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت محبتك لله، فأظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، من أحب لله فإن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فتحب العلماء، فإذا أحببت قوماً حشرت معهم، قال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، قال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت) فمن أحب العلماء فإنه سيبحث عن علمهم، ومن أحب العلم طلبه وجدَّ واجتهد حتى يحصله، لقد ملك الدينار والدرهم قلوب أناس فسهرت عيونهم، وتعبت أجسادهم، وذلوا وأهانوا كرامتهم ومع ذلك لم يشعروا بتعبٍ ولا نصب، الله أكبر! ترى التاجر في موسمه الذي يبيع فيه التجارة الغالية، تراه يسهر ويتعب ويأتيه أرذال الناس، فيقف معهم ويتحمل ما يكون منهم من زلة وخللٍ وخطأ لعلمه بشرف الدرهم في نفسه، فمات قلبه وتعلق بالدينار والدرهم، فبذل كل ما يجده من أجل الوصول إلى ما يحب، ولله المثل الأعلى.

مراعاة حقوق إخوانه من طلاب العلم

مراعاة حقوق إخوانه من طلاب العلم على طالب العلم أن ينتبه لحقوق إخوانه من طلاب العلم، فإن العلم رحمٌ بين أهله، فعلى طلاب العلم أن ينتشر بينهم الحب والود وأخلاق الإسلام، فإنه إذا كان طلاب العلم قريبين من هذا الهدي الذي أدب الله عليه المؤمنين وجدت الرحمة بينهم، ووجدتهم متعاونين متعاطفين متآلفين متكاتفين، فإذا وجدتهم كذلك حمدت الله سبحانه، ولا يزال الإسلام بخير ما تراحم طلاب العلم، أما إذا انتشر بينهم الحسد والبغضاء، والعداوة والشحناء تفرقوا وتشتتوا وشغلوا عن طلب العلم، إياك أن تطعن في العلماء، وتشتت عنهم طلاب العلم، فبعض طلاب العلم يقدح في شيخ غيره، وبعضهم يريد أن طلاب العلم عند شيخه، وعند العالم الذي يتعلم على يده لا وألف لا، ويأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم أن تشتت شمل إخوانك، وأن تطعن في علمائك بدون وجه حق، إن كنت تتعلم العلم على عالم وضع الله له الخير والبركة، ووضع الخير والبركة في غيره من العلماء فكلٌ له حقٌ عليك، فاحفظ حقوق العلماء، وإياك أن تصرف همة طلاب العلم الذين أحبهم مشايخهم وعلماؤهم إلى شيخك فقط، هذا من الغلو الذي لا يأذن الله به، ولا يأذن به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) فلا تغلُ في شيخك ولا تبالغ في تعظيمه، بحيث تحتسب أن الأمة مفتقرة لعلمه وحده دون غيره، فإن الله سبحانه وضع فضله حيث شاء، فاعترف لأهل العلم بفضلهم، وعلو مكانتهم، عندما كان طلاب العلم يثنون على العلماء، ويمجدونهم ويوقرونهم كان الناس بخير، ولكن لما أصبح طلاب العلم يتكلم بعضهم في مشايخ البعض، ذهبت هيبة العلماء، وأصبحت عورات العلماء مكشوفة، فكل من يتحدث عن عالم يذكره بعورة، ولم يذكر عالم إلا وذكرت له لمزة أو زلة وإنا لله وإنا إليه راجعون، والله لا خير في الأمة إذا أصبحت تكشف عورات علمائها، ولا تتقي الله عز وجل في علمائها، ولا تحفظ لهم كرامة، ولا ترعى فيهم إلاً ولا ذمة، على الإنسان إن يتقي الله، وأن يعلم أن أهل العلم حملة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لهم علينا حقوق عظيمة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا ويسلم منا، وأن يرزقنا الإخلاص، ويتقبل منا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

البذل والتضحية

البذل والتضحية على طالب العلم أيضاً أن يعلم أن عليه أن يجد ويجتهد، فإن العلم يحتاج إلى تضحية ويحتاج إلى تعبٍ وعناء، وأعز ما يملكه الإنسان في طلب العلم وقته، فإذا رأيت طالب العلم حريصاً على الوقت ألا يذهب سدىً، وألا يذهب هدراً، فاعلم أنه طالب علمٍ موفق، وأما إذا هان عليه وقته لكي يلتقي بهذا ويسهر مع هذا ويحادث هذا ويمزح مع هذا، فذهب وقته في اللقاءات والزيارات ذهب عليه من العلم خير كثير، ولذلك قالوا في الحكمة: "أعط العلم كلك يعطك بعضه" فكيف بمن أعطى العلم بعضه، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا السداد والرشاد في القول والعمل، وأسأله تعالى أن يجعل علمنا نافعاً، وعملنا صالحاً خالصاً لوجهه الكريم.

مراعاة الأدب مع العلماء

مراعاة الأدب مع العلماء كذلك أيضاً ينبغي أن يراعي الأدب مع العلماء، ومن كمل أدبه في الطلب كمل تحصيله، ولذلك جبلت القلوب على حب من كملت أخلاقه، فإذا نظرت إلى طلاب العلم، فانظر إلى ذلك الطالب الذي تأثر في قوله وفعله فظهر ما خفي في قلبه من الحب للعلماء على لسانه وجوارحه وأركانه، والله ما أخفيت في قلبك من سريرة تريد بها رحمة الله إلا أظهرها الله في جوارحك، ولذلك من ملأ قلبه بمحبة العلماء وجدت آثار ذلك في تعامله معهم، كان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه طالباً من طلاب العلم، توفي رسول صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنه فدعا له بالعلم فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على زيد بن ثابت عالم الكتاب الذي كان آية في العلم في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتي في شدة الظهيرة فينام على عتبة زيد، ينام مع علو نسبه ومكانته وشرفه، ينام على تلك العتبة لعلمه بما عند الله من الثواب والأجر، فكان زيد رحمه الله ورضي عنه يقول: [هلاَّ أيقظتني] وكان لا يوقظ عالماً من علماء الصحابة رضوان الله عليهم، ويقول: [لو شئت أن أقول للأمة التي تخدمه: أيقضيه لأيقظته] وكان ذلك من أحب ما يكون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يوقظه ولا يزعجه، فطالب العلم لا بد أن يقدم الثمن والتضحية في الأدب، وإذا رأى العالم منك خصلتين الأولى: الأدب والخلق الحميد، والثانية: صدق الرغبة، أحب أن ينفعك، وجد واجتهد على أن يبذل لك. ومن عجائب ما ذكروا أنه نزل بدمشق عالم من علماء الحديث، فجاءه طالب علم، فرأى كثرة الناس حوله فلم يستطع الوصول إليه، فاختار ساعة السحَر وهي في جوف الليل قبل الفجر بما يقرب من ساعة، فجاءه فقرع الباب على العالم فلما خرج ذلك العالم قال: ماذا تريد؟ قال: أريد أن تعلمني مما علمك الله يرحمك الله، فما كان من ذلك العالم إلا أن أخذ الباب وصكه في وجهه بقوة، فما كان من هذا الطالب الموفق إلا أن فرش عمامته، وتلحف رداءه في شدة البرد، وانتظر خروج العالم لصلاة الفجر، فلما خرج العالم ورآه أخذه وضمه إلى صدره وقال: لقد أردت أن أختبر صدق رغبتك في العلم. كانوا يؤذون الطلاب قبل الطلب حتى يعلموا هل هم صادقون، وأذكر بعض المشايخ الكبار رحمة الله عليهم، أنه كان إذا جاءه الطالب في أول مجلسه أغلظ عليه قليلاً، حتى ينظر هل هو صادق في إرادة العلم؟ وهل هو من أولي القوة والعزم؟ لأن العلم ثقيل والله يقول: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] والثقيل لا يحمله إلا أولي العزم وأهل القوة الذين لهم صبرٌ وجلد على طاعة الله ومرضاته، فقد كانوا يختبرونهم بالقرع والتوبيخ لينظروا مدى تحملهم؛ لأنهم غداً سوف يأتيهم السفهاء والجهلاء، فإذا رأوا أمامهم من هو قوي الشكيمة صادق العزيمة، علَّموه وأعطوه من العلم مما علمهم الله، فينبغي لطالب العلم أن يظهر للعالم هاتين الخصلتين، وأفضلهما وأكرمهما: حسن الخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، فضل حسن الخلق وقال: (خيركم خيركم لأهله) وقال: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيءٍ أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من تقوى الله وحسن الخلق) نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التقوى، وأن يرزقنا كمال الخلق إنه ولي ذلك والقادر عليه.

محبة العلم وأهله

محبة العلم وأهله إذا أحب طالب العلم العلم تذلل له، وطلب هذا العلم وبحث عنه، ولذلك لما ملكت محبة العلم العلماء والسلف الصالح من هذه الأمة والتابعين لهم بإحسانٍ طلبوا هذا العلم، وضحوا من أجله، فأسهروا ليلهم، وأتعبوا أجسادهم، وخطت أيديهم فما ملت ولا تعبت ولا سئمت، والله إن قرأت سير العلماء وتأملت تراجم النبلاء عجبت مما كان عليه القوم، كان بعض طلاب العلم يجلس لتهيئة الطعام وهو في شدة الجوع، وشدة الحاجة إلى الطعام فيُقال له: إن مجلس العلم بمسجد كذا قد عقد فيترك الطعام ويذهب إليه، الله أكبر! إذا ملكت محبة العلم شغاف القلوب، وأصبح الإنسان يحب هذا العلم، إذا أحبه محبةً كاملة نفعه الله نفعاً كاملاً، فينبغي على طالب العلم: أن يحس أن محبة العلم فرضاً عليه حتى يقوم بحقه كما ينبغي. كذلك إذا أحببت العلم أحببت أهله، ومن أحب العلماء حشره الله مع العلماء، ومن أحب العلماء تأثر بأقوالهم وأفعالهم وما يكون من مواعظهم، ومن أحب العلماء انتفع بعلمهم.

مزج المحبة بالهيبة والإجلال والإكرام والتقدير

مزج المحبة بالهيبة والإجلال والإكرام والتقدير كذلك أيضاً: على طالب العلم أن يمزج هذه المحبة بالهيبة والإجلال والإكرام والتقدير، فإن لأهل العلم حقاً عظيماً على الناس كلهم عامتهم وخاصتهم، وإذا رأيت الرجل يقدر العالم ويرفع من مكانته ويعظم من شأنه في حدود الشرع دون غلوٍ ولا تنطع علمت أن وراء ذلك قلباً يخاف الله جل جلاله؛ لأنه يعلم أن الله ملأ قلب هذا العالم بالحكمة وهو يريد به الخير قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فإذا علمت أن الله قذف هذا العلم في صدور العلماء لخيرٍ يريد بهم فإن هذا يدعوك إلى كمال محبتهم وتقديرهم وإجلالهم.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة للشباب بضرورة ملازمة العلماء الأجلاء

نصيحة للشباب بضرورة ملازمة العلماء الأجلاء Q نخبركم يا شيخ بحب الشباب لكم واستماعه لكم وكثيرٌ من الشباب يأتي إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيارة المسجد النبوي، ونعلم أن لكم دروساً في الحرم النبوي فما هي هذه الدروس ومتى تكون؟ A الله المستعان! قال: أتسألوني وفيكم صاحب السوادين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ما شاء الله أنتم عندكم الشيخ عبد العزيز إمام العلماء، وقدوتهم نسأل الله أن يحفظه، وأدام عليه العفو والعافية، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وإخوانه من العلماء الأجلاء الذين أتمنى أنني والله عند قدم أحدهم أطلب عنده علماً من الكتاب والسنة، والله أقولها من قلبي، والله لا نفاقاً ولا رياءً، وأقولها وإذ أقولها وهو حقٌ من حقوقي، عندكم النعمة العظيمة أنتم تغبطون عليها، وينبغي عليكم أن تحرصوا على هذا الخير والله سبحانه وتعالى يسألكم عن هذا خاصة طلاب العلم، عليهم أن يحرصوا على دروس الشيخ حتى ولو كان الشيخ في بعض الأحيان يراعي مستويات الناس، قد يكون هذا العلم الذي تريد أن تتوسع فيه أكثر قد يضع الله لك البركة في هذه الكلمة التي خرجت من هذا العالم الرباني العامل، تنتفع بها وتنفع بها أمماً، العلم مداره على النشر، وقد تأخذ من عالمٍ صادق قليلاً فيضع الله منه من الخير ما لا يحصى، يقول بعض العلماء رحمهم الله: إن الصحابي كان يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة والساعتين، فيخرج بعلمٍ كثير من هذا الحديث أو الحديثين لو سمعهم ووعاهم لوضع الله بهم البركة فتنتفع بها أمم، لا إله إلا الله سبحانه وتعالى، ويوجد الأفراد والأحاديث القليلة لبعض الصحابة، ولكن اشتهروا بها، لأنها جمعت مسألة ملازمة، أو حكماً مهماً، فإذا بالله عز وجل يضع البركة فيها، فأقول: أهم شيء يُبنى عليه من هو أحق وأولى. متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحارُ من الركايا فأنتم على خير كثير، وأحبب دائماً أن يكون بيننا وفي قلوبنا الإشادة بمثل هؤلاء، لا نشيد بفضلهم وندعو دائماً إلى مجالسهم والتأكيد على الاستفادة منهم ونحن نمنُّ بذلك لا والله، إنما هو قليل من حقوقهم علينا، إن حقهم علينا أكبر، نسأل الله العظيم أن يجزيهم عنا خير الجزاء، اللهم بارك في أعمالهم، وأعمارهم، وانفع بهم الإسلام والمسلمين، وافتح عليهم فتوح العارفين بك، وأحسن لنا الختام، وأدخلنا وإياهم دار السلام إنك أنت الله ذو الجلال والإكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الطريقة المثلى في طلب العلم

الطريقة المثلى في طلب العلم Q جميع الإخوة يقولون لشيخنا نحبك في الله، ونسأل الله أن يجمعنا في دار الكرامة، وهنا أسئلة كثيرة حول الطريقة المثلى لطلب العلم، وما هي الكتب التي تنصحونا بها في بداية الطلب؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فأشهد الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم فيه، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أما الطريقة المثلى في طلب العلم فأول ما ينبغي على طالب العلم كما ذكرنا: أن يصلح ما بينه وبين الله بالإخلاص. ثانياً: أن يحرص على وجود عالم صادقٍ قد ورث العلم عن أهل العلم، فإذا وجدت العالم العامل الذي هو على منهج الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح لهذه الأمة فإنه يدلك على ما فيه صلاح دينك ودنياك وآخرتك، فإذاً لا بد من الكتاب والسنة وطبيب هو العالم الرباني، والتوفيق في الطريقة المثلى، والطريقة التي ينبغي أن يسلكها طالب العلم تختلف من شخصٍ إلى آخر، أي: لا أستطيع أن أحدد لك طريقاً سرت أنا عليها مثلاً؛ لأنها قد تنفعني ولا تنفع لك، وقد يكون الإنسان مشغولاً فللمشغول طريقة تتلاءم مع شغله، وللفارغ له طريقة تتلاءم مع فراغه ووقته الواسع، فلا يستطيع الإنسان أن يرسم للناس منهجاً معيناً في الطلب. لكن هناك قواعد عامة وهي: أولها أن تهيئ من نفسك ما يعينك على ضبط العلم، من صدق الرغبة -كما ذكرنا- وقوة العزيمة في طلب هذا العلم والتضحية من أجله. ثانياً: أن تبحث عن عالمٍ صادق وتجلس بين يديه، فينظر إليك، وينظر ما هي حدود إمكانياتك ووقتك وجهدك، وما الذي ترغبه من العلوم، وما الذي هو حريٌ أن يعلمك إياه، فهذا هو الذي يمكن أن يحدد من خلال المنهج والطريقة، هذا بالنسبة للأشخاص وطريقة تناولهم للعلم. أما بالنسبة للعلوم فإن أهم العلوم وأعظمها والأساس التي ينبغي العناية به علم التوحيد والعقيدة؛ لأن ضبط هذا الثغر بلاؤه عظيم وأجره كبيرٌ عند الله سبحانه وتعالى، خاصة إذا كان الإنسان في بيئته وقومه وجماعته وهم يحتاجون إلى هذا العلم؛ لأنه يتأكد عليه أكثر، أما إذا كانت عقائد الناس الذين يعيش بينهم على صلاحٍ واستقامة لكنهم يخلطون في معاملاتهم يتبايعون في الحرام، ويشترون الحرام ويقعون في الآثام فحينئذٍ تركز على المعاملات مع العناية بالأصل، لأن العناية بالأصل سواءً وجد من يحتاجه أو لا يوجد في بيئة الإنسان، لكن يعتني الإنسان بحاجة الناس في أحكامهم أيضاً إذا كانوا على استقامة في عقيدتهم وأصول دينهم، فيقرأ فقه العبادات: من صلاة وزكاة وصيام وحج، وما يتبع ذلك من سائر العبادات، ثم بعد ذلك يقرأ فقه المعاملات المالية: من بيعٍ وشراء وإجارة ورهن وشركات وغير ذلك من المعاملات التي تعم بها البلوى، ثم يدرس المعاملات التي يعيشها قومه، ويتعاملون بها، فيسأل أصحاب السوق عن معاملاتهم وتجارتهم فيكون على خلفية وإلمامٍ وضبط وإتقان حتى يسد هذه الثغرة من الناس. كذلك أيضاً: ينظر الإنسان إلى العلوم المساعدة التي يتمكن بها من ضبط هذا العلم كعلم الأصول، وكذلك علم قواعد العربية التي يضبط بها دلالات الكتاب ودلالات السنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل القرآن عربياً وبلسانٍ عربيٍ مبين، وبين أن ذلك لكي يعقل ويفهم الناس ما في هذه اللغة من أسرار وحكمٍ عظيمة فعلم اللغة وضبطها والإلمام بها {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] فهذا علمٌ عزيز، وعلمٌ له مكانته فإنه يساعد على فهم الكتاب وفهم السنة. كذلك أيضاً: يلم بالأمور التي تساعد على ضبط العلوم المتفرقة التي يمكن أن يستعان بها على ضبط الأصول وجماع الخير كله تقوى الله، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرا، ومن اتقى الله جعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، والله تعالى أعلم. أما بالنسبة للكتب فالكتب قد رتبها العلماء، فإنه إذا جاء إلى أي فن يجد هناك كتباً مبسطة يبدأ بها، فالعلم المنضبط أن تبدأ بصغائر العلم قبل كباره، قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] قيل في تفسير هذه الآية: أن يتعلم صغير العلم قبل كبيره فتأخذ الكتب المطولة بعد إتقانك للكتب المختصرة، وفي كل فن مطولات، وفي كل فن مختصرات، فيبدأ بالكتب المختصرة ويتدرج فيها حتى يلم ويصل إلى معالي الأمور في طلب العلم، والله تعالى أعلم.

الرحلة في طلب العلم

الرحلة في طلب العلم Q كان العلماء وطلاب العلم الأولون يتنقلون في البلدان لطلب العلم وتعليمه، والآن ولله الحمد المواصلات والتنقلات أسهل بكثير من ذي قبل، ومن نعم الله أن العلماء أمثالكم يتنقلون ليعلموا الناس فهل من كلمة مناسبة في الرحلة لطلب العلم؟ A الله المستعان، ما أنا إلا طالب من طلاب العلم، وأسأل الله العظيم ألا يغرني بما تقول، وأن يجعلنا خيراً مما تظنون بنا، وأما ما ذكرته من الرحلة في طلب العلم، فإن الرحلة في طلب العلم لا تكون إلا من عبدٍ يريد الله والدار الآخرة، فمن خرج من بيته لله وفي الله وابتغاء مرضاة الله، وهو يحس أن عليه مسئولية أن يبقى مع هذا العلم، وأن يلم به فقد طاب وطاب ممشاه، وتبوأ من الجنة منزلاً، ومن خرج من بيته يريد هذا العلم، ويريد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يجلس بين يدي العالم فقد تشبه بالسلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم اغبرت أقدامهم مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الهجرة الأخيرة وهي هجرة الوفود؛ لأن الهجرة تنقسم إلى أنواع ومنها هجرة الوفود، فهجرة الوفود: هي التي جاء الناس فيها أفواجاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:2 - 3] فهاجروا إلى رسول الله ليتعلموا، فإذا وفق الله طالب العلم للهجرة فقد تشبه بالصحابة رضوان الله عليهم، وأرى أن على طالب العلم أن يضحي من أجل هذه الهجرة، إذا كنت لا تستطيع أن تمضي أشهراً فهاجر أسابيع مثلاً في الإجازة، بدلاً من أن يذهب الوقت سدى فسافر إلى المدن التي فيها علماء أجلاء، وتأخذ عنهم العلم، وتضبط على أيديهم العلم، وتحتسب عند الله غربتك، فإن الغربة إذا كانت لله عظم أجرها، وثقل في الميزان ثوابها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. لا إله إلا الله! والله إني لأعجب أن أرى بعض السائقين يسافرون بعض الأحيان مرتين ينتقلون من موضع إلى آخر ويرجعون خلال اليوم، ويقطعون المسافات الشاسعة لأمرٍ: وهو أن يطلبوا الكسب الحلال الطيب في سفرهم بهذا الكد والتعب، ويريدون به المال الحلال عسى الله أن يبارك لهم مما يكون من رزقٍ حلال، فتعجب ألا ترى من سفرهم وغربتهم لا يسأمون ولا يملون ويحسون بالنزهة والراحة فكيف بطلاب العلم، كيف بمن يتاجر مع الله وفي الله، نسأل الله العظيم أن يرزقنا ذلك. الله أكبر! إذا غابت عليك شمس ذلك اليوم وقد غبرت قدمك مهاجراً وطالباً للعلم. الله أكبر! إذا غابت عليك شمس ذلك اليوم من أوله إلى آخره وأنت غريب عن أهلك وولدك لطلب العلم، يكتب لك ذلك اليوم كاملاً في صحيفة عملك، وأنت مغترب لله وفي الله، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا صدق العزيمة، وأن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، وعلى طالب العلم إذا تغرب ألا يشكو السآمة والملل، فإن مما يذهب الأجر في الطاعة الشكوى، لا تشتك أبداً، وإن لم تكن ذا همة صادقة، كان الوالد إذا جئت وأنا أشتكي من شيء، يقول: هذا عيبٌ عليك، فأنت في خيرٌ كثير، مثلك يتحدث عن نعمة الله ولا يشتكي، لأن هذا من الضعف والخور، وإذا كان الإنسان في طلب العلم فينبغي أن يكون قوياً جلداً صابراً حتى يكون ذلك أكمل في ميزانه قال موسى بن عمران: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60] ما معناها؟ معناها إلى الأبد {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] أبد الأبد، فقال: لا أبرح لا أستقر ولا يمكن أن يهنأ لي عيش حتى أدرك هذا العالم الذي أوحى الله إليه أنه بمجمع البحرين من هو أعلم منك، فعظمت همة موسى بن عمران إلى لقاء الخضر وسؤاله والاستفادة من علمه فقال: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60] هذه هي الهمة الصادقة في أن يغبر الإنسان قدمه في طلب العلم، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.

نبذة مختصرة عن والد الشيخ وعن منهجه في التعلم والتعليم

نبذة مختصرة عن والد الشيخ وعن منهجه في التعلم والتعليم Q فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو إعطاءنا نبذة عن والدكم رحمه الله تعالى ومنهجه في التعلم والتعليم؟ A باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: ففي الحقيقة دائماً إذا سئلت عن منهج عالم أو شيخ فالأفضل أن تصرف الهمة لمن هو أكمل وأفضل وهو: نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، ينبغي دائماً لطلاب العلم وأهل العلم أن يتذكروا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما وجدت من العلماء فإنك سترى البون شاسعاً بينهم وبين ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فهم على خير وعلى مكانة، لكن ينبغي دائماً أن يكون حديثنا عن هذا الهدي الكامل والداعية إلى الله صلوات الله وسلامه عليه، الذي أثنى الله عليه من فوق سبع سماوات صلى الله عليه وسلم تسليماً، ولكن قد يكون ذكر بعض المعاصرين أو بعض من هم قريبون في هذا الزمان فيه عظة وعبرة خاصةً أن بعض طلاب العلم إذا ذكر له العلماء الأوائل يقول: تلك أمة قد خلت وكان الزمان فيه خير، وكان الناس فيهم الخير والبركة، ولكن في زماننا هذا قد يستبعد ذلك، فإذا ذكرت لهم نماذج قريبة فهذا له وقعٌ كبير، لكن مما أتذكر والسؤال مفاجئ، وكثيراً ما أحرج إذا فوجئت بالسؤال عن الوالد رحمه الله، لكن أشهد لله عز وجل أنني رأيت ما أقول، وسمعت ما أقول، والله شهيدٌ عما أحدث به، فأشهد لله أنه ما كانت الدنيا تزن عنده شيئاً، ومن أعظم ما وجدت فيه أنه لما انصرف قلبه عن الدنيا، بارك الله له في علمه، والعالم إذا وجدته قد صرف قلبه عن الدنيا فأخذ منها حاجته وانصرف إلى نفع الناس ونفع المسلمين فنعم والله العالم، فكان رحمه الله لا يبالي بقليل المال أو كثيره، ويأتيه الراتب، والله لا يمضي نصف الشهر -وهذا يسأله الله عنه ويحاسبه- بل ثلث الشهر إلا وهو يقترض رحمة الله عليه، هذه المائة لفلان، وهذه لفلان وهذه لفلان فيفرق ماله رحمة الله عليه، وكنت أتولى له الصدقات وهذا شيء رأيته بنفسي حيث أنه لا يبقي من راتبه شيئاً. كانت الدنيا لا تسوى عنده شيئاً، حتى أنه ذات مرة من عجائب ما رأيت فيه: أنه كانت له مزرعة فحفر فيها بئراً بأكثر من مائة ألف، فلما حفر البئر وانتهى منه الحافر، جاء يقول له: إن البئر ليس فيها ماء، وهذه مصيبة عظيمة وليس بالشيء الهين، مائة ألف ولا يجد الإنسان فيها ماء فقال: هذا الرجل -يريد أن يهون على الوالد رحمة الله عليه- يقول: إن شاء الله مستقبلاً الماء سيكثر، وكان يريد أن يمهد، فقال له الوالد: حسبك يا بني -يخاطب هذا الرجل- والله لو ذهبت هذه المزرعة كلها فإني راضٍ عن الله، يعني لا تظن أن الأمر، أو الخطب كبير، إن جاء شيء فالحمد لله، ونريدها من مرضاة الله، وإن لم يأت شيء فما عند الله أعظم مما عندنا. الشيء الثالث أنا أذكر نماذج دنيوية وقعت له، تترجم عما قلته. أولاً: أن الدنيا لا تسوى عنده شيء، كان رحمه الله كثيراً ما يوصيني في المزرعة بأن أتصدق بثمر البستان، وأذكر أنه لا يأخذ من هذه المزرعة إلا قدر ما يحتاج لإصلاح المزرعة، فكنت استعين بعد الله عز وجل برجل، كان من حفظة كتاب الله عز وجل، ومن خيار من عرفتهم من الجماعة ديناً وخلقاً واستقامة، وكان زميلاً للوالد في طلب العلم، فكان يعرف الأيتام والأرامل، فهذا الرجل رحمة الله عليه كان يتولى الصدقات، فلما تولى صدقات الوالد رحمه الله توفي الوالد قبله، فأكثر من مرة يراه في بستانٍ عظيم وثمار وجنات ويقول: هذا كله لي، فكان من عاجل البشرى له رحمه الله بعد الموت، الرجل الذي كان يتصدق بدنيا الوالد، ويقيمها للفقراء والضعفاء إذا به يبشر بعد موته من عاجل البشرى بالرؤية الصالحة، كان يبشر ويقول: رأيته وهو في جنة، وتارةً يقول: أراه في بساتين خضراء، وفيها ثمار عجيبة فأقول: ما هذا؟ فيقول: هذا كله لي رحمه الله رحمةً واسعة. ومما رأيته في العلم أنه كان رحمه الله لا يمكن أن يتكلم في مسألة إلا وهو يعلمها، أما الشيء الذي لا يعلمه لو يأتي الخلق على أن يدفعوه للتكلم فيه، لا يمكن أن يتكلم فيه بحرفٍ واحد، وما أعلمه تكلم فيه، رحمه الله برحمةٍ واسعة، يقول: هذا شيء لا أعلمه فلا يستحي أمام الناس والجمهور في الملأ والخاصة أن يقول لك: لا أدري لا أدري، وهذا لا شك أنه نعمة من الله على العالم أن يكون عفيفاً صادقاً ينبئ عن علمٍ صادق، وهذا هو العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتكلم الإنسان عن علمٍ ومعرفة. أما الأمر الثاني: فكان لا يضيع وقته، ولا يرضى لأحد أن يضيع وقته في القيل والقال، وهذا مشهود له رحمه الله حتى بين الجماعة لو خرجوا في نزهة أو طلعة، فإذا وجدهم في علم ومذاكرة جلس معهم، وإذا لم يجدهم في علمٍ انتحى جانباً وقل أن يخرج لنزهة أو مع الجماعة إلا ومعه الكتاب، فإذا رآهم على ذكر الله عز وجل جلس معهم، وإن رأى غيبةً أو نميمة نصح، فإن لم يُنتصح انسحب وجلس تحت شجرة حتى يطيب خواطرهم فيتربع ثم ينصرف رحمه الله وهو راشد. أما الأمر الثالث: فكان شديداً في علمه، لا يسمح لجاهل أن يستطيل على العلم، كان متواضعاً وقريباً من الناس، لكن أن يأتي الجاهل لكي يستطيل على دين الله وشرع الله فلا، فكان إذا جاء العقلاني يدخل عقله في النصوص السمعية إذا بذلك الوالد الأليف القريب من الناس ينقلب كالأسد ولا يجامل الكبير ولا الصغير، ويقول له: اسكت هذا شيءٌ لا علم لك به، ولا تخض فيما لا علم لك به، ولو كان من أعلم الناس يتكلم في الدين أو الشرع بدون بينة ولا علم يرد عليه في وجهه، ولا يسمح لأحدٍ أن يتكلم بحضرته بعلمٍ لا يحسنه، فإذا جاء أحد يخوض بالعقلانيات في وسائل السمعيات كهره، وهكذا لو جاء الطالب يبحث ويتكلف في العلم ويتنطع في السؤال عن الأمور الغيبية وكيف يحدث هذا وكيف يقع كان رحمه الله يتغير ومن عجائب ما كان يفعله! كان في تفسيره رحمه الله إذا فسر، وقيل له: لِمَ ختمت بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]؟ ولماذا ختمت {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:240]؟ كان يمنع من هذا، ويقول: لا يُسأل عما يفعل، ولا يمكن للناقص أن يدرك الحكمة التي ختم الله عز وجل بها الآية على هذا الوجه، فكان يمنع أن يقال: ما هي الحكمة في ورود هذه الآية على كذا؟ يقول: هذا شيء لا تدركه العقول، لا يمكن أن يصل الإنسان إلى درجة معرفة هذه الأمور، وإنما يقول: من الفوائد المستفادة كذا، نعم من يجزم أنها حكمة، أو أنها هي التي من أجلها ورد النص؟ كذلك أيضاً مما كان رحمه الله يتحلى به في تعليمه للناس، أنه كان يحب طالب العلم الصادق، ويفتخر به، ويعطيه من وقته وجهده، وكان رحمه الله إذا رأى الصدق في الطلب أقبل عليك، وهذا يشجع كثيراً من طلاب العلم الصادقين في الطلب، ولا يحب من طالب العلم الكسل ولا الخمول، ولا يحب منه التعب ولا السآمة ولا الملل، رحمه الله. كان له درس بعد صلاة الفجر في التفسير، ودرس بعد الظهر في صحيح البخاري، ودرس بعد المغرب في السنن الصحاح، وختمها رحمه الله بسنن الترمذي وسنن أبي داود وابن ماجة، وكذلك أيضاً موطأ مالك ختمه، ثم بعد العشاء كان له درسه في الصحيحين وفي السنن، فكان رحمه الله طيلة هذه الأوقات يضحي ويبذل في العلم، لكن أن تأتي وتشتكي له الضعف والخور في طلب العلم فإنك تنزل من عينه، فلا يحب طالب العلم ولا يجله إلا إذا رآه صادقاً قوي العزيمة، فربما طرأت مسألة فآتيه بعد العشاء وهو مجهد -منهك والله يشهد على ما أقول هذه أشياء عايشتها بنفسي- فآتيه بالمسألة فأسأله، وكان منهجه معي في آخر حياته رحمه الله أنه ما كان يفتيني، ويقول لي: اذهب وأت بكتاب كذا ثم اقرأ من صفحة كذا، أو اقرأ من باب كذا، فإذا قرأت يقول: ماذا تفهم كأنه يدربني على الاستفادة من الكتب مباشرة، فكان رحمه الله آتيه بالكتاب والكتابين والثلاثة والأربعة، وهو منهك مجهد وآتيه بالكتاب فيقول لي: هذا ما يكفي اذهب إلى كتاب كذا، وأتِ بشرح كذا، ورد هذا وأتِ بكذا، أنا بنفسي أمل وأتعب وأجد نوعاً من الثقل ومع ذلك الرجل لا يسأم ولا يمل، وأقول له: انتهيت؟ يقول: لا حتى تنتهي، رحمه الله رحمة واسعة. إذا أتقن العالم علمه فإنه يجد لذة العلم وفضله وبركته، نسأل الله العظيم أن يرزقنا من فضله، فضل الله عز وجل لا يتوقف على عصر من العصور كما قال ابن المنير: وفضل الله واسع، فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجَّر واسعاً والليالي حبالى، يلدن كل غريبٍ، وكم ترك الأول للآخر. إذا ذكرنا تراجم العلماء أو تراجم الفضلاء، أو قرأت سير أعلام النبلاء ورأيت هذه النماذج الكريمة، فاعلم أن الكل بفضل الله جل جلاله، وأن الأمر كله يعود على الإخلاص، وأن الله قد يعطيك مثلهم ويزيدك من فضله، متى؟ إذا أخلصت لوجهه وأحسنت الظن معه، قال صلى الله عليه وسلم: (من يصدق الله يصدقه) كان ابن عباس رضي الله عنهما قليلاً في العلم، ولكن لما صدق مع الله في طلب العلم وجدَّ واجتهد فعندما دفن أبو هريرة زيد بن ثابت رضي الله عنه بكى أبو هريرة وقال: [لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس خلفاً] كان في البداية لا شيء، لكن لما جد واجتهد أعطاه الله، فأنت إذا صدقت مع الله، وأخلصت لوجه الله فإن الله يرزقك، نسأل الله العظيم أن يبلغنا ذلك الفضل بفضله وهو أرحم الرحمين، والله تعالى أعلم.

جيل القرآن

جيل القرآن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته؛ لأنه كلام الله العظيم، وقد اختار الله سبحانه وتعالى نبيه لتبليغه لأمة وعته وصدقته وعملت بمقتضاه، حيث كانت قلوبهم كالأرض الطيبة أصابها الغيث، فكانوا يقفون عند كل آية منه، ويعرضون أنفسهم عليه، فحري بنا أن نقتدي بهم، فإن من تمام حقوق القرآن علينا أن نغرس حب القرآن في الأهل والأبناء والزوجات؛ لأنه سيأتي يوم القيامة إما حجة لنا أو حجة علينا.

فضل القرآن على الجيل الأول وتأثرهم به

فضل القرآن على الجيل الأول وتأثرهم به إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سلامٌ على جيران بيت الله الحرام، وسكان أرض الحطيم والحِجر والحَجر والمقام، سلامٌ عليكم إذ أكرمكم الله عز وجل بنعمه، فجاورتم بيته، وكنتم على أرضه، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم حسن الجوار، وحسن المقام. أيها الأحبة في الله: ما أطيب المجالس إذا طيبت بذكر الله، وما أطيب المجالس إذا طابت بطاعة الله، وما الذي يأخذه المؤمن من هذه الدنيا غير كلمةٍ تدله على الله، أو نصيحة تثبته على طاعة الله ومرضاته. أو ما الذي يأخذه العبد من هذه الدنيا غير أمرٍ بينه وبين الله، في طاعةٍ يحبها أو قربةٍ يرضاها، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر مجالسنا ومجالسكم بذكره، والإنابة إليه وشكره، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة في الله: أطيب ما طيبت به المجالس من ذكر الله، وأحسن ما عمرت به الأوقات من طاعة الله: أن يكون الكلام عن كلام الله، هذا الكلام الذي أنزله الله تبارك وتعالى هدايةً ونوراً يقود إلى دار السلام، هذا الكلام الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، الجد لا الهزل، والقول الحق الفصل، كلام رب العالمين، وموعظة إله الأولين والآخرين. كم قادت إلى الله قلوباً، وأنارت في سبيل محبته مناهجاً ودروباً، كم هدى الله عز وجل به الضالين؟ وكم أيقظ به من النائمين؟ وكم دل به إلى رحمته الحائرين؟ كلام رب العالمين، الذي ختمت به الرسالات، وقطعت به الحجج والبينات، كلام الله الذي منه مبتدؤه وإليه منتهاه، كلام الله الذي سمعته الجن فآمنت، وأقرت وصدقت، فقالت: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1 - 2]. هذا الكلام الذي أنزله الله نوراً ودليلاً إلى دار السلام، أوجد به الرحمات، وأعد لأهله علو الدرجات، وكفر به الخطيئات، وجعله موجباً للرحمات. هذا الكلام العظيم والنور الكريم، الذي اصطفى الله له الأخيار، فقلب قلوبهم على أوامره وزواجره آناء الليل وأطراف النهار، كلام الله الذي اصطفى الله له رجالاً، واختار له على مر العصور أجيالاً، كلام الله الذي أحل به الحلال، وحرم به الحرام، فكان به صدق المقام، وحسن الفعال وكريم الخصال، فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهله، وأن يحشرنا في زمرة أهله.

التخلق بالقرآن ومحبته من مزايا السلف

التخلق بالقرآن ومحبته من مزايا السلف أيها الأحبة في الله: إن الله عز وجل اختار لكتابه أمةً وعته، وأحبته وصدقته، فنزل القرآن إلى جذور قلوبها، ففتحت قلوبها للقرآن واطمأنت لموعظة الرحمن، حتى إذا تغلغلت تلك الآيات في الجنان، قادت أهلها إلى المحبة والرضوان. وإذا نزلت الآيات إلى تلك القلوب، نزلت كالغيث إذا أصاب الأرض الطيبة، فكلام الله مع أحباب الله وأوليائه، يطهرهم لطاعته، ويؤهلهم لمرضاته ومحبته، إذا سمعوا القرآن وجلت قلوبهم لسماعه، فبكيت عيونهم من عظاته، وتحركت أشواقهم لجناته. كم سمعوا فيه من الآيات التي تفطر القلوب لطاعة رب الأرض والسماوات، سمعوا تلك الآيات فاستقرت في قلوبهم فترجموها في الحياة، حتى أصبح القرآن دليلاً أمام أعينهم. القرآن الذي أحب الله أهله، واصطفى أولياءه فاختار له رجالاً وأمماً وأجيالاً أحبته من قلوبها وحققته بقوالبها. فهذه الأمة التي عاشت ليلها مع كتاب الله، ونهارها في تحقيق العبودية لله، ما أفضت إلى الله إلا والقرآن شاهدٌ لها لا شاهدٌ عليها، نزل هذا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل، فافترق العباد إلى فريقين وطائفتين ونحلتين: طائفةٍ كذبت ولم تؤمن به، ولم ترض به، فأعرضت عنه وأنكرته وكفرت به، فأذاقها الله الهوان، وألبسها الذل في سائر الأزمان. وطائفة أحبته واقتربت منه وارتضته، هذه الطائفة المنصورة، أعلامها مشهورة، وفي الخير مشهودة. أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، الذين أحبوه بقلوبهم وطبقوه بقوالبهم، وهذه الطائفة المحبوبة، والفرقة الناجية المنصورة، يطيب الحديث عنها وعن أخلاق وصفات أهلها، هذه الصفات التي تترجم القرآن في الحياة، أعلاهم وأشرفهم قدراً هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجيل القرآن أول شواهده وأعظم دلائله: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نزل القرآن يوم نزل، ففتحوا قلوبهم لآياته، وفتحوا قوالبهم لعظاته، فقادهم القرآن إلى الله، فحققوه وطبقوه، حتى أخذوا أرواحهم في أكفهم، يجاهدون في سبيل الله، ويقاتلون أعداء الله، ويوالون أولياء الله بكلام الله. أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين اصطفاهم الله واجتباهم لرؤية منازل القرآن وحوادثه ومعاركه، فكان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم والكل يراه، والكل يعلمه ويشاهده، فحققوا القرآن بالعمل، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وكل واحدٍ من أصحابه قرآنٌ يمشي على وجه الأرض، فكانت هذه الأمة مع كتاب الله، التي سهرت ليلها وأظمأت نهارها، رهبان الليل وفرسان النهار، بقال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا أحب الله العبد رزقه أن يسير على نهجهم، فما مات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وخلفوا أشباههم من التابعين، ومن الأئمة المهديين المحبين لكلام رب العالمين، توفي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تحكم القرآن في قلوبهم، وترجم في قوالبهم، فغرسوا هذا القرآن في أتباعهم، والسائرين على نهجهم بإحسان. غرس الصحابة رضوان الله عليهم كلام الله في قلوب التابعين، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، حتى أحبت القلوب القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تبارك وتعالى جمع للصحابة في القرآن خصلتين، قل أن تجتمع لإنسان في الدنيا: خصلة العلم بالقرآن والعمل به وتطبيقه أمام العيان. كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن بقلوبهم، سهروا معه، فكان الواحد منهم تبكيه الآية وتفرحه الآية، يعيش الوعد والوعيد والشوق والتهديد، فكانوا مع القرآن على الحقيقة، عاشوا مع هذا القرآن، إذا تليت عليهم آيات الجنان طارت قلوبهم شوقاً إلى الروح والريحان، إذا تلا الواحد منهم آيات الجنان كأنه يقطف من ثمارها، ويتكئ على أرائكها، وينظر إلى أشجارها وثمارها وأنهارها، فما أعظمها من أمة، وإذا تلا الواحد منهم الآية التي فيها ذكر النيران، وغضب الواحد الديان، صعق كأن زفير النيران بين أذنيه. أمة أحبت كتاب الله صدق المحبة، فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم به، ويعظهم به، علموا أنه القول الفصل، وأنه الجد لا الهزل الذي يحتاج لمن يحمل همومه وغمومه، ويبادله مشاعره وأشجانه وأحزانه، فإذا أردت أن تنظر إلى جيل القرآن في أبهى صوره، وأجمل حُلله، فانظر إلى تلك الأمة المصطفاة، واقرأ عن سيرة أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم. إذا قرأت في سيرتهم لا تدري أتعجب من علمهم بالقرآن! ومعرفتهم لكلام الرحمن! إذا قرأت سيرتهم لا تدري أتعجب من عملهم بكلام الله، أم بمعرفتهم بأحكام الله وشرائع الله، أم بوقوفهم عند حدود الله وزواجر الله، تعطرك السيرة، وتنفحك السريرة، فتجد الصدق الذي لا كذب فيه، والحب الذي لا شائبة فيه.

صفة أهل القرآن

صفة أهل القرآن أيها الأحبة في الله: أصدق كلمة خرجت من الأفواه كلمةٌ تذكِّر بكلام الله، وأحب الكلام إلى الله القرآن، به ختم الله الرسالات، وقطع به الحجج والبينات، فأقامه شاهداً على وحدانيته، ودليلاً على عظمته وألوهيته، ولقد تكفل الله عز وجل للقرآن بالعز، وجعل أهل القرآن في العزة والمكانة والجلالة والكرامة، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، ما عاش أحدٌ مع كتاب الله عز وجل إلا قاده إلى الله، وعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى. أهل القرآن تمكن حب القرآن من أفئدتهم، وعاشوا مع تلك الآيات ساعات ليلهم ونهارهم، إذا جاء الليل بثوبه فأرخى عليهم سدوله، وجاء الرجل منهم بعد أن أعياه التعب والنصب لكي يضع كف الراحة، ويبدي للنفس ما هي به من استراحة، جاءته آيةٌ من كتاب الله، أو عظةٌ من كلام الله، فأقضت مضجعه ونغصت نومه، وقادته للوقوف بين يدي ربه، فهان عليه النوم والكرى، وقام يناجي ربه جل وعلا، تحركه آيات القرآن لكي يقف بها بين يدي الواحد الديان، حتى إذا تلا فاتحته، واستفتح علومه وأخباره، إذا بتلك الآية تذكره بما عند الله عز وجل من النعيم، أو ما عنده من العذاب والجحيم، فقرعت مسامعه مقارع التنزيل، فقادت قلبه وقالبه إلى العظيم الجليل. يستفتح الآية من الجنان، حتى إذا استقرت منه في الجنان فتذكر ما فيها من الروح والريحان، وما فيها من الكرامة من ربه الديان، أحس بأن الشوق يقوده إلى الله، ونادى بلسان حاله ومقاله: رباه رباه، إذا ذكر بالجنان وما عند الله من الروح والريحان بكى، واشتجى إلى ربه واشتكى؛ لأنه يخاف أن تحول ذنوبه بينه وبين تلك الفرقة الصالحة، فكم نزل بالجنان من الأخيار، وكم تقلد ما فيها من الحور وحسن القرار؛ من أممٍ خلت، في أزمنةٍ مضت، أطاعت ربها وسارت على نهج خالقها. فإذا قرأ المؤمن آية الجنان يخاف أن تنقطع ما بينها وبينهم من العرى، يخاف أن ينقطع المسير به، فيحال بينه وبين الجنان بسبب الذنوب التي أصابها، والعيوب التي اقترفها، يخاف من ذنبٍ يحول بينه وبين الله، أو إساءةٍ تبعده عن جوار الله، وإذا ذكر الآية التي فيها ذكر النيران والجحيم وسخط الديان، خاف من الله عز وجل أن يكون ذلك مآله، وأن ينتهي به إلى ذلك المنتهى فيكون قراره، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل الذي يعيش مع القرآن عظاته، ويحيا بآياته.

نماذج من السلف في حالهم مع القرآن

نماذج من السلف في حالهم مع القرآن كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، فلما رأوا آثار القرآن في حياتهم ووجدوا لذته في دنياهم، غرسوه في قلوب الناس، فكان إمامهم عبد الله بن عباس إذا وقف يتلو كتاب الله، تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه، وظهرت دلائل الحق من حسن بيانه، ووقف في عرفة يوم أن ولاه علي رضي الله عنه الحج عامه، فتلا آيات البقرة ففسرها آيةً آية، يقول القائل: [لو رأته الفرس والديلم لأسلمت لله من جماله وبيانه]. هذا الصحابي الجليل، لما رأى عظمة التنزيل ومآله عند الله العظيم الجليل، أحب كتاب الله، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلق بكلام الله، وقال في نفسه: إن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتاب ربي موجود، وإن ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلام الله غير مفقود، فعاش مع هذا القرآن فالتزم باب زيد بن ثابت وكان نعم الصحابي القانت الثابت، فكان رضي الله عنه وأرضاه يسأله عن القرآن آيةً آية، ويوقفه أمامه حرفاً حرفاً، فرضي الله عنه وأرضاه، حتى كان يبكر من الفجر إلى بيت ذلك العالم الجليل من الصحابة. وهنا وقفة لأهل الخير والرضا، وشباب الصحوة وطاعة الله جل وعلا، أن تُشحذ الهمم إلى العلم بالقرآن، فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه مع صغر سنه لم ير أن بينه وبين القرآن حاجزاً، فأقبل على زيد وتعلم منه ذلك العلم النافع، وكان يبكر قبل صلاة الفجر على باب زيد، يحب أن يراه الله وهو يضرب الخطا لكي يتعلم كلام الله، كان يغدو من الفجر، فينام على عتبة زيد بن ثابت، حتى إذا خرج إلى صلاة الفجر أيقظه، وكان رضي الله عنه وأرضاه يخرج في شديد الظهر والهاجرة، لكي يسأل الصحابي عن آيةٍ من كتاب الله، يقول رضي الله عنه: [إن كنت لأجلس على باب الرجل أسأله عن آيةٍ من كتاب الله وهو نائم، وإن كنت لآتي الرجل في بيته وهو نائم في شدة الهاجرة، فأجلس على بيته والريح تسفني -يعني السموم والريح- لو أمرتهم أن يوقظوه لأيقظوه، أنتظر خروجه فأسأله] فكان كتاب الله في قلبه عظيماً، وكان يعظم من كان يعرف كلام الله. وهنا وقفة لكل من يريد أن يكون من جيل القرآن، أن يغرس في قلبه حب كلام الرحمن، وأن يكون مع هذا الكلام في جميع ساعاته وحركاته وسكناته. فلما توفي زيد بن ثابت إمامه وشيخه، وقف أمام ذلك العالم الجليل، الذي فقه التنزيل فدمعت عيناه، وبكي رضي الله عنه وأرضاه، فقال: [ألا من سره أن ينظر كيف يقبض الله العلم، فلينظر! هكذا يقبض الله العلم] (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت العلماء) فبكى رضي الله عنه، وأبكى الناس لفراق شيخه في كتاب الله، فلما بلغ مبلغه من العلم تصدر رضي الله عنه وأرضاه، فشعت أنوار التنزيل من كلامه، وظهرت حجج القرآن من بيانه، فكان رضي الله عنه علماً من أعلام المسلمين، وإماماً من أئمة الدين، غرس في نفوس طلابه من التابعين فقه الكتاب المبين، فكان مجاهد بن جبر ومكحول وطاووس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رحمة الله على الجميع، تلاميذه يذكرون به، فتصدر رضي الله عنه لتربية الأجيال على كلام الله عز وجل، وما خرج من هذه الدار إلا وقد غرس كلام الله عز وجل في نفوس أصحابه. وهكذا تكون أجيال القرآن يغارون على تعلمه، ويحرصون على تعلمه، ويحرصون على تفهمه وتطبيقه وتعليمه، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم منه أوفر حظِ ونصيب.

خصال أعظم الناس نصيبا في القرآن

خصال أعظم الناس نصيباً في القرآن أيها الأحبة في الله: أعظم الناس مصيداً في القرآن من جمع بين ثلاث خصال:

الوقوف عند كل آية وعرض النفس عليها

الوقوف عند كل آية وعرض النفس عليها الخصلة الثانية: إذا أكثرت من تلاوة القرآن فإياك ثم إياك أن تجاوز آيةً واحدة إلا وقد سألت نفسك ما موقفك من هذه الآية؟ أمرتك فهل ائتمرت، ونهتك فهل كففت وانزجرت، ما موقفك من هذه الآية الكريمة؟ هل هذه الآية حجة لك، أو حجة عليك؟ إذا تلوت آي آيةٍ من كتاب الله فقف معها، وسل نفسك، هل هذه الآية لك أو عليك، فإن كانت الآية لك، فاحمد الله على التوفيق، واسأله الثبات عليها إلى لقائه، فوالله الذي لا إله إلا هو ما من آيةٍ تقرأها ولا آيةٍ تسمعها، إلا وقفت بين يدي الله تقول: يارب عمل بي أو ردني؟ ما من آية تسمعها في حديث أو محاضرة أو صلاة، أو تكتبها أو تقرأها أو تنظر إليها، إلا كانت حجةً لك أو عليك، قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: إن الناس يصلون في قيام رمضان، فمن قام رمضان كاملاً حتى ختم القرآن وهو يسمعه، فقد تمت حجة الله عليه. كملت حجة الله عليه إذ بلغته جميع الآيات وانتهت إليه جميع العظات، فإما أن تنتهي به إلى الجنة، أو تنتهي به إلى النار، فإن الإنسان إذا تليت عليه آيات الله ما تليت عبثاً، إذا وقفت في أي موقف في الصلاة أو في محاضرة أو في ندوة أو في مجلس، وقرأت في كتاب أو في صحيفة على ورقة، ومرت بك آيةٌ من كتاب الله، فاعلم أن هذه الآية بمجرد أن تقرأها أنها قد بلغتك، فإما لك أو عليك. تقف أمام القرآن وقفة الخائف الوجل، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، يقفون مع القرآن حرفاً حرفاً، وكانوا إذا علَّموا طلاب العلم كتاب الله، علموهم كتاب الله آيةً آيةً. يقول مجاهد: [عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة -وقال في راوية ثانية-: عرضته ثلاث مراتٍ أسأله عن القرآن آيةً آيةً] وهذا من أبلغ ما يكون، فإنك إذا تلوت من القرآن قليلاً مع التدبر والتفهم، عرفت مكانك من القرآن، ولو لم يكن للإنسان مع القرآن إلا أن يعرف قدره، فإن ذلك من أعظم التوفيق.

كثرة تلاوة القرآن والحرص على سماعه

كثرة تلاوة القرآن والحرص على سماعه الخصلة الأولى: كثرة تلاوة القرآن والحرص على سماعه، والله عز وجل أثنى على تلك الطائفتين، فقال في كتابه المبين: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] والله لا يحرص على تلاوة القرآن واستماعه إلا من أحبه الله عز وجل، وذلك بداية التوفيق لكي يكون الإنسان من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، الحرص على سماع القرآن وقراءته، ومن الناس من لا يرتاح إلا بسماع القرآن، وأذكر بعض العلماء الفضلاء: كان إذا جلس على طعامه جلس والقرآن يتلى عليه، ومن الناس من لا تهنأ نفسه ولا يرتاح قلبه إلا بتلاوة القرآن، يتلوه قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً كأنه نائم. هذا من أعظم التوفيق أن تكثر تلاوة القرآن، ولا يوفق لكثرة تلاوة القرآن إلا من أحبه الله، وفي تلاوة القرآن رفعة الدرجات، ومضاعفة الحسنات، وحت الذنوب والخطيئات، فمن أكثر تلاوة القرآن جاء القرآن له شفيعاً، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سورةٍ من سوره، أحبها رجلٌ من العباد، وأكثر من تلاوتها، فأحل حلالها وحرم حرامها، وشاء الله عز وجل أن يختاره إلى جواره، فمات وانتقل إلى ربه فجاءت هذه السورة، وهو في ظلمات القبر وفي لحده ومضجعه، فجادلت عنه حتى أنجته من عذاب القبر وفتنة القبر، فما أجل القرآن إذا وفق العبد لتلاوته، وتفهم آياته، وتدبر عظاته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) كثرة تلاوة القرآن من أجل النعم التي يوفق لها الإنسان بعد نعمة الإيمان.

مراتب القارئين للقرآن

مراتب القارئين للقرآن فإن الناس مع القرآن على ثلاث مراتب: منهم سابقٌ بالخيرات، ومنهم مقتصد، ومنهم ظالم لنفسه، ثلاث مراتب إذا سمعت كتاب الله، أو قرأت كتاب الله، فإما أن تكون من السابقين، وإما أن تكون من الظالمين، وإما أن تكون من المقتصدين، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من السابقين. أن تقف مع كل آية، فإن وجدتها لك حمدت الله، وإن وجدتها عليك ففكر علّ الله عز وجل أن يعينك للعمل بها، وتطبيقها وتحقيقها، فإن كانت ذنوباً بينك وبين الله، فاستح من الله وقد بلغتك حجة الله، فاستدم لها الاستغفار، والتزم لها التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وإن كانت حقاً واجباً فأد هذا الحق لمن أمرك الله بأدائه إليه. فإن الإنسان إذا هيأ نفسه للعمل بالقرآن وفقه الله عز وجل، وكان الصحابة رضوان الله عليهم، إذا نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا تلك الآية عملوا بها، رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، فكانوا يتبعون السماع بالعمل، وإذا أردت أن تعرف حب الله لك، وحبك للقرآن فانظر إلى تأثرك بعد سماعك كلام الله عز وجل. إن خرجت من المسجد أو من الموعظة، أو بعد النصيحة، وأنت تشتاق لعمل ما يأمرك الله به، وترك ما حرم الله عز وجل عليك فاعلم أن الله يحبك، وأنه يهيئك لكي تكون من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وما أنصف عبد نفسه من القرآن، إلا تكفل الله له بحسن الختام. قال بعض العلماء: سمعت بعض أهل العلم يقول: ما حفظ عبدٌ كتاب الله وعمل به، إلا ضمن الله له حسن الخاتمة، وأذكر أحد العلماء الذين توفوا قريباً من أهل القرآن، الذي أمضوا ليلهم ونهارهم في حب القرآن، وتعليم القرآن وتدريسه، جاءه رجل من بلدٍ بعيد فقال له: إني أريد أن أقرأ عليك القرآن، قال: إن عندي طلاباً كثيرين، قال: يا شيخ أقبلت عليك من بلد كذا وكذا فأعطني من وقتك، فأعطاه وقتاً عزيزاً عليه في ليله، فشاء الله عز وجل أن يستفتح ذلك الطالب كتاب الله عز وجل، وما زال يقرأه حتى بلغ قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] قال: فخشع الشيخ وسقط مغمىً عليه، فكانت خاتمته عند هذه الآية الكريمة. فنسأل الله حسن الختام. والقصص في هذا كثيرة، فإن أهل القرآن الذين يحبون كلام الله عز وجل، ليس كثيراً عليهم هذا، وهذا الشيخ الفاضل الذي توفي عند هذه الآية الكريمة، كان يقرأ عليه أحد الأقارب يقول: فرأيته بعد وفاته في المنام فقلت: يا شيخ ما فعل الله بك؟ قال: فغضب عليّ واحمر وجهه، قال: ما تظن الله يفعل بأهل القرآن! هل تظن الله سيعذبني وأنا من أهل القرآن، يفتخر ويعتز بنعمة الله تبارك وتعالى عليه. فنسأل الله عز وجل أن يسكن قلوبنا وقلوبكم حب القرآن، وأن يجعل حياتنا وحياتكم مع القرآن. إذا قرأت القرآن واستمتعت إلى آيات القرآن وسألت نفسك عن هذه الآيات. فالقرآن على ضربين: القسم الأول: ضرب منه الأوامر والنواهي، تفعل ما أمرك الله، وتترك ما حرم الله عليك. وأما القسم الثاني: فهو العظة والعبرة التي جعلها الله عز وجل في قصص الماضين، ومآل العباد إلى الله رب العالمين، فما كان من العظات وقفت أمامه، فإن استطعت البكاء فذلك من السناء والبهاء، وإن لم تستطعه فتباك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى البكاء عند تلاوة القرآن وعند سماع كلام الرحمن، فالعظات ينبغي للإنسان أن يعيش معها وأن يحس أنها تخاطبه، وأنه هو المعني بها. ولذلك قال بعض العلماء: إذا قرأت آيةً فيها ذكر الجنة فعد نفسك كأنك من أهلها، حتى تشتاق إلى بلوغها، وإذا ذكرت آيةً فيها ذكر النار، فعد نفسك كأنك من أهلها، وكان الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان، إذا قرءوا القرآن، أهانوا أنفسهم عند تلاوة القرآن، قال بعض السلف: والله ما عرضت نفسي على كلام الله إلا اتهمتها بالنفاق. وقال الثاني: ما عرضت نفسي -قولي وعملي- على كتاب الله إلا وعددتها من الراسخين في النفاق. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [ما زال ينزل في سورة براءة ومنهم ومنهم حتى خشينا على أنفسنا أن نذكر] فينبغي للإنسان إذا تلا كتاب الله أن يعيش مع كلام الله عز وجل، حتى تكمل موعظته، وتكمل عظته، ونسأل الله العظيم أن يبلغنا وإياكم ذلك المبلغ.

حقوق القرآن على من تعلمه

حقوق القرآن على من تعلمه أيها الأحبة في الله: إن من تمام حقوق القرآن أن يغرس الإنسان حب القرآن في أبنائه وأهله وزوجه، فمن توفيق الله عز وجل لأهل القرآن أنهم كالشجرة خيرها لا يقتصر عليها، جناها للناس وظلها للناس، كذلك حافظ القرآن وتاليه، يبلغ حجة الله إلى العباد، ويهدي كلام الله عز وجل داعيةً إلى سبيله، سبيل الحق والسداد. فإذا أردت أن يتمم الله عز وجل عليك نعمته، وأن يكمل عليك منته، فإذا تأثرت بكلام الله، فذكِّر به الأقربين، وذكر به الناس أجمعين، فمن تمام النعمة في القرآن أن تهدى ثماره، وأن يذكر بآياته من بعد عنه من الأقربين والأبعدين، فكن أخي في الله حامل رسالة الله إلى عباد الله، شرفٌ لك أن تقف أمام عبدٍ تذكره بآيةٍ من كتاب الله عز وجل، وفخرٌ لك أن تعتز بكلام الله فتبلغه إلى عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وأخبر صلوات الله وسلامه عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ... )، فإذا أتاك الله القرآن ووجدت للقرآن أثراً فابذله إلى غيرك. قال بعض الفضلاء من الدعاة: إن العبد إذا وفقه الله للآية فتأثر بها، وأراد أن يذكر بها غيره فوفقه الله لتذكيره بها فإن الله سيوفقه لغيرها. لأن من شكر نعمة الله عز وجل عليه بعلم القرآن وعمله بارك الله له في ذلك العلم. والناس في علم القرآن على قسمين: القسم الأول: بارك الله له في علمه. والقسم الثاني: محقه بركة علمه. ولذلك تجد الرجل يدخل المسجد فيسمع من بجواره يخطئ في القرآن لا يرد عليه خطأ واحداً، وهو يعلم أنه مخطئ في كتاب الله، ورجل ثانٍ يجلس بجوار الرجلين، يخطئ هذا فيرده ويخطئ هذا فيرده، كم له من الأجور والحسنات، وهو يقوم في كتاب الله، فينبغي للراغب الموفق في رحمة الله ومرضاته أن يحرص على تبليغ القرآن للغير، ودلالة الناس إلى كلام رب الناس. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بالقرآن، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، اللهم إنا نسألك أن ترفع بالقرآن ذكرنا، وأن تهدي به ضالنا، وأن تجمع به شملنا، وأن تثبت به قلوبنا، وأن تشرح به صدورنا. اللهم إنا نسألك حب القرآن والعمل به، والدعوة إليه، والثبات على ذلك إلى لقائك، حتى يكون حجةً لنا لا حجةً علينا، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لمن تكاسل عن صلاة الفجر وهو من حفظة القرآن

نصيحة لمن تكاسل عن صلاة الفجر وهو من حفظة القرآن Q بعض حفظة القرآن تجدهم يتكاسلون عن صلاة الفجر، فتجدهم في بعض الأحيان يأتون الصلاة متأخرين، وفي بعض الأحيان ينامون ولا يأتون إلى الصلاة فما هو توجيهكم لهؤلاء؟ A طلاب العلم هم القدوة للناس، فينبغي أن يكون حالهم على الكمال، ومن حفظ كتاب الله عز وجل فقد حمل النبوة بين جثتي صدره، وينبغي عليه أن يكون على الكمال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلا يقصر لا في صلاة الفجر ولا في غيرها، فينبغي عليه أن يتعاطى الأسباب التي تعينه على التبكير إلى المساجد إذا أمكنه ذلك، إلا إذا كان مشغولاً بأمرٍ عظيم، أو بمصلحةٍ هي أعظم من تعليم الناس وتوجيههم ونحو ذلك، فهذا أمرٌ آخر، ولكن ينبغي عليه أن يتعاطى أسباب الكمال، وأن يحرص على ذلك الكمال، والله تعالى أعلم.

نصيحة في حث النساء على تلاوة القرآن

نصيحة في حث النساء على تلاوة القرآن Q الرجاء حث النساء على تلاوة القرآن، خاصةً في أوقات فراغهن في البيوت، فهن يشغلن أوقاتهن بالنوم أو غير ذلك من الأمور، فنرجو توجيه النصيحة لهن والله يحفظكم؟ A أما الكلام الذي ذكرناه في الرجال، فالرجال والنساء فيه سواء، وكما أن في الرجال الطيبين كذلك في النساء الطيبات، وكما أن في الرجال الصالحين، كذلك في النساء الصالحات، والله تبارك وتعالى أثنى على الصالحات وذكر أنهن مسابقات إلى الخيرات، وفي خاتمة سورة آل عمران ما يدل على أن النساء منهن من الذاكرات. فأوصي أختي المسلمة أن تكثر من تلاوة كتاب الله، وكل الذي قلناه من قبل وصيةً لها، ووصيةٌ للذكر والأنثى كثرة تلاوة القرآن، لكن المرأة إذا أكثرت تلاوة القرآن ظهر الأثر في بيتها، وظهر الأثر في أولادها وبناتها، فإذا نظرت إليك البنت وأنتِ تحافظين على تلاوة كتاب الله، تعلق قلبها بكلام الله عز وجل، وكم من امرأة صالحة ورثت بنتها أو ابنها حب الصلاح بصلاحها، فالمرأة الصالحة فيها خيرٌ كثير، ولذلك ينبغي للمرأة أن تكثر من تلاوة كتاب الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم حفز النساء والرجال فقال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من أصحابه، والله تعالى أعلم.

ضرر الرياء عند حفظ كتاب الله

ضرر الرياء عند حفظ كتاب الله Q لقد أتممت حفظ كتاب الله ولكني قبل أن أختم القرآن كنتُ أتفاخر بأني حافظٌ لكتاب الله، وكنتُ أحب أن يقال: فلانٌ حافظ، وكنتُ على غير علم، والآن ولله الحمد عرفت أن هذا لا يجوز وهو من الرياء، فهل ينطبق عليّ الحديث: (أول من تسعر بهم النار ثلاثة)؟ A عفا الله عما سلف وعليك بما بقي من عمرك أن تصلح ما بينك وبين الله في نيتك، فما كان وما مضى فلا تعلق قلبك به، وإذا ذكرت أقوالك الأولى، فاستغفر الله عز وجل منها وتب إلى الله، فإن الذي ذكرته عظيماً، فإن الإنسان إذا ورثه الله حفظ كتابه فقال مفتخراً: أنا حافظ للقرآن، فقد أحبط على نفسه العمل. فإن الغرور يحبط العمل والعياذ بالله، ويمحق بركة العمل، ولذلك إذا وجدت الإنسان على خصلةٍ من خصال الصلاح، ووجدته قد قرنها بالغرور محق الله بركة ذلك الصلاح، فينبغي للإنسان أن يخاف من الغرور، وأن يخشى الله عز وجل فيما يقوله من الثناء والتزكية لنفسه، ولكن يقول: أرجو أن أكون حافظاً وأرجو أن يوفقني الله عز وجل لحفظ القرآن والعمل بالقرآن، أي يصرف نظره عن كونه حافظاً فيقول: أسأل الله أن يوفقني للعمل بالقرآن، المهم أن تسأل عن العمل بالقرآن، لا عن حفظ القرآن والله تعالى أعلم.

كيفية التخلص من الوسواس

كيفية التخلص من الوسواس Q أنا إنسانٌ مبتلى بالوسواس في كل شيء، وخاصةً في الصلاة والوضوء، فكيف أتخلص من هذا الوسواس؟ A استعن بالله عز وجل فإنه نعم المولى ونعم النصير، سل الله عز جل أن يشرح صدرك، وأن يثبت قلبك وأن يدفع الوساوس عن جنانك، واسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذك من الشيطان الرجيم، فإن الله تبارك وتعالى لما ذكر الوساوس قرنها بقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]. فمن استعاذ بالله أعاذه الله، فأكثر من الاستعاذة واتفل عن يسارك ثلاثاً إذا وجدت الوسوسة في صلاتك، أو وجدتها في وضوئك فالله يعينك. أما الأمر الثاني: إذا غسلت كفك وجاءك الشيطان فقال: لم تغسل؟ فقل: قد سألت وكفيت المسألة، فالمرة كافية، فلا تصب مرةً ثانية ولو قال لك: إن صلاتك باطلة، ولذلك خير ما يعالج به الموسوس ألا يفتي نفسه، فباب الوسوسة يأتي والعياذ بالله من فتوى الإنسان لنفسه، إذا غسلت الأعضاء أو قمت فصليت الركعة أو الركعتين أو الثلاث وجاءك الشيطان فقال لك: لم تغسل يدك، ولم تغسل رجلك! غسلت يدك! وأنت تعلم أنك قد صببت الماء عليها، قال لك: امسح حتى يصل الماء إلى البشرة، فقل له: إن الله لم يكلفني بذلك، ولن أفعل شيئاً إلا بفتوى ومثلك لا يفتي، فكن مع الله عز وجل بضبط نفسك بفتوى أهل العلم، فأوصيك ألا تسمع لأي وسواس يأتيك، إذا قال لك: لم تغسل يدك ورأيت الماء عليها فلا تلتفت، ولو قال لك: إن هذا سيبطل صلاتك ويبطل وضوءك؛ لأن الشيطان خبيث يأتي الإنسان من باب الطاعة كما يأتيه من باب المعصية، فتقوى الوسوسة حينما يعظم له الأثر، فيقول له: أنت توضأت ولكن وضوءك غير صحيح، إذاً: صلاتك باطلة، وإذا بطلت صلاتك فأنت غير مصلٍ، وإذا كنت غير مصلٍ فأنت كافر، وقس على ذلك؛ حتى ينتهي به الأمر إلى أقصى ما يكون من الشدة والحرج، فإذا بلغت هذا فاعلم أنه على غير شرعة ولا دين؛ لأنه يخالف منهج رب العالمين فالدين يسر وهذا عسر، والدين رحمةٌ وهذا عذاب، فإذا وجدت من نفسك هذا فأعرض عن هذا كله، واستعن بدعاء الله عز وجل عليه، والله تعالى أعلم.

وصية لمن حفظ القرآن وترك مراجعته

وصية لمن حفظ القرآن وترك مراجعته Q أنا شابٌ قد منّ الله عليّ بحفظ القرآن الكريم إلا القليل منه، ولكنني مقصرٌ جداً في مراجعته وأنا خائفٌ أن أموت وأنا على هذا الحالة، فأرجو منك توجيهي الوجهة الصحيحة؟ A إذا حفظ الإنسان كلام الله، واستقر في قلبه كلام الله، فينبغي أن يستحي من الله عز وجل أن يؤاخذه بكلامه، ولذلك أكمل الناس عملاً بالقرآن حفاظ كتاب الله، وإذا حفظت كتاب الله فاعلم أن كتاب الله يسألك حقاً عظيماً، لقد كان بعض الأخيار لا يأكل في السوق ولا يقف في المطاعم، وكان يبتعد عن كل شيٍ فيه منقصة يقول: أخشى أن يؤاخذني الله بالقرآن الذي في صدري، فالقرآن عظيم، وصاحب القرآن في الجلال والتكريم، فإذا حفظت القرآن حفظك، وإذا أكرمت القرآن أكرمك، وإذا رفعت القرآن رفعك، ولذلك لا ينبغي للإنسان الذي أورثه الله عز وجل كتابه أن يقصر في تلاوته، فإن من دلائل الإيمان كثرة تلاوة القرآن، قال الله في كتابه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121]. فأخبر أن من حرم تلاوة القرآن، وحصل له الكفر بكلام الرحمن أنه من أهل الخسارة، فنسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من ذلك. أوصيك أخي في الله، وقد أكرمك الله بكلامه أن تجعل للقرآن حظاً من الليل، فتراجع كلام الله عز وجل في قيام الليل، اجعل لك ولو جزءاً واحداً من كتاب الله عز وجل. اتصلت عليّ امرأة البارحة عمرها أكثر من ستين سنة، من حفاظ كتاب الله عز وجل، من القرابة، تشتكي أنها في قيام الليل لم تعد تطيق الوقوف، وتترخص في تلاوته وهي جالسة، فقلتُ: سبحان الله، أين الشباب الأصحاء الأقوياء الذين هم في عافيةٍ من الله، امرأة في آخر العمر عند المشيب والكبر تتمنى أن الله عز وجل يكرمها بذلك، ومع هذا لما سألتها إذا بها في الركعة الواحدة تقرأ حزباً كاملاً من القرآن!! فأي فضل وأي غنيمة، والله إن الإنسان في بعض الأحيان إذا فكر في حال الصالحين وما كانوا عليه من الخيرات، وجاءك ذكر الموت يحصل في القلب من الشجى والحزن ما الله به عليم؛ لا لشيء، فقط والله نخشى أن تنتهي آجالنا وأن تنقضي أعمارنا وما عبدنا الله حق عبادته، نخشى أن نخرج من الدنيا ولسنا من أهل قيام الليل. ونخشى أن نخرج من الدنيا ولسنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، ولكن نسأل الله عز وجل بعزته وعظمته ألا يخرجنا من الدنيا إلا وقد جعلنا من أهل القرآن، الذين هم أهله وخاصته، فأي غبن حينما يأتي الإنسان في عرصات يوم القيامة، فيجد الصالحين قد سبقوه بمراتب ومفائز، فنسأل الله أن يقرب بيننا وبينهم، وأن يرزقنا التأسي بهم. أوصيك بمراجعة القرآن وبتلاوته في قيام الليل، فإن من أفضل ما يكون في مراجعة القرآن قراءته في قيام الليل أكثر من تلاوته، ابتدأ أول يوم ولو لم تكن حافظاً، اجعل لقيام الليل من القرآن جزءاً، حاول بعد صلاة العشاء ألا تتصل بأحد، واجعل ليلك لله، ويكفيك النهار للناس، فكف أحاديث الناس ومجالسهم، فاجعل هذه الساعة بينك وبين الله، فإن قدرت أن تقوم آخر الليل فذلك أجل وأكمل، وإن لم تقدر فاحرص أن تقوم منتصف الليل، فإن لم تستطع فبمجرد أن تصلي العشاء أقفل باب غرفتك وخذ كتاب ربك، وصل واقرأ، أنا أقول: طالب العلم أقل ما ينبغي أن يقرأ في الليلة على الأقل ثلاثة أجزاء. الإمام الشافعي رحمه الله كان يختم القرآن كل ثلاث ليالٍ مرة، يعني يقرأ عشرة أجزاء في الليلة الواحدة، فنحن نقول طالب العلم عليه ثلاثة أجزاء، الثلث والثلث كثير، أقل شيء ثلاثة أجزاء، والله ثلاثة أجزاء في اليوم الأول تراهم مثل الجبل، واليوم الثاني نصف الجبل، واليوم الثالث ولا جبل، واليوم الرابع مثل الغذاء الذي لا تستطيع أن تصبر عليه. ولو كانت على الإنسان أحمال الدنيا وهمومها وهو من أهل قيام الليل وجد أثر قيام الليل في حياته، وجرب وستجد ذلك، لا تقل هذه نصف ساعة، أحياناً نصف ساعة تختم فيها جزءاً، وفي هذا الجزء ملايين الحسنات، والله تتأثر بها في قولك، وتتأثر بها في سمعك، وتتأثر بها في سلوكك، ويورثك الله بها الحب عند عباده على قدر ما تلوت من كتابه، جرب وستجد ذلك، كتاب الله بيننا وبينه فجوات، محبة الخلق على قدر ما بينك وبين كتاب الله عز وجل من المحبة، فاجعل نصف ساعة تختم بها جزءاً كاملاً، إذا قرأته بارتياح، فإذا تلوت ثلاثة أجزاء من كتاب الله جنيت ملايين الحسنات، مع ما فيها من العظات، وقد يعز عند الله لحظة حينما تقوم بين يدي الله وأنت تستطيع أن تنام، تأتي بعد العشاء في عز شبابك وقدرتك، فتقف بين يدي الله بالقرآن ولو تنظر إليه، فتقرأ الجزء ربما أن الله عز وجل يعظم منك هذا الموقف فيورثك خصلة من خصال الصالحين، ولربما أن يشرح صدرك للطاعة فلا ينقبض أبداً، فالله كريم. وما نال الصالحون درجات الصلاح بعد فضل الله إلا بالعمل الصالح، فأرِ الله عز وجل من نفسك، أرِ الله من نفسك خيراً، والله إذا رآك تقترب منه قليلاً زادك منه قرباً: (من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً). فنسأل الله العظيم أن يحي قلوبنا وقلوبكم بتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

الجمع بين تأثر الصحابة وتأثر التابعين بالقرآن

الجمع بين تأثر الصحابة وتأثر التابعين بالقرآن Q عندما ينظر الإنسان في سيرة الصحابة ومن بعدهم، يجد أن تأثرهم بالقرآن يختلف، ففي التابعين ومن بعدهم يصعق الواحد منهم ويغمى عليه وغير ذلك من أنواع التأثر، أما في الصحابة فلا يتأثرون مثل هذا النوع من التأثر بل أقل، فكيف نفسر هذا؟ A باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. هذا السؤال لا شك أنه من أفضل الأسئلة وأدقها، وهو يعتبر إشكالاً عند العلماء رحمهم الله، ووجه هذا أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمعون القرآن ويذكرون به، ولم يقع لهم ما وقع للتابعين من بعدهم، فنسمع في قصص التابعين أن الرجل كان إذا سمع الآية صعق ومات، كما في الترمذي أن رجلاً تلا قول الله عز وجل: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] فسقط مغشياً عليه ميتاً. فهذه الحالة هل تدل على أن التابعين أكثر تأثراً من الصحابة؟ والجواب كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الناس تختلف قلوبهم، فقلوب الصحابة رضوان الله عليهم كمل فيها الإيمان، وقوي فيها اليقين، وكانوا إذا تليت عليهم آيات القرآن تأثروا بها، وكان تأثرهم في القلوب، وفي العمل والتطبيق، وأما الأثر الظاهر، وهو دمع العين، ووجل القلب والسقوط مغشياً عليه ونحو ذلك مما وقع للتابعين، فهذا ضعفٌ في الوارد والمحل الذي وردت عليه التلاوة، فكان الصحابة أقوى في الثبات، وأقوى في التأثر بالآيات وكان علمهم بالقرآن عملاً وتطبيقاً، فهذا لا ينقص من قدر الصحابة شيئاً، وهذا هو أنسب الوجوه في الجمع، أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد قوي يقينهم، ولم تكن قلوبهم كقلوب التابعين أرق، وهذا لا ينقص قدر الصحابة كما قلنا والله تعالى أعلم.

نصيحة لمن تمر عليه أيام ولم يقرأ القرآن

نصيحة لمن تمر عليه أيام ولم يقرأ القرآن Q تمر عليَّ بعض الأيام وما أقرأ شيئاً من القرآن، فهل يعتبر هذا هجراً للقرآن؟ A هذا يعتبر حرماناً وأي حرمان!! إذا وجدت نفسك تمر عليك الأيام ولم تتلُ شيئاً من كتاب الله فابكِ على نفسك، فوالله ما حرم عبد طاعة إلا دل ذلك على بعده من الله عز وجل. قال سفيان الثوري رحمه الله: "أذنبتُ ذنباً فحرمتُ قيام الليل ستة أشهر" فإذا وجدت أن الأيام تمر عليك وليس لكتاب الله حظٌ في أيامك وساعات ليلك ونهارك، فابكِ على نفسك واسأل الله عز وجل العافية، واطّرح بين يدي الله عز وجل منيباً مستغفراً، فما ذلك إلا بذنبٍ بينك وبين الله، والناس الآن يهجرون كتاب الله، أما السلف فكانوا يرتبطون بكتاب الله، والفرق بين الطائفتين أن الفتن كثرت في هذا الزمان، وما يدريك لعل فتنةً في البصر أو في السمع أو الهرج، طفئ نور الإيمان بها في القلب، فلم تعِ كتاب الله ولم تحبه ولم تتله، فكثرة الذنوب في هذه الأزمنة المتأخرة صرفت قلوب الناس عن الطاعة، وأصبح حظ كثيرٍ من الناس من التأثر بكلام الله أقل من حظ الأولين، الذين انتشر فيهم الخير وقل فيهم الشر. فنسأل الله العظيم أن يتداركنا وإياكم بلطفه، ولذلك من أفضل العلاج، أن نفر من الله إلى الله، وأن يحاول من يريد الخشوع والقربى من القرآن أن يفر عن الفتن، وأن يبتعد عن كل سيئة تبعده عن الله، سواءً في سمعه أو بصره، أو فرجه أو يده، أو لسانه يبتعد عن ذلك كله. كان السلف الصالح رحمهم الله يتركون فضول الحديث خوفاً من الوقوع فيما لا خير فيه، فكيف بنا وقد وقعنا في الغيبة والنميمة وغير ذلك من الذنوب، فنسأل الله العظيم أن يتداركنا برحمته، والله تعالى أعلم.

§1/1