دروس للشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي

محمد الحسن الددو الشنقيطي

الاختلاف والتفرق

الاختلاف والتفرق لقد حذر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الفرقة والتحزب والتشيع، ودعا المؤمنين إلى الاعتصام بحبل الله جميعاً، وبين أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر، وأنه يجب على المسلم نبذها واجتنابها. وهناك أمور وقع الاختلاف فيها بين الصحابة فمن بعدهم، وهي اجتهادات ينبغي ألا تكون سبباً للفرقة، وأن يعذر المجتهد فيها باجتهاده كما عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تحذير الله سبحانه ورسوله من الفرقة والاختلاف

تحذير الله سبحانه ورسوله من الفرقة والاختلاف الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى حذر من الشقاق والفرقة في كتابه في عدد من الآيات، فجعله منافياً للرحمة في قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119]. وجعله ضرباً من ضروب العذاب، فقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]. وجعله مظهراً من مظاهر الشرك فقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32]؛ وبين براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من المختلفين في الدين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]. وبين أن الخلاف سبب لزوال الريح وللفشل فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46]. وبين مقابله وهو الاعتصام بحبل الله وأمر به فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:103 - 105]. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذيره من الفرقة والخلاف في عدد كثير من الأحاديث الصحيحة، فمنها ما قاله في خطبته في حجة الوداع، تلك الخطبة التي لم يعش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذه الأرض إلا اثنين وثمانين يوماً، فكان ذلك وصيته إلى أمته فقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وحذر من آثار الخلاف فقال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).

أسباب الفرقة والاختلاف وبيان ضررها

أسباب الفرقة والاختلاف وبيان ضررها وقد بين الله سبحانه وتعالى أسباب الفرقة المذمومة فذكر منها ثلاثة عشر سبباً متوالياً في سورة الحجرات وحرمها جميعاً: السبب الأول: هو تجاوز الصلاحيات وتعدي الإنسان على حقوق غيره، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]. السبب الثاني: هو سوء الأدب مع من يستحق الأدب، فهو سبب للفرقة والخلاف، ولذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:2 - 5]. السبب الثالث: هو عدم التثبت في نقل الأخبار، بأن يتكلم الإنسان بكل قول سمعه يتلقاه لسانه قبل أن تتلقاه أذنه وقبل أن يعرضه على قلبه، حتى يعلم هل هو صحيح أم باطل؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وفي القراءة السبعية الأخرى: (فتثبتوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، فلابد من التثبت والتبين في نقل الأخبار، وإلا حصل الشقاق والفرقة والخلاف. السبب الرابع: هو عدم الرد إلى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسعي وراء الأهواء والآراء، فقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، ومن هنا ينبغي أن يعلم المسلمون أن الحكم لله سبحانه وتعالى في الأمور كلها {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، ولذلك فلابد أن يعلموا أن آراء الرجال غير المعصومين هي عرضة للرد والأخذ، كما قال مالك رحمه الله: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم. وإذا كان للناس مرجع غير معصوم يتحاكمون إليه في أمرهم فذلك عرضة للفرقة والخلاف؛ لأن كل مصدر غير معصوم فلن تجتمع عليه القلوب، فلابد أن يكون سبباً للخلاف، فإذا تعصب له بعض ناس دون بعض أدى ذلك إلى الفرقة والشحناء. ثم بعد هذا قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8]. السبب الخامس: هو الاعتداء والظلم، فكل ظلم للآخرين وأي اعتداء على حقوقهم هو سبب للفرقة والخلاف؛ لأن المظلوم لابد أن ينتصر يوماً ما، فإما أن ينتصر عاجلاً أو ينتصر آجلاً: (فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10]. السبب السادس: هو السخرية من المسلمين؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]. وهذا السبب بين سبحانه وتعالى ما ينفر منه، في أن الساخر يمكن أن يكون أدنى عند الله منزلة من المسخور منه، فكم من ساخر هو رذيل عند الله سبحانه وتعالى! وكم من مسخور منه هو كريم عند الله! فهذا نوح سخر منه قومه فكان جوابه لهم: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39]. ومن هنا عطف الله ذكر النساء على ذكر الرجال لبيان أن السخرية كثيرة في النساء، فكثير ما يسخر بعضهن من بعض، ولذلك قال: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] مع أنها لو لم تعطف لدخل النساء في (قوم)؛ لأن القوم لفظ يشمل الرجال والنساء في الإطلاق الشائع، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66]، وفي ذكر الأنبياء جميعاً يذكر القوم ويقصد بهم الرجال والنساء، وقد يطلق القوم على الرجال فقط كما في هذه الآية وكما في قول زهير بن أبي سلمى: وما أدري وسوف أخال أدري. أقوم آل حصن أم نساء السبب السابع: هو اللمز والغمز بالطعن في الناس قال: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] فهذا هو اعتراض على الله في خلقه، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8]، فيجعل الإنسان طويلاً ويجعله قصيراً ويجعله جميلاً ويجعله قبيحاً، ويجعله أبيض إذا شاء، ويجعله أسود إذا شاء، ويجعله ملوناً إذا شاء، ويجعله ذا شعر إذا شاء، ويجعله بخلاف ذلك إذا شاء. ومن هنا فالغمز إنما هو طعن في خلقة الله سبحانه وتعالى الذي خلق هذا الخلق على هذه الصورة، وذلك اعتراض على الله في خلقه، وهو كثيراً ما يؤدي إلى الفرقة والخلاف، فينتصر بعض الناس للمطعون فيه والمغموز فيه ويكون ذلك سبباً للشحناء. ومن العجائب في إعجاز القرآن أن الله قال: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] ولم يقل: (ولا تلمزوا إخوانكم)؛ لبيان أن الإنسان إذا لمز أخاه فقد لمز نفسه، لأن الصفة التي يلمز بها يمكن أن تكون فيه صفة مثلها أو أشد، فعندك عورات وللناس ألسن. ومن هنا كان لابد أن يعرف الإنسان أن طعنه في أخيه هو طعن في نفسه، فلابد أن يحافظ على عرض أخيه كما يحافظ على عرض نفسه. السبب الثامن: هو التنابز بالألقاب في التصنيفات، وأن يقال فلان من الفرقة الفلانية، أو من الطائفة الفلانية، ويكون هو غير معلن بذلك، فهذا من النبز والتصنيف الذي حذر منه، أي: فهو من التنابز بالألقاب، وهذه الألقاب سواء كانت شخصية كما يكره الناس أن يدعوا به من أسماء، أو كانت غير شخصية كأسماء الفرق والقبائل والمجموعات التي تكرهها، فلا يحل إطلاق اسم على شخص أو مجموعة أو قبيلة وهي تكرهه؛ لأن ذلك من التنابز بالألقاب المحرم. وإذا كان الإنسان لا يعرف إلا بذلك الذي يكرهه، فهذه مشكلة تكلم عنها المحدثون قديماً، فقد ذكروا بعضَ المحدثين الذين كانت لهم ألقاب يكرهونها كـ ابن علية ومسلم البطين، ولبعضهم ألقاب سيئة أيضاً وإن كانوا لا يكرهونها كـ عارم وهو محمد بن الفضل شيخ البخاري رحمه الله كان يلقب بـ عارم، وعارم معناه: المفسد، وهذا اللقب مسلوب الدلالة لا يقصد معناه، فهو من الصالحين المصلحين، لكن اشتهر بهذا اللقب بين الناس، ومثل ذلك إطلاق جزرة على الرجل بسبب أنه كان يقرأ فأخطأ في القراءة فسمي بالكلمة التي أخطأ فيها. فهذا النوع استشكله الأوائل وجعلوه من دغل أهل الحديث، وذكره الذهبي في دغل أهل الحديث لما ذكر أن كل طائفة من الطوائف الإسلامية لديها دغل وأخطاء، فذكر أن القراء دغلهم في المبالغات في القلقلة وفي إخراج الحروف من مخارجها حتى تتجاوز محلها وفي تتبع الأوجه والروايات، وأن الفقهاء دغلهم في ترك النصوص والعدول عنها إلى آراء الرجال، وعدم التثبت في نقل تلك الآراء بنسبة الروايات المخرجة إلى المجتهدين الذين لم يقولوا بها وإنما خرجت على أقوالهم وفتاويهم، وأن أهل الحديث دغلهم في ذكر الألقاب التي يكرهها أصحابها كما ذكرنا من الألقاب. وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن هذا النوع اشتهر في علماء المسلمين، فعلماء المغاربة دخل عليهم الشيطان بسوء الأسماء وعلماء المشارقة بحسن الأسماء، فعلماء المغاربة يتلقبون بالألقاب القبيحة كالدباغ والفخار ونحو ذلك، وعلماء المشارقة يتلقبون بالألقاب الشريفة كشمس الدين وتقي الدين وسراج الدين إلى آخره، فقال: دخل الشيطان على علماء المشارقة بحسن الألقاب، ودخل الشيطان على علماء المغاربة بسوء الألقاب. {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11] وقد حذر الله من هذا تحذيراً بليغاً إذ قال: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11] فجعل هذا فسوقاً وجعله خروجاً للإنسان عن طريق الإيمان، فبعد أن قطع الإنسان أشواطاً من الإيمان وصار في هذا الطريق كأنه التفت ذات اليمين أو ذات الشمال فسلك هذا الطريق، إذ تبع الشيطان في التصنيف والترقيم، ولذلك قال: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، وهذه فسحة كريمة أتاحها الرب الكري

الحث على اجتماع الكلمة ووحدة الصف

الحث على اجتماع الكلمة ووحدة الصف ثم إن علينا عباد الله أن نعلم أن اجتماع الكلمة ووحدة الصف مما أمر الله به، كما ذكرنا في الآيات، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث الصحيحة عنه، وهو كذلك قوة للمسلمين. فهذه الأمة تحف بها الأمم المعادية وتكيد لها بأنواع الكيد، ولا ترضى لها رفع راية ولا الوصول إلى غاية، فلذلك إذا بقيت هذه الأمة في تناحر وخلاف فيما بينها فمتى تنتصر على أعدائها؟ وإذا شغلنا كل وسائلنا في طعن بعضنا في بعض، وكان كل إنسان منا يعمل طاقته وقوته في تحطيم أخيه، فمتى نفرغ لقتال أعدائنا؟ ومتى يكون الانتصار عليهم؟! إن علينا أن نعلم أن أعداءنا يتربصون بنا الدوائر، وأنه إذا أحس الإنسان بتهديد كيانه فذلك سبب لنصرته لأخيه ولو كان مخالفاً له، كما قال الشاعر: لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تظاهر الأقياد بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد أنتم اليوم في شدة عظيمة، فأمر الدين في تولٍ، وأمم الشر كلها تداعت كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فلذلك لابد أن توحدوا صفوفكم وأن تجتمعوا على كلمة سواء، وأن تعلموا أن ذلك لا يتم إلا بالبدء أولاً بنقاط الاتفاق والتنقيب عنها، فلابد أن نبحث عن النقاط التي تجمعنا قبل أن نبحث عن النقاط التي تفرقنا. فالإنسان يعلم أن له أعداء خارجيين، وهم الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أنواع الكفر، والكفر ملة واحدة، ويعلم أن له أعداء داخليين من المنافقين المتربصين، ومن أصحاب النزعات الضالة! فلا يخلو مجتمع من هذه النزعات التي تغلغلت في المجتمعات، حتى بلغ سيلها الزبى، وانتشرت في مجتمعاتنا الإسلامية، فإذا أحس الإنسان بالتهديد من خارج الكيان ومن داخله، فلابد أن يبحث عن الأنصار إذا كان عاقلاً، ولا ينبغي أن يبحث عن التخذيل في مثل هذا الوقت، ألا ترون أن الإنسان الذي هو عرضة للابتزاز، وأعداؤه يتربصون به الدوائر، ينبغي هنا في مثل هذا الوقت أن يرتب الأولويات، وأن يبدأ بالأولى والأكثر عداوة والأقوى حتى يصل إلى غيره. فإذا فتح عليه كل الجبهات في وقت واحد فإنه حينئذ غير عاقل وغير مدبر، فلذلك لابد أن يبدأ الإنسان بالجبهة العظمى، ولهذا فإن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة لما أراد بناء دولة الإسلام في المدينة بدأ أولاً فعقد هدنة مع اليهود الذين هم داخل المدينة؛ لأنهم أقرب الأعداء إليه، ثم لم يتعرض للمنافقين بسوء؛ خشية أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، فلم يقتل أحداً منهم ولم يشهر به أمام الناس، وكان يعود مرضاهم، بل قد صلى على جنازة رأس من رءوسهم، حتى نهي عن ذلك، ثم بعد هذا ذهب إلى القبائل المجاورة للمدينة من الأعراب كبني ضمرة وبني مدلج، فعقد معهم الهدنة على أن لا يكثروا عليه سواداً، وأن لا يعينوا عليه مغيراً، ثم بعد هذا حارب العدو الألد وهم قريش، الذين إذا انتصر عليهم فذلك انتصار على العرب كلها كما حصل. إن هذا من سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي هي تابعة للوحي المنزل عليه من عند الله سبحانه وتعالى، ولابد من الاقتداء به في ذلك، فإن مهادنته لليهود إذ ذاك ليست على أساس أنهم أقل كفراً من قريش أو أقل ضرراً منهم، ولكن إنما هي على أساس أنهم أضعف منهم، فاليهود إذ ذاك أقل شوكة وأضعف من مشركي قريش، فلذلك بدأ بالأقوى، ثم فاضل بين اليهود أنفسهم، فأكثرهم ضرراً وعداوة هم بنو قينقاع، فهم أول من أخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، ثم بعدهم بنو النضير أخرجهم إلى خيبر، ثم بنو قريظة حيث قضى عليهم في المدينة.

سياسة فرق تسد ودور الأعداء في تطبيقها

سياسة فرق تسد ودور الأعداء في تطبيقها فهذا التدريج في الإعداد من المهمات جداً، والأعداء يعرفون هذا، ومن أجل هذا فهم يسلطون بعضنا على بعض، وينطلقون من سياسة واضحة لديهم وهي: سياسة (فرق تسد)، فيريدون أن يفرقوا جمعنا، فإذا فرقوه حينئذ استطاعوا التغلب على كل مجموعة يسيرة، ومن أجل هذا عقد مؤتمر (سايكس بيكو) لتوزيع العالم الإسلامي -الذي يسمونه تركة الرجل المريض- إلى دويلات. وعندما قسموا بلاد الإسلام جعلوا الحدود بين كل دويلتين متجاورتين على منطقة حيادية؛ لتكون بؤرة للخلاف وسبباً للحرب في كل وقت، فما من بلدين إسلاميين إلا وبينهما منطقة محايدة يمكن أن يثار فيها الخلاف وتقوم فيها الحرب، وتعرفون أن منطقة الصحراء الغربية تركت بين موريتانيا والمغرب والجزائر من أجل إقامة حرب فيها متى تيسر ذلك ومتى أراد المستعمر ذلك، وكذلك منطقة صغيرة بين تونس والجزائر، ومنطقة أخرى بين ليبيا والجزائر، ومنطقة بين موريتانيا ومالي، ومنطقة على شاطئ النهر كذلك بين موريتانيا والسنغال، ومثل هذا منطقة بين تشاد وليبيا وقامت فيها حرب ضروس، وكذلك منطقة بين مصر وليبيا، وكذلك الحال في الحدود بين السعودية واليمن، وبين السعودية وقطر والإمارات والكويت، والعراق أيضاً، ومثل هذا منطقة الرميلة بين الكويت والعراق التي قامت على أساسها الحرب. وهكذا الحدود بين كل بلدين إسلاميين، تجدون أنها قابلة للانفجار في كل وقت، فمنطقة أنطاكية بين تركيا وسوريا ومنابع الأنهار، ومنطقة حلايب بين مصر والسودان، ومنطقة جنوب السودان وغير ذلك من المناطق، ما من منطقة بين دولتين إسلاميتين متجاورتين إلا وقد جعل فيها المستعمر منطقة لم يحسمها بالحدود؛ لتكون قابلة للانفجار في أي وقت أراد أن يحركها. وكذلك قضية الأقليات التي يلعب على أوتارها المستعمر في كل مكان، فإنهم عندما أرادوا توزيع البلدان حرصوا على أن لا يكون بلد بعرق واحد خاص، بل كل بلد تجمع فيه أعراق وتدمج فيه أعراق ويكون بعضها غالباً وبعضها مغلوباً، حتى تكون فيه أكثرية وأقلية، هذه الأعراق إن استطاعوا أن تكون طوائف دينية فعلوا، وإلا جعلوها طوائف عرقية، وتعرفون التقسيم الحاصل للأكراد حين قسموهم بين أربع دول، الأكراد مجموعة صغيرة في شمال العراق قسمها المستعمر بين سوريا وتركيا والعراق وإيران، كل دولة فيها أقلية كردية، وهذه الأقلية تطالب بحقوق، وهكذا في البلدان التي يجتمع فيها العرب والبربر، أو العرب والأفارقة يجعلون فيها أقلية من أحد الجانبين وأكثرية من الجانب الآخر؛ حتى تكون بؤرة للخلاف في أي وقت يمكن أن يثار الخلاف بينها. وما تسمعونه في الجزائر من تحريك القبائل البربرية، وما يحصل بين الفينة والأخرى هنا وفي المناطق الأخرى كله من هذا القبيل، ومن المؤامرات الدولية التي يقصد بها تفريق جمع المسلمين وشتات أمرهم، وأن يكون بأسهم فيما بينهم حتى يمنع ذلك وصول البأس إلى الأعداء، وما دام أهل الإسلام لا ينتبهون لمثل هذا الخطر فالأعداء في أمان؛ لأنهم إذا أحسوا بقوة لدى دولة من الدول صرفوها إلى جيرانها، لما أحسوا بقوة ضاربة لدى العراق وجهوها إلى الكويت البلد الصغير الضعيف المجاور، وهكذا فالقوة المصرية التي ضربت ليبيا، والقوة الليبية التي توغلت في تشاد ثم قضي عليها بالكلية، قتل منها ألف وخمسمائة مقاتل في عشية واحدة، وهكذا كل هذا قوة للإسلام، ومع ذلك يراد أن تكون مشغلة وسبباً لزوال هذه القوة. ومنطقة كشمير بين الهند وباكستان الآن من المناطق الساخنة في العالم، وتعرفون الآن الحاصل فيها، وكذلك الأقلية الطاجيكية في أفغانستان، والأقلية الأوزبكية فيها أيضاً، فهما أقليتان في مقابل البشتون الذين عندهم الكثرة هنالك. فالمستعمر أراد هذا التقسيم مع أن طاجكستان يمكن أن تضاف إليها القبائل الطاجيكية وأوزباكستان يمكن أن تضاف إليها القبائل الأوزبكية، لكن المستعمر أراد أن يأخذ جزءاً من هذه حتى تكون أقلية قابلة للقتال في أي وقت، وبذلك تشهدون مثل هذا في عصرنا هذا. إن المسلمين عليهم أن ينتبهوا لكل سبب من أسباب الفرقة والخلاف وأن يحذروا منه قبل أن يثور، وإذا حصل فعليهم أن يكونوا معالجين له على الوجه الصحيح، كما بين الله سبحانه وتعالى في كتابه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]. ومن العجائب في التفرقة ما حصل في لبنان، فإن النصارى فيه أقلية في الواقع، لكن المستعمر قسم المسلمين فيه إلى طوائف، فجعل منهم سنة وشيعة ودروزاً، وقسم أهل السنة إلى أقسام، وقسم كذلك الشيعة إلى أقسام، حتى أصبحت كل فرقة وحدها أقلية في مقابل المارونيين النصارى فأصبحت الرئاسة دائماً للمارونيين النصارى، وهذا النوع من المؤامرات لا يزال مستمراً، وعلينا أن ننتبه له في كل الأحيان، وأن نستشعر خطره وضرره. ففي هذه الأيام تدور حرب ضروس في بعض الجمهوريات الإسلامية بين بعض الطوائف الصوفية فيما بينها، وما ذلك إلا بأيدي المستعمرين، فليس لهؤلاء المساكين مصلحة في التناحر والتقاتل فيما بينهم، ولكن المستعمر أراد أن يتقدم بعضهم على بعض حتى تذهب القوة فيما بينهم، وحتى يبيع هو سلاحه للطائفتين، ويكون بذلك قد حقق مصلحتين: فتح سوقاً للسلاح، فالمصانع تصنع السلاح يومياً تحتاج إلى سوق تفرغ فيه سلاحها، ورد كيد المسلمين في نحورهم، ورد قواهم إلى أنفسهم، ومن هنا يأمن هو الخطر. وتعلمون أن أمريكا سعت لإقامة حرب في الجمهوريات الإسلامية عند تشتت الاتحاد السوفيتي؛ لأن هذه الجمهوريات تمتلك وسائل القوة، فلديها المفاعلات النووية، ولديها الخبرات العالمية الكبرى، فهذا لا يسر أمريكا أن يكون بأيدي المسلمين بحال من الأحوال، فلذلك كانت من وراء الحرب في الشيشان التي مازالت قائمة إلى الآن، ومن وراء الحرب بين جورجيا وأذربيجان، فهذا النوع من الحروب مقصود، وهو استراتيجي لابد من تحقيقه لئلا يكون للمسلمين قوة ضاربة، وفي هذه الأيام يريد الأمريكان كذلك ضرب بقية القوة في العراق لتحطيمها؛ لأنهم أحسوا أن العراقيين مازالت لديهم قوة ومال وخبرة، فيريدون تحطيم ذلك، ولا يمكن أن يغزوهم بالجيش الأمريكي، بل لابد أن تتحرك الجيوش الإسلامية أولاً، حتى تتحمل البأس العراقي عن الجيش الأمريكي، ومثل هذا ما يريدونه الآن وما يخططون له للحرب بين الهند وباكستان؛ ليكون ذلك قضاء على القوة النووية الباكستانية، التي هي ملك للمسلمين.

حقيقة الخلاف بين المسلمين وحجمه

حقيقة الخلاف بين المسلمين وحجمه إن أسباب الفرقة والخلاف في مجتمعاتنا كثيرة جداً، وأغلبها وأكثرها إنما هو في الأمور الدنيوية، فكثيراً ما يختلف الناس ويتفرقون على أساس مصالح مظنونة غير حقيقية، فالخلافات التي تدور دائماً في إبان تحرك السياسات وإن كانت خلافات مؤقتة إلا أنها ليس لها مبرر لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية العقلية، فمن المعقول أن يختلف اثنان في السياسة فأحدهما يرى التوجه إلى كذا والآخر يرى التوجه إلى كذا، لكن أن يكون ذلك ذريعة للبغضاء والشحناء وإنفاق الأموال من أجل الضرر بإخوانك؛ فهذا لا يمكن أن يقبل بأي وجه من الوجوه.

ماهية الخلاف المقبول شرعا

ماهية الخلاف المقبول شرعاً إن علينا أن نتفهم أن الخلاف المقبول شرعاً أحد أمرين: إما خلاف في أمور الدنيا وقد مر معنا، أو في أمور الدين وهذا لا يكون إلا في غير المحسوم بالدليل، أما ما حسمه الوحي القطعي الدلالة والورود فلا يمكن الخلاف فيه. والأمور الظنية الاجتهادية تقبل الخلاف، ويمكن أن تتباين فيها المذاهب وأن تتعادل فيها الآراء، وحينئذ لا يحل التعصب لرأي من الآراء، بل ينظر إليها جميعاً على أنها من تراث هذه الأمة، ومن إنتاج عقولها، وأن هذه مأخوذة من الوحي معتمدة عليه، فما كان منها صواباً فمن توفيق الله، وما كان منها خطأً فخطؤه على صاحبه، وليس عليه إثم إذا كان أهلاً للاجتهاد، بل هو مثاب بأجر واحد، والمصيب مثاب بأجرين، ومن هنا فالمذاهب الفقهية المعتمدة على فهم المجتهدين في الأدلة الشرعية يقبل الخلاف بينها، وينبغي أن يأخذ طالب العلم بالراجح منها، وأن لا يحتقر المرجوح، بل يعلم أنه قول مقبول وأن له دليلاً، وأنه إن ترجح لديه هو خلافه فلم يحسم الخلاف، بل ازداد أحد القولين بصوت واحد، ومن هنا فلا يحسم هذا الخلاف، وستبقى المذاهب موجودة وتبقى المدارس موجودة. ومثل هذا في المدارس الدعوية والجماعات الإسلامية، فالخلاف بينها مثل الخلاف بين الفقهاء المجتهدين، يختلفون في آراء غير محسومة من ناحية الدليل، ولكل منهم أن يجتهد فيها، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ولكن لا يحل التعصب والمصادرة بوجه من الوجوه، ولابد إذا حصل ذلك الخلاف أن يكون حله بالرجوع إلى أهل العلم الراسخين فيه، وأن ينظر في الأدلة الشرعية، فمن كان أسعد بالدليل وأقوى حجة تنازل له الآخر عن رأيه، فهذا هو الوجه الصحيح المقبول! وإذا وجد أن لكل حجة ولكل دليلاً ولم يمكن الجزم بمصداقية أحد القولين، حينئذ لابد أن يعذر كل واحد منهما الآخر، وأن يتعاونوا فيما اتفقوا عليه، ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أطل على الناس وهو محصور في الدار فقال له رجل: (يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام البدعة وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فتجنب إساءتهم). ومن هنا فعلينا أن نستحضر نقاط الاتفاق بيننا أولاً، وأن نعلم أن أهل السنة من المسلمين نقاط الاتفاق بينهم أعظم وأكبر من نقاط الاختلاف، فنقاط الاختلاف في المجال العقدي محصورة يسيرة جداً، والذين يروجون لكثرتها ويريدون أن تكون شرخاً عظيماً لم يستوعبوها ولم يفهموا معاقل العلماء فيها.

عقيدة أهل السنة في أركان الإيمان الستة إجمالا

عقيدة أهل السنة في أركان الإيمان الستة إجمالاً أنتم تعلمون أن أركان الإيمان ستة بينها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل في قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، هذه ست ثلاث منها ليس بين أهل السنة خلاف فيها أصلاً، لا في جزئياتها ولا في كلياتها، وهي: الإيمان بالملائكة فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، والإيمان باليوم الآخر فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، والإيمان برسل الله عليهم السلام فهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، هذه الثلاثة لا خلاف في جزئياتها ولا في تفصيلاتها بل كلها محل اتفاق.

الاختلاف في الإيمان بالقدر عند أهل السنة

الاختلاف في الإيمان بالقدر عند أهل السنة الإيمان بقدر الله خيره وشره محل اتفاق في الجملة بين المسلمين، وبين أهل السنة والجماعة، فكلهم يؤمنون بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وإنما حصل الخلاف في أمر واحد وهو: أفعال العباد واستطاعتهم وقدرتهم عند صدور الفعل منهم؛ هل أفعال العبد هي من فعل العبد أم من فعل الله سبحانه وتعالى خلقها الله وقربها إلى العبد فجعلها من كسبه فتحصل عند إرادة العبد لا بها؟ هذا محل خلاف، ومذهب جمهور أهل السنة وهو مذهب الحق: أن تلك الأفعال هي من أفعال المخلوقين لهم قدرة وإرادة، قدرة يفعلون بها أفعالهم وإرادة يريدون بها، ولكنها من خلق الله، فالله خالق كل شيء وأفعال العباد من خلق الله، قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ومشيئته أي العبد موجودة لكنها معلقة بمشيئة الله، قال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]. ومع ذلك فمن قال من أهل السنة بنظرية الكسب وهو أبو الحسن الأشعري فإنه يعذر في اجتهاده؛ لأنه اجتهد فأخطأ، ومن هنا فهو مأجور على اجتهاده معذور في خطئه.

الإيمان بالكتب المنزلة عند أهل السنة

الإيمان بالكتب المنزلة عند أهل السنة المسألة الثالثة: هي الإيمان بالكتب المنزلة، فقد أجمع أهل السنة جميعاً على أن الكتب المنزلة من عند الله هي من كلام الله، وأنها ليست من كلام المخلوقين، وأنها غير مخلوقة ولا صفة لمخلوق، وإنما اختلفوا فقط في الكلام اللفظي هل هو صفة الله أو الكلام النفسي هو صفته فقط؟ فالخلاف هنا نقطة يسيرة محصورة، وهي من الأمور الاجتهادية التي ما حسمها النص ولا تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعون، فيمكن أن يعذر المخطئ فيها، فإذا عرفنا هذا عذر بعضنا بعضاً، وعرفنا أن الخلاف بين أهل السنة في العقائد في نقاط يسيرة محصورة وهي التي بيناها، وأن ما سواها من الأمور الخلاف فيه إنما هو بين أهل السنة وبين الفرق الضالة المبتدعة كالجبرية والقدرية وغيرهم.

عقيدة أهل السنة في الإيمان بالله وأسمائه وصفاته

عقيدة أهل السنة في الإيمان بالله وأسمائه وصفاته أما الثلاثة الأخرى فأولاً: الإيمان بالله محل اتفاق في عمومه بين أهل السنة، بل بين المسلمين جميعاً، وإنما الخلاف في جزئيات يسيرة. فالإيمان بالله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الإيمان بألوهيته، أي أنه خالق هذا الكون الذي يستحق العبادة والدعاء ويستحق أن يصمد إليه في الحوائج كلها. الثاني: الإيمان بربوبيته: أي الإيمان بأنه لا خالق للكون سواه وأنه وحده المدبر لشئون هذا الكون كله، ولا يمكن أن يعطي أحد ما منعه، ولا يمنع أحد ما أعطى، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فهذان محل اتفاق بين أهل السنة كلهم. الثالث: الإيمان بأسمائه وصفاته: وهذا ينقسم إلى قسمين: الأول: الإيمان بأسمائه وهو محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً. الثاني: الإيمان بصفاته وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يدرك العقل كونه صفات لله، وهذا محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، فإنهم يؤمنون بكل ما يدرك العقل كونه صفة لله، والصفة إنما ينعت بها الموصوف. ومن ذلك العلم، فالله عليم، والله عليم بذات الصدور، والإرادة كذلك، فيدرك العقل كونها صفة، فلذلك تقول: الله مريد، وكذلك القدرة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك الحياة يدرك العقل كونها صفة، وكذلك القدم والبقاء يدرك العقل كونهما صفة، ولذلك يمكن أن يقال: الله باق، الله قديم إلى آخره، وكذلك الوحدانية يدرك العقل كونها صفة، وكذلك السمع والبصر والكلام يدرك العقل كونها صفات، ولذلك يوصف الله سبحانه وتعالى بها. القسم الثاني: ما يدرك العقل كونه أفعالاً لله وهو أيضاً محل اتفاق بين أهل السنة جميعاً، إلا في جزئيات يسيرة من الأفعال سنذكر الخلاف فيها، فمثلاً: خلق السماوات والأرض وخلق الكون كله من أفعال الله سبحانه وتعالى، وإنزال المطر وإنبات النبات والهداية والإغواء والإماتة والإحياء، كل ذلك من أفعال الله سبحانه وتعالى التي لا يخالف فيها أحد من أهل السنة، فهم يعلمون جميعاً أن هذه الأفعال من أفعال الله ويتفقون عليها لا ينكرها أحد منهم. من الأفعال ما يتوهم منه بعض الناس تشبيهاً لله بخلقه، كتلك التي حصل الخلاف فيها بين أهل السنة وهو خلاف ضيق محصور. فجمهور أهل السنة يعلمون أن كل ما أخبر الله به عن نفسه فهو حق وليس فيه نقص، فإن النقص محال عليه، ومن هنا أنه سبحانه وتعالى ينزل كل آخر ليلة، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بائن من خلقه، والله سبحانه وتعالى يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وبالليل ليتوب مسيء النهار، ويداه سحاءان بالعطاء لا تغيضان، والله سبحانه وتعالى يقبل الصدقات من عباده، والله سبحانه وتعالى يجيء يوم القيامة لفصل الخصام، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:22 - 23] والله تعالى يغضب ويرضى، والله سبحانه وتعالى يضحك ضحكاً يليق به. فكل هذه أفعال تليق به تخالف أفعال المخلوقين، ولا يشابهها فعل المخلوق وإن اشترك معها في الاسم، فلا أحد من أهل السنة يشبه هذه الأفعال من أفعال الله بأفعال المخلوقين أبداً، بل يؤمنون بأن الله يفعل فعلاً يليق بجلاله وهو كمال في حقه، وأن المخلوق يفعل فعلاً يليق بقدره أيضاً، وأن أفعال المخلوقين التي تنسب إليهم هي من أمرهم، وأن أفعال الله التي تنسب إليه هي من أمره سبحانه وتعالى، وأمر الله مباين لأمر المخلوقين. ولا يشبه أحد من أهل السنة نزول الله أو استواءه أو تكلمه أو غضبه أو رضاه أو ضحكه بشيء من أفعال المخلوقين أبداً! بل يؤمنون جميعاً بأن ذلك لا يشبه شيئاً من أفعال المخلوقين، وأن الله سبحانه وتعالى متصف بذلك وأنها صفات كمال في حقه. إذاً الخلاف في صفات الأفعال خلاف يسير محصور، فلابد أن نعلم أن الذين يروجون هذه الأفهام ما أرادوا بذلك تكذيب الله ولا الرد عليه ولا الرد على رسوله، بل أرادوا بذلك تنزيهه عن خلقه حينما فهموا أن ذلك نقص، والغلط من قبل الفهم فقط وليس الخطأ في النص!، لكننا نعذرهم في خطئهم؛ لأنهم أعملوا عقولهم في تنزيه الله عما لا يليق به وآمنوا به وأحبوه وعبدوه، فلذلك أخطئوا في الاجتهاد في أمر يسير جداً، ليس من الأمور التي فصلها الشرع تفصيلاً وتكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون، فإنما هو أمر محصور يسير. القسم الثالث: ما لا يدرك العقل كونه صفة ولا فعلاً، فهذا قد اختلف فيه أهل السنة وهو فقط في أمور محصورة لا تتعدى تسعة: وهي الوجه والعين واليدان والأصابع والقدم والساق؛ فهذه أثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه وأثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة عنه، وقد أجمع المسلمون جميعاً على أن ما قاله الله حق وأن ما قاله رسوله حق، وإنما اختلفوا فقط هل هي صفات لله تليق به لا تشبه صفات المخلوقين تقر كما جاءت ونؤمن بها كما هي، أم نؤولها بصفات أخرى من صفات الخالق، أو نحيل علمها إلى الله. فهم إذاً جميعاً متفقون على أنها حق وأنها صدق وأنها من كلام الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن من أصاب منهم علم أنها لله سبحانه وتعالى كما يليق به وأنها لا تشبه صفات المخلوقين وأنها وصف كمال في حق الله، فوجه الله كمال له، ويداه مبسوطتان كمال له، وعينه سبحانه وتعالى لا يغيب عنها شيء من خلقه، وكذلك قدمه وساقه وأصابعه كل ذلك ثابت له سبحانه وتعالى، فكل هذا من صفات الكمال في حقه سبحانه وتعالى، والذين يؤولون أو يحيلون العلم في ذلك إلى الله ويفوضونه إليه اجتهدوا فأخطئوا، لكن اجتهادهم مقبول؛ لأنهم في مثل هذا الموقف إنما طلبوا الإيمان بالله وتنزيهه عن النقص، وأرادوا تحقيق الإيمان به وتحقيق محبته، فنحن نعذرهم في خطئهم. ومن هنا فلا يحل التعصب في مثل هذا النوع، وبالأخص في الأمور التي تؤدي إلى تكفير المسلمين بغير حق، أو تفسيقهم وتبديعهم بغير حق، فكل ذلك من الممقوت شرعاً المذموم، ولهذا فإن الشافعي رحمه الله قال في الأم: كل الفرق تقبل شهادتهم وروايتهم إلا الخطابية فإنهم يستحلون الكذب لنصرة من وافقهم في المذهب، فجميع الفرق حتى وإن كانوا من القدرية أو من الشيعة أو من الخوارج من لم يصل منهم إلى درجة التكفير في بدعته تقبل شهادته وروايته، ولذلك فإن البخاري رحمه الله أخرج في الصحيح عن عبيد الله بن موسى وهو من الشيعة، وعن هشام الدستوائي وقد قال بالقدر، وعن عمران بن حطان وهو من الخوارج. فأصحاب الفرق إذا لم يصلوا إلى حد التكفير في بدعتهم، ولم يكن مطعوناً عليهم في دينهم بالصدق، فإنه تقبل روايتهم وشهادتهم، ولذلك فإن في المذهب المالكي أن الاقتداء بهم في الصلاة يجوز، وأن الحرورية وهم من أوائل الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه تصح الصلاة خلفهم، وذلك أن علياً رضي الله عنه قال: حين سئل عنهم: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا)، وقال لهم: (إن لكم علينا ثلاثاً: ألا نبدأكم بقتال ما لم تقاتلونا، وألا نمنعكم مساجد الله ما صليتم إلى قبلتنا، وألا نمنعكم نصيبكم من الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا). والتعصبات في مثل هذا النوع غير مقبولة.

الخلاف بين أهل السنة في المسائل الفقهية الاجتهادية

الخلاف بين أهل السنة في المسائل الفقهية الاجتهادية

موقف الأئمة الأربعة من النصوص

موقف الأئمة الأربعة من النصوص إن هذا هو من التعصب البين المقيت، وعلينا أن نعلم أن المذاهب ليست ديانات منزلة، وإنما هي اجتهادات أئمة في الدين، سخرهم الله تعالى لحفظ الشريعة، فاجتهدوا في تغطية النوافذ والوقائع التي لم يجدوا فيها نصوصاً، فبينوا فيها ما أداهم إليه اجتهادهم، وهم جميعاً يقولون: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ، كما كان مالك رحمه الله يقول: ما منا من أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم. وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا وجدت قول النبي صلى الله عليه وسلم لم أعده، فإن لم أجده فوجدت قول أحد من أصحابه لم أعده، فإن لم أجده ووجدت قول عبيدة السلماني وزر بن حبيش وقيس بن أبي حازم وأضرابهم لم أعده، فإن تجاوزت أولئك فهم رجال ونحن رجال. وكذلك قال الشافعي رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا وجدتم قولي يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط. وكذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يعارض السنن بقياس ولا رأي. وهذا الذي نص عليه خليل رحمه الله في الجامع إذ قال: ولا يحل أن تعارض السنن بقياس ولا رأي، ولا يعرف عن أحد من أهل المدينة رواية خبرين اختلفا، فإنما يحدث بالذي عليه العمل، فلذلك لا يمكن أن تعارض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال أحد من الناس، إذا وجد القول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفهمناه واتفقنا على فهمه فهو حاسم للخلاف بيننا جميعاً، وإذا لم نجده ووجدنا خلافاً بين المجتهدين وكل منهم له وجه ومأخذ شرعي، فلا يمكن أن نتعصب لأحد، ومن ترجح لدينا قوله أخذنا به مع احترامنا للآخر المقابل له غاية الاحترام، ونعلم أن من أخطأ منهم فهو معذور في خطئه مأجور على اجتهاده، وأن من أصاب له أجران.

موقف المعاصرين من المسائل الاجتهادية

موقف المعاصرين من المسائل الاجتهادية ومثل هذا في اجتهادات المعاصرين والمتأخرين الذين يخالفهم كثير من الناس، فيشنون عليهم حرباً ضروساً، فتسمعون الآن كثيراً من علماء الإسلام الذين اشتهروا في العالم ونفع الله بهم كثيراً وانتشرت أقوالهم، يجتهدون في بعض المسائل فيخالفهم من سواهم، كالشيخ يوسف بن عبد الله القرضاوي حفظه الله، فله اجتهادات كثيرة جداً، وهو من عمالقة هذا العصر في المجال الفقهي، ومع ذلك فيخالفه كثير من الناس في اجتهاداته، ونحن نخالفه في كثير من اجتهاداته، لكن ليس معنى ذلك أننا نطعن فيه إذا خالفناه في الاجتهاد، بل نرى أننا إذا خالفنا مالكاً وهو أكبر فكيف لا نخالف القرضاوي! فمن هنا نعلم أن الجميع يخطئون ويصيبون، وأن ما أصابوا فيه لهم فيه أجران، وما أخطئوا فيه لهم فيه أجر، وهم معذورون في الخطأ الذي حصل منهم فيه، ولا نطعن في أحد منهم. وقد قال ابن القيم رحمه الله: زلات العلماء أقذار وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث. ومن هنا فكثير من فقهائنا في هذه البلاد يفتون بعض الفتاوى التي لا نوافقهم عليها، لكنها لا تنقص احترامنا لهم بوجه من الوجوه، فنحن نقدرهم تقديراً عظيماً ونعلم أنهم أهل للتقدير؛ لأن الله ائتمنهم على وحيه وجعلهم يفتون الناس في دينهم، فكيف يأتمنهم الله على الوحي وهو لا يأتمن المفلسين على دينه أبداً، ونطعن نحن فيهم؟! فنحن نحترمهم ونقدرهم ونقدر العلم الذي يحملونه ونخدمهم بما نستطيع، لكن نعلم أنهم غير معصومين ولا نوافقهم في أخطائهم، ونعلم أننا نحن أيضاً نخطئ وأنهم يخالفوننا في أخطائنا ولا نلومهم إذا خالفونا. ولذلك قال البويطي رحمه الله: لما ألف الشافعي كتابه سلمه إلي فقال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قال: قلت: يا أبا عبد الله أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] أبى الله العصمة إلا لكتابه. ومن هنا فكل الكتب المؤلفة فيها أخطاء، والكتاب الوحيد الذي ليس فيه خطأ هو القرآن الكريم المنزل من عند الله، أما ما عداه من الكتب حتى لو كان صحيح البخاري الذي تجاوز القنطرة، فلابد أن تلقى مسائل فيه هي محل إشكال، يختلف فيها الناس في فهمها وفي معناها، مثلاً في قوله: (وأجاز عمر بن الخطاب الشهادة على الشهادة في الحدود أو في الجارودي)، روايتان في صحيح البخاري، وكلتاهما روايتان صحيحتان عن البخاري رحمه الله أدرجهما في صحيحه؟! ومثل ذلك: (أن عمر بن عبد العزيز أجاز الكتاب في السن)، وكذلك: أن عمر قال: (إن من الربا أبواباً لا تخفى ومنها السلم في السن). ما معنى السن في الموضعين؟ محل خلاف، كل شراح صحيح البخاري اختلفوا فيها وما عرفوا وجه الصواب فيها؛ فإذا كنت لا تأخذ كتاباً إلا إذا كان صواباً مائة في المائة فلن تأخذ إلا القرآن وستنبذ كل ما سواه. ومن هنا فإن من يقرأ هذه الكتب لابد أن يكون غير متعصب، فإذا رأى فيها صواباً أخذ به، وإذا رأى فيها خطأً نقله من غير أن يأخذ به وبين خطأه، ومن هنا فالذين يسألون كثيراً اليوم عن دراسة الفروع الفقهية غير مقرونة بالأدلة وعن الحكم بذلك، إنما حصل الخطأ في فهمهم من هذا الوجه، حيث ظنوا أن هذه الفروع عزلت عن الكتاب والسنة وجعلت نداً لهما، والواقع أن هذا حاصل لدى بعض الناس، فبعض البلهاء قرءوا تلك الفروع مجردة؛ فتوهموا أنها هي زبدة الكتاب والسنة، وأن الكتاب والسنة قد مخضا فلم تبق فيهما فائدة نسأل الله السلامة والعافية. وهذا خطأ في الفهم وابتعاد عن الشرع، وإذا راجع الإنسان نفسه عرف أنه خطأ كبير، وأنه لا يمكن أن يقول به أحد من المسلمين، ولذلك تجدون كثيراً من الناس يقولون: إنه لا يجوز العمل اليوم بالكتاب والسنة، من قال هذا؟ هل أرسل أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله؟! هل نزل كتاب بعد القرآن؟! كيف يقال: لا يجوز العمل بالقرآن؟! القرآن يأمرنا بالعمل به، الله يأمرنا بالعمل به، والسنة هي آخر ما جاء من عند الله من الوحي منزلاً على محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك حصلت لي قضية مع إمام من الأئمة، كانت لدي محاضرة في مسجده، وسئلت فيها عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف؟ فذكرت أن هذا الأمر لم يقع في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين ولا في عصر أتباع التابعين، وأن قاعدة أهل السنة: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وهي مخالفة لقاعدة المشركين الذين يقولون: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، ونحن نقول: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وأنها إنما عرفت في القرن الرابع الهجري في بدايته في أيام العبيديين، فالشيخ هذا تقدم للتعقيب فقال: فعلاً هي سنة، ولكنها تأخرت مشروعيتها فشرعت في القرن الرابع من الهجرة، فقلت: الإمام يحدث عن جبريل لأنه نزل في القرن الرابع الهجري، وتعرفون أن الحكم في الشرع خطاب ربنا، وكل طلاب العلم درسوا في منظومة ابن عاشر الحكم الشرعي خطاب ربنا، فإذاً كيف تكون المشروعية في القرن الرابع الهجري؟! إن هذا من الأمور المضحكة التي يعجب لها الإنسان. ومثل ذلك ما يحصل في المقابل أيضاً من أن بعض الناس يتعصب ضد هذه الفروع الفقهية التي جمعت ويسرت وسهلت وهي خدمة للكتاب والسنة، وفي المقابل لا يستطيع هو أن يوجد بديلاً عنها، إذا سألته عن تصحيح صلاة أو عقد نكاح أو عقد بيع أو أي عقد من العقود ليس لديه حل؛ لأنه لم يقرأ من الشرع إلا أحاديث محصورة فقط، ليكن في أحسن الأحوال قرأ العمدة وهي أربعمائة حديث في الأحكام، لكن يا أخي! بقي الكثير، فأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي وصلت إلينا أكثر من ثلاثمائة ألف حديث تقريباً، وأحاديث الأحكام منها أحد عشر ألف حديث تقريباً، وأنت ما درستها كلها ولا أحطت بها، فلذلك لو لم تطلع على دليل فرع من الفروع فليس معنى ذلك أنه لا وجود له، ومن القواعد المسلمة في الفقه: أن عدم العلم بالشيء ليس علماً بعدمه، أي: إذا لم تعلم أنت بهذا الشيء فليس معنى ذلك أنك تعلم عكسه، ومن هنا فيمكن أن تقول: لم أطلع على دليل الفرع الفلاني، لكن لا يمكن أن تقول: الفرع الفلاني ليس عليه دليل، وهذا ما يتجاسر عليه كثير من صغار الطلبة يقولون: المسألة الفلانية قالها خليل في المختصر، أو ابن أبي زيد في الرسالة وليس عليها دليل، أقول: يا أخي! من أين لك أنها ليس عليها دليل؟! حسناً نحن عرفنا أنك لا تعرف دليلها، ولكن ما يدريك أنها ليس عليها دليل؟! هل أحطت بكل الأدلة؟! إن مثل هذا النوع هو من الجسارة والشناعة في الدين التي تؤدي إلى التطرف والتعصب، وهذا النوع هو الذي ينبغي أن يسمى بالتزمت في زماننا هذا، إذا كان التزمت موجوداً فالتزمت مقصود به نبذ الاجتهاد في محل الاجتهاد، أو محاربة الدليل في محل الدليل، والطعن في الدليل عند وجوده هو من التزمت والبقاء مع تقليد آخرين، وأنا أضرب مثلاً للتقريب هو: أن الصبي الصغير إذا مر من حوله إنسان تعلق بثيابه يريد أن يحمله؛ لأنه ضعيف عن المشي عاجز عنه فيريد من يحمله للمسافة، كذلك الجاهل يقلد غيره ويتعلق به؛ لأنه عاجز عن أن يأخذ الحكم من الدليل فيتعلق بغيره فيمسك ثيابه يريد أن يحمله، فهي عادة صبيانية مازالت موجودة ينشأ عليها بعض الصبيان وتستمر معهم طيلة حياتهم، ولا ننكر أن بعض الناس عليهم أن يسألوا أهل الذكر إن كانوا لا يعلمون، لكن مع هذا ينبغي لمن سأل أهل الذكر في مسألة أن يسأل عن دليلها حتى يأخذ على بينة ويترك على بينة.

الاختلاف الفقهي رحمة

الاختلاف الفقهي رحمة ثم بعد هذا لابد أن نعلم أن الخلاف الفقهي الاجتهادي هو من توسعة الله على عباده ومن نعمه عليهم، وينبغي أن يحمدوا الله عليه، فلو كان في الدنيا مذهب واحد لما استطاع الإنسان أن يعمل به في كل الجزئيات. ومن العجائب أني لقيت رجلاً إنجليزياً من الإنجليز المسلمين في أدنبرة شمال بريطانيا عنده دعوة يدعو إليها، وقد استجاب له كثير من المسلمين البريطانيين والإسبانيين، فسألته عن أساس دعوته فقال: إنه يريد أن يوحد العالم على أساس المذهب المالكي، فقلت له: يا أخي! أولاً وحد لنا المذهب المالكي فقط، المذهب المالكي عندنا فيه كثير من الأقوال، فـ مالك نفسه رجع عن مائة وخمسة وتسعين مسألة ما بين المدونة والموطأ، وله أقوال متنوعة ما بين المدونة والموطأ، وما روى عنه أصحابه فيه عدد من المسائل الكثيرة التي فيها خلافات في الرواية عن مالك نفسه، يروي عنه ابن القاسم شيئاً، ويروي عنه أشهب خلاف ذلك الاجتهاد؛ لأن اجتهاده متنوع، ومالك غير متعصب، ولم يكن أبداً يتعصب لرأيه، بل كان صاحب حق وصاحب دليل، فما وجد الدليل عليه أخذ به، ويعلم أنه غير محيط بكل الأدلة، فإذا جاءه دليل صحيح عنده تراجع عن قوله الأول وأمر بمحوه، والممحوات مشهورات عند المالكية، وهي ثمان مسائل أمر مالك بمحوها، وكانت من رأيه هو اجتهد فيها ورآها ثم رجع عنها، وقال: هذه عليها ظلمة فاطمسوها، رأى أنها لا دليل عليها وأن فيها ظلمة في الاجتهاد فأمر بمحوها واشتهرت بالممحوات، وهي دليل على ورع مالك ورسوخه في العلم وجلالة قدره رضي الله عنه وأرضاه. كذلك فإن أصحاب مالك خالفوه في مسائل كثيرة، فهذا ابن القاسم في المدونة كثيراً ما يقول: وكان مالك يوماً يقول فيها كذا وأنا أرى خلاف ذلك، وكثيراً ما يقول أيضاً بعد أن يروي عن مالك: سمعته يقول فيها كذا والذي عندي فيها غير ذلك، وقد ذكر خليل في المختصر مسائل اختلف فيها قول مالك وقول ابن القاسم منها مثلاً: إذا وصل الإنسان إلى سجود التلاوة في القراءة وهو قائم يقرأ فسها فركع بدل السجود هل يعتد بتلك الركعة أو لا؟ فاختلف قول مالك وابن القاسم، فـ مالك رأى أنه يعتد بهذا الركوع وأنه قد تجاوز السجدة فسقطت عنه، وابن القاسم رأى أن هذا الركوع سهو وأنه لا يعتد به وأنه يتجاوزه إلى السجود، ويلزمه سجود بعده. وقد أشار إلى هذا خليل في المختصر قال: (وسهو اعتد به عند مالك لا ابن القاسم). ونظير هذا مسائل كثيرة، ثم إن الخلافات في المذهب المالكي دون ذلك كثيرة جداً، فالخلاف بين ابن وهب وابن نافع، والخلاف بين أشهب وابن القاسم كثير جداً، حتى بعد هذا فمدارس المالكية أربع: المدرسة المدنية وشيخها عبد الملك بن الماجشون ثم مطرف ثم المغيرة، والمدرسة العراقية وشيخها القاضي إسماعيل، وأبو مصعب الزهري ثم بعدهما عدد من الأتباع، والمدرسة المصرية: وشيخها ابن القاسم ومعه أشهب وابن نافع وابن عبد الحكم وغيرهم، والمدرسة المغربية وهي تبدأ من القيروان وشيخها من أصحاب مالك علي بن زياد والبهلول بن راشد، وغيرهما من أصحاب مالك كـ ابن غانم، وعبد الله بن فروخ، ثم بعد ذلك سحنون وأتباعه. فهذه أربع مدارس كلها داخل المذهب المالكي وكلها لها أبواب، وأنتم تعرفون أن خليلاً رحمه الله كثيراً ما يقول في المختصر: (قولان)، وذلك إذا لم يترجح أحد القولين وكانت المسألة فيها قولان على حد سواء، فإذا أردت أن توحد الناس مثلاً على مذهب مالك فبأي القولين ستأخذ، وهما قولان متساويان في مذهب مالك، كذلك كثيراً ما يقول لفظ (خلاف) وهو يشير به إلى أن اثنين على الأقل من المتقدمين اختلفا في مسألة فرجح بعض المتأخرين واحداً من القولين ورجح بعضهم القول الآخر، فبأي القولين ستلزم الناس حتى تجمعهم على قول واحد.

التقاطع والتدابر بسبب الاختلاف

التقاطع والتدابر بسبب الاختلاف ثم إن من أسباب الخلاف السائدة المنتشرة بين الناس في هذا الزمان ما يحصل من التقاطع والتدابر؛ بسبب آراء يمكن أن يجلس لها الناس على سواء فيحلون الخلاف فيها، فتشتهر اليوم كتب الردود وأشرطة الردود، والمطابع تشتغل بطبع الردود التي شغلت المكتبات وشغلت الناس وبذل فيها المال والجهد والوقت، وكان بالإمكان ألا يكون لهذه المسألة وجود أصلاً، فالذي تخالفه وتريد أن ترد عليه لماذا لا تذهب إليه وتجلس معه على سواء وتناقشه في المسألة؟ حتى إذا اقتنع برأيك فالحمد لله وإن لم يقتنع به اقتنعت أنت؛ لأنك لا تستطيع إقناعه؛ لأنه هو متمسك بدليل أيضاً، ومن هنا فستعذره. إذا اتسع علم الإنسان فهو مدعاة لسعة إنصافه للناس، وما من أحد يتسع علماً إلا اتسع صدره للخلاف، واستطاع أن يدرك أن الآخرين لهم متمسكات. وقد أخبرني أحد الإخوة الأفاضل وهو الأستاذ محمد أنس اللُبّ حفظه الله وشفاه وعافاه أنه يرى أن قوة العلم تشبه قوة الجهل، يقول: من وصل إلى مستوى رفيع من العلم يصل إلى إنصاف مثل إنصاف الجاهل المطلق؛ لأن الجاهل المطلق الذي لا يعرف شيئاً وليس لديه دليل في أية مسألة، لا يتهجم على القائل بها، والعالم الذي يعرف كثيراً من المسائل لا يرى أحداً يأخذ بقول في مسألة إلا عرف مأخذه وعرف دليله فعرفه وسكت عنه أيضاً، فيقول: إن قوة العلم تشبه قوة الجهل وبينهما تناسق. ولذلك إنما يقع التعصب من نقص العلم، أما إذا كان الإنسان صاحب اطلاع وسعة علم فإنه لابد أن ينصف الآخرين، وأن يعرف مآخذهم، وأن يعلم أنهم جميعاً لهم عقول قسمها الله بينهم، وهذه العقول هم متفاوتون فيها لا من خلقتهم ولا من تدبيرهم، بل بأمر الله سبحانه وتعالى الحي القيوم الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقد أعطى كل إنسان حظاً من الفهم والعقل لم يعطه الآخر، وما من أحد إلا وهو راض عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به، فأقل الناس عقلاً يرى أنه أعقل الناس، ومن هنا فيمكن أن يفهم فهماً، وهذا الذي يراه وهذا الذي أداه إليه اجتهاده فهو معذور فيه، ولو بعث يوم القيامة على ذلك الفهم وهو يعبد الله به لكان معذوراً، لأنه أقر بالكتاب والسنة في رأيه هو، وسلك طريق النجاة في رأيه فهو معذور، والآخر الذي يخالفه أيضاً أخذ بمقتضى عقله وفهمه ومستواه، ولكل حظه ونصيبه. ثم إن علينا كذلك أن نعلم أن حصول الخلاف في مثل هذه الأمور الاجتهادية سواء كانت فقهية أو دعوية، ينبغي أن يعلم أن الشيطان يزيده، ويجعل من الحبة قبة، وينفخ فيه نفخاً؛ لأن الشيطان يحب البغضاء ويحب الشحناء بين الناس، فهو يسعى دائماً إذا حصل أي خلاف في أية مسألة أن ينفخ في ذلك الخلاف حتى تتأجج ناره؛ لأنه لا يرضى أن يكون المسلمون على قلب رجل واحد، وقد شعر بذلك مالك رحمه الله حين كانت المكاتبة بينه وبين الليث بن سعد رحمه الله في مسائل اختلفوا فيها، فكتب إليه مالك: أنه وجد عمل أهل المدينة على تلك المسائل، وأنه لن يعدل عن قولهم، فكتب إليه الليث: أن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرق به أصحابه في الآفاق، وأن أصحابه لم يكونوا كلهم في المدينة، فكتب إليه مالك في الأخير: أن الخلاف في هذه الأمور لا يفسد للود قضية، فودنا كما هو موصول ورحم العلم موصول بيننا، وكلنا يقدر الآخر ويحترمه، وخلافنا في هذه المسائل لا يفسد للود قضية! وهذا من العقل والتدبير ولذلك ينبغي أن نلاحظه، وأن يستشعر كل إنسان منا أنه كثيراً ما يدخل الشيطان في القضية، يريده أن ينتصر لنفسه أو أن يتعصب لرأيه، وقد كان الشافعي رحمه الله يقول: ما ناظرت أحداً إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه، فإن ظهر على لساني خشيت أن أفتن، وإن ظهر على لسان خصمي عرفت الحق ولم أفتن. فالمهم أن تعرف الحق وليس المهم أن تكون أنت منتصراً على الآخر، فهذا من الانتصار للنفس وهو من عمل الشيطان.

طرق حل الخلاف واجتناب الوقوع فيه

طرق حل الخلاف واجتناب الوقوع فيه إن من الأمور التي تحل الخلاف: أن نعلم أن الناس جعلهم الله عز وجل مراتب ودرجات في العلم، فإذا كنت يا أخي تستشعر أن أخاك لديه من العلم ما ليس لديك، وأنه ائتمنه الله على ما لم يأتمنك عليه، فلابد أن تقدر على الأقل ائتمان الله له، والله اختاره أميناً على الوحي فجعل ذلك تحت يده، فكيف تغبطه أنت على ذلك؟! ومن هنا فقد جاءني ذات يوم شاب صغير من طلبة العلم في كلية الشريعة، ينتقد أحد العلماء انتقاداً لاذعاً ويسب ويشتم، فقلت له: يا أخي! أيكم أعلم بكتاب الله؟ قال: هو أعلم بكتاب الله! قلت: فأيكم أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! قلت ما ظنك أيكم أخشى لله وأشد خوفاً منه؟ فسكت! فقلت: يا أخي! إذا كان أعلم منك بكتاب الله وأعلم منك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخشى منك لله، فكيف تتجاسر عليه بمثل هذا الكلام؟! إن الإنصاف يقتضي أن يستشعر الإنسان أنه فوق كل ذي علم عليم، وأن كل إنسان لا ينبغي أن يتجاوز حده، وأنه لا يضره لو رجع إلى الحق، فقد كتب عمر رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). وقد أخبرني جدي محمد بن علي رحمه الله أنه كان يعجبه في العلامة أحمد بن أحمدي رحمه الله سرعة رجوعه إلى الحق، فيقول: قد كان يخالفني في مسائل، ففي أول الأمر يمتنع فيها من المناقشة، ثم بعد يسير يقف ويقول: أشهدكم أني قد رجعت، وحينئذ لا يجد أية غضاضة وهو العلامة أحمد بن أحمدي يعلن على الناس أنه رجع، فالأمر ميسور، ولا يدعي العصمة، وإنما اجتهد بعقله الآن في هذه المسألة واجتهد بعدها اجتهاداً آخر فجاء اجتهاده الثاني ناقضاً لاجتهاده الأول فرجع. إن الإنسان إذا أحس بالأمانة التي يتحملها، وأحس بجسامة التوقيع عن رب العالمين والإخبار عنه، أحس بعظم هذا الأمر، ولم يكن ليلقي الكلام على عواهنه، فإن الله تعالى يقول في كتابه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم من أعظم ما نهى الله عنه في كتابه. نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يسددنا لأحسن الأقوال والأعمال، وأن يصرف عنا سيئها، لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا هو، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تعدد الجماعات الإسلامية

حكم تعدد الجماعات الإسلامية Q هل تعدد الجماعات الإسلامية يعتبر تفرقاً؟ A إذا كان ذلك على أساس الاجتهاد فلا يعتبر تفرقاً، بل هو اجتهاد في أمر يسوغ فيه الاجتهاد، وهو تنوع لا تضاد، والتنوع كثيراً ما يؤدي إلى الإخصاب، فالله سبحانه وتعالى جعل للإنسان عينين وأذنين ويدين ورجلين، فهذا التنوع لا يقتضي تضاداً والجماعات التي تعمل للإسلام أولوياتها تتنوع ولا تتضاد، فما تقوم به كل جماعة تحتاج إليه الأمة. ولكل جماعة ساحتها والمستمعون لها والصادرون عن أمرها والمقتدون بها، وهم محتاجون إليها، ولو لم توجد تلك الجماعات لما سد ذلك الفراغ، لكن لابد من التعاون فيما بينها والتآخي في ذات الله ونصرة بعضها بعضاً.

حقيقة الاختلاف المحمود والمذموم

حقيقة الاختلاف المحمود والمذموم Q أريد أن تبين لنا بعض الاختلاف المحمود، وكذلك بعض الاختلاف المذموم، وهل تعتبر المذاهب الأربعة نوعاً من الاختلاف المحمود؟ A ذكرت أن الاختلاف في الأمور الاجتهادية هو من الاختلاف المحمود ومن التنوع لا من التضاد.

الحكم على حديث الافتراق وتخليد المبتدعة في النار

الحكم على حديث الافتراق وتخليد المبتدعة في النار Q هل الفرق التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث تخلد في النار؟ وهل هناك وسيلة يمكن لأهل السنة أن يتحدوا معهم؟ A قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة) هذا جزء من الحديث الصحيح الذي أخرجه الحاكم وغيره وهو يصح برواياته المختلفة، أما الزيادة وهي: (كلها في النار إلا واحدة) أو (كلها في الجنة إلا واحدة) أو (من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي) فكل هذه الزيادات لا تصح. إذاً: الحديث الصحيح هو فقط إثبات الفرقة، وهو علم من أعلام النبوة ودليل من دلائلها، لكن كونها (في النار) أو (في الجنة)، (أو أنه مثل ما كان عليه وأصحابه)، هذا لا يصح منه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الفرق في هذه الأمة فما كان منها ابتداعاً وضلالاً في الدين ولم يكن صاحبه كافراً به، فإن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا يخلد في النار، ولو كان ضالاً مبتدعاً مهما بلغت معصيته، لكن الله سبحانه وتعالى إما أن يتجاوز عنه وإما أن يعذبه بقدر معصيته ثم يخرجه من النار: (وإن الله تعالى يخرج من النار أقواماً يوم القيامة قد احترقوا واسودوا وامتحشوا، فيلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يدخلون الجنة)، وأيضاً قد يعذبون في قبورهم، وعذاب القبر هو من المكفرات التي تخفف بها الذنوب، فإذا بعثوا يوم القيامة فإنهم يكونون قد نالوا جزاء ابتداعهم وخطئهم. وأما الذين ابتدعوا بدعاً مكفرة فهم قلائل ولله الحمد، والأمة قد نبذتهم وقد حوكموا وحكم عليهم وقوتلوا وقُتِلوا وأولئك لا يزال لهم أتباع في كل عصر من العصور وفي كل زمان، لكن أغلبهم ولله الحمد لا ينتسب للسنة.

حقيقة الفرق الإسلامية وتقييم المستعمر لها

حقيقة الفرق الإسلامية وتقييم المستعمر لها Q هل الجماعات والفرق الإسلامية هي من صنيع المستعمر لتفرقة المسلمين أم لا؟ A لا، بل هي على ضد ما يريده المستعمر، فالمستعمر يريد تدجين الشعوب، ويريد أن تكون الشعوب المسلمة غير حية ولا متحركة، وألا يكون لها قابلية للدين ولا عناية بالمسلمين، وألا تعتني بمثل هذه الأمور أصلاً، ولذلك ففي تقرير (كسينجر) نشر في إحدى المجلات وترجم إلى العربية، يقول: إن الإسلام هو العدو الوحيد للنظام العالمي الجديد، فالنظام العالمي الجديد لا يمكن أن تقف في وجهه أي أيدلوجية إلا الإسلام، وإذا كان الإسلام عدونا المستقبلي فلابد من دراسته دراسة (استراتيجية)، وبالدراسة تبين لنا أن الإسلام حطب وشرارات -فالحطب يقصد بها الشعوب المسلمة، والشرارات الجماعات العاملة للإسلام- فمهمتنا الأولى: هي الحيلولة بين الحطب والشرارات، أي: تشويه كل الشرارات حتى لا تصل إلى الحطب لتشتعل النار، والقضاء على كل الشرارات. ومهمتنا الثانية: هي وضع سطرة الخطورة للشرارات. يقول: قد صنفنا هذه الشرارات فوجدناها أقساماً: القسم الأول: الذين يهتمون بالجانب الحضاري الفكري في الإسلام، يقصد الجانب العقدي، وهؤلاء فيهم خطورة لا محالة؛ لأن الجانب الذي يهتمون به يبنى عليه غيره، فكل عمل يقوم به إنسان إنما هو منطلق من عقيدته وقناعته، فالذي يؤمن بأنه إذا مات دخل الجنة فذلك دافع له للشهادة في سبيل الله، والذي يؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بهذا الأمر صريحاً، وأنه خطاب موجه إليه هو فستدعوه قناعته هذه للعمل بمقتضى ما أمره به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. لكنه يقول: هؤلاء يمكن الاستفادة منهم لقابليتهم للانقسام، ولأنهم يكفرون سواد المسلمين، وهذا يقصد به حالات شاذة وأفراداً نوادر، وهو غالط في تصوره إذا كان يظن أن كل المهتمين في الإصلاح العقدي هم من هذا النوع الذي يراه، فهذا الحمد لله تضليل كبير منه وانحراف عن طريق الحق، فالذين يعتنون بإصلاح العقائد وبإعادة الناس إلى المنهج الصحيح هم أشد الناس رحمة بالناس، وهم ألطفهم بهم وهم أحرصهم على هدايتهم ولله الحمد، ولا يكفرونهم بل يريدونهم أن يكونوا من أهل الفردوس الأعلى من الجنة، ويريدون مساعدتهم على ذلك. القسم الثاني: الذين يهتمون بالجانب الخلقي والقيمي في الإسلام، وهو يقصد هنا مثل: جماعة الدعوة والتبليغ، والجماعات التي تعتني بالأخلاق والقيم مثل بعض الطرق الصوفية، ومثل بعض الدعوات الإصلاحية السابقة التي تعتني بالقيم والأخلاق والعمل. يقول: هؤلاء لاشك فيهم خطر عظيم؛ لأن لديهم قيماً تعارفوا عليها، والنظام العالمي الجديد ليست لديه قيم، فالقيم الأمريكية تختلف عن القيم الألمانية، عن القيم البريطانية، عن القيم اليابانية. فالنظام العالمي الجديد ليس له قيم، والإسلام له قيم موروثة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، لكن يمكن الاستفادة منهم؛ لأنهم يأخذون القيادات الطبيعية للمجتمع كالقائد العسكري والتاجر والمهندس والطبيب فيحصرونهم في زاوية ضيقة من المسجد فيحيدونهم عن الخلاف. هذا ظنه هو وتصوره هو، والواقع أن كثيراً من الذين خرجوا مع جماعة الدعوة والتبليغ من الذين ينصرون الله ويسعون لإعلاء كلمة الله، ومن الذين نفع الله بهم وأعز بهم الدين في كثير من الجهات وفي كثير من البلدان، لكن هذا تصوره هو وعداوته للمسلمين. القسم الثالث: الذين يهتمون بالجانب العلمي في الإسلام. وهو يقصد الجامعات الإسلامية، وينشرون الكتب ويحققونها، فيظن أنهم حركة مثل هذه الجماعات، هذا تصوره هو، وهو تصور خاطئ أيضاً. يقول: هؤلاء ليست الخطورة في ذواتهم وإنما هي في طلابهم من بعدهم؛ لأنهم يذكرونهم بأن لهم أمة لها أمجاد، فيطالبون بأمجاد أمتهم الضائعة. القسم الرابع: الذين يهتمون بالجانب الحربي في الإسلام. يقصد بذلك الذين يهتمون بالجهاد. ونكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الصبر عدة المؤمن

الصبر عدة المؤمن عمر الإنسان في هذه الدنيا قصير، فهو أيام معدودة وأنفاس محدودة، ثم ينتقل إلى ربه تعالى فيدخله الجنة أو النار، وقد جعل الله الحياة الدنيا داراً للابتلاء وساحة لمواجهة الأعداء، فأعداء الإنسان في هذه الحياة يحيطون به من كل جانب: النفس والشيطان والدنيا والهوى وإخوان السوء، ولا عدة للمؤمن في مجابهة جميع أعدائه إلا الصبر، وكفى به عدة وزاداً وسلاحاً.

أعمار الإنسان التي جعلها الله سبحانه وتعالى له

أعمار الإنسان التي جعلها الله سبحانه وتعالى له الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان خمسة أعمار:

عمر الإنسان في عالم الذر

عمر الإنسان في عالم الذر أولها: عمره في عالم الذر عندما: (مسح الله ظهر آدم ببطن نعمان، فأخرج منه ذريته، فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا). وفي ذلك الوقت دخل البشر جميعاً إلى حيز الوجود، فخاطبهم الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب الكريم، وأخذ عليهم العهد بعبادته، وأن لا يعبدوا الشيطان من دونه، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61].

عمر الإنسان في هذه الحياة

عمر الإنسان في هذه الحياة العمر الثاني: عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا: وهو عمر التكليف، ومدته يسيرة لا يمكن أن تقارن بالعمر السابق، فأنت قد دخلت الوجود في حياة آدم عليه السلام، ومن ذلك الوقت وأنت موجود في عالم الذر حتى برزت للوجود فوق الأرض، فوجودك الحالي مدته يسيرة محصورة، قد تعيش أربعين سنة، وقد تعيش خمسين، وقد تعيش ستين، ومصير الأمر ومنتهاه إلى الموت. فهذا العمر هو العمر الثاني، لكنه العمر المركزي من أعمال الإنسان، إذ فيه التكليف والابتلاء والامتحان؛ ولذلك يحتاج الإنسان فيه إلى عدة، وسنذكر بعض ما يعترضه من العوارض والآفات في هذا العمر القصير.

عمر الإنسان في البرزخ

عمر الإنسان في البرزخ العمر الثالث: عمر الإنسان تحت الأرض في البرزخ بعد الموت: وذلك العمر يبدأ من ضجعته في قبره، وأول ما يجد فيه ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، ثم بعد ذلك سؤال الملكين منكر ونكير، ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا هو محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثا، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا واتبعنا. وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. فأما المؤمن فيقول له الملكان: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً. وأما المنافق أو المرتاب فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمشاقص أو بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن. وذلك العمر يكون الإنسان فيه إما منعم أو معذب، فالقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، لكن مدته كذلك محصورة يسيرة؛ لانتهائها إلى البعث.

عمر الإنسان يوم البعث والنشور

عمر الإنسان يوم البعث والنشور العمر الرابع: عمر الإنسان فوق الساهرة عندما يبعث إلى ربه، فينادى الناس في قبورهم: هلموا إلى ربكم فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون. في ذلك الوقت تبدل الأرض غير الأرض، وتطوى السماء: {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16]، وفي ذلك الوقت يحشر الناس جميعاً إلى الساهرة، وهي أرض المحشر البيضاء، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر، تجمع الخلائق من لدن آدم إلى نهايتهم، يأتونها جميعاً حفاة عراة غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله، وتدنو الشمس من رءوسهم حتى تكون كالميل، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك، فمجموع ذلك: أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة يجرون جهنم جراً وهم صفوف، حتى تحيط بالناس من كل جانب. ولا يستظل الإنسان يومئذ إلا بظل صدقته فمن مستقل أو مستكثر، وذلك الوقت لاشك عمر طويل، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، ولهذا فإنه ينسى ما سبقه من الأعمار، فإن الله سبحانه وتعالى يسألهم {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:112 - 116].

عمر الإنسان الأبدي إما في الجنة وإما في النار

عمر الإنسان الأبدي إما في الجنة وإما في النار العمر الخامس: عمر الإنسان الأبدي السرمدي إما في جنة أو في نار: وهو الذي لا انقطاع له ولا انتهاء، أما في الجنة فيجد الإنسان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكلما ازداد فيها خلوداً وبقاء كلما ازداد تنعيماً، كل يوم هو في مسرة جديدة، فلا تنقطع ملذاتها، اللذة الأولى التي يجدها هي عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها تبقى معه طيلة بقائه في الجنة، ويأتي بعدها مليارات اللذات كل لذة تأتي على سابقتها دون انقطاع، فنعيم الجنة لا يزول، وكذلك لا يمل شيء مما فيها، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]. وأبلغ ما فيها من أنواع النعيم: النظر إلى وجه الله الكريم، فبينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فيرفعون أبصارهم فإذا الرب جل وعلا يناديهم من فوقهم {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجهه الكريم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23])، (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته). وإما في نار فيها غاية المذلة والهوان، وأنواع الخزي والعار؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى وصف حالها عند أول دخولهم لها، قال: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:12 - 14]. ووصف استقرارهم فيها فقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]. وأبلغ ما فيها من الهوان أنهم لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، يمكثون فيها وهم ينادون: يا مالك نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود, فيمكثون أربعين حولاً وهم يكررون ذلك، فيجيبهم فيقول: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فذلك العمر الطويل الذي لا انقطاع له، مرتب على هذا العمر القصير المنقطع المنتهي وهو عمر الإنسان في هذه الحياة.

من لطف الله بالإنسان أنه لم يكلفه في وقت ضعفه ونشأته

من لطف الله بالإنسان أنه لم يكلفه في وقت ضعفه ونشأته وعمر الإنسان في هذه الحياة بدايته من خروجه إلى الوجود، ومن لطف الله ورحمته أنه لم يكلفه بالتكاليف في وقت ضعفه ونشأته، فلم يكلفه إلا بعد البلوغ، عندما يبلغ يبدأ صاحب اليمين وصاحب الشمال يكتبان أعماله فلا يفوت شيء منها، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. فتبدأ الكتابة من لدن التكليف، وتستمر إلى أن يدخل الإنسان في غيبوبة الموت، وهذا العمر الدنيوي، الذي يجد الإنسان يوم القيامة كل شيء عمله فيه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30]. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].

حقيقة عمر الإنسان وما يعتريه من الأمل والأعراض والأقدار

حقيقة عمر الإنسان وما يعتريه من الأمل والأعراض والأقدار فلذلك لابد أن يدرك الإنسان حقيقة هذا العمر وعدته فيه، والمخاطر التي تهدده وتحيط به: وقد صح في صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مربعا، ثم خط خطاً بداخله، وخط خطاً خارجاً منه، وخط خطوطاً معترضة في جانبيه، ثم وضع إصبعه على الخط الداخلي فقال: هذا الإنسان، ووضع إصبعه على الخط الخارجي فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على الخط المعترض وقال: وهذا أجله، ثم أشار إلى الخطوط الأخرى فقال: وهذه هي أعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا). فأمل الإنسان طويل، يكون الإنسان لم تغرب عليه شمس هذا اليوم إلا وقد قدم إلى ما قدم، وانتقل عن هذه الدار إلى الدار الآخرة، ومع ذلك هو الآن بعد العصر يفكر فيما سينجزه غداً وبعد غد، وفي الشهر القادم، ويفكر في مشاريعه المستقبلية.

من رحمة الله بالناس أن خلق الموت والمصائب لتتسع الأرض لساكنيها

من رحمة الله بالناس أن خلق الموت والمصائب لتتسع الأرض لساكنيها فالأمل مستمر لا يقطعه إلا الموت، وذلك من لطف الله سبحانه وتعالى بالخلائق. وقد ورد في حديث ضعيف: (أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم أراه ذريته فقال: يا ربي! كيف تتسع الأرزاق لهؤلاء؟ وكيف تسعهم الأرض؟ فقال: إني خالق موتاً، فقال: إذاً لا يسعدون، فقال: إني خالق أملا). فالموت به تسع الأرض الخلائق، فالأرض جعلها الله (كفاتاً أحياءً وأمواتاً)؛ فلذلك يعيش الأحياء على ظهرها، ويدفن الأموات في بطنها فتتسع لهم بالموت، والأرزاق كذلك إنما تعم الخلائق بالموت. فلله حكمة في كل أمر، فما يأتي من الأوبئة والحروب والزلازل والبراكين وغير ذلك كله من أجل توسيع الرزق على أهل الأرض، فلو عاش الناس بأمان دون أمراض ودون حوادث ودون مشكلات لما اتسعت لهم الأرض، ولما وسعتهم الأرزاق، وجميع ما في الأرض من الأرزاق خلقه الله سبحانه وتعالى في اليوم الرابع من أيام خلق هذا الكون، ولذلك قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10]. كل ما في هذه الأرض من الأقوات قدر في ذلك اليوم الرابع، لكنه ينتقل من إنسان إلى آخر، فيأتي هذا الإنسان فيجمع من أنواع المال ما استطاع جمعه، ويموت فيفرقه أهله بعده يرثون ما كان عنده فيتفرق فيهم- وكل إنسان منهم يفرق أيضاً في ورثته ما ترك، فيتفرق المال بعد جمعه، ثم يجتمع لدى آخر يكلف بجمعه، وهكذا حتى تنتهي الدنيا.

الأرزاق باقية كما هي والخلائق يتعاقبون عليها

الأرزاق باقية كما هي والخلائق يتعاقبون عليها فالأرزاق هي هي لا تزاد، والخلائق ينتقصون بالموت؛ ليوسعوا على من سواهم؛ ولهذا فإن الناس لا يسكنون إلا في ديار السابقين، ولا يعيشون إلا على آثارهم: رب لحد قد صار لحداً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد فاسأل الفرقدين عمن أحسا من قبيل وآنسا من بلاد كم أقاما على زوال نهار وأنارا لمدلج في سواد ثم بعد هذا عندما خاف آدم أن لا يسعدون إذا عرفوا الموت قال الله: (إني خالق أملا)، فالأمل به يسعدون؛ لأن كل إنسان منهم يؤمل العيش: والمرء قد يرجو الحيا ة مؤملاً والموت دونه تنفك تسمع ما حييـ ـت بهالك حتى تكونه

أنواع الأقدار التي تعترض الإنسان

أنواع الأقدار التي تعترض الإنسان والأعراض التي تحيط بالإنسان من كل جانب: منها ما ينفعه في دنياه ويضره في آخرته، أي: يخيل إليه أنه انتفع به في الدنيا لكنه مضرة عليه في الآخرة. ومنها ما يضره في الدنيا، لكنه ينفعه في الآخرة، أي: يخيل إليه ضرره في الدنيا وهو نفع؛ لأنه ينفعه في الآخرة. ومنها ما يكون نفعاً فيهما معاً، فيكون نفعاً للإنسان في الدنيا وفي الآخرة. ومنها ما يكون ضرراً فيهما معاً. وهذه هي أنواع القدر الأربع، فالقدر يجب الإيمان بخيره وشره، حلوه ومره، فهو أربعة أقسام: النوع الأول: القدر الخير الحلو: وهو ما يعجله الله لعباده المؤمنين مما يعينهم على طاعته ويزيدهم سعادة وإقبالاً على الله، فالنعم التي ينعم الله بها على المؤمنين، ويوفقهم إلى استغلالها في طاعته، ويعينهم على شكرها له سبحانه وتعالى، هذه النعم هي من القدر الخير الحلو فهي خير لهم؛ لأنه أعانتهم على طاعة ربهم، وهي حلوة؛ لموافقتها لهواهم وما يحبونه. والنوع الثاني: القدر الخير المر: وهو ما يصيب الله به عبده المؤمن من المصائب التي تكون تكفيراً لذنبه وتطهيراً له ورفعاً لدرجته، فهي خير له؛ لأنها زادته تقريباً من الله سبحانه وتعالى، ولكنها مرة عنده؛ لأنه لا توافق مراده ومناه، وهذان القسمان يختصان بأهل الإيمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن). القسم الثالث: القدر الشر الحلو: وهو ما يصيب أعداء الله سبحانه وتعالى من الاستدراج والابتلاء بأنواع المسرات في هذه الحياة، وما يفتح الله لهم من التكنولوجيا والتقدم، مما يزيدهم طغياناً وبغياً وتجبراً وتكبراً على أهل الأرض، فهذا يزيدهم بعداً عن الله سبحانه وتعالى فهو شر لهم، ولكنه حلو؛ لأنه يوافق هواهم. والنوع الرابع: القدر الشر المر: وهو صناديد القدر، وهو ما يسلطه الله على أعدائه من عاجل أخذه الوبيل من تحطم الطائرات والمركبات الفضائية والحروب والفتن وغير ذلك، فهذا النوع صناديد -وشر لهم في الآخرة، فهي من القدر الشر المر فهي شر لهم لأنها تعجلهم إلى النار، وهي مرة لأنها لا توافق هواهم ولا يحبونها. فهذه الأعراض إذاً أنواع منوعة، فما يناله الإنسان من العافية والصحة إذا استغله في مرضاة الله سبحانه وتعالى كان من القدر الخير الحلو، وإذا استغله في معصيته كان من القدر الشر الحلو، وما يصيب الإنسان من المصائب إذا كان مؤمناً وصبر فهو من القدر الخير المر، وما يصيبه من المصائب إن لم يصبر أو لم يكن مؤمناً فهو من القدر الشر المر، نسأل الله السلامة والعافية. وهذه الأعراض كذلك منها الأمراض التي قد ينجو الإنسان من مرض ويتماثل للشفاء ليتأهب لمرض آخر، وقد ينجو من حادث ليموت في حادث آخر، وقد لا يتحقق له مراده في سفر من أسفاره، ثم يتحقق له في سفر آخر، وقد لا ينجح في محاولة من المحاولات ثم ينجح في أخرى، كل ذلك بتدبير الله وتقديره. فترون الإنسان يشترك في امتحان مثلاً: في امتحان البكالوريوس في هذا العام فلا ينجح ويعيد الكرة في العام القادم فينجح متفوقاً، والامتحان هو الامتحان، وهو لم يبذل من الجهد إلا ما بذل، لكن القضية كلها راجعة إلى قدر الله وما كتبه، فلم يكتب هذا الإنسان من الناجحين في هذا العام، وكتب من الناجحين في العام القادم وهكذا.

أعداء الإنسان الذين يحتاج إلى مقاومتهم وصدهم

أعداء الإنسان الذين يحتاج إلى مقاومتهم وصدهم والإنسان في هذه الأعراض فتحت عليه جبهات أي: أعداء يحيطون به من كل جانب، وهو محتاج لمقارعة هذه الأعداء وصد هجومها، وهذه الأعداء أعظمها خمسة:

عداوة الشيطان للإنسان

عداوة الشيطان للإنسان العدو الأول: الشيطان طويل العمر الذي قال الله فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، وهذه الآية جمعت بين الخبر الذي حقه التصديق وهو قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ)، والأمر الذي حقه التطبيق وهو قوله: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا). فالخبر يجب علينا تصديقه، فيجب علينا جميعاً أن نعتقد أن الشيطان عدو لنا، وهذا لا أرى أحداً يخالف فيه، والأمر وهو قوله: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، يوجب علينا أن نتخذه عدواً أي: أن نريه من أنفسنا عداوة، وهذه العداوة لابد أن نعرف أنه لا يمكن أن نقتله بها فهو من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، ولا يمكن أن نضربه فهو يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، ولا يضره شتمنا له وهجاؤنا له فقد لعنه الله. ولا يمكن أن نتخذه عدواً إلا بأحد أمرين: الأمر الأول: عدم اتباع خطواته، أي: الانقطاع عن خطواته بالكلية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، و (خطوات الشيطان) هي الفحشاء والمنكر، فإذا انقطع الإنسان عن الفحشاء والمنكر فقد عادى الشيطان؛ لأنه لم يتبع خطواته. والأمر الثاني: نقص جنده، فأي ملك يقاتل ملكاً قد لا يبرز واحد منهما للقتال، ولا يتضرر بالمعركة تضرراً مباشراً؛ لكن انتقاص جنده بالقتل والأسر هو تحقيق عداوته له، وجند إبليس هم {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، ونقصك لهم إنما هو بالسعي لهداية من استطعت التأثير عليه منهم، فإذا اهتدى على يدك شخص واحد، فقد حققت عداوتك لإبليس، وإذا اهتدى على يدك اثنان فقد زدت في العداوة له، وهكذا كلما ازداد عدد من اهتدى على يدك ازدادت عداوتك لإبليس؛ لأنك نقصت جنده بذلك. فهذه الجبهة هي الجبهة الأولى وهي من أخطر الجبهات؛ لأنها تأتي من كل الجهات كما قال الله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وقد أقسم بعزة الله عز وجل يميناً أكدها على إغواء أكثر البشر، قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]، وقد أخبر الله أن يمينه تحققت فيمينه ما بناها إلا على ظنه بالناس، فظنه بالناس أنهم يتبعون الشهوات؛ ومن لم يتبع الشهوات منهم تأثر بالشبهات. فلذلك ظن عليهم هذا الظن، فأقسم فحقق ظنه فيهم، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20]. و (صدَّق، وصدَق) معناهما واحد، وهما قراءتان إحداهما تفسر الأخرى (صدق عليهم إبليس ظنه) أي: صدق عليهم ما في ظنه، (وصدَّق عليهم ظنه) أي: أوقعه فيهم باتباعهم للشهوات والشبهات فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين.

عداوة إخوان السوء للإنسان

عداوة إخوان السوء للإنسان الجبهة الثانية: إخوان السوء: فالإنسان لابد أن يعيش في هذه الحياة الدنيا مع البشر، ولابد أن يخالطهم، ومن يخالطهم من الناس هم ثلاثة أنواع: النوع الأول: أخ كالغذاء لا يستغني عنه أبداً، وهو محتاج إليه في كل أحيانه، وهذا هو الذي يعينه على أمور الدين، فإذا جهل علمه، وإذا ضعف أعانه، وإذا نسي ذكره، وإذا وجده مقصراً نصحه، فهذا الأخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان بحال من الأحوال. النوع الثاني: أخ كالدواء، يحتاج إليه الإنسان في بعض الأحيان دون بعض، وهو الذي يعينه على أمور الدنيا، وهذا ينبغي أن يعده الإنسان دواء فيتقلل منه ما استطاع، فأنتم تعرفون الإعلان العالمي للصحة المكتوب على الأدوية كلها، إن هذا الدواء مستحضر مضر لصحتك فننصحك بالابتعاد عنه. فكذلك الأخ الذي يعينه على أمور الدنيا: دواء مضر بصحتك فننصحك بالابتعاد عنه، والتقلل منه ما استطاع الإنسان؛ وهذا النوع من الإخوان هم الذين يرفع إليهم الإنسان حاجته عندما لا يستطيع عليها فيعينونه، فهم كالدواء الذي ينبغي أن يقتصر الإنسان منه على محل الضرورة، ولا يستعمله من غير مرض أصلاً. والنوع الثالث: أخ كالداء، لا يعين الإنسان لا على دين ولا على دنيا، فهو داء مستشرٍ ومرض مزمن عضال يصاب به الإنسان فيشقى به في مدة من حياته، يفسد عليه وقته الثمين الذي كان بالإمكان أن يشتري به نفسه من عذاب الله، وتصل إليه عدواه بفيروسات الشبهات والشهوات والمضار العظيمة، فقد يكون الإنسان في نفسه في بيئة صالحة، وحصن أو قلعة من قلاع الإيمان، لا يصل إلى أهل الفجور، ولا يعلم ما هم فيه، ولكنه يخالط شخصاً من هذا النوع من الناس، فينقل إليه عدوى تلك البيئة الخبيثة، فيسمعه من الكلام ما يتأثر به، ويريه من الأفعال ما يتأثر به، ويزين له الأمور ويحببها إليه. وهذا امتحان من امتحانات هذه الدنيا، فهو عرض من أعراضها؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله من نبي ولا ولَّى من ملك إلا كان له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه)، فإذا كان هذا في الأنبياء والملوك فكيف بمن دونهم، فما من أحد إلا وله هذا النوع من البطانات؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا النوع من الأخلاء عدواً للإنسان يوم القيامة، فقال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].

عداوة نفس الإنسان له

عداوة نفس الإنسان له الجبهة الثالثة: جبهة النفس التي هي أقرب الأعداء إلى الإنسان: وهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فهي عدو للإنسان؛ لأنها لا ترضى منه إلا أن يكون مطففاً، والله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:1 - 5]، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، فالمطفف يريد أن تؤدى إليه حقوقه كلها من الآخرين ولا يريد أن يؤدي كل الحقوق التي عليه؛ فلذلك يحاول أن يأخذ حقه كاملاً وإذا لم يجد حقه غضب وأراد الانتصار لنفسه، والحقوق التي للآخرين لديه يحاول الانتقاص منها والاعتذار عنها ما استطاع. والذي يريد أن ينظر إلى عداوة نفسه له فلينظر إلى تباطئها عن فعل الخير، وإسراعها إلى الشر، فسيجدها مسرعة في الباطل، فإذا حان وقت قيام الليل مثلاً أو حان وقت إجابة المنادي الذي نادى بالصلاة جاء الكسل والنعاس، وإذا حان وقت الذكر لم يجد نفسه مستعدة إلا لأقل القليل، وإذا جاء وقت التعلم وتدبر القرآن لم يجد نفسه مستعدة لذلك، وتذكر ما له من المشاغل الدنيوية، أما إذا أخلد إلى الراحة، وأراد الاستكثار من أمور هذه الدنيا والرغبة فيها، فالنفس طيعة لذلك منقادة إليه، فهذا دليل على عداوتها للإنسان.

عداوة نعم الله للناس وذكر انقسامهم في شكرها

عداوة نعم الله للناس وذكر انقسامهم في شكرها الجبهة الرابعة: نعم الله سبحانه وتعالى السابغة على الإنسان: فالإنسان يحيط به من نعم الله سبحانه وتعالى ما لا يستطيع إحصاءه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، نعمة الخلق والرزق والهداية والجوارح والعافية وغير ذلك من أنواع النعم التي لا يحصيها الإنسان، وهذه النعم الناس فيها على أربعة أقسام: القسم الأول: الذين لا يعرفونها بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، فما دام أحدهم لا يشكو سرطاناً في كبده أو رئته، ولا يشكو قصوراً في عضلة القلب، ولا فشلاً في الكلى، ولا زمانة تعوقه عن الحركة، ولا ألماً في عضو من أعضائه، لا يستشعر هذه النعمة، فإذا زالت هذه النعمة تذكر ما كان فيه حين لا تنفع الذكرى، وما دام يجد غناه من أمور الدنيا، لا يتذكر نعمة الله عليه ولا يشكرها لله، ولا يدخر عند الله سبحانه وتعالى منها قرضاً حسناً، فإذا زايله ذلك وفارقه تذكره حيث يندم ولا ينفع الندم. ومثل هذا إذا كان في وظيفة من الوظائف يمكن أن يقف فيها موقفاً مشرفاً يبيض الوجه يوم القيامة، ينصر به الله ورسوله، فلا يشعر بهذه الوظيفة ويقول: لابد من الهدوء حتى تذهب العاصفة، والعاصفة ستذهب به هو، فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وجلوسه في كرسي الوظيفة كجلوسه على كرسي الحلاق يحلق له ثم يقوم ليترك مكانه لغيره ونحو ذلك، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]، حالهم حال قارون الذي قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]. لما ذكِّر بنعمة الله عليه قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، عرف النعمة بوجودها فافتخر بها وتسور على عباد الله، وعرف أنه متميز فعلاً، لكن لم يعرف من أين جاءته هذه النعمة؛ فلذلك لم يشكرها لله ولم تنفعه بين يدي الله شيئاً، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:81 - 83]. النوع الثاني: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فينشغلون بالأموال والأولاد والصحة والعافية والتمتع بملذات هذه الحياة، مع أنهم يعلمون أنها نعمة أنعم الله بها عليهم ولا يشكرونها لله، وهؤلاء حالهم حال الأعراب الذين حكى عنهم الله في قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11]. وقد حذر الله من هذا الاغترار فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11]. وقد بين الله عداوة ذلك إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:14 - 15]. والنوع الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون من أين أتت وأنها من عند الله، ولا ينشغلون بها عن شكرها، بل يستغلونها في مرضات الله وشكره: وهؤلاء هم الشاكرون وهم أقل عباد الله، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وهؤلاء هم المبشرون ببشارة الله سبحانه وتعالى لهم. فهذه النعمة إذاً جبهة مفتوحة على الإنسان من حيث لا يشعر، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].

عداوة الدنيا للإنسان

عداوة الدنيا للإنسان الجبهة الخامسة: هذه الدنيا نفسها، فهي دار الغرور، وهي ضرة الآخرة، والإنسان مادام فيها يغر بها فيرى المباني الجديدة الجميلة، ويرى السيارات الفارهة، ويرى الطائرة العملاقة، ويرى الشوارع الزاهية، فيظن أن هذا مستمر، ولكنه لو فكر لوجد كل ذلك في القمامة، سيجد كل مبنى إنما أقيم على أنقاض آخر، كان أحسن الموجود في وقته ولكنه هدم ورمي في القمامة، وكل سيارة سيجد أنه كان قبلها من السيارات ما كان أحسن الموجود، وقد رميت بقاياه في القمامة، بل الإنسان نفسه أحسن ما في الدنيا من الخلائق صورة بكماله وحسنه، فإذا بحث عنه الإنسان سيجد بقاياه في القبر بعد أكل الأرض لأجزائه وانتقاصها لما تنتقص منه. فلذلك هذه الدنيا نفسها عدو لهذا الجنس البشري؛ لأنها دار الغرور تغره بما فيها من الزخارف والشهوات؛ ولهذا حذر الله من النظر إلى ذلك منها فقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132].

جبهة الشيطان لها جيشان: الشهوات والشبهات

جبهة الشيطان لها جيشان: الشهوات والشبهات فهذه الجبهات المفتوحة على الإنسان يحتاج فيها إلى عدة، وبالأخص حين يعلم أن جبهة الشيطان لها جيشان أحدهما: جيش الشهوات، والآخر: جيش الشبهات، والناس مقسومون بين هذين الجيشين، منهم أسارى الشهوات، ومنهم أسارى الشبهات، فالمأسورون بالشهوة ينقسمون إلى قسمين؛ لأن الشهوة نفسها تنقسم إلى قسمين: إلى شهوة حسية وشهوة معنوية، فالشهوة الحسية كشهوة البطن والفرج، والشهوة المعنوية كحب الرئاسة وحب الانتقام وحب الشهرة والظهور وغير ذلك. والشبهة كذلك تنقسم إلى قسمين: إلى شبهة في التعامل مع الله، وشبهة في التعامل مع الناس، فالشبهة في التعامل مع الله تنقسم إلى قسمين: إلى شبهة عقدية تتعلق بالتصور والعلم، يلقيها الشيطان للإنسان، ولا يزال الشيطان بابن آدم يقول له: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول له: فمن خلق الله؟! فهذه شبهات الشيطان في المجال العقدي. والنوع الثاني من الشبهة في التعامل مع الله: الشبهة في التعامل معه في العبادة، فما يصيب الناس من الوسواس في الطهارة وفي الصلاة، وكذلك ما يعرض لهم من شبه الأعذار عن الازدياد من الخير؛ هي من شبهات الإنسان التي تحول بينه وبين الازدياد من الطاعة قبل أن يفوت الأوان. والنوع الثاني من أنواع الشبهات: الشبهات في التعامل مع الناس، وهي تنقسم إلى قسمين؛ لأن الإنسان فيها بين إفراط وتفريط: فالنوع الأول من الشبه في التعامل مع الناس: شبهة الإفراط؛ فيقدس الناس ويحترم بعضهم احتراماً كبيراً، حتى يضفي عليهم صفة من صفات الإلهية أو يعتبرهم بمثابة معصومين، ويستسلم بين يديهم حتى يكون كالميت بين يدي غاسل، وهذه لاشك مبالغة، فالإنسان يقدَّر ولا يقدس، وهو عرضة للقبول والرد، يمكن أن تحسن خاتمته ويمكن أن تسوء. والنوع الثاني من الشبه في التعامل مع الناس: هو شبهة التفريط؛ بأن يظن الإنسان بالناس ظن السوء، فهذا يتهمه بالشرك، وهذا يتهمه بالبدعة، وهذا يتهمه بالفسوق، وهذا يتهمه بالتقصير، وهو دائماً مقوم للناس، قد شغل وقته بتقويم الآخرين، وكل ما له من الاهتمام هو في مستويات الناس، وهذا النوع على خطر عظيم، ولذلك فقد أخرج مالك في الموطأ (أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).

العدة التي يقاوم الإنسان بها كل الجبهات هي الصبر

العدة التي يقاوم الإنسان بها كل الجبهات هي الصبر ما هي عدة الإنسان إذاً في وجه كل هذه الجبهات المفتوحة عليه، وهذه الأعراض الملمة به في مدته اليسيرة في بقائه في هذه الحياة؟ لابد أولاً أن يستحضر أن مدة بقائه في هذه الحياة هي مدة بقائه في سفر يسافره، فهو مسافر وانتفاعه بما ينتفع به مما في هذه الدار كانتفاع المسافر في ظل شجرة ينتظر الزوال لينطلق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل بشجرة). فإذا عرف ذلك استطاع حينئذ أن يبحث عن عدة يستعين بها في مسيرته وحياته، وهذه العدة هي الصبر! وهذا الصبر طاقة ربانية وقوة هائلة سخرها الله لعباده المؤمنين؛ ليتغلبوا بها على كل هذه العراقيل وعلى كل هذه المشكلات والجبهات المفتوحة عليه، وبدونها لا يستطيع الإنسان الانتصار على أية جبهة من الجبهات. فلابد إذاً أن يراجع الإنسان عدته هذه وأن يهيئها، فكثير من الناس يعدم هذه العدة بالكلية، فيعيش في هذه الحياة مع ما ذكرنا من المشكلات والجبهات أعزل ليس لديه أي سلاح للدفع ولا للاستحقاق، ومنهم من يكون صبره ضئيلاً ممزقاً يصدق فيه ما قال عبد الملك بن مروان للرجل الذي رأى عليه مجنه خلقاً فقال له: لمجن ابن أبي ربيعة خير من مجنك. ومنهم من يكون صبره أقوى من ذلك في مجال التعامل مع الله، ولكنه ضعيف في مجال التعامل مع الناس، ومنهم من يكون صبره قوياً في التعامل مع الناس، ولكنه ضعيف في التعامل مع الله، ومنهم من يقوي صبره ويستطيع أن يسد خلاته وخروقه، فكلما انخرق عليه الصبر من جانب سد ذلك الخرق وقواه، فيكون صبره قوياً يملك به نفسه، والسعيد من ملك نفسه. اللهم ملكنا أنفسنا بخير، ولا تسلطها علينا بشر.

أقسام الناس في الصبر عن معصية الله

أقسام الناس في الصبر عن معصية الله وهذا الصبر الذي هو عدتنا في هذه الحياة ينقسم إلى ثلاث شعب منها الصبر عن معصية الله، فشعبة الصبر الأولى أن يصبر الإنسان عن معصية الله. وهذا الصبر له بواعث منها: الوازع الديني الذي يكون في قلب المؤمن وهو برهان الله في قلبه يحول بينه وبين المعصية، والناس فيه متفاوتون، وهم فيه أنواع: النوع الأول: من يقوى وازعه في قلبه فيحول بينه وبين المعصية كالجبل، فلا يشم لها رائحة ولا يرى لها لوناً ولا حركة، ولا يسمع لها صوتاً، فهو محفوظ منها بالكلية، وهؤلاء هم الذين خلصهم الله لعبادته، فهم عباد الله المخلصون، وهم السابقون بالخيرات بإذن الله. والنوع الثاني: من يكون الحاجز بينهم وبين المعصية ويكون هذا الوازع في قلوبهم كالزجاج لا يستطيعون اختراقه والنفوذ منه، لكنهم يرون ما وراءه من الحركات والألوان، فربما شغلهم وربما أخذ جزءاً من تفكيرهم، وهؤلاء لا شك دون الأولين، ولكنهم مع ذلك على خير؛ لأنهم لا يستطيعون النفوذ إلى المعصية. والنوع الثالث: الحاجز بينهم وبين المعصية وهذا الوازع في قلوبهم كالماء، يمكن اختراقه بصعوبة، وقد يحجز بعض الأصوات وبعض الروائح، ولكنه ترى من ورائه الحركة والألوان، وينفذ منه بعض الأصوات، وتنفذ منه بعض الروائح، ويمكن اختراقه لكن بصعوبة، وهؤلاء أيضاً هم الظالمون أنفسهم الذين يمكن أن يخترقوا فيوقعهم الشيطان ويستزلهم في بعض الأحيان في بعض المعاصي، لكنهم سرعان ما يتوبون ويرجعون، وهم على خير بذلك؛ لأن الإنسان إذا كان كلما عصى بادر إلى التوبة فهو على خير، فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:17 - 18]. والنوع الرابع: الذين يكون الحاجز بينهم ويبن المعصية كالهواء، فهم معها في لحاف واحد، يغشونها في كل الأوقات لا يحول بينهم وبينها رؤية ولا سماع ولا رائحة ولا حركة ولا لون، وهؤلاء ضعف وازعهم الإيماني فلم يبق معهم من الصبر إلا أثره فقط، وهؤلاء هم أكثر الخلائق، فأكثر الخلائق في هذه الحياة ليس لهم من الصبر عن معصية الله إلا أثره فقط. ولذلك تجدون أن جمهور الذين يعيشون في هذه الحياة لا يميزون بين دائرتي الحلال والحرام، بل إذا عرضت على أحدهم مصلحة دنيوية لم يسأل نفسه هل هي حلال أو حرام؟ وإذا فكر في أمر لم يكن من خطوات تفكيره هل هو حلال أو حرام؟ بل ينظر ما يترتب عليه من المصالح، وماذا يجنيه منه من الأرباح، لكن لا يفكر هل هو حلال أو حرام؟ فدائرة الحلال ودائرة الحرام قد تحطم الحاجز بينهما فاختلطتا لديه فأصبحتا دائرة واحدة، وهذا حال جمهور الناس. لكن الذين يميزون بين الحلال والحرام فيفرون من الحرام كما يفرون من الأسد ولا يحضر لهم على بال أصلا، ويقنعون بالحلال الذي أحل الله لهم ولا يتعدونه إلى ما سواه، فهؤلاء قد قوي وازع الله في نفوسهم وهم المتقون؛ ولذلك قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202]. {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف:201]، والطائف: نسيم الرياح الخفيف الذي يأتي بسرعة ويذهب، وفي القراءة السبعية الأخرى: قراءة عبد الله بن كثير المقرئ وأبي جعفر القارئ (إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) والطيف: ما يراه الإنسان في المنام، ومدة الرؤيا في النوم لا تتجاوز ثانية واحدة، يرى الإنسان الرؤيا الطويلة التي هي كالملحمة في مدة ثانية واحدة. (وإخوانهم) أي: إخوان الشياطين (يمدونهم في الغي) فيزيدونهم ويساعدونهم على الاستمرار في الغي ويشجعونهم عليه، ويقولون: افعلوا كما يفعل الناس، فهذا الأمر أصبح معمولاً به وأصبح سائداً لدى الناس فلم يعد فيه حرج، بل ينصحون به ويقولون: عليك أن تفعل كما يفعل الناس، وأن تتكسب كما يتكسب الناس

فقه الخلاف

فقه الخلاف إن الخلاف من ضرورات التعايش، فقد جعل الله البشر متفاوتين في الخِلقة والخلق والعقل، وهذا التنوع والاختلاف ناتج عن اختلاف العقول، ومن تفاوتت عقولهم فبالإمكان أن تتفاوت اتجاهاتهم، وألا تتحد رؤاهم ومواقفهم، وكل ذلك واقع، وفقه الخلاف يرتكز على بيان خطر الاختلاف والتحذير منه، وبيان أنواعه، وآدابه، وعلاجه، وما يجوز من الخلاف وما لا يجوز.

الخلاف من ضرورات التعايش

الخلاف من ضرورات التعايش بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. موضوع هذا الدرس: (فقه الخلاف) والعناصر التي سنتعرض لها فيه هي: أولاً: التحذير من الفرقة والاختلاف. ثانيًا: أنوع الخلاف. ثالثًا: آداب المتخالفين. رابعًا: علاج الخلاف. إن الخلاف من ضرورات التعايش، فقد جعل الله البشر متفاوتين في الخِلقة والخلق والعقل، وميَّز بعضهم على بعض، وهذا التنوع الذي جعلهم الله عليه مقتضٍ لئلا يتفقوا في بعض المسائل، وعدم اتفاقهم فيه إثراء وفائدة للبشر، وفائدة لأهل الأرض؛ فليس أصل الخلاف إلاَّ ممكنًا في كل أمرٍ نظرًا للتنوُّع، ولذلك يقول الحكماء: ما من أحدٍ إلا وهو راضٍ عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به، فأقل الناس عقلاً يظن أنه أعقل الناس، ومن هنا من تفاوتت عقولهم فبالإمكان أن تتفاوت اتجاهاتهم، وألاَّ تتحدد رؤاهم، وألاَّ تتحد مواقفهم، وكل ذلك ممكن.

التحذير من الفرقة والاختلاف

التحذير من الفرقة والاختلاف أول عنصرٍ أبدأ به هو ما جاء من النصوص في التحذير من الفرقة والاختلاف. فأقول: إن الله سبحانه وتعالى قد حذَّر من الفرقة والاختلاف في كثير من الآيات في القرآن، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:45 - 46]، وجعل الاختلاف نوعًا من أنواع العذاب فقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]، فجعل العذاب ثلاثة أقسام: - عذابًا منزلاً من الأعلى. - وعذابًا خارجًا من الأسفل. - وعذابًا في الوسط، وهو الخلاف. وجعله -كذلك- مظهرًا من مظاهر الشرك فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30 - 32]، و (من) هنا بيانية، أي أن المشركين هم الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا. وجعله منافيًا للرحمة فقال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]. وبيَّن براءة النبي صلى الله عليه وسلم من المختلفين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159]. وحض على اجتماع الكلمة وعلى التعاون فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:2]، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:103 - 105]. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقة والاختلاف، وجعل ذلك عامل هدم للأمم؛ فقد صح عنه أنه قال: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) وقال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).

أسباب الخلاف

أسباب الخلاف حذر صلى الله عليه وسلم من كل ما يؤدي إلى النزاع والخلاف؛ فقد ذكر الله سبحانه تعالى في كتابه أسباب النزاع؛ فذكر في سورة الحجرات وحدها ثلاثة عشر سببًا من أسباب النزاع وحسمها جميعًا.

تعدي الصلاحيات

تعدي الصلاحيات السبب الأول: قال سبحانه وتعالى في بداية سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]، فهذا سبب من أسباب الخلاف، وهو تعدي الصلاحيات وتجاوزها، فمن أخذ ما ليس له من الصلاحيات وتعدى الصلاحيات الممنوحة له؛ فذلك سبب من أسباب الخلاف.

سوء الأدب مع من يستحق الأدب

سوء الأدب مع من يستحق الأدب السبب الثاني: سوء الأدب مع من يستحق الأدب، فهو سبب من أسباب الخلاف، ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:1 - 5].

عدم التثبت في نقل الأخبار وتلقيها

عدم التثبت في نقل الأخبار وتلقيها السبب الثالث من أسباب الخلاف هو: عدم التثبت في نقل الأخبار وتلقيها، وفيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وفي القراءة الأخرى: (فَتَثَبَّتُوْا) {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].

غياب المرجعية

غياب المرجعية السبب الرابع: انعدام المرجعية، وقد حرمه بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7].

الظلم والاعتداء والبغي

الظلم والاعتداء والبغي السبب الخامس: الظلم والاعتداء والبغي؛ فهذا سبب لحصول النفرة والاختلاف، وقد حرمه الله بقوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10].

السخرية والتعالي

السخرية والتعالي السبب السادس: السخرية والتعالي، وقد حذر الله من ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].

اللمز والهمز

اللمز والهمز السبب السابع: اللمز والهمز، وقد حذر الله منه بقوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11].

التنابز بالألقاب والتصنيفات

التنابز بالألقاب والتصنيفات السبب الثامن: التنابز بالألقاب والتصنيفات، وقد حذر الله منه بقوله: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].

ظن السوء

ظن السوء السبب التاسع: ظن السوء، وقد حذر الله منه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12].

التجسس

التجسس السبب العاشر: التجسس، وقد حذر الله منه بقوله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].

الغيبة

الغيبة السبب الحادي عشر: الغيبة، وقد حذر الله منها تحذيرًا بليغًا بقوله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:12].

التفاخر بالأنساب والأحساب

التفاخر بالأنساب والأحساب السبب الثاني عشر: التفاخر بالأنساب والأحساب، وقد حذر الله منه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].

الدعاوي الباطلة

الدعاوي الباطلة السبب الثالث عشر: الدعاوي الباطلة، بأن يدعي الإنسان ما ليس له، وقد حذر الله منه بقوله: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14]. فهذه ثلاثة عشر سببًا من أسباب الفرقة والاختلاف تضمنتها هذه السورة الكريمة، وحسمت مادتها بالكلية.

أنواع الاختلاف

أنواع الاختلاف العنصر الثاني من عناصر هذا الدرس هو: أنواع الاختلاف، ومن المهم أن نعلم أن الخلاف ينقسم إلى: 1 - خلاف في التنوع. 2 - خلاف في التضاد.

اختلاف التنوع

اختلاف التنوع اختلاف التنوع غير محدود، وليس هو المقصود في النصوص الواردة في النهي عن الخلاف، بل هو من التنوع المحمود الذي يثري ويفيد.

اختلاف التضاد

اختلاف التضاد الخلاف المذموم هو اختلاف التضاد، وهو أنواع، ويرجع جمهورها إلى أربعة أنواع: 1 - الخلاف السياسي. 2 - الخلاف العقدي. 3 - الخلاف الفقهي. 4 - الخلاف المنهجي الدعوي. النوع الأول: الخلاف السياسي: وهو أول خلاف شهده المسلمون، وقد عُرف في الأمم السابقة أيضًا، وهو الخلاف فيمن يحكم؟ هل فلان بعينه يستحق ذلك ويكون هو الحاكم أو السلالة المعينة الفلانية؟ وهذا خلاف عصف بالأمم السابقة، وحصل -أيضًا- في صدر هذه الأمة، حيث اختلف الناس على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: خص الخلافة بأسرة واحدة هي أسرة علي بن أبي طالب، وهذا مذهب الشيعة. المذهب الثاني: عممها في سائر المسلمين، وهذا مذهب الخوارج كما قالوا: ألم تر أن الله أظهر دينه وصلت قريش خلف بكر بن وائل المذهب الثالث: خصها بقبيلة، وهو مذهب أهل السنة، حيث جعلوها في قريش. وقد استمر هذا الخلاف السياسي، وتوصلوا إلى أن ينقل الخلاف من الأشخاص والسلالات إلى الصفات، فتحدد صفات معينة وشروط معينة مستنبطة من الوحي، وتطبق على الناس، ومن كانت أبلغ فيه وأمكن؛ كان محل اتفاق، وكان أولى ولا محالة. ومما تجدر الإشارة إليه في الخلاف السياسي أنه لا يحل أن يكون حافزًا للتنكر للحق ومعارضته، فمن المعقول أن تقع معارضة في السياسية، لكن لابد أن تكون تلك المعارضة للباطل، فلا يمكن أن تكون معارضة للحق والباطل معًا أو للحق، فهذا غير مقبول شرعًا ولا عقلاً. النوع الثاني من أنواع الخلاف: الخلاف العقدي، ومن المعلوم أن أصول الدين الأصلية: هي الثوابت التي لا يقبل الخلاف فيها، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل في قوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) فهذه الستة الأمور هي أركان الإيمان، من آمن بها ولم يزد عليها دخل الجنة، ويبقى تفصيلاتها وجزئياتها، منها ما حسمته النصوص، ومنها ما ترك للاجتهاد، وما ترك للاجتهاد فيه خلاف كثير، وما وردت فيه النصوص منها ما لم يكن صريحًا قطعي الدلالة، ومنها ما كان قطعي الدلالة، لكنه غير قطعي الورود، فكان ذلك مثارًا للخلافات، وتلك الخلافات ينبغي أن يقتصد فيها، وألاَّ يفتح الإنسان أمام تنوعها، والمخاصمة فيها، ولهذا حذر الله من الجلوس مع الذين يخوضون في آياته فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:68 - 69]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، وقد كان أئمتنا يكرهون الخوض في ذلك، قال مالك للرجل الذي جاء يسأله في بعض تلك المسائل: (أرأيت إن جاء من هو ألسن منا فخالفنا -خالف ما أنا عليه وما أنت عليه- وأتى بقول أظهر لسنًا وحجةً أتتبعه؟ قال: نعم، قال: فإن جاء من هو ألسن منه وأقوى حجة؟ قال: تبعته، قال: ما هي إلا سلسلة متصلة). وأتاه أحد القدرية فقال: أريد المجادلة في القدر، فقال: (أما أنا فعلى بينة من أمري، وأنت شاك؛ فاذهب إلى شاك مثلك فجادله). وعندما سأله رجل عن صفة الاستواء قال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ وما أراك إلا صاحب سوء، أخرجوه عني). وقد كان كثير من الأئمة يتحرزون من الكلام في هذه الموضوعات، ويقولون: (سلني عما إذا أخطأت فيه قلتَ: أخطأتَ، ولا تسلني عما إذا أخطأت فيه قلتَ: كفرتَ). وقد توسع الناس -وبالأخص في أيام المتأخرين- في المناظرات العقدية والخلافات التي شغلوا بها الأمة، وأكثروا فيها من التعصب والفرقة، والأمة في غنىً عن الخوض فيها أصلاً، فقد قال العلامة الشيخ بابل بن الشيخ سدية: كن للإله ناصرًا وأنكر المناكرا وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائرا ولا تعد نافعًا سواءه أو ضائرا واسلك سبيل المصطفى ومت عليه سائرا فما كفى أولنا أليس يكفي الآخرا وكل قوم أحدثوا في أمره مهاجرا قد زعموا مزاعمًا وسودوا دفاترا واحتنكوا أهل الفلا واحتنكوا الحواضرا وإن دعا مجادل في أمرهم إلى مرا (فلا تمارِ فيهم إلا مراءً ظاهرا) ويقول أيضًا: آمن أخي واستقمْ ونهج أحمد التزمْ واجتنب الطرق لا تغررك أضغاث الحلمْ لا خير في دين لدى خير القرون قد عُدِمْ أحدثه من لم يجئ قطع بأنه عصمْ من بعد ما قد أنزلت (اليوم أكملت لكمْ) وبعد ما صح لدى جمع على غدير خمْ ادعُ إلى سبيله وخص في الناس وعمْ وقل إذا ما أعرضوا (عليكمُ أنفسكم) والخلاف العقدي منه الخلاف السلوكي، كالخلاف مع الصوفية، وهو داخل فيما سبقت الإشارة إليه. النوع الثالث: الخلاف الفقهي: الخلاف الفقهي: وهذا الخلاف أغلبه إما في اعتبار الدليل دليلاً، أو الخلاف في دلالته، أو بسبب عدم بلوغه أصلاً. وأسباب هذا الخلاف أرجعها العلماء إلى اثني عشر سببًا، والأصل فيه أنه إثراء للفقه، وتوسعة على الأمة، وعناية بدراسة الشرع؛ لذلك ينبغي ألاَّ يلحق بخلاف التضاد، وإنما ينبغي أن يجعل من خلاف التنوع؛ وذلك إذا خلا أهله من التعصب، وعرفوا أن الأمور الاجتهادية وسع الشارع فيها ولم يحسمها بالدليل؛ لحصول التوسعة فيها، فهي من العفو، ولذلك قال الشعراني: (إن للشريعة سورين: سور الرخصة وسور العزيمة، والمتخالفان من أهل المذاهب داخل هذين السورين، فمن نحا جهة التحريم فقد اقترب إلى سور العزيمة، ومن نحا إلى جهة الإباحة فقد اقترب إلى سور الرخصة، والجميع بين سوري الشريعة). الخلاف المنهجي: النوع الرابع: الخلاف المنهجي: ومن أبرز أمثلته الخلاف الدعوي بين المناهج الدعوية المختلفة، وهذا الخلاف هو مثل الخلاف الفقهي، فلا شك أن الدعوة يُحتاج فيها إلى توسيع المدارك وتنويع الوسائل، وينبغي أن تكون مناهجها كجوارح البدن؛ فللبدن عين لا يمكن أن تقوم مقامها الأذن، والأذن لا يمكن أن تقوم مقامها الرجل، والرجل لا يمكن أن تقوم مقامها الشفتان أو الفم مثلاً، والفم لا يمكن أن تقوم مقامه اليد وهكذا، فكلها جوارح مفيدة يحتاج إليها، والقلب يوجه الجميع، ويستفيدوا منه، وهي وسائل إدراكه، فهكذا ينبغي أن يكون التنوع في المناهج من باب التنوع لا من باب التضاد، ولكن مع ذلك قد جعل في كثير من الأحيان من باب التضاد، وما ذلك إلا للتعصب المقيت الذي نحن في غنى عنه. هذه هي أهم أنواع الاختلاف.

الآداب التي يقتضيها الاختلاف

الآداب التي يقتضيها الاختلاف العنصر الثالث: الآداب التي يقتضيها الاختلاف: ينبغي أن نعلم أن المتخالفين لابد أن يكونوا غير معصومين، فليس فيهم معصوم، فالمعصوم يلزم الانقياد له مطلقًا، ولا عصمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمعصوم بعده الإجماع فقط، أما إذا حصل الخلاف فلا عصمة حينئذٍ. وهنا عشرة آداب لابد من استحضارها في مسائل الخلاف:

البدء بنقاط الاتفاق قبل نقاط الاختلاف

البدء بنقاط الاتفاق قبل نقاط الاختلاف الأدب الأول: البدء بنقاط الاتفاق قبل نقاط الاختلاف، فإذا حصرنا نقاط الاتفاق هانت نقاط الخلاف وذابت، وسهل تجاوزها أو الاتفاق فيها على أمر، وإنما تشتد شقة الخلاف وتكبر الفجوة بسبب البدء بنقاط الاختلاف أولاً، وتجاهل نقاط الاتفاق التي قد تكون أكبر. من أشهر الخلافات بين المسلمين اليوم -وبالأخص بين أهل السنة-: الخلاف في بعض المسائل العقدية، وأكثرها اجتهادية لم تحسم بالنص، إذا لم يُبدأ بمسائل الاتفاق وذُهب إلى مسائل الخلاف اتسعت شقة هذا الخلاف، لكن إذا ذهبنا إلى مسائل الاتفاق وجدنا أن أركان الإيمان ستة، وأن ثلاثة منها ليس فيها خلاف أصلي، وهي فيما يتعلق بالإيمان بالملائكة، وما يتعلق بالإيمان بالرسل، وما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر؛ هذه مسائل اتفاق. أما الثلاثة الأركان الأخرى؛ فأولاً: الإيمان بالله، وهو ثلاثة أقسام: اثنان منها -تقريبًا- ليس فيها اختلاف بين أهل السنة: الإيمان بربوبية الله للكون، والإيمان بألوهيته، فلا يخالف في ربوبيته إلا من كان خارجًا عن الإسلام، ولا يخالف في ألوهيته إلا بعض المنحرفين في جانب العبادة، فانحصر الخلاف في القسم الثالث، وهو الخلاف في أسمائه وصفاته. وأيضًا هذا قسمان الأسماء والصفات، فالأسماء لا اختلاف فيها بين أهل السنة، ويبقى الخلاف في الصفات. والصفات أيضًا ثلاثة أقسام: قسم منها صفات الأفعال، وهذه لا خلاف في جمهورها، كالإحياء والإماتة والخلق والرزق ونحو ذلك. ثم الصفات الأخرى صفات المعاني؛ وهذه -أيضًا- لا خلاف فيها، كالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام تقريبًا، وسيأتينا الخلاف في الكلام بمعنى التكلم. وكذلك السلوب من الصفات: كالقدم والبقاء والغنى والمخالفة للحوادث والوحدانية؛ فهذه لا اختلاف فيها. فانحصر الخلاف في الشق الثالث، وهذا يشمل بعض الصفات الذاتية، كالوجه واليدين والقدم والساق والأصابع والعين والشخص، وبعض صفات الأفعال اليسيرة جدًا كالاستواء والتكلم والنزول. فهذا عدد من الصفات يسير جدًا، والذين اختلفوا فيه اتفقوا على ثبوت النصوص الواردة فيه، وأنها حق، وأن الله أعلم بنفسه، لكن اختلفوا فقط: هل تفسر أو ما تفسر؟ فالذين قالوا بعدم تفسيرها أصلاً نجوا من كثير من التفصيلات، والذي قالوا بتفسيرها اختلفوا، فمنهم من قال: نفسرها بظاهرها مع تنزيهه عن التشبيه بالمخلوقين، ومنهم من قال: نؤولها بما يدركه العقل بأعمال القياس، كما نعمل القياس في آيات الأحكام وآيات الصفات، وكل من عند ربنا. أما الإيمان بالكتب المنزلة، فلا خلاف فيها إجمالاً، ولا خلاف في أن القرآن كلام الله، الخلاف فقط هو فيما يتعلق بالتكلم اللفظي، وهذا راجع إلى صفة من صفات الله، فقد اختلف: هل القرآن صفة الله أم لا؟ الذين يقولون: هو صفة الله مقصودهم: أن الله تكلم به، لكن هل يوصف هذا الكلام نفسه بكونه صفة بعد أن تكلم الله به؟ هذا محل خلاف: فالقرآن فيه صفة الله التي لا اختلاف فيها: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:14 - 16]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، وهذا ليس فيه خلاف أنه صفة الله، لكن فيه أيضًا صفة عدو الله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11 - 15]. {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:8 - 13]، فهذه من صفات عدو الله، وكونه يحفظ في الصدور، ويكتب في المصاحف، ويأتي يوم القيامة يجادل على صاحبه تتقدمه البقرة وسورة آل عمران كالغمامتين يقتضي انفصاله عن الذات، والصفة لا تنفصل عن الذات، فهذا سبب الخلاف، وهو سبب معقول، مع اتفاقهم على أن الكلام النفسي -الذي يعبر عنه بعضهم بنوع الكلام- أو جنس الكلام: صفة ملازمة لذاته، والاختلاف فقط في اللفظ الذي يسميه بعضهم آحاد الكلام، فتنحصر شقة الخلاف في مسألة ضيقة. أما الإيمان بالقدر فأكثر مسائله لا خلاف فيها، فلا خلاف في أن الأمور كلها بإذن الله، وأنها مكتوبة عنده، وأنها لا يقع منها شيء إلا بعد علمه به وكتابته، وهذا عند أهل السنة، واختلافهم فقط هو في أفعال العباد، هل هي من فعل الله؟ بمعنى هل العباد يكسبونها، ولهم إرادة وقدرة لا توجدها، أو أنها من فعل العباد، وهي من خلق الله؟ لم يختلفوا أنها من خلق الله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، إنما الخلاف فقط في نسبتها بعد ذلك، فمن المعلوم قطعًا أنها تنسب للمخلوق، وأنه يثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، ولكن وجه تعلق المخلوق بها: هل هو الفعل المطلق -أي: أنه هو الذي فعلها- وهذا هو الصحيح، أو أنها كسب أي: أن له كسب وإرادة لا تتعلقان بإيجادها، فتحصل الأعمال عند الإرادة والقدرة لا بها، وهذا الذي يسمى بنظرية الكسب. فالخلاف إذًا: محصور، وشقته محصورة، هذه هي مسائل الخلاف، في كبريات مسائل العقيدة، وما سواها كله تفصيلات وجزئيات، وهذا بين أهل السنة فقط، أما ما سوى ذلك فكله ابتداع، وخروج عن هذا المنهج العقدي الصحيح. فالبدء بنقاط الاتفاق من الآداب المهمة في مراعاة الخلاف.

عدم الجرح والاستطالة

عدم الجرح والاستطالة الأدب الثاني: عدم الجرح والاستطالة، فالمتخالفان لابد أن يتأدبا بالأدب الشرعي، فلا يستطيل أحدهما على الآخر ولا يجرحه، وقد قال الله تعالى في مخاصمة الكفار: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، وقال لموسى وهارون حينما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].

عدم رفع الصوت

عدم رفع الصوت الأدب الثالث: عدم رفع الصوت، فرفع الصوت في حال الخلاف مدعاة لدخول الشيطان، ومدعاة لترك الأدب السابق، وهو الاستطالة، ولهذا حذر الله تعالى منه فقال: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148].

قبول الحق والإنصات له

قبول الحق والإنصات له الأدب الرابع: قبول الحق والإنصات له، فلابد أن يكون المختلفان يطلبان الحق، وينصتان له، ويقبلانه، فالذي يصم عن الحق ولا يقبله لا يمكن أن يتأدب بأدب الخلاف أصلاً، ولهذا قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، فهم يستمعون أولاً ثم يتبعون، وعاب على الكفار قولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، فلابد من الإنصات للخصم حتى يسمع الإنسان ما عنده، ولابد أن يقبل ما في كلامه من الحق، ولهذا علمنا الله في مجادلة المشركين أدبًا عجيبًا فقال: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي على هدى، وأن المشركين في ضلال مبين، لكنه أتى بـ (أو) في هذا الأسلوب لأدب الخلاف؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في أدب الخلاف مع المشركين يخاطبهم بأحب أسمائهم إليهم، فلما أتاه عتبة بن ربيعة قال له: (اسمع أبا الوليد!) وكناه، وهذا يقتضي الأدب مع كل مخالف، فلا فائدة من نقص الأدب معه، وإنما يزيده نفرة، ولا يزيد الحق ظهورًا، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: (ما ناظرت أحدًا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه، قيل ولمَ؟ قال: إن ظهر على لسانه عرفت الحق ولم أفتن، وإن ظهر على لساني خشيت أن أفتن). وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الخلاف لا يقتضي استنكافًا عن الحق وإنكارًا له، بل قال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2]، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]؛ ولذلك فإن عمرو بن العاص رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم - أثنى على الروم بما علم فيهم من الخير، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من المشركين فأثنى عليهم ببعض الصفات الحميدة التي كانت فيهم كـ المطعم بن عدي وغيره.

عدم التعصب والاحتكار

عدم التعصب والاحتكار الأدب السادس: عدم التعصب والاحتكار: فلابد أن ينطلق المتناظران المختلفان من مبدأ طلب الحق والاستسلام له إذا ظهر، والرجوع إليه إذا استبان، فإذا أتيا وكل واحد يريد أن يفرض قوله على صاحبه، ويحتكر الحق لنفسه، ولا يريد أن يغير موقفه بحال من الأحوال؛ فلا يمكن أن يتفقا بوجه من الوجوه، وهذا التعصب مقيت مذموم. وقد كان مالك رحمه الله يقول في مسائل اجتهادية: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]، ويقول: (ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم). واحتكار الحق فيه خطورة عظيمة؛ لأنه يقتضي من الإنسان أنه يدعي العصمة لنفسه، والشافعي رحمه الله يقول: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، أي: الصواب عندي يحتمل الخطأ؛ لأنه ليس منزل من عند الله، وإنما هو اجتهاد مني أنا، ورأي غيري خطأ عندي -لأن الحق لا يمكن أن يختلف اختلاف تضاد- يحتمل الصواب -لأنه اجتهاد شخص محترم كذلك-. ومن هنا كان العلماء يحترم بعضهم أقوال بعض احترامًا عجيبًا، فهذا أبو يوسف صاحب أبي حنيفة مذهبه أن العلة القاصرة لا تصلح للتعليل، وأن أي نجس خرج من البدن ناقض للوضوء إذا تفاحش، فقرر ذلك يومًا في مجلسه فقال له رجلٌ: أرأيت إن كان الإمام قد جرحت ساقه فخرج منها دم فتفاحش، فصلى بالناس من غير وضوء أأصلي وراءه؟! قال: (سبحان الله! ألا تصلي خلف مالك؟!). فـ مالك كان يرى أن العلة القاصرة تصلح للتعليل، وأن الناقض إنما هو ما خرج من أحد السبيلين فقط، وأن ما سواه من النجاسة لا ينقض الوضوء. وكذلك فإن الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل عن تعليق الطلاق على النكاح: ذكر أنه لا ينفذ، قيل: أرأيت إن مررت بحلقة المدينة فأفتوني بخلاف ما تقول فآخذ بقولهم؟! قال: (سبحان الله! ألا تأخذ بقول مالك؟!). فقد كان جمهور أهل السنة يحترمون أقوال المجتهدين ويقدرونها، ولهذا قال الشافعي: (لا أرد شهادة أحد من أهل الأهواء، إلا الخطابية؛ فإن من مذهبهم أنهم يستبيحون الكذب لنصرة من وافقهم في مذهبهم).

الإنصاف

الإنصاف الأدب السابع: الإنصاف: أن يكون الإنسان منصفًا لخصمه، فإذا وقع هو في خطأ سهل عليه الاعتراف به، وإذا كان دليله ضعيفًا اعترف بذلك، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل). وقد قال العلامة رحمه الله: ليس من أخطأ الصواب بِمُخْطٍ إن يؤب لا ولا عليه ملامة إنما المخطئ المسيء من إذا ما ظهر الحق لَجَّ يحمي كلامه حسنات الرجوع تذهب عنه سيئات الخطأ وتمحي الملامة

الأمانة في النقل

الأمانة في النقل الأدب الثامن: الأمانة في النقل، فعلى كل واحد من المتخالفين أن يكون أمينًا في نقله، وألا ينقل عن الآخر ما لم يقله، حتى ولو كان لازم قوله، فإن لازم القول لا يعد قولاً، فلا ينسب لساكت قول، واللوازم كثير منها لا يخطر على البال؛ فلا يمكن أن يلزم باللازم أصحابه، ولا أن ينسب إليهم، وهذا قد تساهل فيه كثير من الناس مع الأسف، فيأخذون بعض اللوازم التي بعضها لا يلزم فينسبوها إلى صاحب ذاك المذهب، ويجعلونها من مذهبه، وهذا هو من التجني والكذب، فيلزم المؤمن أن يكون أمينًا في نقله، والأمانة أخت الدين، (لا إيمان لمن لا أمانة له)، وقد كان سلفنا يتحرجون جدًا من نسبة الأقوال، ويتأدبون غاية الأدب، فمثلاً: مسلم في الصحيح يقول: قال فلان: أخبرنا. وقال فلان: حدثنا؛ حتى لا ينسب إلى أحد قولاً لم يقله.

حسن الظن والتماس أحسن المخارج

حسن الظن والتماس أحسن المخارج الأدب التاسع: حسن الظن والتماس أحسن المخارج، فالمختلفان إذا كانا من أهل العلم والإيمان والتقوى فينبغي أن يحسن كل واحد منهما الظن بصاحبه، وأن يظن به أنه ما قصد إلا إعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، وأنه أعمل اجتهاده، وهذا الذي أداه علمه واجتهاده، وأنه مكلف بمقتضى عقله لا بمقتضى عقول الآخرين، ويُظن به أنه ما أراد إلا الخير. والتماس أحسن المخارج مطلوب دائمًا، كما التمس أحسن المخارج لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يلتمس ذلك لبعض، فهذا مهم جدًا، ولذلك قال علي رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر:47]: (نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حينما اختلفنا واقتتلنا). وعندما مر يوم الجمل على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قتيلاً، وقف عليه يبكي، وهو يقول: فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر فتىً لا يعد المال ربًا ولا يرى له جفوة إن نال مالاً ولا كبر فتىً كان يعطي السيف في الروع حقه [إذا ثَوَّبَ الداعي وَتَشْقَى بهِ الْجُزْرُ] فشهد له بهذه الصفات العظيمة التي يشهد بها الجميع لـ طلحة رضي الله عنه. وهكذا كانوا جميعًا يقر بعضهم لبعض بما فيه من الخير، ولذلك في كتابة معاوية رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه حين أرسل إليه يذكر سبب عدم بيعته له، وأن بيعة أهل المدينة وأهل العراق غير ملزمة لأهل الشام، وقال في آخر الكتاب: (وأما قربك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسابقتك بالإسلام فأمر لست أنكره أو قال: فأمر لست أدفعه). فهذا إقرار له بالفضل والسابقة بالإسلام والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عدم التشدد مع المؤمنين

عدم التشدد مع المؤمنين الأدب العاشر: عدم التشدد مع المؤمنين: فالتشدد إنما يكون مع الكفار، أما المؤمنون فحقهم الرحمة كما قال الله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، وكما قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. فالتشدد مع المؤمنين والتساهل مع الكافرين إنما هو دأب الخوارج والملحدين؛ ولذلك فإن الخوارج ذبحوا عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنهما على شاطئ الفرات، فاستطال دمه حتى قطع النهر، وجلسوا تحت ظل نخلة لرجل من أهل الذمة يختصمون فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض: إنكم قد جلستم في ظل هذه النخلة، ولم تستأذنوا صاحبها، وهو من أهل الذمة، فإما أن ترضوه، وإما أن تَكْفُرُوا، فذهبوا إليه يريدون أن يرضوه عن جلوسهم في ظل نخلته بما أراد من المال، فقال: عجبًا عمن يتورعون عن ظل نخلة لرجل يهودي ويستبيحون قتل عبد الله بن خباب!! ومثل هذا قول ابن عمر: (يا أهل العراق! تستبيحون قتل الحسين في الشهر الحرام، وتسألون عن دم البعوض في الحرم).

علاج الخلاف

علاج الخلاف نصل إلى العنصر الرابع من عناصر هذا الدرس، وهو: العلاج للخلاف إذا حصل: ظاهرة الخلاف منتشرة موجودة فلابد من البحث عن علاج لها، وهذا العلاج لابد فيه من التدرُّج، فليس المقصود من العلاج حصول الاتفاق المطلق، فهذا قد لا يحصل، لكن إذا حصل وضع السلاح من الجانبين فهذا هو مكسب، وإذا حصل الاتفاق على نقاط عملية فهذا مكسب، وإذا اتجه كل جانب من الجانبين في اتجاه لا يعارضه فيه غيره فهذا مكسب. إذًا: لابد من البحث في علاج الخلاف، وذلك في النقاط التالية:

الاتفاق على المرجع

الاتفاق على المرجع العلاج الأول: الاتفاق على المرجع: فمن المهم جدًا وجود مرجع في الخلاف، وهذا المرجع إما أن يكون مرجعًا دينيًا، والمرجع لدى المسلمين هو الوحي: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فالرد إلى الله بالرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله بالرد إلى سنته، ولكن لابد أن يعلم أن الرد نفسه لا يمنع الخلاف ولا يردعه، وإنما يعود ذلك إلى الفهم والاستيعاب والاستنباط، كما قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ولم يقل: (لعلموه جميعًا)، فليس مجرد الرد كافياً في رفع الخلاف كما يتوهمه كثير من المستعجلين، فيمكن أن نرد إلى الكتاب ونرد إلى السنة، ويبقى الخلاف وارداً؛ لوجود خلاف في الدلالة لا في الدليل، فالكتاب والسنة على الرأس والعين، لكن ما معناهما؟ هل فهمك أنت فيهما مرجع بالنسبة لي أنا؟ فهذا أمر لابد أن ينتبه له من البداية. النوع الثاني من أنواع المراجع: الأشخاص الذين هم محل ثقة، وهم أهل العلم والتقوى والورع الذين أحال الله عليهم في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وفي قوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ومن المعلوم أن هذه الأمة لا تخلو منهم، فإذا كان للأمة مرجع يُصدر عن قوله في الأمر؛ فذلك قمن لرفع الخلاف وإزالته. النوع الثالث: المرجع النظامي، والمرجع الرسمي ومن أبرزه الخليفة، فلو وجد للمسلمين خليفة، فإنه يرفع الخلاف بينهم؛ لأن حكمه يرفع الخلاف. ومثل ذلك القاضي الذي تنصيبه صحيح، فإن حكمه يرفع الخلاف في المسائل الخلافية، ومع الأسف أن وجود المرجع اختص بها أهل البدع اليوم، فاشتهرت لدى الشيعة، وفقدت لدى أهل السنة، فالشيعة لديهم مرجع يرجعون إليه في حل خلافاتهم، ويصدرون عن رأيه جميعًا -وهذا في بعض فرقهم لا كلها- وأهل السنة ليس لهم من المراجع ما يرجعون إليه، ويتراجعون عن أقوالهم أمامه.

التحكيم

التحكيم العلاج الثاني: التحكيم؛ أن يحكم في المسألة من هو أهل لذلك، ويتراضى به الخصمان، فتُدرس المسألة من الجانبين، ويحكموا فيها عند عدم وجود المرجع، فإذا لم يوجد مرجع فنضطر للتحكيم، كما حصل للصحابة رضوان الله عليهم عندما اختلفوا، ولم يجدوا مرجعًا معصومًا -لأن المعصوم قد توفي صلى الله عليه وسلم- ولم يفصل بينهم النص من الوحي، فحكموا رجلين مرضيين عندهم جميعًا، وهما أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عن الجميع. وهذا التحكيم، ينبغي أن يرفع الخلاف عمليًا، فيصادر العمل، ولا يصادر الرأي.

التنازل

التنازل العلاج الثالث: التنازل: وهو أن يتنازل أحد الطرفين عن قوله جمعًا للكلمة وتعقلاً في الأمر، فإن الحسن رضي الله عنه عندما تنازل في قضية الخلاف السياسي كان ذلك رفعًا لدرجته ومنزلته، وقد أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) وتنازل أحد المختلفين عن رأيه لصالح جمع الكلمة ليس تنازلاً لصالح الآخر، ولا انهزامًا أمامه، بل هو موازنة بينما يترتب على رأيه هو من المصالح، وما يترتب على اجتماع الكلمة من المصالح، وسيرى أن اجتماع الكلمة بلا شك أفضل، وما يترتب عليه من المصالح أقوى، فيشرع حينئذٍ التنازل ويحب، وبالأخص في الخلاف السياسي، ويمكن أن يحمل عليه الخلاف المنهجي الدعوي.

التعاون فيما اتفق عليه والعذر فيما اختلف فيه

التعاون فيما اتفق عليه والعذر فيما اختلف فيه العلاج الرابع: أن يتعاونوا فيما اتفقوا عليه، ويعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه: فإذا حددت نقاط الاتفاق أولاً، وحددت نقاط الخلاف: بدءوا أولاً بنقاط الاتفاق فتعاونوا في نطاقها، وعملوا بها، ولم يبقَ إلا نقاط الخلاف، وإذا لم يستطيعوا حلها؛ دل ذلك على أنها ليست من ثوابت الدين، وأنها ليس عليها دليل حاسم في المسألة، فيعذر بعضهم بعضًا في الخلافات الفقهية، كما عذر بعض المجتهدين بعضًا في المسائل الاجتهادية، وهذه قاعدة مهمة، وقد نبه عليها عثمان رضي الله عنه عندما أطل على الناس وهو محصور في الدار، فقال له رجل: يا أمير المسلمين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام بدعة، وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: (إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فتجنب إساءتهم). إذا أحسنوا فأحسن معهم: هذه نقاط الاتفاق. وإن أساءوا فتجنب إساءتهم: هذه نقاط الخلاف.

المعذرة

المعذرة العلاج الخامس: المعذرة، وهي مهمة جدًا، ولذلك قال الخليل بن أحمد لولده: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتك لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتك وحصول العذر مدعاة لأن يسير كل على شاكلته، كما حصل في المذاهب الفقهية، فتتعايش بينها، ويستمر هذا التعايش زمانًا حتى تزول من النفوس تلك الحزازة، وتأتلف القلوب، حينئذٍ من شاء أخذ بهذا القول، ومن شاء أخذ بالآخر على اعتبار تساويهما وعدم الانفصال بينهما، ومن ترجح لديه أحدهما وجب عليه الأخذ به، ومن لم يترجح لديه أحد القولين فهو بالخيار أو يأخذ بالاحتياط بينهما. فهذا هو علاج الخلاف الذي ينبغي أن يؤخذ به. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يجعلنا هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يرينا الحق حقًا، وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً، وألاَّ يجعلنا أتباعه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجمع على الحق قلوبنا، وأن يملكنا أنفسنا بخير، وألاَّ يسلطها علينا بشر، وأن يجعل سرائرنا خيرًا من علانياتنا، وأن يجعل علانياتنا صالحة. اللهم! آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم! اجعل قلوب المسلمين على الحق يا أرحم الراحمين! اللهم! اخلف نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمته بخير. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا أرحم الراحمين! {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].

أسئلة نسائية

أسئلة نسائية

حكم خياطة الرقيق من الثياب

حكم خياطة الرقيق من الثياب الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فأقول للأخوات: إن ما تقدمن به من الأسئلة بين يدي، وما لا أعلمه فسيكون الجواب فيه بلا أدري، وما أعلمه أيضاً فإنما الإفتاء فيه من باب قول الشاعر: لعمر أبيك ما نسب المعلا إلى كرم وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رعي الهشيم Q هل يجوز لشخص عنده عيال خياطة الرقيق من الثياب مع العلم أنه محتاج إلى ثمنه ولا يوجد سوى الرقيق يخيطه؟ A ورد عن عمرو بن مرة أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! حرمت فما أُراني أرزق إلا من دفي بكفي فهل تأذن لي في ذلك؟ فقال: لا آذن لك ولا كرامة، ولو كنت تقدمت إليك لأوجعتك ضرباً ولحلقت رأسك مثلة، ولأبحت مالك لأهل المدينة)، فإن الله عز وجل قد وسع في الأرزاق من الحلال، ووسع السبل إلى ذلك، ومن أراد أن يوسع الله عليه في رزقه فلا يعمد إلى ما حرم الله عليه، فإن خياطة الرقيق من الثياب وبيعه لمن يستعمله استعمالاً لا يجوز من التعاون على الإثم والعدوان الذي نهى الله عنه.

معنى المداهنة

معنى المداهنة Q ما هي المداهنة، وما هي حدودها في الأمر والنهي؟ A المداهنة هي بذل الدين لإصلاح الدنيا، أي: أن يبذل الشخص جزءاً من دينه لإصلاح الدنيا، وليس من ذلك ما كان الشخص مكرهاً عليه، فإنه إذا أكره بما يخاف عقوبته لا يعتبر مداهناً، لقول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، فلذلك ينبغي أن نعرف أن المداهنة هي بذل الدين لإصلاح الدنيا، كمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجل أن لا يستثقل، ومن أجل أن لا يقال إنه ثقيل، أو من أجل أن لا يوصف بأوصاف بذيئة، فكثير من الناس يريد أن يتخلص من الأوصاف القبيحة لدى الآخرين بأن يترك جزءاً من دينه فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لئلا يقال فيه كذا من الأوصاف الذميمة، والواقع أن ديان السماوات والأرض ذا العزة والجلال الذي خلق الناس وأنعم عليهم وسواهم ومع ذلك زعموا أن له صاحبةً وولداً تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]، {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]. وكذلك الأنبياء الذين هم خيرة الله من خلقه فإن الناس قالوا فيهم: كذاب، وساحر، ومجنون، وكاهن، وطالب سلطة، وطالب مال إلى آخر ما قالوه. وقد برأ الله الأنبياء من ذلك، ومن كان يريد أن ينجو مما نجا منه الأنبياء فمعناه: أنه لا يريد أن يسلك طريقهم، وهذا الطريق الموصل إلى الجنة محفوف بالمكاره، فإن الله حين خلق الجنة أرسل إليها جبريل وزينها قبل أن يصل إليها بأنواع الزينة، فلما رآها ورجع إليه سأله قال: هل رأيتها؟ قال: نعم، وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم أمر بالنار فأعدت، فأرسله إليها، فلما رآها، قال: أرأيتها؟ قال: نعم، وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره وأمر بالنار فحفت بالشهوات، فأرسل جبريل فنظر إلى الجنة فرجع فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ورأى النار فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد، وذلك حين حفت بالشهوات. فلذلك لابد أن يدرك الشخص أن هذا الطريق لابد فيه من كثير من العقبات والمشكلات، وأنه لا يمكن أن يصبر على دينه، فيجمع بين العافية العاجلة والعاقبة الآجلة، ولابد أن يجد بعض الأذى الذي توعد الله به في كتابه، في قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186].

مصافحة المرأة للمحارم

مصافحة المرأة للمحارم Q امرأة تقدم إليها رجل ليتزوجها فظهر أنه محرم لها، فهل يجوز لها أن تصافحه بعد ذلك وأن تتخذه محرماً؟ A إذا كانت تخشى الريبة من ذلك أو الفتنة فلا يحل لها مصافحته، وإن كانت لا تخشى الريبة ولا الفتنة من ذلك فإن هذا من الجائز، فهو محرم مثل غيره من المحارم.

حكم البوح بأسرار الزوجية

حكم البوح بأسرار الزوجية Q بعض الفتيات إذا تزوجت إحداهن أتتها كل صديقاتها بعد الزواج يسألنها عن دخول زوجها بها وكل شيء جرى بينهما، فتجيب بكل صراحة، فهل هذا جائز؟ A لا، بل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وبالغ في نكيره، وذكر أن من فعله إنما هو شيطان، وهذا يكفي في المبالغة في التحذير، فهذه الأمور التي بين الأزواج ينبغي أن تكون سراً من الأسرار لا يطلع عليها أحد، وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حصلت بينه وبين زوجته صفية بنت أبي عبيد مشكلة اجتماعية، فجاء أصدقاؤه وأخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين يسألونه عن هذه المشكلة التي بينه وبين زوجته، فقال: سبحان الله! كيف أفضي بسر امرأة هي أقرب الناس إلي، فلم يفض إليهم بشيء من سرها، ثم إنه طلقها فأتوه يسألونه عن السبب، فقال: سبحان الله! كيف أفضي بسر امرأة أجنبية لا علاقة بيني وبينها. إذاً: فهذا من الأسرار التي لا يمكن إفشاؤها بحال من الأحوال، ومع ذلك فما كان من وصف حميد فيه ثناء، أو تشك وتظلم في بعض القضايا فإنه لا يدخل في النهي، فمثلاً: إذا كان الزوج يحسن إلى زوجته وكانت تجد منه المعاشرة الحسنة فأرادت بذلك الدعوة وتأليف القلوب وذكر نعمة الله تعالى، حيث تشعر أن كثيراً من النساء مهانة في بيتها، وأنها لا تجد في بيتها الألفة ولا الرحمة والرأفة المطلوبة في الزواج وإنما وجدت فيه خلاف ذلك، فأرادت أن تبين نعمة الله تعالى عليها؛ فإن الله يحب أن تظهر نعمته على عباده، والتحدث بالنعمة شكر لها. وكذلك إذا كانت تشكو من سوء المعاملة إلى من يمكن أن يغير، أو تشكو إلى من يمكن أن يتوسط في التغيير، فهذا أيضاً لا يعد من الغيبة بل هو من الأمور الستة التي يجوز فيها ذكر الأخ بما يكره، وكذلك ذكر الزوج في تعامله مع الزوجة ومن هذا: حديث أم زرع المعروف لديكن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أقر فيه قصة أم زرع حين أثنت على زوجها فإنها قالت: زوجي أبو زرع وما أبو زرع، وأثنت عليه بأنواع الثناء، وعلى أمه وعلى بنته وعلى ولده وعلى خادمه.

حكم نقض الشعر المضفور في الغسل والوضوء

حكم نقض الشعر المضفور في الغسل والوضوء Q امرأة طهرت من الحيض وأرادت أن تغتسل إلا أن شعرها مضفور بدقة، وهي متأكدة من وصول الماء إليه؛ فهل لها أن تغتسل كما هي أم تنقض شعرها، الرجاء التوضيح؟ A بالنسبة للشعر المضفور فإنه ينقسم إلى قسمين: مضفور بنفسه، ومضفور بخيوط من غيره، مثل الذي فيه أسلاك أو حديد. فالقسم الأول المضفور بنفسه ينقسم إلى قسمين: شديد، ورخو، فالشديد يجب نقضه في الغسل، ولا يجب ذلك في الوضوء، بل تمسح فوقه في الوضوء وتدخل يدها تحت الضفائر فقط، أما في الغسل فيجب نكثه مطلقاً، وتنقض الضفر كله، وأما ما كان رخواً من الضفر من غير خيوط، فإنها لا تنقضه بل تهيئه لدخول الماء فيه حتى توقن أن الماء دخل في داخله وتغلغل فيه. إذاً: الرخو الذي ليس ضفره دقيقاً ولا محكماً فهذا تلينه حتى يدخل فيه الماء، وأما ما كان مضفوراً بالخيوط فإن الخيوط تنقسم إلى قسمين: كثيرة، وقليلة، فالكثيرة إذا كانت رابية عليه فإنها تنقض في الغسل وفي الوضوء معاً، وإذا كانت قليلةً أو كانت مختفية في داخله فإنها لا تنقض في الوضوء ولكنها تنقض في الغسل.

حكم خروج المرأة بإذن سابق من زوجها

حكم خروج المرأة بإذن سابق من زوجها Q هل يجوز للزوج أن يعطي زوجته الإذن دائماً في الخروج، وهل يجوز لها أن تخرج بدون إذنه إذا كان قد أعطاها الإذن سابقاً مثل قوله: أعطيتك الإذن في كل وقت فلا داعي لطلب الإذن؟ A هذا الخروج يرجع حكمه إلى حكم المخروج إليه وإلى هيأته، فإن كانت تخرج إلى واجب أو إلى جائز فيجوز لها الخروج، وعلى الزوج أن يأذن لها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات) ومعنى (تفلات): غير متطيبات ولا متزينات. ويجوز لها حينئذ الخروج بغير إذنه في الواجبات، واختلف العلماء في خروجها بغير إذنه في المندوبات، والراجح أنه إذا كان سيغضب إذا علم بخروجها ولا تستطيع أن ترضيه بسهولة فإنها لا تخرج في المندوبات، وإن كان لن يغضب إذا خرجت فيجوز لها الخروج بغير إذنه في المندوبات.

حكم امتناع المرأة على زوجها خوفا على رضاع ولدها

حكم امتناع المرأة على زوجها خوفاً على رضاع ولدها Q هل يجوز للمرأة أن تمتنع من زوجها إذا كان لديهما ولد يخافان عليه؟ A إذا كان المقصود هنا أن المرأة إذا خافت على رضيعها من الحمل لما عرفت فيه من الضرر البين عليه، فإنها ينبغي أن تذكر الزوج بمصلحة ولده، ولكن لا يحل لها منعه من الفراش حينئذ، لكن عليها أن تنصحه وأن تذكره بمصلحة الولد، وبأنه يضر به أن تحمل فينقطع اللبن عنه وهو في سن الإرضاع.

حكم الصوت والريح الخارجين من قبل المرأة

حكم الصوت والريح الخارجين من قبل المرأة Q الصوت أو الريح اللذان يخرجان من قبل المرأة لا يبطلان الوضوء فما الدليل على ذلك؟ A إن الذي ينقض من الصوت أو الريح هو ما كان من الدبر؛ لأنه الذي وردت فيه الأحاديث الصحيحة، والنقض ليس أمراً اجتهادياً إنما يؤخذ من الأدلة فقط، وما كان كذلك فإنه غير مألوف ولا معهود بل هو من قبيل المرض غير المعتاد لدى كل النساء، وما كان كذلك فإن غير المعهود لا ينقض؛ لأنه مخالف لفطرة الإنسان وطبيعته الأصلية، وهذا راجع لقاعدة فقهية معروفة وهي: المشقة تجلب التيسير، فما كان معروفاً مألوفاً لدى كل الناس فهو الذي ينقض وما كان نادراً قليلاً فإنه لا ينقض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل في السلس نقضاً، والسلس غير معتاد ولا معهود لدى أكثر الناس.

ما يجوز للمرأة الخروج فيه من الثياب

ما يجوز للمرأة الخروج فيه من الثياب Q ما نوع الثياب التي يحل خروج المرأة فيها؟ A الثياب التي يحل خروج المرأة فيها هي ما ليس لافتاً برائحة ولا لون، وليس محدداً لأعضاء الجسم، ولا يشف عن البشرة، فما اجتمعت فيه هذه القيود يحل لها الخروج فيه. إذاً: إذا كان غير لافت للنظر بلون أو برائحة، وليس حسناً يلفت الانتباه إليه، وليست فيه رائحة تدعو إلى الانتباه، وليس محدداً لجسم المرأة ولأعضائها إلا بالريح -أي: إذا برزت في الريح تحددت أعضاؤها فهذا لا يضر-فيجوز خروجها في ذلك الثوب ولا حرج، لكن الثوب الذي يشف عما تحته فيبدي لون البشرة، أو يحدد الأعضاء مثل بعض القمصان التي تخاط على قدرها وتكون محددة لها يتضح من خلالها حجم هذه الأعضاء فهذا لا يجوز الخروج به، ولا يختص هذا بلون من الألوان بل المهم أن لا يكون اللون ملفتاً.

معنى (تفلات) في حديث الخروج إلى المسجد

معنى (تفلات) في حديث الخروج إلى المسجد Q ما معنى (تفلات)؟ A ( تفلات) في حديث ابن عمر في صحيح البخاري المقصود بها: غير متعطرات أو متزينات، (وليخرجن إذا خرجن تفلات) معناه: غير متعطرات ولا متزينات، والتفلة معناه: المرأة التي لا تتعطر ولا تتزين.

حكم سفر المرأة في ثوب الزينة

حكم سفر المرأة في ثوب الزينة Q هل يجوز للمرأة أن تسافر في ثوب الزينة وهو ثوب حسن صقيل أو جديد؟ A خروجها من بيتها لا يجوز في ثوب لافت أياً كان، ولا عبرة بغلاء ثمنه مثلاً أو بكوته جديداً، فهذه الأمور قد لا يدركها بعض الناس، وقد لا تلفت الانتباه، إنما الذي يلفت الانتباه ما كان حسناً للونه أو لرائحته.

المواضع التي تجوز فيها الغيبة

المواضع التي تجوز فيها الغيبة Q ماذا تقولون في ذكر من يخاف على الإسلام والمسلمين منه؟ وهل يجوز ذكره لمن لا يعرفه؟ A من كان معروفاً لدى المتكلِّم فيه بسوء ويعرف أنه غير مأمون على دين الله تعالى؛ فإن الكلام فيه لا يدخل في حد الغيبة، وهو من الست المستثنيات من الغيبة، فالغيبة لا تحل إلا في ست فقط: الأول: ما ذكرناه وهو التحذير. الثاني: النصيحة: كمن يريد التعامل مع شخص فينبه على ما فيه، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة بنت قيس حين خطبها أبو الجهم ومعاوية بن أبي سفيان فقال: (أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فرجل صعلوك لا ملك له، ولكن انكحي أسامة بن زيد)، فهذا يحل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بينه، ومن علم شيئاً من هذا النوع فكتمه فهو غاش، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من غشنا فليس منا). الثالث: التظلم والشكاية: كمن يشكو من شخص معين لمن سيرفع عنه الظلم أو يشارك في رفعه، فيبين له بعض ما فيه من الصفات، فهذا أيضاً ليس من الغيبة. الرابع: ذكر الفاسق الذي جاهر بأمر فأعلنه: فذكره به ليس غيبةً له؛ لأنه أعلنه على الملأ، ومن هذا الذنوب الظاهرة، مثلاً: المتبرجة من النساء، أو التي تخالط الرجال في كل مكان، أو الرجل الحليق مثلاً، فهذه كلها من الذنوب البارزة التي يجاهر بها صاحبها ولا ينكرها، فلذلك إذا تكلم في الشخص بهذا أو ذكر به فلا يعد هذا من الغيبة. الخامس: الاستفتاء: كمن يذكر شخصاً بصفة من صفاته ويستفتي في أمره فإن ذلك لا يدخل في الغيبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاه رجل من كندة فشكا إليه رجلاً حضرمياً يخاصمه في أرض له، فأخبره أن عليه البينة أو يمينه، فقال: يا رسول الله! إنه لا يمين له، إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف)، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا ولم ينكر عليه. السادس: ذكر بعض الصفات التي فيها ذم أو عيب بقصد التنفير من تلك الصفات، كمن اتصف بفعلة مشهورة عنه، وقصد تنفير الناس من ذلك، فينبهون بهذه الصفة، وهذه هي الأمور المستثناة من الغيبة.

أصل مقولة: إذا اشتد غضب الله على قوم تناءت عنهم الضيفان

أصل مقولة: إذا اشتد غضب الله على قوم تناءت عنهم الضيفان Q إذا اشتد غضب الله على قوم تناءت عنهم الضيفان، هل هذا حديث؟ A لا أظنه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه كلام مشهور يقوله بعض الناس، وذلك أن من نعمة الله تعالى على الإنسان أن يجعل تحت يده رزق بعض عباده، فإن لم يجعل الله تحت يده رزق أحد من عباده فمعناه أنه محروم.

ما يحل للمرأة من زينة عند الخروج

ما يحل للمرأة من زينة عند الخروج Q ما هي حدود الزينة عند الخروج؟ A كل ما يلفت الانتباه في الظاهر فهو زينة، فيمكن أن تخرج المرأة وفي رقبتها عقد غير ظاهر مثلاً ولا حرج في ذلك، وقد سافرت عائشة رضي الله عنها وفي رقبتها عقد من جزع ظفار، فكل ما هو مستور يجوز الخروج به، وأما ما كان بارزاً بادياً فلا يجوز الخروج به، ومن ذلك الضرب بالأرجل ليسمع وسواس الحلي، والوسواس معناه: صوت الحلي، فهذا ممنوع؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، ولذلك تسمعه نفوس الناس فيؤدي إلى الفتنة، كما قال الشاعر: تسمع للحلي وسواساً إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل وكما قال الآخر: وإذا مشت تركت بقلبك ضعف ما بحليها من كثرة الوسواس

حكم إرسال الطفل الصغير للعلاج في الخارج

حكم إرسال الطفل الصغير للعلاج في الخارج Q هل يجوز للمرأة إذا كان لها صبي يقول الأطباء إن فيه مرضاً يحتاج إلى أن يذهب به إلى الخارج للعلاج، ويريدون الذهاب به وحده وهو صغير لم يبلغ الفطام، فهل هذا يجوز؟ وهل هو من فسخ الحضانة؟ A الصبي أمانة لدى الشخص فلا يحل له أن يفرط في أمانته، ولا يحل له أن يسلمه إلى غير مأمون، وهذه الجهات كما جاء في السؤال أهلها غير مأمونين على تربية الأولاد، فالذي يطلب من ذهابه إلى سويسرا هو علاجه من مرض بدني، والذي يخاف هو فساد دينه من أصله، والمرض الديني أعظم من المرض البدني.

حكم قضاء الصلوات المتروكة

حكم قضاء الصلوات المتروكة Q هل نحن مطالبون بقضاء الصلوات الماضية التي تركناها، وهل نترك النوافل في أثناء القضاء؟ A من ترك الصلاة وهو يشك في وجوبها في فترة من فترات حياته ويرى أنها غير واجبه، أو يشك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو صدقها أو يشك في المعاد، والبعث بعد الموت فإنه كافر بالإجماع، ولا يجب عليه قضاء شيء مما مضى من صلاته لكن عليه أن يحسن في المستقبل. وأما من ترك الصلاة تكاسلاً أو تهاوناً فإن مذهب جمهور العلماء أنه لا يكفر بذلك، وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الملك بن حبيب من المالكية إلى أنه يكفر بذلك، وعلى هذا فلا يجب عليه قضاء شيء مما مضى من صلاته. وأما من لم يتركها ولم يعلم أنه تركها، ولكنه كان لا يتقنها كمن لا يتقن قراءتها أو ركوعها أو سجودها، أو لا يحافظ على طهارته دائماً في كل الأوقات، كمن يتيمم وهو يظن أنه قادر على الوضوء مثلاً أو الغسل أو نحو هذا، فإن الذي يبدو أنه لا يجب عليه القضاء، وهذا إن شاء الله أرجح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (حين أتاه المسيء صلاته صلى ركعتين لم يقم فيهما صلبه، فسلم عليه، فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فجعل هذا غير صلاة، فلما أتاه مرة أخرى وقد أعاد ما صنع قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، حتى كان في الثالثة فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمنيها)، فمع ذلك لم يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بقضاء شيء مما مضى من صلاته، وهذا صريح في أن ما كان يصليه لا يسمى صلاة، والرسول صلى الله عليه سلم لم يأمره بقضاء شيء منها، فدل هذا على أن ما مضى من صلوات الأعمار لا يجب قضاؤها إذا كان الشخص لم يتأكد أنه تركها يوماً من الأيام. وأما إن تركها تكاسلاً فتذكر تلك الصلاة، أو تلك الصلوات، أو تذكر أنه في السنة الفلانية أو الشهر الفلاني ترك الصلاة تكاسلاً فإنه يعيد تلك الصلاة ويقضيها، وهو قضاء المنسيات، وهذا تجب المبادرة فيه، وأن يفعل الشخص كل ما استطاع إليه سبيلاً، وإن كثر عليه فإنه يقدمه على صلوات النوافل ويترك صلاة النوافل مطلقاً. وأما ما يسميه الفقهاء صلاة الأغمار أو صلاة الأعمار وهي: قضاء الصلوات التي لم يتقنها الشخص فيما مضى من شبابه، فلا أرى أن دليله قوي، فلذلك على الشخص أن يحسن في المستقبل، وأن يعلم أن بقية العمر ليس لها ثمن، ولهذا يقول الحكماء: إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره. ولذلك يقول الحكيم: بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محبوب من الزمن يستدرك المرء فيها كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن

حكم الأكل من مال من يتكسب بالحرام

حكم الأكل من مال من يتكسب بالحرام Q ما تقول في أكل مال من يتكسب ببيع الرقيق والتصوير -أي: ما يفعله على الثوب- وتارة يأكل السحت؟ A من يتكسب بالحرام عموماً وكان له كسب غير الحرام فيجوز أكل ما تبرع به، وإن كان ليس له من الكسب إلا الحرام فلا يجوز أكل ما تبرع به، لكن تجوز معاملته بالمقابل، كمن كان بينك وبينه بيع أو معاطاة تأخذ منه وتعطيه فهذا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل اليهود، وقد حكم الله عليهم في كتابه بأنهم يأكلون السحت والربا، ومع ذلك توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في عشرين مداً من الشعير، وكذلك عاملهم على مساقاة خيبر فكانوا يشتغلون بثلث الثمر، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والحال كذلك، واستمر كذلك مدة خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر.

ما يباح للزوج النظر إليه من زوجته

ما يباح للزوج النظر إليه من زوجته Q ما يجوز للرجل أن يرى من زوجته؟ A يجوز له أن يرى منها كل شيء، لكن من الأفضل والأحسن أن لا يرى ما يستحيا من رؤيته، فهذا يخالف الخلق الحسن والوصف الحميد، ولكن لم يحرم الله تعالى النظر إلى شيء من الزوجة بالنسبة للزوج.

نماذج نسائية معاصرة في ميدان الدعوة والتضحية في سبيل الدين

نماذج نسائية معاصرة في ميدان الدعوة والتضحية في سبيل الدين Q ضرب لنا الصحابيات في صدر الإسلام خير مثل في الدعوة إلى الله تعالى، فما هي الأدوار التي لعبتها الداعيات في هذا العصر، نريد نماذج حية، وذلك مع ما أمكن من التفصيل؟ A إن الله عز وجل يسخر لنصرة دينه والقيام به من شاء من عباده ولا يختص هذا بعصر من العصور، ففي كل عصر ينزل الله تعالى لائحة من عباده يكلفهم بنصرة دينه لا خيار لهم في ذلك، ولو أراد أحد منهم أن يصرف نفسه عن خدمة الدين لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي المقابل نجد آخرين أقوى أجساماً وأفرغ بالاً وأكثر أموالاً فلا ييسر الله لهم خدمة دينهم، بل يجعل في وجوههم العقبات ويصدهم عن نصرة دين الله تعالى، وهذا ما صرح الله به في كتابه في قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146]، وكذلك في قول الله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9]، وفي قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:46 - 47]. فيضع الله تعالى العراقيل في وجوه من شاء من عباده حين لا يرتضي خدمتهم لدينه، فهم غير مرضيين عنده فلا يرتضي خدمتهم لدينه فيصرفهم بالصوارف، وأما من ارتضاهم لخدمة دينه فيهيئ لهم الأسباب حتى ولو كانوا مشغولين أو كانوا ضعاف الأبدان أو ضعاف العلم أو مقلين من المال أو غير ذلك، فييسر الله لهم أسباب نصرة دينه والبذل في سبيله. وأذكر في واقعنا المعاصر قصة امرأة عاشت في أول بلد من بلاد الإسلام اشتهر فيه انخلاع المرأة من لباسها وحيائها، وقد عاشت في أعقاب ثورة النساء المشهورة التي قادتها هدى شعراوي أول امرأة خلعت لباس رأسها ورقبتها في العالم الإسلامي، فعاشت هذه المرأة في أعقاب هذه الفترة، ومع ذلك نذرت نفسها لله تعالى فضحت في سبيل الله بكل ما تستطيع، فكانت تجمع الشباب في بيتها ليتعلموا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وتقول: أنا لا أستطيع أن أعلم أحداً ولا أن أتعلم كثيراً مما ينبغي أن أتعلم، ولكنني سأكون خادمة لعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوفر لكم المكان وأوفر لكم ما أستطيع من الغذاء، وأوفر لكم التغطية المناسبة، فأريد أجركم فقط؛ تريد المشاركة بالأجر. فسعت بهذا، ولكن الله فتح لها كثيراً من العلم، مع أنها امرأة كبيرة في السن، ويسر الله لها تعلم كثير من العلم فقرأت عدة من تفاسير كتاب الله تعالى وأحاطت بما فيها، ثم قرأت عدة من كتب السنة وأدركت كثيراً مما فيها، ثم حاولت أن تعيش لله تعالى فأوذيت في سبيل الله بأنواع الإيذاء، فسجنت مدة سنتين وثمانية أشهر تحت التعذيب، ومكثت ثلاثة أيام بلياليهن لا تجد ماءً ولا مأكلاً، ورميت في بركة من الماء البارد في الشتاء فلما خرجت جلدت خمسمائة سوط وأعيدت إلى الماء البارد فلم ترجع، وصبرت على أنواع الإيذاء في ذات الله، ولكنها خرجت من السجن وهي شامخة الأنف، بطلة من أبطال الإسلام، حامية لثغر من ثغور هذا الدين. وكذلك: أعرف أخرى في عصرنا هذا ما زالت حية، وكان من أمرها أنها تزوج بها أحد الدعاة إلى الله عز وجل، فسعت في مؤازرته في دعوته متأسية بـ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فكانت في خدمته ومواساته والسعي معه في نصرة دين الله، فتعرض لبعض الإيذاء وأخذ إلى السجون، فلما أخذ إلى السجون كانت هذه المرأة عند حسن الظن بها، فأخذت كل ما بحوزة زوجها مما تعلم أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد فوضعته في أكياس خاصة وأخفتها في أخفى مكان، وأخذت الأولاد واعتنت بهم وعلمتهم ما كان يحب أن يتعلموه، وربتهم على الشهامة وحسن الخلق، وأن يبذلوا نفوسهم نصرة للدين، وأن يكونوا مثل أبيهم مضحين في سبيل الله. وكثرت الضغوط على هذا الرجل في السجن، حتى إنه عرض له فلم فيه صورة واجهة بيته وكأن امرأة تخرج يدها لأهل الشارع تطلب منهم المساعدة، يريدون أنها زوجته، وكل هذا دبلجة غير صحيحة، وأخرجوا له صورة بعض الأولاد وهم في أرث ملابس وفي أشد حال، يريدون الضغط عليه نفسياً، وقالوا: أنت المسئول عن هؤلاء، فأنت يمكن أن تصبر على ما شئت؛ لكن هؤلاء ما ذنبهم؟ هذه المرأة المسكينة التي أخذتها من بيت أهلها، وهؤلاء الأولاد الذين كنت سبباً في شقائهم عليك أن ترحمهم، ولكن الرجل كان محقاً فصبر وصمد. ثم أرادوا الذهاب إلى بيته لتفتيشه فجاءوا يطلبون تفتيش البيت فامتنعت المرأة أن تفتح لهم وسبتهم سباً يظهر فيه كثير من الجراءة والشجاعة، ثم أتوا به هو فسلم عليها فعرفت صوته فرحبت به ترحيباً كبيراً وجعلته بطلاً عظيماً وفتحت له الأبواب وأدخلته وقامت في خدمته، ثم قالت: أما هؤلاء الكلاب الذين معك فإني لا أخدمهم فإن شئت فناولهم الضيافة وإلا فدعهم فهم كلاب يخدمون أنفسهم، ثم أدخلت الأولاد في المغتسل فنظفتهم وألبستهم أحسن الملابس وأتت بهم واحداً بعد الآخر يقبلون رأس أبيهم ويقرءون عليه ما حفظوه بعده من القرآن والسنة، ويشجعونه على ما هو فيه، وكل واحد ينشد أنشودة فيها بطولة وشجاعة وهكذا؛ فأدرك الرجل أن وراءه شخصاً يوثق به، وأن وراءه من لا يتضعضع ولا يلين في كل الخطوب، وبذلك استفاد كثيراً وازداد ثباتاً في سجنه، حتى إنه حين رجع إلى السجن قال: لا أبالي حتى ولو دام السجن حتى نهاية العمر فإن خلفي من أثق به. ولهذا يقول أحد الشعراء في تخليد هذا النوع من النساء: ما غاب من خلّف في الدار من ترعاه في مقامه والمسير كأنها إياه في كل ما تفعل في غيبته تستشير تأتي الذي يرضى وتأبى الذي يأبى عليها دينها والضمير

مفهوم الحرية في الإسلام

مفهوم الحرية في الإسلام Q ما هو مفهوم الحريات في الإسلام؟ A الحريات جمع حرية، والحرية معناها الإذن في التصرف، والإذن في التصرف أنواع عديدة، فمنه: الإذن في التصرف في المال، والإذن في التصرف في السفر ونحو ذلك. وهذه الحريات متاحة مكفولة، ولكن ليس معنى ذلك الخروج عن العبودية لله تعالى، بل الناس جميعاً عباد خلقهم الله تعالى لحكمة بينها وهي عبادته، وليس من حقوقهم أن يتخلصوا من دين الله تعالى ولا من شرعه ولا مما بينه لهم، فليس هذا من الحرية، بل الحرية أن يكونوا عباداً لله تعالى، وأن يتخلصوا من هواهم ومن طاعة شياطينهم، فهذه هي الحرية الحقيقية. وكثير من الناس يُعبِّد نفسه للهوى والشيطان بحجة الحرية، ويرى أنه نال حريته حين تخلص من دين الله، والواقع أنه ارتكس في أدران العبودية للمخلوق، حين عجز أن يحقق العبادة لله تعالى التي تشرف صاحبها، وارتكس في أدران العبودية للمخلوق وأصبح عبداً للهوى والشيطان، وعبداً للنفس الأمارة بالسوء، فازدادت عبودياته وازدادت القيود عليه. ولذلك فإن فكرة الوجودية وهي نظرية سارتر المعروفة، وهو فيلسوف فرنسي، تدعو هذه النظرية إلى تخليص الإنسان من كل الأديان والأخلاق وكل ما كان لديه من تراث، وتدعو أن يخرج الناس عراة في الشوارع كما تخرج الحمر والبهائم، وهذا غاية في السخافة والمذلة والهوان، وهو ليس من الحرية في شيء، إنما هو من العبودية للهوى والشيطان، ولذلك تسمعون اليوم عن عباد الشيطان الذين ظهروا في مصر والكويت وفي غيرها، وهم قوم محضوا أنفسهم لعبادة الشيطان، وسموا أنفسهم عباد الشيطان، واتبعوا أهواءهم وما زينت لهم شياطينهم، فكانوا في غاية العبودية للشياطين ولمن هم أدنى منهم وأقل منزلة وأدنى حالاً، فحين عجزوا عن عبادة الله تعالى عبدوا أنفسهم للشيطان؛ نعوذ بالله.

خير نساء النبي صلى الله عليه وسلم

خير نساء النبي صلى الله عليه وسلم Q ما هو نص الحديث الذي جاء فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ما عوضني الله خيراً منها)؟ A نص هذا الحديث أن عائشة رضي الله عنها ذكر عندها الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة فأثنى عليها خيراً، فقالت: (يا رسول الله! ما تذكر من عجوز ماتت في سالف الزمن قد عوضك الله خيراً منها، فقال: لا والله ما عوضني الله خيراً منها، فقد رزقني الله منها الولد) وهذا بيان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما عوضني الله خيراً منها) يقصد في جهة واحدة وهي: أن الله رزقه منها الولد، وليس الحديث نصاً في أن خديجة أفضل النساء، وأفضل أزواج رسول صلى الله عليه وسلم، بل الراجح أن عائشة أفضل منها، ولكن قوله: (لا والله ما عوضني الله خيراً منها فقد رزقني الله منها الولد) مبين أن وجه كونها خيراً أن الله رزقه منها الولد فقط.

رسول رسول الله إلى مسيلمة الكذاب

رسول رسول الله إلى مسيلمة الكذاب Q ما اسم الرسول الذي أرسل إلى مسيلمة الكذاب، وما اسم والدته، وهل هو الذي قام مسيلمة بتقطيعه إرباً إرباً؟ A هو حبيب بن زيد، وأمه هي نسيبة رضي الله عنها، فهو الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة فكان إذا سأله: هل تشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ يقول: نعم. فإذا قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم لا أسمع.

حكم صبغ شعر الرأس

حكم صبغ شعر الرأس Q ما حكم صبغ الرأس باللون الأسود أو بالألوان كلها؟ A صبغ الرأس باللون الأسود محرم على الراجح، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته جيء بـ أبي قحافة كأن رأسه ثغامة، فقال: (غيروا عنه هذا الشيب؛ فإن شدة بياض الشيب من الشيطان، وجنبوه السواد) فهذا نهي من الرسول صلى الله عليه وسلم عن السواد. وقد ورد في هذا أحاديث أخرى منها: ما أخرجه ابن ماجة وأحمد في المسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أقواماً يأتون في آخر الزمان يسودون لحاهم حتى تكون كحواصل الطير، لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها)، فهذا يدلنا على حرمة الصبغ بالسواد، ولذلك يحرم الصبغ بالسواد مطلقاً للرجال والنساء. أما الألوان الأخرى فإن تغيير الشيب بها من السنة كما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (غيروا عنه هذا الشيب فإن شدة بياض الشيب من الشيطان)، وذلك ينبغي أن يكون بالحناء كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بالكتم، والكتم يشبه الحناء إلا أن في لونه غبرة، وهو صبغ أحمر، وكذلك غيرهما من الألوان فكلها يجوز تغيير الشيب بها. أما صبغ الشعر الأسود ليتغير لونه من أجل التحسن فقط فإن هذا لا يجوز؛ لأنه من تغيير خلق الله، وقد جاء في حديث ابن مسعود في صحيح البخاري أنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله)، مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، فجاءته امرأة وقالت: لقد قرأت المصحف من الدفة إلى الدفة فما وجدت فيه لعن من تقول، فقال: إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. ولذلك فتغيير لون الشعر من أجل محاكاة جنس من البشر كمن يصبغه بالصبغ الأصفر الذهبي ليكون مثل الأوروبيين، أو نحو ذلك محرم؛ لأنه مثل التفلج للحسن، وهذا تغيير لخلق الله تعالى بمحرم.

حكم المسح على الرأس للوضوء مع وجود الحكامة

حكم المسح على الرأس للوضوء مع وجود الحكامة Q هل يجوز للمرأة أن تتوضأ وفي رأسها آلة حكامة، أو لابد أن تنزعها؟ A هذه الحكامة إذا كانت صغيرة مثل الأصبع مثلاً فإنه يجوز أن تمسح على رأسها في الوضوء وأن لا تنزعها، وإن كانت أكبر من ذلك فإن الأحوط أن تنزعها، وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وسبب هذا الخلاف الاختلاف في تفسير قول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]: هل الباء للتبعيض أو الإلصاق، فإن كانت الباء للإلصاق اقتضى هذا مسح جميع الرأس، وإن كانت الباء للتبعيض فإنها مقتضية لوجوب مسح بعض الرأس فقط، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الناصية وكمل على العمامة، لكن هذا إنما كان لضرر ومرض، والحكّامة لا تشبه هذا، فإن كانت كبيرة تغطي جزءاً كبيراً من الرأس فإن الأحوط أن تنزعها المرأة وأن تمسح على رأسها مباشرة، وإن كانت صغيرة كالإصبع فيجوز المسح على الرأس وتركها فيه؛ لأن العبرة بالأغلب.

حكم خلوة المرأة مع السائق في السيارة

حكم خلوة المرأة مع السائق في السيارة Q ما حكم خلوة المرأة مع السائق، وهل هي خلوة أم لا إذا علمت أن الطريق مزدحم بالمارة؟ A ركوب المرأة في سيارة مع السائق إذا كانت في الخلف وليست قريبة منه، وكان هذا في وقت ليس وقت خلو الشوارع من الناس -كآخر الليل مثلاً- لا يعتبر خلوة، وأما ركوبها بجنبه فلا ينبغي مطلقاً، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحققن الطريق)، فكان نساء المؤمنات -أي: نساء الصحابة- إذا سرن في الطريق ألصقن أعضادهن بالحيطان امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهاهن أن يحققن الطريق، وكذلك أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطفن من وراء الرجال، وكذلك جاء عنه: (باعدوا بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء)، لكن إذا كانت تركب في الخلف وكان الوقت ليس وقت ريبة فلا يعتبر هذا خلوة.

حكم استماع المرأة للأناشيد الإسلامية

حكم استماع المرأة للأناشيد الإسلامية Q ما حكم استماع المرأة للأناشيد الإسلامية إذا علمت أنها تجد وجداً؟ A استماع المرأة للأناشيد الإسلامية جائز مطلقاً، وقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه في الصحيحين: (أنه في سفر من أسفاره أمر أنجشة وكان عبداً حبشياً حسن الصوت أن ينشد، فأنشد حتى حرك الإبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رفقاً بالقوارير يا أنجشة) ويقصد بالقوارير النساء، وكذلك ثبت عنه في الصحيحين: (أنه أمر عامر بن الأكوع أن ينشد، فأنشد حتى حرك الإبل في غزوة خيبر) وكان معه صلى الله عليه وسلم عدد كبير من النساء. فسماع النساء للأناشيد لا حرج فيه، لكن لا ينبغي ولا يجوز أن تنشد المرأة فيسمع الرجال صوت نشيدها، إلا إذا كانت صغيرة لم تبلغ بعد فيجوز؛ لما ثبت في صحيح البخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قوماً من الأنصار، فأتوا بفتيات ينشدن فكان مما قلن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعي هذه، دعي هذه) فأنكر عليها هذا؛ لأن فيه تعدياً على حقوق الألوهية حين ذهبت إلى أنه يعلم علم الغيب، وليس ذلك صحيحاً.

ليس من الخلوة المحرمة انفراد المرأة مع اجتماع الرجال

ليس من الخلوة المحرمة انفراد المرأة مع اجتماع الرجال Q امرأة معها مجموعة من الرجال ليس فيهم أحد من محارمها، هل يعتبر ذلك خلوة أم لا؟ A لا، ليس هذا بخلوة، لكن لا ينبغي إذا أدى إلى الريبة، وما لم يؤد إلى ريبة فلا حرج فيه، فقد ثبت في صحيح البخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج بـ زينب بنت جحش رضي الله عنها تخلف بعض الرجال يتحدثون في بيتها -ثلاثة رجال- فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع فوجدهم يتحدثون، ثم خرج فرجع فوجدهم يتحدثون، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]).

حكم زيارة النساء للقبور

حكم زيارة النساء للقبور Q ما حكم زيارة القبور للنساء إذا علمت أنها تزور والديها وتسافر من مكان بعيد؟ A زيارة القبور نهى عنها الرسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام حين تكاثر الناس بموتاهم وكانوا يعدونهم فيفخرون بهم، ثم بعد ذلك بعد أن أنزلت سورة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة)، وفي رواية: (فزوروها ولا تقولوا هجراً)، والهجر الكلام القبيح، وهذا الحديث عام في الرجال والنساء، والدليل على ذلك ما ثبت من حديث عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تقول إذا زارت الأموات؟ فعلمها أن تقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، آمن الله روعتكم، وآنس وحشتكم، وجعل الجنة موعداً بيننا وبينكم، يرحم الله المتقدمين منا والمستأخرين). وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندها، فخرجت تبحث عنه فوجدته واقفاً تلقاء رءوس المقبرة وهو يدعو لهم، فوقفت خلفه ودعت بما دعا به، ثم رجعت فسبقته، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها خرجت تبحث عنه، فسألها فقصت عليه الخبر. وعلى هذا فإن المرأة إذا كان بقربها أموات فإنه لا حرج في زيارتها لهم لكن لا تقف على كل قبر، بل تقف أمام المقبرة وتتذكر الآخرة وتدعو لهم بما علم الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة أن تدعو به، وحينئذ تستفيد المرأة من ثلاثة أوجه ينبغي ترتيبها: الوجه الأول: أن تتذكر أن القبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، وأن صاحبه قد انقطع خبره عن أهل الدنيا، وأن أهل القبور مسجونون في قبورهم، فهم أسارى ذنوب لا ينفكون، وأهل قرب لا يتزاورون، وأنهم هنا في هذا الحال إما أن يكونوا في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، والقبر أول منازل الآخرة وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، هذه الموعظة الأولى. الموعظة الثانية: أن تتذكر حال هؤلاء الذين دفنوا في هذه القبور فانقطعت أخبارهم عن الناس، وقد كانوا يظن أنهم من المؤثرين، ومن الذين يوثق بهم وتوكل إليهم الأعمال والأمور، ومع ذلك أصبح أهلوهم يتصرفون في أمتعتهم من بعدهم، فالشخص الذي كان شحيحاً بخيلاً أصبح ماله يتقاسمه الناس، والشخص الذي كان يحرص على أسراره وأموره المختصة به أصبحت صناديقه مقسمة بين الناس ومفاتيحه في أيديهم، وهكذا فملابسه الخاصة يلبسها من سواه، قد انتقل عن هذه الدنيا فأصبح بعد أن كان يخاف من كل شيء في أوحش المنازل وأشدها خوفاً، كما قال الشاعر يرثي زوجته: أنى حللت وكنت جد فروقة بلداً يمر به الشجاع فيفزع ولقد تركت صغيرة مرحومة لم تدر ما جزع عليك فتجزع فإذا سمعت أنينها في ليلها طفقت عليك شئون عيني تدمع فهنا يقول: (أنى حللت وكنت جد فروقة بلداً يمر به الشجاع فيفزع) (كانت جد فروقة) أي: تحذر أن تبقى وحدها في الغرفة، تحذر من الظلام، تحذر من كل الأمور، ومع ذلك أصبحت تعيش في هذه الحفرة الموحشة. فهذا هو القسم الثاني من الموعظة التي تحصل لزائر القبور، وهذا القسم هو الذي حصل في أيام معاوية رضي الله عنه؛ فإن رجلاً جاء إلى الشام فرأى جنازة تحمل، فخرج مع أهلها، فلما دفنوها وقف يبكي، وأنشد قول الشاعر: يا قلب إنك في أسماء مغرور فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور فقال له رجل ممن كان يحمل الجنازة: أتعرف قائل هذه الأبيات؟ فقال: لا والله. فقال: قائلها صاحب هذا القبر وأنت الغريب الذي يبكي عليه، وهو الذي كان مغبوطاً في الأحياء، فإذا هو في الرمس تعفوه الأعاصير، فكان هذا من المواعظ العجيبة. الموعظة الثالثة: أن يتذكر الشخص حال هذا الميت بعد انتقاله من السرور والحبور إلى القبور، يتذكر حال أهل هذا الميت بعد انتقاله عنهم، فإنه كان ينظر إليهم على أنهم يعيشون في كنفه، وأنه هو الذي يتولى أمورهم ويقوم بمصالحهم، وقد انتقل عنهم فلم يتغير شيء في حياتهم، وكانوا يظنون أنه المدبر والمنفق عليهم، وأنه لا يأتيهم رزق إلا من قبله، فانتقل فلم يتغير شيء من أمورهم البتة، كما قال الشاعر: تقلبت الدنيا كأن ليس حادث وما اختل من صرف الزمان نظام أي: لم يختل أي شيء مما كان، وهذا يدل على أن الله وحده هو المدبر الحي القيوم الخالق الرازق. بعد هذا تأتي موعظة الختام وهي: أن يتذكر الزائر للقبور أن أحسن أحواله أن يدفن كما دفنوا، وأن يموت بين المسلمين فيصلى عليه وينقطع خبره، فلا يصل منه اتصال هاتفي ولا رسالة ولا أي خبر إلى أهل الدنيا، فهذه الموعظة الأخيرة، وهذا لا يقتضي التجول بين الأجداث والمرور عليها والوقوف عليها والجلوس عليها، فهذه أمور محظورة شرعاً. وإنما تكون زيارة القبور الشرعية بأن يقف الشخص أمام القبور حتى يراها ويتعظ بحال أهلها ولا ينبغي أن يتدخل بينهم، وأن يمر على القبور ويجلس على بعضها، فقد جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يجلس أحدكم على جمر فيحرق ثوبه فيصل إلى جسده، خير له من أن يجلس على قبر). وكذلك المرور على القبور والخروج من فوقها كل هذا مما لا ينبغي، فعلى الشخص أن يقف لقصد الموعظة وقصد الدعاء، فأصحاب القبور إذا كانوا مؤمنين ينتفعون بدعاء من دعا لهم، والزائر هو المنتفع بهذه المواعظ التي ذكرناها، وليس بينه وبين الأموات أية صلة غير هذا، ولا يمكن أن يستفيد منهم أي منفعة ولا أن يوصل إليهم أي خبر، ولا أن يعرف من أمورهم أي شيء، إنما يستفيد فقط من هذه المواعظ.

حكم السفر لزيارة الأموات

حكم السفر لزيارة الأموات Q ما حكم السفر بقصد زيارة الأموات حتى من بعيد؟ A السفر إلى الأموات لقصد الزيارة محل خلاف بين أهل العلم، والذي يبدو لي أنه إذا كان للوالدين مثلاً، أو كان الشخص يجد قسوة شديدة في قلبه ويحتاج إلى أن يتذكر أنه سيدفن في هذه التربة على الغالب وإلا فهو لا يدري أين يدفن: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، فإذا كان كذلك فلا أرى بأساً في خروجه مسافراً لهذا الغرض، لكن ينبغي أن ينوي بذلك سياحة في سبيل الله تعالى وتفكراً في عجائب خلق الله تعالى، وموعظة، وأن لا يطلب شيئاً -من هذه الزيارة- من الأمور التي يسافر لها الناس، إذ كثير من الناس يسافرون إلى أصحاب القبور والذين لا يدرى هل هم في جنة أو في نار ويطلبون منهم ما لا يقدرون عليه في حياتهم فكيف بهم بعد موتهم؟ والله تعالى يقول: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. ولو قال قائل: إنه ثبت مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للأموات وسماعهم لكلامه، فنقول: قد جاء في كتاب الله تعالى قول الله مخاطباً محمداً صلى الله عليه وسلم الذي هو خيرة الله في خلقه: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80]، وجاء فيه قول الله تعالى: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45]، وجاء فيه قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:22 - 23]، فكل هذا يقتضي عدم الاتصال بين الأحياء والأموات نهائياً. وكذلك قول الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، (من ورائهم برزخ)، أي: من دونهم حاجز يحول بينهم وبين الحياة الدنيا وما فيها إلى يوم يبعثون: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:100 - 103]. وأما الاستدلال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب أهل القليب يوم بدر، فهذا ليس حجة في الموضوع؛ لأنه إنما علم عن طريق الوحي أنهم يسمعون، وأن هذا من تعذيبهم، وهو تعذيب لهم لا مسرة تدخل عليهم، فهو مما يزيد عذابهم، ولذلك قال: (ما أنتم بأسمع منهم بما أقول)، فهذا من جنس عذابهم ولا يستدل به في النعيم. وعلى كل فحتى لو قدر أن الأموات يسمعون فإنهم لا ينتفعون بسماع شيء مما يصل إليهم أبداً، وهذا محل إجماع: أنهم لا ينتفعون بالسماع. لكن هل يسمعون أم لا؟ هذا محل خلاف. وهل ينتفعون بالسماع؟ لم يقل أحد بانتفاعهم به، فلا ينتفعون بشيء مما يسمعون.

حكم قص شعر النساء

حكم قص شعر النساء Q ما حكم قص الشعر للنساء إذا علمت أنه للزينة وليس لضرورة؟ A الأخذ من شعر المرأة إذا كان لزينة وكانت ستستره ولا تبديه ولم يكن بقصد التشبه بالكافرات أو الفاجرات فلا حرج فيه، وقد كان أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذن من رءوسهن، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم في كتاب الحيض أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يأخذن من رءوسهن حتى تصير كالوفرة، والوفرة هي ما جاوزت شحمة الأذنين من شعر الرأس.

خشية الله

خشية الله غرق الكثير من المسلمين اليوم في محيط الغفلات المتلاطم، فضيعوا الواجبات، واجترءوا على المحرمات، ونسوا الله والدار الآخرة، ولم ينج من الغرق إلا من ركب قوارب النجاة التي تصنعها الخشية من الله ومراقبته وذكره، فالخائف من الله قوي الإيمان في كل مواجهة مع الشيطان، وثيق الصلة بربه الكريم الرحمن، لا تلقاه إلا حيث أراد الله، لأنه موقن أن الله معه يسمعه ويراه، ومن كان هذا حاله فإن الله في الدنيا مولاه، والجنة في الآخرة مأواه.

خشية الله ناتجة عن العلم به

خشية الله ناتجة عن العلم به بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن من قيم الإيمان التي ينبغي أن يتحلى بها كل مؤمن: خشية الله سبحانه وتعالى، فهو أهل للخشية، ومن حقوقه على عباده أن يخافوه وأن لا يشركوا به شيئاً، وذلك مقتض لتمام معرفته، فمن عرف الله تعالى خافه، وقد بين الله سبحانه وتعالى سر هذه الخشية، فربطه بالعلم، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، والمقصود بذلك معرفة الله، فمن كان أعرف بالله تعالى كان له أخشى. ومن هنا قال أهل العلم: ما عصي الله إلا عن جهل به أو بشرعه، فالمعصية لا تكون إلا عن جهل: إما عن جهل بالله تعالى، فتجعل الناس يتجاسرون على الله لجهلهم به، فيأمنون مكره سبحانه وتعالى، ويجهلون ما لديه من الأخذ الوبيل والأخذ السريع، فيكون ذلك سبباً لتجاسرهم على المعصية. وإما لجهل بشرعه بأن لا يعرف الإنسان أن الشارع قد حرم هذا الأمر أو أوجبه، فيهون عليه ذلك الأمر لظنه أن الشارع لم يعلق به تكليفاً.

أمارات عدم الخشية

أمارات عدم الخشية فلا بد إذاً من إحداث هذه الخشية لدى الإنسان، وهذه الخشية لها أمارات، فمن أماراتها:

من أمارات عدم الخشية من الله: الإسراع إلى المعاصي

من أمارات عدم الخشية من الله: الإسراع إلى المعاصي كذلك من علامات عدم الخشية، الإسراع إلى المعصية: فالإنسان الذي يجد نفسه مطيعة لداعي الشهوة، ومقبلة على المعصية، ليس بينها وبينها حاجز ولا حجاب، بل كلما لاحت له بروق المعاصي وجد نفسه منقادة إليها منجذبة نحوها، فهذا دليل على عدم خشيته لله، ولو كان يخشى الله تعالى لخاف معصيته، وقد قال الشافعي رحمه الله: تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا محال في القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فلذلك إذا كان الإنسان منساقاً وراء الشهوة، لا يجد حاجزاً في نفسه يحول بينه وبين المعصية، فهذا دليل على أنه لا يخاف الله تعالى.

من أمارات عدم الخشية من الله: ألا يزداد الإنسان علما وتثبتا

من أمارات عدم الخشية من الله: ألا يزداد الإنسان علماً وتثبتاً كذلك من علامات عدم الخشية أو نقصها، ألا يزداد الإنسان علماً، وأن لا يحرص على التثبت في الأمور وفي معرفة أحكامها: فالإنسان المعرض عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، يكون قد تعلم عندما كان صغيراً تحت كنف والديه، لكن بعد كبره وبلوغه، وبعد أن أصبح مسئول نفسه، لم يزدد علماً ولم يقبل على تعلم شيء، كان يدرس في أيام الصبا في الألواح، وكان والداه يعلمانه، فلما أصبح مسئولاً عن نفسه، انقطع عن تعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه بالكلية، وهذا دليل على عدم خشيته لله تعالى.

من أمارات عدم الخشية من الله: عدم الإحساس بلذة المناجاة لله سبحانه

من أمارات عدم الخشية من الله: عدم الإحساس بلذة المناجاة لله سبحانه كذلك من أمارات عدم الخشية، عدم إحساس الإنسان بلذة المناجاة والتقريب، وعدم أنسه بالله تعالى: فالإنسان المحب لله خائف منه، يأنس به ويحب الاتصال به، ويأنس للخلوة إذا خلا بربه: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، يقبل على الله بخلواته، ويحمد الله هذا على هذا الوقت الذي انقطع فيه عن المخلوقين، وانفرد فيه لخدمة الخالق سبحانه وتعالى، فلا يجد وحشة في ذلك الانقطاع، وإذا انقطع عنه الناس جميعاً وهجروه كان ذلك نعمة لديه وإحساساً بالتقريب، فيقبل على الله سبحانه وتعالى بقلب سليم، ويجد لذة للتقرب والدعاء والذكر والشكر وحسن العبادة، ولا يمكن أن يجدها الإنسان ما دام منغمساً غارقاً في مخالطة الناس وأمور هذه الدنيا ومشاغلها؛ ولهذا يتمثل من يجد ذلك صادقاً بقول الشاعر: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

من أمارات عدم الخشية من الله: الكبر والعجب

من أمارات عدم الخشية من الله: الكبر والعجب وكذلك من علامات عدم الخشية: تصرف الإنسان بالكبرياء والبطر والعجب: الإنسان الذي يخشى الله سبحانه وتعالى لا يكون في قلبه ذرة من عجب، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فالكبر هو الذي أخرج إبليس من رحمة الله تعالى، وأوصله إلى لعنة الله عز وجل، ومن كان يخشى الله لا يمكن أن يستكبر ولا أن يعجب بنفسه، لعلمه بسرعة أخذ الله سبحانه وتعالى وعاجل مكره وعقوبته؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى قص علينا قصة قارون الذي آتاه الله من أنواع المال والتمكين والجاه والسلطان ما آتاه؛ ولكنه كفر بنعمة الله، ولم يشكر هذه النعمة لله تعالى وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]؛ قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، وبيَّن الله تعالى عاقبته في هذه الحياة، فقال: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:81 - 82]. ثم بين الله النتيجة الأخروية المترتبة على ذلك فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، إذا رأينا الإنسان يتجاسر على الظلم، ويتجاسر على الطغيان، فهذا دليل على عدم خشيته؛ لأنه انشغل قلبه بما كبر في نفسه من أمور الدنيا من سلطانه أو جاهه أو ماله أو مكانته، فأدى ذلك به إلى هذا المستوى، وقد أخرج البخاري في الصحيح عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كنت أضرب غلاماً لي بالطريق، فسمعت صوتاً من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، قال: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار). لا بد أن يتذكر الإنسان -إذا تذكر قوته وبطشه وأراد أن يوقع بالآخرين- قوة أخذ الله سبحانه وتعالى وسريع عقوبته، وأنه إن استطاع أن يعذب إنساناً في الدنيا بضربه أو شتم أو كلام قبيح، فإنه لا يقدر على شيء من عذاب الآخرة، فالله تعالى هو الذي بيده عذاب الآخرة الذي لا انقطاع له، فهو الذي يستحق أن يخشى وحده.

من أمارات عدم الخشية من الله: عدم ازدياد الإنسان يقينا

من أمارات عدم الخشية من الله: عدم ازدياد الإنسان يقيناً كذلك من أمارات عدم الخشية: عدم ازدياد الإنسان يقيناً: فالإنسان الذي رباه أبواه على أصل الإيمان، ثم بقي كذلك لا يزداد إيمانه ولا يقينه ولا تزداد السكينة في قلبه، بل هو على ما تعود من العقيدة في صباه، وعلى ما عوده والداه بمجرد التلقين في صباه أن الله واحد، وأنه إليه ترجع الأمور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول، وأن القرآن كلام الله، فعرف هذه الأمور بالتقليد في صباه، ولم يزدد بعد ذلك إيمانا ويقيناً، ولم يزدد من الله قرباً ولا فهماً عنه، هذا دليل على عدم خشيته لله، ولو كان ممن يخشى الله لزادته الخشية قرباً، فقد قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة).

من أمارات عدم الخشية من الله: غفلة العبد

من أمارات عدم الخشية من الله: غفلة العبد أولاً: عدم الغفلة. بأن يكون الإنسان منتبهاً لما يحيط به من الآيات، فالإنسان في هذه الحياة يحيط به كثير من الآيات البينات الدالة على قدرة الله ووحدانيته وتصريفه للكون: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ومن آيات الله سبحانه وتعالى هذا الليل وهذا النهار، وهذه الأرواح، ومن آياته الموت والحياة، ومن آياته تصريف الريح، ومن آياته إنزال المطر، ومن آياته إنبات النبات، ومن آياته الأمراض وشفاؤها، ومن آياته الأرزاق وتقسيمها، كل ذلك من آيات الله البينات التي تدل على تمام تصرفه وقدرته وإرادته، وأنه المدبر لهذا الكون وحده، فمن جهل هذه الآيات أو لم ينتبه لها، ولم ينظر إلى ما يحيط به من عجائب هذا الكون كان من الذين لا يخافون الله سبحانه وتعالى ولا يخشونه حق خشيته. وهذه الغفلة من صفات المنافقين، ويكتبها الله في قلوب من لا يرتضيهم من عباده، فيشغلهم بأمور الدنيا الفانية، فيبقون كالذي ينظر إلى قفاه وهو يصيح، فيتخبط في الظلام ولا يدري أن يضع قدمه، فكل متصف بالغفلة هو كالذي ينظر إلى الوراء وهو يظن أنه يسير إلى الإمام؛ لأنه لا يتدبر ما يحيط به، ولا ينتبه لما هو فيه، وهو في خطر داهم، وفي خطر عظيم، لما يواجهه من الغفلة عن الله سبحانه وتعالى وأوامره ونواهيه، وما من ساعة تمر ولا وقت ولو كان يسيراً، إلا ولله فيه خطاب يوجهه إلى عباده، فالغفلة عن هذا الخطاب، هي غفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى، واشتغال عنه بما دونه. وكذلك من علامات الغفلة: عدم إتقان العبادة: فالإنسان الذي لا يتقن العبادة إذا صلى لا يحضر في صلاته إلا لنشوة ضئيلة، ويأتيها بالتكاسل والتهاون، ولا يتقن طهارتها ولا أداءها، ولا ينتبه لما يقرأ فيها، ولا ينتبه لمعنى الركوع والانحناء، ولا معنى السجود بين يدي الله والتذلل، ولا لمعنى الدعاء، ولا لمعنى ما يقرؤه فيها من القرآن، كل هذا دليل على غفلته؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا ابن آدم! إلام تلتفت، أنا خير مما التفت إليه؟)، لذلك فإن من علامات الغفلة أن يلتفت الإنسان في الصلاة، وأن يلتفت قلبه فيها أيضاً إلى أمور الدنيا، وأن يشتغل بأي شيء من المشاغل عن مناجاة الله عز وجل. كذلك من علامات الغفلة: قسوة القلب وعدم الرحمة: فالإنسان الذي لا يرحم لا يرحمه الله تعالى، وليس أهلاً للرحمة، ورحمة الله واسعة قد وسعت السماوات السبع والأرضين السبع، وقال فيها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، ولكنّ كثيراً من الناس لا يستحقها، ولا تسعه رحمة الله بل هو مطرود عنها، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرَحم لا يُرحم)، فالذي لا يرحم ولا يجد في قلبه رقة، ولا إقبالاً على الخير؛ لا يمكن أن يكون أهلاً لرحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا دليل على عدم خشيته لله.

علامات الخشية

علامات الخشية

أن يجد الإنسان بينه وبين المعصية حاجزا

أن يجد الإنسان بينه وبين المعصية حاجزاً كذلك من علامات الخشية: أن يجد الإنسان حاجزاً يحجزه عن المعصية، ويستمر معه هذا الحاجز في كل أحيانه وأحواله؛ في حال قوته وفي حال ضعفه، في حال سقمه وفي حال صحته، في حال غناه وفي حال فقره، في حال خلوته وحده وفي حال اجتماعه مع الناس، فهو يخاف الله على كل حال، ويعلم أن أخذ الله إذا جاء يمكن أن يأتي في وقت الضحى، ويمكن أن يأتي في وقت الليل كما قال الله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99]، وبذلك هو يخاف مكر الله سبحانه وتعالى وأخذه، فلا يغفل عنه ولا يتجاسر على معصيته؛ لأن بينه وبين المعصية حاجزاً يمنعه منها. وهذا الحاجز الناس فيه على أربعة أقسام: القسم الأول: بينهم وبين المعصية حاجز كالجبل، فلا يسمعون صوتها، ولا يجدون ريحها، ولا يرون ألوانها، ولا يستمعون إلى أصواتها، فلا يتأثرون بها ولا يحبونها، ولا تتعلق بها نفوسهم، فلا تحب أعينهم النظر إلى الحرام، ولا تحب آذانهم سماع الحرام، ولا تحب قلوبهم التعلق بالحرام، فبينهم وبين الحرام حاجز عظيم، وهؤلاء حجب الله جوارحهم من المعصية، ووفقهم لاستغلالها في الطاعة. والنوع الثاني: الحاجز بينهم وبين المعصية كالزجاج، لا يستطيعون اختراقه؛ ولكن مع ذلك يرون ألوان المعصية وحركاتها، وهؤلاء أقل شأناً من القسم الأول. ودونهم قوم آخرون: الحاجز بينهم وبين المعصية كالماء، يمكن أن يخترقوه بصعوبة، وهؤلاء أقل منزلة أيضاً من القسم السابق. والقسم الرابع: الحاجز بينهم وبين المعصية كالهواء، فهم مع المعصية في لحاف واحد، كلما عرضت معصية إذا هم من أهلها، نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء يخشى عليهم أن ينادى عليهم يوم القيامة من أبواب جنهم السبعة، بأن توجد أسماؤهم في كل باب من أبواب جهنم، فأبوابها سبعة: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44]، وهذا الجزء هم أهل تلك الكبيرة التي كتب الله لها ذلك الباب من الأبواب، فباب الشرك، وباب الزنا، وباب شرب الخمر والمخدرات، وباب عقوق الأمهات والآباء، وباب قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وباب الكذب إلخ، هذه أبواب جهنم، فالذين لا يخشون الله تعالى، قد يقعون في كل هذه المعاصي، فتدون أسماؤهم في كل باب من أبواب جهنم، نسأل الله السلامة والعافية. والذين يخشون الله تعالى: يجدون حاجزاً عظيماً بينهم وبين هذه المعاصي، فهي أثقل عليهم من حمل الجبال، لو كلف أحدهم أن يفعل معصية لفكر ألف تفكير قبل أن يقدم عليها، بخلاف الذين تسهل عليهم من الذين لا يخشون الله، فلو أرادوا الطاعة لفكروا ألف تفكير قبل أن يفعلوها، أما المعصية فهي أسهل عليهم من شرب الماء، نسأل الله السلامة والعافية.

اللجوء إلى الله في كل أمر

اللجوء إلى الله في كل أمر كذلك من علامات الخشية، أن لا يشعر الإنسان بالاستغناء عن الله، بل يشعر باللجأ إليه في كل الأحيان، فالإنسان الذي نراه يمد أيدي الضراعة إلى الله في كل أحيانه، ويستند إليه في كل وقته، ويستغني به عمن سواه، ويتذكر قول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، ويحرص على إحسان العلاقة بالله سبحانه وتعالى، ولا يهمه ما سوى ذلك إذا رضي الله عنه، لا يضره ما لم يتحقق من شئونه، فهذا الإنسان قطعاً يخاف الله؛ لأنه أحب الله وأحب رضوانه وتعلق به، وكره معصيته ومخالفته لعلمه ما يترتب على ذلك من العقاب الشديد. ومن آثار هذا محبة الإنسان لأعمال الخير التي هي الجنة، وكراهته لأعمال الشر التي هي النار، هذا دليل على خشيته لله. فهذه الأعمال أعمال الخير: الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والصدقة، وقراءة القرآن، وتعلم العلم والدعوة إليه، هذه هي الجنة، أي: أبواب الجنة، فمن أحب الجنة فلا يمكن أن يرد إليها إلا من هذه الأبواب، فليس للجنة إلا هذه الأبواب. فمن أحب أن يكون من أهل الجنة عليه أن يلزم هذه الأبواب، عليه أن يجيب نداء الله إذا سمع المنادي ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أن يبادر للصدقة في أول المتصدقين في أول كل يوم، أن يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، أن يكون من المنقطعين عن المعاصي في كل الأوقات، وبهذا فعلاً يكون من المقبلين على الله سبحانه وتعالى، والجادين في طلب الجنة. أما الذين يتمنون الأماني ويظنون أن كل إنسان منهم سيؤتى صحفاً منشرة، فقد سبقهم المشركون إلى ذلك، فكل إنسان من المشركين واليهود والنصارى يتمنى دخول الجنة، لكن هيهات هيهات، ليست الجنة لأولئك ومن على شاكلتهم، بل بينهم وبين الجنة حاجز عظيم: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:13 - 15]، فليست محبة الجنة بمجرد التمني، وليس الخوف من النار كذلك بمجرد التمني، ولكن من أحب الجنة أحب عملها وبادر إليه، ومن خاف النار خاف عملها وكرهه وأدبر عنه.

عدم الغفلة

عدم الغفلة بعد معرفتنا بعضاً من علامات عدم الخشية نعلم أن ضدها دليل على الخشية فالإنسان الذي يخشى الله هو مشغولٌ بالله لا يرغد ولا يستغرق في شيء من أمر الدنيا، وهو ينتظر منادي الله في كل يوم، وهو مستعد لأن ينتقل إلى الدار الآخرة هذا اليوم؛ لأنه يعلم أنه بالإمكان أن يأتي أجله في هذا اليوم، فهو ينتظر ملك الموت في كل ساعة: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185]. ينتظر منادي الله سبحانه وتعالى، فإذا ناداه لبى بنفس مطمئنة، ليقال له: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، لا يكون من الغافلين، بل ينام على ذكر الله، وعند الاستيقاظ يستيقظ على ذكر الله، وعند الدخول إلى البيت يدخل على ذكر الله، وعند الخروج يخرج على ذكر الله، وعند الأكل يأكل على ذكر الله، وعند الانتهاء ينتهي على ذكر الله، وعند الشرب كذلك وهكذا في كل أحواله، فهو منتبه غير غافل عن الله سبحانه وتعالى. كذلك عدم الغفلة عن الآيات، فمن علامات الخشية: أن يكون الإنسان منتبهاً لهذا الكون، وما فيه من الآيات والعجائب، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:190 - 194]، فهؤلاء يخافون الله تعالى ويخشونه؛ فلذلك أجابهم الله تعالى واستجاب دعاءهم وحقق رجاءهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنزل عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها، فقرأ خواتيم سورة آل عمران -وهي هذه الآيات-)، فويل لمن قرأها ولم يتدبرها! فالذين إذا غارت النجوم لا يستشعرون بقاء الله سبحانه وتعالى ودوامه، وإذا طلع الفجر لا يتذكرون نعمة الله بالإصباح، فهو: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام:96]، وإذا طلعت الشمس لم تذكرهم بالله، وإذا غربت لم تذكرهم بالله، هؤلاء هم الغافلون، والذين يتذكرون الله في كل تلك الأحيان، لا يمكن أن يكونوا إلا من الذين يخشون الله تعالى؛ لأنهم يرون هذه نذراً ورسلاً من عند الله. إذا طلعت الشمس فهي منذر الله سبحانه وتعالى يذكر باقتراب الأجل، ويذكر بأمر الله تعالى، وإذا غربت فهي منذر الله يذكر بدنو الأجل وباقتراب الآخرة، وإذا طلع الفجر كذلك، وهكذا في كل أمر يتجدد من آيات الله ومن عجائب هذا الكون، وقد قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].

آثار الخشية من الله عز وجل

آثار الخشية من الله عز وجل

من آثار الخشية: البركة في العلم

من آثار الخشية: البركة في العلم كذلك من آثار هذه الخشية: البركة في العلم: فالإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلاً، كما قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، لكن إذا خشي الله سبحانه وتعالى وأناب إليه، وكانت الآخرة جل همه، ولم تكن الدنيا جل همه ولا مبلغ علمه، وأقبل على الله سبحانه وتعالى؛ فسيبارك له في اليسير الذي معه من العلم؛ لأن فائدة العلم العمل، وسيوفق الخاشي لله سبحانه وتعالى للعمل بما تعلم، فيكون هذا العلم الذي ناله -ولو كان يسيراً- مباركاً فيه؛ ولذلك يستطيع استغلال الأوقات فيما هو أرشد وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى. فالإنسان العالم هو بمثابة التاجر يريد الربح، فهو يبحث عن أرباح الصفقات مع الله سبحانه وتعالى بكل دقيقة أو ثانية يعيشها في هذه الحياة، يبحث عن أفضل ما تصرف فيه الأوقات؛ فيصرفها فيه؛ ولذلك قال أحمد: (لو قيل لـ وكيع: إنك تموت غداً، لما استطاع أن يزيد شيئاً)؛ لأن كل أوقاته مشغولة ليس فيها فراغ ولا وقت ليس فيه عبادة، فهو مشغول بالله سبحانه وتعالى، ومقبل على الله بكل أموره، إذا نام فهو يرجو في نومته ما يحتسب في قومته، كما قال أبو الدرداء، وإذا أكل فمن حلال وسيصرفه بطاعة الله، وإذا شرب فكذلك، فكل أعماله لوجه الله سبحانه وتعالى حتى جلوسه واتكاؤه وقيامه، كل ذلك لوجه الله. ولهذا فإن أهل الخشية يجعلون هذه الدنيا محراباً كبيراً للتعبد، فكل ما فيها من الأعمال هو عبادة لله، حتى لو كان تجارة أو زراعة أو صناعة أو دراسة لعلم دنيوي، كل ما في الدنيا من الأعمال يجعلونه عبادة لله، فعبادتهم في المحراب في كل أوقاتهم، إذا كانوا في غرف النوم، أو كانوا في المتاجر، أو كانوا في المكاتب، فهم في محراب للتعبد، كل أوقاتهم مصروفة لعبادة الله تعالى ينتظرون الأمر فيبادرون إليه؛ ولذلك قال أحد علمائنا: (ألذ ما في الدنيا أن يأتيك الخطاب وقد تعلمت أحكامه، فتوفق لتطبيقه على نحو ما علمت)، أي: إن ألذ ما في هذه الحياة الدنيا، أن يأتي الخطاب من عند الله، وقد عرف الإنسان حكمه قبل أن يأتيه، فيطبقه على نحو ما تعلم، فهذه اللذة العجيبة التي يجدها أهل خشية الله تعالى في مثل هذا النوع، سعادة من سعادات الدنيا لا يمكن أن يعدلها ما سواها.

من آثار الخشية: حصول البركة في العمر

من آثار الخشية: حصول البركة في العمر كذلك فإن من آثار هذه الخشية، أنها تؤدي إلى البركة في العمر: فمدة بقاء الإنسان يسيرة جداً، مثلما عاش سحرة فرعون بعد الإيمان، فما كان قبل إيمانهم من أعمارهم لا يعد؛ لأن الإيمان يجبُّ ما قبله، فأعمارهم إنما هي تلك اللحظات التي مكثوها في الإيمان بعد أن ذاقوا طعمه وخروا سجداً لله تعالى، فإنهم قبل لحظات كانوا يحلفون بعزة فرعون، قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:41 - 46]، في هذه اللحظة خروا سجداً لله تعالى وتابوا وأنابوا وعرفوا الخشية، فكانوا من الساجدين لله تعالى الخائفين منه في لحظة واحدة، لكن كانت هذه اللحظة مباركة حين أوصلتهم إلى الجنة، فعمر الإنسان ولو عاش ألف سنة على هذه الأرض ولم يوفق للطاعة، بل كان عمره سبباً لدخوله النار، لا فائدة منه. ولو أنه عاش لحظة واحدة على الأرض، وكانت سبباً لدخوله الجنة، فهو عمر مبارك، ولا يضره ما فات من أعمار الناس، لا يضره ما لم يبلغه من أعمار الناس، ولذلك فإن خشية الله تعالى سرٌ لبركة العمر وفائدته، حتى لو كان قصيراً، ولو كان العمل فيه يسيراً، فإن الله سيبارك فيه ويتقبله من صاحبه.

من آثار الخشية: الاستغناء بما آتاه الله

من آثار الخشية: الاستغناء بما آتاه الله كذلك من فوائد خشية الله سبحانه وتعالى: أنها تقتضي من الإنسان الاستغناء بما آتاه الله، فينال بذلك الحرية والانعتاق من أسباب المذلة والهوان، فالإنسان الذي يخشى الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يذل لمخلوق على طمع، ولا يمكن أن يخنع لأي سبب من الأسباب؛ لأنه يعلم أن رزقه قد كتب، وأن أجله قد كتب، وأنه لا يمكن أن يزاد فيه، ولا أن ينقص منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). من أدرك هذا ونال الخشية استطاع بذلك التحرر من ضغوط الآدميين، والانعتاق من قيودهم، فهو عبد لله تعالى حر من العبودية للمخلوقين، مقبل على الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يذل لمخلوق ولا يعرف الخنوع والركوع لغير الله سبحانه وتعالى.

من آثار الخشية: صلاح ذريتة من بعده

من آثار الخشية: صلاح ذريتة من بعده كذلك من آثار الخشية ما يجده الإنسان في ذريته من بعده، فمن كان من أهل خشية الله يصلح الله له ذريته، ويجعل له امتداداً في عمره فيما بعد، ويكونون أيضاً أهل جوار له في الجنة كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، فتلحق بهم ذرياتهم من بعدهم؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]، قد حقق الله مراد الغلامين ورعى فيهما حق أبويهما بعد موت الأبوين، فكان ذلك سبباً لصلاح الأولاد، وتيسر أمورهم الدنيوية.

من آثار الخشية: أنها تغير حال الإنسان

من آثار الخشية: أنها تغير حال الإنسان كذلك فإن من آثار الخشية: أنها تغير حال الإنسان، فالإنسان قبل أن يتصف بخشية الله، قبل الخوف من الله، يكون عدواً لنفسه متسلطاً عليها يصرفها في معصية الله، فما أنعم الله عليه من النعم من السمع والبصر والوقت والشباب والمال، مصروف إلى عداوة نفسه، لأنه لا يضر الله شيئاً، فالعاصي لا يضر إلا نفسه. وبعد الخشية: يبدل الله حاله بالكلية، كما قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:70 - 71].

من آثار الخشية: أنها من أسباب استجابة الدعاء

من آثار الخشية: أنها من أسباب استجابة الدعاء كذلك من آثار الخشية: أنها سبب لاستجابة الدعاء، فمن كان من أهل خشية الله، فقد تعرف إلى الله في الرخاء، فسيعرفه الله في الشدة، فإذا أمسك جوارحه عن معصية الله يسر الله جوارحه للطاعة، فجعل سمعه تبعاً لأمر الله، وبصره تبعاً لأمر الله، ويده تبعاً لأمر الله، ورجله تبعاً لأمر الله، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). فصوته بالمسألة والدعاء غير مجهول عند الله؛ فلذلك من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه في الشدة، فإذا رفع يديه إلى الله استجاب دعاءه، وإذا عرض فبمجرد التعريض يجيب الله دعائه. ولذلك فالأنبياء منهم من يصرح بالدعاء كإبراهيم الذي قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:37 - 38]. ومنهم من يعرض بالدعاء كأيوب عليه السلام، فقد مكث في الأذى ثماني عشرة سنة، وقد أصيب بأنواع البلاء، وامتحنه الله تعالى بذلك محبة له، فالله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً ابتلاه: (وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، وكان من شدة بلائه أنه لا يستطيع التصرف في شيء من بدنه، وكانت زوجته برة به، فكانت تنفق عليه وتعالجه، فلما نفذ ما معهم من المال لم يحل لها أن تسأل الناس؛ لأنه نبي معصوم فلا يحل له السؤال ولا لأهل بيته، فبحثت عن العمل فعملت حتى إذا لم تجد عملاً باعت قرون رأسها، فكانت تقطع قرناً فتبيعه، فتغذيه بثمنه، ثم تقطع قرناً آخر، حتى نفذ ما نبت من الشعر من رأسها. فلما رأى أيوب ذلك، وقد جاءه رجلان كانا من أقاربه، ومن أخص الناس به، فقال أحدهما: لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من أهل الأرض! فقال الآخر: ولم؟ فقال: قد ابتلاه الله ثماني عشرة سنة ولم يرفع عنه البلاء، فلما ذهبا مد أيوب يده إلى الله تعالى فقال: ربّ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، وكانت زوجته إذ ذاك خرجت، وتركته قريباً من مزبلة لبني إسرائيل، فلما عادت إلى أيوب وقد رفع الله عنه البلاء، وأمره الله أن يركض برجله في الموضع الذي هو فيه، فخرج له ماء عذب؛ فاغتسل وشرب منه، وزال عنه البلاء بالكلية، وأنزل الله له لباساً من لباس الجنة فلبسه فتغيرت حالته وصورته، فلما رأته لم تعرفه، فقالت: أين الرجل المبتلى الذي كان هنا، لعله تخطفته الكلاب، فقال: أنا أيوب، قد استجاب الله لي ورفع عني البلاء!! لذلك قد عرَّض أيوب بالدعاء بعد هذا الصبر الطويل على البلاء ولم يسأل رفعه؛ لعلمه بالأجر المترتب عليه، حتى إذا نفذت الأسباب كلها ولم يبق أي سبب حتى شعر رأس امرأته، قال: رب {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فلم يسأله حتى أن يرفع عنه الضر، بل عرض له فاستجاب الله ذلك ورفع عنه البلاء.

من آثار الخشية: قوة الإيمان

من آثار الخشية: قوة الإيمان والخشية إذا حصلت للإنسان كانت قوة عظيمة وامتداداً في الإيمان، فالإنسان يحب القوة، والقوة أهمها قوة الإيمان؛ لأنها التي يضعف أمامها سلطان الدنيا وكل ما فيها، وليس لسلطان الدنيا طاقة بقوة الإيمان، فسحرة فرعون حين قذف الله في قلوبهم الإيمان قواهم الله قوة عجيبة تتحدى طغيان الأرض جميعاً. عندما خاصمهم فرعون بكل كبرياء وجبروت، فقال في تهديده لهم بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأنه سيصلبهم في جذوع النخل، قالوا له: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:72 - 76]. وقد ألهمهم الله تعالى بهذه الجمل خلاصة علم الأولين والآخرين، فكل ما يتنافس الناس فيه من العلم، وما يدرس في الجامعات وما تؤلف فيه المؤلفات، نتيجته جملتان فقط: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75]، هذه خلاصة علم الأولين والآخرين. وقد قذف الله في قلوب هؤلاء السحرة لما آمنوا بالله وصدقوا، وانقادوا وخروا سجداً لوجه الله العظيم؛ قذف الله في قلوبهم خشية الله، فنالوا بها هذه القوة الرهيبة التي تضاءل أمامها طاغية أهل الأرض، وضعف أمامها بكل ما يملكه من جبروت وقوة.

من آثار الخشية: التوفيق للطاعات

من آثار الخشية: التوفيق للطاعات كذلك من آثار هذه الخشية، أنها تقتضي من الإنسان التوفيق للطاعات، فمن كان من أهل الخشية، لا بد له أن ييسر له قيام الليل والناس نيام، ولا بد أن ييسر له قيام النفل في وقت الهواجر والحر، ولا بد أن ييسر له الذكر، ولا بد أن ييسر له العلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل). فلذلك لا شك أن الذي يخاف سيدلج؛ لأنه يجمع سير الليل بسير النهار؛ لأنه يخاف الله سبحانه وتعالى، فهو يريد ما يقربه منه، وينجيه من عقابه، فيجمع عمل الليل وعمل النهار؛ وبذلك يوفق لهذه الطاعات الكبار.

من آثار الخشية: أنها سبب لدخول الجنة

من آثار الخشية: أنها سبب لدخول الجنة وكذلك من آثار الخشية: أنها سبب لدخول الجنة، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:6 - 8]، فهذا لمن خشي ربه، فلا ينال ذلك إلا من خشي ربه.

الشهوة والشبهة مرضان ينافيان الخشية من الله

الشهوة والشبهة مرضان ينافيان الخشية من الله إن هذه الخشية التي ذكرنا آثارها ومظاهرها، وعلامة نقصها؛ أمر عظيم كما ذكرنا، وقيمة من قيم الإيمان، فعلى كل إنسان أن يحرص على تحقيقها وأن يحرص على زيادتها بعد تحقيقها، ونحن نعلم أن أصحاب الغفلة المعرضين عن الله تعالى، سر ذلك فيهم أحد أمرين: إما الشهوة وإما الشبهة، فهما المرضان اللذان يضادان خشية الله تعالى، فلا بد من علاج هذين المرضين. ولا بد أن ينتبه الإنسان لنفسه حتى يشخص مرضه بأي المرضين قد ابتلي، فإذا كان قد ابتلي بالشهوة، فعلاجها يسير جداً وهي أهون من الشبهة؛ لأن الشبهة أمر عقدي قلبي، وهي صعبة الإزالة، وأما الشهوة فهي أمر ظاهر يسهل علاجه.

علاج النفس بمراقبة الله

علاج النفس بمراقبة الله كذلك لا بد لعلاج الإنسان لنفسه من مراقبة دورية دائمة، فكل جهاز من الأجهزة يحتاج إلى عرض على الأخصائي في كل فترة من الفترات، كما يأتي الإنسان بسيارته إلى الشركة لعرضها عليها؛ لتعيد ما تحرك من مكانه، ولتعالج ما حصل فيها من النقص، كذلك لا بد أن يراجع الإنسان إيمانه، وأن يشد عقد الإيمان في قلبه، وأن يراقب أعماله، وأن يحاسب نفسه على ما أوتي من النعم، وعلى ما فعل من المعاصي، فلا بد أن يكون للإنسان وقت دوري يراجع فيه هذه الأمور. فإذا فعل الإنسان ذلك كان في مجال خشية الله في ازدياد دائم، وإذا فعل وترك هذه المراجعة أسبوعاً وأسبوعين وثلاثة ختم على قلبه بطابع النفاق -نسأل الله السلامة والعافية- كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجمعة، فالجمعة فيها الذكرى والموعظة، فإذا تخلف الإنسان عنها ولم يستمع موعظة ولا ذكرى فيصعب عليه فيما بعد أن تسيل دمعتاه من خشية الله، أما إذا كان الإنسان في كل أسبوع يسمع موعظة ويبكي من خشية الله، فسيسهل عليه البكاء من خشية الله في المستقبل. وما نشكوه نحن الآن من قسوة القلوب وجمود الدموع، ما سببه إلا الإعراض عن الذكرى والانقطاع عنها، فلو كان الإنسان في مجالسه في كل أسبوع يجدد الذكرى ويراجع عقد إيمانه، ويتذكر ما فرط فيه في جنب الله، ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة، فإن ذلك سبب لخشية الله وقوة هذه الخشية لديه وزيادتها.

علاج مرض الشبهة

علاج مرض الشبهة أما الشبهة: فعلاجها إنما هو باليقين، أن يفهم الإنسان أن الشيطان عدو له، وأنه يلقي في ذهنه أموراً هي بمثابة نسج العنكبوت، وأن ما يلقيه الشيطان في قلب الإنسان من وحيه وتدبيره ووساوسه؛ ما هو إلا بمثابة نسج العنكبوت، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، حبال العنكبوت هل يستطيع الإنسان أن يتعلق بها، أو أن يتوصل بها إلى أي شيء؟ وشبهات الشيطان التي يلقيها في قلب الإنسان هي بمثابة بناء العنكبوت؛ ولذلك يزيلها الذكر ويحطمها، فالذكر الحاصل يقطع على الشيطان حبال العنكبوت التي يلقيها في قلب الإنسان؛ وبذلك يستطيع الإنسان التغلب على خطوات الشيطان بالتخلص مما يلقيه من الوساوس والأوهام، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:52 - 54]. وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:48 - 49]؛ فلذلك كل ما يلقيه الشيطان من الوساوس والأوهام، على الإنسان أن يتخلص منه بذكر الله، فمن وساوس الشيطان -مثلاً- النسيان والغفلة، فإذا أحس الإنسان بذلك فعليه أن يبادر إلى ذكر الله، كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24]. ومن وساوس الشيطان كذلك وأوهامه: تشكيكه في أمور الآخرة وفي أمور الاعتقاد، وتخلص الإنسان من ذلك بذكره لله تعالى، فإذا أقبل على الاستغفار ذهبت بالكلية. وكذلك من وساوس الشيطان: ما يزينه للإنسان من تطويل الأمل، ومن أنه سيتوب إذا كبر، وأنه سيترك هذه المعاصي إذا تجاوز الخمسين أو الستين من عمره؛ لكن من يضمن لك أن تصل الخمسين أو الستين؟ ومن يضمن لك إذا وصلت إليها أن لا يختم على قلبك فتستمر على المعصية؟ فإن الله تعالى يقول في كتابه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109 - 111]. ثم بعد ذلك لو قدر أنك وصلت إلى ما مناك الشيطان، فبلغت الستين أو السبعين من العمر، وعرفت أن ما أنت فيه لا يصلح، وندمت عليه وتبت منه، لكن تجد نفسك قد ضعفت أيضاً عن الطاعات، فكما يضعف الإنسان عن المعاصي يضعف عن الطاعات أيضاً، وإذا تقدم به العمر أحس بالآلام في ظهره وفي كتفيه وفي جنبيه وفي ركبتيه وفي أطرافه، فكما ضعف عن المعصية ضعف عن الطاعة، فلذلك عليه أن يبادر إلى الطاعة ما دام يقدر عليها، وما دام يجد في نفسه طاقة وجلداً، قبل فوات الأوان. وعليه أن يتذكر أن الشيطان عدو له في كل أوقاته، ولا يمكن أن ينصحه إلا بما فيه ضرر عليه، فهو يريد إفساد عمره في غير طائل، كما سعى من قبل لإخراج آدم وحواء من الجنة: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22]؛ فلذلك على الإنسان أن يحرص على عدم اتباع خطوات الشيطان، وأن يتذكر أن الشبهة التي يلقيها الشيطان في نفسه هي من خطوات الشيطان التي نهي الإنسان عن اتباعها، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، فعلى الإنسان أن يجتنبها بالكلية وأن يحذر منها.

علاج مرض الشهوة

علاج مرض الشهوة فالشهوة علاجها: أن يتذكر الإنسان أن محبوبه من الدنيا والذي يتعلق قلبه به، نهايته في القمامة، إذا تعلق قلب الإنسان بإنسان آخر فأحبه، ليتذكر مضي أسبوع عليه تحت التراب في القبر، هل يسره أن يراه وقد انتفخ بدنه وتشقق وأكل الدود ما في عينه، وهو يعلم أنه ميت لا محالة؛ فلذلك على الإنسان إذا أحب إنساناً أن يتذكر حاله بعد الموت، وبعد الدفن، وماذا سيحصل من التغير فيه، هل يحب أن تنبش له عظامه ويراها؟! هذا هو الأمر الأول. كذلك إذا أحب شيئاً من أمر الدنيا الآخر، كأن أحب داراً من الدور الشاهقة، فليمكث مدة وسيراها في القمامة، سيرى حطامها وقد استأجروا عليه بالأموال الطائلة لينقل إلى القمامة، ومن طال عمره شاهد ذلك في هذه الحياة، يشاهد الدور التي بناها أهلوها بأغلى الأثمان، وتكلفوا عليها الدراسات، وهي تنقل بعد أن تأذوا بأنقاضها وأوساخها، ويستأجرون من ينقلها عنهم إلى القمامة، وكذلك الثياب والفرش والسيارات، إذا تمتع بها الإنسان مدة يسيرة، بحث عنها فوجد بقاياها في القمامة، فالسيارة الفارهة أين توجد بقاياها؟! سترمى في القمامة، والملابس والفرش الغالية أين توجد؟! ستوجد نهايتها في القمامة، فإذا عرف الإنسان هذا هانت عليه ملذات الدنيا وشهواتها. ثم عليه أن يفكر أيضاً، فليقدر أنه فعلاً قد وصل إلى ما اشتهاه وتمناه، فالشهوة إنما تتعلق بأمر دنيوي، لا تتعلق بأمر الآخرة، فإذا أحب أمراً دنيوياً فليتصور في نفسه أنه وصل إليه فعلاً، لكن ثم ماذا؟ ألم يصل من قبل إلى كثير من الأمور؟ ألم يتعلق قلبه بكثير من الأمور فنالها؟! إذا كان ذلك شهادة عالية، ليفكر أنه من قبل قد نال بعض الشهادات، ونجح في بعض الامتحانات، فما فائدة ذلك؟ ما الذي حصل؟ هل تغير حاله؟ لا، بل هو هو، ثم عليه أن يفكر في نفسه على أنه قد بلغ مناه ووصل إلى هذه الوظيفة، ثم ماذا؟ كذلك أي مبتغى من أمور الدنيا، إذا أحب مالاً أو تجارة أو مكانة اجتماعية أو جاهاً، أو أي شيء من أمر الدنيا، ليتصور في نفسه أنه قد وصل إليه فعلاً، فإنه سيحتقره غاية الاحتقار؛ لأنه كان يتمنى أموراً أخرى، فلما وصل إليها امتهنها واحتقرها ولم يقنع بها، ورغب فيما ورائها، فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يعلم أن شهوات الدنيا منتهية مملولة، وأن كل ما فيها من الشواغل، لا ينبغي أن يتعلق به العاقل لسرعة ذهابه وزواله وتغير حاله. وعليه أن يتعلق قلبه بما لا يفنى ولا يبيد، وبما لا يمل بوجه من الوجوه: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]، فإذا تعلق بما عند الله، ورغب في الدار الآخرة، كان من أهلها كما قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19]، وكما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].

مجالسة أهل الخشية أحياء وأمواتا

مجالسة أهل الخشية أحياء وأمواتاً وكذلك من الأسباب التي تزيد خشية الإنسان لله تعالى: مجالسته لأهل الخشية، فالإنسان الذي يزور أهل الخشية ويلقاهم ويرى ما هم فيه، فإنهم يذكرونه بالله سبحانه وتعالى في حركاتهم وسكناتهم، ويسمع في أقوالهم وتصرفاتهم ما يدل على الخشية من الله تعالى، ولهذا قال أهل العلم: ليس حسن التلاوة بحسن الصوت، إنما حسن التلاوة إذا سمعت صوته عرفت أنه يخاف الله؛ فلذلك كانت مجالسة هؤلاء مما يقوي خشية الله سبحانه وتعالى في القلوب. وقد قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، فعلى الإنسان أن يحرص على زيارة أهل الخشية، وعلى مجالستهم، وعلى السماع منهم، فذلك مما يزيده خشية. وكذلك زيارتهم بعد الموت بالاطلاع على سيرهم وقصصهم، فقراءة الإنسان لحياة أهل الخشية من الذين ماتوا ومضوا مما يزيده خشية وإيماناً، إذا كان الإنسان يدرس سير الصحابة والتابعين، وسير الصالحين من هذه الأمة، فسيجد فيهم أسوة لنفسه وقدوة صالحة يقتدي بها، وإذا مر به أي حال من الأحوال فسيجد نظيره قد مر ببعض السلف الصالح، ومن هنا: يمكن أن يقتدي بهم وأن يجد فيهم الأسوة الصالحة. ولهذا كان كثير من أهل العلم والصلاح يزورون أهل الخشية، ولو كانوا دونهم مستوى في العلم، فكان كثير من علمائنا يزورون رابعة العدوية فيرون إقبالها على الله وبكاءها في صلاتها وعبادتها، فتذكرهم بالله سبحانه وتعالى بذلك. وقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يسير في الطريق فوقف على باب امرأة من الأنصار فإذا هي تقرأ في صلاتها: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاء شديداً، وقال: نعم أتاني، نعم أتاني)، والغاشية: القيامة، كذلك فقد زار أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أم أيمن رضي الله عنها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها: (فلما جلسا عندها بكت، فقالا لها: ما يبكيك، أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا؟ فقالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء، فبكيا بكاء شديداً). يحتاج الإنسان إلى زيارة من يبكيه، وإذا لم يجده في الأحياء، اطلع على سيرته في الأموات، ففي الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر، وسيرهم موجودة مدونة، والكتب موجودة بين أيدينا وهي تحوي أخبارهم، وقد قال ابن هلال رحمه الله: لنا جلساء ما يُمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم من مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا فإن قلت أحياء فلست بكاذب وإن قلت أموات فلست مفندا وقد قال ابن المبارك رحمه الله: (سير الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده)، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].

نماذج من أهل الخشية

نماذج من أهل الخشية ولهذا فقصص الأنبياء في القرآن من تدبره وقرأه بهذه الروح؛ نال بذلك هذه الخشية، وزاده هذا خشية لله سبحانه وتعالى، وبالأخص إذا تذكر الإنسان أنه لا يساوي شيئاً مما كانوا عليه من العبادة والإيمان والقرب والتقريب، فكيف يكونون بهذا المستوى من الخشية ونحن لا نخاف!

نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام

نبي الله يحيى بن زكريا عليهما السلام إن أنبياء الله سبحانه وتعالى وحوارييهم كانوا يخافون الله خوفاً شديداً، وقد قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام، فقد كان يخشى الله تعالى خشية شديدة، فكان يبكي حتى يتخرق شدقاه من البكاء من خشية الله سبحانه وتعالى، وهو نبي ابن نبي، وقد بشر الله به أباه، وشهد له بالخير، وبين الله سبحانه وتعالى درجته في الصالحين، ومع ذلك يبكي من خشية الله حتى يتخرق شدقاه من الخشية.

سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم

سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ومن خشية نبينا صلى الله عليه وسلم لله تبارك وتعالى: (أنه كان يقوم الليل فيطول القيام حتى تورمت قدماه، فيقال له: ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً). وكان إذا رأى المطر خاف خوفاً شديداً، فكان يدخل ويخرج ويقبل ويدبر من خشية الله، فقيل له في ذلك، فقال: (خشيت أن تكون كقوم هود الذين قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فقيل لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24])؛ وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس -وهذا أمر يتكرر فتكسف الشمس، ويخسف القمر ولا نرى الفزع ولا الجزع في قلوب الناس!! وهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما قلوب عباده- فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس خاف خوفاً شديداً، وقام فصلى فأطال الصلاة، ووعظ الناس وذكرهم. وكذلك لما جاء القحط، فخاف وبدا التأثر عليه، وقام في الناس خطيباً في صلاة الاستسقاء، فقال فيما روت عنه عائشة رضي الله عنها: (إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغاً إلى حين، اللهم إن بالعباد والبلاد، والخلائق والبهائم من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً). فهذا حال أنبياء الله، وحال أصحابهم من بعدهم، فجدير بنا أن نحرص على أن تزداد خشيتنا لله، وخوفنا منه، وبالأخص عندما يتعرض الله لنا بالأخذ، ففي هذه الأيام -مثلاً- يشكو الناس من ارتفاع في الأسعار، وتراجع في القوة الشرائية، وهذا من أمر الله سبحانه وتعالى، لكن كثيراً من الناس يغفلون عنه، فيبحثون عن الأسباب الدنيوية المباشرة وينسون الذنوب التي هي سر ذلك كله، وقد قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، فما يصيب الناس من اللأواء والجهد والضنك، كله بسبب ذنوبهم، وقد أخرج ابن ماجة في السنن وأحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً، فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها، إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم)، ومصداق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ما نشهده الآن من انتشار الإيدز. فلذلك قال: (ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وجور السلطان ونقص المئونة، وما نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). فلذلك لا بد إذا تعرض الله لنا بشيء من أخذه أن نبادر إلى التوبة وأن نزداد خشية لله وخوفاً منه، وقد قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43]. نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا خشيته في السر والعلانية، وأن يجعلنا من الذين يخافون الله ويخشونه، وأن يجعلنا من المخلِصين المخلَصين، وأن يزيدنا إيماناً ويقيناً، وأن يجعلنا أجمعين قرة عين للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يرزقنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وأن يسقينا من حوضه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يعطينا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، وأن يجوزنا على الصراط كالبرق الخاطف، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه

أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكذلك من دونهم من أصحابهم وحوارييهم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه من السابقين الأولين من المهاجرين، وقد بذل نفسه لله تعالى وماله، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، ولم يتخلف عنه في غزوة من الغزوات، شهد بدراً والمشاهد كلها، وقد دخل في قول الله تعالى لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وبايع تحت الشجرة فدخل في قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، ودخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعيين بالجنة، وبين أنه رأى قصره في الجنة، وبعض نسائه في ذلك القصر. وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون من خلفائه بعده فقال: (رأيت في المنام كأنني على فم بئر وبيدي دلو بكرة فانتزعت بها ما شاء الله أن أنزع، ثم تناولها ابن أبي قحافة فانتزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يرحمه! ثم تناولها ابن الخطاب فاستحالت غربا، فلم أر عبقرياً يفري فريه، حتى ضرب الناس بعطن)، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى الناس يعرضون عليه وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها دون ذلك، ورأى عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قيل: فما أولتها يا رسول الله؟ قال: العلم). وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم: (أتي في المنام بقدح من لبن فشرب منه حتى رأى الرّي يخرج من تحت أظافره، ثم ناول فضلته عمر بن الخطاب، فقيل: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الإيمان)، ومع هذا ينال الشهادة في سبيل الله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته عشر سنين وأشهراً وضاعف الرقعة وجاهد في الله، وعدل بين الرعية. ومع هذا ينال الشهادة في سبيل الله فيبكي بكاءً شديداً ويقول لابنه وقد كان يجعل خده على فخذه: (آليت عليك لتضعن خدي على الأرض)، فيضع خده على الأرض وهو يبكي حتى تقطر دمعتاه على الأرض، فيقول له ابن عباس: (يا أمير المؤمنين! ألم يشهد لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ ألم تشهد بدراً؟ ألم تبايع تحت الشجرة؟) فيقول: (لعل ذلك على شرط لم يقع، ليتني كنت حيضة حاضتها أمي، وددت أني خرجت من كل ذلك كفافاً لا عليّ ولا لي!)، هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ماذا نقول نحن إذاً؟! إذا كان عمر وهو بهذا المستوى يخاف أن لا يتقبل الله منه، ويخاف أن يكون كل ما شهد له به من الخير على شرط لم يتحقق، فماذا عسى أن نكون عليه من خشية الله وخوفه؟!

نبي الله موسى بن عمران عليه السلام

نبي الله موسى بن عمران عليه السلام وإذا كان موسى بن عمران الذي اصطفاه الله بسماع كلامه كفاحاً دون ترجمان، وكتب الله له التوراة في الألواح بيمينه، ومع هذا يخاف الله بهذا الخوف الذي قص الله علينا، فقال: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:155 - 157]. إذا قرأ الإنسان تعامل هؤلاء الأنبياء المكرمين مع الله سبحانه وتعالى احتقر نفسه، وعرف أنه أولى بالخشية والخوف من الله سبحانه وتعالى، فهم قد غفر الله لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وضمن لهم الجنة، وشفعهم في أممهم، وخاطبهم بالوحي وأعلى منزلتهم، واصطنع موسى على عينه -كما أخبر بذلك- وشرفه بكلامه، ومع هذا فهم يخافون الله هذا المستوى من الخوف، فكيف نحن لا نخاف الله سبحانه وتعالى؟!

الأسئلة

الأسئلة

علاج عدم البكاء من خشية الله

علاج عدم البكاء من خشية الله Q أنا مسلمة من أسرة محافظة، أحضر بعض المحاضرات وأسمع بعض الأشرطة الدينية؛ لكنني وبكل أسف يصعب عليّ أن أبكي من خشية الله، فبماذا يفسر ذلك؟ A أن هذا من القسوة، وبالإمكان إزالته إذا شهدت هذه الأخت كثيراً من المواعظ واستمعت إليها، وفكرت في خاصة نفسها، وتدبرت في خلواتها، فجلست وحدها في غرفة ليس معها فيها أحد، وتذكرت وقت عرضها على الله، وتذكرت حالها في قبرها وانقطاعها عن هذه الدنيا، وتذكرت سؤال الله لها عما آتاها، فكل ذلك مما يعين على الزيادة من خشية الله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به، على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً. لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيّون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق. لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلى وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتُعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض؛ أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا بين معاصيك، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا. اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم لا تدع لنا في عشيتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا مجاهداً إلا أيدته ونصرته، ولا عدواً إلا كبته وخذلته وكفيته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا جاهلاً إلا علمته، ولا فقيراً إلا أغنيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله، ولو كره المشركون، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا سميع الدعاء. اللهم حقق رجاءنا واستجب دعائنا، وأصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم اجعل القبر خير بيت نعمره، اللهم نور قلوبنا وقبورنا ووجوهنا يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا في ساعتنا هذه أجمعين، وأهد المسيئين منا إلى المحسنين يا أرحم الراحمين. اللهم هؤلاء عبادك وإماؤك قد اجتمعوا في بيت من بيوتك يرفعون إليك أيدي الضراعة فلا تردهم خائبين، ولا تجعلهم عن رحمتك من المطرودين، وأهد المسيئين منهم للمحسنين يا أرحم الراحمين. اللهم حقق رجاءنا واستجب دعاءنا، وأصلح أولادنا، وحقق مرادنا، وأصلح مرادنا يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك من كل خير سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون، ونعوذ بك من كل شر استعاذك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون، وأنت المستعان، عليك توكلنا وإليك المصير. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الداعي إلى المعصية له قسط منها

الداعي إلى المعصية له قسط منها Q قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، والبعض يحكي قصصاً عن امرأة فعلت معصية فتكون سبباً في معصية غيرها، فما قولك في هذا؟ A أن المقصود هنا بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، أن الذنب الذي فعله الإنسان هو المسئول عنه، ولا يسأل عنه غيره، فلا يمكن أن يتحمل أحد وزر أحد، ولا يمكن أن يتحمل أحد ذنب أحد، لكن إذا فعل الإنسان ذنباً ودعا إليه، فمن استجاب لدعوته إلى ذلك الذنب، كتب عليه قسط من ذلك الذنب، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم:: (أن ابن آدم الأول هو أول من سن القتل على الأرض، فما قتلت نفس بظلم بعد، إلا كان على ابن آدم الأول قسط من ذلك القتل)، وقال: (من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)، ومن الدعوة إلى الفعل: إعلانه وإبرازه أمام الناس، فذلك دعوة إليه، وذلك أن كثرة المساس تثير الإحساس.

الأسباب المعينة على قيام الليل

الأسباب المعينة على قيام الليل Q بماذا تنصحون من يحب قيام الليل ولكنه لم يستطع الدوام عليه، وإن قام ليلة نام الليلة الموالية؟ A إن ذلك إنما يكون بالإعداد له، فإذا نام الإنسان وقتاً من النهار ولو كان يسيراً، ونام أول الليل، وضبط الساعة أو الهاتف الجوال على الوقت الذي يريد القيام فيه، وأوصى أهل المنزل أن يقيموه، أو أوصى من جيرانه من يتصل عليه في ذلك الوقت، ويكون هذا من التعاون على البر والتقوى، ومما يعينه على قيام الليل، وكذلك مما يعين عليه: أن يقرأ الإنسان كل ليلة في صلاته ما راجعه في النهار من القرآن.

رعية النساء التي سيسألن عنها

رعية النساء التي سيسألن عنها Q ما هي رعية النساء التي سيسألن عنها؟ A أن النساء قد استرعاهن الله سبحانه وتعالى أنفسهن وجوارحهن، واسترعى من لها زوج وأولاد وبيت، هذه الرعية أيضاً، فكل ذلك من الرعية التي تسأل عنها، وهي من الأمانة الداخلة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72]، فعليهن أن يتقين الله فيها، وأن يعلمن أنهن مسئولات عنها بين يدي الله.

علاج من يوسوس أن في أعماله رياء

علاج من يوسوس أن في أعماله رياء Q هذه تقول: أنا امرأة ملتزمة ويصيبني مرض، وهو أن لا أفعل فعلاً إلا وسوس لي في نفسي أن فيه رياء، ولو كنت وحدي؟ A أن هذا من اتباع خطوات الشيطان، وعلى هذه الأخت أن تنبذ عنها هذا النوع، وأن تعلم أن الله سبحانه وتعالى غني عنها وعن عبادتها، وأنها إذا لم تعبده فسيخلق الله من يعبده: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، وعليها أن تعلم أن الدين يسر: (ولا يشاد الدين أحد إلا غلبه)، وأنها عليها أن توغل في الدين برفق، وأن تفعل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأعمال الصالحة تنمي الإيمان

الأعمال الصالحة تنمي الإيمان Q ماذا أفعل مما يعينني على تنمية الإيمان؟ A أن منميات الإيمان هي الأعمال الصالحة، فيحرص الإنسان على أن لا يبقى عمل من الأعمال الصالحة، ومن أعمال البر، إلا كانت له فيه مشاركة؛ فإن ذلك مما يزيد إيمانه، ويقوي صلته بالله تعالى.

ما يلزم المسلمة نحو قرابتها من النصيحة في الدين

ما يلزم المسلمة نحو قرابتها من النصيحة في الدين Q بأية صفة أحدد علاقتي بقراباتي اللواتي يقعن في المعاصي؟ A إن تلك الصفة هي صفة النصيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وقرابتها: تقتضي منها الحرص على نجاتهن من النار، وعلى حصولهن على رضوان الله سبحانه وتعالى، وعليها أن تحرص على هدايتهن، والنصح لهن، وتبذل كل ما في وسعها من أجل نجاتهن من النار.

حكم الصبغ بالسواد

حكم الصبغ بالسواد Q هذا السؤال عن الصبغ بالسواد؟ A قد سبق أنه لا يجوز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجنبوه السواد).

تفسير حديث: (دعاة على أبواب جهنم)

تفسير حديث: (دعاة على أبواب جهنم) Q هذا السؤال عن تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)؟ A أن أبواب جهنم، هي كبائر الإثم والفواحش، فلا بد أن يخرج في الدنيا دعاة إلى تلك الكبائر والفواحش، فمنهم من يدعو إلى الزنا، ومنهم من يدعو إلى شرب الخمر والمخدرات، ومنهم من يدعو إلى قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ومنهم من يدعو إلى عقوق الآباء والأمهات إلخ، فمن أجابهم إلى تلك الأبواب قذفوه فيها. وفي مقابلهم أيضاً دعاة يدعون على أبواب الجنة: من يدعو إلى الصلاة، ومن يدعو إلى الصوم، ومن يدعو إلى الصدقة، ومن يدعو إلى الجهاد، ومن يدعو إلى الزكاة، وهم على أبواب الجنة من أجابهم إليها قدموه إليها.

من لم يمرض مرضا جسميا فقد أنعم الله عليه فليشكره

من لم يمرض مرضاً جسمياً فقد أنعم الله عليه فليشكره Q ما حكم من لم يمرض مرضاً جسمياً قط، هل هذا يعني أنه لن يكفر عنه؟ A لا، هذه نعمة من نعم الله، عليه أن يشكرها لله تعالى وإذا عاش فلا بد أن يصاب بمرض، لكن من نعمة الله أنه دفع عنه هذه الأمراض، ويمكن أن تكون مصائبه في أمور أخرى، فالأمراض قد تكون جسمية، وقد تكون نفسية، وقد تكون إيمانية، وقد تكون عقلية، فإذاً هي متنوعة، نسأل الله السلامة والعافية.

السائل الذي يخرج من المرأة باستمرار معفو عنه

السائل الذي يخرج من المرأة باستمرار معفو عنه Q أنا فتاة أبلغ التاسعة عشرة، ولديّ مشكلة، وهي أنه يخرج مني سائل دائم يبلّ الملابس، فأريد الحكم فيه؟ A هذا هو من السلس المعفو عنه، فقد عفا الشارع عن مثل هذا النوع، وقد قال الله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فالسائل المستمر معفو عنه، فلا يلزم منه وضوء ولا تطهير للثوب ولا غير ذلك إلا إذا تفاحش وكثر، فيمكن أن يغير الإنسان ذلك الثوب إذا أمكنه ذلك، فتخفيف النجاسة مطلوب شرعاً، ولكن الراجح أن مطلوبيته إنما هي على الندب لا على الوجوب.

الدليل على تحديد أول الحيض وآخره

الدليل على تحديد أول الحيض وآخره Q هذا السؤال عن تحديد أول الحيض بتسع سنين، وتحديد آخره بخمسين سنة، هل عليه دليل؟ A أن هذا لم يرد به نص، وإنما المرجع به إلى عادة النساء، وعادة كل أهل بلد هي المرأة.

الوسائل المعينة على دوام الخشية

الوسائل المعينة على دوام الخشية Q ما هي الوسائل المعينة على دوام خشية الله سبحانه وتعالى؟ A مراقبة أمره ونهيه، والتزود من كتابه، وتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجالسة أهله.

حكم قبض اليدين في الصلاة عند مالك، ومتى يرجع إلى أقوال العلماء

حكم قبض اليدين في الصلاة عند مالك، ومتى يرجع إلى أقوال العلماء Q هل القبض على اليدين في الصلاة سنة أم مكروه عند مالك؟ A أن مالكاً لم يصل إلينا من مؤلفاته إلا الموطأ، وقد جاء فيه أحاديث القبض، ذكر هذه الأحاديث في سنن الصلاة، ولا بد أن نعلم أيضاً أن المذاهب ليست ديانات، وإنما هي طرق لفهم النصوص، فإذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق لأحد كلام معه، فإنما يحتاج إلى الأئمة المجتهدين، وإلى المذاهب فيما لا نص فيه، أو فيما تعارضت فيه النصوص، أو فيما هو خفي الدلالة والمعنى، فهذا الذي نحتاج فيه إلى الأئمة المستفيدين، أما ما هو واضح الدلالة وما هو صريح وصحيح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج فيه إلى مشورة أحد، لا يمكن أن يقول أحد: أشاور فلاناً من الناس، هل أعمل بما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو هل أعمل بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل به؟ هذا غير معقول ولا يمكن أن يصدر عن مؤمن!

من قسا قلبه فليكثر من الطاعة

من قسا قلبه فليكثر من الطاعة Q ماذا تفعل من قسا قلبها، وجمد جفنها، وخشيت على نفسها النفاق؟ A أن عليها أن تواظب على الطاعة، وأن تجعل لنفسها أوقاتاً تخلو فيها بالله سبحانه وتعالى، وتكثر فيها من تدبر القرآن، وعليها أن تكثر كذلك من مجالسة الصالحين، وإذا كانت تستطيع أيضاً عيادة المرضى والدخول على الموتى بتجهيزهم، فذلك مما يساعد على إزالة قسوة القلب.

حالة الشعور بالقرب من الله فرصة لابد من استغلالها

حالة الشعور بالقرب من الله فرصة لابد من استغلالها Q ينتابني في بعض الأحيان شعور بالقرب من الله عز وجل، كيف تفسرون هذا الحال، ثم كيف يمكنني توظيف هذا الشعور أحسن توظيف؟ A أن هذا من أحوال الإيمان؛ وذلك يعتري المؤمن -أي: الشعور بالقرب من الله سبحانه وتعالى- عندما يحسن في الطاعة، ويوفق للعبادة، وإذا أحس بذلك الشعور، فعليه أن يزداد خشية لله تعالى وقرباً، ولا يكون من الذين يأمنون مكر الله تعالى، وعليه أن يستغل الوقت في الإكثار من الدعاء، فذلك الوقت فتحت له فيه الأبواب، فعليه أن يجتهد في الدعاء فيه، لكيلا يفوت الأوان، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحسون بذلك فقالوا: (إذا كنا عندك نكون على ما ترى، فإذا انطلقنا من عندك عافسنا النساء والأولاد على الفرش فنسينا، فقال: لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة).

الإحساس بالسعادة والطمأنينة بعد الطاعة من المبشرات

الإحساس بالسعادة والطمأنينة بعد الطاعة من المبشرات Q قد تغمرني سعادة وطمأنينة نفسية رائعة بعد الدعاء والاستغفار من الذنوب، فهل ذلك دليل على قبول دعائي والتوبة؟ A إن شاء الله، لكن هذا النوع من المبشرات يسر ولا يغر (وقد سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت: أهو الذي يسرق ويزني ويخاف الله، قال: لا، بل الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف أن لا يتقبل الله منه)، فهؤلاء هم الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.

اللغة العربية

اللغة العربية من نعمة الله على الناس أن علمهم اللغات التي بها يتفاهمون، وقد اصطفى الله العربية من بين اللغات، فأنزل بها القرآن الذي تحفظ بحفظه إلى آخر الزمان. ولغة القرآن تلقى اليوم هجمة منظمة من أعداء الإسلام، يساعدهم على ذلك أبناء المسلمين الذين أهملوا علومها وضيعوا دورها.

أهمية اللغات في التفاهم بين بني البشر

أهمية اللغات في التفاهم بين بني البشر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن من ألطاف الله تعالى ونعمته ورحمته أن جعل للناس لساناً يتفاهمون به، فإن الناس يحتاج بعضهم إلى بعضٍ، ولا يمكن أن يقوم أحدٌ منهم بحاجته دون بعض، ولا يمكن أن يستقل إنسان بقضاء أموره، ولا بأداء مهماته، إلا إذا وجد من يساعده على ذلك. ومن هنا فيحتاج الناس إلى التفاهم فيما بينهم والتعارف، فجعل الله لهم وسائل للتعارف، ومن أعظمها الأنساب، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وجعل لهم وسائل للتفاهم، وأعظمها اللغات، ولهذا ربط الله بين الألوان واللغات، وبين خلق السماوات والأرض في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].

وسائل التفاهم

وسائل التفاهم البشر لا يمكن أن يتفاهموا إلا عن طريق وسائل الحس، وهي الحواس الخمس؛ لأن وسائل العلم لدى الإنسان ثلاث هي: العقل، والروح، والحس: والعقل لا يمكن أن يتفاهم عن طريقه؛ لأنه من الأمور المعنوية غير الحسية. والأرواح يمكن أن تتعارف، لكن لا يمكن أن تتفاهم، ولهذا حصل التعارف بينها في عالم الذر، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري تعليقاً في الصحيح، وأخرجه مسلم مسنداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف). لكن التفاهم إنما يتم عن طريق إحدى هذه الحواس، وهذه الحواس مدركاتها هي المسموعات والمبصرات، والملموسات، والمشمومات، والمذوقات. وقد جعل الله تعالى أصناف الحيوان تتفاهم عن طريق هذه الوسائل، فمن الحيوانات ما يتفاهم عن طريق إفراز رائحةٍ يحصل بها التفاهم والتعارف بفطرة الله لها على ذلك، كالنحل وغيره من الحيوانات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق السمع، وما يمكن تفاهمه عن طريق البصر بالإشارات والحركات، ومنها ما يمكن تفاهمه عن طريق اللمس، لكن الذوق لا يمكن أن يحصل التفاهم عن طريقه؛ لأن الطعوم محصورة، وقد صرح العلماء بأن أنواع الطعوم خمسة هي: الحلاوة، والمرارة، والمزية، والملحية، والتفاهة، فهذه خمس هي أصل الطعوم كلها. أما المرئيات المشاهدات، وكذلك المسموعات، فهي كثيرة جداً يمكن التفاهم عن طريقها، وبهذا تخلص لنا جارحتان للتفاهم فيما بين الإنسان فالتفاهم بين بني آدم لا يتم إلا عن طريق السمع، أو عن طريق البصر. أما عن طريق السمع فإنهم بالإمكان أن يسمعوا الكلام، وأما عن طريق البصر، فإنهم بالإمكان أن يقرءوا الكتابة، وأن يفهموا الإشارات، وهاتان الوسيلتان يمكن أن تفي بمقصود الإنسان، لكن جعل الله بعض بني آدم عمياً وجعل بعضهم صماً، فالعميان لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق البصر مع غيرهم، والصم لا يمكن أن يتفاهموا عن طريق السمع مع غيرهم، فبقي التوازن بين هاتين الحاستين، لكنه جعل الزمن أيضاً مقسوماً بين ليل ونهار، وقد محا الله آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، وبذلك ازدادت نسبة العميان في البشر بوجود الليل، فكان التفاهم عن طريق السمع أقوى وأوسع من التفاهم عن طريق البصر، ومن هنا جعل الله هذه اللغات هي أساس التفاهم بين الناس.

نشأة اللغات

نشأة اللغات وقد علم الله آدم الأسماء كلها كما أخبر بذلك في كتابه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، وهذا التعليم اختلف فيه الناس هل كان عن طريق الوحي والتوقيف، أو كان عن طريق الإلهام والإلقاء؟ وكل ذلك ممكن، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، لكن اتفق الناس على أن ما يتجدد من دلالات الألفاظ، وما يطرأ من المجازات، إنما هو عن طريق الإلهام، ويضع الله القبول على بعض المصطلحات، فتشيع بين الناس. ومن هنا فكل جديد يطلق الناس عليه عدة أسماء باعتبار أذواقهم، ولكنه سيثبت له اسم واحد يضع الله له القبول بين غيره من الأسماء، فمثلاً: عندما صنع أول جهاز (كمبيوتر) في الولايات المتحدة في جامعة (بنسلفانيا) سمي في البداية النظامة، ثم سمي الرتابة، ثم سمي الحاسوب، ثم سمي بالحاسب الآلي، ثم سمي بعد ذلك بالعقل الإلكتروني، وهذه الأسماء كلها لبعض وظائف هذه الآلة، لكن بتطور الزمان وبتطور الدلالات، لابد أن يثبت اسمٌ واحدٌ لهذه الآلة يكون اسماً عالمياً مشهوراً. وكذلك لما طرأت آلة الفاكس للإرسال الكتابي عن طريق الاتصالات الهاتفية، إما عن طريق الكيبلات، أو عن طريق الأقمار الصناعية، أو عن طريق الألياف الزجاجية، سميت في البداية بـ (الناقل)، ثم سميت بـ (الهاتف الكاتب)، ثم سميت بعد ذلك بـ (الكاتوب)، وغيرها من المصطلحات، فبتطور الزمان سيختار اسمٌ واحدٌ يضع الله له القبول وينتشر بين الناس. لا شك أن البشر متنوعون في الأذواق وفي البيئة، وفي أنماط الحياة، وبسبب ذلك تنوعت لغاتهم واختلفت، وقد نص العلماء على أن الله تعالى علم آدم اثنتين وسبعين لغة، وهي أصول لغات العالم، وهذه اللغات أصلها أربع فقط، ومنها تتشعب بقية اللغات كلها، حتى تصل إلى العدد الموجود اليوم. ففي الهند وحدها أربعمائة وخمسون لغة! وهي دولة واحدة، وهذه اللغات بعضها يكون مشتقاً من بعض بالتداخل، كحال اللغة الفارسية مع اللغة البشتونية، واللغة الأوردية كذلك مع الفارسية ومع العربية، واللغة التركية كذلك مع اللغة العربية في التداخل في كثير من المفردات. وكذلك فإن بعض اللغات يكون قابلاً للتطور بسرعة هائلة، فتتجدد دلالاته ومصطلحاته، ومن ذلك اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية إلى حد ما فإن ألفاظها تتناقل وتتجدد، ومن هنا فنسبة (10%) من اللغة الفرنسية هو من الكلمات المنقولة، إما من اللغة الإغريقية أو من اللغة الرومانية، أو غيرها من اللغات، حتى من اللغة العربية. لكن هذه اللغات، سواء كانت توقيفية أو كانت إلهامية، فإن كل ذلك يرجع إلى الاختيار الرباني، والاصطفاء الإلهي، والقبول الذي يضعه الله للكلمات حتى تتناسب مع الأذواق، فالحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته ووصف الكمال والنقص أمرٌ عقلي، وبمعنى ترتب الثواب والعقاب عاجلاً أو آجلاً أمر شرعي، ومن هنا حصل الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يتعلق بالتحسين والتقبيح، والخلاف ينبغي أن يكون لفظياً؛ لأن الحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، لا شك أن هذا راجع إلى العقل، أما الحسن والقبح بمعنى ترتب الثواب والعقاب، فهذا شرعيٌ قطعاً لا بد فيه من وحي، فالخلاف يمكن أن يرجع إلى خلاف لفظي ولا تترتب عليه أحكام كثيرة.

اصطفاء الله للغة العربية من بين اللغات

اصطفاء الله للغة العربية من بين اللغات وإذا كان الأمر كذلك، وكان الأمر راجعاً إلى أن الله سبحانه وتعالى يضع القبول على بعض الكلمات، فتناسب أذواق أكبر عدد من البشر، فإن اللغة العربية قد اصطفاها الله على غيرها من اللغات، وشرفها على غيرها من اللغات، وتكلم بها سبحانه وتعالى بهذا القرآن الذي تحدى الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله، فأقصر سورة في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات، وقد تحدى الله الثقلين الإنس والجن على مر الدهور، أن يأتوا بسورة من مثلها، وقد وجدت كثير من المحاولات، وباءت كلها بالفشل؛ بل إن تلك المحاولات إذا سمع العقلاء بعضها ضحكوا واشتد هزؤهم منها، كمحاولات مسيلمة الكذاب، فهي غاية في السخافة، وعدم الانسجام، وذلك أنه اتجه إلى اتجاه واحد، وهو تركيب الألفاظ دون النظر إلى الإعجاز المعنوي، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، وغيرها من أنواع الإعجاز التي جعلها الله في القرآن. إذاً: اختيار هذه اللغة هو اختيار رباني بوحي من عند الله سبحانه وتعالى، واصطفاء منه، لا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولو جاء الناس فصوتوا وجاءت أغلبيتهم على رفض هذه اللغة؛ فإن ذلك لا يقلل نفوذها، ولا يقلل القبول الذي جعل الله لها؛ لأنه اصطفاء من عند الله لا يستطيع الناس رفضه ولا تجاهله، ومن هنا فإن الغربيين الذين يفخرون بلغاتهم، ويزعمونها اللغات العالمية المسايرة لتطور العالم، لا يزال فيهم من مثقفيهم وقادتهم وعلمائهم من يتخصص في دراسة اللغة العربية، ويخصص وقته لها. وفي العصر الماضي اشتهر عدد كبير من هؤلاء، مثل بروكلمان، ومثل يوسف شخت من كبار المستشرقين الذين عنوا باللغة العربية، ونشروا كثيراً من مخطوطاتها، ودرسوها وحفظوا كثيراً من أشعار العرب، وصرح كثير منهم بأن هذه اللغة لا تعدلها أي لغة، وأذكر أننا في العام الماضي قابلنا أحد المستشرقين الكبار في جامعة في سكوتلاند في شمال بريطانيا، فذكر أنه قد خلد شهادته بأن اللغة العربية لا تعدلها لغة ولا تساويها في السمو والارتقاء، ولا في الذوق، ولا في الاتساع، وأنه كتب هذه الشهادة في جامعته وخلدها قبل ثلاثين سنة، وهذا كلام الأعداء، والحق ما شهدت به الأعداء.

أهمية تعلم اللغة العربية من حيث الحكم الشرعي

أهمية تعلم اللغة العربية من حيث الحكم الشرعي إننا في بحثنا في أهمية أي شيء ننظر فيه من ناحية الحكم الشرعي، ثم من ناحية الفائدة والمصلحة البشرية، فلنبدأ أولاً بحكم الشرع في لغة العرب، وتعلمها فنقول:

القدر الواجب تعلمه من اللغة على الأعيان

القدر الواجب تعلمه من اللغة على الأعيان إن الله سبحانه وتعالى قد فرض على كل من آمن به تعلم جزء من العربية، وبهذا تكون العربية فرض عين على كل إنسان بقدر ما يقيم به ألفاظ الفاتحة، وبقدر ما يتقن به التكبير والتشهد والسلام في الصلاة، فهذا القدر من العربية فرض عين على كل مسلم، ولا يسع مسلماً جهله. وهذا القدر اختلف الناس في تحديده؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، والناس تتباين رؤاهم في تحديد هذا القدر الذي هو أقل ما يخاطب به الإنسان من تعلم العربية، فقال قوم: لا بد أن يصل إلى مستوى يفهم به ألفاظ الفاتحة، وألفاظ التشهد، وألفاظ الدعاء المأمور به على سبيل الوجوب، وكذلك ألفاظ الأذكار التي تجب مرة في العمر بالتهليل والاستغفار، والتسبيح والتحميد وغير ذلك، فيجب عليه أن يتعلم معانيها بالعربية، وهذا القول هو الراجح، ومن القائلين به مالك والأوزاعي وسفيان الثوري، وغيرهم من كبار علماء السلف، فرأوا أنه يجب على الإنسان المسلم أن يتعلم معاني هذه الكلمات؛ لأنه لو قال: لا إله إلا الله دون أن يفقه معناها، فيمكن أن تلقن هذه الكلمة لأي إنسان، ولا يلزم بمقتضياتها، ولذلك فإن شهادة أن لا إله إلا الله لها أربع مقتضيات، من لم يحقق هذه المقتضيات الأربع فليس شاهداً أن لا إله إلا الله: فالمقتضى الأول: هو العلم بمعناها. والمقتضى الثاني: هو مقتضى القول: أن ينطق بذلك؛ لأنها مشروطة على القادرين، فلا يدخل الإنسان الإيمان وهو قادر على النطق إلا إذا نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. المقتضى الثالث: هو أن يلتزم بحقوقها التي يقاتل عليها من تركها: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها). المقتضى الرابع: هو الإلزام بها، وهو أن يسعى الإنسان لنشر لا إله إلا الله، وتوسيع دائرة القائلين بها، وإلزام الناس بها. فهذه المقتضيات الأربع هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، وقد توسع بعض المتأخرين من المتكلمين في هذا الباب، فقد ذكر عليش في شرحه لأم البراهين في العقائد الأشعرية للسنوسي: أن من لم يفهم ما تتناوله شهادة أن لا إله إلا الله من العقائد، وهو خمسٌ وستون عقيدة على مقتضى عد المتكلمين؛ فإنه لم يؤد مقتضياتها. وهذا تشدد ومبالغة لا محالة، ولكنه يدلنا على أهمية فهم شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا كان بعض أهل العلم يرون أنك إذا لم تحقق مقتضياتها جميعاً وهي خمسٌ وستون عقيدة، فمعنى ذلك أنك لم تفهمها؛ فهذا يدلنا على أهمية تعلم اللغة التي يفهم بها معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وإن الذي يدعو وهو لا يفهم ما يدعو به، أو يثني على الله وهو لا يفهم معنى ما يثني به، لا يمكن أن ينال أجر ما يقول؛ لأن الصلاة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليصلي الصلاة وما كتب له نصفها ثلثها ربعها)، حتى انتهى إلى العشر؛ لأنه لا يكتب له منها إلا ما عقل ووعى، ومن هنا فإن على الإنسان أن يتفهم ويتدبر ما يقول، ولهذا قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وهذا الخطاب ليس للعرب وحدهم، بل لجميع من آمن بهذا القرآن. ونحن مع القول الأول المسهل الذي يقتضي أقل نسبة، وهي ما يكون الإنسان به فاهماً لمقتضى ما يقول من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومحباً لما سوى ذلك، وعالماً أنه كلام الله، ومصدقاً به على سبيل الإجمال، لا على سبيل التفصيل. فهذا القول لاشك أنه أسهل وأيسر، وهو الراجح من ناحية الاستدلال، لكن مع هذا لا نهمل الأقوال الأخرى، ولا نعتدي على أقوال أهل العلم، فلهذا لا بد أن يعلم كل إنسان أن من واجباته العينية أن يتعلم جزءاً من العربية، يفهم به معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ويقيم به حروف الفاتحة ويفهم معاني ألفاظها، ويقيم به حروف ألفاظ التعبدات في الصلاة، وغيرها من الواجبات العينية، فهذا القدر لا خلاف في وجوبه.

ما يتعلق بفرض الكفاية من تعلم اللغة

ما يتعلق بفرض الكفاية من تعلم اللغة المرتبة الثانية: هي ما يتعلق بفروض الكفايات من العربية، فقد افترض الله على المسلمين تعلم علوم العربية على سبيل الكفاية، فإذا قام به من تحصل به إقامة الحجة على الناس كفى ذلك، وهذا داخل في عموم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135]. فلا يمكن أن يكون الإنسان شاهداً لله إذا لم يكن فاهماً لما يشهد به؛ لأن العلم شرط في الشهادة؛ لقول الله تعالى: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81]، ولقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]. وفي حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي في السنن بإسناد فيه ضعف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أترى الشمس إذا طلعت؟ قال: نعم. قال: على مثلها فاشهد أو دع). ومن هنا فلا يمكن أن يشهد الشاهد بما لا يعلمه ولا يفهمه، ولا بد أن يكون الإنسان فاهماً لما يشهد به حتى تقبل شهادته على ذلك، والله تعالى جعل هذه الأمة شاهدة على الناس، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. ولا يمكن أن تتم الشهادة على الناس إذا كنت لا تفهم ما تشهد به، وليس هناك وسيلة للاطلاع من خلالها على أحوال الناس، وما كذبوا به أنبياءهم إلا القرآن، والقرآن بلسان عربي مبين، فإذا لم تفهم هذا فلا يمكن أن تكون شاهداً على الناس، فإذا جاء نوح يوم القيامة يخاصمه قومه، فقالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقال: بلى، قد مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فإذا كنت لا تفهم الآيات التي جاءت في قصة نوح، فلا يمكن أن تكون من الشهداء على هذا؛ لأن الشهادة من شرطها العلم. وفروض الكفاية في اللغة العربية هي بتعلم علومها الأساسية، وعلومها الأساسية هي أربعة عشر علماً، وهي كلها داخلة في فروض الكفاية، وإذا لم يكن في الأمة من يعلمها حصل الإثم على أفرادها جميعاً، وإذا كان فيها في كل بلدٍ من يعلم هذه العلوم بقدر رد الشبهات، وإجابة الأسئلة المتعلقة بالقرآن والسنة، سقط الإثم عن الجميع. وفرض الكفاية قد اختلف العلماء: هل هو أفضل أم فرض العين؟ ولذلك قال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع: فرض الكفاية مهم يقصد ونظر عن فاعل يجرد وذهب الأستاذ والجويني ونجله يفضلُ فرض العين وهو على كل رأى الجمهور والقول بالبعض هو المنصور فقيل مبهم وقيل عُيِّنَ وقيل من قام به فعلى هذا: هذه العلوم الأربعة عشر لابد أن يكون في كل حاضرة من حواضر المسلمين من يعرف منها ما يرد به الشبهات، ويجيب به الاختلافات التي يوردها الناس على الكتاب والسنة.

ذكر علوم العربية التي تعلمها فرض كفاية وأهميتها

ذكر علوم العربية التي تعلمها فرض كفاية وأهميتها وهذه العلوم هي:

علم النحو

علم النحو علم النحو: وهو أقدمها وأشرفها، ومرجعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو واضعه حيث كتب لـ أبي الأسود الدؤلي رحمه الله كتابه، وكان منطلق هذا العلم. وهذا العلم به إقامة الكلم ومعرفة التركيب، كما قال ابن مالك رحمه الله في كافيته: وبعد فالنحو صلاح الألسنه والنفس إن تعدم سناه في سنه فمن لم يعرفه لا يمكن أن يفهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ولا أن يفهم (لا إله إلا الله)، ولذلك من لا يعرف جزئياته ولا يستطيع إجابة مسائله؛ لا يمكن أن يفتي الناس في كثير من مسائلهم الفقهية. ولذلك حصلت مسألة عجيبة في تاريخ هذه الأمة عرضت على عدد من كبار أهل العلم، فأحجم عنها معظمهم، حتى جاء أهل اللغة، وهم الذين استطاعوا أن يحلوا إشكالها، وذلك في قول الشاعر: فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ ومن يخرق أعق وألأم أو: وأشأم فهذا البيت يمكن أن يقرأ على أوجه متعددة: فأنت طلاق والطلاق عزيمةً ثلاثٌ أو: فأنت طلاق والطلاق عزيمةٌ ثلاثاً ويختلف المعنى والحكم الفقهي باختلاف الشكل، فإذا قال: فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةٌ ثلاثاً فإنه لا يلزم إلا طلقة واحدة، وإذا قال: فأنت طلاقٌ والطلاق عزيمةً ثلاث فإن ذلك ملزم لثلاث طلقات. ومثل هذا كثير. وقد حصل للقرافي رحمه الله في قول الشاعر: ما يقول الفقيه أيده اللـ ـه ولا زال شأنه يزدان في فتىً علق الطلاق بشهر قبل ما قبل قبله رمضان أو: بعدما بعد بعده رمضان. فقال: في هذين البيتين مائتان وخمسون مسألة علمية! وكل ذلك راجع ٌ إلى شكل هذين البيتين، وما يتعلق بهما وما يؤخذ منهما من دلالات الألفاظ. وقد حصل للشاطبي رحمه الله قصة أخرى مع شيخه ابن الفخار أثبتها في كتابه "الإفادات الإنشادات" فيقول: إن الشيخ ابن الفخار اجتمع عليه أهل الحديث ذات ليلة فحدثهم، ثم أراد أن يحمض لهم، والإحماض لدى أهل الحديث: أن يشهدهم قصة أو أدباً أو شعراً يزيل عنهم الملل، فسألهم عن معنى قول الشاعر: رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين كلانا ناظرٌ قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني فلم يستطع أحد منهم أن يحل هذا الإشكال، ومنهم أبو إسحاق الشاطبي، فسألوا الإمام ابن الفخار أن يشرح لهم البيت، فشرحه، وبين لهم أن القمر قمران: قمرٌ حقيقي وقمرٌ مجازي، فالقمر الحقيقي هو قمر السماء، والقمر المجازي هو الوجه، وهو المذكور هنا، وأن النظر كذلك إما أن يكون نظراً حقيقياً، أو يكون نظراً مجازياً، فعين البصيرة وعين البصر: وأن الرجل أراد ادعاءً أن يجعل الحقيقة مجازاً وأن يجعل المجاز حقيقة، فقال: رأت قمر السماء فأذكرتني ليالي وصلنا بالرقمتين كلانا ناظرٌ قمراً ولكن رأيت بعينها ورأت بعيني فعينها عين الحقيقة، وقد انقلبت إلي فكنت أنا ناظراً بعين الحقيقة وهي التي تنظر بعين المجاز. فمن لم يكن عارفاً بما يفهم به مثل هذا من اللغة العربية، سيقع في إشكالات لا نهاية لها. وكذلك فإن لسان الدين بن الخطيب رحمه الله في كتابه: "الإحاطة في أخبار غرناطة" ذكر الإشكالات التي يقع فيها الموثِّقُون والقضاة عندما يكتبون الأحكام ويوثقونها، فكثيراً ما يكتبون ألفاظاً لا تفهم أو لا تؤدي المعنى، أو تكون أوسع مما قاله القائل، وبذلك يقولون على القائل ما لم يقله، ويكتبون عليه ما لم يشهد به، فيقعون في شهادة الزور من حيث لا يشعرون، وذلك لنقص فهمهم للعربية. ومثل هذا في رواية الحديث، فإن كثيراً من أهل الحديث يروون الحديث بالمعنى، وهي مسألة خلافيةٌ الخلاف فيها مشهور قديم، لكن المشكلة أن بعضهم يلحن في روايته، وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إن اللاحن في الحديث أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يقل عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)، وهو لا يلحن قطعاً، فمن قال عليه باللحن فقد قال عليه ما لم يقل، وبهذا يكون أحد الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يُعلم خطر التكلم في العلم إذا لم يكن الإنسان صاحب لسان يمكن أن يعبر به أو أن يروي به. ومثل هذا في القراءة، فإن إقامة قراءة القرآن إنما تكون بما وافق وجها نحوياً، ولذلك قال ابن الجزري رحمه الله: وكل ما وافق وجه النحو وكان للرسم احتمالاً يحوي وصح إسناداً هو القرآن فهذه الثلاثة الأركان ولذلك فالذين يلحنون في القراءة أو في الحديث كان ذلك جرحاً فيهم لدى كثير ممن سواهم؛ بل اقتضى نبذ روايتهم لدى أكثر أهل العلم، ومن هنا فعدد من الذين تكلم فيهم ما دفعوا عن ثقة ولا عن ضبط، وإنما تكلم فيهم من جهة اللحن؛ كـ أبي عبد الله بن عدي الحافظ صاحب الكامل، فقد كان يلحن، فتكلم كثير من أهل العلم في روايته بسبب اللحن، مع أنه إمام ضابط حافظ عدل ثقة، لكن تُكلم فيه من جهة اللحن فقط. ومثل هذا ما حصل لليث بن أبي سليم، مع أنه عدل، لكنه كان يلحن، ولذلك يقول فيه أحد الشعراء: ينادي ربه باللحن ليثٌ لذلك إن دعاه لا يجيب فتكلم فيه بعض الناس من قبل اللحن الذي يقع فيه فقالوا: لا يوثق بروايته للحنه فيها. واللحن يقلب المعنى كثيراً، ولذلك فإن أبا الأسود حين كلمته ابنته فقالت: ما أشدُّ الحر؟ قال: أيام ناجر. قالت: أنا متعجبةٌ لا مستفهمة. قال: ما هكذا تقول العرب، هي أرادت: ما أشدَّ الحرَّ! فقالت: ما أشدُّ الحر. ومثل هذا ما حصل للوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين عندما أتاه أعرابي فسأله فقال: ما شانك؟ فقال: فدعٌ في رصفي وعورٌ في عيني، فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد ما شأنُك؟ فقال: جئت ممتاراً لأهلي. فسأله عمن معه ولحن في ذلك، ثم سأله حين أخبره أن معه ختنه فقال: ومن خَتَنَك؟ يقصد: ومن ختْنُك؟ فقال: حجام كان معنا في البادية. فقال له عمر بن عبد العزيز: الأمير يريد: ومن ختْنُك؟ ومثل هذا في اللحن كثير. ويقال: إن عمر بن عبد العزيز حين كان بالمسجد والوليد يخطب فقال الوليد: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ)، بالرفع، فقال عمر: وددتها والله. ود لو مات عندما قرأها هكذا! ولذلك فإن سبب قراءة سيبويه للنحو: أنه في البداية اشتغل برواية الحديث، ولكنه قرأ: (ما من أصحابي إلا من شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء)، فقرأها هو: ليس أبو الدرداء، فلحنه أصحابه وهزءوا به، فعدل عن قراءة الحديث وذهب حتى تمرس باللغة، وألف الكتاب، ثم بعد ذلك روى الحديث. ولذلك فإن مالكاً رحمه الله قد درس النحو على الخليل بن أحمد، فجلس عنده أسبوعاً يلازمه حتى أتقن النحو فيه. والشافعي رحمه الله لم يشتغل بدراسة العلم حتى جلس في قبيلة هذيل، وحتى حفظ عشرين ألفاً من أشعارهم، ونحو هذا كثيرٌ جداً في حال سلفنا، فمن لم يكن ذا سلاح من علم النحو لا يمكن أن يفهم، ولا أن يُفتي في كثير من المسائل.

علم مفردات اللغة

علم مفردات اللغة ثم بعد النحو علم مفردات اللغة: وهو العلم الثاني في الأهمية، فهذه اللغة العربية ليست مثل غيرها من اللغات، بل لها كثير من المفردات المتداخلة، بعضها يجمعها جذر واحد، وبعضها تختلف في الجذر، وبعضها يعرف في بعض المناطق دون بعض، والقرآن الكريم قد اختير من خير هذه الكلمات والمفردات، واختار الله له أفضل التعبيرات، ولذلك يأتي التعبير تارة بلغة حمير لغة أهل اليمن، وتارة بلغة أهل نجد، وتارة بلغة أهل الحجاز، فيختار من كل لغة أفصحها وأدقها معنىً وأحسنها ذوقاً، حتى يتكامل ذلك ويكون جميعاً من اللغة العربية المختارة. والذين يزعمون أن القرآن جاء بلغة قبيلة واحدة من العرب يغلطون في هذا، ويرد عليهم الاعتراض، وقد جاء أحد النحويين من أهل اليمن فكان في مجلس الخليفة هارون الرشيد، فأخبره أن القرآن نزل بلغتهم، وبدأ يسرد بعض الكلمات التي لا تعرفها قريش وهي في القرآن من لغة أهل اليمن، ويذكر شواهدها، فلما أطال كان بحضرته أحد القرشيين، فقال: أسمعت ما يقول هذا اليماني؟! قال: لا أدري ما يقول، غير أن الله تعالى يقول في كتابه: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7]، ولم يقل: جعلوا شناترهم في صناراتهم! وهذه لغة أهل اليمن، الشناتر: الأصابع، والصنارات: الآذان. فالله تعالى يختار من الكلمات ألطفها وأقربها للذوق الصحيح السليم، سواء كانت من لغة أهل اليمن، أو من لغة أهل الحجاز، أو من لغة أهل نجدٍ أو غيرهم. ومن لم يعرف مفردات اللغة لم يحل له الكلام في التفسير ولا التفهم فيه ولا التدبر في كثير من الكلمات، بل إن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتورعون من الكلام في بعض الكلمات التي جاءت في القرآن إذا لم تكن من لغتهم ولم يعرفوا دلالاتها ومدلولاتها، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه قال: (أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في القرآن ما لا أعلم!). وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في مجلسه فأتته امرأة من أهل اليمن تستعديه على زوجها، فقالت: يا أمير المؤمنين! إن بعلي عبد حقي، وترك الوصيد رهواً، ولي عليه مهيمنٌ، فهل لي عليه من مسيطر؟ فقال: لم أفهم ما تقولين. فقال ابن عباس: كلمات كلهن في كتاب الله، إن بعلي، أي: زوجي قال تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72]، عبد حقي، أي: تركه وضيعه، قال تعالى: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] أي: التاركين لعبادة ذلك الولد، وترك الوصيد رهواً، الوصيد: الباب، {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]، رهواً، أي: مفتوحاً، قال تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24]، ولي عليه مهيمنٌ، أي: شاهدٌ قال تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فهل لي عليه من مسيطر؟ أي: حاكم، قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]. فاستشهد ابن عباس على أن الكلمات التي أطلقتها هذه المرأة كلها في القرآن، ففهم عمر دلالاتها وأعداها على زوجها. ونظيرُ هذا ما حصل لـ ابن عباس رضي الله عنهما مع نافع بن الأزرق أمير الأزارقة من الخوارج، فإنه أتاه من العراق يسأله عن تفسير كلمات من مفردات اللغة العربية في القرآن، فأطال عليه وأكثر، واشتهرت هذه المسائل فيما بعد بمسائل ابن الأزرق، وهي تزيد على مائتي مسألة من المفردات القرآنية، منها مثلاً قوله: (عطاء غير ممنون) قال: ما معنى غير ممنون؟ قال: غير مقطوع، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري: فترى خلفها من الرجع والـ ـوقع منيناً كأنه إهباءُ وسأله عن عدة كلمات من هذا القبيل، وهو يذكر له شواهدها في اللغة، فبينما هو كذلك إذ ضجر به، فجاء عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر فأنشده قصيدته التي مطلعها: أمن آل نعم أنت غادٍ فمُبكرُ غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّرُ بحاجة نفسٍ لم تقل في جوابها فتبلغ عذراً والمقالة تُعذرُ حتى أتى على آخر القصيدة وهي ثمانون بيتاً، فحفظها ابن عباس بهذه المرة الواحدة، فقال نافع: لله أنت يا ابن عباس! نضرب إليك أكباد الإبل في طلب العلم فتعرض عنا! ويأتيك شابٌ حدثٌ من قريش ينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: ما سمعت سفهاً، فقال: بلى، أما سمعت قوله: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخسرُ فقال: ما هكذا قال، وإنما قال: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصَرُ ثم سأله عن قول الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119] فقال: ما معنى قوله: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:119] قال: تضحى: تبرز للشمس. قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: أما سمعت قول المخزومي بالأمس: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصَرُ ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى بديوان العرب وحفظه، وكان يتعهد أشعار العرب، ويستمع إليها، ولهذا فإن حسان بن ثابت كان ينشد بعض أشعاره في المسجد، فكان عمر إذا أنشد حسان شيئاً من شعره في هجاء المشركين أو في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذن له، فإذا ذكر شيئاً من أشعاره في الخمر وأمور الجاهلية خرج عمر، فمر به مرة وهو ينشد شعراً من أشعاره في أولاد جفنة من قصيدته اللامية التي يقول فيها: أبناء جفنة حول قبر أبيهمُ قبر ابن مارية الكريم المفضل يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبلِ يسقون من ورد البريص عليهمُ بردى يصفق بالرحيق السلسلِ بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأولِ حتى أتى على آخر القصيدة، فغضب عمر من إنشادها، وكان جبلة بن الأيهم إذ ذاك قد تنصر وهرب إلى الروم، وأرسل بهديةٍ إلى حسان، فامتدحه حسان بأبياتٍ يقول فيها: إن ابن جفنة من بقية معشرٍ لم يغذهم آباؤهم باللومِ لم ينسني بالشام إذ هو ربها كلا ولا متنصراً بالرومِ يعطي الجزيل ولا يجده عنده إلا كبعض عطية المذمومِ وأتيته يوماً فقرب مجلسي وسقى فروّاني من الخرطومِ فغضب عمر حين امتدح هذا الكافر، فقال له حسان: مه يا ابن الخطاب! فقد كنت أنشده وفيه من هو أفضل منك، فما تعداها عمر. وكذلك فإن عمر كان يسأل الشعراء ويقيم بينهم المفاضلة، فأتاه رجل من ذرية هرم بن سنان، فسأله وقال: ما نحل جدك هرم زهير بن أبي سلمى؟ فقال: أعطاه أثواباً خلقت وأموالاً نفدت، قال: لكن ما كسا زهير أباك لا ينفد، فأنشده بعض مدحه فيه بقوله: يطلب شأو امرأين قدما حسناً نالا الملوك وبذا هذه السوقا هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهلٍ فمثل ما قدما من صالح سبقا إلى أن يقول فيها: بل اذكرن خير قيسٍ كلها حسباً وخيرها نائلاً وخيرها خلقا القائد الخيل منكوباً دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا غزت سماناً فآبت ضُمّراً خُدُجاً من بعد ما جنبوها بُدَّناً عُققا فطرب عمر لهذه الأبيات، وأخبر أن ما كساه زهير ٌ هذا الرجل لا يخلق ولا يبلى. وكذلك سأل عمر أحد الشعراء عن أشعر الناس، فجرى على عادة العرب أن يفضلوا من كان بينه وبينهم قرابةٌ ليفخروا بشعره، فقال: لا، بل أشعر العرب صاحب من ومن، يقصد به زهير بن أبي سلمى في حكمه التي قالها في آخر معلقته الميمية. ومن لم يعرف مفردات هذه اللغة فكثيراً ما يلتبس عليه الكلام ولا يفهمه، وبالأخص في زماننا هذا الذي تداخلت فيه اللغات والحضارات. ولا أزال أعجب من بعض المثقفين الذين يحاولون ترجمة القرآن إلى لغات أخرى، وهم لا يتقنون مفردات اللغة العربية فيقعون في أخطاء عجيبة! ترجم أحدهم القرآن بالفرنسية، وهو من المتبجحين بالمهارة في اللغات، لكنه في قول الله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75]، فسر (حافَّين) بحافِينَ! وأن معناها: بلا نعال! وكذلك حاول آخر ترجمة القرآن إلى الإنجليزية، فترجم قول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] قال ما معناه: لا تجعل يدك مربوطةً إلى عنقك، ولا تبسطها بسطاً شديداً حتى تنخلع! فلم يفهم هذه المفردات، ومن هنا وقع في هذا الغلط البالغ، ونظيرُ هذا كثير جداً. فكثيراً ما يقع الإنسان في إشكال وهو يتدبرُ آيةً من القرآن، أو يتفهم حديثاً، فيخطئ في فهمه خطأً بالغاً، ولهذا فإن الأولين لم يكن لديهم النقاط التي تميز الحروف، وإنما كانوا يميزونها بفطرتهم وذوقهم، فإذا قرأ الإنسان قرأ على السليقة فلم يخطئ، ولذلك يقال: إن الشافعي رحمه الله عندما أراد أن يحفظ القرآن وقد سمعه مرة واحدة، فأراد أن يراجعه فأخطأ في كلماتٍ في نقاط الحروف فقط، فقرأ قول الله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] قرأها: يعنيه. وهذا مناسب للذوق، وهو نفس المعنى، لكنه غير موافق للرواية، فكان ذلك خطأً. ونحن اليوم قد فسدت أذواقنا اللغوية، فلم يعد أحد منا يستطيع أن يتكل على أشكال الحر

علم التصريف

علم التصريف العلم الثالث: علم التصريف: وتعرف به أوجه الاشتقاق في الكلمات، وهو علمٌ لا غنى عنه في تفسير القرآن والسنة، ولا يمكن أن يكون الإنسان صاحب تدبر وتفهم إلا إذا كان متقناً لهذا العلم، ومن هنا فكثير من خلافات الفقهاء في الاستنباط أصلها الخلاف في مسائل صرفية، فمثلاً: قال ابن الأنباري رحمه الله: إن الخلاف بين المالكية والشافعية وغيرهم في العدة هل هي بالحيض أو بالأطهار، خلاف أصله راجع إلى التصريف، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، فقال: القرء الذي يجمع على قروءٍ هو الطهر، والقرء الذي يجمع على أقراءٍ هو الحيض، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث فاطمة بنت أبي حبيش: (دعي الصلاة في أيام أقرائك)، فقال: الأقراء هي الحيضُ، والقروء هي الأطهار. واستدل على ذلك بقول الأعشى: أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالاً وفي الحي رفعةً لما ضاع فيها من قروء نسائكا والذي يضيع هو الأطهار لا الحيض. واستدل كذلك بقول الراجز: يا رب مولى حاسد مباغض علي ذي ضغن وضب فارض له قروء كقروء الحائض فالقروء هنا للحيض لا للأطهار. ونظير هذا كثير جداً في الكلمات القرآنية أو كلمات السنة التي يكون الاختلاف في فهم دلالتها سبباً للاختلاف في مسائل فقهية، ويكون ذلك راجعاً إلى أحد علوم اللغة المذكورة.

علوم البلاغة

علوم البلاغة العلم الرابع من هذه العلوم: علم المعاني: وهو الذي يتم به التعبير على الوجه الصحيح، من التقديم والتأخير والحذف والإثبات، وغير ذلك مما يحتاج إليه المعبر في كلامه، ولا يمكن أن يفهم الإنسان سرد الكلام ولا تفصيل الجمل إلا إذا كان عارفاً بعلم المعاني. العلم الخامس: علم البيان، الذي يقصد به التعبير بأساليب متنوعةٍ عن معنى واحد، كالحقيقة والمجاز، والكناية، والتصريح، وأنواع التشبيه، فهذا العلم من لم يتقنه لا يمكن أن يفهم كثيراً من دلالات الألفاظ من الكتاب والسنة. العلم السادس: علم البديع: الذي يُدرك به الإعجاز في القرآن، فإن كثيراً من الناس يؤمنون بسبب إعجاز القرآن اللفظي، حتى إن أعرابياً قرأ عليه قارئٌ قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43]، فلما وصل إلى قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43] خر ساجداً لإعجاز هذه الألفاظ في ترتيبها ودقتها في وصف المطر، وتهيئته، وإنزال الغيث منه، وكذلك فإن كثيراً من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية عهده إنما كان لإعجابهم بإعجاز القرآن بالألفاظ نفسها والسياق، ولذلك قال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت سجع الكهان، وشعر الشعراء، وخطب البلغاء، فما سمعت شيئاً كهذا القرآن. وقد بين الله سبحانه وتعالى هذا النوع من الإعجاز فيه، وأرشد إليه في عدد كبير من الآيات.

علم الاشتقاق

علم الاشتقاق العلم الثامن: علم الاشتقاق: وهو الذي تفهم به العلاقة بين ألفاظ اللغة، وتجعل به اللغة سلالات متقاربة. وهذا العلم معينٌ على أوجه التدبر المختلفة، ومعينٌ على الاستنباط لكثير من الأحكام من الآيات ومن الأحاديث.

علم آداب العرب وأشعارها

علم آداب العرب وأشعارها العلم التاسع: علم آداب العرب وأشعارها: ولا يمكن أن يستدل لأي معنىً من معاني القرآن أو السنة إلا من خلال هذا العلم، فإن الاستدلال بدلالات الألفاظ إنما يكون على هذا الوجه، ومن أشعار العرب تؤخذ وتعرف، ولذلك أوصى عمر بحفظ ديوان العرب.

علم التاريخ

علم التاريخ ومن العلوم اللغوية المهمة: علم التاريخ: وهو الذي يعرف به طريقة التاريخ لأية حادثة، فتاريخ العرب يبدأ بالليالي لسبقها على الأيام، ويعبر عنه بعبارة مناسبة، سواء كان في أول الشهر أو في آخره، ومن لم يتقن ذلك لم يستطع الاستدلال بالتاريخ. والتاريخ ضرب من ضروب الاستدلال في القرآن، ولهذا رد الله تعالى على اليهود والنصارى حين زعموا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، فقال الله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:65]. فبداية اليهودية نزول التوراة، وبداية النصرانية نزول الإنجيل، وإبراهيم ما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، فهذه الدعوى باطلة. ومثل هذا ما استدل به الخطيب البغدادي حين جاء اليهود بوثيقةٍ يزعمون فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الجزية، وهي وثيقة قد كتبوها في عصور سابقة، ووضعوا عليها الزيت، ووضعوها في الشمس أو سخنوها على النار حتى أصبحت قديمة، وأخرجوها في أيام أحد خلفاء بني العباس، فلما عرضت هذه الوثيقة على الخطيب البغدادي بصق عليها، وقال: هذه مزورة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل: من أين لك ذلك؟ فقال: ذكر من شهودها سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان، وما جمعهما الإسلام، فقد أسلم معاوية عام الفتح، ومات سعد أيام غزوة بني قريظة، وقد جرح بالأحزاب، وغزوة بني قريظة كانت في نهاية العام الخامس من الهجرة، والفتح كان في العام الثامن من الهجرة، فما جمعهما الإسلام، فكيف يستشهدان على شهادة واحدة؟! ومثل هذا ما حصل للحاكم أبي عبد الله أحمد بن البيع حين سمع شيخاً بنيسابور يحدث عن هشام بن عمار، فسأله فقال: متى دخلت مصر؟ قال: سنة ثمانين. فقال: إن هذا الشيخ يحدث عن هشام بعد موته! لقد لقي هشام بعد موته بإحدى عشرة سنة! فهذا مما يحتاج الناس إليه في إثبات العلم، ولا يمكن الاستغناء عنه.

علم العروض والقوافي

علم العروض والقوافي ومن علوم العربية المفيدة: علم العروض وعلم القوافي: إذ بهما إقامة الشعرِ، والشعرُ أهميته واضحةٌ سواء كانت في التاريخ الماضي، ولذلك علقت المعلقات على الكعبة، أو كانت في صدر الإسلام، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم حسان أن يهجو قريشاً، وأخبره أن هجاءه أشد عليهم من وقع النبل، وأمر أبا بكر أن يعينه على ذلك، ولهذا حين وصل إليهم قول حسان رضي الله عنه: وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد قالت قريش: هذا والله شعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، فإنه استله منهم كما تستل الشعرة من العجين: وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم عبد الله وأبو طالب، وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية، فهذا لا يعرفه إلا من كان من أهل الأنساب، فلذلك قالوا: شعر والله ما غاب عنه ابن أبي قحافة. والعروض والقوافي بهما إقامة أوزان الشعر، ومعرفة قوافيه، والشعر من أوجه الإتقان في هذه اللغة والتميز فيها، فهو أمر يحتاج إليه، ولذلك نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الأهزاج المخالفة لأوزان الخليل بن أحمد بدعة، لا يحل الاشتغال بها، وهذا يقال في الشعر الحُر، فما كان منه غير جارٍ على التفعيلات المعروفة، أو كان خارقاً لها، فهو تغييرٌ وابتداعٌ يؤدي إلى نقض المألوف والمشهور بين الناس، ولذلك يعتبر منهياً عنه من هذا الوجه.

أهمية اللغة العربية بالنظر إلى المصلحة

أهمية اللغة العربية بالنظر إلى المصلحة هذه بعض علوم اللغة العربية التي هي فروض كفايات، وبهذا تعرف مزية هذه اللغة من ناحية الحكم، أما من ناحية المصلحة، فإن أعظم ما تحتاج إليه الشعوب والأمم هو ما يميزها حتى لا تذوب فيما سواها، وكل أمةٍ لها حضارة، ولها ميزات تميزها عن غيرها، وإذا زالت هذه الميزات وذابت في غيرها ذابت تلك الأمة في غيرها من الأمم، ومن هنا فإن الميزة التي تميز هذه الأمة عن غيرها من الأمم هي اللسان العربي. وإذا تخلصت هذه الأمة من لسانها أصبحت ذنباً في ذيل غيرها من الأمم، وكانت تابعةً لغيرها، ولم يعد لها تاريخٌ، ولا ذكرٌ بين الأمم، ونظير هذا كثير جداً مما يقتضي منا المحافظة على مثل هذه القيم، وهذا التراث العريق الذي نحن بحاجة إليه، والأمة بحاجة إلى من يقوم بحفظه والعناية به. إن الحفاظ على هذه اللغة العربية بالإضافة إلى أنه مما يتعبد الله به ويبتغى به وجهه، هو من التسنن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وأصحابه المهديين، والتابعين وأتباعهم، وهو كذلك مما يرفع الله به الدرجات، ويزيد به المنازل، والناس محتاجون إليه، ولا يمكن أن يستغنى عنه، ولهذا يجب على الآباء أن يعلموا أولادهم هذه اللغة، وأن يعلموهم محبتها، ويجب على أساتذة اللغة العربية أن لا يكونوا من الفتانين، وأن يحببوا هذه اللغة إلى من يدرسها، وأن يحدثوا لديهم ذوقاً لغوياً يقتضي منهم محبةً لهذه اللغة وعناية بها وتركيزاً عليها، وكذلك على الأمهات أن يشاركن في تعليم الأولاد، وتحبيب هذه اللغة إليهم، وعلى الكبار كذلك أن يدرسوها، وأن يتدبروها، وأن يعلموا أنهم لا يمكن أن يفهموا القرآن ولا السنة إلا إذا كان لديهم رصيدٌ من هذه اللغة، وأن يفهموا أن قيمهم وتاريخهم ومجدهم مرتبط بهذه اللغة. إن الحفاظ على هذه اللغة لا يمكن أن يكون من واجبات نظام أو دولة فقط، بل لابد أن يكون من واجبات الأفراد والأمة بكاملها، وأن تعتني بذلك، وأن يقع التعاون عليه، وأن لا يبقى أحدٌ يستطيع المشاركة إلا قدم مشاركته. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يزيدنا علماً، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين. اللهم وفقنا لما يرضيك عنا، وخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا.

الأسئلة

الأسئلة

التوبة النصوح

التوبة النصوح Q ما هي التوبة النصوح؟ A لقد أوجب الله على عباده التوبة النصوح في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) [التحريم:8]، وقد نص العلماء على أن التوبة النصوح هي الصادقة التي تمحو كل ما سبقها، ويكون الإنسان بها نادماً على ما فرط في جنب الله، وساعياً لإصلاح حاله في المستقبل، فإذا كان الإنسان قد ندم على ذنبه، وندم على ما فرط في جنب الله، وأراد إصلاح حاله في المستقبل، والعدول عن كل ما وقع فيه، ورد التبعات إلى ذويها ومستحقيها، فهو الذي تاب توبةً نصوحاً. أما الذي يستغفر بلسانه، وقلبه مصر على العود والرجوع، أو لا ينوي الرجوع، لكنه حال بينه وبينه عجزٌ أو كبرٌ أو نحو ذلك، فهذا ليست توبته توبةً نصوحاً.

حكم إعادة الامتحان لنيل شهادة معينة

حكم إعادة الامتحان لنيل شهادة معينة Q هل تجوز إعادة شهادة للمشاركة بها في مسابقة ما؟ A لعل مقصود السائل: المشاركة في امتحانٍ لنيل شهادة معينة؛ ليشارك بها في ملف يشترط فيه أن تكون الشهادة ذات عهد حديث، والجواب: أن هذا من الأمور الجائزة ولا حرج فيه شرعاً؛ لأن الشهادات المقصود بها ما كان على أساس امتحانٍ نجح فيه الإنسان، ويحدد مستواه وصلاحيته للتخصص الذي يدرسه، ومن هنا فلا حرج في إعادة الامتحان، حتى لو كان الإنسان كبيراً، فإذا وجدت له فرصة في أي امتحان، فبإمكانه أن يشارك.

وجوب البراءة من القوانين الوضعية

وجوب البراءة من القوانين الوضعية Q ما هو موقف المسلمين من القوانين الوضعية التي تتحكم في رقابهم؟ A القانون دينٌ، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:76]. فالقانون الوضعي دينٌ غير دين الله، ومن هنا تجب البراءة منه، والكفر به، والعدول عنه، ولا يحل للإنسان التحاكم إليه، وهو من الطاغوت الذي نهينا عن التحاكم إليه، والله تعالى يقول في كتابه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

حرمة بيع الصور المجسمة

حرمة بيع الصور المجسمة Q هل يحرم بيع الصور المجسمة؟ A تلك الصور إذا كانت كاملة الخلقة، ذات ظل، فيحرم بيعها والاتجار بها، بل يجب كسرها وتغييرها؛ وذلك لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا، وبين أن اليهود حين حرم الله عليهم الشحوم جملوها فأكلوا ثمنها فاستحقوا اللعنة بذلك.

غسل المريض رأسه

غسل المريض رأسه Q رجل يجد آلاماً في رأسه، هل يكفيه تخليل رأسه بالغسل دون صب الماء على رأسه، أو ماذا يصنع؟ A من كان مريضاً فإنه لا يجب عليه أن يفعل إلا ما يطيقه وما لا يضر به، فإن جرب أن غسل رأسه وصب الماء عليه مضرٌ به، أو أخبره طبيب بذلك، فليس له أن يفعل ذلك، وإن جرب أنه لا يضر به، ولا يؤخر شفاء مرضه، أو أخبره الطبيب بأن غسل رأسه لا يضره، فلا يحل له تركه، فالعبرة هنا بالتجربة وإخبار الطبيب الناصح.

القضاء والكفارة في الصيام إنما تكون في حق المفرط

القضاء والكفارة في الصيام إنما تكون في حق المفرط Q إنسان أتى عليه رمضان وهو يشك في وجوب صيامه عليه، ثم إنه لم يصم ذلك الشهر، فهل عليه قضاء هذا الشهر، وهل عليه كفارته؟ A أن عليه القضاء، وليس عليه الكفارة على الراجح، هذا إذا كان مريضاً وأعمل وسائل التحقق، أما إذا كان شكه غير مبني على حجةٍ بأن كان صاحب مرض خفيف، فظن أن مجرد وجود الحرقة في معدته أو في مريئه يبيح له ترك الصيام، فهذا مفرط، وتجب عليه الكفارة فيما فرط فيه، ويجب عليه القضاء مع ذلك.

أهمية علو الهمة

أهمية علو الهمة Q علو الهمة أمرٌ مهمٌ يجب على الشباب التحلي به، وكذلك الشيوخ، ما هي أهميته في فهم النصوص الشرعية؟ A هذا هو ما تعرض له الشيخ محمد يحيى في قصيدته في علو الهمة آنفاً، وعموماً فإن من لم يهتم بشيء لا يناله، والذي يريد فهم النصوص، ويريد أن يكون من أهل القرآن، ومن أهل السنة لابد أن يهتم بذلك، وأن يبذل في سبيله.

معنى استشراف المستقبل

معنى استشراف المستقبل Q ما المراد باستشراف المستقبل، وهل معناه معنى التكهن؟ A أن التكهن مشتق من الكهانة، وهي خلطة الجن للاطلاع على الغيوب، وهي محرمة شرعاً، ومن الشرك بالله سبحانه وتعالى لقول الله تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128]، ولكن التكهن مصطلح لدى أهل علم الإدارة يطلقونه على استشراف المستقبل بمعنى: عد الاحتمالات الواردة التي تعترض مشروعاً أو تساعده، ليتم على ذلك التنبؤ والتحكم، والتحكم هو إيجاد الحلول لما أدت إليه نتيجة التنبؤ، فيسمى هذا تنبؤاً وتكهناً اصطلاحاً فقط. لكن ليس هو نبوةٌ ولا كهانة، وإنما هو مجرد استشراف للأحوال المستقبلية من قراءة السنن الإلهية وما أجرى الله عادته به، فالاحتمالات التي يمكن أن ترد أمام المشروع، أو أمام القرار الذي يريد الإنسان اتخاذه تُعد، ثم كل احتمال يمكن أن توضع له عدة حلول، وهذه الحلول هي التي يسمونها بالتحكم، واستشراف المستقبل هو الذي يسمونه بالتنبؤ، وهذه مصطلحات إدارية، ولا مشاحة في الاصطلاح، لكن على أهل علم الإدارة إذا نقلوها إلى العربية أن ينقلوها بألفاظ موافقة للشرع، فإنها لا تضرهم ولا تغير شيئاً، وهي مطلوبة ومما يرفع الإلباس والإشكال.

إدراك الركعة بإدراك الركوع

إدراك الركعة بإدراك الركوع Q هل تدرك الركعة بإدراك الركوع، وما الدليل على ذلك؟ A الراجح أن الركعة تدرك بالركوع، وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، وقد ثبت عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أفتوا بأن الركعة تدرك بالركوع، وهم زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر، فكل هؤلاء قالوا: إذا فاتتك الركعة، فقد فاتتك السجدة، وإذا أدركت الركعة فقد أدركت السجدة. وقالت طائفة من أهل العلم: لا تدرك الركعة بالركوع، ولكن هذا المذهب أهله أقل من السابقين، فبالمذهب الأول أخذ فقهاء المذاهب الأربعة، فقد اتفقوا على أن الركعة تدرك بالركوع، والذين ذهبوا إلى أن الركعة لا تدرك بالركوع استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج). ولكن يجاب عن هذا بأن الركعة ليست صلاةً كاملة، فإذا لم تقرأ الفاتحة في هذه الركعة فبالإمكان أن تقرأها بالركعة التي تليها، وبذلك لا تكون صلاتك خداجاً؛ لأنك قرأت فيها الفاتحة، وهذا الجواب واضحٌ جداً، فهو قاضٍ على الاستدلال بهذا الحديث في هذه المسألة.

صفة التيمم

صفة التيمم Q ما صفة التيمم؟ وهل من لم يراعِ ما غار من لحييه، وجانبي أنفه وما بدا من شفتيه وعنفقته تيممه صحيح؟ A أن التيمم في اللغة: القصد، يقال: يممه تيمماً إذا قصده، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267]، أي: لا تقصدوا الخبيث من أموالكم تنفقونه وتقصدون به المضاعفة عند الله. والتيمم في الاصطلاح هو: الطهارة الترابية، التي هي مسحتان وضربتان، ضربة يمسح بها الوجه من منابت الشعر إلى الذقن طولاً، وما بين الأذنين عرضاً على الراجح، وقيل: ما بين العذارين، ويمسح بها ظاهره فقط، ولا يطلب تتبع غضونه، ولا تتبع تكاميش الجبهة، ولا تتبع ما حول الأنف وما حول العينين، ولا ما بدا من الشفتين، ولا تتبع الجرح الغائر، إذا برأ، ولا يلزم فيها تتبع الوترة التي بين المنخرين، ولا تتبع تجاعيد الأرنبة، أي طرف الأنف، فهذه الأمور لا يطلب تتبعها في مسحة التيمم، وإنما هي مسحة خفيفة، ثم مسحةٌ كذلك بيديه إلى الكوعين، وهذا وهو القدر الواجب. وإذا مسح إلى مرفقيه، فهذا سنة وتكملة، ولكنه يكفيه أن يمسح وجهه مسحة واحدة، ويديه إلى الكوعين، مسحة أخرى، والضربة الثانية كذلك سنة على الراجح وليست بواجبة، فلو ضرب الإنسان ضربةً واحدةً، أي: وضع يديه مرةً واحدةً على الأرض، كان مجزئاً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صورة التيمم، فوضع كفيه على الأرض ومسح بهما وجهه وكفيه إلى الكوعين وقال: (إنما كان يكفيك هكذا) كما في حديث عمار بن ياسر، وكذلك مسح الحائط بعصاه حتى ثار غباره فوضع يديه عليه فمسح بهما وجهه وكفيه لرد السلام، وهذان التيممان الواردان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرو عنه أنه تيمم للصلاة. واختلف فيما يحصل به التيمم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه} [النساء:43]. ذهب الشافعي إلى أن الصعيد الطيب هو المنبت لقول الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف:58]. فما ليس منبتاً لا يتيمم به، فلا يتيمم على الحجر، ولا على السبخة التي لا تنبت عند الشافعي، وبهذا أخذ أحمد بن حنبل، واستدلا أيضاً بأن الله قال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه} [النساء:43]. و (من) هنا جعلاها تبعيضية، أي: ببعضه، والبعض الذي يمكن أن يمسح بالوجه والكفين منه إنما هو الغبار الذي يثور، واستدلا أيضاً بمسح النبي صلى الله عليه وسلم بعصاه الحائط وحكه حتى ثار غباره. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن الطيب في الآية هو ما صعد على وجه الأرض من أجزائها، وأن المقصود بطيبه طهارته، فالطيب هنا بمعنى الطاهر، وقد جاء في القرآن إطلاق الطيب على الطاهر، وجاء ذلك في الحديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا). فالمقصود بذلك الطاهر الحلال، وعلى هذا فكل ما صعد على الأرض من أجزائها يحل التيمم به كالصخر والسبخة وغير ذلك، واختلفوا في الحجارة المنقولة كالرحا إذا لم تنكسر هل يحل التيمم عليها أم لا؟ فمذهب أبي حنيفة جواز التيمم على كل ذلك، ومذهب مالك جاء فيه الخلاف في التيمم على الرحا ونحوها إذا لم تنكسر، أما إذا انكسرت فقد عادت حجرا ًكما كانت فيتيمم عليها عنده، وإذا كانت غير منكسرة فهي آلة، فالراجح من المذهب أن لا يتيمم عليها، ومثل ذلك الملح إذا جمد والخضخاض إذا خالطته التربة، وقيل: الخضخاض إذا نشفت اليدان فيه حتى بقي فيهما غبار جاز التيمم به. ومسائل التيمم كثيرة ولعل في هذا بعض الإشارة إليها، والدليل على الضربة الثانية ما ثبت من فعل عدد من الصحابة منهم علي بن أبي طالب وعائشة وابن عباس، وهذا أمر توقيفي لا يمكن أن يفعلوه إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أراهم إياه.

الجمود الحرفي على النصوص جهل بالعربية

الجمود الحرفي على النصوص جهل بالعربية Q ما علاقة الجمود والحرفية في الفهم بجهل اللغة العربية؟ A أن الحرفية والتقيد بدلالة اللفظ دون معرفة جوانبه الأخرى وما يدل عليه، إنما هو من الجهل باللغة العربية، وفهم صيغها المختلفة، ولذلك فإن الأصوليين قالوا: إن اللفظ يدل شرعاً أربع دلالات، فيدل بمنطوقه، ويدل بمفهومه، ويدل بضرورته واقتضائه، ويدل بمعقوله، وهو القياس عليه، وهذه يسميها الحنفية: دلالة العبارة ودلالة الإشارة، ودلالة المقتضى، ودلالة المعقول، وهي القياس عليه، ومن هنا يكون اللفظ الواحد نافعاً من أربعة أوجه ويمكن أن تؤخذ منه الأحكام من أربعة أوجه. والذي يتحجر ويقف عند النص ولا يتعداه جهل مقصد اللغة، وجهل معناها، وكذلك عطل الحكم الشرعية التي من أجلها جاءت النصوص، فالذي يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسلَ فيه من الجنابة، أو: ثم يغتسلُ فيه من الجنابة، أو: ثم يغتسلْ فيه من الجنابة). ثلاث رواياتٍ من لم يكن عارفاً باللغة العربية ولم يفهم دلالاتها، ولم يعرف الفرق بين قوله: (ثم يغتسلُ)، وبين قوله: (ثم يغتسلَ)، وبين قوله: (ثم يغتسلْ)، لم يفهم هذا وتحجر وتقيد، فأباح أن يبول الإنسان في إناء وأن يصبه في الماء الراكد، وهذا بسبب عدم التفريق بين الروايات. فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يغتسلُ فيه) بيان لعلة النهي، أي: إنه سيغتسل فيه، فلذلك لا يحل له أن يصب فيه البول أو أن يبول فيه مطلقاً، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجلدن أحدكم امرأته ثم يضاجعُها) بالرفع، معناه: ثم هو يضاجعها، وفي رواية: (لا يجلد أحدكم امرأته كما يجلد العبد، ثم يُضاجعُها) أي ثم: هو يضاجعها، فيكون هذا تعليلاً. وأما رواية النصب فالمقصود بها النهي عن الجمع بينهما، (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسلَ فيه)، معناه: أن النهي منصبٌ على الجمع بين الأمرين. وأما رواية الجزم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسلْ فيه) فهي نهي عن الأمرين كل واحد منهما وحده، فهي نهي عن الاغتسال في الماء الدائم مطلقاً، سواء بول فيه أو لم يبل فيه، ونهي كذلك عن البول فيه مطلقاً، سواء اغتسل منه أو لم يغتسل، وهذه الرواية هي أرجح الروايات؛ لأنه جاء التصريح بالنهي فيها في رواية أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يغتسل فيه من الجنابة)، فهذا تصريح بالنهي عن الاغتسال وحده، وعن البول وحده. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا. اللهم استعملنا في طاعتك واجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم لا تدع لنا في ساعتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا دينناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين وادحر كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم علمنا أجمعين ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، اللهم اجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

السياسة في الإسلام

السياسة في الإسلام أوجب الله على المسلمين إقامة دولة الإسلام، ونصب إمام لهم يحكم هذه الدولة، وبلاد الإسلام تعاني اليوم من الأنظمة السياسية المخالفة للإسلام، والخاضعة لهيمنة الغرب، إلا أن الحركات الإسلامية تحاول رد الناس إلى حكم الإسلام، وتسعى في إقامة دولة الإسلام التي تتميز عن بقية الأنظمة والحكومات المخالفة للإسلام. ويحتاج المسلم المعاصر أن يعرف الفرق بين الشورى والديمقراطية، وبين ديمقراطية الغرب وديمقراطية العالم الثالث، وحكم المشاركة في الأنظمة الحالية، وما هي مقومات الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي.

مميزات الدولة في الإسلام

مميزات الدولة في الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن الله تعالى أوجب على عباده المؤمنين رعاية دينه وحمايته، وجعله مسئوليتهم يسألون عنه يوم العرض على الله سبحانه وتعالى، فإذا كانوا قد اقتنعوا بدين الله سبحانه وتعالى وبصدق ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فليعلموا أنهم سيسألون عما قدموا في سبيل قناعتهم هذه، وإن الدين لا يمكن أن يقام إلا بدولة، وإن كثيراً من الواجبات لا يمكن أن يقوم بقها الأفراد، وذلك مثل جهاد العدو، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإعانة المظلوم على الظالم، واستصلاح الأرض، واستخراج ما فيها من الخيرات، والعدل في توزيع ذلك بين الناس، فهذه أمور لا يمكن أن تتم من خلال أفراد ولا من خلال جماعة، وإنما تقوم بها دولة، ومن أجل هذا وجب أن تقوم دولة للإسلام، لكن هذه الدولة يميزها عما سواها من الدول كثير من المميزات، منها:

ليست الدولة دولة فرد ولا قبيلة

ليست الدولة دولة فرد ولا قبيلة أنها دولة الإسلام، فليست دولة فرد يريد بها إشباع رغباته واتباع شهواته، وأن يجعل مال الله دولاً، وأن يجعل عباد الله خولاً، وليست دولة قبيلة ولا حزب ولا بلد مخصوص وإنما هي دولة الدين. فإذاً: تميزها هذه العقيدة التي تجعلها متصلة بالله سبحانه وتعالى، ومنطلقة من أمره سبحانه وتعالى، وساعية لإعلاء كلمته وإعزاز دينه، وليست ساعية لإعزاز فرد ولا لإشباع رغباته، ولا لإعزاز مجموعة مخصوصة، ولا لتهيئة حاجياتها وما تطلبه، بل هي دولة للإسلام. وافترض الله سبحانه وتعالى ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقاموا به أفضل قيام، سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة للإسلام ولم يردها لنفسه ولا لقبيلته ولا لآل بيته، بل جعلها دولة لدين الله، ألا تلاحظون أن الله عرض عليه أن يكون نبياً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعندما جاءه الأعرابي الذي عرف خدمة الملوك فانحنى بين يديه وارتعشت بوادره، قال له: (أربع على نفسك، فإنني لست ملكاً، إنما أنا عبد الله ورسوله). وكذلك كان يقول لأمته على الملأ: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ليس لي مما أوتيتم إلا الخمس وهو مردود عليكم)، فلم يتخذ شيئاً من مال الله مختصاً به لنفسه، بل كان يعيش في حجرات، يقول الحسن البصري عنها: لو مد الرجل يده للامست سقف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينام على حصير فيؤثر في جنبه ويبقى أثره عليه، ويقول جابر بن عبد الله: لو دخلت أبيات النبي صلى الله عليه وسلم ما رأيت شيئاً يرد البصر، يعني: ما رأيت شيئاً تتعلق به النفس وتهواه، فكل ما فيها من وسط متاع الناس، أو من أدناه. كذلك صلى الله عليه وسلم لم يجعل مميزات في بني هاشم، بل كان لهم من الحقوق ما لغيرهم، ولم يختصهم بأي شيء، ولذلك لم يكن من خلقه رجلاً من بني هاشم، وإنما هو رجل من بني تيم بن مرة، وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وأبو بكر رجل من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي وليس من بني هاشم ولا من بني عبد مناف. وكذلك لم يجعلها دولة مختصة بقريش أو بالتمكين لهم في الأرض وإن كانت الإمامة مختصة بهم، لكن الوظائف والقيام بالمصالح لا يختص بهم، بل قال: (إنا لا نولي عملنا من سأله) وقال: (من ولى على عمل رجلاً وهو يجد أصلح منه لقي الله خائناً)، فلذلك لم يختص قريشاً بالوظائف وإنما أعطى اللواء يوم فتح مكة لـ سعد بن عبادة بن دليم وهو رجل من الخزرج، ثم حين شكي إليه، انتزعه منه وأعطاه ولده قيس بن سعد بن عبادة بن دليم. وكذلك إذا نظرتم إلى من يعقد له الرسول صلى الله عليه وسلم اللواء في الغزوات المختلفة، أو يستعمله في الأعمال، ستجدون قريشاً مثل سواهم، ليس لهم ما يميزهم إلا قضية الإمامة فقط، وهذه حكمة ربانية، وهي أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، كما قال أبو بكر في خطبته يوم السقيفة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، وقال أبو بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، والأمر إذ ذاك شورى بين الجميع. وكل قوم إنما يختار منهم الأعدل والأكفأ، فيستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصلح للعمل دون النظر إلى سنه أو علمه أو قبيلته أو تخصصه، بل اختار لإمارة مكة وإمامة المسجد الحرام والقضاء بين الناس بمكة شاباً هو عتاب بن أسيد وكان في السابعة عشرة من عمره. واختار لقيادة جيش أراد أن يبعثه في حياته أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل وهو شاب من بني كلب بن وبرة بن الحاف بن قضاعة ولم يتجاوز عمره سبع عشرة سنة، وفي الجيش أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومن سواهم من كبار المهاجرين، وكذلك أمر على البحرين العلاء بن الحضرمي، وأمر الضحاك بن سفيان كذلك على عمان، وأمره على كتيبة بني سليم يوم الفتح. كل هذا يدلنا على أن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دولة فرد ولا دولة قبيلة ولا دولة جهة ولا دولة حزب وإنما كانت دولة الإسلام، فالعزيز فيها هو هذا الدين، والذي يقصد إعزازه والتمكين له هو هذا الدين، وسار على هذا النهج الخلفاء الراشدون المهديون. فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعهد بالخلافة من بعده لـ عمر بن الخطاب، وهو ليس من بني تيم بن مرة الذين منهم أبو بكر، مع أن أولاده يصلحون للخلافة، ولكنه نحاها عنهم، ومع أن من بني عمه طلحة بن عبيد الله الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)، وأنزل الله فيه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يضره ما صنع أبداً، ومع ذلك عدل عنه أبو بكر ولم يعهد إليه بالخلافة، وإنما عهد بها إلى عمر. وكذلك عمر بن الخطاب عندما جعلها في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أخرج منهم سعيد بن زيد وهو ابن عمه وزوج أخته، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وممن شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه بالجنة، فلا يضره ما فعله أبداً، لكن عمر أبعده؛ حتى لا تكون الخلافة دولة يتداولها بنو عدي بن كعب فقط. وكذلك فإن علياً رضي الله عنه حين طعن جاءه أهل العراق يطلبون منه أن يولي عليهم الحسن بن علي فقال: لا والله لا أفعل، فلا يكون كبر هذا الأمر علي حياً وميتاً، إنما توليته بتكليف الله ما دمت حياً، فإذا أنا مت فقد انقطع التكليف، فلا أتحمله في حياتي وبعد موتي. وكذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه حين تولى الخلافة مكث سنة يدير أمور هذه الدولة، ولم يأخذ أي راتب من بيت المال، فلما نفدت تجارته كلم الناس في المسجد فقال: أيها المؤمنون! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم عن أمور تجارتي، فلو تجعلون لي رزقاً من بيت مالكم، فجلس أهل المسجد يتفاوضون كم يجعلون لـ أبي بكر؟ كم الراتب الذي يستحقه على العمل الذي يقوم به؟ وعينوا له راتباً، ثم لما تولى عمر أخذ ذلك الراتب ولم يزد فيه مع أن أعماله قد ازدادت على أعمال أبي بكر، اتسعت الخلافة واتسعت الأرض واتسع التدبير، واحتاج الناس إلى كثير من المال لم يكونوا محتاجين إليه في زمان أبي بكر، لكنه لم يزد في راتبه شيئاً، وحين ازدادت الميزانية، واتسعت الأموال، وكثر ما في بيت المال، لم يزد راتب الخليفة عما كان عليه في حال الضيق والمشقة. وحين أدركه الموت دعا ولده عبد الله بن عمر فقال: إني كنت أخذت من بيت المال هذا الرزق الذي كان يأخذه أبو بكر، وإن المسلمين لم يعطوني إياه وإنما أعطوه أبا بكر، فلعلي أكون قصرت فلم أقم بما كان يقوم به أبو بكر، وقد كتبت كل ما أخذت من بيت المال فأرجعه إليه، وإن وجدت في مال آل عمر وفاءً فخذه، وإلا فخذ من مال بني عدي بن كعب، فلأن يكونوا خصومي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون، فأرجع راتبه مدة عشر سنوات وأشهر، أرجعه إلى بيت المال، تورعاً منه؛ لأنه يخاف ألا يكون قام بهذا الحق الذي بايعه الناس عليه، فهو يعلم أن البيعة لابد فيها من طرفين، ولابد أن يقوم بالواجب الذي عليه، ولا يمكن أن يأخذ حقوق المسلمين دون أن يدفع لهم مقابلاً وأن يقدم لهم خدمة، فخشي ألا يكون قد قام بالواجب، فأرجع إليهم ما أخذ من بيت مالهم. ولما تولى عثمان الخلافة خطب في الناس فأخبرهم أنه غني عن مالهم، وأنه لا يحتاج إلى أي شيء من بيت مال المسلمين، فأرجع عليهم الراتب، ووفره على بيت مال المسلمين. وهكذا فإن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه عليها خلفاؤه الراشدون، كانت دولة الإسلام فعلاً، أما ما بعد ذلك فقد بدأت هذه الدولة تنحرف عن مداها وتسير في غير مرماها، فبدأ الناس يريدون هذه الدول لأفراد، ويريدون أن تكون ملكاً خاصاً لفرد أو لأسرة أو لقبيلة أو لبلدة أو نحو ذلك، ومن هنا فلم تكن دولة الإسلام تماماً، وهذا ما أوعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال فيما روى عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة وسكت).

الدولة في الإسلام دولة شورى لا استبداد

الدولة في الإسلام دولة شورى لا استبداد وإن دولة الإسلام مما يميزها أمور أخرى سأذكر بعضها ولا أحاول حصرها، فمن ذلك: أنها دولة شورى فليست دولة استبداد ولا مصادرة لآراء الأفراد، ولا اتخاذ للقرارات الفردية، إنما هي دولة شورى يتشاور فيها المسلمون فيما بينهم في أمرهم، ويتشاورون في اختيار حاكمهم، وتيشاورون في تحديد سياساتهم وفي ترتيب أولوياتهم، كل هذا يميز هذه الدولة عما سواها من الدول. قد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء المؤمنين بوصف الشورى في قوله جل ذكره: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بها في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليها، وذكر أهل العلم أن فيها كثيراً من الفوائد منها: أولاً: أنها طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى، فمن لا ينتهج أسلوب الشورى فليس مطيعاً لأمر الله تعالى حيث قال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]. ثانياً: أنها اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزوم لهديه ومنهجه. ثالثاً: أنها مدعاة للتوصل إلى الصواب؛ فإذا تزاحمت العقول خرج الصواب. رابعاً: أنها مدعاة لإزالة الضغائن والحقد، فمن يستشار في الأمر لا يمكن أن يجد في نفسه حرجاً ولا حسداً للقائم بالأمر، ومن هنا سيرضى به ويرضى عن تصرفاته؛ لأنه شاوره في الأمر. خامساً: أن فيها إشراكاً في الأجر، فمن تستشيره فإنك تشركه في أجر القرار الذي ستتخذه. سادساً: أن فيها تسلية عند إخفاق القرار، فمن اتخذ قراراً بعد استشارة، وفشل قراره ذلك، فإن له في ذلك تسلية، بأن هذا ليس من تدبيره وحده وإنما استشار الناس فيه. سابعاً: أنها مدعاة للطاعة والتنفيذ، وأن من استشير عند اتخاذ القرار لا يمكن أن يخالف رأيه الذي أشار به، فهذا سيلزمه بالعمل على أساسه. ثامناً: أنها تعويد لمن تقوده على الشورى، حتى لا يكون مستبداً إذا تولى هو القيادة. تاسعاً: أنها أيضاً مدعاة لانقطاع الندم، فما خاب من استشار ولا ندم من استخار. عاشراً: أن الشورى كذلك مدعاة لاستغلال كل الجهود؛ لأن كثيراً من الناس لا يشعر بمكانه ولا بأثره ومشاركته إلا إذا استشير. الحادي عشر: أنها تغلب على النفس؛ لأن النفس البشرية تسعى لاتباع الحظوظ وتريد الكمال وتدعيه، فإذا كان الإنسان يقهر نفسه بالشورى ويريها أنها ناقصة وأنها محتاجة إلى عقل غيرها وعلمه؛ فهذا تغلب على النفس وقهر لها، هذه من فوائد الشورى ولا تقتصر على هذه. وينبغي على القائم بأمر المسلمين أن يستشير في أموره، لكن لا يلزمه أن يستشير كل أحد، ويلزمه أن يشاور الناس في أمرهم العام ولا يلزمه الاستشارة في أموره الخاصة، لكنها مندوبة له، وهي أفضل، ولا يلزمه أن يستشير في الأمور المستعجلة، التي قد تأتيه وليس بحضرته أهل الاختصاص الذين يستشيرهم في ذلك الأمر. وأيضاً: فإن إشارة بعض الأفراد غير ملزمة للقائم بالأمر ما لم يكونوا مرتبين لذلك، فإن كانوا مرتبين لذلك كأهل بدر وأهل الشورى في الأمة الإسلامية، الذين لا يحل للخليفة أن يتخذ قراراً حاسماً في أمور الأمة إلا بعد مشورتهم، فهؤلاء شوراهم ملزمة، فإذا اتخذوا رأياً معيناً ورجحوه لا يحل له أن يخالفه، أما ما سوى ذلك من الشورى فهو غير ملزم، بل هو معلم للصواب فقط. ويجب على من تولى الأمر أين كان أن يحاول أن يستشير أهل الاختصاص في أي أمر سيتخذ فيه القرار، فلو كان الذي يتولى الأمر قاضياً مثلاً يجب عليه أن يشاور العلماء وأن يحضرهم مجلسه، وهذا محل اتفاق بين المذاهب، وتعرفون في مختصر خليل رحمه الله تعالى في باب القضاء: وأحضر العلماء وشاورهم. فيجب على القاضي أن يحضر العلماء مجلس حكمه، وأن يشاورهم فيما يتخذه من الأقضية والصلح وغير ذلك. وكذلك إذا كان الأمر يتعلق بالاقتصاد فلابد أن يستشار فيه الاقتصاديون، وإذا كان يتعلق بأمر السياسة فلابد أن يستشار فيه الساسة، وإذا كان يتعلق بأمر الاجتماع فلابد أن يستشار فيه أهل هذا التخصص، فهذه التخصصات معتبرة شرعاً، ولابد من اعتبارها حتى لا يستبد الأفراد، فإن الاستبداد من مظاهر الجبرية والملك العاض، وليس من مظاهر دولة الإسلام التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون. كذلك هي وسيلة اختيار حاكم المسلمين؛ لأن الحكم لله سبحانه وتعالى وحده، وهو قد عين أنبياءه قادة لخلقه، وجعل ذلك جائزة على الامتحان الشديد الذي لقوه في ذاته، وجعل إبراهيم للناس إماماً فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، فالظالمون أي: الذين يظلمون الناس ولا يؤدون حق الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكونوا أئمة للمسلمين؛ لأن الله شرط هذا الشرط على إبراهيم. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعين أحداً بعينه أنه هو الذي يلي الأمر من بعده، فاختار المسلمون أبا بكر وبايعوه بيعتين، أولاهما البيعة المبدئية وكانت بسقيفة بني ساعدة، والأخرى البيعة العامة وكانت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم على منبره. وكذلك حين عهد إلى عمر، فكانت بيعة عمر جزءاً من بيعة أبي بكر، ومع هذا فقد بايعه الناس في المسجد، وعندما عهد بها عمر إلى الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض -تنازل ثلاثة منهم لثلاثة- فتنازل الزبير بن العوام لـ علي بن أبي طالب، وتنازل طلحة بن عبيد الله لـ عثمان بن عفان، وتنازل سعد بن أبي وقاص لـ عبد الرحمن بن عوف، فانحصر أمر الأمة حينئذٍ في ثلاثة وهم: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ثم تنازل عبد الرحمن لصالح عثمان وعلي بشرط أن يختار هو السابق منهما، فانحصر الأمر في عثمان وعلي وكان السبق لـ عثمان ثم من بعده علي، فعندما اختاره عبد الرحمن وبايعه بايعته الأمة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما قتل عثمان مظلوماً بايعت الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

شروط الخليفة في الدولة المسلمة

شروط الخليفة في الدولة المسلمة فهذه الشورى إذاً هي وسيلة اختيار حكام المسلمين، فهم يختارون وفق ضوابط شرعية لابد منها، وهي شروط الخليفة، وهذه الشروط عشرة: أولها: أن يكون مسلماً، فإن كان كافراً أو منافقاً أو مشكوكاً في عقيدته، فإنه لا يصلح لهذه الإمامة. ثانياً: أن يكون ذكراً، فلا تصح إمامة أنثى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). ثالثاً: أن يكون حراً؛ لأنه هو الذي يتصرف في أمور نفسه وسيتصرف في أمور غيره. رابعاً: أن يكون بالغاً؛ لأن الصبي محجور عليه فلابد من البلوغ. خامساً: أن يكون مجتهداً في دين الله، فإن كان جاهلاً أو عالماً مقلداً لم تصح إمامته، وقد حكى ابن حزم وابن تيمية وابن عبد البر الإجماع على أن المقلد والجاهل لا تنعقد إمامته، وإنما يشترط في الإمامة أن يكون مجتهداً في دين الله. سادساً: أن يكون عدلاً، فإن كان فاسقاً لم تنعقد إمامته؛ لأن الله شرط على إبراهيم أن الظالمين لا ينالهم عهده بالإمامة. سابعاً: أن يكون كافياً؛ لأن هذه الخلافة ليست مقصداً وإنما هي وسيلة، ويضمن بها الوصول إلى أهداف محددة هي إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه، وإظهار الحق، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، وجهاد أهل الكفر، فإذا لم يستطع القيام بذلك لم يكن خليفة قطعاً، فلابد أن يكون كافياً للقيام بمهمته، ولهذا قال ابن بدران رحمه الله: إن الحاكم المسلم الذي هو تحت إدارة المشركين لا يكون إماماً للمسلمين؛ لأنه غير قادر على إنصاف المظلوم من الظالم، وغير قادر على جهاد العدو، وغير قادر على إقامة الحدود ولا على غير ذلك. ومن هنا فإن الذين يمارسون السلطة في كثير من بلاد الإسلام عاجزون عن اتخاذ القرارات في كثير من الأمور، وإذا سئلوا عن السبب في تعطيلهم لأحكام الله سبحانه وتعالى واستبدالهم لها بأحكام الطاغوت، قالوا: نحن ليس لنا من الأمر شيء، فمن ليس له من الأمر شيء لا يكون إماماً قطعاً ولا يكون خليفة، من هو تحت الضغط المطلق كيف يكون إماماً وخليفة على غيره؟! الشرط الثامن: أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً، فإن كان ناقص القوى لم تنعقد إمامته؛ لأنه لا يستطيع القيام بمصالح نفسه، فكيف توكل إليه مصالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومصالح الدين بكامله. تاسعاً: أن يكون شجاعاً؛ لأنه إذا كان جباناً لم يستطع القيام بمهمته، ولابد لمن يتولى الخلافة أن يستشعر مسئوليته، وأن يعلم أنه النائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن الخلافة تعريفها الفقهي: هي النيابة عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا به. النيابة عن صاحب الشرع، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم. في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، أي: بالدين، فمن لا يستطيع ذلك ولا يجرؤ عليه لا يمكن أن يكون خليفة، ومن هنا تذكرون قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رجوعه من الحجة عندما وقف على ضجنان، فقال: لا إله إلا الله كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه -فهذا هو مقام الخلافة-، ثم أنشأ يقول: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سيلمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يوماً كما وردوا الشرط العاشر من هذه الشروط: أن يكون قرشياً، معناه أن يكون من ذرية فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة، وهذا الشرط المقصود به تحقيق هذه العصبية لدين الله سبحانه وتعالى؛ وقريش اختار الله منهم النبي صلى الله عليه وسلم، واختارهم اختيار اصطفاء من عموم الناس، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اصطفى إبراهيم من ذرية آدم، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من إسماعيل قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار ولا فخر)، فهذا الاصطفاء يقتضي اختياراً ربانياً قد لا نستشعره نحن ولا ندركه لكنه موجود، اصطفاء رباني في قريش، وهذا الاصطفاء يقتضي منهم حرصاً على الدين واستعداداً لبذل الأنفس والأموال في سبيله بخلاف من سواهم. هذه الشروط يلزم من عدمها العدم مثل كل الشروط الشرعية؛ لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته كالطهارة للصلاة، فإذا اختلت هذه الشروط فانتصب أي إنسان وقال: أنا خليفة، فهو بمثابة من يصلي بدون طهارة، فخلافته باطلة كما أن صلاته لو صلى بدون طهارة باطلة.

حق التشريع لمجلس الشورى

حق التشريع لمجلس الشورى وهذه الدولة أسلوبها في الحكم هو الذي ذكرناه، وهو أسلوب الشورى، ومن هنا فاتخاذ القرارات بعد تعيين الخليفة وبيعته تعتمد كذلك على هذا الأسلوب، ولا يكون هذا تشريعاً لما لم يأذن به الله ولا مخالفة لشرع الله، وإنما هو اختيار لبعض الجائزات وتقديم لبعض المصالح على بعض، ولذلك فإن من يظن أن مجلس الشورى بالدولة الإسلامية ليس له حق في التشريع مخطئ في تصوره، لكن التشريع الذي أذن له فيه ليس تشريعاً بمعنى تقدير وحي أو تغييره، وإنما هو اختيار في مجالات الدنيا ومجالات الاجتهاد ومجالات الرأي، فيمكن أن يقدم ساسة الدولة مثلاً: الزراعة على الصناعة أو الصناعة على الزراعة، أو أن يوافقوا على اتفاقية معينة، أو أن يقدموا مشروعاً معيناً في الوقت والتمويل على غيره وهكذا، فهذا هو معنى ما لمجلس الشورى من الحق في التشريع.

الفرق بين الديمقراطية والشورى

الفرق بين الديمقراطية والشورى وكثير من الناس يلتبس عليه هذا الأسلوب -الذي هو أسلوب الدولة الإسلامية في الحكم وهو الشورى- بأسلوب الديمقراطية، والديمقراطية كلمة يونانية في الأصل يقصد بها حكم الجمهور، أو أن يكون الحكم عاماً يشترك فيه كل الناس، وهذه الفكرة تقتضي أن يكون الناس جميعاً سواسية مشتركين في اختيار أسلوب الحكم، وفي اختيار من يحكمهم، وهذا مخالف للشرع؛ لأن الشرع حدد أسلوب الحكم كما ذكرنا وهو الشورى، وحدد كذلك شروط الحاكم، فإذا تغاضى الناس عن هذه الشروط لم يبحها ذلك. وكذلك فإن الشرع لم يجعل لكل إنسان حق التصويت والاختيار في أمر المسلمين، وإنما قصر ذلك على الذين يمكن أن يقوموا بأمر عامة المسلمين، وهم الذين اتصفوا بثلاثة شروط: بالعلم. والعدالة. وجزالة الرأي. فهذه الشروط الثلاثة لأهل الاختيار الذين لهم الحق في المشورة، وأن يختاروا من يقوم بأمر المسلمين، وقد قال مالك رحمه الله: لا أرى اليوم تجتمع في واحد، فإن لم تجتمع فورع عاقل، فبالعقل يسأل، وبالورع يكف أو يعف. ويمكن أن يطبق هذا أيضاً على شروط الخلافة، فإذا عدم المتأهل والمتحقق والمتصف بكل الشروط، فلا يمكن أن تعدم دولة الإسلام ولا أن يعدم من يقوم بها، بل يختار الأمثل فالأمثل، ومثل هذا في القضاء، فإن القضاء يشترط لمن يقوم به عدة شروط وكذلك الإمامة. لكنه عند فقد من تتحقق فيه هذه الشروط كلها يعدل إلى الأكفاء. فالأكفاء، ولذلك يقول خليل رحمه الله بعد ذكره لشروط القضاء: (مجتهد إن وجد وإلا فلأمثل مقلد، وزيد للإمام الأعظم قرشي)، وقوله: (فلأمثل مقلد) معناه: إذا لم يوجد مجتهد فحينئذٍ يعدل عنه إلى أمثل مقلد، ومعناه: أدراه بالأدلة وأدراه بالمذاهب وأحسنه بصيرة وأحسنه عقلاً وإن كان مقلداً، فالمقلد لا تتوفر فيه هذه الشروط، ولكنه أحسن من غيره إذا عدم من سواه.

الفرق بين الديمقراطية في الغرب والديمقراطية في العالم الثالث

الفرق بين الديمقراطية في الغرب والديمقراطية في العالم الثالث ثم إن الديمقراطية بعد أن كانت فكرة يونانية في الأصل تداولتها الأمم والحضارات، واختلف تطبيق الناس لها من طور إلى طور، واختلفت تأليفاتهم لها من وقت إلى وقت، وفي زماننا هذا ليست الديمقراطية ديمقراطية واحدة بل هي ديمقراطيتان: ديمقراطية غربية. وديمقراطية في بلدان العالم الثالث. أما الديمقراطية الغربية فإنها تقوم على أساس العدالة الاجتماعية في توزيع الفرص بين الناس، وعلى أساس أخذ الرأي المشترك، وعلى أساس التداول على السلطة عن طريق التصويت، وعلى أساس تحديد ركائز الحكم وأركانه، وتحديد الصلاحيات للحاكم في كل أمر يقوم به، وهي بهذا المعنى خير الأنظمة الفاسدة، ففيها مزايا تكون بها خيراً من الاستبداد، وخيراً من اغتصاب الحقوق من الناس، وخيراً من الظلم السافر، فهي خير أنظمة الحكم الفاسدة، فمن أجل هذا قد يضطر إليها المسلمون في حال من الأحوال، أو يضطرون إلى المشاركة فيها، فيكون هذا من باب ارتكاب أخف الضررين والحرامين، وهو جائز لقول الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، ولقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، فإن تزويج الكافر بالمسلمة محرم ولكن الاعتداء على الملائكة أعظم منه وأشد حرمة، فلذلك بدأ بالحرام الذي هو أقل حرمة، وقدمه على الحرام الذي هو أشد منه. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض على بني غطفان عام الأحزاب أن يرجعوا عنه وأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، وإن كان محرم على المسلمين أن يدفعوا أموالهم لأعدائهم الكافرين ليستعينوا بها على قتالهم، لكنه من ارتكاب أخف الضررين والحرامين، فإذا اضطر إليها المسلمون وعجزوا عن إقامة الأسلوب الإسلامي للحكم فهي أحسن الأساليب الأخرى غير الإسلامية. أما الديمقراطية لدى العالم الثالث فتختلف عن الديمقراطية الغربية، وسأبين بعض أوجه الاختلاف: فالديمقراطية في العالم الثالث هي عملية تجميل للاستبداد والغصب والغش والتزوير، وتظهر على أنها قائمة بأسلوب الديمقراطية وأنها مشاورة للناس، وأن كل الناس يشتركون فيها، ومن أجل هذا تطبل لها الطبول ويجتمع حولها الناس، ويظنون أنهم يتشبثون بشيء أو أن لهم شيئاً من الأمر، والواقع خلاف ذلك، وإنما يخدع بها ضعاف العقول وضعاف الثقافة، والذين لم يروا الديمقراطية على وجهها في البلدان التي طبقت فيها، ومن هنا فهذه العملية عملية التجميل لا تنطلي إلا على البلهاء البلداء، فهم الذين يظنونها ديمقراطية وينخدعون بها، وإلا فما هي إلا استبداد سافر وتزوير صارخ، وأخذ لأموال الناس وإهدار للطاقات في غير فائدة. ونتائجها محسومة في البداية، وأسلوبها محدد من قبل، والإنسان فيها لا يصوت حسب قناعته، وإنما يصوت خوفاً أو طمعاً، وليس فيها أي عائد راجع إلى الأمة، فالذي يصوت لا يعتبر نفسه مؤدياً خدمة للأمة، ولا محققاً لهدف من أهدافها، ولا محافظاً على شيء من كرامتها أو كيانها، وإنما يعتبر نفسه مناصراً للشخص الفلاني ليكون هو الممسك بزمام الدولة الفلانية، أو الممسك بزمام ابادية الفلانية أو غير ذلك من الأمور. ومن هنا تجدون الصراع الذي فيها يختلف تماماً عن الصراع في الديمقراطية الغربية، الصراع في الديمقراطية الغربية ليس على أساس البهرجية والأصوات والأغاريد والأغاني، وإنما هو على أساس البرنامج الذي يتعهد به المترشح، فالمترشح يشرح برنامجه ولا يبالغ ولا يعد الناس وعوداً كاذبة؛ لأنه يعلم أنه ستسجل عليه هذه الوعود وستناقش، فيسجل الوعود التي يستطيع الوفاء بها من خلال الصلاحيات الممنوحة له. وأنتم تعلمون البرامج التي تشاع في العالم الثالث بالديمقراطية، فإن كل إنسان يأتي ويعد الناس بأنه سينقلهم من دار الفناء إلى دار البقاء، ويحملهم إلى الجنة، أو أنه سينتقل بهم نقلة حضارية عجيبة، لكن أين وسائلها؟ أين المال الذي سيوظف به الناس ويجعل لهم فرصاً للعمل؟ أين المال الذي سيبني به البنى التحتية؟ هذه أمور لا يفكرون فيها، وأين الرجال الذين سيقومون بهذه المصالح؟ المترشح فرد وهو المستفيد ولا ينظر إلى من حوله، وإنما يختار من ناصره فقط، يختار من يقول: نعم، ولا يدني من يقول: لا. أما لدى الغربيين فإن الناس إنما يصوتون على أساس البرنامج الانتخابي المقدم، ليس على أساس معرفة ولا علاقة شخصية ولا مصالح شخصية، بل يقدمون مصالح بلادهم على مصالحهم الشخصية، ولذلك تجدون المهزوم يسلم مفاتيح القنابل الذرية للناجح الذي انتخب مكانه بكل رحابة صدر، وهو بيده مفتاح القنابل الذرية، وكان بالإمكان أن يفني خصومه في لحظة، ولكنه اقتنع بهذا الأسلوب واقتنع بمصلحة هذا البلد وبكيانه، ودخل ذلك في مخه وتفكيره، فيرجع هو ويأخذ سيارة التكسي، ويعمل في أي وجه من وجوه الاكتساب. بخلاف الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، فمن وصل إلى الحكم لا يمكن أن يتركه بوجه من الوجوه، سيستمر فيه إلى أن ينقل إلى قبره؛ لأنه يمسك مفاتيح الأبواب كلها، فيوصد الأبواب التي لا توصله هو إلى مقتضاه وما يبتغيه، ويفتح الأبواب التي توصله إلى مقصوده فقط، ولذلك قوانين الانتخابات، وتوزيع الدوائر، وتوزيع الأصوات، وشروط الناخبين، هذه كلها يتحكم فيها الذي يريد أن يجعلها وفق ما يضمن له النجاح. أما في بلدان الغرب فهذه متفق عليها مسبقاً، ولا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير إلا بموافقة الجميع. وأيضاً حتى الحملة الانتخابية التي يقومون بها تكون منضبطة بأخلاق، ليس فيها تبذير ولا إتلاف أموال؛ لأن الذي يريد الترشح يعرف أنه لو وصل إلى الحكم، أو لو وصل إلى البلدية، أو لو وصل إلى أي وظيفة يراد التنافس عليها، فإن تلك الوظيفة لن تدر عليه مطراً من الذهب، وإنما له راتب محدد يعرفه، وهذا الراتب لا يمكن أن يفي بتمويل هذه الحملات المكلفة جداً، فلذلك يقتصر في الحملات على شرح برنامجه الانتخابي في أماكن وجود السكان، وفي مكان الكثافة السكانية وأماكن المثقفين، واستغلال وسائل الإعلام في ذلك. لكن نظراً لأن وسائل الإعلام قد تكون مكلفة فإن الدول الغربية تدعم المترشحين بما يكفل لهم التغطية الإعلامية، وتتيح الفرص متساوية أمام كل المرشحين، بخلاف بلدان العالم الثالث فإن المنافس ستكتم أنفاسه ويكمم فمه، ولا تتاح له أي فرصة للتعبير عن برنامجه أو عن رأيه. كذلك: الديمقراطية الغربية لا تقتضي حصول الشحناء والبغضاء، وإنما تقتضي التنافس النظيف الذي يقوم على أساس الوازع والضمير الوطني والضمير المهني، ومستعد لأن يكون تحت طائلة المساءلة، فإذا اكتشفت عليه أي فضيحة تجده مستعداً لأن يقدم استقالته وأن يتنازل عن الحكم، وإذا حصل عليه ضغط وعرف أن الناس لا يريدونه فإنه سيتنازل عن الحكم طائعاً، بخلاف بلدان العالم الثالث فلا يمكن أن يتخلى فيها عن الحكم، حتى لو علم أن الناس جميعاً يكرهونه غاية الكراهة، أو أنهم جميعاً مظلومون أو مضطهدون يشعرون بأنهم قد صودر منهم حكمهم، وصودرت منهم أرزاقهم، وصودرت منهم فرصهم ولم يعدل بينهم فيها. إن أسلوب الديمقراطية مع الأسف ينخدع به كثير من الناس إذا قرءوا عنه في الكتب أو رأوه تطبيقاً في بلاد الغرب، فيظنونه هو نفس الديمقراطية التي تطبق في بلاد العالم الثالث، لكن الغربيين يعرفون الفرق بين الأمرين ويقولون: هذه الديمقراطية التي تصلح للغرب؛ لأنه على مستواها، وهذه التي تصلح للعالم الثالث؛ لأنه على مستواها، فهم يكيلون بمكيالين، المكيال الذي يكال به للفقراء والضعفاء غير المكيال الذي يكال به لشعب الله المختار من المثقفين والأغنياء. ومن هنا يساعدون من يحمون مصالح الغرب في بلدان العالم الثالث بكل ما يحتاجون إليه، وتعرفون الانقلابات العسكرية التي يقوم بها الغربيون لصالح من يكفل لهم مصالحهم، ويقوم على رعاية مصالحهم في بلدان العالم الثالث، والسعي الحثيث الذي يسعونه للإطاحة بكل من بدر منه أي مخالفة أو أي عدول عن تحقيق المصالح الغربية. وكذلك: الديمقراطية الغربية لا تقتضي حصول الشحناء بين الشعوب، فالشعوب المتنافسة لا يقع بينها حمل السلاح، ولا يقع بينها التهاجي والتقاذف بالكلام، بل يلقى هذا الشخص إنساناً آخر بكل ابتسامة وهو يعلم أنه سيصوت ضد من يختاره هو ومن يصوت له، بل قد تكون الأسرة الواحدة أبوها من أنصار أحد المرشحين، وأمها من أنصار أحد المرشحين الآخرين، وأحد أولادها من أنصار مرشح ثالث وهكذا، وكثير ما يقع هذا في البلدان الغربية. بخلاف العالم الثالث فكثيراً ما يؤدي الاختلاف السياسي إلى إراقة دماء، وكثيراً ما يؤدي إلى السب والتهاجي، وكثيراً ما يؤدي إلى الضرب والشتم، ثم يؤدي إلى البغضاء الدائمة، مع أن هؤلاء الذين يتضاربون أو يتهاجون أو يتقاتلون ليس لهم من الأمر شيء، إنما باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم.

تميز الدولة في الإسلام بأنها تهدف إلى تحقيق غاية

تميز الدولة في الإسلام بأنها تهدف إلى تحقيق غاية ومن ممزيات دولة الإسلام: أنها دولة تريد تحقيق غاية، والوصول إلى هدف، أما الدول الغير إسلامية فليس لها غاية ولا هدف، إنما تريد إشباع أكبر قدر ممكن من الرغبات والاتساع في اتباع الشهوات، دون أن يكون وراء ذلك أية محاسبة، فمن تولى الحكم في أي بلد من البلدان بغير حكم الله تعالى -كالحال في حكام المسلمين اليوم- فإنه لا ينظر إلى مصالح هذه الأمة، التي هي أمانة في عنقه وسيسأل عن كل أمورها، ولا يستحضر أنه هو المسئول شرعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى عما يصيبها. بخلاف الحاكم في دولة الإسلام، فإنه يستشعر هذه المسئولية، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: والله إني لأخشى أن يحاسبني الله إذا عثرت البغلة في الليلة الظلماء في سواد العراق لماذا لم أعبد لها الطريق؟ وكذلك كان يحرس بنفسه ويتولى الأمور بنفسه. وهكذا الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يقومون بهذه المصالح بأنفسهم، فـ عثمان بن عفان هو الذي يعلم الناس الوضوء على باب المسجد، وهو الذي يعلمهم القرآن في الثلث الأخير من الليل في المسجد، وهو الذي يخطبهم على المنبر، ويؤمهم في الصلوات ككل الخلفاء الراشدين. وعلي بن أبي طالب رضي الله أيضاً هو الذي بيده مفاتيح المسجد، وهو الذي يقمه بردائه، وهو الذي يوزع بيت المال بنفسه، ويقود الغزو بنفسه، وكل الأمور يباشرها بنفسه؛ لأنه لا يريد من وراء هذه الدولة ولا هذا الحكم أن يصل إلى رغبات شخصية أو شهوات لنفسه، وإنما يريد الوصول إلى أهداف كبرى، هي خدمة دين الله تعالى وإعلاء كلمته، ووصول كل أحد إلى حقه ومستحقه مما خصه الله به. كذلك: من خصائص دولة الإسلام أنها تسعى لاستغلال ما في هذه الأرض من الخيرات وإيصالها إلى الناس، وإلى جمع كلمتهم وعدم تفرقهم، وتتبنى مسائل المسلمين وقضاياهم المختلفة، وتناصرهم في أي مكان كانوا، ولا تقتصر على حدود يحددها أعداؤها، فهذه الحدود التي دخلت في كيان الناس وأصبحت محترمة لديهم معتبرة، ما هي إلا من اصطناع أعدائهم، وما قصدوا بها إلا تفريق كلمتهم وتشويه صورتهم، فما الفرق بين غامبيا وزجانشور مثلاً؟ ما الذي جعل زجانشور وهي في جنوب غامبيا تابعة للسنغال وأخرج غامبيا وهي شريط ضيق داخل أرض السنغال من هذه الدولة؟ إن المستعمر هو الذي يقطع هذه القطع، ولذلك لم يترك بين بلدين من بلاد الإسلام حدوداً واضحة، وإنما يرسل بعثات متتالية كل بعثة تخط خطاً، وتأتي البعثة التي بعدها فتخط خطاً مغايراً حتى تقع مشكلة، ويترك منطقة محايدة بين البلدان لتكون مشكلة في المستقبل مثل قضية الصحراء، ومثل قضية الحدود في الجنوب، ومثل قضية الشرق، ومثل المشكلات في أي مكان من أنحاء العالم الإسلامي.

تميز دولة الإسلام بقيامها على مشروع

تميز دولة الإسلام بقيامها على مشروع كذلك من مميزات دولة الإسلام أنها دولة تقوم على مشروع، فلا يمكن أن تقام بمجرد قرار، ولا بمجرد انقلاب عسكري، ولا بمجرد تغيير خفيف؛ لأنها مشروع حضاري يحتاج إلى الإعداد واتخاذ قوة، يحتاج إلى ذلك في أصل نشأته، ويحتاج إليه بعد ذلك في الحفاظ عليه، كثير من الناس يتصور أن الدولة إنما هي مثل قصر، له حراس وله سجن وله أبواق إعلامية، ويظن أن هذه هي الدولة. لكن التصور الإسلامي مختلف عن هذا، فالدولة لابد أن تكون قائمة على بُنى ثابتة، وأن يكون لها أهداف واضحة، وأن تكون لها ميزات تخصصها عن غيرها، ومن هنا فلا يمكن أن تقام دولة الإسلام إلا إذا أعد لها الإعداد الكامل في مختلف المجالات، إذا جاءت أجيال مستعدة لتحمل مسئولية هذه الدولة وللدفاع عنها حتى تقوم، ثم بعد ذلك يحافظ عليها بعد أن تقوم لأجل ألا تسقط، ولابد أن يشارك فيها أهل الاختصاصات المختلفة، ولابد أن ترعى مصالح المسلمين في مختلف الميادين، وأن تكون قائمة على فكرة واضحة، وألا تكون مجرد تخبط سياسي يتخبط فيه الساسة، فتارة مع هؤلاء وتارة مع هؤلاء، ينسلخون من هذا التحالف اليوم ليدخلوا في تحالف آخر، ثم ينسلخون من ذلك التحالف إلى تحالف ثالث، فهذا التذبذب غير مقبول في دولة الإسلام، ولابد أن تكون معالم سياستها بارزة واضحة للجميع، ولابد أن يتخذ لها كل الوسائل لقيامها ولاستمرارها بعد ذلك.

تميز الدولة الإسلامية بالبيعة

تميز الدولة الإسلامية بالبيعة ومن ميزات دولة الإسلام -كذلك- في العلاقة بين الراعي والرعية: البيعة، وهذه البيعة هي في الأصل بيعة مع الله سبحانه وتعالى على نصرة دينه وبذل النفس والمال في سبيل ذلك، وهي التي بايع الله عليها كل المؤمنين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. وهذه البيعة لابد أن يمثل الجانب الديني فيها طرف يأخذ الشروط الشرعية على من يبايعه، وقد نصب الله لذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمره ببيعة من يبايعه على الشروط التي حددها، لكنه أخبر أن تلك البيعة ليست مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هي مع الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فهي إذاً عهد على السمع والطاعة في المعروف وعلى نصرة الحق، وهي كذلك رباط روحي يجمع المرتبطين به على نصرة دين الله سبحانه وتعالى، وتختلف أساليبها باختلاف ما يحقق المصلحة. فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بالعقبة بيعة النساء، التي حدد الله شروطها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12]. وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار أيضاً بعد الهجرة، ثم بايع أصحابه قبل الخروج إلى بدر على القتال، ثم بايع المؤمنين يوم الحديبية على الموت، وقد بايع أفراداً من أصحابه على شروط مخصوصة، مثل ما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فشرط علي: والنصح لكل مسلم)، وكذلك بايع عشرة من أصحابه على ألا يسألوا أحداً شيئاً، فنوع رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق البيعة، وجعل بيعته للرجال عن طريق المصافحة أو عن طريق الالتزام العام. وبيعته للنساء قال فيها: (إني لا أصافح النساء وإنما مقالي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، ونوعها أيضاً فقد كان يغمس يده في إناء فيه ماء فيغمس النساء أيديهن فيه بعد أن يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وذلك للتبرك؛ لأن النساء يغبطن الرجال على ملامسة يد النبي صلى الله عليه وسلم لما فيها من البركة، فجعل لهن بديلاً وهو أن يغمس يده في الإناء الذي فيه الماء، ثم تغمس كل امرأة يدها فيه للتبرك من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لامست ذلك الإناء. ثم لما جاء أبو بكر رضي الله عنه طور هذه البيعة فبايعه الناس بسقيفة بني ساعدة البيعة الخاصة، وبايعوه بالمسجد البيعة العامة، وطورها أيضاً تطويراً جديداً حين عهد بالخلافة إلى عمر، ثم طورها عمر تطويراً جديداً حين تركها في ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فدلنا هذا على أنها ليست مقصورة على أسلوب واحد، وإنما تتنوع بحسب ما تؤدي إليه المصلحة المقصودة، وما لم يخالف ذلك حكماً شرعياً فهو مقبول شرعاً. وهذه البيعة ترفع الوعيد الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) والحديث في صحيح مسلم، فإذا بايع الإنسان هذه البيعة منعه ذلك من النكث، ولا يحل له أن ينكث حتى يرى كفراً بواحاً له عليه من الله برهان، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أجمعت الأمة على وجوب إقامة دولة الإسلام، ووجوب بيعة الخليفة، ونصبه، وفي ذلك يقول المقري رحمه الله: والنصب للإمام بالشروط حتم بشرع بالهدى منوط فهذا أمر حتم لابد من أدائه.

حال الدولة في المغرب مع الخلافة الإسلامية

حال الدولة في المغرب مع الخلافة الإسلامية وإن أهل هذه البلاد نظراً لظروفهم التي عاشوها، وتخلفهم الحضاري وانقطاعهم في هذه الصحراء، قد تساهلوا فيما يتعلق بأمر الدولة وقيامها، فلم يكن لهم اتصال بالخلافة العباسية التي كانت في المشرق، ولا بالخلافة الأموية التي كانت في الأندلس، وإنما فتحت هذه البلاد في أيام بني أمية عندما كانوا خلفاء المسلمين بدمشق، وقام بفتحها عقبة بن نافع رضي الله عنه، وبقيت تابعة للخلافة زماناً، مع أنها لا تجد أية صلة بها. فلما كان في أواسط القرن الرابع الهجري قامت فيها زعامات قبلية، اتفقت بعض قبائلها على تداول السلطة بينها، فيحكم تلك القبائل قائد قبيلة معينة، ثم يسلمها في آخر عمره لقائد قبيلة أخرى، حتى وصلت إلى رجل اسمه تاشتا محمد فأسلمها لرجل فيه صلاح وورع وهو يحيى بن إبراهيم الإبدالي من قبيلة إبدالة، فخرج هذا إلى المشرق ليرى حال المسلمين ويريد الحج، ومر في طريقه ببعض البلدان التي فيها حضارات إسلامية ومنها القيروان، فأعجب بما عليه الناس، فسأل أبا عمران الفاسي أن يوجه معه من يعينه على حكم هذا البلد حكماً إسلامياً، فلم يجد عنده من يستعد لذلك، فكتب له رسالة إلى أحد تلامذته وهو وقاق بن زلو المنفي بالمغرب، فاختار له من بين تلامذته الإمام عبد الله بن ياسين لما وجد فيه من الإخلاص والحركة والنشاط، فجاء عبد الله بن ياسين وأقام الرباط، وأقام أول حركة إسلامية عرفت بالتجديد والإصلاح بعد سقوط الخلافة، فربى الناس تربية مخصوصة، وأقام دولة استطاعت أن تجاهد في سبيل الله، وأن تقيم حدود الله، وأن تعين المظلومين، وأن تعدل في تقسيم الغنائم وغير ذلك، وقامت على أساس دعوة عبد الله بن ياسين دولة المرابطين. ولكنها بعد سقوطها رجع الناس إلى الفوضى وإلى الحكم القبلي العشائري، واستمروا على ذلك أزمنة طويلة، لكنهم في كل زمان يظهر فيهم من أهل العلم والصلاح من يدعو لإقامة دولة الإسلام، ومن يستنكر الوضع الذي يعيشونه، فهذا الشيخ محمد رحمه الله تعالى يستنكر ما فيه أهل زمانه من ترك إقامة دولة الإسلام وبيعة الخليفة فيقول: أزيلوا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا فيخرج قائم بالعدل منكم فلستم بعده تتقاتلونا وينفي ظلم بعضكم لبعض وبالحد المقام تطهرونا إلى أن يقول فيها: أما تدرون كل بني تميم من الصخر العظيمة يحملونا ويعجز بعضهم عنها وليسوا إذا اجتمعوا عليها يعجزونا كذلك أنتم حيث اجتمعتم على نصب الخليفة تقدرونا ويقول فيها: وقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبونا وقلتم لا إمام بلا جهاد يعززه فهلا تضربونا إذا جاء الدليل وفيه دور كفى ردعاً لقوم يعقلونا ويقول فيها: لتمتثلن أو لأكفرنكم كحسان العلى حين تكفرونا وكذلك. رحمه الله فإنه أيضاً دعا لمثل هذا حين رأى الفساد الذي في زمانه، وخلد ذلك في قصائده المشهورة، ومنها قوله: حماة الدين إن الدين صارا أسيراً للصوص وللنصارى فإن بادرتموه تداركوه وإلا يسبق السيف البدارا ولكنه مع الأسف سبق السيف العذل، فجاء المستعمرون فأخذوا على الناس أزمة الأمر، دون أن تقام دولة إسلامية في هذا البلد مع أنه كان مهيئاً لذلك، فقامت فيه عدة محاولات بعد المرابطين كمحاولة الزوايا المشهورة بمحاولة ناصر الدين، لكن المستعمر كان لها بالمرصاد فأفشلها وأسقطها، وأيضاً من أسباب سقوطها عدم تثقيف الناس بها، وابتعادهم عن فهم معنى الدولة مما جعلها لا تعتمد على بناء تستطيع به الصمود والاستمرار، بل فهمها الناس فهماً خرافياً، فهموا الدولة كلها والتنظيم الذي قام والجهاد الذي أسس فهماً خرافياً، وحتى الذين كتبوا عن تاريخه لم يخل أكثرهم من هذا الفهم الخرافي. ثم بعد هذا -عندما جاء المستعمر- وجد أهل هذه البلاد أنفسهم مضطرين للتعامل مع هذه المستعمر، حين فرض عليهم نفسه بالقوة، فلم يفهموا الدولة والنظام إلا عن طريق المستعمر، والمستعمر إنما كان يحكمهم بالحديد والنار، ولكنه مع ذلك كان ألطف وأرفق من كثير من الأحكام التي تعاقبت بعده، فهو على الأقل لم يتدخل في شئون الأفراد ولا في شئون الدين المختصة، وكان يرجع في كثير من الأمور إلى الفقهاء، وقد نصب بعضهم قضاة بين الناس حين تراضى الناس عليهم، بخلاف كثير من الأحكام الخالفة للاستعمار. وهذا الحال أيضاً نجده في البلدان الإسلامية الأخرى، فلا فرق، فحالها واحد، لكن الأمة بكاملها تشعر بوجوب وضرورة إقامة دولة للإسلام تتميز بالميزات التي ذكرناها وبما سواها، وتتخلى عن هذه الصفات الذميمة المشوهة التي تجمع أنواع التشويه، ولا تتصف بصفة من صفات الاستقامة والعدل. وهي تعلم أن طريقة ذلك لا تتم إلا بالإعداد الكامل وحشد كل القوى وتهيئتها، فلو أنها دعيت لأن تستلم بلداً من البلدان، وأن تقيم فيه دولة الإسلام، فإنه ينبغي أن تعلم أن ذلك لا يمكن أن يتم على هذا الوجه؛ لأن دولة الإسلام لا تقام حتى يعد لها كثير من الإعداد، وحتى يُهيأ لها حكام وولاة، وحتى يهيأ لها اقتصاديون وسياسيون واجتماعيون، كل مرتبط بالإسلام ومنطلق منه في ثقافته ووعيه، ومتشبع بالحضارة الإسلامية، ومتشبع بأصول الدولة الإسلامية التي قامت، ومنفصل عن تراث زمان الفوضى والتسيب، وعن تراث الاستعمار المقيت البغيض، فما لم يتم هذا لا يمكن أن تقام الدولة الإسلامية التي أوجب الله علينا إقامتها. أقول قولي هذا، وأستقبل الآن بعض أسئلتكم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إثبات العين والقدم والرجل لله تعالى

حكم إثبات العين والقدم والرجل لله تعالى Q إن بعض أهل العلم أثبتوا لله العين والقدم والرجل وبعض الصفات الأخرى، فما هو صواب هذا القول في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ A أن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأنه لا يمكن أن يكون له مثل لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فلا يمكن أن يعرف إلا عن طريق الخبر، وقد أخبرنا عن نفسه بهذه الصفات، فنحن نؤمن بها كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وهذا واجب على كل مسلم، ومع هذا يجب عليه أن يؤمن بأنها لا تشبه صفات المخلوقين، وأن الله سبحانه وتعالى له ذات لا تشبه ذوات المخلوقين، فكما له ذات لا تشبه ذواتهم، فكذلك له صفات لا تشبه صفاتهم، والقول في الصفات كالقول في الذات، والقول في بعض الصفات كالقول في بعضها.

قول الصاوي بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر

قول الصاوي بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر Q ما صحة قول الصاوي بأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر؟ A أن هذا الكلام غير صحيح أصلاً، وهو أيضاً مع ذلك غير أديب؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يرسل إلينا الرسول صلى الله عليه وسلم بالألغاز، وإنما أرسله إلينا بالوحي المبين الواضح الميسر للذكر، الذي قال فيه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، ولم يكن ليسر إلينا بأمور لا نفهمها ولا تصل إليها عقولنا، والخلط والغلط يحصل فيما يتخيل الإنسان أنه ظاهر النص وليس كذلك، فمثلاً: كثير من الناس إذا سمع إثبات صفة من صفات الله سبحانه وتعالى انطبع في ذهنه اتصاف المخلوق بذلك، فدعاه هذا إلى التشبيه والتجسيم، وهذا ليس هو ظاهر الآية، وإنما هو التصور الذي في ذهنه هو فقط، فذلك الغلط من فهمه هو لا من النص، ومن أجل هذا يجب عليه أن يعلم أن الذي فهمه غير معنى الآية وغير ظاهرها، وفهمه اتصاف الخالق بصفة المخلوق على هيئة اتصاف المخلوق بذلك، مخالف لمعنى النص ومخالف لظاهره.

حكم قسم الداخلين في البرلمان على حماية الدستور والقانون

حكم قسم الداخلين في البرلمان على حماية الدستور والقانون Q الذين يدخلون البرلمان يقسمون على حماية الدستور والقانون، أليس ذلك تحاكماً إلى الطاغوت؟ A لا، هذا من باب الضرورات وقسمهم لا يلزمهم، بل هو مثل أيمان البيعة التي كانت في زمن بني أمية وبني العباس، وقد قال فيها مالك رحمه الله: ألا لا طلاق بإغلاق، ألا إن أيمان البيعة غير لازمة، وعندما أراد العباسيون تعزيره على ذلك أركبوه حماراً وطافوا به في المدينة وجلدوه سبعين سوطاً، فجعل إذا مر بملأ يقول: من كان يعرفني فقد عرفني ومن كان لا يعرفني فأنا مالك بن أنس: ألا لا طلاق بإغلاق، ألا إن أيمان البيعة غير لازمة.

حكم المشاركة في المجالس النيابية والبرلمانية

حكم المشاركة في المجالس النيابية والبرلمانية Q في كلامكم عن الفرق بين الشورى والمجالس المؤسسة على ضوء الانتخابات الديمقراطية، هل يمكن أن نستنتج الفرق بينهما من خلال كون مجلس الشورى الحكم فيه ليس للأغلبية، بل على أساس ما رأى أمير المسلمين من المصلحة في الرأي الذي رجحه حتى ولو كان القائل به فرداً واحداً، بينما المجالس البرلمانية الحكم فيها للأغلبية، وهل دخول الإسلاميين المجالس البرلمانية جائز مادام الحكم فيه للأغلبية؟ A أن هذا الفرق الذي ذكر هنا ليس هو المقصود، وما قصدناه، بل ليس لأمير المؤمنين -الخليفة- أن يخالف رأي مجلس الشورى إذا اتخذ قراراً في أمر هو من تخصصه؛ لأنه يجب احترام التخصصات في هذا الباب، وليس قول أحدٍ ملزماً إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه هو المعصوم ومن خالفه خالف النص والوحي، لكن من سواه لابد أن تقيد صلاحياته حتى لا يقع الاستبداد المطلق، ومن هنا فإنه لو بويع خليفة للمسلمين لابد أن يكون بإزائه مجلس للشورى يتخذ القرارات الحاسمة، ويبت في الاقتراحات والتوصيات، ويحدد الأسلوب الذي تدار عليه الأمور، فيكون الخليفة حينئذٍ سلطة تنفيذية، ولا مانع من أن يشارك في السلطة التشريعية وأن يكون عضواً فيها، لكن لا يمكن أن يستبد بها. وبالنسبة للأغلبية: فالعدول إليها شرعاً إنما هو في الأمور الدنيوية المحضة، إذا لم يستطع أحد الأفراد أن يقنع الآخرين برأيه لا من ناحية الدليل ولا من ناحية المصلحة، فحينئذٍ لا مانع من الأخذ بالأغلبية بأن ينظر إلى ما عليه أغلب الناس، ومن هنا فإن دولة الإسلام لا يرضى فيها بأن يكون الخليفة مسخوطاً لدى أغلب الناس، فإذا كان الخليفة لا يرضاه أغلب الناس خليفة، فإنه بذلك ينبغي أن يستقيل من الحكم وألا يأخذ به. أما حكم المشاركة في المجالس النيابية والبرلمانية فإننا ذكرنا أنه من ارتكاب أخف الضررين والحرامين، وقد يتعين في بعض الأحيان فيكون واجباً إذا كان فيه مصلحة راجحة للمسلمين، وفيه رفع ضرر واضح عنهم.

واجب المسلم تجاه أنظمة الحكم الديمقراطية والانتخابات

واجب المسلم تجاه أنظمة الحكم الديمقراطية والانتخابات Q ما هو واجب المسلم اليوم تجاه الحكام الذين يحكمون البلاد الإسلامية وديمقراطيتهم، على ضوء ما ذكرتم في معرض حديثكم عن شروط من ولي أمر شعب من شعوب هذه الأمة، وهل يلزم المسلم أن يقاطع جميع أنواع الانتخابات، وهل لهؤلاء الحكام من طاعة على المسلمين، وكيف تكون المواجهة ضد الأنظمة؟ A هنا عدد من الأسئلة، السؤال الأول فيما يتعلق بموقف المسلم: فإن موقف المسلم واضح، وهو ما شرط الله عليه: أن يكون ولاؤه لله تعالى ونصرته له، وألا يعدل عن ذلك، وألا يختار به عرضاً من الدنيا، وإذا كان الحامل له على ترك مسئوليته الخوف فالله أحق أن يخشى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، ويقول: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة:44]. وعلى هذا فإنه يجب عليه السعي من أجل التغيير، تغيير عقليات الناس وإصلاح الأحكام الموجودة، وهذا أيسر وأسهل، وإذا امتنعت عن الإصلاح فلا يمكن أن يستسلم لها، بل لابد من تغييرها هي أيضاً، لكن لابد أن يكون ذلك بوسائل شرعية، ولابد أن تكون الوسائل أيضاً مضمونة ليس فيها حيف ولا جور ولا ظلم، ولا تجاوز لحدود الله سبحانه وتعالى بأي وجه من الوجوه. أما موقف المسلم من الديمقراطية: فإن الديمقراطية أمر واقعي يعيشه المسلمون، قد فرض عليهم في ديارهم لم يخرجوا للمطالبة به، ولو طالبوا به لم يعطوه، ولكنه أسلوب فرضه الغربيون على مستخلفيهم في ديار المسلمين، فأصبح واقعاً يعيشه الناس، فإما أن يعتزلوه ويتركوه فيكون هذا تمكيناً لأعدائهم من السلاح الذي يقتلونهم به، فيكونون حينئذٍ مهمشين لا دخل لهم في هذه الحياة، ولا يستشارون على أي شيء، ولا يشاركون في أي شيء، وتتمحض الكلمة للباغي، وهذا ممنوع شرعاً. فلابد أن يحاولوا استصلاح الموجود والمشاركة فيه إذا كان يؤدي إلى نتيجة، أما إذا أيقنوا أنه تزوير وتزييف محض وليس فيه أي نتيجة مضمونة، وليس فيه أي مصلحة لدين الله ولا لرفع الظلم ولا لتقليله، فلا يحل لهم المشاركة فيه؛ لأن ذلك يعطي شرعية لهذا الحكم المخالف لحكم الله سبحانه وتعالى الذي تشريعه كفر؛ لأنه تشريع ما لم يأذن به الله. أما المشاركة في انتخاب أي فرد من الأفراد فإن على من شارك في انتخابه أن يعلم أنه مسئول عن تصرفاته، فإن كانت تصرفاته آثمة خاطئة فإن عليه جزءاً من إثمها؛ لأنه ما وصل ذلك المرشح إلى السلطة إلا بتصويته هو، وإن كانت تصرفاته رشيدة حكيمة فليعلم أن له أيضاً قسطاً من أجرها؛ لأنه الذي شارك في إيصاله إلى مكانه، وعليه فعلى الإنسان قبل أن يشارك فيها أن يعلم أنه مسئول عن النتيجة، ومسئول عما يترتب عليها من أعمال، وما يترتب عليها من قرارات، وسيسأله الله سبحانه وتعالى عن كل ذلك. وعليه؛ فإن الناس في هذا المجال يتفاوتون ودرجاتهم مختلفة، وقد قال مالك رحمه الله تعالى حين سئل عمن خرج على وال فاسق فأراد إزالته وانتزاع ما تحت يده، هل يجوز لنا نصرته؟ فقال: إن كان الوالي الذي يراد إزالته مثل عمر بن عبد العزيز فادفع عنه، وإن لم يكن مثله فدعه وما يريد منه، ينتصر الله من الظالم بالظالم ثم ينتصر من كليهما. وقال سحنون رحمه الله تعالى: إذا كان القائم، أي: الثائر، عدلاً وجب القيام معه لينصر دين الله، وإن كان فاسقاً فدعه وما يطلب منه، ولا يحل لك دفعه عن الظالم. وقال العز بن عبد السلام رحمه الله: فسق الأئمة يتفاوت، فمنهم من يكون فسقه في الدماء، ومنهم من يكون فسقه في الأبضاع، ومنهم من يكون فسقه في الأموال، فيقدم الذي يفسق في الأموال على الذي يفسق في الأبضاع، ويقدم الذي يفسق في الأبضاع على الذي يفسق في الدماء، لما بين المضرتين والمفسدتين من الفرق، فكل مفسدة تدفع بها التي هي أعظم منها. وأما ما لهم من الطاعة فإنه لا يترتب على الانتخابات ولا على قيام الدول غير الإسلامية أي حكم شرعي يختص، فمن قام كمن لم يقم، ومن انتخب كمن لم ينتخب، فلا فرق شرعاً، ولا يترتب على هذا أي حكم شرعي؛ لأن منطلقه غير شرعي، فلذلك كان المعدوم شرعاً كالمعدوم في الواقع، لا يعتبره الشرع وجوداً وكأن شيئاً ما حصل. أما المواجهة: فإن المواجهة لا يقدر عليها إلا من يطيقها ولا تجوز إلا لمن يستطيع ذلك، وإذا استطاعه فلا تجوز أيضاً إلا وفق ضوابط شرعية، لا يكون فيها الاعتداء على أرواح الناس ولا على ممتلكاتهم ولا على أعراضهم، ولا تؤدي إلى فتنة غير محسومة، ولهذا فإن ما يحصل في كثير من البلدان يؤدي إلى فوضى لا حصر لها، فلابد وأن تكون الأمور مدروسة النتائج والعواقب، وأن تكون وسائلها واضحة شرعاً وضوحاً لا يختلف فيه الناس، وبالأخص أن القرار الذي يتخذ في مثل هذا قرار على الأمة، فلا يمكن أن يصادر الإنسان قرارات الأمة ومصالحها حتى يستشيرها ويرى رأيها.

تصنيف حركة طالبان الأفغانية

تصنيف حركة طالبان الأفغانية Q هل ترون في حركة طالبان الأفغانية مشروعاً إسلامياً حقيقياً، أم أنها مجرد أداة من الأدوات التي تخدع بها الشعوب الإسلامية؟ A وسط بين هذا وهذا، فحركة طالبان في الأصل لم تكن حركة سياسية، ولم تكن الدوافع لقيامها إقامة دولة الإسلام ولا الجهاد في سبيل الله، وإنما كانت حركة إصلاحية أراد بها عدد من الطلاب أن يغيروا بعض المنكرات وأن يمنعوا الظلم، وأن يحرقوا مزارع الحشيش، وأن يقوموا ببعض الإصلاحات الاجتماعية فقط، لكن أمريكا رأت أنه بالإمكان أن ينتزعوا البساط بهم من تحت أقدام المجاهدين، وأرادوا ألا تقوم دولة للإسلام في أفغانستان، فدعموا حركة طالبان دعماً غير مباشر حتى قضوا بها قضاءً جزئياً على الجماعات الجهادية القائمة في أفغانستان. لكن المشكلة التي فاجأتهم بها طالبان أنها عندما طردت المجاهدين أرادت أيضاً أن تقوم بمثل ما كانوا يريدونه، أرادت أن تقيم دولة إسلامية، فحينئذٍ تخلت عنها أمريكا، وأرادت أن ترجعها إلى أصل نشأتها، وأن تكون حركة اجتماعية فقط لا سياسية، وهذا ما لم يتحقق. وأيضاً: فلا ينبغي أن يؤمل الناس كثيراً من هذه الحركة التي لم تنشأ أصلاً نشأة سياسية، ولم تكون تكويناً كافياً، ولم تكن لها اهتمامات في هذه المجالات المختلفة، وإنما يحمد لها ما قدمت من الخير، ويسأل الله أن يوفقها.

معنى تطبيق الشريعة الإسلامية

معنى تطبيق الشريعة الإسلامية Q كثير من المسلمين يتصورون عندما ينادي الدعاة بتطبيق الشريعة الإسلامية أن معنى التطبيق هو قطع أيدي السارق وجلد الزاني، والحكم في المرأة ألا تخرج من بيتها إلا إلى قبرها، كما رأينا ذلك في أفغانستان عند طالب، فهل هذا تصور صحيح؟ A لا، هذا تصور غير صحيح، فهم لم يروا من التصورات المذكورة إلا الرءوس، الإسلام أكبر من هذا، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، فإقامة الحدود علاج فقط لأمراض تريد دولة الإسلام ألا تقع أصلاً، وإذا قامت دولة الإسلام فستسعى لئلا توجد هذه الأمراض حتى تضطر إلى الحدود، فمثلاً: حد الردة، هذا حد من الحدود لم تعرف إقامته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمان أبي بكر ولا في زمان عمر ولا في زمان عثمان ولا في زمان علي، وهو حد من الحدود الثابتة المقررة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يعرف أن أحداً ارتد فاستتيب فلم يتب فقتل، بل كان يرتد الناس فيتوبون ويرجعون، أو لا يرتدون أصلاً.

المشاركة في الانتخابات هل هو رضا بالقوانين الوضعية

المشاركة في الانتخابات هل هو رضا بالقوانين الوضعية Q ما هي الضوابط الشرعية للمشاركة في الأنظمة وفي اللعبة ومن ثم في الحكم، أليس من تلك الضوابط عدم مخالفة الشرع، وأن التزام هؤلاء المشاركين بتوجيه الدولة وبقوانينها الوضعية أكبر مخالفة؟ A أن هذا لا يلزم منه الأخذ بتلك القوانين المخالفة ولا التزامها، لكن الإنسان يصلح ما يستطيع، وإذا لم يشارك فإن تلك القوانين ستطبق عليه رضي أم أبى، فهو لا يخرجه عن تلك القوانين عدم مشاركته، بل إذا شارك فسيقلل الضرر، وإذا لم يشارك فالقوانين ستطبق عليه كما هي، فمن أجل هذا يعد هذا من ارتكاب أخف الضررين والحرامين، ولا يعد مما له عنه محيص ويمكن أن لا يشارك فيه.

نظام السودان هل يعد إسلاميا

نظام السودان هل يعد إسلامياً Q هل يعتبر النظام في السودان نظاماً إسلامياً؟ A أن النظام القائم في السودان لا يمثل الدولة الإسلامية، بمعنى: أنه ليس دولة متكاملة تقوم على أسسها الدولة، ويبايع فيها الخليفة على أساس ذلك، وإنما هو بلد إسلامي قام فيه حكم إسلامي، فالحكم القائم حكم إسلامي، والنظام القائم نظام إسلامي، ولو كان دولة إسلامية لكن المبايع فيه خليفة لكل المسلمين، وعليهم أن يبايعوه وأن يلتزموا طاعته، وليس الواقع كذلك، بل الذي يقوده إنما يدعي أنه قائد للسودان فقط، فلذلك لا يقال هي دولة إسلامية، لكن يقال: حكم إسلامي، فهو بمثابة أمير بلد من البلدان في عهد الخلافة مثلاً، ومع ذلك فهي أحسن الموجود، تعلى فيها كلمة الله بالمستطاع مع كل الضغوط القائمة عليها، ووجود الهجمة الشرسة التي تقوم بها أمريكا بتشويهها، حتى -مع الأسف- داخل المنظمات الإقليمية، ومنها الجامعة العربية والوحدة الأفريقية وغيرها.

إمكان وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة عن طريق الديمقراطية

إمكان وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة عن طريق الديمقراطية Q هل يمكن للحركات الإسلامية الوصول إلى السلطة عن طريق الديمقراطية، رغم أن كل التجارب باءت بالفشل، إلا في حالات خاصة كبعض الدول ذات الحكم الملكي؟ A أن الحركات الإسلامية لا تريد الوصول إلى حكم هذه الدول عن طريق الديمقراطية، ولو أرادته فإنها لا يمكن أن تقيم بذلك دولة إسلامية، وإنما تريد تقليل بعض الشر، فبعض الشر أهون من بعض، أو تريد جلب بعض المصالح المؤقتة، لكنها لا تعلق آمالاً كبيرة على الديمقراطية، ومن هنا فما يحصل -مما يراه الناس فشلاً في كثير من البلدان- غير مفاجئ لكثير من الذين يعيشون الوضع ويرونه. والحركات الإسلامية في العالم تنطلق من واقعها ورؤيتها الواضحة للبلد الذي هي فيه، فكثير من الحركات لا تريد إقامة دولة الإسلام في بلدها؛ لأنها تعلم أن هذا البلد ليس له مقومات الدولة الإسلامية، وإنما تريد وجود شعب إسلامي أو مجتمع إسلامي أو تقليل بعض الشر، ومن أجل هذا يمكن أن تتعايش مع بعض الحكام الذين هم أقل شراً إذا قبلوا رفع بعض الضرر عن المسلمين، وإذا قبلوا تطبيق حدود الله تعالى أو تطبيق بعض أوامره، وهم يعلمون أن الدولة لن تكون دولة إسلامية حينئذٍ، ولكن بعض الشر أهون من بعض. بل أكثر الجماعات الإسلامية القائمة اليوم ترضى عن كثير من الحكام لتقليل الشر، ويمكن أن تتعاون معهم في إزالة كثير من مظاهر السوء والفساد، وأن تساعدهم على بعض ما يريدونه؛ لأنها تعلم أن الدولة لم تكن إسلامية في هذه الحقبة، وإنما يراد بها تقليل بعض الشر وإظهار بعض الخير، والقضاء على بعض الفساد المنتشر، وبالتدريج يمكن أن يزال هذا الفساد بالكلية.

التصالح مع الحكام ومناصحتهم

التصالح مع الحكام ومناصحتهم Q هنا من يرى أن أفضل أسلوب وأسلمه مع حكام المسلمين اليوم، هو أن يتخذ الدعاة معهم أسلوب التصالح والنصح الكيس بما يضمن استيعابهم، وعلى الأقل يحقق الحماية والسند للدعوة الهادئة المتدرجة المتبصرة، وأنه لا مبرر لليأس من هداية هؤلاء الحكام والتأثير، عليهم، فما هي قيمة هذا الرأي شرعاً وواقعاً؟ A أن هذا الرأي منطلق من واقع المسلمين المنهزم، الذي ينطلق فيه الناس من تجارب فاشلة، قد خاضها أقوام دون أن يعدوا لها العدة في أماكن مختلفة، وفي حقب تاريخية متباينة، وهذا الأسلوب قد مر به من قبل الشيعة، فقد خرج كثير من آل البيت في ثورات متعددة لم يكتب لشيء منها النجاح، فأصيب شيعتهم باليأس، فأرادوا التسليم لأي قائم بالأمر ومناصحته، حتى لو كان كافراً فيكونون بجنبه على المسلمين، حتى غير ذلك الخميني بثورته الجديدة التي تسمى ولاية الفقيه، ولذلك فإن هذا الأسلوب إذا كان يقتضي التنازل عن نصرة دين الله تعالى والرضا بالواقع المرير، وعدم السعي لتغييره، فهو ترك لما أمر الله به جملة وتفصيلاً. ونحن لا ننكر أنه على المسلمين أن يأخذوا بأسهل الأسباب وأيسرها، وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ولا قطيعة رحم، وأن عليهم كذلك أن يأخذوا بأيسر المصالح وأكثرها تحقيقاً لما يطلبونه ويريدونه من الأهداف، وأن عليهم أن يوازنوا بين المصالح والمفاسد، فهذه أمور لا نختلف فيها، لكن هذا الطرح لا يمكن أن يؤدي إلى إقامة دولة للإسلام ترعاه وتقوم بمصالحه، بل سيتربى الناس على الاستسلام المطلق، فإذا حكم النظام العالمي الجديد أو هيمنت أمريكا أو هيمنت أية دولة كفر أخرى فسيسلمون لها وينقادون لها تمام الانقياد.

التربية ضرورة ومنهج

التربية ضرورة ومنهج للتربية أهمية كبرى في حياة المسلم بجوانبها الثلاثة: العقلي، والبدني، والروحي، وهي ضرورية أيضاً لمن أراد أن ينتقل من الجهل إلى العلم، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخلق السيئ إلى الخلق الحسن. ومن أعظم ما يعين على التربية قراءة سير السلف والخلف ممن ضربوا أروع الأمثلة في التربية الحسنة.

أهمية التربية في حياة المسلم

أهمية التربية في حياة المسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من ضعف، وجعله قابلاً للنمو والتطور، وآتاه وسائل ذلك النمو والتطور، فيسر له سبل الهدى، وأعانه على ذلك بما آتاه من الجوارح المعينة على التدبر في آيات الله المسطورة والمنظورة ليزداد بذلك إيماناً ويقيناً؛ وليزداد في أخلاقه وفي سلوكه وفي أعماله كلها. والإنسان محتاج إلى ذلك الازدياد بصورة مستمرة دائماً، ولهذا فإن الإنسان لا يتوقف نموه بالكلية إلا إذا هو أقبل على النقص، فالإنسان دائماً في مسير إما إلى الأمام وإما إلى الخلف، لكنه لا يمكن أن يتوقف مسيره، فهو في بداية نشأته نشأ ضعيفاً، ثم بعد ذلك وصل إلى القوة، ثم تراجع إلى الضعف والشيبة، ثم بعد ذلك الموت، وفي مسيره الأول من بداية نشأته لا بد أن يمر بأطوار كثيرة، كما قال نوح عليه السلام في دعوته: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14]، وهذه الأطوار ذكر الله منها في كتابه تسعة هي قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:13 - 16]، هذه تسع مراتب من أطوار خلق الإنسان، وفي كلها تجد النمو والازدياد، وهذا النمو والازدياد ما كان مكتسباً منه هو الذي يسمى بالتربية.

معنى التربية

معنى التربية والتربية مشتقة من: ربا يربو إذا زاد، فزيادة المال تسمى رباً له، وكذلك زيادة العقل، وزيادة قوة البدن، وزيادة الخلق، كل ذلك يسمى تربية. وأصل هذه المادة في اللغة يستعمل منها أربعة أفعال، فيقال: ربا يربو، ومنها رباه يربيه إذا أوصله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومن هذا الفعل قول الشاعر: وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام ويقال أيضاً: ربه يربه، ومنه قول صفوان بن أمية بن خلف رضي الله عنه: لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن. الفعل الثالث: يقال: رببه يرببه، إذا أوصله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي: بيض مرازبة غلب أساورة أسد ترببن في الغيضات أشبالا ويقال كذلك: ربته يربته، وهذا الفعل الرابع، ومنه قول الشاعر: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهل ومن هذا الفعل الرب، فالرب يطلق على المالك؛ لأنه هو الذي يعتني بتنمية مربوبه، فيقال: رب البيت ورب المنزل ورب الدابة، أي: مالكها، وأصلها راب، فكثير ما تحذف الألف من (فاعل) للمضعف، كما قال ابن مالك: وينحذف بقلة مضاعف منه ألف قوله: (بقلة) أي أنه مقصور على السماع، وليس معنى ذلك: قلة وجود الأمثلة على هذا، وذلك: كربٍ وشتٍ وقذٍ وعمٍ فكل هذا بمعنى فاعل. وقول الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، قال ابن عباس في تفسير ربانيين: الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذا هو التدرج في طلب العلم، وهو مناسب لهذه المادة، ومثل ذلك قول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146]، فالربيون منسوبون إلى الرب، وهم المربون أو هم المشتغلون بعبادة الرب سبحانه وتعالى. وهذه التربية منها ما يقوم به الوالدان، فالولد أمانة عندهما يربيانه على وفق ما يريدان، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وقال: (ما منكم أحد إلا وينتج كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل ترى فيها من جدعاء) أو (فهل ترى فيها من جدع) فمعناه: أنه يولد كامل الأعضاء على الفطرة، ثم بعد ذلك تعمل فيه الأيدي في التربية، كما أن البهائم تولد كاملة ثم إن أهلها يسمونها، إما بقطع الآذان، وإما بوضع ميسم أو غير ذلك. ثم بعد هذا تربية الإنسان لنفسه، وكذلك تربية مجتمعه له، فالشارع الذي يتربى فيه الإنسان، والمدرسة التي يدرس فيها، ووسائل الإعلام التي يسمع، ونحوها كل ذلك مؤثرات تؤثر في سلوكه وتزيد في عمله أو تنقص، وتؤثر في السلوك فيكون إيجابياً ويكون سلبياً.

أقسام التربية

أقسام التربية وعلى هذا فالتربية ثلاثة أقسام: تربية عقلية: وهي بزيادة العلم؛ لأن العقل مبناه على العلم، فكلما ازداد الإنسان علماً ازداد عقلاً، وهذا يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا. القسم الثاني: التربية البدنية، وهي بتقوية البدن وتعويده على المهارات والخبرات المختلفة، كمهارات العدو والجري، ومهارة السباحة، ومهارة ركوب الخيل، ومهارة سياقة السيارة، ومهارة القفز، ومهارة حمل الأثقال، ومهارة الكتابة، وغير ذلك من المهارات التي هي من التربية البدنية. ثم النوع الثالث من أنواع التربية: التربية الروحية، والمقصود بها تزكية النفوس، وتطهير الأخلاق بتهذيبها، والتخلي عن الصفات الذميمة، والتحلي بالصفات الحميدة، ولا يكون ذلك إلا وفق المنهج الذي شرع الله لعباده. فهذه الأقسام الثلاثة هي قابليات الإنسان التي يمكن تطويرها، فيمكن أن يطور الإنسان من الناحية العلمية: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. فكل يوم يمكن أن يزداد الإنسان علماً، ولهذا أرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طلب الازدياد من العلم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] وكذلك قوة البدن ومهاراته، فكل يوم بالإمكان أن يزداد الإنسان مهارة لم تكن لديه، فتشغيل أي جهاز من الأجهزة -كتشغيل المسجل أو تشغيل جهاز الكمبيوتر أو غير ذلك- كلها مهارات، بالإمكان أن يستفيدها الإنسان في أي يوم من أيام حياته. ومثل ذلك: المهارات النفسية، فمهارة العبادة والأدب مع الله سبحانه وتعالى، ومهارة الإخلاص في العمل الصالح، ومهارة الأنس بالله، والتوكل عليه وخوفه ورجائه، وكذلك مهارة التوبة والإنابة إلى الله، كلها مهارات روحية بالإمكان أن يكتسبها الإنسان، وما أحوج الإنسان إلى اكتسابها. إن هذه التربية عظيمة تغير الإنسان عن حاله، فبعد أن كان الإنسان جاهلاً أمياً، وبعد أن كان ضعيفاً، وبعد أن كان سيء الخلق، ينتقل بواسطة التربية إلى أعلى كمال ممكن، فبعد الجهل المطلق ينتقل الإنسان إلى مرتبة الاجتهاد أو مرتبة التوقيع عن رب العالمين، وبعد مرتبة الضعف -الذي لا يستطيع الإنسان به إلا مص الثدي- ينتقل الإنسان إلى مقاتل ماهر، وشجاع لا يرده أي خوف، ولا يثنيه أي إرهاق، وكذلك بعد نشأة الإنسان السيئة التي فيها تعويد النفس على ما تشتهي وعدم الحيلولة بينها وبين ذلك، وضعف الحيلة في الوصول إلى ما يشتهيه الإنسان، كالصبي إذا منع شيئاً ليس لديه حيلة إلا البكاء، فهذا الضعف الشديد بعده ينتقل إلى إنسان قوي الشخصية، لا يتضعضع أمام الوسائط، ولا يخضع للإرهاب والتهديد، فيكون متصلاً بالله سبحانه وتعالى، متقوياً بقوته التي لا حدود لها، وبذلك يتغير حاله بالكلية. بهذا نعلم أن هذه التربية ليست عملية مؤقتة بزمن محدد، كما يتوهمه بعض الناس، فقول العرب: العوان لا تعلم الخمرة، المقصود بذلك: أصل التعليم لا زيادة المهارة، فهي لا تعلم الخبرة؛ لأنها قد تعلمتها، لكن يمكن أن تزداد مهارة فيها، فما من شيء يتعلمه الإنسان إلا وهو قابل للتطوير والزيادة، ولهذا أدركنا كبار السن -وبعضهم من أهل العلم- كل يوم يحاولون زيادة مهارات أداء سنن الصلاة، فيركع الإنسان أمام الناس ليروه هيئة الركوع، ويسجد أمامهم ليقوموا له النقص الذي لديه بهيئة السجود، ويتوضأ أمامهم ليرى مهارات الوضوء، وهكذا. فما من مهارة يتعلمها الإنسان إلا وهي قابلة للتطوير والزيادة، حتى أن أنبياء الله الذين أوصلهم الله سبحانه وتعالى إلى درجات الكمال العليا الممكنة للبشر، ما من أحد إلا وهو يحرص على الازدياد من التربية، فهذا عيسى بن مريم عليه السلام مر مع الحواريين في زقاق ضيق، فاستقبله خنزير، فقال له عيسى: انفذ بسلام، فقيل: يا نبي الله! أتقول هذا لخنزير؟! قال: أردت أن أعود لساني قول الخير. وكذلك مر هو والحواريون على جيفة كلب قد أنتن، فقال الحواريون: ما أنتن رائحته، فقال عيسى: ما أحسن بياض أسنانه؟ فقيل له في ذلك، فقال: ذكرته بأحسن ما فيه؟ وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقوم الليل فيطيل القيام حتى تفطرت قدماه، فقالت له عائشة: (أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)، إنه يريد زيادة الشكر، ويحرص على ذلك، وهذا الحرص هو الذي يقتضي للإنسان السمو وعلو الهمة، بحيث لا يرضى بالمراتب الدنية، يريد السمو إلى أن يكون منتهاه الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، فلا يرضى بأي شيء أقل من ذلك ولا دونه، ولهذا يروى أن النابغة الجعدي رضي الله عنه حين أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته الرائية بلغ فيها قوله: بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، قال: إلى الجنة إن شاء الله. وكذلك العلماء الكبار الذين اشتهروا بكثرة ما حووه من العلم، لم يقصروا في الطلب يوماً من أيام حياتهم، فتسمعون عن محمد بن مالك الطائي الجياني الأندلسي الدمشقي إمام أهل العربية، الذي ألف الكتب الكثيرة في خدمة لسان العرب، فمنها: الخلاصة الألفية المشهورة السائرة، والكافية، وتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، والفوائد كذلك، وعدة الحافظ وعمدة اللافظ، والاعتضاد بين ظاهر الظاء والضاد، والواو والياء، والإعلام بتثليث الكلام، والتوضيح لحل مشكلات الجامع الصحيح، وشروح هذه الكتب كلها وغير هذا من الكتب الكثيرة، مع ذلك تعلم يوم موته ثمانية شواهد من ولده، وهو في اللحظات الأخيرة. وهذا الإمام مالك بن أنس على جلالة قدره في العلم وكبر سنه فقد عاش ثلاثاً وتسعين سنة، ومع ذلك ففي آخر عمره سئل عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقال: لا أحفظ فيه شيئاً، فلما انفضت الحلقة جلس إليه عبد الله بن وهب وهو أحد طلابه، فقال: حدثني الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل أصابعه في الوضوء)، فحفظ مالك هذا الحديث فلما عادت الحلقة إلى مكانها، قال: سألتموني بالأمس عن تخليل الأصابع في الوضوء، فقلت لكم: لا أحفظ فيه شيئاً، وقد حدثني عبد الله بن وهب هذا قال: حدثنا الليث بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل الأصابع في الوضوء). فكل يوم هم في شغف من الازدياد من العلم، لا يقصرون في ذلك، ويطلبونه على كل الأحيان، ولذلك بلغوا ما بلغوا من المنازل العلية، فكل من شعر بأنه استغنى عن التربية، ووصل إلى حد لا يحتاج فيه إلى الزيادة، فمعناه أنه بدأ في النقص، ولهذا حين أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سمع هذه الآية، فقالوا: وما يبكيك يا ابن الخطاب؟ قال: ما من شيء يتم إلا نقص، فالدين أتمه الله، فخشي عمر أن يكون ذلك بداية النقص، وأول نقص فيه موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك موت الخلفاء الراشدين، ثم لا يزال الدين ينقص، كلما نقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها، فأول ذلك الحكم وآخره الصلاة.

وسائل التربية

وسائل التربية إن الإنسان محتاج إلى العناية بتربية نفسه، ولذلك وسائل كثيرة: فمن أهم الوسائل قراءة سير السابقين الذين بلغوا المقامات العلية، وقراءة سيرهم ليست لمجرد الثقافة والتاريخ، وإنما هي لأخذ العبر، وليرسم الإنسان لنفسه طريقاً فيحاول تطبيقه، ولهذا فإن مؤلفات هذه الأمة في التاريخ كثيرة جداً، فلماذا ألفوا فيه؟ لماذا كتب لنا الذهبي رحمه الله أكثر من ثلاثين كتاباً في التاريخ والسير وتراجم الرجال؟ إنما فعلوا ذلك ليكون هذا حافزاً للناس على التخلق بأخلاق هؤلاء، والتربي بتربيتهم، وسلوك منهجهم، فإن الإنسان إذا قرأ سيرة أحد هؤلاء الأعلام من السلف الصالح -وكان ذا همة- حاول أن يسد مسده للأمة، وليتذكر الشباب الآن أن علماء الأمة وعظماءها وقادتها ليسوا مخلدين، فما منهم أحد إلا وهو على موعد مع ملك الموت، وإذا جاء ذلك الموعد لا يمكن أن يتأخر ولا أن يتقدم، والأمة محتاجة إليهم فمن سيخلفهم؟ ومن سيأخذ اللواء منهم؟ لا ترضى الأمة أن يسقط اللواء على الأرض، بل تريد من يقوم بحمل هذا اللواء ويتهيأ لذلك، وأنتم تعرفون قول حسان رضي الله عنه: لم تطق حمله العواتق منكم إنما يحمل اللواء النجوم فلا بد من هؤلاء النجوم الذين يتأهبون لحمل اللواء، ويستعدون لذلك، فيعدون العدة له قبل أن يصابوا بهذه المصيبة، كل إنسان عليه أن يفكر أنه ربما يكون في يوم من الأيام مسئولاً عن دين الله في بلد من البلدان، فالذين يعول عليهم الآن القيام لله بالحق والقسط هم على موعد مع ربهم، وسيلبون نداءه، وكذلك هم عرضة للفتنة وعرضة للقتل والسجن وغير ذلك، فلا بد ممن يخلفهم ويقوم مقامهم، فقبل أن يأتي ذلك اليوم الذي يتعين عليك أن تقوم مقام أولئك، فاجتهد بنفسك في أن تصل إلى المقام الذي وصلوا إليه، وأن تكون عتاداً جاهزاً يخلف أولئك السابقين، كحال أهل مؤتة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم قال: (أميركم زيد، فإن قتل فـ جعفر بن أبي طالب، فإن قتل فـ عبد الله بن رواحة، فإن قتل فليتفق المسلمون على رجل منهم)؛ ولذلك فإن ثابت بن أقرم رضي الله عنه، كان قريباً من عبد الله بن رواحة، فلما قتل أخذ اللواء وقال: يا معشر المسلمين! إني ما أخذته لأقودكم، وإنما أخذته لتقدموا رجلاً منكم، فقدموا خالد بن الوليد فأعطاه ثابت بن أقرم اللواء. ومصائب المسلمين باخترام قادتهم، وحملة اللواء فيهم، هي من جنس الابتلاء الذين يبتلون به في أديانهم، وهي مستمرة وسنة كونية لا انقطاع لها، فهم يحتاجون كذلك إلى وجود البدائل الجاهزة، التي يمكن أن تكون عند مستوى التحدي، وهذه البدائل لم تكن إلا أصحاب الهمم العالية الذين يفكرون في سد مسد هؤلاء، ويفكرون بتفكير جاد، ليأخذوا قسطهم الآن قبل أن يصل إليهم الدور، فهم ينتظرون في الطابور، ويعلمون أن الكراسي هي مثل كرسي الحلاق، يجلس عليه هذا فإذا حلق رأسه قام فجلس غيره. هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب فلهذا يتمثلون دائماً قول الشاعر: يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعه لما كان في نفسه مثلا وذو الجهل يأمن وأيامه وينسى مصارع من قد خلا فإن دهمته صروف الزما ن ببعض مصائبه أعولا فالعويل لا فائدة فيه، بل هو كما قال الأعرابي: نصرها بكاء وبرها سرقة، فلهذا علينا أن ننظر إلى حال الذين سدوا للأمة مسداً، وكيف كانت حوافزهم لذلك، عندما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان عبد الله بن عباس فتى في العاشرة من عمره أو الثالثة عشرة، قال: فذهبت إلى لدة لي من الأنصار كان يلعب معي، فقلت: يا أخي! إن الله قد أخذ رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الأمة تحتاج إلينا يوماً من الأيام، قال: فقال لي: دعنا نلعب فمتى يحتاج إلينا، فذهبت وتركته، فذهب ابن عباس في طلب العلم، فلم تمض سنوات قليلة حتى أصبح عضواً في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وكان عمر يجلسه بين كبار أهل بدر، ويسميه فتى الكهول، ولا يقضي أمراً حتى يستشيره فيه، ولذلك يقول فيه أحد الصحابة: بلغت لعشر مضت من سنيـ ك ما يبلغ السيد الأشيب فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا إذا قال لم يترك مقالاً لقائل بمنتظمات لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

نماذج ممن تربوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته

نماذج ممن تربوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إن أولئك الذين تربوا تلك التربية النافعة هم الذين تحملوا المسئوليات، وإن هذه التربية لا بد فيها من ضرائب، فهي تحتاج إلى تضحيات جسيمة، لقد حدثنا عتبة بن غزوان رضي الله عنه عن أولئك النفر الأوائل الذين صدقوا الله ورسوله، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فامتحنوا على طريق الهداية، وأوذوا في الله، وحوصروا ثلاث سنين، لا يبايعهم أحد ولا يهدي إليهم ولا يعطيهم أحد، ويمنعون من دخول الأسواق، ومن ورود المياه العذبة، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، وقد عقدت قريش حلفها على ذلك، وكتبوه في الصحيفة التي علقوها في الكعبة، فيقول: فكنا في الشعب -في شعب أبي طالب - يربط أحدنا على بطنه حجراً من الجوع، فخرجت ذات ليلة فوجدت ثوباً قد علاه العفاء، أي: سفته السوافي، فأخذته فغسلته فقسمته نصفين، فتأزرت بنصفه، وأعطيت نصفه سعد بن مالك وهو سعد بن أبي وقاص فأتزر به، ثم إن سعد بن مالك خرج ذات ليلة لقضاء حاجته، فوقع بوله على شيء فلمسه، فإذا هو جلد فأخذه فغسله وشواه فأكلناه! ولقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار، بعد أن حصل ما حصل من الأذى! ويقول سعد بن أبي وقاص كما في صحيح البخاري: (والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام خبت إذاً وضل سعيي). إن أولئك النفر قد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية عجيبة، مكثت هذه التربية في مدرستها الأولى ثلاث عشرة سنة، فهذه مدة المدرسة الابتدائية وهي العهد المكي، لكن هذه السنين الثلاث عشرة آتت أكلها، فكل سنة منها جاءت بقرن كامل من الزمن من عمر الأمة، فاستمر عمر دولة الإسلام ثلاثة عشر قرناً على آثار تلك التربية في ثلاث عشرة سنة. وكذلك فإنهم تربوا تربية مكنتهم من البطولات، فهؤلاء الذين كانوا في هذا الأذى الشديد هم الذين استطاعوا فيما بعد تحمل المشاق، وهم الذين صبروا في المواقف العظيمة، فهذا أبو بكر الصديق الذي نال منه المشركون ما نالوا، وكانوا يقرعونه في كل أمر يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فيقولون: هل تصدقه في كذا؟ فيقول: نعم، فأكثروا عليه من ذلك، فلما كانت ليلة الإسراء والمعراج لم يكن أبو بكر حاضراً، فأتوه فقالوا: إن صاحبك زعم أنه جيء بدابة فذهب بها إلى الشام ليلته هذه، فدخل بيت المقدس، ثم صعد به إلى السماء فاخترق السماوات السبع! أفتصدقه فيما قال؟ قال: إن كان قالها فقد صدق، هذه هي القوة اليقينية التي استطاع بها أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة. لينظر كل واحد منكم إلى نفسه لو كان صاحباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومعه، وكان الوحي أشد ما يكون تتابعاً، والغزو أشد ما يكون كثرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الوضع، ماذا سيحصل له؟ إنها أعظم مصيبة يمكن أن تفكروا فيها، لكن أبا بكر صمد عند هذه المصيبة، فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، إنها التربية العقدية الصحيحة التي تقتضي من الإنسان التمسك بالمبادئ وعدم التنازل عنها في أحلك الظروف. يقرأ أبو بكر على الناس قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144 - 145] فيثبت الله به هذه الأمة، وقد وصف أنس بن مالك رضي الله عنه حال الصحابة إذ ذاك بقوله: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عندما ماتوا كانوا كالمعز المطيرة، فلم يستطع أحد منهم الوقوف ولا الكلام إلا أبا بكر. إن هذا الأثر أثر واضح من تربية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ليكون خليفة عنه، وليسد مسده للأمة. وكذلك حال عمر بن الخطاب عند موت أبي بكر، يقول ابن عباس كما في الصحيح: عندما مات عمر فحمل على الرقاب جاء رجل من خلفي فوضع يده على منكبي، ثم نظر إليه فقال: رحمك الله، لكثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، فالتفت فإذا هو علي، علي بن أبي طالب يشهد لـ عمر بهذه التربية، وهي الاصطحاب الدائم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيئه به للقيام بهذا الأمر، فكان يهيئ أبا بكر وعمر للخلافة فيصطحبهما في كل الأمر، فيقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وبهذا كان أهلاً لهذه الخلافة، وشهد بذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه. كذلك فإن أثر هذا بارز حتى في شهادات النبي صلى الله عليه وسلم، حدث أصحابه ذات يوم فقال: (إن بقرة تكلمت، كان صاحبها يسوقها فركبها، فالتفتت إليه فقالت: ما خلقت لهذا، فقالوا: سبحان الله بقرة تكلم! فقال: لكني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)، فشهد النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر بأنهما يؤمنان بهذا الذي أخبر هو به، ولم يسمع منهما ذلك، فهذا يدلنا على أهمية هذه التربية وأثرها البالغ. إن هذه التربية كذلك هي التي تجعل الرجال ينتقلون من طور إلى طور، فـ عمر بن الخطاب الذي كان يصنع صنماً من التمر فيسجد له ويعبده، ثم إذا جاع أكله فصنع صنماً آخر، أصبح يقول للحجر الأسود: والله إني لأعلم إنك لحجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. وكذلك فإن الذين كانوا في الجاهلية الجهلاء انتقلوا إلى هذه المقامات العلية العجيبة، ففي المقام العلمي مثلاً، كانت هذه الأمة أمة لا تحسب ولا تكتب، وكان العرب أشد الشعوب تخلفاً، وبالأخص في مجال الحساب والعلوم العقلية، مع ذلك فما هي إلا سنوات من التربية حتى يخرج علينا علي بن أبي طالب فيقف على المنبر خطيباً فيقول: الحمد الله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فيقول له قائل: هالك عن زوجة وأبوين وابنتين، فيقول: صار ثمنها تسعاً، ويستمر في خطبته. فسميت هذه المسألة بالمنبرية لدى أهل علم الفرائض، فإن أصل المسألة من أربعٍ وعشرين، وعالة إلى سبع وعشرين، والأصول العائلة ثلاثة فقط، والأصل الثالث من أصول العول هو أصل أربعة وعشرين ولا يعول إلا مرة واحدة وهي عوله إلى سبعة وعشرين كما بين علي في هذه المسألة، لكن السرعة الهائلة في الحساب جعلته لا يفكر ولا يقطع خطبته، ويستمر على نفس القافية التي كان مستمراً عليها في خطبته، فيقول: صار ثمنها تسعاً. وتجعله كذلك يفكر تفكيراً قليلاً، في أقل أمد الحمل، فيقول: هو ستة أشهر، ويأخذ ذلك من قول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، مع قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] فانتزع عامين من ثلاثين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر، فعامين للفصال وستة أشهر للحمل؛ لأن الله جعل الحمل والفصال ثلاثين شهراً ثم جعل الفصال وحده عامين، أربعة وعشرين شهراً فلم يبق إلا ستة أشهر فهي أقل أمد الحمل. وكذلك تجعل آخرين ينتقلون من أحضان الأمهات وتربية النساء المدللة، إلى السفارة الإسلامية الشاملة، وقيادة الأمم بكاملها، فهذا مصعب بن عمير كان أحب الأولاد إلى أمه، وكانت تغدق عليه من أموالها، فلما أسلم آذته وحبسته بين أربعة جدران، وكلفت به أشداء من الرجال يضربونه صباحاً ومساءً؛ لعله يرجع عن دينه فامتنع عن ذلك، ومع هذا يخرج من كل ما كان فيه من النعيم، مهاجراً في سبيل الله سفيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيقيم أول لبنة من لبنات الدولة الإسلامية، يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة عندما بايعه الأنصار وسألوه أن يرسل معهم إماماً لهم، اختار هذا الشاب الحدث، فأخرجه إماماً للمدينة الجديدة التي هي عاصمة الإسلام، فيخرج وليس معه من الدنيا إلا سيفه وبردته، ويعطيه النبي صلى الله عليه وسلم اللواء يوم بدر، ويعطيه اللواء يوم أحد، ولما قتل يوم أحد لم يكن عنده من المال إلا بردته تلك وسيفه، فكانوا إذا غطوا رجليه بدا رأسه، وإذا غطوا رأسه بدت رجلاه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه، وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، فخرج ولم يتعجل شيئاً من هذه الدنيا. وكذلك الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتب إلى الملوك، فكانوا في المجال الدبلوماسي خير السفراء، كـ عبد الله بن حذافة بن قيس الذي أرسله إلى كسرى، وكـ دحية بن خليفة الكلبي الذي أرسله إلى هرقل، وكـ عمرو بن العاص الذي أرسله إلى المنذر بن ساوى، وغير هؤلاء من الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق فكانوا خير السفراء لهذه الأمة الإسلامية.

نماذج ممن تربى على يد الصحابة والتابعين

نماذج ممن تربى على يد الصحابة والتابعين ومثل ذلك القادة الذين برزوا فقادوا هذه الأمة في أحلك الظروف، في حروبها ومشكلاتها، إنما كانت قياداتهم من آثار تربيتهم، فهذا الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوزن بألف رجل، عندما أرسل عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يستنجده بثلاثة آلاف مقاتل، فأرسل إليه عمر ثلاثة رجال فقط، هم: الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت، فكتب إليه: لقد أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت العدو فاجعلهم صفاً بين العدو وبين المسلمين، فكان عمرو بن العاص يجعل هؤلاء في الواجهة أمام المسلمين، فلا يرجعون على أدبارهم حتى يهزم العدو. يحدثنا الزبير عن تربية أمه له، فيقول: كانت صفية بنت عبد المطلب تضربني في صباي ضرباً شديداً، فكان عمي ينكر ذلك عليها، ويزعم أنها تبغضني، فكانت تقول: من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش ويأتي بالسلب جاءها رجل ذات يوم فقال لها: أين الزبير؟ فقالت: ما حاجتك إليه، قال: أريد أن أقتله، فقالت: هو في النخل، فاذهب إليه! فذهب الرجل إلى الزبير فاعتركا، فأخذه الزبير فكتفه بحبل وجعله على كتفه وجاء به يحمله، فرماه بين يدي أمه صفية، فضربت رأسه بمغزل، وقالت له: كيف وجدت زبراً، أعسلاً وتمراً، أم أسداً هزبراً؟! وكذلك فإن تربية النبي صلى الله عليه وسلم له، وتهيئته للقيام بمعارك الإسلام الفاصلة كان لها الأثر البارز في شجاعة الرجل وإقدامه، فقد قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من المعارك أمام العدو، ولذلك يقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل فما مثله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر ما دام يبذل ومثل هذا تربية أسماء بنت أبي بكر لولدها عبد الله بن الزبير، الذي جاءت به حين ولد إلى بيت أختها عائشة، فوضعته في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، ثم تربى تربية أبي بكر والزبير بن العوام، حتى إنه كان في خطابته يشبه بـ أبي بكر، وفي فروسيته يشبه بـ الزبير! عندما خرج مع عبد الله بن أبي سرح في الجيش الذي وجهه عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع إلى أفريقيا، خرجوا في ثلاثة آلاف فدخلوا أرض برقة وهي أرض ليبيا، فاستقبلهم جيش البربر في مائة وعشرين ألف مقاتل، وعليهم ملك أفريقيا وهو جرجير، وكان بين قينتين تغنيان وهو يركب بينهما في مركب، فلما رأى ابن أبي سرح الجيش وكثرته دخل قبة له، فقال: لا يدخل عليَّ أحد حتى أفكر في خدعة، فاقتحم عليه ابن الزبير فرعب منه، فقال: إنه ظهرت لي خدعة، فقال: وما هي؟ قال: أن تعطيني مائة مقاتل يحمون ظهري، فأخرج كأني رسول إلى الملك فأطير رأسه، وحينئذ سينهزمون، فأذن له ابن أبي سرح بذلك، فخرج، فاختار مائة فارس وخرج يشق صفوف العدو، وهم لا يظنون إلا أنه يحمل رسالة إلى الملك، حتى وصل إليه فأطار رأسه من بين القينتين، ودارت المعركة، وانقض المسلمون عليهم، وقتلوهم قتلاً. ثم إن ابن أبي سرح وجه عبد الله بن الزبير بالبشارة إلى عثمان بن عفان، فأتاه بداره فأخبره بتفاصيل المعركة، وقد كان عثمان في العادة إذا أتاه بشير عن معركة من المعارك، وقفه على المنبر فشرح للناس تفاصيل ما حصل، كما كان يفعل عمر من قبله، لكنه في هذه المرة آثر أن يتقدم ابن الزبير فيقف على المنبر، فيقص على الناس تفاصيل المعركة، وما ذلك إلا لشدة تأثر عثمان بما سمع من قص ابن الزبير وما دار في المعركة، فهو قص إنسان مباشر، دخل المعركة وأفاد فيها، وأبلى البلاء الحسن. فلما وقف ابن الزبير على المنبر وحمد الله وأثنى عليه، وسمع ذلك المسلمون بكوا بكاءً شديداً، حين تذكروا خطبة أبي بكر، فقالوا: ما هو إلا أبو بكر. وكذلك الذين كانوا بعد هؤلاء من التابعين تربوا على تربيتهم، فلذلك كانت لهم الآثار البارزة في نصرة الله ورسوله، وتحمل أعباء هذه الأمة، فهذا قتيبة بن مسلم الباهلي، وكان شاباً من شباب المسلمين خرج بالجيوش إلى خراسان، فافتتح في غزوة واحدة اثنتين وسبعين مدينة، وكان من أشهر المسلمين في الفتوحات، حتى إنه لم تهزم له راية قط في معاركه كلها، وكان شاباً حديث السن، لكنه كان ذكياً مؤمناً محباً للجهاد في سبيل الله، حاصر حصناً من الحصون فترة فلم يفتح عليه، فقال للمسلمين: لعلكم قصرتم في سنة من سنن الدين؛ حبس الله عنكم الفتح لأجلها، فنظروا فإذا هم قد تأخروا عن السواك، فقد كانوا في أرض ليس بها من الشجر ما يستاكون به، فأمر بعض القوم فأتاهم بالمساويك، فلما صفوا في أوجه العدو جعلوا يستاكون، فظن العدو أنهم يشحذون أسنانهم ليأكلوهم ففتحوا لهم الحصن.

نماذج لأهل التربية والهمم العالية

نماذج لأهل التربية والهمم العالية وكذلك الذين برزوا في العلم وحمل هذه الرسالة والأمانة العظيمة، إنما كان ذلك أثراً من آثار تربيتهم، فهذا سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى يقول: دعتني أمي، وكانت ذات همة وحرص على العلم، فقالت: يا بني! إن لدي همة لجمع العلم، وإني امرأة لا أستطيع أن أغشى مجالس الرجال، ولكني سأكفيك أمر الدنيا بمغزلي، وتكفيني أنت أمر العلم، فكانت تلك المرأة ذات مغزل فتبيع ما غزلته من الصوف، وتنفق به على ولدها، وتغدق عليه الأموال التي يتزود به لأسفاره، ويجمع بها الكتب، ويستطيع بها التفرغ لطلب العلم، فاشتركا في الأجر: فالمرأة تغزل الصوف وتبيعه، والرجل تفرغ لطلب العلم حتى أصبح إماماً من أئمة المسلمين. وكذلك مالك بن أنس رحمه الله يقول: دعتني أمي، وكنت أشتغل بضرب العود، أي بتعلم الغناء في ذلك الوقت وهو صغير، فقالت: يا بني! إنها حرفة لا تصلح لك، فعممتني بعمامة، وكستني ثوباً أبيض، وأعطتني صرة من الدراهم، وقالت: اذهب إلى المسجد فلا ترجع إليَّ حتى تكون رأس الحلقة، وكذلك ربيعة بن فروخ وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك، الذي اشتهر بـ ربيعة الرأي، ما رباه إلا أمه، فإن أباه خرج في الغزوة فمكث أربعاً وعشرين سنة في غزوة من الغزوات، وقد ترك ولده حملاً، فلما رجع وقفل من غزوته جاء إلى بيته فاستقبله رجل، فدخلا في عراك حتى عرف أنه ولده الذي تركه حملاً، وإذا هو عالم المدينة إذ ذاك دون مدافع، فسأل امرأته عن المال الذي تركه عندها، قالت: أنفقته على ولدك حتى أصبح عالم المدينة. وكذلك غير هؤلاء من الذين برزوا في هذا المجال، كان للتربية الأثر البالغ فيهم، سواء كانت تلك التربية من تربية الأمهات أو من عناية الآباء أو من تربية المربين الآخرين، فهذا أبو يوسف القاضي كان ذكياً جداً، وكان أبوه يحرص على تعليمه بعض المهن الدنيوية، يريد أن ينال من ورائه كسبا ًمادياً، فكان يمر على حلقة أبي حنيفة فيسمعه يناظر في الفقه فتعجبه المناظرة، فيجلس إليه، فرآه أبو حنيفة فأعجب به، فامتحنه، فأعجب بذكائه، فقال: اجلس إليّ حتى تحمل عني بعض هذا العلم الذي لديَّ فقال: إن أبي يمنعني ذلك، فقال: وما حاجة أبيك إليك، قال: يريد مالاً، فقال أبو حنيفة: أنا أكفيك ذلك، فكان أبو حنيفة يعطيه مالاً يقدمه لأبيه كل شهر، ويجلسه هو في مجلسه يتعلم، حتى أصبح الناس يقولون: أبو يوسف وأبو حنيفة، فهو صورة طبق الأصل من أبي حنيفة. وكذلك فإن أبا جمرة رحمه الله وهو من كبار التابعين، قال: جلست إلى ابن عباس فكنت أترجم بينه وبين الناس فقال: اجلس عندي شهراً؛ حتى أعطيك قسطاً من مالي، فتقاسم ابن عباس ماله مع أبي جمرة حين أعجب بعلمه، يريد منه أن يتفرغ للحديث وحمل العلم، وكذلك يذكر عن مالك أنه قاسم الشافعي ماله تشجيعاً له على طلب العلم، وكذلك كان محمد بن شهاب الزهري إذا رأى من يعجبه ذكاءه من الطلبة أنفق عليه الآلاف من الدنانير؛ لكي لا تشغله الدنيا والتفكر فيها عن طلب العلم، فكان يفرغ طلاب العلم، فيحتمل الديون في ذلك. ومثل هذا ما كان عليه عبد الله بن المبارك العالم المجاهد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان من أشد هذه الأمة قياماً بالحق، فكان إذا رأى من يعجبه ذكاءه أنفق عليه؛ ليقوم لهذه الأمة مقاماً تحتاج إليه، وكان إذا خرج بالحج يأخذ أزواد طلاب العلم فيقول: كل من معه شيء من المال فليأت به، فيأتون بأموالهم، فيتركها عبد الله في مروة، وينفق عليهم من ماله الخالص طيلة الحج، حتى إذا رجع إلى مروة سلم إلى كل واحد منهم ماله الذي أخذ منه، وهم يظنون أنهم يأكلون من أموالهم وأزوادهم، وهم إنما يأكلون من مال عبد الله وزاده؛ ولذلك يقول فيه أحد الشعراء: إذا غاب عبد الله عن مرو ليلة فقد غاب عنها نورها وجمالها وقد كتب رحمه الله إلى الفضيل بن عياض -وكان عبد الله إذ ذاك في الغزو إلى أرض فارس، فلقي ركباً يذهبون إلى الحجاز- رسالة يقول فيها: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب فلما بلغت هذه الأبيات الفضيل بن عياض بكى بكاءً شديداً حين علم أن الجهاد أفضل مما هو فيه، وأن ابن المبارك والزمرة الذين معه من طلاب العلم هم في نحور العدو وفي الجهاد في سبيل الله في الثغور، فقال للرسول الذي أتاه يحمل هذه الرسالة: لأحدثنك بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالحديث الذي فيه: (لا يجتمع غباران في أنف امرئ مسلم: غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم). وهكذا الذين أتوا بعد هؤلاء قد اعتنوا عناية بالغة بتربية أولادهم وطلابهم؛ ليكونوا أهلاً لتحمل المسئولية، يحدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله أنه كف بصره وهو صغير في الرابعة من عمره، فقالت له أمه: إن من كان أعمى لا يزينه عند الناس إلا العلم، فاشتغل بحفظ السنة، فإن ذلك يعوض لك ما فقدت من البصر، قال: فاشتغلت بحفظ السنة، واعتكفت ذات ليلة في المسجد وأنا أطلب السنة، فسألت الله أن يرد عليّ بصري، فرده علي، ومع ذلك استمر على الاشتغال بحفظ السنة، وكانت أمه تنفق عليه وتفرغه لطلب الحديث، فإذا أراد الرحلة إلى أي مدينة من أنحاء العالم زودته أمه بأحسن زاد، واختارت له أحسن مركب، وما ذلك إلا من عمل يدها، ولهذا لم تبق حاضرة من حواضر العلم في الأرض إلا دخلها البخاري، وروى ما فيها، حتى بلغت مروياته سبعمائة ألف حديث. وكذلك حال أبي محمد الجويني رحمه الله، فإنه أراد أن يولد له ولد يربيه على منهج النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من علماء هذه الأمة، فاكتسب من الحلال حتى أحرز أربعمائة درهم، فأرسل بها إلى رسول أمين إلى أرض الثغر فاشترى له جارية من أرض الثغر، لم تتداولها الأملاك بعد، فأتاه بها، فحرص على تغذيتها من الحلال، ورباها وعلمها ثم أعتقها وتزوجها، وحرص على منعها من مخالطة الناس، وكان يوقظها لقيام الليل معه ويلزمها بصيام النفل معه، ويعودها على الطاعات والعبادات، حتى أتت بولدها وهو أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد الجويني، فلما ولد منعها من مخالطة الناس، وكان يسعى في الكسب من الحلال للنفقة على زوجه وولده، وكان يأمرها بإرضاعه إذا أكلت من حلال، وبينما هو يصلي ذات يوم، إذ دخلت البيت امرأة فخفف من صلاته وأقبل مسرعاً، فإذا المرأة ترضع ولده، فغضب غضباً شديداً، فيقول عبد الملك: فأخذ برجلي وحملني وعصرني حتى أخرج من بطني كل شيء كان فيه، قال: فكانت بعد ذلك تأخذني كبوة عند المناظرة ما أراها إلا من تلك المصة! وكذلك يحدثنا الشيخ أحمد زروق رحمه الله في تربية جدته له، يقول: إنه توفيت أمه عند مولده قبل أن يسمى، وتوفي أبوه بعد ذلك بشهر فربته جدته من الأم، فاعتنت بتربيته عناية عظيمة، وقد قص هذه العناية فذكر من أعاجيبها أنها كانت إذا جاعوا تركته حتى ينام، ثم تخرج فتكتسب فتشتري غذاء من التمر والخبز، فتجعله تحت طرف الفراش، فإذا استيقظ جائعاً تقول له: ما لنا إلا أن نسأل ربنا، فتعال بنا نسأل ربنا أن يرزقنا، فيمد يديه ويضرع إلى الله ويبكي وتبكي معه، ثم تقول: إن ربنا قد أعطانا هذا فتكشف الفراش عما تحته من التمر والخبز، وكذلك إذا احتاج إلى اللباس تتركه، حتى إذا انصرف في طلب العلم أو نحو ذلك، فتكتسب هي حتى تشتري له ملابس، ثم تضعه تحت طرف الفراش وتسترها في البيت، ثم تأمر الصبي بالضراعة إلى الله لعل الله يرزقه لباساً، وتعوده على هذا، حتى يقول هو عن نفسه: ما تعلمت اللجأ إلى الله إلا من جدتي تلك، فكان يلجأ إلى الله في شأنه كله. واللجأ إلى الله مهارة تربوية عظيمة، فإن كثيراً من الناس إذا نابتهم نائبة لجئوا إلى الناس، ولم يلجئوا إلى الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي يستحق أن يلجأ إليه، ويسأل وتلتمس منه الحوائج هو وحده الغني الحميد، يقول المكودي رحمه الله: إذا عرضت لي في زمان حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد الذي يقول حارسه: سيدي اليوم راقد هذا لا تلتمس منه الحوائج، فلذلك يقول: إنه إذا التجأ إلى الله بأي شيء يسره له، وكذلك يقول السهيلي رحمه الله: بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعا أتضرع يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأي باب أقرع ومن الذي أدعوه وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لمجدك أن تقنط داعياً الفضل أجزل والمواهب أوسع يقول أحد علماء الشام: كنت معتكفاً في بيت المقدس في رمضان، والمسجد يموج بالمعتكفين، فنام الناس غفوة من وسط الليل، فقام إبراهيم بن أدهم يتضرع إلى الله فيقول: إلهي عبدك العاصي أتاك مقر بالذنوب وقد دعاك فإن تغفر فأنت لذاك أهل وإن تأخذ فمن نرجو سواك فلم يبق أحد في المسجد إلا ردد معه هذه الأبيات من شدة تأثيرها وتعلقها بالله سبحانه وتعالى وحده، وأثر ذلك بالغ فهذا أحد المشايخ رحمه الله أخذه النصارى الفرنسيون فجعلوه في زورق حربي كان يسمى (بني)، فنقلوه يريدون تغريبه، وإخراجه من بلاده؛ بسب

قراءة سير الأفذاذ تشحذ الهمم وتقوي العزائم

قراءة سير الأفذاذ تشحذ الهمم وتقوي العزائم إن قراءة سير هؤلاء السلف واتصالهم بالله سبحانه وتعالى وما بذلوه في سبيل دينه من الأمور المثبتة على دين الله، التي يحتاج إليها الإنسان في كثير من مواقفه، فعندما تشتد الأزمات ويتكالب الأعداء على دين الله، يلجأ المسلمون إلى قراءة سير سلفهم الصالح، فيجدون فيها متنفساً، ويجدون فيها تقوية لعزائمهم، وتثبيتاً لهم على منهج الله، وإقناعاً لهم بثوابتهم التي لا تتغير ولا تتبدل، وعندما يضيق حال إنسان في هذه الدنيا فيأسى لذلك، يرجع لقراءة سير السلف الصالح فيجد فيها تسلية عما أصابه، ويجد فيها عزاءً، وثقة بالله سبحانه وتعالى وتوكلاً عليه، يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: سير الصالحين جند من جنود الله يثبت الله به قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]. أخرج البخاري في الصحيح من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، قال: (فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فقال: إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه، فيفرق به فرقتين، لا يصده ذلك عن دينه، ويؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، إن هذه القصة التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم عن أحوال السابقين مثبتة للمؤمنين الذين يكون بلاؤهم دون ذلك، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما آذاه رجل فوقف عليه فقال: يا رسول الله! اعدل؛ فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، ابتسم ونظر إليه وقال: (رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر). إن تذكر أحوال أولئك والنكبات التي أصابتهم معين للإنسان على التزام طريق الحق والثبات عليه، والإنسان محتاج إلى مراجعة نفسه وزيادة تربيته من خلال سير هؤلاء الصالحين، ومما يحتاج الناس إلى مراجعته اختيارات العلماء في هذا الباب، فمثلاً يحتاج طلاب العلم إلى مراجعة كتاب الذهبي، تذكرة الحفاظ، فقد اختار فيه تراجم عدد من الحفاظ الذين بذلوا أسباباً أنجحها الله سبحانه وتعالى، فحفظوا العلم للناس، وكذلك بقراءتنا لكتابه الآخر (سير أعلام النبلاء) يتبين لنا مواقف كثير من المضحين الباذلين في سبيل الله. إن كل نوع من الناس عليه أن يقرأ في تراجم الذين يريد أن يجعلهم مثلاً حسناً له، فطلاب العلم عليهم أن يقرءوا سير حفاظ العلم ورواة الحديث، والتجار والأغنياء عليهم أن يقرءوا سير الباذلين في سبيل الله، كسيرة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعد بن عبادة بن دليم وغيرهم من المضحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الباذلين. وكذلك النساء عليهن أن يدرسن سير نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته اللواتي بايعنه من أهل الإيمان من المهاجرين والأنصار، وكذلك سير من لحقن على هذا الدرب وسلكن هذا الطريق على مر العصور، إن كل شريحة من المجتمع تركن إلى نظيرتها، ويمكن أن تتأثر بها أبلغ تأثر، فإذا قرأ الملوك تراجم الملوك الصالحين، وقرأ طلاب العلم تراجم العلماء، وقرأ التجار تراجم المضحين؛ فإنهم سيحاولون اللحاق بهم، وسلوك طريقهم، ويكون ذلك وقوداً لهم وعوناً لهم على الاستمرار على هذا المنهج وسلوك هذا الطريق، وما لم يفعلوا فإن التربية ستبقى أموراً نظرية يتهمها كثير من الناس بعدم الواقعية؛ ولذلك فإن بيان الإمكان محتاج إليه، كما يقول أهل البلاغة في قول امرئ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من علٍ فإن قوله: (مكر مفر مقبل مدبر معاً) لا يمكن تصوره إلا بالمشاهدة، فلما مثله بقوله: (كجلمود صخر حطه السيل من عل) عرف الناس إمكان ذلك. فلهذا نحتاج إلى بيان الإمكان، وما ذلك على الله بعزيز، وبدراستنا لسير هؤلاء يتبين لنا إمكان تطبيق منهج الله الذي ارتضاه لعباده، وإمكان أن يكون الناس على وفق ما ارتضاه لهم بارئهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وإمكان أن يتدارك الإنسان ما فاته، فهذا العز بن عبد السلام ما طلب العلم إلا بعد أن أكمل ستين سنة، ومع ذلك أصبح مفتي العالم كله، وأصبح سلطان العلماء، بل حين حكم بتكفير أحد وزراء مصر، كان الناس جميعاً لا يلتفتون إليه ولا يتقبلون منه كلمة، بل أرسله الملك برسالة إلى ملك نائي المكان، فلما أتاه بالرسالة قال: من أنت؟ فقال: وزير من وزرائه، قال: لا تكن أنت الذي كفرك العز بن عبد السلام، فبهت الرجل فقال: أخرجوه عني فهو الذي كفره العز بن عبد السلام. وحين غاضب ملك مصر خرج من مصر على أتان وحمار له، يحمل على أحدهما زوجه وعلى الآخر كتبه، فلما رآه الناس خارجاً من مصر خرجوا جميعاً في أثره، فجاء الجند إلى الملك، وقالوا: إذا كنت تريد أن تكون ملكاً على مصر فقد خرج أهلها جميعاً مع العز بن عبد السلام، فإنك لن تكون ملكاً إلا على الخلاء الذي ليس فيه أحد، فذهب الملك إليه يسترضيه ويسترجعه حتى رجع. وهذا النووي رحمه الله الذي خرج من نوى شاباً حدث السن، وذهب إلى دمشق، واشتغل بطلب الحديث، عزم على أن لا ينام مضطجعاً حتى يعود إلى أهله، فمكث في دمشق سبع عشرة سنة ما نام مضطجعاً، لا ينام إلا مستنداً على سارية من سواري المسجد ويضع عينيه على يديه فوق ركبته؛ لكي لا يستغرق في النوم عن طلب العلم، ولهذا كان أسلافنا يقولون: الحر فيما مشى. وكذلك لم يأكل خياراً مدة مقامه بدمشق، قال: إن أكله يؤدي إلى الركون إلى الدنيا، فلم يأكل خياراً مدة مقامه في دمشق، والخيار نوع من البقول معروف.

صور فريدة وشخصيات فذة في العصور المتأخرة

صور فريدة وشخصيات فذة في العصور المتأخرة هناك عدد من الذين سعوا في التمكين لدين الله سبحانه وتعالى، حتى من المتأخرين وفي العصور المتأخرة، وكانت لديهم هذه الهمم التي تمنعهم من النوم والراحة، وتقتضي منهم التضحية والبذل، فهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان قد خرج وهو شاب في طلب العلم إلى مكة، وكان معه أبوه الذي كان قاضياً يأكل الرشوة، فكان ولده ينكر عليه ذلك، فلما خرج إلى مكة حاجاً مع أبيه تخلف عنه في طلب العلم، ثم انتقل من مكة إلى المدينة، ثم من المدينة إلى البصرة، حتى جمع كثيراً من علم زمانه، ثم خرج إلى بلاده فسعى في تغيير المنكر، فلم يجتمع حوله إلا فتية صغار ليس لهم أي مكانة في المجتمع، لكنه أراد أن يكاثر بهم أهل الباطل، فوقف في وجهه في البداية سلاطين بلده، فأخرجوه من العيينة في وقت الظهيرة وشدة الحر حافياً راجلاً، يحمل شرابه على كتفه ليس معه أحد، فأتى الدرعية فنزل في المسجد وقت صلاة الظهر، فلما رآه أهلها رأوا شخصاً غريباً عنهم، فتقدم ودعا إلى الله سبحانه وتعالى، وأرشد إلى طريق الحق، فأول من اجتمع إليه والي الدرعية، فاستجاب لدعوته، فقال: ابدأ بنفسك فغير ما أنت فيه من الحرام، واترك الضريبة والإتاوة التي تأخذها على الناس، ثم بعد ذلك يمكن الله لك في الأرض، ويستعملك لنصرة دينه، فإن الله لا ينتصر بالفجار، فاستجاب له الرجل، حتى بنى دولة عظيمة خرجت منها قوافل الجهاد والدعوة في كل مكان. ومثل ذلك ما حدثني به أحد الذين كانوا يترددون على حسن البنا، فإنه عندما خرج شاباً من دار أهله في القاهرة كان فقيراً لا يملك شيئاً، فلما أتى القاهرة شغل بالتردد بين حلق العلم في الأزهر وغيره، وكان يصحب الشيوخ إذا انتهت دروسهم إلى منازلهم، يسألهم ويستعير كتبهم، فيقرؤها ويردها، ويتفحص أحوال الأمة، واستطاع أن يحصل على ملكة يعرف بها حال الشيوخ، فيعرف من يستفاد منه في علم معين ولا يستفاد منه في غيره، ومن لديه أخطاء في العلم الفلاني ومن لديه أخطاء في الجانب الفلاني، وهكذا ثم احتاج إلى ما ينفق به على نفسه، وكان صاحب تعفف وزهد. قال: فذهبت إلى صاحب بقالة، فسألته أن أعمل عنده ساعتين من النهار في وقت الظهيرة، في الوقت الذي ليس فيه دراسة رسمية ولا حلقات في المساء، فالدراسة صباحية والحلقات العلمية في المساء، فأعطاه ذلك دراهم قليلة مقابل عمل ساعتين يومياً من كل يوم، فكان يعمل في البقالة في وقت الظهيرة، ويأخذ تلك الدراهم وينفق بها على نفسه وعلى من معه من طلاب العلم، حتى أحرز ما أحرزه، فذهب إلى الإسماعيلية فأقام دعوته في البداية بخمسة أشخاص فقط، ومع ذلك عندما رجع إلى القاهرة، وانتشرت دعوته بين الناس، حدثني أحد الذين كانوا معه قال: ما كان ينام إلا لماماً، يقول: كنت آتيه في آخر الليل فإذا هو مضطجع على فراشه بعد أن أكمل قيام الليل يلصق طوابع البريد على ظروف جريدته التي كان يوزعها، وقد كان آنذاك يدير جريدتين فيكتب عناوين المشتركين، ويلصق الطوابع البريدية على الظروف في وقت نومه، فسألته فقلت: رحمك الله! أليس هذا الوقت وقت نوم؟ فقال: إني لأستحي من نفسي أن يأتيني شباب صغار لا يقال عن أحد منهم مرشد، فإذا هم من الصباح إلى مثل هذا الوقت وهم يعملون في خدمة دين الله، فأنا أستحي أن ترفع إليّ الأعناق ويشار إليّ بالبنان وأنا لا أفعل مثلما يفعلون. وكذلك عز الدين القسام رحمه الله الذي كان في فلسطين وقت مجيء اليهود بعمليتهم الماكرة، عندما أتوا بالتدريج، فكانت إرسالياتهم في البداية مجرد رهبان يتعبدون في بيت المقدس وفي الكنائس المحيطة به، ثم بعد ذلك أصبحوا يشترون البيوت الخربة ويسكنونها، ثم أصبحوا بعد ذلك يأتون باليتامى فيربونهم في تلك الأرض، ثم بعد ذلك أصبحوا يأتون بالتجار الذين في ظاهر الأمر يعمرون الأرض ويرغب الناس في مجاورتهم، ثم أتوا بعد بمستوطنين، وما زالوا يسحبون على فلسطين حتى احتلوها، وحالهم فيها هو الحال المعروف لديكم الآن، فهم أهل مكر وخديعة أتوا بهذا التدريج، وقد شهد ذلك عز الدين القسام من بدايته، فرأى أن اليهود في أول إتيانهم كانوا فقط عباداً رهباناً منعزلين إلى العبادة، ثم أصبحوا بعد ذلك يشترون البيوت الخربة، ثم يربون اليتامى من اليهود، ثم بعد جاء تجارهم، ثم بدأ مستوطنوهم يأتون بأهليهم، فعرف أن القضية مسلسل لا نهاية له، فتجرد للجهاد في سبيل الله لإخراج اليهود من أرض فلسطين، وكان شاباً في بداية أمره، ليس له أي قوة لا من الناحية السياسية ولا من الناحية المادية، والخلافة العثمانية آنذاك في أوجه انشغالها وضعفها، لكنه مع ذلك وجد أعواناً من شباب المسلمين الذين كانوا يكتمون مساعدته عن آبائهم وأمهاتهم. يحدثني أحدهم -رحمة الله عليه- وهو الشيخ أحمد فرج عقيلان وكان من كتائب القسام في بداية نشأته، يقول: كنت شاباً فكان القسام يجمعنا في آخر الليل، فنختفي عن آبائنا وأمهاتنا للتدريب والتكوين، فكنا نبدأ التدريب دائماً بالأذكار ثم بقيام الليل ثم بقراءة حزب من القرآن، ثم بعد ذلك بالتدريب العسكري ثم نختم بالدعاء، فأمسكت بي أمي ذات ليلة، فلما ضاق وقت الموعد كادت تضيق عليّ الأرض بما رحبت، فلما رأت أمي ما أنا فيه سألتني: إلى أين تتجه؟ فصارحتها ولم أجد بداً من ذلك، فيقول: فخرجت أمي في أثري، فلما رأت ما نحن فيه تأثرت به تأثراً بالغاً، فجاءت من الغد تحمل حليها، فقالت: خذ هذا وسلمه للشيخ عز الدين يعينه على الجهاد في سبيل الله، ومن ذلك الوقت بدأت مشاركة النساء في الجهاد في فلسطين. إن التضحية تبدأ في البداية صغيرة ثم تكبر، عندما يتقبلها الله تفتح لها أبواب السماء فتأتي بالخير الكثير، لكن لا بد في ذلك من الهمم والنماذج التي يقتدى بها، ويحتذى بأثرها، فهذا علال الفاسي رحمه الله يقول: أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب ولي نظر عال ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب ولا راق لي نوم وإن نمت ساعة فإني على جمر الغضا أتقلب إن أصحاب الهمم العالية هكذا يعيشون، وهم الذين يستطيعون تحمل المسئوليات والقيام بشئون أمتهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله المضحين في سبيله، وأن يرزقنا الشهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، وأن يعزنا بدينه وأن يعز دينه بنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

كل حكم شرعي لابد له من فقه الشرع وفقه الواقع

كل حكم شرعي لابد له من فقه الشرع وفقه الواقع Q ما تعليقكم على ما يطرح اليوم في الساحة مما يسمى بالتجديد في الدين وفقه الواقع، وينادي أصحابه بطرح بعض النصوص؛ نظراً لأنها لا تنسجم مع واقع اليوم، ويقولون: لكل زمان فقهه وواقعه، مستدلين لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، فما هو حد هذه الأشياء التي لا يبحث عنها؟ A جوابنا أنه لا شك أن كل زمان له واقع يختلف فيه الحكم باختلافه، لكن مع ذلك فإن التجديد له إطار محدد، فلا بد أن يقتصر فيه الإنسان على المأذون فيه بالتجديد، وعلى مواقع الاجتهاد، ولابد من التمييز بين ثوابت الشرع ومتغيراته، فللشرع ثوابت هي الأصول، لا يمكن التطوير فيها ولا التغيير، وفيه متجددات وهي ما يتجدد باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والنيات، وهذه كثيرة وأحوال الناس فيها واضحة؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما كنت نهيتكم من أجل الدافة)، حينما نهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي، وبين صلى الله عليه وسلم في عدد كثير من الأحاديث أحكام الضرورة، وبين أن الضرورة تبيح المحظور، وهذا ما جاء في قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] وفي قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] وفي غير ذلك من الآيات. وعلى هذا فلا بد من فقه واقع الناس؛ حتى يعرف الإنسان هل هم أصحاب ضرورة أو أصحاب حاجة؟ وما هو قدر تلك الضرورة حتى لا يتعدى محلها؟ وكذلك لا بد من فقه الدين حتى يؤخذ من الدين الحلول للمشكلات الواقعية؛ لذلك يقول الشاطبي رحمه الله: كل حكم شرعي مؤلف من قضيتين: قضية صغرى واقعية وقضية كبرى شرعية، فمثلاً: لو صلى إنسان إلى جهة الغرب في هذا المكان، فقلت له: صلاتك هذه باطلة؛ فهذا حكم شرعي مؤلف من قضيتين، إحداهما: واقعية وهي الصغرى، وهي أن هذه الصلاة إلى غير القبلة، والقضية الثانية: هي أن كل صلاة إلى غير القبلة فهي باطلة وهي قضية شرعية. ومن هنا: فإن الخوارج إنما ضلوا بسبب إرادتهم تحكيم النصوص دون الذهاب إلى الواقع، عندما نادوا بتحكيم كتاب الله فقط، وأرادوا أن يكون القرآن حاكماً وأن لا يحكم الرجال في كتاب الله، قال علي رضي الله عنه: إنها دعوة حق أريد بها باطل، فهم أنكروا على علي رضي الله عنه تحكيم الرجال في كتاب الله، وقالوا: إن القرآن هو الحاكم ولا يحكم فيه الرجال، فعندما ناظرهم ابن عباس في هذا قال: أرأيتم قتل أرنب في الحرم أعظم أم قتل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بل قتل الأمة أعظم، قال: فإن الله تعالى حكم الرجال في كتاب الله في أرنب تقتل في الحرم، فقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] فأقنعهم بهذه المسألة. إن كثيراً من الناس يظن أننا إذا قلنا بتجدد الاجتهاد، أو بتجدد آلياته، أو بمراجعة بعض الشروط الاجتهادية التي يضعها الفقهاء يظن أن هذا معناه: هدم بعض ما تقرر من الشرع! لكن شتان، وهيهات، فثوابت الشرع هي ما جاء في النص من القرآن والسنة واضح الدلالة، وهذه لا تقبل التبديل ولا التغيير. أما الأمور الاجتهادية فهي متقلبة باختلاف أحوال الناس، فلا شك أن الشارع جعلنا بين سورين أحدهما: سور الرخصة والثاني سور العزيمة، فسور الرخصة يؤخذ به للضعفاء والمعذورين، وسور العزيمة يؤخذ به للأشداء والأقوياء، وبين الأمرين تأتي التفصيلات والخلافات الفقهية، فلا تخرج من بين هذين السورين: سور الرخصة وسور العزيمة. فلهذا لا بد من فقه الواقع؛ لقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وفقه الواقع يقتضي من الإنسان أن يعلم المصالح والمفاسد المترتبة على الأمور في الواقع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه الأحزاب فاجتمعوا عليه في المدينة، عرض على هوازن أن يرجعوا عنه عامهم ذلك وأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، ولا شك أن دفع مال المسلمين للكافرين الذين يحاربون المسلمين محرم، ولكنه ارتكب أخف الضررين، فأراد بذلك رد المشركين في تلك السنة بالمال الذي يدفع لهم. ومثل ذلك ما حدثنا الله به عن لوط عليه السلام عندما قال لقومه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، فلا شك أن تزويج المسلمة للكافر محرم لقول الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، لكن الاعتداء على الملائكة أعظم من تزوج الكافر بالمسلمة. وكذلك ما يتعلق بتنزيل النصوص في مواضعها ومنازلها، فإن كثيراً من المفسرين يفسرون آيات القرآن على حسب ما أوتوا من العلم في زمانهم، ثم تتجدد الوسائل الأخرى، والله سبحانه وتعالى لم ينزل القرآن بأسلوب واحد، لو كان كذلك لفهمه الصحابة جميعاً ولم يبق للتابعين منه حظ ولا لأتباع التابعين، ولا لمن بعدهم، والواقع أن كل قوم لهم حظ من كتاب الله يدخر لهم فيه من الفهم ما يقضي حاجياتهم، ويغطي كل النوازل التي تتجدد لديهم. ولهذا فالنوازل والوقائع غير محصورة، كل يوم تتجدد النوازل والوقائع التي لا عهد للمسلمين بها، وكل نازلة لله فيها حكم، وذلك الحكم لا يمكن أن يؤخذ إلا بالاستنباط، فلهذا يحتاج إلى إعمال الاجتهاد وفق الضوابط الشرعية للوصول إلى الحلول في كل مشكلة تنزل، وحينئذ لن يكون ذلك الحل قطيعاً لأنه اجتهاد، لكن مع ذلك يتعبد الله به؛ لأن الله أمرنا بإعمال الاجتهاد وبتدبر القرآن وحض على ذلك وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29] وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] والرسول صلى الله عليه وسلم حض كذلك على إعمال الاجتهاد والعقل، فقال ل عمرو بن العاص حين أمره بالقضاء فقال: أأقضي بين يديك، فقال: (اقض، فإن أصبت أقررت، وإن أخطأت رددت عليك)، وقال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإن اجتهد فأخطأ كان له أجر)، ولهذا فلا مشاحة في الأمر، فقد يتجدد من الوقائع ما يوجد له حلول في الكتاب وما يوجد له حلول في السنة، وما يوجد له حلول في القياس، ومن لم يستوعب تلك الوقائع ولم يفهمها لا يمكن أن يفتي فيها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. ولهذا فالعقود الحديثة الكثيرة واستغلال الأجهزة الحديثة في الإثبات وغيره، في أجهزة الاتصال ونحو ذلك من لم يستوعبها ويفهمها لا يحل له الإفتاء فيها، ومثل ذلك أمور تنظيم الدولة والمؤسسات والشركات، فالأمور التنظيمية كلها من لم يكن مستوعباً لها لم يحل له الإفتاء فيها؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، ويقول تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] فكل أمر يتجدد إنما يفتي فيه أهله ولا يحل استفتاء الذين لا يفقهون هذه الأمور فيه، فالذي يذهب الآن بالعقود الحديثة عقود البورصات فيستفتي فيها فقيهاً من أهل البادية، ما عرف شيئاً من الاجتهاد ولا وسائله ولا أدرك شيئاً من فقه الواقع، هذا أخطأ وساعد على المعصية؛ لأن الفقيه لا يحل له أن يفتي في مثل هذا حتى يستوعبه؛ ولذلك كان مالك رحمه الله يكره أن يسأل في المسائل المستجدة، ويقول: إن للمسائل رجالاً يعاصرونها هم أولى بالاجتهاد فيها، وكان إذا سئل عن نازلة ينظر هل وقعت أم لا؟ فإن لم تقع لم يجب فيها، وإن كانت قد وقعت استعان بالله عليها.

معنى التجديد في الدين

معنى التجديد في الدين Q ما المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)، وما المقصود بهذا التجديد؟ A لا شك أن الدين كما بين النبي صلى الله عليه وسلم يخلق ويجد، قال: (إن الإيمان ليجد في النفوس ويخلق) فيحتاج إلى التجديد، وتجديده في أوجه كثيرة: فمنها مثلاً: تجديده بالجهاد في سبيل الله، وتجديده بإقامة حكم الله وعدله في الأرض، وتجديده بإقامة الحدود، وتجديده بتعليم العلم الشرعي، وتجديده بإعادة الناس إلى الاعتقاد الصحيح، وتجديده بإعادة الناس إلى منابع العلم الأصلية، وتجديده بإعادة الناس إلى أخلاق الإسلام وقيمه، وتجديده بالتحاكم إلى شرع الله، كل هذا من تجديد دين الله، ولا يمكن أن يقوم به فرد، فالذين يفهمون المجدد على أنه فرد، ويخصصون عالماً من العلماء أو أميراً من الأمراء لذلك قد غلطوا في الفهم، فلا يمكن أن يجدد الدين واحد، بل لا بد أن يجتمع على ذلك أعداد من الناس تجدد الدين، فمنها من يجدد جانب الاجتهاد، ومنها من يجدد جانب الحفظ، ومنها من يجدد جانب الجهاد، ومنها من يجدد جانب القيم والأخلاق وغير ذلك.

معنى قول النبي (استفت قلبك)

معنى قول النبي (استفت قلبك) Q كثير من الناس ينبهر بحضارة الغرب، فيحصل عنده انهزاميه في النفس، فما نصيحتكم له، وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)؟ A إن الانبهار بحضارة الغرب هو من الإغراق في الماديات وفي هذه الدنيا وأمورها، فالإنسان الذي لا يعرف قيمة الدنيا هو الذي يمكن أن ينبهر بها، أما الذي يعرف قيمة الدنيا، ويعرف أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأن كل جديد فيها إلى البلى، وأن كل حسن فيها إلى القبح، لا يمكن أن ينبهر ويغتر بها، فانظروا إلى أحسن البيوت وأحسن المنازل التي تبنى في الأحياء الراقية، لا يمر عليها عشر سنوات إلا وأصبحت قبيحة وأصبح غيرها أحسن منها! هكذا الدنيا كلها فكل جديد فيها إلى البلى: لدوا للموت وابنوا للخراب فكلكم يصير إلى التراب فلذلك جديدها إلى البلى، وحسنها إلى القبح، ومن لم يعرف قيمتها هو الذي يتهافت عليها، وينبهر بما أوتيه الغربيون من مفاتيح هذه الدنيا، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]. أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك)، فليس هذا لكل أحد من المسلمين بل هو لأهل الإيمان والتقوى فقط، من ليس من أهل التقوى لا ينبغي أن يستفتي قلبه؛ لأن معنى ذلك أنه سيتبع هواه، لكن من كان من أهل التقوى هو الذي يستفتي قلبه؛ لأن لديه وازعاً قوياً في قلبه يمنعه من معصية الله، فإذا خاف أمراً أن يكون من معصية الله تركه وابتعد عنه، فليس هذا الحديث خطاباً لكل الناس، بل هو خطاب لأهل التقوى والورع.

المسائل المنهي عن السؤال عنها

المسائل المنهي عن السؤال عنها Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)، ما الجمع بين ذلك وبين قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:101]، وبين قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]؟ A بالنسبة للآية والحديث اللذين فيهما النهي عن المسائل، فالمقصود بذلك المسائل التي فيها تكلف وتعسف لما لا يحتاج الناس إليه، أما قول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، فهذا في المسائل العملية التي يحتاج إليها الإنسان، يسأل عنها ليعمل بها، وشتان بين الأمرين، فالمسائل التي كرهها النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل السؤال عن أخبار بني إسرائيل، والسؤال عن أمور القدر، والسؤال عما يتجدد من أمور هذه الأمة، فالمسائل التي ليست عملية ولا داخلة في إطار العمل، هي التي كره السؤال عنها. أما السؤال عن أحكام الدين وما جهله الإنسان منها، فهذا من المحبوب شرعاً؛ المطلوب الذي لا بد أن يسأل الناس عنه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما دواء العي السؤال).

احتمالات الفقهاء يقصدون بها رياضة الذهن

احتمالات الفقهاء يقصدون بها رياضة الذهن Q ما هو الموقف من هذه الاحتمالات الفقهية التي يتكلم بها الفقهاء رحمهم الله، ولما تقع بعد؟ A أنهم ما أرادوا بها أن يضعوا حلولاً جاهزة، وإنما أرادوا بها رياضة ذهنية؛ ليكون الذي تعرض عليه تلك المسائل يعرف الاحتمالات، ويستطيع أن يختار منها أو يختار من غيرها، أو يبني عليها، فلذلك ليست المشكلة في الاجتهاد، ولا في الفقه، وإنما المشكلة في التعصب فقط، فإذا تركنا التعصب فلا بأس بدراسة الفقه، ومعرفة أدلته ومآخذ أهل العلم، والاستئناس بأقوالهم، وفتح الأبواب التي فتحها الله لهم، والتي ما نالوها إلا بالورع والعبادة والتقوى وخشية الله، وأما التعصب لآرائهم، أو زعم أنها معصومة أو أنها صواب (100%) فهذا من الخطأ والخطل.

معنى قوله: (كل نفس بما كسبت رهينة)

معنى قوله: (كل نفس بما كسبت رهينة) Q ما معنى قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر:38 - 41]؟ A أن الله سبحانه وتعالى بين أن الناس يوم القيامة يحملون أوزارهم على ظهورهم، وكل إنسان منهم يحمل طائره في عنقه، فيأتي بكل أعماله فيجد صالحها وسيئها: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30]، لكن أهل الجنة الذين يتجاوز الله عن سيئاتهم، يجدون تلك السيئات قد محيت وعوضت بالحسنات التي عملوها، فيسترهم الله بستره الجميل، (والله يبسط كنفه على عبده المؤمن، فيقول: أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا، كنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا رب! وكنت قد نسيت، فيقول: لكنني لم أنسه، فيقول: إني سترتك به في الدنيا فلن أفضحك به يوم القيامة). فأولئك الذين يسترهم الله على رءوس الأشهاد يوم القيامة، وفي المقابل يفتضح آخرون الفضيحة العظيمة على رءوس الملأ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ينادى عليه على رءوس الأشهاد: هذه غدرة فلان بن فلان) نسأل الله السلامة والعافية. ومعنى كونها رهينة بما كسبت أي: أنها تأتي حاملة له تحمله بكامله، فلا يفوت منه شيء؛ فهذا الموقف من المواقف العظيمة التي قال فيها حكاية عن الذين كفروا عندما يرون الصحف: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].

مدى صحة حديث: (مرحبا بالوجه الذي لا يفلح عند الله)

مدى صحة حديث: (مرحباً بالوجه الذي لا يفلح عند الله) Q هل صحيح أن أول من يخرج من المسجد بعد انتهاء الصلاة يقبله الشيطان بين عينيه ويقول له: مرحباً بالوجه الذي لا يفلح عند الله؟ A هذا ليس صحيحاً، بل يقول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10].

نماذج من علماء المغرب

نماذج من علماء المغرب Q هل بإمكانك أن تذكر نماذج من أسلافنا من هذه البلاد، وكيف كانت تربيتهم؟ وكيف حصلوا ما حصلوا عليه؟ A النماذج في طلب العلم كثيرة في هذه البلاد وغيرها، ومن النماذج البارزة الرجل الذي اشتهر بلقب مجيدري، واسمه: محمد بن حب الله بن الفاضل بن الفقيه موسى اليعقوبي فقد خرج من هذه البلاد وهو في الخامسة عشرة من عمره، وقد استوعب علوم هذه البلاد، فذهب في طلب العلم وفي طلب الحديث والحج، فلما أتى المغرب لم يجد فيه من يستطيع مناظرته، فاشتهر في المغرب كله بالعلم، حتى إن ملك المغرب كان يجمع له العلماء فلا يستطيعون مناظرته، وقد حصلت له قصص في المغرب عجيبة، فقد كتب بيده كثيراً من الكتب التي ما زال بعضها موجوداً الآن، وعندنا الآن بعض مخطوطاته بيده، أرسل كتاباً إلى أمه في ورقة صغيرة جداً مع تاجر كتب، وأرسل معه زربية وسهاماً وتسعين درهماً وعبداً، وكتب لها: (سلام بزيادة لام ماء إلى لامه، وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين)، فأخذ التاجر الرسالة فقرأها فلم يفهم شيئاً مما فيها، فلما نزل على أهل الرجل سلم الرسالة إلى أمه، فلما قرأتها قالت: هات السهام والزربية والتسعين والعبد، فقال: من أين أخذتها؟ فقالت: قال: سلام بزيادة لام ماء إلى لامه، ولام ماء هاء لأنه يصغر على مويه ويجمع على أمواه، فالهاء إذا أضيفت إلى لام سلام صارت سهاماً، وإحدى خبري كأن في قوله ترديت، قالت: عرضت الشعر على ذهني؛ لأطلع على بيت بدايته ترديت وفيه كأن، فوصلت إلى قول غيلان: ترديت من أعلام نور كأنها زرابي وانهلت عليك الرواعد فعرفت أنه يقصد هذا، فكأن هنا خبرها زرابي، فمفردها: زربية، فهات الزربية. أما إياك نعبد وإياك ونستعين قالت: فلم أفهمها، فحذفت النقاط عنها، فقرأتها بالتصحيف فإذا هي: أتاك بعبد وأتاك بتسعين، قرأتها بدون نقط. وحين أتى هذا الرجل إلى مصر يحمل كتاباً من ملك المغرب، جمع له ملك مصر عشرة من علماء الأزهر لمناظرته، فقال له الملك: اليوم يوم التعارف، فكل واحد يعد لنفسه عشرة آباء، فعد كل عالم من علماء مصر عشرة آباء لنفسه، وعد مجيدري عشرة آباء لنفسه، فلما كان من الغد اجتمعوا بين يدي الملك، فكان كلما سلم عليه واحد منهم، قال: السلام عليك يا فلان ابن فلان ابن فلان ابن فلان حتى يكمل سلسلته حتى أتى على مائة أب، كل واحد عد له عشرة، ولم يتذكروا هم اسمه، لكن لعامل اللغة تأثير في هذا فـ مجيدري بن حب الله بن الفاضل أسماء صعبة الضبط، فلذلك لم يتذكروها، فأعجب الملك بهذا، ولم يستطع العلماء مناظرته، فسأله: أن يتقبل منه جائزة، قال: جائزتي أن تفرغ لي دار الكتب المصرية أسبوعاً كاملاً لا يدخل عليّ إلا من يخدمني، ففرغها له حتى درس ما فيها من العلوم النادرة التي لم تكن ببلاده، ولذلك رجع إلى هذه البلاد مجدداً مصلحاً في مجال الاعتقاد ومجال السلوك ومجال الفقه، وقد كتب لعلماء هذه البلاد أسئلة، وهي الإثنا عشر المشهورة التي أسكتت العلماء، ولم يستطع أحد منهم جوابها، وكان من هذه الأسئلة الإثنا عشر: ما الفرق بين الشافعي وابن القاسمي؟ أليس كل واحد منهما تلميذاً لـ مالك؟ فهذا السؤال محرج للمقلدين في زمانه، فلم يستطع أحد منهم جوابه. ونظم أبياته في الإيمان بأسماء الله وصفاته دون تعطيل ودون تأويل فكتبها بالزعفران وهي الأبيات السبعة المشهورة التي شرحها الشيخ محمد المامي في قصيدته الزعفرانية، وهذه الأبيات على وفق عقيدة السلف الصالح، وقد نظمها عندما زعموا أنه مبتدع حين دعا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وعقيدة السلف الصالح قال: لو كنت بدعياً لما كان الصواب عندي الأحاديث الصحاح والكتاب وقد ربى مدرسة عظيمة تربت على منهجه، ومن مشاهير طلابه المأمون بن عبد الله المجاور الذي اشتهر بخلافة نجيدي بعده ورئاسة المدرسة، وقد كان من المشاهير في حفظ الأحاديث، كان يحفظ الصحيحين حفظاً متقناً، ولذلك حين توفي رثاه الشيخ محمد المامي في قصيدته التي مطلعها: ريع تقاصر دونه لبنان ويهون دون ترابه المرجان يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن فجعل الشيخ محمد المامي المأمون بمثابة البذر بذر القرآن والسنة، إذا بذر في مكان ودفن فيه، ينبت عليه الكتاب والسنة. وغير هؤلاء كثر، وقد أجهد أقوام أنفسهم في سبيل هذا العلم، فأنفقوا فيه أوقات طائلة، كالشيخ الذي خرج من عند أهله وعمره أربعون سنة، وتغرب لطلب الحديث وطلب الفقه والأصول، ومكث في طلب العلم عشرين سنة، وما رجع إلى أهله إلا بعد الستين، ومكث أربعين سنة ينشر هذا العلم الذي جاء به، فعاش مائة وزيادة، ولذلك يقول فيه ابن أحمد دان الحسني في وصفه: ما للمشيب وفعل الفتية الشببة وللبيب يواصي في الصبا خببه آنت لذي شمط الحذين رجعته إن القتير ليحمي ذو النهى طربه لما تأوب لي من طول ما جمحت نفسي هموم رمت صبري بما سلبه ناجيت فكري وقد أمعنت من نظري ثم استمر بي الرأي الذي اكتسبه أن يممت شرف الدين الكمال بنا علياء تعتسف الآكام والهضبة حتى وضعت عصاسيري بباب فتى يأوي الطريد ويولي الراغب الرغبة من نبعة طيب الباري أرومتها بيتاً أحل ذرى المجد العلا نسبه حارت أناس بجدوى حاتم ولقد نرى سخاء كمال الدين قد غلبه أحنى على الشعف والأيتام من نصف على صغير لها قد أكبرت عطبه أشد عند تمادي أزمة فرحاً بالمعتفين من العافي بكل هبة يلقى العفاة بوجه من سماحته كالهندوان تجلو متنه الجلبه وإن ألم به ضيف فمرتحل يثني وكان حميد الظن إذ رغبه ولى يفرق مدح الشيخ في فرق شتى ويكثر مما قد رأى عجبه رأى هنالك أخلاق الكرام إلى زي الملوك وزي السادة النخبه رأى مصرعة الأنعام قد قسمت بين الصفيف وبين الجونة الرحبه رأى العفاة على باب الكمال كما يرى الدثور على قلبه من معتف وأخي حوجا ملتمس فصل القضا ومريد كشف ما حجبه أو كشف مسألة والكل قد وسعت جفانه ولكل منه ما طلبه فالله بارك في نفس الكمال وفي ما الله موليه من قصوى ومقتربه إن تستبق حلبات المجد راكضة نحو المعالي تراه سابق الحلبه لا يضمر الضغن من جار أساء ولا من المصاحب يوهي صبر من صحبه أما الرقاع فأعلاق يجود بها والسير نصح بليغ يبتغي القربه رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه علماً وفهماً يصيد المشكلات به درك الطبرة من سرب المها عطبه ومص كل من مخيرة در تخيره للملك من ثقبه لما تغلغل في علم الشريعة من صافيه أعمل في نيل العلى نجبه شد الرحال على كوم العتاق إلى تاج الأئمة من ساداتنا النخبه فنال ما نال إذ حط الرحال وما أدراك ما نال يا واهاً لها رتبه فأصبح الشيخ مسقى كل ذي ظمأ كما يصبح مسقى دجلة القلبه إلى آخر ما قال. ومثل ذلك مسك بن بارك الله الذي ذهب في طلب الحديث وطلب العلم، واشتغل بذلك زماناً طويلاً، وخاض الحواضر العلمية حتى رجع بما رجع به من العلم كإجازة ابن ناصر الدرعي. ومثله عبد الله الحاجب المبارك الذي ذهب أيضاً إلى مصر والحجاز والعراق والشام وأتى بعلم كثير، وكذلك شيخ الشيوخ ابن أبي الفاضلي الحسني الذي اشتهر في هذه البلاد بعلو الإسناد، فهو الذي نقل علم علي الأجهوري إلى هذه البلاد حديثاً وفقهاً وأصولاً، وغير ذلك. فهؤلاء بذلوا في سبيل الحصول على هذا العلم جهداً كبيراً وتعباً ومشقة، فلذلك وصلوا إلى مبتغاهم، ولهذا كان الشيخ سديه كثيراً ما يتمثل بقول الشاعر: ما ابيض وجه باكتساب كريمة حتى يسوده شحوب المطلب

المدارس النظامية لا تخرج عالما

المدارس النظامية لا تخرج عالماً Q ما هو دورنا -طلاب العلم- أمام هذا التغيير التربوي الجديد الذي يحد من تعليم ديننا الحنيف؟ A إن المدارس النظامية في الأصل لا يمكن أن يوكل إليها تعليم الدين؛ لأنها ليست مدارس دينية، وما أقيمت على أساس هذه الفكرة، وفكرتها جاءت من عند اليهود والنصارى، ولا يعدون علماً إلا ما كان تجريبياً، فلذلك لا يمكن أن يتكل على المدارس النظامية حتى لو صلحت منهاجها، وكانت على المستوى الذي ترغبون فيه، فإنها لا يمكن أن يتكل عليها في دراسة العلم الشرعي. وقد خضنا بلاداً كثيرة، ودخلت أكثر من سبع وثلاثين دولة، وما لقيت عالماً من العلماء يشار إليه تخرج من مدرسة نظامية! وما أذكر أنني رأيت عالماً يوصف بأنه عالم تخرج من مدرسة نظامية! ولذلك فهذه المدارس النظامية كلها فكرتها أصلاً ما قامت على تعليم العلم، وإنما قامت على تحصيل الثقافة، ولذلك يقال فيها: تأخذ من كل شيء شيئاً.

خطورة الكلام في العلماء والجماعات الإسلامية

خطورة الكلام في العلماء والجماعات الإسلامية Q ما هي مخاطر أكل لحوم العلماء والجماعات الإسلامية، وما توجيهاتكم لبعض المسلمين الذين لا يبالون بخطورة الأكل من أعراض المسلمين؟ A الله سبحانه وتعالى حرم على المسلمين أكل أعراضهم فيما بينهم، وجعل الغيبة بمثابة أكل لحم الإنسان، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]،وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام في الناس، وبين خطره وضرره، وبين أن عرض المسلم كحرمة دمه وماله، وبين صلى الله عليه وسلم أن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه، وقد حدثتكم كثيراً بما أخرجه مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية). والذين ينتقدون الجماعات والطرق والأشخاص لا بد أن يأتوا ببديل خير مما هم فيه، أو يكونوا عامل هدم لا بناء، ولا يرتضي إنسان أن يهدم منارة إشعاع ومنارة هدى ولا يبني شيئاً في مكانها؛ فلذلك على الإنسان إذا أراد أن ينتقد أن ينظر إلى نفسه أولاً وما عمل، وليتذكر قول الشاعر: فعندك عورات وللناس ألسن. فلذلك عليه أن يبدأ بنفسه أولاً في الانتقاد، ثم بعد ذلك إذا وصل إلى مستوى يمكنه من نقد الآخرين، ليكن ذلك النقد أيضاً من واقع الحرص عليهم، واستصلاحهم، لا من واقع التشفي فيهم والاستعلاء عليهم، واحتكار الحق دونهم، فذلك كله من عمل الشيطان المقيت، الذي لا يشتغل به إلا صاحب فتنة، وصاحب هوى، تجب مقاطعته وعدم مجالسته، فمن عرف أنه من أصحاب الهوى وأصحاب الفتنة حرمت مجالسته، ووجبت مقاطعته؛ حتى يتوب ويرجع عما هو فيه.

على الإنسان أن يوازن بين حسنة المعاد ودرهم المعاش

على الإنسان أن يوازن بين حسنة المعاد ودرهم المعاش Q هل من الأفضل أن يصرف الإنسان أغلب وقته في أمور الدعوة، أم في أمور معاش أهله؟ A أن على الإنسان التوازن والاعتدال، وأن يعمل لتحقيق حسنة المعاد ودرهم المعاش، وأن يجمل في الطلب، وإذا نظم وقته لم تتعارض عليه المسألتان، ورأى أنه يمكن الجمع بينهما، فيمكن أن يجمع الإنسان بين كسب الدنيا وكسب الآخرة على الوجه الصحيح.

حال المؤمن والكافر عند نزع الروح

حال المؤمن والكافر عند نزع الروح Q هل صحيح أن الميت ترجع إليه روحه في قبره، ثم تفارقه يوم البعث؟ A الميت ترجع إليه روحه عند السؤال، فإن الإنسان إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة جاءه ملك الموت، فجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبة قرئ عليه قول الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، فتتهوع روحه من فيه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فينظر إلى الملائكة كأن وجوههم الشموس مد البصر، مادي أيديهم، فلا تمكث روحه طرفة عين إلا تناولوها، فيضعونها في كفن من أكفان الجنة، وطيب من طيب الجنة، ثم يرتفعون بها، فيستأذنون في السماء، فيفتح لهم، حتى تخر نفسه ساجدة تحت العرش، يقال: مرحباً بالنفس الطيبة، ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت، فترجع إلى البدن لسؤال الملكين. وإن كانت النفس خبيثة جاءها ملك الموت وجلس عندها وقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعذاب، فتتفرق نفسه في بدنه، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف، فيخرجها فيسلمها إلى أولئك الملائكة الذين هم مد البصر مادي أيديهم، فيدعونها في حنوط من حنوط النار، فيرتفعون بها إلى السماء، فيستأذنون، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، وأولئك الذين {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، فلا يؤذن لها، فترجع دون السماء، نسأل الله السلامة والعافية. ثم بعد ذلك تكون أرواح السعداء في حواصل طير خضر تتفيأ من ظلال الجنة حتى الحشر، وأرواح الأشقياء تكون في أفنية القبور فيما هي فيه من التعذيب حتى تعود. ومن هنا فليس الموت بفناء محض بل هو حياة من جنس آخر، فالحياة البرزخية تختلف عن حياة الدنيا، فأنواع الحياة ثلاثة: الحياة الدنيا والغالب فيها البدن فهو أغلب من الروح، فلذلك لا يستشعر الإنسان حركات روحه ولا يستشعر عروجها وصعودها وحركتها، وإنما يستشعر بدنه وما فيه من الجوارح وما يحس به من الألم أو اللذة. بعدها الحياة البرزخية وهي حياة تغلب فيها الروح على البدن، فالبدن تأكله التراب إلا عظماً واحداً منه بدأ ومنه يركب، وهو عجب الذنب، والروح تبقى محبوسة، ثم بعد ذلك الحياة الأخروية وهي الحياة الحقيقية التي تستوي فيها الروح والبدن: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].

العطور التي فيها كحول طاهرة

العطور التي فيها كحول طاهرة Q هل يجوز استعمال العطور التي فيها نسبة من الكحول؟ A إن الكحول مادة مشكلة للخمر، بمعنى أنها وغيرها تتشكل منها الخمر، لكن ليست هي الخمر، وعلى هذا فليس حكمها حكم الخمر لا من ناحية النجاسة ولا من ناحية الحد، ولكن يحرم استعمالها فقط لما فيها من الإفساد والتخدير. وعلى هذا فالكحول في نفسه مادة طاهرة، ولا تكون مسكرة إلا إذا مزجت بغيرها؛ حتى يحصل الإسكار الذي يحصل بالخمر، وعلى هذا فالعطور التي فيها الكحول طاهرة، لكن لا يحل شربها لما في ذلك من التخدير أو الإفساد والترقيد فهي طاهرة.

ليس وجود النسل شرطا في بقاء العلاقة الزوجية

ليس وجود النسل شرطاً في بقاء العلاقة الزوجية Q يسأل عن زوجين طالت مدة عشرتهما ولم ينجبا، فهل لأحد أن يطلب من الزوج طلاق زوجته إذا كانت عقيمة أو كانت كبيرة السن مثلاً، أو ذات عيال أو نحو ذلك؟ A إن التفريق بين الزوجين إذا كان بينهما اتفاق وانسجام في العشرة مما يسعى إليه إبليس ويرغب فيه، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لإبليس عرشاً على الماء، فيبعث جنوده من الليل فيأتيه أحدهما فيقول: ما زلت به حتى قتل، فيقول: ما فعلت شيئاً لعله يستغفر الله فيتوب إليه، فيتوب الله عليه، فيأتيه آخر، فيقول: ما زلت به حتى شرب الخمر، فيقول: ما فعلت شيئاً لعله يتوب إلى الله فيتوب عليه، حتى يأتيه أحدهما فيقول: ما زلت به حتى فارق أهله، فيدنيه ويقبله ويقول: أنت ابني. إن الاجتماع بين الأزواج -إذا حصل الانسجام في العشرة- مطلب شرعي محبوب، حتى لو لم يترتب على ذلك وجود النسل، فالله تعالى هو الذي يهب ذلك كما قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49 - 50]، وكم من إنسان يتمنى وجود الذرية، ولو رزق ذرية لكانت فتنة عليه أو خسارة أو وبالاً، والإنسان الكبير الذي انسجمت معه زوجه، واستمرت عشرته معها خير له من صبي لا يدري هل هو شقي أو سعيد؟ ولا يدري هل ينسجم معه بالتعامل أم لا؟ فلذلك ليس الفراق دواء هنا، ولذلك لا ينبغي أن يفرق الإنسان بين شخصين حصل الانسجام بينهما في الزواج، بل جعل الله ذلك من فعل أهل الشر، كما قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فلذلك لا يحل مثل هذا، لكن بالإمكان -إذا كان الإنسان يطلب نسلاً- أن يتزوج بعد رضا زوجته بزوجة أخرى لعل الله يرزقه منها ولداً.

حكم اللعب بالورق

حكم اللعب بالورق Q ما حكم اللعب بالورق؟ A هذا من إفساد الأوقات في غير طائل، وينبغي للناس أن ينزهوا أنفسهم عنه، ومع ذلك إذا لم يكن فيه قمار ولا حلف ولا كذب فليس محرماً لذاته، بل إنما يحرم إذا أخر الإنسان الصلاة بسببه، أو شغله عن طاعة من طاعات الله، أو عن قضاء دين، أو عن اكتساب ما يجب عليه اكتسابه، لكن لا خير فيه، فاللعب به مفسدة للوقت مضيعة له، وتعلق بتوافه أمور الدنيا، فعلى الإنسان أن ينزه عنه نفسه.

طاعة الوالدين مقيدة بعدم تعارضها مع طاعة الله ورسوله

طاعة الوالدين مقيدة بعدم تعارضها مع طاعة الله ورسوله Q هل هذا حديث: (من أطاعني وعصا والديه سميته عاقاً، ومن أطاع والديه وعصاني سميته باراً)، وما معناه؟ A هذا ليس حديثاً، وقد ورد في بر الوالدين عدد كبير من الأحاديث التي فيها الإرشاد إلى بر الوالدين ومثوبة ذلك وأجر صاحبه، وأنه يكفر الذنوب، وأنه مدعاة للاستقامة على طريق الحق، وأن البار بوالديه لا بد أن يوفق على طريق الهداية، لكن مع ذلك فإن أحاديث الوعد كلها مقيدة، فأي حديث فيه وعد للطاعة أو المغفرة أو الاستقامة مقيد بطاعة الله ورسوله. فأول طاعة تلزم الإنسان هي طاعة الله ورسوله، ثم بعد ذلك طاعة المخلوقين على حسب درجاتهم.

حكم السفر إلى دول الكفر

حكم السفر إلى دول الكفر Q هل يعتبر السفر إلى دولة كافرة حراماً؟ A إذا كان معناه السفر من أجل التجارة إلى أي مكان من العالم فهو من الأمور الجائزة، بالشروط المعروفة وهي: أن لا يتعرض الإنسان إلى أكل حرام، ولا إلى تضييع الصلاة في وقتها، ولا إلى مخالطة الحرام أو مخالطة الأنجاس، وأيضاً أن يحترس من أكل الربا ومن الصفقات الممنوعة شرعاً.

معنى: (رجل أعطى بي ثم غدر)

معنى: (رجل أعطى بي ثم غدر) Q ما هو تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رجل أعطى بي ثم غدر)؟ A قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة يخاصمهم الله عز وجل يوم القيامة، ومن كان خصمه خصمه، ومنهم: رجل (أعطى بي ثم غدر)، أي: رجل عاهد بعهد الله وميثاقه ثم غدر ذلك العهد ولم يوف به.

حكم الاستمناء

حكم الاستمناء Q ما حكم الاستمناء باليد؟ A الاستمناء لم يرد فيه نص بخصوصه، وقد اختلف فيه أهل العلم: فذهب بعضهم إلى كراهته، وبعضهم إلى تحريمه، ولكن الذي يبدو لي أنه داخل في قول الله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]، فعلى هذا ينبغي للإنسان تجنبه والابتعاد عنه؛ حتى لا يكون من العادين، فإن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7] وهذا مما وراء ذلك.

استرضاء الوالدين

استرضاء الوالدين Q لي والدان وأنا لا أبخل في إرضائهما، ولكن كلما أطعتهما يقولان: إنني لست ببار؟ A على الولد أن يبذل الجهد في استرضاء والديه والتقرب إليهما، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن يطيعهما في معروف، وإذا تقرب إليهما غاية التقرب فلم يرضيا بذلك فإنه مأجور أجراً مضاعفاً، ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم للذي أخبره أن له رحماً، وأنه يحسن إليهم فيسيئون إليه، فقال: (لئن كنت كما قلت فإنما تسفهم الملَّ -أو- فإنما تسفهم المل) أي: كأنما يطعمهم من الملة، وهي: التراب الحار الذي كان عليه الجمر، فمعنى ذلك أنه خير منهم وأن أجره أعظم من أجورهم.

معنى آية: (والملائكة باسطو أيديهم)

معنى آية: (والملائكة باسطو أيديهم) Q ما تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93] A أن هذا هو ما تحدثنا عن تفسيره سابقاً في السؤال السابق بذكر الحديث الذي فيه: (إذا كان العبد في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخر أتاه ملك الموت) إلى آخر الحديث الذي سقناه بالمعنى، بياناً لتفسير هذه الآية.

حد الواجب من تعليم الزوجة

حد الواجب من تعليم الزوجة Q ما هو حد تعليم الزوجة، هل يكفي منه أمرها بالتعلم أو لا بد من مراقبتها وقهرها؟ A القهر لا ينبغي أن يحصل في مثل هذا أصلاً، وهو عبارة لا تليق بالتعامل بين الأزواج، لكن بالنصيحة والإرشاد والقيام بالأمر، ومتابعة الأمر حتى يؤدى على وجهه والتشجيع على ذلك، وهذا هو المطلوب في تعليم الزوجة، وعلى الزوج أن يعلمها مما علمه الله، وأن يتعلم منها أيضاً ما علمها الله، وأن يشجعها على التعلم، وأن يعينها عليه، فذلك من التعاون على البر والتقوى.

التصرف في مال الأولاد

التصرف في مال الأولاد Q هل يجوز للأب التصرف كيف شاء فيما يعطى للأبناء الصغار من مال؟ A الأب لا يحل له أخذ مال أولاده إذا كان المال أعطيه الأولاد من غير طريقه هو، ولكن إذا أخذ منه شيئاً في النفقة عليهم أو في مروءتهم أو بالقيام بشئونهم فله ذلك، وإذا أنفق منه شيئاً في مصالحه الخاصة، كأن تزوج به فلا بد أن يقضيه بمثله؛ ولذلك فإن أخذ أموالهم داخلاً في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه). وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) فلا يصلح هذا للاستدلال في مثل هذه المسألة؛ لأنه عطف المال على النفس، ونفس الولد لا تملك فكذلك المال؛ لأن المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه.

تخصيص زيارة الميت بالخميس والجمعة

تخصيص زيارة الميت بالخميس والجمعة Q ما درجة صحة الأثر الذي يقول: إن الروح تعود إلى القبر مساء الخميس حتى السبت، وعليه تكون الزيارة في ذلك الوقت؟ A هذا لا يصح فيه شيء، إنما الزيارة في آخر الليل في أي يوم من الأيام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فكان يذهب إلى المقبرة في آخر الليل كما فعل في ليلة عائشة، ولا يخصص لذلك يوماً بعينه.

للرجل أن يتزوج ربيبة أبيه

للرجل أن يتزوج ربيبة أبيه Q هل يجوز للرجل أن يتزوج ربيبة أبيه؟ A ربيبة الأب ليست محرماً للإنسان، فيجوز له تزوجها إذا ولدت قبل زواج أبيه بأمها باتفاق أهل الفقه، أما إن كانت ولدت بعد تزوج أبيه بأمها، فهو محل خلاف، ولذلك يقول الشيخ محمد علي رحمه الله: حليلة الربيب لم يحرم نكاحها إذ لم تكن بمحرم وبنت زوجة تحل لابنه من غيرها وإن تكن في حضنه من قبلهم دون خلاف نقلا وبعده مع قول منع نقلا مع قول منع، أي: قول بتحريم، وقيل أي: قولاً بالكراهية أيضاً. وعلى هذا فالله سبحانه وتعالى لم يعدها من المحرمات في كتابه محرمة في قوله: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:22 - 24]، ومعنى المحصنات المتزوجات، فإن المتزوجات من النساء لا يحل تزوجهن لأن الزواج مانع لذلك إلا قوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) المقصود بذلك السبي، فإذا كانت المرأة متزوجة في دار الكفر فسباها المسلمون في الغنائم، فإن السبي يهدم النكاح، وحينئذ يحل تزوجها، ولهذا قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ} [النساء:24]. فإذا تزوج الأب أمها وهي رضيعة، فقد ازداد لبن أمها بالوطء، وإذا ازداد لبن أمها بالوطء فحينئذ انتشرت الحرمة بسبب الرضاع، لأن اللبن إذا ازداد من وطء الزوج نشر الحرمة، فتكون حينئذ أخته من قبل أبيه من الرضاعة.

الرياء أسبابه وعلاجه

الرياء أسبابه وعلاجه Q بم تنصحون من يرى أن أفعاله كلها رياء؟ A أن هذا وسواس ومن عمل الشيطان، وعلى الإنسان أن لا يتبع خطوات الشيطان، وأن يتوب إلى الله، وأن يبتعد عن مثل هذا، وأن يعلم أنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، عليه أن يسدد ويقارب. فهذا من عمل الشيطان، وسببه الوسوسة، وعلاجه بمخالفة الشيطان، واتخاذه عدواً والتعوذ من شره، وملازمة أذكار الصباح والمساء، والإكثار من الذكر فإنه يطرد الشيطان.

طاعة الأم في معصية

طاعة الأم في معصية Q ما حكم من ترسله أمه ليأتيها بشيء من الحرام هل يأتيها به أم لا؟ وهل هذا من البر المتفق عليه؟ A لا، وعليه أن ينصحها وينهاها عن استعماله، ويخبرها أنه مما لا يحل لها، فإذا أثر فيها وقبلت فإنه يثاب ثواباً عظيماً، وإن نهى فلم يطع ولم يسمع له، فقد فعل ما أمر به، ولا إثم عليه حينئذ في استعمالها هي.

مشروع الواحات يدخل في المعاملات المحرمة

مشروع الواحات يدخل في المعاملات المحرمة Q ما حكم الشرع في التعامل مع هيئة تابعة لوزارة التنمية الريفية والتي تسمى بمشروع تنمية الواحات، وهو مشروع ينشئ رابطات في الواحات التي تستفيد منه؟ A هذا المشروع كغيره من المشروعات إذا قامت على العقود الربوية -كضمان بجعل، وكالقرض بشرط دفع مسبق لجزء من التموين- فهو محرم، وهو عقد ربوي يجب الخروج منه، وقد اطلعنا على بعض مشاريع الواحات فوجدنا فيها هذه الشروط المحرمة، فهم يشترطون أن يدفع مال من قبل في حساب معين في بنك معين، ثم بعد ذلك يزيدونهم عليه قرضاً.

حكم جمع التعظيم في الدعاء

حكم جمع التعظيم في الدعاء Q هل صحيح أن جمع التعظيم في الدعاء منهي عنه؟ A جمع التعظيم إذا كان معناه الضمير الذي يدعو به الإنسان فليس منهياً عنه، بل كان أكثر دعاء أبي بكر في سجوده: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، لكن لا يقصد الإنسان بها تعظيم نفسه، بل يقصد به نفسه وإخوانه ومن يدعو له من المسلمين، بل الإنسان إذا دعا وقصد بذلك دخول جميع الداعين معه شمل هذا دعوة جبريل وميكائيل وغيرهما من المقربين، وهذا الدعاء الذي لا يرد.

حكم الدعاء بالقرآن في السجود

حكم الدعاء بالقرآن في السجود Q ما حكم الدعاء بالقرآن في السجود؟ A يجوز إذا لم يقصد به تلاوة القرآن، وإنما قصد الدعاء، فلذلك ما كان من أدعية القرآن تجوز قراءته في السجود لقصد الدعاء.

حكم النظر إلى ما يبدو من شعر المرأة

حكم النظر إلى ما يبدو من شعر المرأة Q هل ما يبدو على وجه المرأة من شعر رأسها يحرم النظر إليه؟ A نعم، شعر رأس المرأة لا يحل النظر إليه، وهو عورة.

التعصب ابتعاد وابتداع في الدين

التعصب ابتعاد وابتداع في الدين Q هل المتعصب للمذهب المالكي مثلاً متقيد بالشرع، وهل يجوز اتباع ما ظهر لشخص صحة دليله؟ A أن ما ظهر لشخص صحة دليله لا يجوز فقط اتباعه بل يجب؛ لأن العمل بالراجح واجب لا راجح، والتعصب حرام وهو معصية شنيعة، وهو أيضاً جهالة بالدين، فإن التعصب معناه أن يدعي الإنسان أن غير المعصوم معصوم، وهذا غاية الابتعاد والابتداع في الدين، فلذلك لا يحل التعصب بوجه من الوجوه. والمذاهب طرق من طرق الخير للاستفادة من النصوص الشرعية، وفيها الخطأ والصواب، وما كان فيها من صواب، لا يحملنا كونه من اجتهاد فلان من الناس أن نتركه، وما كان فيها من خطأ، لا يحملنا كونه من اجتهاد فلان من الناس أن نعمل به، بل نأخذ الصواب الذي عرفنا صحته، ونترك الخطأ الذي عرفنا خطأه.

نبذة عن الإمام مالك

نبذة عن الإمام مالك Q هل من نبذة عن الإمام مالك بن أنس ودعوته وجهاده؟ A أن الإمام مالكاً هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك أبي عامر بن الحارث بن عمرو بن غيمان بن خثيل بن الحارث بن عمرو وهو ذو أصبح الأصبحي الحميري من حلفاء بني تيم بن مرة، كان أجداده أحلاف لـ طلحة بن عبيد الله، وقد تربى في المدينة وتعلم فيها، ولم يخرج منها إلا إلى الحج، وكان إمام زمانه دون مدافع، وقد فسر الذين عاصروه من أتباع التابعين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الناس آباط الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة) أن المقصود بذلك الإمام مالك بن أنس، وقد شهد له أهل زمانه بالإمامة في دين الله، وروي عنه بعض أشياخه كـ يحيى بن سعيد ومحمد بن شهاب الزهري وغيرهما، وروى هو عن أكثر من تسعمائة من التابعين، وروي عنه أكثر من ألف، وألف الموطأ الذي هو أقدم كتاب لدى المسلمين، قال فيه الشافعي رحمه الله: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مالك.

فرصة العمر

فرصة العمر الإنسان في هذه الدنيا مأمور باستغلال حياته في طاعة الله عز وجل، ومأمور بأن لا يضيع عمره فيما لا طائل تحته، فالعمر فرصة لا تعوض، فإذا ما انقضت وذهبت ندم من لم يستغلها في طاعة الله عز وجل حين لا ينفع الندم. فالله الله في اغتنام الأوقات، وإعمارها بالحسنات، ومباعدة أهل الفجور والسيئات.

العمر الشخصي للإنسان وكيفية استغلاله في الطاعة

العمر الشخصي للإنسان وكيفية استغلاله في الطاعة الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان حياتين: إحداهما هي هذه الدار التي هي دار عمل ولا جزاء، والأخرى هي دار الآخرة التي هي دار جزاء ولا عمل. وجعل الإنسان يبدأ بهذه الدار الدنيا التي اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو لقربها، أو مشتقاً من الدناءة؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة. جعل الإنسان يبدأ هنا بهذه الدنيا ليتزود للدار الآخرة، وجعل هذه الحياة الدنيوية إنما هي ورد وعرض زائل، وجعل الدار الآخرة هي الحيوان، أي: الحياة المتجددة الباقية. وأتاح للإنسان ثلاث فرص للنجاح في الامتحان، هذه الفرص هي التي يمكن أن نسميها أعماراً. فالعمر الأول: عمر الإنسان الشخصي الذي يبدأ من النفخ فيه، نفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، كما في الحديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد). فمن هنا يبدأ عمر الإنسان الشخصي، وينتهي بقبض الروح منه، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2]. وهذا العمر ما يعمل الإنسان فيه من خير وشر فإنه يجده يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30]، وهذا العمر أمده مجهول، لا يدري الإنسان متى يناديه منادي الله، لكنه يعلم أنه إذا ناداه فلن يتأخر لحظة، ويعلم أنه إذا ناداه منادي الله فلن تتاح له فرصة للتأخر، لكنه لا يدري متى يناديه المنادي. ومن هنا فإن على الإنسان أن يجتهد قبل أن يناديه المنادي إلى الدار الآخرة للنجاة، عليه أن يجتهد في عمره هذا ليتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يكون وسيلة سعادته يوم القيامة يوم العرض على الله، وهذا العمر المحدود في علم الله المجهول لدى الإنسان يعتري الإنسان فيه كثير من الشواغل والصوارف التي تحاول فتنته وصرفه عن استغلال هذا العمر فيما يرضي الله، ومع ذلك فهذا العمر ثمين جداً، وهو رأس المال، والإنسان فيه محتاج إلى أن يستغله أبلغ استغلال، ولا يمكن أن يسعد إذا أهمل هذا العمر الذي هو طريق نجاته وطريق سعادته، فإما أن يستغله الاستغلال الصحيح فيتغلب على الشواغل والصوارف التي تصرفه عن هذا الاستغلال، وهذا هو النجاح الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالربح في قوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً تجاراً، لكن منهم من ينجح في تجارته فيربح، ومنهم من لا ينجح في هذه التجارة، فالعمر هو رأس المال، بمثابة الدراهم التي لدى الإنسان يقضي بها حاجته، كما قال الحكيم: والعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي به حاجاته فكل أربع وعشرين ساعة هي محطة من محطات العمر، تنادي كل دقيقة من دقائقها إذا لم تستغل: قد ضاعت منك فرصة يا ابن آدم. لأنه بالإمكان أن يقول الإنسان في كل لحظة منها: لا إله إلا الله، فيجدها وقت الحاجة إليها، وهو يعلم أنه سيحال بينه وبين ذلك، فإذا مات وأخذت روحه فإنه لن تتاح له الفرصة بعد ذلك ليقول: لا إله إلا الله. ومن هنا فإن هذه الصوارف والشواغل إذا اتبعها الإنسان سيتمنى على الله الأماني، وسيغره الشيطان ببقائه في هذه الدنيا ويوسوس إليه ويخيل إليه أنها دار بقاء وأنه مستمر فيها، ولذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الشيطان يعقد على قافية رأس ابن آدم ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم) يريد أن يحول بينه وبين ما يقربه إلى الله من الطاعة، فيحاول أن تمضي الأوقات في المعصية، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلاً حاول أن تكون فارغة لا للإنسان ولا عليه، وهذا هو غاية الخسران؛ لأن هذه الساعات إذا لم تشحن بالطاعة فإما أن تشحن بالمعصية -نسأل الله السلامة والعافية- فتكون حسرة ووبالاً، أو تمضي فارغة ليس فيها فائدة، فيكون الإنسان قد قامت عليه الحجة، وأنعم الله عليه بنعمة التعمير، ويناديه يوم القيامة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].

عاقبة من لم يستغل عمره في طاعة الله

عاقبة من لم يستغل عمره في طاعة الله إن هذا العمر هو أغلى ما يمتلكه الإنسان، وعليه أن يعلم أن كل لحظة يعيشها في هذه الدنيا هي حجة قائمة عليه لله، وأن كل وقت يمضيه فيها إذا لم يستغله في طاعة الله فهو خسران عظيم، لهذا فقد أخبرنا الله في كتابه أن الناس يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت، فمن ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11]. وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، وفي الآيات من خواتيم سورة الزمر يقول الله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر:56 - 58] أي: رجعة إلى هذه الدنيا، {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]. فهذا العمر يندم الإنسان على ما مضى منه إذا عمر وطال به العمر، فتذكر السنوات التي مضت ولم يستغلها في طاعة الله، وتذكر أنه كان في عافية وفراغ وأن ذلك قد زال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ). وتذكر أن ساعات طويلة كان يمضيها في غير طائل هي الآن في كفة السيئات وليست في كفة الحسنات، والميزان يوم القيامة ليس له إلا كفتان، فإذا تذكر الإنسان هذا ندم على ما أسرف وعلى ما مضى من عمره بغير طائل، وكذلك إذا قبضت روحه فبدا له أمر الآخرة، عندما يوضع في قبره ويوضع تلك الضجعة التي يبدو له فيها من الله ما لم يكن يحتسب، كما قال الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، ونقل إلى القبر الذي إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرة من حفر النار، وهو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، كل مرحلة بعد القبر تنسي التي قبلها، وهو ينسي كل ما مر على الإنسان في هذه الدنيا. ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة. في هذه الليلة التي يبيت فيها الإنسان في القبر ولم يبت مع الموتى قبلها سيستحضر أنه كان في هذه الدنيا وأتيحت له الفرصة للنجاة، ولكنه فرط وقصر، فلهذا يقول أمثلهم طريقة: إن لبثتم إلا يوماً. يستقل ما أمضاه في هذه الدنيا من العمر، ويرى أنه وقت يسير جداً. كذلك الندم الآخر عندما تعرض عليه صحائفه ويتذكر أنه كتبت أعماله كلها، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]. إذا عرضت عليه هذه الصحائف فرأى أنه قد أتيحت له فرصة وعمر في هذه الدنيا، وكان بالإمكان أن يكون من الفائزين الناجحين الذين رجحت كفة حسناتهم على كفة سيئاتهم، وهو يرى تطاير الصحف، ويرى وزن الأعمال، ويرى مثاقيل الذر توزن بها الحسنات والسيئات، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. إذا رأى ذلك فسيندم، كما قال الشاعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا ولهذا فإن تذكر الإنسان للموت مما يعينه على صرف الشواغل التي تشغله عن استغلال العمر في طاعة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها؛ فإنها تذكركم الآخرة).

عوامل تعين على استغلال العمر في الطاعة

عوامل تعين على استغلال العمر في الطاعة والإنسان محتاج إلى أن يتذكر ساعة الانتقال وهو محمول على الرقاب إلى الدار الآخرة، وإذا تذكر ذلك فإن هذا مدعاة لأن يستغل هذه الفرصة قبل أن يحمل على الرقاب، يستغلها فيما ينجيه ويقربه، وهو يتذكر أحوال أولئك الذين ساروا وانقطعوا عن هذه الدنيا وانتقلوا وتركوا ما خولهم الله وراء ظهورهم ولم يصحبوا منه شيئاً، كما قال تعالى: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]. يتذكر حال أولئك وهو يعلم حرص كثير منهم، وأنهم اليوم في قبورهم يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا لحظة واحدة ليحسنوا العمل ويبدلوا ما كانوا يعملونه من شر ويغيروه ويتوبوا إلى الله، فيحسنوا فيما بقي من هذه الدنيا. ولهذا فإن كثيراً من الصالحين كان يتصور نفسه محمولاً على الرقاب إلى الدار الآخرة، فيبادر غاية المبادرة لاستغلال بقية العمر، وبعضهم كان يحفر قبراً أمامه حتى يراه، ويستحضر أن هذا القبر هو الذي سيدفن فيه، فيبادر لاستغلال الفرصة قبل أن يدفن في هذا القبر، وكذلك بعضهم كان يستحضر قصص السالفين الذين أدرك موتهم، فالإنسان يشهد كثيراً من الناس قد حسنت خواتمهم، وانتقلوا من هذه الدنيا انتقالاً مشرفاً، ويشهد آخرين -نسأل الله السلامة والعافية- قد أخذوا في حال الغفلة، قد جاءهم الموت في الوقت الذي لا يرتضون مجيئه فيه، فانتقلوا وهم منغمسون في أوساخ الدنيا ووحلها وما فيها، وهم في غفلة كاملة عما أمامهم، فإذا جاء الموت ارتفع عنهم هذا، وصاروا كأنما كانوا في غفلة شديدة، فأزيل الغشاء عن أبصارهم، كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]. ولقد صح أن كثيراً منهم كانوا إذا ذكروا ذلك الحال وتذكروا خواتم الناس وانتقالهم يشعرون بزاد يتزودون به، ويشعرون بقوة خارقة فيما يتعلق بعبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته، فيجدون وقوداً ينطلقون به في طريقهم. حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه حجته الأخيرة في حياته، فلما خرج من مكة وقف على جبل اسمه (ضجنان)، فقال: (لا إله إلا الله وحده! كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت. وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش. ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه. ثم أنشأ يقول: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا وكذلك فإن كثيراً منهم كان إذا أحس بالغفلة انتسب، أي: ذكر من مضوا من أسلافه، فوجد أن كل من سبقه من أفراد أسرته ومن عمود نسبه قد انتقلوا إلى الدار الآخرة، وأنه هو قد بقي على الأثر، فإما أن ينتقل في الصباح أو في المساء وهو سائر على طريقهم، فيعينه هذا على استغلال الفرصة قبل فوات الأوان، ولقد صدق القائل: هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب وقال آخر: ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا يا من لشيخ قد تطاول عهده وأفنى ثلاث عمائم ألوانا سوداء حالكة وسحق مفوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا

أعداء وموانع تشغل الإنسان عن استغلال عمره في الطاعة

أعداء وموانع تشغل الإنسان عن استغلال عمره في الطاعة إن فرصة التعمير في هذه الدار فرصة لا تعوض، والشواغل التي تشغل الإنسان وتجعله يضيع عمره في غير طائل كثيرة جداً، من أعظمها خمسة، هي أعداء الإنسان التي تحيط به.

العدو الخامس: مفاتن هذه الدنيا وشهواتها

العدو الخامس: مفاتن هذه الدنيا وشهواتها إن للدنيا زخرفاً يجذب النفوس، وتميل وراءه العيون والطباع، وهذا ما نبه الله عليه في قوله: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132]. ونبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطر هذه الدنيا ومفاتنها فيما أخرج عنه البخاري ومسلم في الصحيحين أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت). فهؤلاء الأعداء الخمسة الذين يحيطون بالإنسان، وهم الشواغل التي تصرف الإنسان عن أن يستغل عمره وأن ينتهز الفرصة لإنقاذ نفسه ولنجاته من الموقف عندما يعرض على الله. ولذلك يقول المختار بن بُنى رحمه الله تعالى: للإنسان شيطان ونفس وحظها ودنيا وإخوان حميتهم خطر ولله فضل لا يزال ورحمة ومنّ وتوفيق وعفو لمن وزر إلهي اكفنا الخمس التي في اتباعها هلاك وعاملنا بخمستك الأخر ثم إن فوات الأوان يأتي بالتدريج والتقصير؛ لأن العمر لا يراه الإنسان وحدة متكاملة، وإنما هو أيام وليال وساعات وثوان تمضي بالتدريج، وكل يوم يمر هو عمر بكامله ينقضي؛ لأن أمس الدابر أمره لا يعود، بل يختم على عمله. ولهذا ينادي المنادي إذا انصدع المنذر وقت طلوع الفجر فيقول: يا ابن آدم! إن أمسي قد ذهب بما فيه، وختم على أعمالي، وإنك أمامك الغد فاجتهد فيه. ولهذا يقول أحد العلماء: أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح وعساه لا يمسي واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صحيفة الأمس فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام بصورة الشمس وهذا التدريج الحاصل في الوقت بين الله سبحانه وتعالى حكمته في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:61 - 62]، فالليل والنهار جعلهما الله تعالى خلفة يتعاقبان، فمن لم يزعه النهار ولم يذكره بالتوبة فإن الليل كفيل بذلك، ومن لم يزعه الليل ولم يذكره بالتوبة فإن النهار كفيل بذلك، والله سبحانه وتعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.

العدو الرابع: الأهل والأموال والأقارب

العدو الرابع: الأهل والأموال والأقارب إن الإنسان قد يلهى بهم ويشغل فيفتن بهم، كما قالت الأعراب: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11]، والله سبحانه وتعالى حذر من أن بعض هؤلاء من هو عدو للإنسان، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]. والله تعالى يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، وعلى هذا فكثيراً ما يبتلى الإنسان بما يشغله عن ذكر الله من الأهل والأموال، فيكون ذلك ملهاة له عن ذكر الله، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، قد خسروا لأن العلاقة بهؤلاء منقطعة يوم القيامة، والمتاع في هذه الدنيا قليل يسير؛ لأنها دار الغرور، ولذلك فبقاء الإنسان مع أهله وماله في هذه الدنيا محصور، وانتفاعه منهم يسير، وهو منتقل إلى دار البقاء والخلود، فلهذا عليه أن لا يغتر بوجود هؤلاء.

العدو الثالث: إخوان السوء

العدو الثالث: إخوان السوء هم الذين لا يعينون الإنسان على دين ولا دنيا، وهم أخلاؤه الذين يشغلونه عن طاعة الله، ويلهونه بما لا يرضي الله، فهم أعداء له يقتطعون جزءاً من وقته في غير طائل، ولذلك قال الله تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. ويقول تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29]. والإخوان ثلاثة أقسام: القسم الأول: أخ كالغذاء لا تستغني عنه أبداً، وهو الذي يعينك على أمر دينك ودنياك. القسم الثاني: أخ كالدواء تحتاج إليه في بعض الأحيان، ولكن لا ينبغي أن تكثر منه، وهو الذي يعينك على أمور دنياك فقط. القسم الثالث: أخ كالداء، لا يعينك على دين ولا على دنيا، وإنما يقتطع جزءاً من عمرك فيضيعه عليه. ولهذا يقول أحد العلماء: الناس منهم دواء فاتخذه له إليه تحتاج أحياناً فأحيانا ومنهم كالغذاء الدهر تطلبه فلست عنه غنياً أينما كانا وكم أخاً لست محتاجاً له أبداً كالداء يشقى به الإنسان أزمانا

العدو الأول: الشيطان الرجيم

العدو الأول: الشيطان الرجيم قال الله فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6]. ومشكلة الشيطان والناس أن الناس يصدقون الخبر ولا يمتثلون الأمر، فهذه الآية متضمنة لخبر وأمر، فقوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] هذا خبر يصدقه كل الناس، والأمر: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6]، هذا أمر لا يعمل به إلا قليل من الناس، فإذا تذكر كل واحد منا أن الشيطان عدو له علم أن العدو لا بد أن يبذل الإنسان في سبيل عداوته شيئاً؛ إذ لا يمكن أن تستشعر أن هذا الشخص عدو لك ولا تبذل أي شيء في سبيل عداوته وضرره. إن عداوتك للشيطان هي بعداوتك لآرائه وما يلقيه عليك، ووسوسته وشبهه، وكذلك بعداوتك لحزبه الذين يصدون عن سبيل الله.

العدو الثاني: النفس الأمارة بالسوء

العدو الثاني: النفس الأمارة بالسوء قال الله فيها: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]. والنفوس التي تجبل على طول الأمل وعلى العدول إلى الراحة والطمأنينة تغر الإنسان بنفسه، وتجعله يضيع الفرص النادرة، فهي عدو من هذا القبيل، ولهذا حذر الله من غوائلها، وحقوق النفس على الإنسان ثلاثة: هي الانتصار منها للغير، وترك الانتصار لها، والخوف من غوائلها. ثلاثة حقوق من جمعها أدى حقوق نفسه. أولها: ترك الانتصار لها، فإذا زينت لك أنك قد اعتدي على حقوقك، وأنك لا بد أن تدافع عن نفسك وأن تأخذ حقك كاملاً فاعلم أن هذا هو عين الغرور، وأنها إنما تغرك بذلك، فهذا غرور وليس صواباً ولا حقاً، فلا تصدقها في ذلك. ثانيها: الانتصار منها للغير، أن تأخذ منها الحقوق للآخرين كاملة غير منقوصة، وإذا لم تفعل ذلك كنت مطففاً، والله تعالى يقول: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1 - 6]. وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: يقال: لكل شيء وفاء وتطفيف. أي: كل شيء أياً كان فيه وفاء وتطفيف.

عمر الدنيا وحتمية انقضائها ونهايتها

عمر الدنيا وحتمية انقضائها ونهايتها العمر الثاني بعد العمر الشخصي هو عمر هذه الدنيا التي لها نهاية حتمية لا بد منها، ومشكلتها أن نهايتها مثل نهاية العمر الشخصي بغتة: {لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف:187]. لكننا نعلم أن الإنسان إذا طلعت عليه الشمس من مغربها -ولا يدري متى تطلع- لا يمكن أن يستفيد من عمل إذا كان مقصراً، كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158]. فعمر هذه الدنيا فائدته أن الإنسان يقدم فيه لنفسه ويتوب ويستغفر ما دام باب التوبة مفتوحاً، وهو باب من قبل المغرب، فإذا طلعت منه الشمس أغلق هذا الباب فلم تقبل توبة أحد. ولهذا فإن هذه الدنيا فانية، وهي ذاهبة منطلقة، كما قال علي رضي الله عنه في خطبته: (هذه الآخرة قد أقبلت، وتلك الدنيا قد أدبرت، فليتذكر الإنسان أنه اليوم في آخر هذه الدنيا في آخر الأمم). وقد مضت الأمم كلها قبلنا وجئنا على الأثر، فنحن اليوم لا ننتظر إلا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه عنه الترمذي في السنن في قوله: (بادروا بالأعمال ستاً: فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، لهذا فإن فرصة هذه الدنيا فرصة لا تعوض، فعندما يؤتى بالناس فينادي المنادي في الناس: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويجتمعون في الساهرة، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، وتحيط بالناس من كل جانب، وتدنو الشمس ميلاً، ويتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، حينئذ يعرف الإنسان أن هذه الدنيا كانت نعمة عظيمة؛ لأنها الوقت المتاح للعبادة، ولأن الآخرة لا يطلب من الإنسان فيها عمل، ولذلك فإن نعمة وجودنا في هذه الدنيا نعمة لا بد من استحضارها والسعي لاستغلالها في الوجه الصحيح، فهي فرصة لا تعوض، ونحن لا ندري متى تطلع الشمس من مغربها ويغلق باب التوبة، ولذلك علينا أن نبادر بالتوبة كما أمرنا الله سبحانه وتعالى حيث قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وفي قوله: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54]، وكذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].

عمر التمكين وكيفية استغلاله

عمر التمكين وكيفية استغلاله العمر الثالث: هو عمر التمكين. فإن الله سبحانه وتعالى أتاح لنا في هذه الدنيا كثيراً من الإمكانات، التي مكن لنا فيها، ولها أعمار محددة كأعمارنا نحن وآجالنا. للإنسان جوارح هو ممتع بها اليوم، لكن لها آجال تنتهي إليها، فهذا البصر له أجل ينتهي إليه، سواءٌ أكان ذلك الأجل بالموت أم بما قبله، فكم من إنسان نام على فراشه ممتعاً بسمعه وبصره ثم استيقظ وقد أخذ الله بصره، أو أخذ سمعه، أو شل جهازه العصبي فاستيقظ وهو لا يتصرف في شيء من بدنه. إن نعمة التمكين في هذا البدن نعمة عظيمة، نعمة التصرف، ولا يدركها إلا من رأى الآخرين يسلبون هذه النعمة، من رأى أن أقواماً كانوا أقوى منه أبداناً وأبلغ عناية بصحتهم، ومع ذلك ينام أحدهم يتقلب على فراشه يميناً وشمالاً معافىً في بدنه فيستيقظ وليس به حراك، أو يستمر في نومته تلك فيزايله عقله إلى أن يموت، إنها نعمة عظيمة، نعمة العقل والجوارح، ولها آجال محددة، فعلى الإنسان أن يستغلها فيما يرضي الله قبل زوالها، وبئس العبد الذي لا يعرف النعمة إلا بزوالها، لا يعرف النعمة بدوامها وإنما يعرفها بزوالها. كذلك فإن ما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه مما جعل تحت أيدينا من الأموال والوظائف والعلاقات له آجال محددة؛ لأن الإنسان قد يعين في وظيفة وفي علم الله أن لتلك الوظيفة أجلاً مسمى، فإذا لم يبادر لاستغلالها فيما يرضي الله فستكون عليه حسرة وندامة، ويخرج منها صاغراً، وكذلك فإن ما يجعله الله تحت أيدينا من الأموال له آجال محددة؛ لأن المال مال الله ليس مال الناس، والإنسان فيه وكيل ينتظر العدل في كل حين، ولهذا قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وعدله إما بموته، أو بإزاحة ماله، أو بفرض الحصار عليه، أو بفرض الحجر عليه بأن يفلس، كل هذا ممكن، ونحن نشاهده ونراه في كثير الناس، وإذا علمنا ذلك وأيقناه وشاهدناه فإن هذا مقتض منا أن نستغل ما جعل الله تحت أيدينا، وأن ننتهز الفرصة ما دام ذلك ممكناً. كذلك العلاقات التي يهبها الله لمن شاء من عباده لها آجال محددة، والله يسأل عن صحبة ساعة، فالساعة التي تمضيها جالساً إلى شخص أياً كان هي علاقة حصلت بينك وبينه، إذا لم تؤد حق الله فيها وتنصح وتأمر بالمعروف وتنه عن المنكر فقد ضاعت هذه الفرصة وانتهت، ويمكن أن لا تلتقي مع هذا الشخص أبداً. ولله عينا من رأى من تفرق أشت وأنأى من فراق المعصب فريقان منهم سالك بطن نخلة وآخرُ منهم جازع كبكب فجلوسنا يمكن أن يعقبه افتراق إلى غير رجعة، وعلى هذا فمن حق الله علينا إذا جلسنا أن يذكر بعضنا بعضاً في ذات الله، وأن ينصح له، وأن لا تفوت هذه الفرصة، وأي ساعة يسأل الله عنها إذا استغلت في غير طائل، فكم عرف كل واحد منا من الأصدقاء الذين صحبهم زمناً وقد حال الموت بينه وبينهم، ولا يتذكر أنه قد أدى إليهم حق النصيحة في يوم من الأيام ولا في ساعة من الساعات! وهم خصومه يوم القيامة، فيجادلونه بين يدي الله: رأيتنا على كذا فلم تنهنا. فلذلك علينا أن نستغل هذه الفرص، وأن لا ندعها تضيع. ثم بعد ذلك فإن مما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه ما نجده في حياتنا هذه من الاتساع والطمأنينة والأمان الذي يوشك أن يتغير، وأحوال الدنيا غير ثابتة، فهي متغيرة لا محالة، هي عرض سيال جار، ومن هنا فكل ما فيها متغير، فعلينا أن ننتهز فرص ما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه، وأن نعلم أن له أعماراً محددة ينتهي إليها، ولهذا فلنتذكر الصوارف التي تشغلنا ونحاول التغلب عليها. وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن مما يكفر السيئات وترفع به الدرجات انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، وكثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، لكنَّ قليلاً منا من يستطيع انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، مع علمه بما أعد الله لمن فعل ذلك، ويعلم أن الملائكة تصلي عليه في مجلسه تقول: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه. ودعاء الملائكة مستجاب. كثير منا تعترضه الأشغال وتأتيه الوساوس والأوهام الصارفة له عن اغتنام هذه الفرص، مثل الجلوس ما بين صلاة المغرب والعشاء فقط، وهو وقت يسير ومحصور، مع علمه بحاجته إلى دعاء الملائكة، كل واحد منا اليوم إذا رأى أي مسلم من المسلمين يظن به الخير يحاول أن يستخلص منه دعوة صالحة لعله يستجاب لها، فكيف بدعاء الملائكة المقربين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ إنها فرص عظيمة تفوت وتزول دون أن تستغل، وإن الإنسان إذا جلس يحاسب نفسه على هذه الفرص النادرة سيجد خسارة عظيمة لا تقدر بثمن، إن عمر التمكين هذا يزول بالتدريج والتقصير، فما ينتقص من بصرك لا تشعر به إلا إذا وصلت إلى حد المعاناة في القراءة مثلاً، أو في إدراك الأشياء، وهكذا ما ينتقص من رزقك، وما ينتقص من كل ما جعل الله تحت يدك يأتي انتقاصه بالتدريج والتقصير. ولهذا يمكن أن تكون قد بدأت بالعد التنازلي وأنت لا تشعر، كما قال الله تعالى: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185]، فعلى الإنسان أن يبادر، وأن ينتهز هذه الفرص قبل فوات الأوان، وأن يعلم أن الرشيد العاقل هو الذي إذا جاءه النذير وفهم وتدبر استفاد من ذلك، أما من لا يتعظ ولا يعتبر، أو إذا سمع الموعظة والعبرة تذكرها في وقت السماع ثم انصرف ونسيها ولم تؤثر في عمله فهذا ليس صاحب عقل ولا صاحب إيمان؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. ولذلك فإن حاجة الإنسان إلى الذكرى هي مثل حاجته إلى الغذاء والماء.

أقسام الناس في التذكر والذكرى

أقسام الناس في التذكر والذكرى والناس في سبيل الذكرى ينقسمون إلى أربعة أقسام: القسم الأول: قوم لا يستطيعون تحمل الذكرى ولا سماعها بالكلية، ولذلك يكرهون المواعظ ويكرهون سماعها، وهؤلاء هم الكثرة الذين قال الله فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51]، فهم يفرون من الذكرى كما يفرون من الأسد، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفَرَةٌ} [المدثر:50]، وفي قراءة أخرى: {مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر:50] أي: قد نفرت من تلقاء نفسها، أو نفرت فأسرعت {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:51] أي: من أسد. القسم الثاني: الذين يسمعون الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى قلوبهم؛ لأنه قد انقطع البث بين الأذن والقلب بسبب الختم الذي ختمه الله على القلوب، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16]. القسم الثالث: قوم يُفصِّلون في الذكرى، فيستطيعون سماعها من بعض الناس لأنه يعجبهم، ولا يستطيعون سماعها من آخرين لأنهم ليسوا على المستوى الذي يعجبهم ويناسبهم، وهؤلاء الذين في قلوبهم مرض فيريدون التفصيل، من أعجبهم شكله أو نسبه استطاعوا أن يتحملوا منه أو يسمعوا، وهنا لم يستمعوا إلى الذكرى وإنما استمعوا إلى الأشخاص، ولذلك قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 - 32]. القسم الرابع: قوم يسمعون الذكرى من أي طرفٍ صدرت، فيستفيدون منها، ويستغلون ذلك الاستغلال الصحيح، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:9 - 10]، فالذين يخشون الله هم الذين سيذكرون، {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:10 - 13]، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان:73]، وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]، وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]، وقال تعالى: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فهؤلاء هم المستفيدون من الذكرى الذين ينتفعون بها. نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يجعلنا من الذين ينتهزون الفرص قبل فوات الأوان، وأن يجعلنا من الذين لا يندمون حين يندم الناس حيث لا ينفع الندم، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، ونسأله سبحانه وتعالى الفرح عند لقائه. اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اختم بالحسنات آجالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم! وفقنا لما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق واصرف عنا سيئها، لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا أنت، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تكفير المسلمين وشروط تكفير المعين

حكم تكفير المسلمين وشروط تكفير المعين Q بعض العلماء ينكرون على الدعاة ويكفرونهم -حسبنا الله ونعم الوكيل، فما جواب ذلك؟ A تكفير المسلم خطره عظيم جداً، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، وقال: (تكفير المسلم كقتله)، وقال: (إن قال الرجل لأخيه: كافر فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه) وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التكفير تحذيراً بالغاً، ولذلك لا يحل تكفير المسلمين، وعلى المسلم أن يتقي الله، ويعلم أنه إذا كفره وهو غير كافر في علم الله فقد رجعت عليه وحارت عليه، ويكون هو كافراً، نسأل الله السلامة والعافية، ولهذا فالتكفير صعب جداً. والتكفير المعين يشترط له سبعة شروط: الشرط الأول: أن لا يكون من قال الكفر أو فعله مكرهاً عليه؛ لقول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. الشرط الثاني: أن لا يكون جاهلاً؛ لقول الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، ولم يقل: إنكم قوم تكفرون. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر على شجرة كانت تدعى في الجاهلية (ذات أنواط)، فقالوا: (يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفس محمد بيده- ما قال أصحاب موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، ولم يكفر أحداً منهم. الشرط الثالث: أن لا يكون الإنسان مقلداً إذا جرت عليه العادة في بلده، فإن وجد الناس على شيء لا ينكرونه ففعله أحدهم -ولو كان ذلك كفراً- فإنه لا يكفر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله)، وسمع عمر يحلف بأبيه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم، فمن حلف بغير الله فقد أشرك)، ومع ذلك لم يكفر أحداً بهذا الحلف. الشرط الرابع: أن لا يكون مغطىً على عقله مغلوباً عليه، فإن كان مغطىً على عقله مغلوباً عليه فإنه لا يكفر بذلك؛ لقصة الرجل التي قصها لنا النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً كان عاصياً، فلما دنا أجله جمع أولاده وأخذ عليهم العهود والمواثيق إذا هو مات أن يحرقوا جثته وأن يقسموا رماده نصفين فيرموا نصفه في البر ونصفه في البحر، قال: فلإن قدر الله علي ليعذبنني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين - يشك في قدرة الله -. فلما مات فعلوا به ما أمر، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، فقام بشراً سوياً، فقال: إيه عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيت يا رب، فغفر له)، فهذا كان مغطىً على عقله بخشية الله وقت موته، فلذلك غفر الله له، مع أن ما قاله هو كفر. الشرط الخامس: أن لا يكون غالط اللسان، فإن غلط لسانه وقال الكفر من غير قصد فإنه لا يكفر بذلك؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أن آخر رجل يدخل الجنة يقول: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)، وكذلك في الحديث الذي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من أحدكم تكون معه راحلته وعليها زاده ومتاعه بفلاة من الأرض، فتنفلت منها فيتبعها، حتى إذا أيس من نفسه رأى شجرة فقال: لعلي أموت عندها. فبينما هو كذلك إذا راحلته عنده فأمسك بخطامها وهو يقول: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)، فهذا لا يكفر به. الشرط السادس: أن يكون الإنسان قد أقيمت عليه الحجة، فإذا لم تقم عليه الحجة فإنه لا يكفر؛ لقول الله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]. الشرط السابع: أن يثبت ذلك عليه؛ لأن التكفير حكم قضائي يحتاج إلى إثبات، فالمتأول الذي لا يقصد الكفر وإنما اجتهد فأخطأ لا يكفر بذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر). ثم إن على الإنسان أن يتهم نفسه فيمن يعاديه ويواليه، فالعداء والولاء أمران من أمور العقيدة، والله سبحانه وتعالى بين للمسلمين من يحق لهم أن يوالوه ومن يحق لهم أن يعادوه، فقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. وبين لهم من يعادونه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] إلى آخر السورة، وكذلك قال: {لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144]، وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. فإذاً الذي يعاديه الإنسان ويواليه معروف محصور، وعلى هذا فلا يحل للإنسان أن يعادي إنساناً آخر على أساس أنه يدعو إلى خير مثلاً، بل هذا حقه أن يواليه، وإذا أخطأ نصح له، كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فلا بد من تناصح المسلمين فيما بينهم. ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة الخضر) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن ما أخوف ما أخافه عليكم - أي: على هذه الأمة - ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا)، فإنها لم تفتح في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكرمه الله بأن لم يُرِهِ فتح الأمصار، وإنما أعطاه مفاتيح خزائن كسرى وقيصر، وأخبر أن خزائنهما ستنفق في سبيل الله، لكن أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لم ير ذلك، ولم ير الحضارة، ولم ير انفتاح أبواب الدنيا على هذه الأمة، فشرفه الله عن ذلك، فهو أكرم على الله من أن يعيش كما يعيش الناس في هذه الدنيا، ولهذا شرفه الله فلم تفتح هذه الفتوحات والخزائن التي وهبه الله إلا بعد موته. (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة) أي: إن هذه الدنيا بمثابة النبات، فهي خضرة حلوة، فهذا داع للازدياد منها، والإنسان الذي يجمع المال إذا غفل عن هدفه فإنه لن يكتفي، فهدفه في البداية هو الاستغناء عن الناس، فهو يريد أن يستعف بما يؤتيه الله، ويريد أن يتقرب إلى الله بما يتصدق به من ماله وبما يؤدي به الحقوق، يريد أن يتعز وأن لا يكون ذليلاً مسكيناً، لكنه يغفل عن هذا فيجمع فوق ما يكفيه لتحقيق هذه الأهداف، وما يزال يزيد على ذلك، فاثنان لا يشبعان: طالب الدنيا وطالب العلم، فطالب العلم لا يزداد من الله إلا قرباً، وطالب الدنيا لا يزداد من الله إلا بعداً. ومن هنا قال: (فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم)، أي: إن مما ينبت الربيع بسبب نزول المطر ما يقتل حبطاً -أي: انتفاخاً- يقتل البهائم بالانتفاخ. وقوله: (أو يلم) أي: يقارب ذلك، (إلا آكلة الخضر) هو نبات ليس من أعز النبات على الحيوانات البهيمية، ولكنه مع ذلك كاف من ناحية التغذية، ولهذا قال: (وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعة) أي: آكلة من الخضر (حتى إذا امتدت خاصرتها) أي: نالت كفايتها (حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت) أي: أخرجت بعض ما في بطنها (وبالت ثم رتعت بعد ذلك). وهكذا طالب الدنيا ينبغي أن يجعل لنفسه وقتاً للراحة من الجمع، وأن لا يجعل عمره كله كداً لا ينقطع، فإذا كانت العبادة التي يتقرب بها إلى الله ينبغي للإنسان أن لا ينقطع فيها ليله ونهاره، وأن لا يسرف فيها، فكيف بجلب الدنيا؟. يقول البخاري في الصحيح: حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي قال: حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، وقال صلى الله عليه وسلم: (

الفرق بين الدعاة إلى الجنة والدعاة إلى النار

الفرق بين الدعاة إلى الجنة والدعاة إلى النار Q بعض الناس لا يتقبل التذكرة من بعض الدعاة، بل يصفهم بأنهم دعاة على أبواب جهنم، فما حقيقة ذلك؟ A الجنة والنار لكل واحدة منهما دعاة يدعون إليها، فالدعاة الذين يدعون على أبواب الجنة هم الذين يدعون إلى الصلاة وبر الوالدين والصدقة وقراءة القرآن والاستغفار وغير ذلك، فهؤلاء دعاة على أبواب الجنة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة باباً هو باب الصلاة، وباباً هو باب الصدقة، وباباً اسمه: (الريان) لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوه أغلق فلم يدخل منه أحد)، فأبواب الجنة هي كبريات الطاعات. كذلك أبواب النار هي كبريات الفواحش والمعاصي، فللنار دعاة أيضاً يدعون إليها، كالذي يدعو إلى الزنا، أو إلى قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، أو إلى السفور والفجور، أو إلى السفور والاختلاط، أو إلى عقوق الوالدين، أو إلى ترك الصلاة، فهؤلاء يدعون إلى أبواب النار، وهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ لأنهم يدعون إلى هذه المعاصي التي هي أبواب النار. وحينئذ لا يمكن الالتباس بين الجانبين، فالذي يدعو إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا يمكن أن يقال: إنه من الدعاة إلى أبواب جهنم. لأنه يدعو على أبواب الجنة، والذي يدعو إلى الزنا وشرب الخمر والفواحش كلها لا يمكن أن يقال: إنه من الدعاة على أبواب الجنة. بل هو داع على أبواب النار، والفرق واضح، ولا يمكن أن يقع التباس بين الجانبين.

حكم دخول الرجل على جمع النساء للتعليم

حكم دخول الرجل على جمع النساء للتعليم Q ما حكم جمع النساء في مكان لتعليمهن وموعظتهن من قبل رجل ليس لهن بمحرم، وهل يعتبر هذا من الاختلاط غير المشروع؟ A صح: (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! أنا وافدة النساء إليك؛ فإن إخواننا من الرجال قد غلبونا عليك، فاجعل لنا يوماً من نفسك. فواعدهن يوم الخميس، فكن يجتمعن إليه فيعلمهن ويذكرهن، وكان مما قال: ما من امرأة يموت لها ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا كانوا لها ستراً من النار، فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: واثنين). وكذلك صح في الصحيحين: (أنه صلى الله عليه وسلم يوم العيد حين خطب ظن أنه لم يسمع النساء، فتوكأ على بلال فوقف على النساء فوعظهن وذكرهن، وقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من سطة النساء في وجهها سفعة فقالت: ولم يا رسول الله أيكفرن بالله؟! فقال: يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً. قالت: ما رأيت منك خيراً قط. فجعل النساء يتصدقن، وبسط بلال ثوبه فجعلن يرمين فيه ما معهن من الذهب). فهذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الأمور المشروعة، وهذا ليس اختلاطاً؛ لأن الاختلاط هو مماسة أجساد الرجال لأجساد النساء الأجانب أو الاقتراب من ذلك، والاختلاط محرم، ولكن ليس هذا منه؛ لأن هذا هو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه في التعليم، وقد كان أصحابه رضي الله عنهم يفعلون ذلك أيضاً، وهكذا السلف الصالح كلهم، سواء أكان بحائل أم بدونه إذا لم تخش الفتنة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهن وليس بينه وبينهن حجاب، كما ثبت في الصحيحين في الحديث الذي ذكرناه في خطبة العيد، وفي تدريسه لهن يوم الخميس، ولكن لا شك أن جعل الحاجز بين الإنسان وبينهن أحوط لعدم الريبة.

الأسباب التي تعين على التوبة

الأسباب التي تعين على التوبة Q ما يفعل من يريد التوبة ويحول دونها العوائق الدنيوية؟ A عليه أن يستعين بالمعينات التي تعين على التوبة، ومنها تذكر الآخرة، وصحبة أهل الخير، وعدم الإسراف في مشاغل الدنيا، وتعلم العلم، فهذه هي الأمور التي تعين على التوبة، فعدم الإسراف معين على عدم الغفلة، ويشمل ذلك سهره بعض الليل، وبعض العزلة، وكذلك مخالطته لأهل الصلاح والهداية، فإنها مقتضية لحصول المنافسة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وإذا رآه من أناس تذكر ما هم فيه وأنهم مقبلون على الله، فبمجرد رؤيتهم يزيده ذلك إقبالاً على الله سبحانه وتعالى.

الإنسان بين الخاطر الإلهي الملكي والخاطر الشيطاني النفسي

الإنسان بين الخاطر الإلهي الملكي والخاطر الشيطاني النفسي Q ما الفرق بين أمر النفس بالسوء. وأمر الشيطان الذي يأمر بالسوء أيضاً؟ A الخواطر التي تعتري الإنسان أربعة أقسام: خاطر إلهي -أي: رباني-، وخاطر ملكي -أي: لمة الملك-، وخاطر شيطاني، وخاطر نفساني. فهذه أربعة أقسام. فالخاطر الرباني هو ما يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب عبده المؤمن، ولا يكون إلا خيراً، وهو غير متذبذب، وينال الإنسان بأدائه سعادة عظيمة، ويستشعر فرحاً عظيماً وراحة قلبية عجيبة، وذلك عندما يؤدي هذا الذي ألقي في قلبه أن يفعله، فينام الإنسان على فراشه فيستيقظ وقد ذهب الكرى من عينيه بالكلية، فيأتي خاطر في قلبه أن يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين يعفر وجهه لله في هذا الوقت الذي قد شغل الناس فيه عن طرق باب الله، منهم من شغل بالنوم، ومنهم من شغل بالغفلة، ومنهم من شغل بالكفر، ومنهم من شغل بالمعصية، فيستفتح هذا الباب فيفتح له، كما قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً. فهؤلاء استشعروا عظم هذا الموقف حين أذن لهم بطرق هذا الباب الذي لم يؤذن بطرقه لكثير من الناس، استشعروا طعم صلاة الليل والناس نيام، واستشعروا الإقبال على الله سبحانه وتعالى بقلوب مطمئنة، فلذلك كانوا أهل الله سبحانه وتعالى وخاصته في هذا الوقت وأهل المناجاة والقرب.

مراتب استشعار النعمة وشكرها

مراتب استشعار النعمة وشكرها Q كيف يستشعر الإنسان نعمة الله عليه، وما شكر النعمة؟ A استشعار النعمة بثلاث رتب: الرتبة الأولى: أن ينظر الإنسان إلى هذه النعمة فيقر بها ويعرفها بوجودها لا بزوالها. الرتبة الثانية: أن يتذكر من أين له هذه النعمة، حتى لا يقول ما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]. الرتبة الثالثة: أن يقيدها بالشكر، والشكر يشمل الشكر اللساني بأن يذكر نعمة الله، والله سبحانه وتعالى يحب أن تشكر نعمه، وقد ارتضى لعباده ذلك وأرشدهم للشكر فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وهذا هو أبلغ شكر يشكر الله به، فأبلغ ما يشكر الله به الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، ثم بعد ذلك الشكر الفعلي، وهو بصرف تلك النعم فيما يحب الله صرفها فيه، وأن يعلم الإنسان أن كثيراً من الناس يدعي المعاذير لنفسه، ومنهم النفر الذين هم أول من تسعر بهم النار -نسأل الله السلامة العافية-، وهؤلاء النفر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار أحدهم آتاه الله علماً فعلّم، فأتى به يوم القيامة فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: يا رب! علمتها فيك. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، إنما علمت ليقال: عالم. فقد قيل. فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار -نسأل الله السلامة والعافية-. والثاني: رجل آتاه الله من أصناف المال ما آتاه، فدعاه يوم القيامة فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: لم يبق وجه تحب أن يصرف فيه المال إلا صرفته فيه. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، إنما أنفقت ليقال: جواد. فقد قيل. فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار. والثالث: رجل قواه الله في بدنه فقاتل حتى قتل، فدعاه الله يوم القيامة فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فيقول: يا رب! جاهدت فيك حتى قتلت. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، إنما قاتلت ليقال: شجاع. فقد قيل. فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار. ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. فالإخلاص هو أساس هذا العمل كله، ولا يمكن أن يستشعر الإنسان نعمة الله عليه وأن يشكرها إلا إذا أخلص في ذلك الشكر لله سبحانه وتعالى، وأدى الحق الذي لله عليه في ذلك، ومن هنا فالأوقات كلها نعم على الإنسان أن يستشعرها وأن يصرفها في الوجه الصحيح، وكثير من الناس يقول: أنا أفعل كذا أقتل به الوقت. كأن الوقت عدو له، وما له عدو إلا هذا الوقت الذي يريد القضاء عليه وقتله.

حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم

حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم Q بعض الفقهاء أجاز الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه؟ A هذا الأمر لا دليل فيه، والاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم تعبد، والتعبد مقصور على النص، والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الاحتفال بمولده هو صيام يوم الإثنين، فقد صح في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين فقال: ذلك يوم ولدت فيه)، وعلى هذا فالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يصوم الإنسان يوم الإثنين إن استطاع بصفة دائمة، وإلا فما تيسر من ذلك، أما غير هذا فلم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ولا أرشد إليه، وهو مخالف لهديه ولسنته ولعمل خلفائه الراشدين وهم أحب الناس إليه وأولاهم به.

عوامل تقوية الإيمان

عوامل تقوية الإيمان Q ما هي عوامل تقوية الإيمان؟ A ترسيخ الإيمان إنما يتم بالإقبال على الله سبحانه وتعالى وقوة الدافع لكل عمل، فالذي يصلي وصلاته إنما هي عادة من حياته، كما قيل: ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب. فوجد أسلافه يصلون فهو يصلي كما كانوا يصلون، ووجدهم يزكون فهو يزكي كما كانوا يزكون لا ينتفع بهذه العبادات، ولا تباشر شغاف قلبه، ولا يصل الإيمان إلى شغاف قلبه. لكن الذي يصلي وهو يتذكر الدافع العقدي الذي جعله يصلي ستنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وأنا أعرف أن كثيراً منا يقول: أنا أصلي لا أتركها، ومع ذلك لا أجد صلاتي تنهاني عن الفحشاء والمنكر، وأزكي ولا أتركها، ومع ذلك لا أجد زكاءً بسبب الزكاة، وأصوم ولا أترك الصيام، ومع ذلك لا أجد طهرة كما يطهر الصيام أهله، وأحج، ومع ذلك لا أجد أثر الحج البالغ في زيادة الإيمان، فما السبب؟ الجواب أن هذا إنما يفعله الإنسان تقليداً وعادة، ولم يتذكر الدافع العقدي له، لكن إذا كان يصلي بهذا الدافع العقدي ويزكي به ويصوم به ويحج به ويتذكر قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163] فإنه سيستفيد من عباداته ويتقوى إيمانه بذلك. وكذلك مما يعين على تقوية الإيمان حضور القلب بأداء العبادات، وتزكيتها بالنيات، فإذا خرج الإنسان من بيته تذكر أن كل حصاة وكل ذرة من الأكسجين وغيرها ستشهد له في مسيرته إلى أن يرجع، ويتذكر كذلك قصده، وأنه إنما قصد الابتغاء لمرضاة الله وأداء ما افترضه الله عليه في المسجد، وأنه يريد بذلك حسن الخاتمة، كما في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف). وأن يتذكر الإنسان كذلك أنه سيعمر بيتاً من بيوت الله، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة:18]، وأنه سيلقى أهل الإيمان في المسجد من الملائكة وصالح الإنس والجن فيزيدونه إيماناً وتثبيتاً، وكذلك فإنه يلقى الملائكة الذين يكتبون الناس على أبواب المساجد الأول فالأول، وهكذا، فيكون في المسجد قد حبس جوارحه عن المعصية وأقبل بها على الله سبحانه وتعالى، فهذا مما يقوي الإيمان. وكذلك مما يقويه صلاة الرجل في الليل والناس نيام، عندما ينام الناس فيتجافى جنبه عن المضجع، فهذا من أقوى ما يقوي إيمانه بالله، ولذلك قال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:16 - 18].

علاج نسيان المواعظ وعدم العمل بها

علاج نسيان المواعظ وعدم العمل بها Q ما العلاج المقترح لمن يسمع المواعظ دائماً وسرعان ما ينساها لكونه لا يعمل بمقتضاها لقساوة قلبه، مع أنه يأسف لذلك ويحاول التغلب عليه؟ A على من يجد هذا أن يكثر من الاستغفار والتوبة، وأن يكثر مما يذكره بالآخرة، ومما يذكره بالموت؛ فإن ذلك مدعاة إلى أن ينتفع بالذكرى.

دعوة التجار إلى الإنفاق في أبواب الخير

دعوة التجار إلى الإنفاق في أبواب الخير Q نلاحظ أن أهل الخير من أهل الأموال لم يكن لهم ذلك الدور الفعال الذي يعود بالنفع العميم على هذه الدعوة المباركة، والمطلوب هو الدلالة على بعض المشاريع التي يمكن أن يلجوا منها لخدمة الدين، لعل الدعوة لمثل هذه المشاريع تكون سبب زوال هذا التقصير الملحوظ. A إن أبواب الخير كثيرة جداً، وإن الإنسان مسئول عن جميعها، وعليه أن يجتهد في أقربها إلى الله سبحانه وتعالى وأكثرها ملائمة لمقاصد الشرع، ولا شك أن من ائتمنه الله سبحانه وتعالى على جزء من المال وجعله تحت يده ينبغي أن يكون مسئولاً عن عيال الله المحتاجين، والناس عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، ولذلك فإن أغنياء العالم وتجاره هم الذين يقومون بنشر الخير، ومساعدة أهله، وبناء جيل التعليم النافع الذي يتعلم فيه الناس العلم والعمل، وكذلك في القيام برعاية اليتامى والمحتاجين، وهذه الأمور واضحة للعيان، والناس يرونها، فبناء المساجد، والإنفاق على العدد الكبير من اليتامى وكفالتهم، والقيام كذلك ببناء بعض المدارس الإسلامية التي يدرس فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوجه الخير التي قام بها رجال الخير.

الإسلام في مواجهة الجريمة

الإسلام في مواجهة الجريمة الجرائم شؤم على الأرض وأهلها، فهي سبب للهلاك العام الذي لا ينجو منه إلا من حاربها وأنكرها، وهي وبال على أصحابها في الآخرة إن لم يتوبوا منها ويصلحوا ما أفسدوا، وللجرائم أسباب تؤدي إليها، فيجب اجتنابها، وإذا وقعت فلها علاج يزيلها ويمنع ضررها، وقد أخفقت كل المبادئ والأنظمة في علاج الجرائم أو حتى في التخفيف من ضررها على المجتمعات، ولم ينجح في علاجها وسد أبوابها إلا الإسلام الذي جاء ببيان خطورتها والتحذير منها، وإغلاق كل الطرق المفضية إليها.

الإجرام معناه وخطورته

الإجرام معناه وخطورته بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أكثر في كتابه من لوم المجرمين، ومن وصفهم بأنواع النعوت المؤلمة المخوفة من مصيرهم ومآلهم؛ وذلك للتنبيه على خطر الإجرام وضرره. فحري بنا أن نبحث في ظاهرة الإجرام، وأن نبحث في مظاهر هذا الإجرام ووسائله وأسبابه وعلاجه كذلك.

معنى الإجرام

معنى الإجرام الإجرام: مصدر أجرم الإنسان بمعنى: اقترف جريمة، والجريمة هي في الأصل من الجرم الذي هو الجرح، فكأن الإنسان جرح جرحاً لا يستطيع علاجه، وذلك أن سكان هذه الأرض بمثابة قوم يركبون سفينة في عمق البحر، فالذين يجرمون يشقون هذه السفينة لتغرق بأهلها ومن فيها، فما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها، فإنه سبحانه وتعالى لو كشف الحجاب لحظة واحدة لأحرقت سبحات وجهه السماوات والأرض وما فيهن، ما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها!!

وجوب الأخذ على يد المجرم

وجوب الأخذ على يد المجرم إن الذين يعصون الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض يشقون فيها شقاً فيتسع هذا الشقُّ، فيشق علاجه بعد ذلك ويصعب؛ ولهذا أوجب الله على المؤمنين أن يمسكوا بأيدي هؤلاء وأن يكفوهم عما هم فيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم تلا قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78 - 81] ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهُون عن المنكر، ولتأخذُن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً -أو: لتقصرنه على الحق قصراً- أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم).

الجرائم سبب للهلاك العام الذي لا ينجو منه إلا من نهى عنها

الجرائم سبب للهلاك العام الذي لا ينجو منه إلا من نهى عنها إن الأخذ على يد المجرم ومنعه من جريمته أول مستفيد منه هو الآخذ على يد المجرم؛ لأنه ينجو بنفسه وينجي أهله من عذاب الله وعقوبته، وإن الذي يظن أن السعي للحيلولة دون الإجرام هو تدخل في الشئون الداخلية، وأنه مما لا يعني الإنسان وينبغي تركه، جاهل بمقتضى الواقع؛ لأنه بمثابة الإنسان الذي في السفينة في عمق البحر ومعه راكب يراه بعين بصره يخرق السفينة لتغرق بأهلها، فهل تدخُّله هنا تدخل في شئون الغير؟! هو تدخل في شئون النفس؛ يريد إنقاذ نفسه؛ ولذلك أخرج البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، وقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). وقد قص الله علينا في كتابه قصة قرية من بني إسرائيل كانت حاضرة البحر، فحصل فيها الإجرام، فسكت أهلها عن التغيير إلا قليلاً منهم، فجاء البلاء من الله سبحانه وتعالى وعاجلتهم العقوبة، فأخذ الله الذين اقترفوا الإجرام أخذاً وبيلاً، وألحق بهم الذين سكتوا ورضوا وتابعوا، وأنجى الذين كانوا ينهون عن السوء وحدهم؛ ولذلك قال في كتابه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:163 - 166] فهذا أخذ الله الوبيل وعقوبته الشديدة لمن لم يتمعر وجهه في ذات الله، ولم يغير المنكر إذا رآه!!

شؤم الجرائم على الأرض وساكنيها

شؤم الجرائم على الأرض وساكنيها إذا ظهر الإجرام في بلد فسيتعدى ضرره وينتشر، وإذا لم تعالج الناس العقوبة فإنه يعالجهم ما يتعلق بذلك الإجرام -نسأل الله السلامة والعافية- من الشؤم؛ فإن لكل ذنب شؤماً يلحقه، وهذا الشؤم لا يختص بصاحب الذنب الذي اقترفه، بل يتعداه إلى من سواه. وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بعض مظاهر الإجرام التي حصلت في الأرض، وهي تبين تاريخ هذه الجريمة على هذه الأرض، فهذه الأرض كانت نقية طاهرة، يُعبد عليها الله وحده، كان بها الملائكة، فأراد الله -لحكمة بالغة- أن يمتحن هذا الجنس البشري، فيحله في هذه الأرض الطاهرة الطيبة التي فيها ما يحتاج إليه بنو الإنسان من الأقوات والأمكنة، وكل ما يحتاجون إليه في شئون حياتهم، فامتحنهم الله سبحانه وتعالى بالتكاليف، فكان منهم المفسدون الذين هم إلى النار صائرون، نسأل الله السلامة والعافية! فعندما بيَّن الله للملائكة أنه سيعمر هذه الأرض بجنس البشر، قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] رعب الملائكة من جرائم بني آدم حين اطلعوا عليها مستورة في اللوح المحفوظ، فعندما أطلعهم الله على ما تؤول إليه هذه البشرية في هذه الأرض، رعبوا من هول هذه الجرائم. وهذه الجرائم هي بمثابة قنابل ذرية يفجرها الإنسان في هذه الأرض، فتتأثر بها كل الكائنات الحية، وتتأثر بها الحيتان، وتتأثر بها الطيور في السماء، وتتأثر بها ذرات السهول، وتتأثر بها أرحام الأرض وما تنبته، ويتأثر بها كل أنواع النبات، والمكان الذي فجرت فيه بعد عدة قرون لا تزال الولادات فيه مشوهة، ولا تزال الأمراض فيه تنتشر. أرأيتم القنبلة التي فجرها الأمريكان فوق مدينة (هيروشيما) اليابانية، فهذه القنبلة مازالت إلى الآن آثارها واضحة حتى في الولادات، فالولادات مشوهة، وانتشر السرطان والأمراض الخبيثة؛ بسبب قنبلة واحدة كانت من نوع بدائي في أول نشأة القنابل الذرية، فكيف بهذا الإجرام الذي هو معصية، والذي هو أعظم من هذه القنابل كلها وأفتك!! إن جريمة واحدة على هذه الأرض تضج الأرض إلى الله منها وتشكو، والإنسان الذي يجرم في مكان قد حله من قبله ملك مقرب كان يسجد لله في هذا المكان، وأنت تقف فيه يا عبد الله تخلف هذا الملك في المكان الذي كان يقف فيه، فإذا أتيت بجريمة تصوَّر حال هذه الأرض وقد كانت تحس بسجود هذا الملك المقرب الذي لا يعصي الله تعالى في المكان، وترى خلافتك أنت لهذا الملك في هذا المكان. أو حتى لو تصورنا ما هو أقرب من هذا، هذا المكان الذي يعصي فيه البشر كان فيه من قبلهم من الناس الذين كانوا يطيعون الله تعالى ولا يعصونه، فتصور المكان الذي تزاول فيه المعصية كم قد وقع فيه من الطاعات لله سبحانه وتعالى، وكم قد عمره من الصالحين! فإنه يضج إلى الله تعالى من الاقتراف الذي تقترفه فيه، وما يقابله من السماء والهواء والملائكة المكلفون بحفظك وحفظ المكان، كل ذلك يشهد عليك بإجرامك الذي تدمر به البلد. إن الله سبحانه وتعالى بيَّن لنا أنه مكَّن لنا في آثار السالفين السابقين الذين سبقوا، وجعلنا خلفاء من بعدهم في هذه الأرض، فامتحننا بذلك؛ ليعلم ما نحن صانعون، وهو أعلم؛ فهو سبحانه وتعالى لا يتجدد له وجود علم، وإنما يمتحن الناس بذلك؛ ليشهد عليهم ويُشهد عليهم ملائكته؛ حتى لا ينكر أحد منهم شيئاً مما فعل، فيأتي ومعه الشاهد والسائق والرقيب ويأتون معه ليشهدوا عليه بما اقترف. يحتاج الإنسان إلى التنبه؛ لأن فترة حياته محدودة، ولأن المكان الذي يعمره من هذه الأرض محدود {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37] فعليه ألاَّ يكون مسرفاً مجرماً فيعمر هذا المكان بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وبما لا يرضي المكان نفسه، فالمكان يشهد عليه بكل ما فيه.

من ابتدأ الجريمة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها

من ابتدأ الجريمة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها كذلك فإن هذا الإجرام مقتضٍ لأن يبقى عمر الإنسان السيئ متجدداً إلى آماد طويلة، فالذي أسرف وأجرم وعمره ثلاثون سنة أو عشرون سنة من وقت إجرامه عمره السيئ الذي فيه الإجرام مستمر؛ لأن الناس سيتبعونه في إجرامهم، فيكتب عليه من سيئاتهم، ويلحقه ذلك بعد موته آماداً طويلة؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول كفل منها) ابن آدم الأول هو من سن القتل لأهل الأرض، وقتل أخاه ظلماً عدواناً، فما من قتيل يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول وزر منه. وكذلك كل من اقترف جريمة وأذاعها بين الناس فتبعه الناس عليها، فإنه يكتب في ميزان سيئاته أوزار من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دعا إلى الهدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). وكذلك قال: (من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).

مظاهر الإجرام وتفاوتها

مظاهر الإجرام وتفاوتها إن مظاهر الإجرام في هذه الأرض هي ارتكاب ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى من السيئات، وأعظمها الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ فهو الذنب الذي لا يغفر، ثم ما دونه من الذنوب وأعظمها كبائر الإثم والفواحش، ثم ما بعدها من الصغائر التي دونها، فهذه هي الجرائم، لكن الناس في عرفهم لا يطلقون الجرائم إلا على المستبشعات من الأمور التي لم يعد الناس يألفونها، فالأمور المألوفة لدى الناس -حتى لو كانت أكبر في ميزان الشرع- لا يعدونها جريمة، إنما يعدون جريمة نكراء الأمر غير المألوف فيما بينهم؛ والسبب هو الاعتياد فقط، فالإنسان الذي يتعود على شيء يزول عنه ما كان يجده في نفسه من الكراهية له وعدم الاطمئنان به. وها نحن الآن إذا سمعنا الرعد في السماء لم نرعب منه، لكن إذا سمعناه في الأرض يصيبنا منه رعب شديد؛ والسبب أننا قد ألفنا الرعد في السماء ولم نألفه في الأرض، لكن لا فرق بين الأمرين أصلاً، كل ذلك تخويف من الله سبحانه وتعالى. وكذلك كسوف الشمس والقمر موعظة عجيبة وآية من آيات الله وتخويف منه {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، لكن مع ذلك طلوع الشمس نفسها آية من آيات الله، والانفجارات الذرية التي فيها وعلى سطحها والتي يقع منها في كل ثانية ألفان وستمائة انفجار ذري في كل ثانية واحدة، هذا آية من آيات الله وموعظة عجيبة، لكن الناس ألفوا هذا وتعودوا عليه فلم يعد مهماً لديهم، بل لم يعد يسترعي انتباههم أصلاً، أما الأمر غير المألوف فهو الذي تتعلق به النفوس وترعب منه وترتاع له؛ ولهذا فإن الجرائم المتعلقة بالماديات أعظم عند الناس كثيراً من الجرائم المتعلقة بالمعنويات.

أعظم الجرائم الشرك بالله عز وجل

أعظم الجرائم الشرك بالله عز وجل ومعلوم أن الشرك بالله هو أعظم جريمة يمكن أن يرتكبها الجنس البشري على هذه الأرض، لكن لو سمعنا رجلاً يقول في السوق ألفاظ الشرك أو يفعلها، أو يسب الله ورسوله أو القرآن فلن نرى الناس يستعظمون جريمته، ولا يتألبون عليه، ولن تجد من يهتم للأمر، أو من يقول فيه بالحق؛ لأنه أمر معتاد لديهم!! أما لو سرق الإنسان مائة أوقية فقط، فإن كل أهل السوق سيمسكونه: سارق سارق، وهذا يضربه من هنا، وهذا يمسكه من هنا، فهل سرقةُ مائة أوقية أعظم من الشرك بالله؟! فالقضية هنا أن الناس لا يزنون ولا يكيلون إلا بميزان المادة، فما كان مادياً اعتبروه جريمة كبيرة، وما ليس كذلك كان أمراً اعتيادياً لديهم، يمر الإنسان من الشارع فيرى الاختلاط ويرى السفور، وكأنه ما رأى شيئاً ولا وقعت عينه على شيء أصلاً؛ لأن هذا أصبح من المألوف لدى الناس، وهو إذا كان مؤمناً ورأى معصية الله تمعَّر لذلك وجهه، واقشعر جلده، وخشي أن يسقط عليه ما يقابله من السماء حين يرى معصية الله فيرضى بها. إن الذين يتعودون على مشاهدة المناكر ستخف لديهم حتى يكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ولا يأتي هذا إلا بالتدريج والتقصير!

أسباب الإجرام

أسباب الإجرام إن هذه المظاهر التي هي من مظاهر الإجرام على هذه الأرض لها أسباب كثيرة، من أعظمها:

ضعف الإيمان

ضعف الإيمان أولاً: نقص الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبقدره وبملائكته، وبالبعث بعد الموت وباليوم الآخر وما اشتمل عليه. فالذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه وبالقدر خيره وشره، ويؤمن بالبعث بعد الموت وباليوم الآخر وما اشتمل عليه؛ يعلم أن هذه الحياة الدنيا ليست الحياة الباقية وأنها متاع وأن الآخرة هي دار القرار، ومن هنا سيحاول أن يعيش فترات حياته المحدودة في هذه الدنيا بسلام، وأن ينطلق منها سالماً على الأقل، كما قال عمر بن الخطاب في حال موته: (وددت لو أخرج منها كفافاً لا علي ولا لي)، سيحاول أن يخرج من هذه الدنيا كفافاً لا له ولا عليه على أقل تقدير، أما الذي يقل إيمانه بالله فلا يستشعر أن ديان السموات والأرض يراقبه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، ولا تخفى عليه خافية، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما توسوس به نفسه. ويعلم كذلك جزماً بملائكة الله الكرام الكاتبين الذين لا يخفى عليهم شيء من عمله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، وقال جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. ويعلم كذلك علم اليقين أن كل شيء بقدر الله، وأن الله كتب كل شيء قبل أن يكون وعلمه، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ويعلم كذلك أنه سيموت ويبعث بعد الموت، سيحيا ليقص أثره {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] سيقص أثره كاملاً ويراجع حساباته ويرى صحائف أعماله، ويبدو له من الله ما لم يكن يحتسب. وإذا علم كذلك أن الساعة لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنها هي دار الجزاء ووزن الأعمال؛ لن يسرف ولن يقترف، ولن يحاول أن يصرف قوته وطاقته وجهده إلا فيما ينجيه من هول ذلك اليوم. أما من يخفُّ إيمانه بهذا وينقص فهو الذي يبحث عن وليجة أو عن مدخل؛ ليخفي على الله أو على ملائكته الكرام الكاتبين شيئاً من الأعمال، أو يظن أنه حتى لو علم الله بها فهو لن يبعث أو لن يحشر أو أنه لن يجدها، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30]. إن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن هذا الإجرام سببه هو نقص الإيمان؛ ولهذا قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ترفع إليها الرءوس حين ينتهبها وهو مؤمن) فصاحب الإيمان القوي عنده ما يردعه وكفى بالإيمان رادعاً. أما من ضعف إيمانه وخف يقينه فهو الذي يذهب في هذه الدنيا ولا يبالي بما اقترف، ويسير كأنه لا يستشعر عقوبة الله سبحانه وتعالى، ولا يستشعر الملائكة الكرام الكاتبين، ولا يتذكر موته وحمله على الرقاب إلى الدار الآخرة، ولا يتذكر فزعته من القبر وقيامه منه حين ينفخ في الصور نفخة الفزع، ولا يستشعر عرضه على الله ووقوفه بين يديه، ولا يستشعر الكفتين: كفة الحسنات وكفة السيئات ووزن الأعمال فيهما بمثاقيل الذر {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].

الغفلة عند ارتكاب الجريمة

الغفلة عند ارتكاب الجريمة ومن أسباب الإجرام: أن يغفل الإنسان عن هذا، فيكون الإنسان مؤمناً مصدقاً بكل ما سبق ولكنه يغفل عنه في وقت اقتراف المعصية، فتغلبه شهوته فيقع فيما حرم الله عليه لا نكراناً ولا جهلاً، ولكنه يفعل ذلك غفلة ونسياناً؛ فتزدريه النفس الأمَّارة بالسوء، ويقوده الشيطان الذي لا يقوده إلا إلى ما يهلكه، وحينئذ يتبع هواه فيتردى في الوحل وينساق وراء الشهوات، فيكون كالحيوان البهيمي، فإذا أنعم الله عليه بأن تذكر عرف أنه قد تردى إلى المهاوي العظيمة. وإننا نعرف أشخاصاً بأعيانهم يعيشون معنا على هذه الأرض من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، كانوا قد وقعوا في هذه القاذورات التي تسخط الله سبحانه وتعالى، فأعادهم الله إلى الإيمان بنعمة منه وهداية، فلما رجعوا تذكروا المكان الذي كانوا فيه من المعصية فعرفوا أنهم بمثابة من تردى في بئر عميقة جداً ثم نجا منها وأُخرج، خرجوا من مهوىً عجيب لا يزال كل فرد منهم يتذكر ما كان عليه ولا يقارنه إلا بدركات جهنم، إن هؤلاء قد أنعم الله عليهم بنعمة الهداية فرجعوا، أما كثيرٌ ممن سواهم فهم مستمرون -نسأل الله السلامة والعافية- عامتهم سادرون لا يبالون، مستمرون حتى يفجأهم الموت وهم على ذلك.

طول الأمل

طول الأمل كذلك من أسباب الإجرام: أن يكون الإنسان مؤمناً بكل ما سبق متذكراً له في ساعته، لكنه يطول الأمل، فيغريه الشيطان بأنه بالإمكان أن يرجع ويتوب بعد أن يقترف المعصية، ويقول له: افعل ما شئت الآن وما تريده، ثم عمرك طويل بعد هذا، وستتوب إلى الله وتعبده، وهذه هي علامة الخذلان وطمس البصيرة، نسأل الله السلامة والعافية! فالشيطان يضرب على قافية رأس الإنسان إذا هو نام، يضرب في كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم، فيغريه بطول الأمل، والواقع أن أصحاب العقول لا يمكن أن يغتروا بطول الآمال، وهم يرون في كل يوم وفي كل صباح وفي كل مساء الذين ينتقلون إلى الدار الآخرة، ممن هم أقوى منهم أبداناً وأكثر أموالاً وأرفع مكانة اجتماعية، فيرون أجناس الناس ينتقلون إلى الدار الآخرة، لا تبقى شريحة من شرائح المجتمع إلا رأيتها: فترى الرؤساء والملوك، وترى الوزراء والقادة، وترى التجار والأغنياء، وترى الفقراء والمساكين، وترى الصبيان الصغار، وترى الشباب الأقوياء، وترى الشيوخ والعجزة، كل هؤلاء يدفنون جميعاً في المقابر. قال الشاعر: لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيبُ وقال الآخر: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد كلنا صائرون إلى ذلك المصير، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وقف على ضجنان بعد حجته: (كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، وإذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم قال: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولدُ لم تغن عن قيصرٍ يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها برد أين الملوك التي كانت بعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يوماً كما وردوا) إن طول الأمل مضرة عظيمة للإنسان، فهو الذي يقتضي فوات الأعمال الصالحات التي يندم الإنسان على فواتها، وهو الذي يدفع بالإنسان إلى تأخير فرائض الله سبحانه وتعالى، حتى ينتهي وقتها، وحتى لا يمكن الإنسان من العود إليها في فرصة لاحقة. إن الإنسان لن يستشعر فرصه الطويلة المتنوعة التي وهبه الله إلا بعد أن ينتقل من هذه الدنيا وينقطع عمله بالكلية، فمادام الإنسان يرجو الحياة فهو يؤمل أن يبقى. فالمرء قد يرجو الحيا ة مؤملاً والموت دونهْ تنفك تسمع ما حييـ ت بهالك حتى تكونهْ لكنه عندما يموت وتنقطع آماله عن هذه الدنيا يتمنى طرفة عين لو رجع إليها، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11]. إن الجرائم التي يقترفها الناس ينتبهون لها إذا نشأت منها نابتة جديدة، أو ظهر منها مظهر جديد لم يكن متفشياً بين الناس، ففي زماننا هذا اليوم أصبح الناس في هذا البلد يتحدثون عن كثير من الجرائم التي لا عهد لكثير من الناس بها، من قتل الأقارب والإخوة الأشقاء، ومن إحراق الإنسان لنفسه، ومن اعتدائه على أحب الناس إليه وأقربهم إليه كقتل الإنسان لأمه، وغير ذلك من الجرائم الكبيرة التي لا عهد لأهل هذه البلد بها!! ولكنها تأتي كالسيل الجارف، وما هي إلا سنوات يسيرة حتى يألف الناس هذه الجرائم ويتعودوا عليها، كعصابات اللصوص التي تجوب بعض الطرقات في الليالي المظلمة، وتقطع الطريق على الناس، وتعتدي على حرمهم وتأخذ أموالهم، ومثل ذلك: العصابات التي تعتدي على منازلهم وبيوتهم تبيتهم وهم آمنون في بيوتهم، فيعتدون على متاجرهم، وما يجمعونه من المال. هذه الجرائم لم تكن معروفة ولا معهودة بين الناس في هذه البلاد، ولكنها اليوم أصبحت جريمة منتشرة ومنظمة، فقد أصبح الإجرام منظماً له أعراف يتعارف عليها أهل الإجرام فيما بينهم، وله قوانين وخطط يخططون لها؛ بل لا تستغربوا أن ينشئ بعض هؤلاء المجرمين المتمرسين معاهد للإجرام، إن الإجرام يدرس في كثير من البلدان الغربية، وله معاهد، فأصحاب التجارب الكبيرة في الإجرام تلتحق بهم عصابات اللصوص؛ ليعلموهم طرائق الإجرام وطرائق الحصول على الأموال بهذه الوسائل الملتوية.

وسائل الإعلام

وسائل الإعلام كذلك فإن لوسائل الإعلام في تعليم الإجرام دوراً عظيماً، فالمسلسلات المفسدة التي تنشر فيها لنشر الرذيلة ولتعليم وسائل الإجرام كثيرة جداً، بل إن الهوائيات التي تعمل ليل نهار لا تخلو من هذه المسلسلات، فتارة تسمى بالمسلسلات البوليسية، وتارة بالمسلسلات الاجتماعية، وتارة بغير ذلك من الأسماء، لكنها جميعاً تُعلم الرذيلة، وتسعى لترسيخها في النفوس الطرية التي هي على الفطرة!! ومن أغرب ما سمعنا في هذا: أن رجلاً من الملتزمين الخيرين ومن التجار ذوي المال اشترى هوائياً فأدخله في بيته، وهو مشغول في عمله لا يأتي إلا في ساعة متأخرة من الليل وقد نام أولاده، وكذلك فإن أمهم مشغولة عنهم في كثير من الأحيان، فكان أولاده يتابعون هذه المسلسلات فيتعلمون ما فيها من وسائل الإجرام، فوجد أن أحد أولاده يسرق أمواله ويجمعها ويخفيها في مكان من بيته، وكان ذلك بطريقة محكمة جداً للغاية يعجب لها الإنسان، فسأله: كيف جمعت هذا المال؟ ومن أين أتيت به؟ ولماذا تجمعه؟ فقال: لا أريد ذلك لأي شيء، ولكن لأشبع به رغبة أجدها في نفسي تعودت عليها من المسلسل الفلاني!! رسخت هذه القيم في هذه النفوس التي كانت على الفطرة، وتعودت عليها. والأدهى من هذا والأمرُّ: أن رجلاً آخر كانت تجربته أخطر من هذه وأفظع، فله أولاد وبنات وكانوا يتابعون هذه المسلسلات وهو يعلم بذلك، وفي ذات يوم -نسأل الله السلامة والعافية- إذا بابنته مريضة، فارتاب من مرضها، فأخذتها إلى المستشفى فإذا هي متلبسة بحمل، فكاد أن يموت غماً، وأخذها إلى بيته وضربها، فقالت: لا تضربني، فأنا أحدثك بكل ما تسأل عنه، فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا من أخي، كنا نتابع المسلسل الفلاني فطبقناه، وهما في أول البلوغ، نسأل الله السلامة والعافية!!! فعاد عليه وبال هذه الأجهزة، فقام إليها وكسرها من لحظته، لكنه ندم حيث لا ينفع الندم! إن كثيراً من الناس يتعودون على الإجرام ويتعلمونه بتجارب الآخرين، وبأمور خيالية أيضاً في بعض الأحيان، فينقلون هذه التجارب، وتنتشر بين الناس، وتشيع في الأرض. إن قتل الإنسان لنفسه لم يكن مألوفاً أبداً لدى الناس في هذه البلاد، لكنه ظاهرة منتشرة في أمريكا وفي أوروبا كلها، فتجد الإنسان يطلق الرصاص على نفسه، أو يشنق نفسه، أو يحرق نفسه في بعض الأحيان إذا كان مطالباً بديون لا يستطيع تسديدها، أو عليه غرامات كبيرة، أو خاب أمله في أمر معين، أو قد اقترف جريمة فاطُّلع على تلك الجريمة، أو خشي أن يُطَّلع عليها!! بل تجد كثيراً من الساسة في بلاد الغرب إذا عرف أن أحدهم قد تعاطى رشوة أو أخذ هدية فشاع ذلك في الإعلام؛ قتل نفسه ورأى هذا تخلصاً من جريمته!! فيظن أنه سيتخلص من كل مسئولياته وتبعاته بمجرد إزهاق نفسه، فيقتل نفسه ويتعجل الدخول إلى النار، نسأل الله السلامة والعافية! لكن من المستغرب جداً أن ينتشر هذا الأمر في بلاد الإسلام، وأن يطرق أبواب المسلمين الآمنين، فمثل هذه البلاد المحافظة التي يغلب على سكانها الالتزام بالإسلام والتحلي بآدابه وأخلاقه، من المستغرب جداً أن يحرق الإنسان فيها نفسه بين الناس، أو أن يقدم على شنق نفسه، أو إطلاق الرصاص على نفسه لأي سبب من الأسباب. لكن الناس إذا علموا أن فلاناً من الناس قد قتل نفسه حملوا ذلك على أحد محملين: إما أن يقولوا: هو مجنون، أو أن يقولوا: قد اقترف جريمة مالية، أخذ أموالاً فاطلع عليها فقتل نفسه ليستر جريمته، أو ليتخلص منها، لكن سبب هذه الجريمة لا ينحصر في هذين السببين المذكورين؛ بل كثير من الناس مأنوس غير مجنون، كثير من الناس سرت إليه هذه العادات من الناس أنفسهم لا من الجن. فكثير من الشباب الذين يتربون بين ذويهم في بيئات صالحة يخالطون شباباً آخرين هم في غاية الفساد، فسرعان ما تنتشر إليهم عدوى هؤلاء، وتنتقل إليهم كانتقال النار من المادة القابلة للاحتراق والاشتعال إلى مادة مجاورة لها، كما قال الشاعر: عدوى البليد إلى الجليد سريعة والجمر يوضع في الرماد فيخمد كذلك في المقابل إذا وضع الفحم على الجمر فسرعان ما يشتعل. إن كثيراً من الناس يتهم الجن بأنهم هم الذين أفسدوا أخلاقهم أو أفسدوا عقولهم، والواقع أن الجن من هذا برآء، بل كثير مما يقدم عليه البشر يستغربه الجن، ولا يستطيعون الإقدام عليه، إنما يتعود عليه هذا الجنس البشري الذي هو أشد قسوة من الحجارة، فقلوب البشر أشد قسوة من قلوب الجن؛ ولهذا يقدمون على أمور مستغربة جداً مستبشعة، ولذلك فالمأنوسون في هذا الباب أكثر من المجانين، الذين سرت إليهم عادات الإنس فأتلفت عقولهم وتصورهم أكثر من الذين أضر بهم الجن وأثروا على عقولهم.

ضعف التوكل على الله

ضعف التوكل على الله من أسباب الجرائم: أن كثيراً من الناس يكون ضعيف التوكل على الله سبحانه وتعالى شديد التوكل على الأسباب، فيظن أن هذه الأسباب هي التي توصله إلى مبتغاه وما يطلبه، فيتوكل على الأسباب، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويسعى لبذل الجهد فيها، لكنه سرعان ما تخونه هذه الأسباب، ويرى أنها لا توصل إلى نتيجة، فيقدم على جريمته تبعاً لذلك. إن الأسباب خوَّانة، فكم رأينا من الذين بذلوا أعمارهم وصرفوا جميع الحيل في جمع المال فما حصلوا منه على طائل! وكم رأينا آخرين لم يبذلوا فيه كثيراً من الوقت ولا من الجهد ولا من عناء التفكير، ومع ذلك آتاهم الله منه ما كتب لهم! إن الإنسان لن ينال إلا حظه وما كتب له. ومن هنا فينبغي ألا يتوكل على الأسباب، وألا يخرجها من طورها، وألا يتعدى بها حدودها؛ فالذين يتوكلون على الأسباب يصابون بإخفاق شديد. فهذا ابن زريق البغدادي يخرج من بغداد مسافراً إلى الأندلس، وينفق في ذلك نفقات باهضة؛ ليمدح أحد ملوك الأندلس، وهو يرجو منه مالاً ليسدد به ديوناً عليه في بغداد، فصبر على قطع هذه المسافات الطويلة من بغداد إلى الأندلس، فلما أتى الملك وامتدحه بقصيدته العجيبة وأنشدها بين يديه وطرب لها الملك، كافأه عليها مكافأة لا تساوي عشر ما أنفقه في سفرة، فتأثر تأثراً بالغاً، وذهب إلى ضفة النهر وكتب قصيدته العينية المشهورة ومات غماً! يقول في هذه القصيدة: لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعهُ جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدَّرت أن النصح ينفعهُ فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من عذله فهو مضنى القلب موجعهُ يكفيه من لوعة التفنيد أن له من النوى كل يوم ما يروعهُ ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالرغم يزمعه كأنما هو في حل ومرتحل موكل بفضاء الأرض يذرعهُ إن الزمان أراه في الرحيل غنىً ولو إلى السد أضحى وهو يقطعهُ وما مكابدة الإنسان واصلةٌ رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعهُ قد قسَّم الله رزق الناس بينهمُ لم يخلق الله من خلق يضيعهُ لكنهم كلفوا حرصاً فلست ترى مسترزقاً وسوى الغايات تقنعهُ والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه أرباً ويمنعه من حيث يطلعهُ أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعهُ ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعهُ وكم تشفَّع بي أن لا أفارقه وللضرورة حال لا تشفَّعهُ وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحىً وأدمعي مستهلات وأدمعهُ لا أكذب الله ثوب العمر منخرقٌ عني بفرقته لكن أرقعهُ إني أوسع عذري في جنايته بالبين عنه ونفسي لا توسعهُ إلى آخر ما ذكره في قصيدته الطويلة. فهؤلاء الذين يتكلون على الأسباب ويعتنون بها إذا جاءهم إخفاق -أياً كان- رجعوا أدراجهم، وانكبوا على وجوههم، وأصابهم الإحباط والندم. ويحصل هذا في شرائح الناس المختلفة: فالذين يطلبون العلم ويهتمون به، إذا كانت هممهم أقوى من قرائحهم كثيراً ما يصابون بهذا النوع من الإحباط، فينفق أحدهم السنتين أو الثلاث أو الأربع، فلا يحصل على العلم الذي يطلبه، لكنه لم يتوكل على الله في جمعه للعلم، ولم يقدم الأسباب الشرعية فيه، وإنما اتكل على حوله وقوته فوكله الله إلى حوله وقوته، ولم يعطه من العلم ما يطلب؛ فلذلك ينكص على عقبيه، ويصاب بإحباط شديد، بل ربما تأثر عقلياً أو نفسياً، وكذلك الذين يجمعون الدنيا، ويتكلون في ذلك على الأسباب، يخاطرون المخاطرات ويبذلون الجهود المضنية، وكثيراً ما يموت بعضهم في سبيل الوصول إلى هدف دنيوي معتاد، أو يقترف جرائم عظيمة بسبب الوصول إلى ذلك الذي يريده، وإذا وصل إليه انتهى عمره دون أن يصل إلى شيء. كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى: أطعت الهوى فالقلب منك هواء قسا كصفا مذ زال عنه صفاء ورمت جدىً ما إن يدوم جداؤه وسيان فقر في الثرى وثراء كفى بالفنى قوتاً لنفس فناؤها قريب ويكفيها طراً وطراء ولو في الملا رمت الملاء حللت في رجاه إذا ما صح منك رجاء كأن الورى والموت نسي وراءهم ذوات الأذى قد حازهن أباءُ فلذلك يصاب هؤلاء بالإحباط إذا لم تتحقق آمالهم؛ لأنهم لم يتبرءوا من حولهم وقوتهم، ولم يتوكلوا على حول الله وقوته، ولم يعتصموا بحول الله وقوته، وتوكلوا على الأسباب فخانتهم الأسباب فأصيبوا بهذا الإحباط. كذلك الذين يدعون إلى الله كثيراً ما تعجبهم الأسباب الدنيوية وينشغلون بها ويهتمون بها، ويبذلون فعلاً ويضحون في سبيل أهدافهم، لكنهم إذا غفلوا عن التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتصام بحوله وقوته، والبراءة مما لديهم من حول وقوة، كثيراً ما يصابون بالإحباط، فتتراجع الآمال، وتنسد الأبواب، ويخبو النور الذي كانوا يعلَّقون عليه أملاً في جهة من الجهات، فإذا لم يكونوا أصحاب إيمان وقوة كثيراً ما ينكصون على أعقابهم، ويرتدون أدراجهم، نسأل الله السلامة والعافية!

الجهل

الجهل كذلك من أسباب الجرائم: الجهل؛ فإنه سبب لمعصية الله، وما عصي الله إلا عن جهل: إما عن جهل به، وإما عن جهل بشرعه، لم يعص الله قط إلا عن جهل: إما أن يكون الجهل بالله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، أو أن يكون الجهل بشرع الله، فكثير من الناس يمارسون أعمالاً يتقربون بها إلى الله ويظنونها من أزكى قرباتهم، ومن أهم ما يعولون عليه في آخرتهم، وهي من أعظم ذنوبهم عند الله سبحانه وتعالى، ومن أخطر ما سيجدون في ميزان سيئاتهم وأثقله؛ والسبب: جهلهم بما شرع الله سبحانه وتعالى. إن الجهل مقتض للوقوع في هذه الجرائم، ولهذا فمن هذا الاسم اشتقت الجاهلية، فهي من الجهل، والجهل جهلان: جهل هو ضد العلم، وجهل ضد الحلم، والجاهلية مشتقة من الثاني على الراجح، ففيها الجهل الذي هو ضد الحلم؛ لما ينتشر فيها من الطيش والخفة. ولذلك كان أهلها يغضبون لأتفه الأسباب وأهونها، وإذا غضبوا تصرفوا تصرفاً يندمون عليه فيما بعد ندامة الكسعي حين كسر قوسه وعض أصبعه فقطعها، فهكذا أهل الجاهلية. إن هذه الجرائم التي تنتشر إذا بحثنا عن عدها سنجدها ذات كثرة طائلة، وسنجد الأيام حبالى بها، فكل يوم تظهر فيه جريمة وتنتشر، ولا يفتح الإنسان مذياعاً ولا يقرأ في جريدة ولا يرى وسيلة من وسائل المعرفة والعلم إلا واطلع فيها على كثير من الجرائم الكثيرة التي لم تخطر على باله؛ بل إن كثيراً من الدول اليوم تعلن عجزها أمام بعض الجرائم، فلا تستطيع مكافحتها بالكلية. فهذه الولايات المتحدة الأمريكية التي تزعم بكبريائها وعنجهيتها أنها قائدة العالم، بل يسميها الناس اليوم بشرطي العالم الذي يدافع الجرائم ويحمي الناس منها، استسلمت أمام الأحداث والقصَّر وطلاب المدارس، ولم تعد قادرة على الوقوف في وجه جرائمهم! فالصبيان الذين يدرسون في الإعدادية، والمراهقون الذين يدرسون في الثانوية يقترفون جرائم بشعة، يأتي أحدهم برشاشه فيقتل أباه وأمه وكل من في البيت من الأحياء، ثم ينتحر بعد ذلك، أو يأتي بقنبلة معه بين دفاتره وكتبه إلى المدرسة، فيفجرها في القاعة فيهلك جميع الطلاب ويهلك هو نتيجة ذلك. إن هذا النوع من الجرائم أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية رغم كل كبريائها عجزها عن مكافحته، فضلاً عن الدويلات الأخرى الضعيفة. فالإجرام فيها يتجاوز هذه الحدود، بل إن كثيراً من الذين ينبغي أن يكونوا مكافحين للإجرام هم الذين يمارسونه بأنفسهم، كما قال الشاعر أحمد مطر: لأن من يسرقها يملك مبنى المحكمة ويملك القضاة والحجابا فكل هؤلاء الذين يقترفون كثيراً من الجرائم هم الذين يشكى إليهم، وهم الذين ترفع إليهم القضايا، أو يقترفها الناس تقوياً بهم، فأقاربهم وحاشيتهم مجرمون ويقترفون ما يحلو لهم أن يقترفوا ويجرموا، لكن إذا جاءت الملفات إلى مكان التحقيق أو العدالة اختفت وسرقت ولم تبق لها باقية، إن هذا النوع إذا تفشى في أرض فهو منذر بالخطر والدمار الشامل. كان أحد الدعاة في زماننا هذا بين يدي أحد الرؤساء، فكلمه هذا الرئيس بكلام لا يليق، وهو شيخ كبير السن، فقال له: سأشكوك! قال: إلى من تشكوني وأنا رئيس الدولة؟ فقال: أشكوك إلى ديان السموات والأرض! فرعب هذا الرئيس رعباً شديداً وقال: اسحب هذه الشكوى! ونزل عن كرسيه متواضعاً للشيخ يريد أن يقبل يده؛ ليسحب هذه الشكوى. فالذين ترفع إليهم الشكايات اليوم من أهل الأرض كثير منهم من الذين يساعدون في انتشار الإجرام، إن لم يكونوا من المقترفين له بالمباشرة.

نقص الوعي بين الناس

نقص الوعي بين الناس كذلك من أسباب انتشار الإجرام: نقص الوعي بين الناس. فكثير من الناس وعيه وتصوره بسيط جداً وقليل، فلا يدرك المخاطر الكبيرة أمام الإجرام، ومن هنا يظن أن الأمور على طبيعة أهل البادية، يأتي فيها الإنسان بما يريد وبعد ذلك تستتر وتخفى ولا يبقى لها أثر، وكذلك كثير منهم يهمل أهل الإجرام؛ بسبب نقص وعيه هو، فيرى المجرمين ويشاهدهم، وبالإمكان أن يشهَّر بهم، وبالإمكان أن يحاول الحيلولة بينهم وبين إجرامهم، لكن إذا لم يمس الإجرام بيته أو ماله أو ما يتعلق به فإن ذلك لا يعنيه ولا يهتم به، وهو ينسى أن هذا الإجرام شديد العدوى، وهو بمثابة الحريق المستطير، إذا لم يُصب بيتك فإنه سيصيب بيت أخيك. وقد ذكر ابن حزم رحمه الله تعالى مثالاً عجيباً فيما يتعلق بالخروج على أهل الجور والظَّلمة في زمانه، في مناظرة علمية فقهية عجيبة، قال فيها: إذا وجدت من ينكر الخروج على هؤلاء ومنافحتهم فيما هم فيه، فقل لهم: أرأيت إن اعتدي على زوجتك أكنت تسكت وتصبر؟ فسيقول: لا، فقل له: هل هي أشد حرمة من زوجات كل المسلمين؟ هل لديها حصانة تمتاز بها عن غيرها من النساء؟ إذا تجاوزت هذه فاسأله: إذا اعتدي على بيتك ومنزلك الذي تسكنه هل ستصبر وتسكت؟ فسيقول: لا، فقل له: وهل هو أشد حرمة من بيوت المسلمين؟ ويتدرج به في هذه المناظرة المقنعة العجيبة! إن كثيراً من الناس إذا رأوا المال العام ينتهك لا يعتبرون هذا جريمة؛ لأنهم لا يظنون أنهم يملكون فيه حظاً؛ لتعودهم على الاستبداد، فقد تعود الناس في كثير من البلدان على الاستبداد المطلق من قبل الدول، فظنوا أن الأملاك العامة هي ملك لأولئك المستبدين وحدهم، ولا شيء فيها لأي طرف آخر، ومن هنا إذا سرقها هذا السارق أو انتهبها هذا المنتهب، أو حصل بها أي إجرام من أنواع الإجرام، فهذا أمر لا يعنينا ولا نتدخل فيه، إن هذا المال الذي ينتهب ويسرق هو مالك، ولك فيه حظ ولأولادك ولمن بعدك ولجيرانك، وهو عموماً مال المسلمين، وأنت مخاطب شرعاً بحمايته وحفظه ما استطعت. إن الذي يرى محاسباً أو مديراً أو رئيس مصلحة يجرم بأخذ المال العام ويسرف فيه ويعتدي فيه حدود الشرع، فلا يعتبر هذا جريمة متعلقة بحقه الشخصي، ولا يلفت هذا انتباهه ولا اهتمامه، هو غير واع بالواقع؛ لأن هذا الذي ينتهك هو ملكك وهو مصالحك ومصالح أهلك وشعبك كله، وإذا أهملتها أنت ولم تراعها فسيهملها من سواك، ومن هنا يترسخ الاستبداد ويترسخ الإتلاف، وتستمر الجرائم إلى هذا الحد الذي ليس بعده إلا الدمار الشامل. إن هذه الجرائم المنظمة إنما تنتشر في البلدان التي ينقص فيها الوعي بين الناس؛ لأن الناس إذا كانوا على وعي بها فسيأخذون حذرهم، وسيحافظ كل إنسان منهم بما يستطيع من الوسائل للنجاة من هذه الجرائم، لكن إذا نقص الوعي عند الناس فأصبحت الأمور تؤخذ تارة بمأخذ الجد، وتارة بمأخذ الهزل، حتى يلتبس الجد والهزل على الناس كما قال الشاعر: تخلط الجد بأنواع اللعب فإن الأمر سيذوب ويزول، ولا يكون له حام ولا مدافع. تنتشر جريمة من الجرائم، كبيع المخدرات أو استعمالها أو غير ذلك من أنواع الجرائم، فيقام بالمبادرة لمكافحة هذه الجريمة، وتأتي هذه المبادرة جادة في البداية، ثم إذا وصلت إلى حلقات معينة يسدل عليها الستار، ويأتي اللعب بدل الجد، وتذهب الأمور وتزول؛ لتزداد هذه المشكلات والجرائم، ويزداد الطين بلة. وكذلك يقتل القاتل عمداً وعدواناً فيحكم عليه القاضي بالقصاص، ويطالب أولياء الدم به، وهذا القصاص قد جعل الله فيه حياة كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، فيصلون إلى حلقة من الحلقات ثم يتوقف فيها الملف وينتهي الأمر، بل يودع كثير من هؤلاء السجون وهي مدارس للإجرام، فيتمرسون على الجرائم بأكثر مما كانوا عليه، فلا يخرج أحدهم من السجن إلا وقد ذهب ما بقي ما معه من أخلاق ومن دين ومن قيم، ويأتي لينشر ذلك في المجتمع، فيصبح أستاذاً في الإجرام، وما أكثر دكاترة الإجرام بين الناس اليوم الذين مهروا فيه ودربوا عليه فيأتون لتعليمه ونشره بين الناس! إن كثيراً من هؤلاء ينظر الناس إليهم نظرة تقدير واحترام؛ ولهذا لا تستغربوا إذا ولي السارق منصباً سامياً بعد أن ثبتت عليه السرقة وعزل من منصبه؛ لأن هذا راجع إلى عدم وعي الناس، فالناس يحترمونه ويقدرونه، وإذا دخل مجلساً قام الناس إليه احتراماً له، فلا يستغرب عندما يعيَّن في وظيفة سامية؛ لأن الحكومات إنما تنظر في بعض الأحيان إلى آراء الناس ومن يقدرونه ويحترمونه، لكن إذا حصل الوعي لدى الناس؛ فأصبح السارق يعرف أنه سارق، وأنه مهين، لا كرامة له بين الناس، وأنه قد أهدر كرامته بسرقته ونهبته، وأصبح الزاني كذلك يعرف عنه هذا ويعرف مهانته على الناس، وأصبح كل مجرم يستشعر بين الناس إهانة ومذلة؛ فإن هذا هو الذي يكافح هذه الجريمة. وانظروا إلى تأديب النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الذين اقترفوا بعض الجرائم من أصحابه: تخلف ثلاثة رجال من الصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غزوة أمر فيها بأن لا يتخلف عنه أحد يقدر على القتال إلا بإذنه، فتخلف هؤلاء بسبب طول الأمل، فكانوا كل يوم يريدون الخروج ولا يتمكنون منه، فيقولون: لعلنا نخرج غداً، حتى قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من تبوك، فلما قفل ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، واستشعروا الإجرام والذنب الذي وقعوا فيه؛ فليسوا مثلنا؛ هم أهل الإيمان وأهل الصحبة والجهاد في سبيل الله. ولذلك إذا وقع أحد منهم في ذنب خفيف ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واستشعر موقفه بين يدي الله، واستشعر عظمة من عصاه، لذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء المنافقون فاعتذروا وحلفوا، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذرهم ووكلهم إلى الله وكل سرائرهم إلى الله، وجاء هؤلاء الثلاثة فصدقوا ولم يكذبوا ولم يحلفوا، بل أخبروا أنهم تخلفوا من غير سبب، وأن الشيطان غرهم بطول الأمل، وأنهم تائبون نادمون على ما فعلوا، فأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى ينزل عليه فيهم الوحي، لكنه أدبهم تأديباً بالغاً يكون رادعاً لكل المؤمنين ممن وراءهم، فأمر الناس ألا يردوا عليهم السلام، وألا يردوا عليهم في أي شيء، فقاطعهم المجتمع حتى زوجاتهم وأحب الناس إليهم، لم يرد أحد عليهم السلام، ولم يكلمهم بأي كلام، يقول كعب بن مالك حين طالت عليه المقاطعة: خرجت إلى أبي قتادة -وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي- فطرقت عليه الباب واستأذنته، فلما عرفني لم يأذن لي، فتسورت عليه حتى دخلت عليه، فسلمت عليه، فلم يزل جالساً مشتغلاً بما كان مشتغلاً به، فقلت: يا ابن عمي! ألست تشهد أني أحب الله ورسوله؟! فما رد علي ببنت شفة، بل سمعته حين أعرضت عنه أبكي يقول: الله ورسوله أعلم! فرجعت إلى داري وقد ضاقت علي الأرض بما رحبت. فهذا الاستشعار الذي يستشعره من وقع في جريمة، عندما يرى مقاطعة الناس له يستشعر فعلاً أنه مجرم، وأنه ينبغي أن يقاطع، وليس أهلاً لاحترام ولا لتقدير، فهذا الذي يكون رادعاً له عن جريمته ويرده عنها.

من وسائل مكافحة الجرائم إقامة حدود الله

من وسائل مكافحة الجرائم إقامة حدود الله حدود الله تعالى هي علاج لهذا الإجرام وردع عنها بالكلية، وهي جوابر لما فرط فيه الإنسان في جنب الله، وزواجر كذلك عن اقتراف مثله. هذه الحدود تمنع الجرائم وتردعها، فمن قتل -مثلاً- جزاؤه أن يقتل، فإذا قتل واحد بسبب قتله كان ذلك رادعاً لألف أو أكثر؛ ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلى أن قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] فهي حياة للطرفين: حياة للذي يريد القتل؛ لأنه إذا تذكر أنه سيقتل لن يقدم على القتل، وحياة كذلك للمقتول الذي كان سيقتل؛ لأن قاتله إذا علم أنه سيقتل به لم يقتله، ففيه حياة للطرفين معاً. وكذلك حد الردة، فمن ارتد عن دين الإسلام جزاؤه أن يضرب عنقه بالسيف، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فإذا كان الإنسان لا يشهد هذه العقوبة ولا يراها واقعياً، فكل من زين له شيطانه أن يرتد عن الدين وجد ذلك أمراً سهلاً سائغاً بين الناس، لكن إذا رأى أن من بدل دينه يقتل عياناً جهاراً بين الناس، فهذا رادع ومقتضٍ من الناس ألا يبدلوا دينهم. وكذلك الزاني المحصن إذا أقيم عليه حد الرجم فرجم بالحجارة حتى يموت بين الناس، وشهد عذابه طائفة من المؤمنين، فإن هذا رادع لكل من سولت له نفسه هذه الفعلة، وكذلك الزاني البكر إذا جلد عياناً أمام الناس مائة جلدة وغرب وسجن سنة كاملة، فإن هذا رادع لأمثاله مانع من العودة لمثلها أبداً. وكذلك السارق إذا سرق فقطعت يمينه، وحسمت بالزيت المغلي بالنار أمام الناس وعلقت في رقبته، وطيف به بين الناس، فإن هذا مدعاة للابتعاد عن هذه الجريمة بالكلية وللحفاظ على أموال الناس. وكذلك الذي يرمي المحصنات الغافلات المؤمنات إذا أتي به أمام الناس فجلد ثمانين جلدة، فإن ذلك مدعاة لئلا تشيع هذه الفاحشة بين المؤمنين. ومثل ذلك اللوطي الذي يقوم بهذه الجريمة، فإن قتله أمام الناس أيضاً رادع لكل من تسوَّل له نفسه مثل هذه الجريمة، ولذلك لم تعرف جريمة اللواط في المجتمع الإسلامي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في حياة أبي بكر، ولا في حياة عمر، وإنما عرفت في أواخر حياة عثمان في الأصقاع النائية من الأمصار، حيث دخل في الإسلام أقوام كانوا يتعودون على بعض هذه العادات، فلما ظهر ذلك جمع عثمان الناس فسألهم عن حد اللوطي: هل هو حد الزنا أو غير ذلك؟ وكان من الذين أشاروا عليه ابن عباس فقال: (لم يقترف هذه الجريمة إلا قرية واحدة، فرفعها الله، ثم ردها على الأرض فأهلكها، فأرى أن من ثبت عليه هذا يرفع على أرفع مبنىً في المكان ويرمى منه على الأرض)، فأمر عثمان رضي الله عنه بأن ينفذ ذلك في الرجل الذي ثبت عليه هذا، فرفع على أعلى مبنىً في القرية ثم رمي على الأرض ومات. فهذا النوع من العقوبات الرادعة هو خير من أن يودع هؤلاء المجرمون في السجون؛ للتعود على الجريمة والازدياد من الخبرة فيها، ولينفق عليهم من النفقات الطائلة، ويقام عليهم الحراس الذين يأخذون الرواتب الباهظة، دون أن يرتدعوا ودون أن يتعلموا ويتعلم من سواهم ضرر جريمتهم.

تعليم الناس أحكام الحدود داع إلى ترك الجرائم

تعليم الناس أحكام الحدود داعٍ إلى ترك الجرائم كذلك فإن من وسائل مكافحة هذه الجرائم وإزالتها بالكلية: أن يعلم الناس أحكام الله فيها وأن تشاع بينهم. فـ عبد الله بن ياسين رحمه الله تعالى -وهو أول من أقام رباطاً في هذا البلد، وأحسب أنه يكتب له أجر من جلوسكم هذا ومن جلستكم هذه ومما يشبهها من الجلسات إلى يوم القيامة- عندما أتى إلى هذه البلاد ووجد أهلها لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا يطبقون من الدين إلا رسمه، وجمع خيرتهم في رباطه، أول ما بدأ أن علمهم الزواجر، ككبائر الإثم وما يتعلق بأمر العقوبات، وأشاعها بين الناس حتى أصبح الناس يفرون منها ويرهبونها ويخافونها، ثم بعد ذلك علمهم الفرائض، وبين لهم العقوبات التي تترتب على تركها، وهي في أغلبها عقوبات تعزيرية، فإذا تخلف الإنسان عن ركعة واحدة من الصلاة جلده عشرة أسواط، وإذا تخلف عن ركعتين جلده عشرين سوطاً، وإذا تخلف عن ثلاث ركعات جلده ثلاثين سوطاً، وإذا تخلف عن أربع ركعات جلده أربعين سوطاً، وعود الناس على الانشغال بالصلاة وترك ما كانوا فيه، وقد وجد عاداتهم كعادات أهل البادية، وحين طال بهم الأمد تركوا دعوة ابن ياسين وأهملوا تعاليم الإسلام، فكان الناس قبل مجيئه لا يصلي منهم في المساجد إلا نفر يسير، ولا تبنى المساجد ولا تقام، والذين يصلون الصلاة ينقرونها نقراً؛ لأنهم يخافون ضياع أموالهم أو تلف بهائمهم أو زروعهم، ولا يتوضئون إلا نادراً؛ لأنهم لا يجدون الماء إلا بالحفر في أعماق الأرض، ولا يقيمون كثيراً من حدود الله؛ لأنهم عشائر وقبائل يتحاكمون إلى الأعراف والعادات. فلما جاء ابن ياسين كافح كل هذه الأمور، وعلمهم دين الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزال أدران الجاهلية من نفوسهم، وبذلك استطاعوا أن يتخلصوا من هذه الجرائم وأن يتركوها بالكلية. كذلك جاء قوم بعد ابن ياسين وحاولوا تجديد دعوته، وهم خمسة رجال فقط، فاجتمع هؤلاء وتعاهدوا على أن يحيوا دعوة ابن ياسين وعلى أن يحيوا الرباط من جديد، وعندما أقاموا في مجتمعهم مكثوا فترة طويلة لم يروا أية جريمة، وعينوا قاضياً فمكث زماناً لم يتحاكم إليه اثنان، ولم تقع أية خصومة؛ لأن الناس قد رجعوا إلى قيم الإسلام وإلى أخلاقياته، وأول خصومة حصلت بين أخوين، فأرسلا إلى القاضي وضربت لهما قبة بعيداً عن أماكن الناس، وجلسا فيها ينتظران القاضي، فقيل: هذا القاضي قد أقبل، فقالوا: ليرجع القاضي، فهذا أمر ينبغي أن يستر وهو واجب الاستتار، وسنصلح شأننا فيما بيننا، ورجع القاضي من دون أن يسمع الدعوى. إن هذه الجرائم من أبلغ ما يكافحها تصديق القيم، والعودة إلى منابع الدين كما هي، والرجوع إلى أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وإلى أخلاق أصحابه. فحين قام أبو بكر بقتال أهل الردة وقاتلهم على الإسلام أصبح ذلك رادعاً، فلم يعرف في أيام الخلفاء الراشدين أن أحداً أقيم عليه حد الردة، ولا في صدر دولة بني أمية، إلى أن وصل الأمر إلى آخر دولة بني أمية، فأول من عرف ممن قتل على الردة هو الجعد بن درهم، الذي زعم أن الله لم يستو على عرشه، ولم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فخطب خالد بن عبد الله بن يزيد القسري، بالناس خطبة العيد، فقال في آخر خطبته: أيها الناس! ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مضحٍّ بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يستو على عرشه، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً. فنزل من المنبر، فذبحه كما تذبح الضحية! فقتال الردة جعل الناس يرتدعون عن الردة زماناً طويلاً، ولم يفكر أحد في الارتداد عن الإسلام للعقوبة الرادعة التي قام بها أبو بكر والصحابة معه. ومثل ذلك العقوبات التي أشيعت أيضاً في صدر الإسلام، فستجدون أن كل عقوبة أقيمت في بلد واشتهرت فيه فإن أهل ذلك البلد سيرتدعون عما رتب الشارع عليه تلك العقوبة؛ ولهذا جاء في الحديث: (لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً)، (سبتاً) أي: أسبوعاً كاملاً.

خطورة تعطيل حدود الله

خطورة تعطيل حدود الله إن تعطيل حدود الله هو محادة لله في أرضه، ومنازعة لرسوله صلى الله عليه وسلم في أمره، وإشاعة للفواحش والمنكرات بين الناس، وإذاعة كذلك للإجرام ولأنواع الانتهاكات التي يتضرر بها جميع الناس؛ فكثير من الناس لنقص وعيه يظن أن المؤسسات القائمة التي تذكر بأسمائها الوظيفية هي التي يعهد إليها بمثل هذه الأمور، لكن هذه المؤسسات لن تبعث يوم القيامة، الناس اليوم يقولون: فلان قتلته الدولة، أو المال الفلاني صرفته الوزارة الفلانية أو الإدارة الفلانية، لكن هذا الكلام إنما هو دنيوي لن يصل إلى يوم القيامة، فيوم القيامة سوف يقال: فلان قتله فلان، فلان سجنه فلان، المال الفلاني انتهبه فلان أو سرقه فلان، العمل الفلاني اقترفه فلان بشخصه، فلن يبعث يوم القيامة رئيس ولا وزير ولا مدير ولا حاكم ولا والٍ، إنما الناس يبعثون يوم القيامة سواسية، وكل شخص منهم يخاطب بعمله وحده. والذي يظن أن اللقب الوظيفي مما يعذر به اليوم أمام الناس فإنما هو مخدوع بذلك، فهذا اللقب سيزايله وسيخرج منه عما قريب وسيبعث فرداً كسائر الناس {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]، ولذلك فالذين قد ذهبوا إلى الدار الآخرة من الذين تجبروا وطغوا وبغوا في هذه الأرض، إذا وقفت على قبورهم ووقفت على قبور من سواهم لا تجد فرقاً بين الجانبين، إلا ما يظن بهذا وما يظن بهذا فقط، وعلم ذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى ومصير كل شيء إليه.

مكافحة الجرائم واجب على جميع الناس

مكافحة الجرائم واجب على جميع الناس إن هذه الجرائم التي تتفشى بين الناس وتشيع بينهم، لا ينبغي أن يظن الناس أن الجهة الحاكمة أو القضاء أو الشرطة هي المسئولة عن مكافحتها فقط، بل أن الجريمة اعتداء على أهل الأرض كلهم، ويجب عليهم أن يتعاونوا جميعاً على مكافحة الجريمة، وأن يقفوا في وجه الإجرام أياً كان، وهذا من حقوق المسلم على أخيه، كما جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا: يا رسول الله! أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟! قال: تمنعه أو تحجزه عن ظلمه؛ فإن ذلك نصره) إذا حجزته عن ظلمه فقد نصرته. وما أحوج الناس إلى ترسيخ هذه القيم اليوم بينهم، وأن يحجز كل أحد منهم أخاه عن ظلمه، وأن يحاول ألا يتفشى هذا الإجرام في محلته أو في المكان الذي فيه نفوذه وتأثيره.

أهمية إنشاء جماعة لتغيير المنكر ومناصرتها

أهمية إنشاء جماعة لتغيير المنكر ومناصرتها فإذا وجدنا من الناس ملأً جعلوا من أولوياتهم وواجباتهم مكافحة الإجرام، وبذلوا في سبيل ذلك قصارى جهدهم، فإن هؤلاء سيكتب لهم أجور لا حصر لها، وسيرتفع بهم شؤم هذا الذنب إن لم يرتفع بهم وجوده، فقد لا يرتفع وجود الذنب في فترة وجيزة، لكن يرتفع شؤمه إذا وجد قوم يقفون في وجهه ويريدون مكافحته، ومنع انتشاره بالكلية. والأمر سهل ويسير، إن تشكيل جماعة أو مجموعة من الناس تتبنى محاربة الإجرام، أو حتى محاربة نوع واحد من أنواعه: محاربة اللصوصية، أو محاربة الإجرام الإعلامي، أو محاربة السرقة، أو محاربة المخدرات أو غير ذلك من أنواع الإجرام، فتشكيل هذا لا يكلف شيئاً؛ لأن هذا من الأمور التي تميل إليها الفطرة وتألفها النفوس السليمة، وما من أحد يدعى لمثل هذا إلا استجاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت حلفاً في الجاهلية لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت)، وهذا الحلف هو حلف الفضول، تعاهد فيه المطيبون على نصرة المظلومين بمكة حين انتشر الفساد والظلم بمكة، وكان الحجاج تنتهب أموالهم، والعمار كذلك تنتهب أموالهم، فتعاهد المطيبون على نصرة كل مظلوم، فطيبتهم عمة النبي صلى الله عليه وسلم عاتكة بطيبها، ومسحوا أيديهم بالطيب ومسحوها على الحجر الأسود، وتبايعوا على نصرة المظلومين بمكة. فلو دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا الحلف في الإسلام لأجاب إليه، وهذا يدلنا على أهمية مثل هذا النوع من الأحلاف فهي مما يقرها الإسلام، ولا يكفي لمثل هذا فرد أو فردان، بل إذا قام فيه حلف الفضول فتحالف الناس على منع الظلم ونصرة المظلومين ومكافحة الجريمة، لم يتأخر أحد من العقلاء وأهل الرأي، ولا أحد من الذين يبتغون الأجر من الله سبحانه وتعالى أن يكون من المشاركين في مثل هذا. حتى لو أقيمت لجان في البلدان أو الأحياء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولمكافحة الإجرام بما تستطيعه هذه اللجان، مثلاً: بتبليغ الشرطة، أو تبليغ الحكام، أو الولاة، أو على الأقل التشهير في الإعلام بالعصابات أو بأصحاب اللصوصية والإجرام، فتشكل لجان لمثل هذا في الأحياء، فهذا النوع من الأمور التي يردع الله بها، وهي على الأقل معذرة إلى ربكم، وفيها إجابة لهذا الحلف الذي لو دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام لأجاب إليه.

خطورة انتشار الجرائم والمعاصي

خطورة انتشار الجرائم والمعاصي إن انتشار الإجرام بين الناس مؤذن بخطر عظيم، فهو مقتض لحصول مقت الله سبحانه وتعالى وسخطه، وإذا حل المقت فإن العقوبة ستكون شاملة، ثم بعد ذلك يبعث الناس على نياتهم، كما صح عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، فقلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! فقال: يبعثون على نياتهم). فإذا جاءت العقوبة وحلت ستشمل الجميع، وتأكل الأخضر واليابس، وتقضي على الصالح والطالح، لكنهم يبعثون يوم القيامة على نياتهم، فمن كان منكراً معرضاً عن الإجرام فإنه سينجو منه يوم القيامة، لكن يشمله شؤمه في هذه الدنيا؛ ولذلك يجب علينا جميعاً إذا سمع أي أحد منا منكراً أن يبرأ إلى الله منه، وأن يشهد على ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل حين سمع بقصة خالد رضي الله عنه مع بني جذيمة، وذلك أنه أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد فتح مكة ليقاتل من امتنع عن الإسلام من الأعراب المحيطين بمكة، فأتى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فتأول خالد بن الوليد وأصحابه فأعملوا فيهم السيوف، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمد يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)، فلما جاء خالد بيَّن عذره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل عذره. ومثل ذلك ما فعل حين أتاه محلم بن جثامة وقد قتل رجلاً شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تغفر لـ محلم بن جثامة، فقال: يا رسول الله! والله ما قالها إلا استعاذة من السيف، وما قتلته إلا وهو كافر! فقال: اللهم لا تغفر لـ محلم بن جثامة، فمكث ثلاثاً في أسوأ حال ومات، فدفنوه فأصبح وقد قذفته الأرض، ثم أعادوه فأصبح وقد قذفته الأرض ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن الأرض لتواري من هو شر منه ولكنها آية) الأرض تواري كثيراً من الكفرة والمجرمين، ولكنها آية ردع الله بها سبحانه وتعالى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). فلهذا على الناس أن يتعاونوا على مكافحة هذه الجرائم، وأن يعلموا أن خطرها وضررها عليهم أجمعين، وأنها لا تختص بالمتضررين المباشرين بها، بل يتعدى ضررها إلى من سواهم، ويهلك الحرث والنسل، وينقطع بها القطر من السماء. وقد أخرج ابن ماجة في سننه وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: ما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وجور السلطان ونقص المئونة، وما نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، وما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). فهذه جرائم تتعلق بها عقوبات وشؤم في هذه الدنيا؛ فإذا انتشرت فوبالها وعقوبتها ستشمل الصالح والطالح؛ ولهذا يجب على المسلمين أن يتعاونوا على مكافحة هذه الجرائم والوقوف في وجهها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرفع عنا كل الجرائم، وأن يجعل بلدنا هذا بلداً آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. اللهم اجعل بلدنا هذا بلداً آمناً مطمئناً سخاء ورخاء وسعة يا أرحم الراحمين. اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

الأسئلة

الأسئلة

العزلة عند ظهور الجرائم والفتن

العزلة عند ظهور الجرائم والفتن Q قلتم: إن التعود على الجريمة ورؤيتها يجعل الإنسان يستشعر عدم عظم هذه الجريمة، هل ترون الهجرة إلى المناطق الداخلية أفضل لدين المرء؛ لما يراه في هذه العاصمة من جرائم تمارس بكل بساطة؟ A على الإنسان إذا رأى الجريمة أولاً: أن يحاول تغييرها وألا يستسلم لها، فالاستسلام ليس علاجاً؛ أن يترك الإنسان داره ومكانه لأهل الفساد؛ حتى ينتشر الفساد في الأرض، هذا مناف لمقصد الشرع، فمقصد الشارع أن ينتشر الخير، وأن يكافح الإجرام، وأن يردع أهلُ الحق أهلَ الباطل، ولا يقصد أن يذهب أهل الخير ويتركوا أهل الباطل يستبدون وينفردون بإجرامهم، بل المقصد الشرعي أن تكاثروهم وأن تردعوهم ما استطعتم، لكن -مع ذلك- إذا لم يجد الإنسان ناصراً على الحق فليس له إلا أن يفر بدينه من الفتن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أخبركم بخير الناس منزلاً؟ رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها، ألا أخبركم بخير الناس منزلاً بعده؟ مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله، ويذر الناس من شره). وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن التعرب بعد الهجرة خطر عظيم، فسكنى البادية لمن قد سكن الحاضرة خطر على دينه وأخلاقه وقيمه، وقد أخرج أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدا جفا، ومن تبع الصيد غفل)، فلا تكون هذه الهجرة إلى البدو والأودية والجبال إلا عند عدم وجود معين على تغيير المنكر والأمر بالمعروف.

وجوب الإنكار على أصحاب محلات تجميل النساء

وجوب الإنكار على أصحاب محلات تجميل النساء Q محلات تجميل النساء أو أماكن التزيين الموجودة على الشارع الكبير هي منارة مفتوحة الأبواب، وعلى أبوابها صور النساء في مظهر مؤلم، وبعض هذه المحلات قرب مسجدنا هذا، فما موقف المسلم من ذلك وجماعة المسجد؟ A هذا الأمر من المنكرات التي يجب البراءة إلى الله منها وإنكارها، والتأثير على أصحابها بكل ضغط يستطيعه الإنسان، فإذا كان الإنسان يعرف أصحابها أو يستطيع التأثير عليهم، فيجب عليه أن يناصحهم بالتي هي أحسن حتى يكفوا عن ذلك، فإن لم يمتنعوا ولم ينتصحوا وجب عليه حينئذ أن يرفع في أمرهم، ويجب على جماعة المسلمين وجماعة المسجد أن تتخذ موقفاً من هذا أيضاً، وأن تأتي إلى المحلات القريبة جماعة مؤلفة من أهل المسجد من مختلف الأسنان فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الحجة لله، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] وقد بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، ففي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكر، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم) فلابد أن نقوم لله تعالى بالحق.

القوانين الوضعية لا تساهم في الحد من الجريمة

القوانين الوضعية لا تساهم في الحد من الجريمة Q إلى أي حد يمكن أن تساهم القوانين الوضعية في مكافحة الجريمة؟ A إلى حد الصفر أو أدنى من الصفر؛ فالقوانين هي تشريع لما لم يأذن به الله وهي أكبر الجرائم، فالذي يريد مكافحة الجرائم بالقوانين الوضعية هو كالذي يريد تطهير النجاسة بالبول؛ لأن القانون نفسه أخطر جريمة وأعظم؛ لأنه تشريع لما لم يأذن به الله، ولن يترتب عليه إلا ما هو شر منه وأعظم وأخطر.

تضييع المال العام من أبشع الجرائم

تضييع المال العام من أبشع الجرائم Q هل ما نشهده اليوم من تفريط بعض المسئولين والمتنفذين في أماناتهم واستيلائهم على ما تحت أيديهم من مال عام يدخل ضمن نطاق الجريمة في العرف الشرعي؟ A نعم، هذا من أبشع الجرائم وأعظمها؛ لأن ما ائتمن عليه الإنسان تضييعه له أعظم وأبشع مما ليس كذلك، فالمسئول الذي وضعت فيه الثقة وجعل على رأس مؤسسة وجعل تحت يده مال اليتامى والفقراء والمساكين والمحتاجين ومن لم يولدوا بعد، ينبغي أن يحترم نفسه، وأن يحترم ما جعل تحت يده، وأن يحترم أمانة الله التي ائتمنه عليها، وهو يعلم أنه منقول عن هذا لا محالة، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وهو سائر عنها، إن لم يسر عنها في الصباح فسيسير عنها في المساء، وسيتركها وراء ظهره، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام:94]، فلذلك على هؤلاء أن يتقوا الله فيما هم فيه، وليعلموا أن من أشراط الساعة: تضييع الأمانة؛ فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا: وما تضييعها يا رسول الله؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) إذا وسد الأمر أي: وكل إلى غير أهله، فهذا من تضييع الأمانة، وهو شرط من أشراط الساعة وعلامة من علاماتها. ولا شك أن هذا من الجرائم التي يجب تغييرها، فكل مدير ارتكب جريمة من هذه الجرائم فإن على الذين يعملون معه أن يضحوا بوظائفهم وبعلاقاتهم معه من أجل مكافحة الجريمة، فمكافحة الجريمة خير لهم من وظائفهم ومن علاقاتهم بمديرهم، فكثير من الناس لا يمنعه من مكافحة الجريمة إلا الجبن، أو التوكل على المخلوق، أو ظنه أنه يملك له من الله شيئاً، أو يمكن أن يرفع عنه ضرراً، أو أن يجلب له منفعة، والواقع خلاف ذلك.

حكم ترك العريس للجمعة والجماعة

حكم ترك العريس للجمعة والجماعة Q هل كون الشخص في أيام عرسه يرخص له بسبب ذلك في التخلف عن الجمعة والجماعة؟ هل هذا صحيح أو غير صحيح؟ A هذا غير صحيح؛ بل يجب على المسلم أن يشهد الجمعة، وأن يعلم الخطر العظيم في التخلف عنها، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بنار فتوقد، ثم أختلف إلى بيوت قوم يتخلفون عن الجمعة فأحرق عليهم بيوتهم)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا هل عسى أن يتخذ أحدكم الصبة من الغنم على رأس ميلين أو ثلاثة فيتخلف بها عن الجمعة. فمن تخلف عن الجمعة ثلاثاً فلا جمع الله شمله، ألا ولا دين له، ألا ولا أمانة له) وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك ثلاث جمع ختم الله على قلبه) فهذا تحذير شديد من التخلف عن الجمعة، وعلى الذي أنعم الله عليه بأن يسر له الأسباب، وهيأ له ما كان يرغب فيه من الزواج وغيره ألا يجعل ذلك ذريعة لمعصية الله؛ فإن ما عند الله لا ينال بمعصيته. إن من شكر نعمة الله سبحانه وتعالى على الإنسان -إذا تزوج وحصن دينه- أن يهتم بالصلاة، وأن يزداد اهتمامه بها، وألا يتخلف عن الجمعة ولا الجماعة، وليس ذلك عذراً في التخلف عنها.

الحكمة من صلاة النافلة

الحكمة من صلاة النافلة Q هل راتبة الظهر مشروعة لمن يصلي الظهر يوم الجمعة لعذر أو لغير عذر؟ A الراتبة إنما يقصد بها ترقيق القلب للصلاة، فهي تهيئة للنوافل لإتمام الصلاة، وتكميل لما ينقص من خشوعها أو أدائها، فيكمل الإنسان فرضه بها. وحين علم الله عز وجل ضعفنا وعجزنا عن إتمام الصلاة يسر لنا هذه الرواتب القبلية والبعدية؛ لنكمل بها النقص الذي نتأكد أننا قد وقعنا فيه في صلاتنا، وقد كان كثير من سلفنا الصالح إذا صلى أصابه حياء شديد من صلاته كحال البغيَّ إذا انتهت من الزنا؛ لشدة ما يلاحظه على نفسه من كثرة التفريط في الصلاة، فقد أذن له في هذه الفرصة النادرة بمناجاة ديان السماوات والأرض الملك الديان، ومع ذلك يفرط فيها وتذهب نفسه كل مذهب؛ فلذلك يستحي عند نهايتها كما تستحي البغيُّ عند انتهائها من زناها، نسأل الله السلامة والعافية! فلذلك إنما قصد بهذه الرواتب ترقيق القلوب، والذي يتعمد التخلف عن الجمعة هو أحوج إلى ترقيق القلب، وهو أحوج إلى ما يسد به هذه الثغرة التي بقيت فيه، وقد كان كثير من سلفنا إذا فاتته الركعة الواحدة من الصلاة يأتيه الناس ويعزونه بصلاته للمصيبة التي نزلت به.

حكم اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد في المناسبات

حكم اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد في المناسبات Q ماذا تقولون في هذه المناسبات التي يجتمع فيها الرجال والنساء في مكان واحد؟ وبماذا تنصحون رجلاً أصبحت هذه عادة مجتمعه؟ A هذا من المنكرات البينة ومن الجرائم العظيمة التي يجب إنكارها وتغييرها، ولا يتذرع فيها الإنسان بالعادة والعرف، فإن هذا من أهون الأسباب وأوهنها، بل هو مثل بيت العنكبوت، والذي يتذرع به كالغريق الذي يمسك بخيوط العنكبوت؛ ولهذا فإن على الإنسان أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن الذين يزينون له الوقوع في مثل هذه المنكرات أو السكوت عنها إذا حصلت سيتبرءون منه يوم القيامة، وسيصيرون خصومه بين يدي الله، ولن يغنوا عنه من الله شيئاً. فعلى الإنسان أن يقوم لله بالحق، وألا تأخذه في الله لومة لائم، وأن يحاول تغيير المنكر حتى لو كان ذلك في أقرب الناس إليه وآثرهم لديه، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا تقدم بنهي أو أمر جمع أهل بيته وخدمه ومواليه فقال: (إني متقدم إلى الناس في هذا الأمر، فوالذي يحلف به عمر بن الخطاب لا يرفع إلي أن أحداً منكم عمله إلا جعلته نكالاً)، ثم بعد ذلك يعلنه للناس بعد أن يبدأ بأهله.

معنى حديث: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا)

معنى حديث: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا) Q نرجو منكم توضيحاً لمعنى الحديث التالي: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا، وهو مدرك ذلك لا محالة: فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)؟ A بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الزنا من الأمور المنتشرة، فهو مثل الشرك، فالشرك كثير الانتشار جداً، وهو أخفى في النفوس من دبيب النمل، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)، ومثل ذلك الزنا فهو أيضاً أنواع منوعة وهو منتشر خفي؛ فكثير من الناس لا يقترفون جريمة الزنا نفسها ولكنهم يقتربون منها، والله قد حرم الاقتراب من الزنا، ولم يذكر الزنا بنفسه في قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فلم يقل: ولا تزنوا، وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، فهذا يقتضي تحريم النظر، وتحريم الكلام في ريبة، وتحريم الاقتراب والدخول على النساء والخلوة والخلطة وغير ذلك، فكل ذلك داخل فيما حرمه الله سبحانه وتعالى في قوله: (ولا تقربوا). وكذلك مصافحة الأجنبية فإنه من الاقتراب من الزنا الذي حرمه الله في هذه الآية، أما بالنسبة لرد السلام في غير ريبة فهذا لا حرج فيه، بل هو مما أمر الله به في كتابه في قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فرد السلام لا حرج فيه شرعاً، ومثل ذلك تشميت العاطس فهو حق من حقوق المسلم على أخيه، ويستوي فيه الرجال والنساء، لكن المحرم هو سلام الريبة {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، وكذلك الدخول على النساء والخلوة بهن، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والدخول على النساء! فقالوا: يا رسول الله: أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت). وبالنسبة لحظ الإنسان من الزنا: لو كان كل نظر إلى محرم داخلاً في هذا لكان هذا مشكلة وضرراً على الناس، وقد عفا الله عن النظرة الأولى -نظرة الفجاءة- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك النظرة الأولى) ولهذا قال: (والفرج يصدق ذلك ويكذبه)، فالشاهد الذي يشهد أن هذا من الزنا أو ليس منه هو الفرج إذا صدق ذلك، فمعناه: أن الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- قد وقع فيما حرم الله عليه، وإذا كذبه فمعناه أنه لم يصب ما حرم الله عليه حينئذ، وكذلك السماع: ما سمعه الإنسان إذا كان من الزنا فعلامة ذلك وشاهده أن يصدق ذلك الفرج، وإذا لم يفعل فقد كذبه، فمعناه: أنه لم يفعل ما حرم عليه.

حكم جمع النساء وتعليمهن

حكم جمع النساء وتعليمهن Q هل يدخل فيما سبق جمع النساء وتعليمهن؟ A بالنسبة لتعليم النساء وجمعهن هذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، وهو بعيد من الريبة والشبهة، ولكن المشكلة هي الخلوة بالأجنبية، والدخول عليها، ومخالطة النساء الأجنبيات.

حكم معاقبة المجرم بدون إذن من السلطان

حكم معاقبة المجرم بدون إذن من السلطان Q هل يجوز لشخص أن يتصدى لجريمة ويعاقب أهلها ويؤذيهم بدون إذن من السلطان، كأن يضربهم إلى غير ذلك من الأمور؟ A لقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين أمراً عامة بمكافحة الجرائم وإقامة الحدود وغير ذلك، كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، وغير ذلك من الأوامر التي هي موجهة إلى جميع المسلمين، لكن اختلف الناس في حكم إقامة الحدود: هل هي مختصة بالولاة أو لا تختص بهم؟ فذهب الحنفية إلى أن إقامة الحدود مختصة بالولاة، واستدلوا بحديث ضعيف جداً وهو: (أربع إلى الولاة: -ومنها- إقامة الحدود)، وذهب الجمهور إلى أن الإنسان يقيم الحدود على من ملكت يمينه؛ للحديث الذي فيه: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم)، وللحديث الذي فيه: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فليجلدها الحد وليبعها ولو بحبل)، فهذا مقتضٍ لتفويض كل إنسان في إقامة الحدود على ما ملكت يمينه، ومن ذلك: أولاده وأهل بيته؛ فقد جعلهم الله إليه وهو الوالي المسئول عنهم. أما تغيير المنكر بغير الحدود فعلى من رآه أن يغيره بيده مطلقاً، كل من رآه وهو قادر على التغيير يجب عليه التغيير، فإن استطاع ذلك بيده فلا يعذر بغيرها، وقد أعلن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فيما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). لكن لابد أن يكون حينئذ التثريب على أهل المعصية والوقوف في وجه الجريمة بدافع من اللطف والمحبة والرحمة، وألا يكون لمجرد التشفي بأذى الآخرين؛ فالإنسان كالطبيب المعالج المداوي يردعهم بالرحمة، حتى في إقامة الحد وفي الضرب وغير ذلك يفعله بالرحمة؛ لردعهم عن معصية الله، وهو يحبهم بقدر ما لديهم من محبة الله وبقدر إيمانهم، ويبغض معصيتهم فيهم، وبذلك يكون رحيماً بهم، لا يريد أن يعين الشيطان عليهم، ولا يريد أن يستمروا في المعصية، ولا أن تأخذهم العزة بالإثم.

حكم مصاحبة جماعة التبليغ

حكم مصاحبة جماعة التبليغ Q لي أخ من حفظة القرآن، وأحسبه طيباً، لكنه منذ فترة اعتنق جماعة الدعوة والتبليغ، وهو يخرج معهم، فما هو هذا الخروج وهل هو بدعة حقاً أم لا؟ A الجماعات لا تعتنق، إنما يعتنق الشيء الذي يجعل في العنق كالديانات ونحو ذلك، أما الجماعات فيقال: تصحب، ولذلك فالأسلوب الصحيح أن يقول: صحب جماعة الدعوة والتبليغ مثلاً، وهذه الصحبة من الصحبة في الله، والإنسان لا يستطيع القيام بأمر الله وحده، ويحتاج إلى من يساعده، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، والإنسان محتاج لمثل ذلك، فإذا وجد من يعينه على التزام أوامر الله واجتناب نواهيه، والتزام ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلماً وتعليماً وعملاً وأخلاقاً وعقيدة وديانة فهذا أكمل وأفضل. لكن بالنسبة لخروج جماعة الدعوة والتبليغ فهو مجرد تعليم وتدريب فقط، وليس أمراً واجباً ولا أمراً مسنوناً ولا مندوباً، إنما هو بمثابة الدراسة في المدرسة، كأن يدرس الإنسان ست سنوات في الابتدائية، وأربع سنوات في الإعدادية، وثلاث سنوات في الثانوية، وأربع سنوات في الجامعة، وأربع سنوات في الماجستير، وأربع سنوات في الدكتوراه مثلاً، كذلك هذا الخروج إنما قصدوا به التعويد على التعليم مثل المناهج الجديدة في المدارس تماماً، وقد جربوا فيه تجارب، وهو لا يدخل في البدع وإنما يدخل في المصالح المرسلة؛ لأنه بمثابة الدراسة الجامعية أو الدراسة المدرسية أياً كانت، لكنه قد يكون لدى الإنسان ما هو أفضل منه، فقد لا يكون أفضل الموجود في بعض الأحيان كمن لديه نفقات واجبة أو والدان ضعيفان، أو أهل يخاف عليهم إذا هو خرج وتركهم للضيعة. ومع هذا فالشيطان كثيراً ما يحول بين الإنسان وبينه مما يدل على أهميته للإنسان، فقد جاءني رجل من الذين أحسبهم من المخلصين يشكو ولده، ويخبر أنه خرج مع جماعة الدعوة والتبليغ، فقلت: هل تنقم عليه شيئاً في دينه؟ فقال: لا، لقد كان سيئ الخلق حِلَّيقاً مدخناً غير ملتزم بالصلاة في المسجد، فجاء وقد تغيرت فيه كل هذه الصفات. فقلت: أرأيت لو خرج في تجارة الآن إلى أسبانيا؟ فقال: نعم، هذا أمر معتاد لدى الناس، فقلت: فكيف تنقم منه الخروج مع قوم لم يستفد منهم إلا خيراً وما علموه إلا ما ترضاه أنت، وقد عجزت أنت أن تعلمه هذا؟! فكان ذلك مقنعاً له.

حكم ذهاب المرأة إلى أماكن الاختلاط العامة

حكم ذهاب المرأة إلى أماكن الاختلاط العامة Q ما حكم ذهاب المرأة المسلمة الملتزمة إلى الأسواق والمحلات العامة والمطاعم والمحلات التي يجتمع فيها الرجال والنساء؟ A إذا كان خروجها لحاجتها، ولم تكن متعطرة ولا متزينة، وأيقنت أنها لن تدخل في مزاحمة الرجال ولا اختلاطهم ولا أي إيذاء، وكان خروجها لأمر مهم؛ فهذا من الأمور الجائزة ولا حرج فيه. لكن إذا أيقنت أنها إذا ذهبت إلى الأسواق ستزاحم الرجال، أو سينكشف من بدنها ما لا يحل لها كشفه كأن ينكشف ساعداها أو قرط أذنيها أو شيء مما حرم الله عليها كشفه فهذا لا يحل لها. وكذلك إذا كانت تتزين للخروج أو تتعطر له، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما امرأة تعطرت فخرجت من بيتها فهي زانية). وكذلك إذا كان خروجها لمجرد التفرج على الناس ورؤيتهم ونحو هذا، فهذا من الأمور المقيتة شرعاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

حكم الدخول على غير المحارم

حكم الدخول على غير المحارم Q ما حكم الدخول على الرجل الذي ليس بمحرم؟ A دخول المرأة على الرجل مثل دخول الرجل على المرأة، إذا كان بخلوة أو في مكان ريبة فهو محرم شرعاً ومن كبائر الذنوب، بل عند الحنابلة أنه تستبرأ منه المرأة، فعندهم أن أي خلوة حصلت بين أجنبي وأجنبية يجب منها الاستبراء، وإذا كان ذلك دخولاً اعتيادياً كدخولها على رجال في مكان في غير ريبة، ومع تستُّر، ومن غير تزين ولا تطيب، فهذا من الأمور الجائزة ولا حرج فيه، مثل حضور حلقات الدروس وحلقات العلم، والخروج في التجارات والبيع والشراء، وما تحتاج إليه المرأة من شئونها وأمورها.

حكم رفع المرأة صوتها بالقرآن والحديث

حكم رفع المرأة صوتها بالقرآن والحديث Q ما حكم رفع المرأة صوتها بالقرآن والحديث؟ A إذا كان صوت المرأة غير مطرب، ولم تقصد بقراءتها للقرآن والحديث التطريب، فلا حرج في رفعها لصوتها، بل قد كانت عائشة جهورية الصوت، وكانت تعلم الناس القرآن والسنة، وقد أمر الله أمهات المؤمنين بذلك في كتابه وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. وكذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه خرج ذات ليلة إلى دور الأنصار يستمع القرآن، فسمع عجوزاً من الأنصار في آخر الليل تقرأ سورة الغاشية، فوقف على بابها فقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس وهو يقول: نعم أتاني، نعم أتاني).

حكم تحويل المسجد إلى مكان آخر

حكم تحويل المسجد إلى مكان آخر Q في قريتنا مسجد سقفه من الخشب والحديد، وبنت لنا الهيئة مسجداً من الأسمنت المسلح ملاصقاً له، إلا أن طوله أو عرضه أقل بثلاثة أمتار، فهل يجوز لنا أن نحول الصلاة إلى المسجد الجديد الذي هو أجمل وأقوى أم لا يحل لنا ذلك؟ A المسجد الذي تصلون فيه لم يأت جبريل بتخصيص ذلك المكان بخصوصه أنه المسجد؛ ولهذا فأنتم مخيرون قبل أن يبنى المسجد في أي مكان هو أليق بكم وأولى لكم أن تبنوا فيه المسجد الذي شئتم، وإذا بنيتم مسجداً ثم بنيتم ما هو أحسن منه وأولى، فالانتقال إلى الأولى أفضل، وقد قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، ونقل المساجد لمصلحة المساجد لا خلاف فيه بين أهل العلم؛ فقد أجمعت المذاهب على نقل المساجد لمصلحتها هي؛ كما إذا كان المسجد في زقاق ضيق، أو لم تكن له طريق نافذة، فينقل إلى مكان متسع، أو زقاق نافذ. أما نقل المسجد لغير مصلحة المسجد فهو محل خلاف بين أهل العلم: فذهب جمهورهم إلى جوازه إذا كانت المصلحة عامة، واستدلوا بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص: (انظر إلى المسجد الذي بالتمارين فانقله، واجعل بيت المال في قبلته، فلن يزال بالمسجد مصلي)، فالمسجد الذي بسوق التمارين بالكوفة أمر عمر بنقله من مكانه، وأن يجعل خلف بيت المال، وأن يجعل بيت المال في قبلته؛ ولذلك فانتقال المساجد من مكانها إلى جواره، أو نحو ذلك من الأمور الداثرة التي عرفت في كل مكان وفي كل زمان، فما من مكان عرف في هذه الدنيا إلا وفيه مساجده العتيقة القديمة التي يجدد بناؤها ولم يستطع هدمها، أو كان في هدمها تكاليف، أو فيها إتلاف لمال قائم، فيبنى حولها مسجد، وتقام هي لمصلحة المسجد، فتكون وقفاً للمسجد، أو متجراً ريعه للمسجد مثلاً، أو سكنا ًلطلاب العلم أو لإمام المسجد، أو نحو ذلك. ولهذا ليس من المصلحة الشرعية أن يعطل المسجد الأول؛ بل ينبغي أن يصرف ريعه لمصلحة المسجد الثاني، فيجعل بيتاً للاستئجار وريعه للمسجد الثاني، أو يجعل متجراً، أو يجعل مكاناً لسكن الإمام، أو طلاب العلم، أو للفقهاء، أو لمصلحة عامة تعود على المسجد بالنفع.

حكم قصر الأمر بالمعروف على العلماء الرسميين

حكم قصر الأمر بالمعروف على العلماء الرسميين Q كثير من الناس إذا أُمر بمعروف يقول: إن هذا من اختصاص العلماء المأمورين من طرف الحكومة، أرجو الجواب على هذا وتبيين الحكم فيه؟ A هذا قول على الله بغير علم، والذي قاله قد ارتكب جريمة أكبر من الإجرام الذي وقع فيه؛ لأنه أولاً: فعل جريمة مثل الغيبة أو الكذب أو الغش أو نحو ذلك، ثم عززها بجريمة أكبر منها وهي القول على الله بغير علم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. فالأمر بذلك لكل الناس كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، ولكل المؤمنين كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، وكما في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].

حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم

حكم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم Q ذكرتم في محاضرة سابقة في شأن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أن مالكاً وأبا حنيفة والشافعي ورواية لـ أحمد يقولون بعدم جواز التوسل به، أين نجد ذلك؟ A تفصيل هذا كله مستوفى في كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سماه (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)، وقد نقل فيه كلام أهل العلم جميعاً في هذه المسألة، وذكر المذاهب الأربعة في هذا تفصيلاً على ما ذكرناه، وهذا الكلام نفسه موجود في كلام الطرطوشي من الماليكة في البدع والمحدثات، وكذلك في كتاب محمد بن وضاح المالكي وهو شيخ أبي عمر بن عبد البر في البدع.

حكم إدخال برامج غنائية في التلفزيون

حكم إدخال برامج غنائية في التلفزيون Q في التلفزة الوطنية برنامج بعنوان: كلمات وأنغام، يستخدم لقتل الحياء، حيث يجتمع نساء ورجال آخذين زينتهم، فما نصيحتكم في ذلك؟ A هذا من المنكر البين الذي يجب على الإنسان أن ينكره، وأن يعلن إنكاره وبراءته منه، ونحن من هذا المكان ننكره ونعلن براءتنا إلى الله منه، ويجب على المسلمين أن يبرءوا من كل المنكرات وأن ينكروها، وأن يبلغوا من يرجون منه تغيير ذلك، وأن يحافظوا على أخلاقهم ودينهم، وأخلاق من استودعهم الله تعالى، وجعل تحت أيديهم من أهليهم، وألا يدعوا مجالاً لغزو بيوتهم بمثل هذه البرامج المفسدة الهابطة التافهة.

نصيحة لموسوس

نصيحة لموسوس Q أنا مصاب بشيء لا أعرف هل هو من الوسواس أم لا، وهو: أن أبي شيخ كبير مريض يستعمل دواء يزيد في جريان البول، وقد يصيب الفراش منه شيء بدون قصد منه فتعذرت طهارته، وأصبحت أنا لا ألمسه ولا أقربه ولا أجلس معه على الفراش الذي يجلس فيه، وحتى المكان الذي يجلس فيه، لأني أعتبر المكان نجساً كله، وحتى إن من يجلس معه في المكان من الأهل أصبحت أنفر منه، وإذا لمسني أحد من الأهل سواء مس ثيابي أو بدني غسلت ثيابي أو بدني، حتى إني أعتبر أني تنجست، وأصبحت أسكن في غرفة وحدي لا يدخل علي فيها أحد، حيث أصبحت معزولاً عن الناس، هذا منذ ما يزيد على سنة، وحتى إني أصبحت لا أصلي في المساجد؛ لأن الصبيان يصلون فيها؛ وذلك لأني أعتبر الصبيان متنجسين، وسبب هذا هو أني كنت أسكن مع أقرباء لي عندهم صبية يبولون على فراشهم، وفي بعض الأحيان قد لا يطهرون الفراش، فذهبت عنهم، وعندما أزورهم الآن وأجلس على فراشهم وأصافح أحداً منهم ولو في الطريق أرجع إلى أهلي وأغسل بدني وثيابي، وكذلك إذا زارني منهم أحد، فما توجيهكم لي؟ A هذه مشكلة من عمل الشيطان، فهذا الإنسان قد جعل للشيطان سبيلاً على نفسه واتبع خطوات الشيطان، وقد نهاه الله سبحانه وتعالى عن اتباع خطوات الشيطان، فعليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وألا يجعل للشيطان سبيلاً عليه، فقد سلم عقله للشيطان واستسلم له؛ ولذلك يجب عليه أن يبادر بالتوبة، وأن يستغفر من هذا الوسواس، وأن يعلم أنه من عمل الشيطان البين، الذي يجب منه التوبة وتركه والرجوع عنه، وأن يعلم أن هذا مفسد لعقله ودينه ولأخلاقه ولمعاملته مع آكَدِ الناس حقاً عليه، فأحق الناس بصحبته والداه، وأقاربه، ويجب عليه أن يعتذر إليهما، وأن يعود عن هذا، وألا يدع للشيطان سبيلاً عليه أبداً. وبالنسبة للصبيان: الأصل في ثيابهم وأبدانهم الطهارة؛ ولذلك لا يتغير هذا الأصل إلا إذا غلبت النجاسة، مثل من رآها، أو ظنها ظناً غالباً مبنياً على قرائن وعلم، ولم يكن من أهل الوسواس، أما من كان من أهل الوسواس فلا يلتفت إليه أصلاً، وينبغي أن ينقطع عنه بالكلية، وكل ما يؤدي إلى الوسواس لديه يفر منه ويتركه، فتعبدك لله كما كنت تعبد الله قبل أن تصاب بهذا المرض باجتناب النجاسات، تعبُّدك إلى الله الآن بأن تقطع الوسوسة، فكل ما يؤدي إلى هذه الوسوسة يجب عليك قطعه، والابتعاد عنه مطلقاً.

كيف توفق المرأة بين الدعوة وبين تربية الأطفال

كيف توفق المرأة بين الدعوة وبين تربية الأطفال Q كيف توفق المرأة بين واجباتها الدعوية وتربية أطفالها؟ A عليها أن تسدد وتقارب، وما من إنسان إلا وواجباته كثيرة وأوقاته ضيقة، لكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالتسديد والمقاربة، وقد أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد السلام بن المطهر، قال: أخبرنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدين إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، فعلى الإنسان أن يسدد ويقارب ويعلم أنه لن يؤدي كل الحقوق، ولن يأتي بها كاملة مهما كان، لكن يسدد ويقارب ولا يضيع حقاً واضحاً، ويحاول أن يعمل مثل عمل الفارض الذي يقسم التركة عندما تزيد الرءوس على السهام، فيعمل بالعود وينقص كل أحد بنسبة متساوية.

كيفية تربية الأولاد

كيفية تربية الأولاد Q كيف تربي المرأة أطفالها على الحق؟ A هذا مما ينبغي الاهتمام به، والعناية به، فأساليب تربية الأولاد على المنهج الصحيح، وتعويدهم على الرجولة في صباهم والالتزام بالحق من آكَدِ الواجبات وأهمها وأعظمها، والإنسان الذي يريد أن يكون أولاده ذخراً له وأجراً لا ينقطع عنه إذا كان في قبره وانقطعت أسبابه من الدنيا؛ فإن عليه أن يبذل فيهم جهداً، ولا يظنَّنَّ إنسان أنه سيصلح أولاده وذريته دون بذل الجهد، فهذا من الإهمال وتضييع الواجبات؛ ولذلك جاء في الحديث الذي فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكيَّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)، فلذلك على الإنسان أن يبذل الأسباب في سبيل إصلاح أولاده وتربيتهم تربية صحيحة، وتعويدهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك إلا بمصاحبتهم، ومدارسة السنة معهم، ومدارسة السيرة النبوية وأخلاق السلف، وأن تدرس المرأة دراسة جادة في أساليب التربية لدى السلف، وكيف كانت الأمهات السابقات يربين أولادهن، ويعلمن أولادهن التعليم المصيب الصحيح. وقد ألفت بعض الكتب في هذا، فمن الكتب المنتشرة المشهورة بين الناس: تربية الأولاد في الإسلام للشيخ عبد الله بن ناصح العلوان رحمه الله تعالى، وغيره من الكتب الكثيرة في هذا الباب المهمة التي ينبغي للنساء أن يقتنينها، وأن يتدارسنها، ومثل ذلك الكتب المتعلقة بالهمة، مثل: علو الهمة طريق إلى القمة للدكتور محمد بن إبراهيم محمد عقيل موسى، وكذلك غير هذا من الكتب النافعة في هذا الباب، (وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).

حكم إلحاق الأولاد بالمدارس النظامية

حكم إلحاق الأولاد بالمدارس النظامية Q هل يجوز أن تزج المرأة بأطفالها في المدارس النظامية على علاتها، وإذا كان الجواب بلا فما البديل؟ A المدارس النظامية إذا وكلت إليها المرأة تربية أولادها، أو وكل إليها الرجل تربية أولاده، فقد ضيع وفرط ولم يرع الأمانة التي ائتمنه الله عليها، لكن لا يقتضي ذلك أيضاً منعهم من الدراسة دون بديل، بل على الإنسان أن يعلمهم ويربيهم وإن جعلهم في المدارس، بأن يجعل لهم منهجاً خاصاً وبرنامجاً حافلاً في البيت، وأن يصرف أوقاتهم في تعلم القرآن والعلم والعبادة وتعلم الأخلاق والقيم، وألا يكل تعليمهم إلى المدارس أبداً، وأن يبيَّن لهم أن ما يتلقونه من دين الله في البيت هو أفضل وأعظم مما يتلقونه في المدارس، وأن المدارس يَدْرس فيها من هب ودب، ويُدَرَّس فيها كذلك من هب ودب، وأن تعلُّم القرآن هو الشرف العظيم، وأن تعلُّم العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو أشرف من كل ما سواه، فإنهم -إن شاء الله تعالى- لن تضرهم المدارس بذلك، فيستفيدون مما فيها من الخير، وينجون مما فيها من الضرر، والمهم أن على الإنسان أن يحاول أن ينجي أولاده من ضررها، وأن يكسبهم نفعها.

طلاق من استبان أنها محرم وعدتها

طلاق من استبان أنها محرم وعدتها Q المطلقة طلاقاً تنزهياً هل لها عدة أم لا؟ A لها عدة كعدة غيرها، فقد أخرج البخاري في الصحيح وغيره من حديث عقبة بن حارث رضي الله عنه قال: (تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب بن عزيز، فجاءت امرأة سوداء فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوجها، فقلت: ما علمت ذلك ولا أخبرتني، فأرسلت إلى آل أبي إهاب أسألهم فقالوا: ما علمنا ذلك، فركبت راحلتي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسألته: فقال: طلقها فلا خير لك فيها)، وفي رواية: (كيف وقد قيل)، وفي رواية: (فارقها، ففارقتها فتزوجت رجلاً غيري)، فهو بمثابة الفراق، ولهذا تعتد منه المرأة بثلاثة قروء كالمطلقات الأخريات.

حكم طاعة الوالدين في اختيار الزوجة

حكم طاعة الوالدين في اختيار الزوجة Q ما حكم من يعارضه أبواه في الزواج من الملتزمات، بدعوى أنها ليست من أهله، ويصران على زواجه من بنات قومه، فكيف يتصرف مع أبويه؟ A على الإنسان إذا أراد البر بوالديه أن يسألهما أن يرشحا له من يرضيانها، فإن رشحا له ذات دين وخلق فعليه أن يبرهما بذلك، وإذا رشحا له من لا يرضى دينها ولا خلقها فلا يجب عليه برهما بذلك، بل إذا كان يخشى أن يصل إليه ضرر من خلقها أو دينها فلا يحل له أن يتزوجها، وإذا كان يرجو أن تلتزم وتستجيب، وأن يُصِلحَ دينها وخلقها فيثاب ثوابين إن شاء الله تعالى؛ ولهذا عليه أن يقنع والديه بالتي هي أحسن: إذا عرف من يرضى دينها وخلقها وأراد أن يتزوجها فمانع والداه من ذلك، فعليه أن يقنعهما بالتي هي أحسن، وإقناعهما سهل: فالوالدان بطبعهما رحيمان يحبان مصلحة الولد، فإذا خيَّرهما بين أن يتزوج بهذه أو أن يترك الزواج، فسيختاران الزواج بها، وكذلك إذا أخر الزواج بها وخدمهما وتقرب إليهما فترة طويلة، فإن ذلك مقتض لأن يبادرا إلى هواه وما يحبه، فإقناع الوالدين أمر سهل، وبالأخص إذا برهما الولد وأحسن صحبتهما، وعلى الإنسان ألا يتعجل، وألا يمل من خلطة والديه، فإنهما سينتقلان لا محالة ولن يعوضا، ولن يجد الإنسان بعدهما من يسد له مسدهما من المحبة والنصح؛ ولذلك على الإنسان أن يحسن خلطتهما ومصاحبتهما بالتي هي أحسن كما أمر الله بذلك. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ندَّ لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تصلح أولادنا، وأن تحقق مرادنا وأن تجعل التقى زادنا. اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم جنبنا جميع الجرائم والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اصرف عنا الوباء والربا والزنا والزلازل والمحن عامة يا أرحم الراحمين. اللهم لا تدع لنا في ساعتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين. اللهم حارب الكفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك ويصدون عن سبيلك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تحقق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية. اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ولا تجعلنا أتباعه. اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم استرنا يوم العرض عليك يا أرحم الراحمين. اللهم هؤلاء عبادك وإماؤك قد اجتمعوا في بيت من بيوتك يرفعون إليك أيدي الضراعة، فلا تردهم خائبين، اللهم لا تجعلنا أخيب الداعين يا أرحم الراحمين. اللهم إنك تدعى في هذه الساعة بألسنة مختلفة في أماكن شتى، يا من لا تَحجب عنه دعوةٌ دعوةً، ولا تختلط عليه حوائج الداعين أجب دعاءنا يا أرحم الراحمين. اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بك. اللهم استجب دعاءنا يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم أنزل علينا السكينة، وألهمنا الإيمان يا أرحم الراحمين. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم أحسن خواتمنا يا أرحم الراحمين، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اجعل سرائرنا خيراً من علانياتنا، واجعل علانياتنا صالحة. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

خطورة المتاجرة بكلمة الحق

خطورة المتاجرة بكلمة الحق عندما يتغلغل الإيمان في القلوب لا يمكن لأي قوة بشرية أن تقف أمامه، فهاهم سحرة فرعون عندما خامر الإيمان شغاف قلوبهم لم يخشوا تهديد فرعون بالقتل والصلب وإنما قالوا: اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. فعلى العلماء والدعاة أن يسعوا إلى زيادة الإيمان وتقويته، حتى يواجهوا به ضغوطات الجبابرة والطغاة، وأن يقولوا كلمة الحق ولا يخافوا في الله لومة لائم.

ضرورة معرفة نعم الله علينا

ضرورة معرفة نعم الله علينا إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى يتعرف إلى عباده بما يسديه إليهم من النعم، ويتعرف إليهم كذلك بالبلاء الذي هو من المحن، وقد قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، فمن شكر نعمة الله تعهد الله له بالمزيد، ومن صبر على بلاء الله تعهد الله له برفع البلاء ورفع الدرجة في الآخرة، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فلذلك لابد -يا إخواني- أن نعلم أن كل ما يأتينا إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى، وقد أنعم علينا بأنواع النعم التي لا نستطيع إحصاءها، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل:53 - 54]. لابد -يا إخواني- أن نعرف نعمة الله علينا، وأن نقر بها ونبوء بها لله عز وجل؛ ليزيدنا من فضله، فإن ما عند الله تعالى غير محصور، وإنه سبحانه وتعالى قد قال فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، وإن الإنسان إذا تعامل مع الله تعالى عرف نعمته عليه في ماضي حياته، فكم من مأزق قد دخله ثم فرج الله عنه، وكم من أمر قد ضاق عليه ثم وسع الله له فيه، وقد قال أحد العلماء: حسن الظن بمن عودك كل إحسان، وقوى أودك، إن رباً كان يكفيك الذي كان بالأمس سيكفيك غداً.

فوائد التوكل على الله

فوائد التوكل على الله إن التوكل على الله سبحانه وتعالى هو مفتاح الفرج، وهو الذي يقتضي من الإنسان تحقيق الإيمان والانتماء لله تعالى، ولذلك فإن رسل الله قد حققوا ذلك جميعاً، وقد قال نوح لأصحابه: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71]، وقال هود لقومه حين كذبوه: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، وقال إبراهيم عليه السلام لقومه حين رموه في النار: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70]، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174]، أنعم الله عليهم فهداهم للتوكل عليه، وأرشدهم إلى سلوك طريقه، فامتن الله عليهم بهذه النعمة الجسيمة العظيمة، وكل المؤمنين عرضة لذلك إذا توكلوا على الله، فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق:4 - 5]، فعلينا -يا إخواني- أن نتوكل على الله سبحانه وتعالى وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأن نحسن العلاقة به، وأن نتوب إليه من كل ما فرطنا في جنبه، وأن نعلم أنه غني عنا ونحن فقراء إليه، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]، وأنه تعالى غني عن عذابنا، وغني عن إلحاق الأذى بنا، ولكنه يمتحننا ويبتلينا، فعلينا -يا إخواني- أن ننجح في هذا الامتحان بين يدي الله، وأن نحسن علاقتنا به، وأن نفتح صفحة جديدة وعمراً جديداً، فقد أتيحت الفرصة لكثير منا بالإحسان والتوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.

الإيمان بأن ما عند الله خير وأبقى

الإيمان بأن ما عند الله خير وأبقى علينا أن نعلم عباد الله! أن ما عند الله خير وأبقى، وأن أهل الأرض لا يملكون لأحد منا نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:73 - 74]. إن الله سبحانه وتعالى هو ديان السماوات والأرض، وقد قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس:107]، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، الأمر كله إليه {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53]، السماوات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء. وما يخافه الإنسان من العباد لا يساوي شيئاً مما عند الله، فالإنسان الذي ترهبه أو تخاف منه أو تخاف مكره أو بطشه، يمكن أن يموت في نفس اللحظة التي تخافه فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرسولي كسرى: (أرسلكما كسرى؟ قالا: نعم. قال: قتله ابنه البارحة)، فالذي أتعبكما قد قتله ابنه البارحة. ولذلك لابد -يا إخواني- أن نعلم أن الأمر كله بيد الله، وأن المخلوقين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً من هذا الأمر، ليس شيء في أيديهم، لا يستطيعون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف بمن سواهم؟! لابد أن نوحد الله تعالى وأن نخلص له، ولابد أن نعلم جميعاً أن الرزق من عند الله، وأن الخير بيد الله، وأن الثواب والعقاب كلاهما بيد الله، لا يملك أحد لأحد ثواباً ولا عقاباً إلا الله عز وجل.

دعوة إلى التحرر من القيود والضغوط البشرية

دعوة إلى التحرر من القيود والضغوط البشرية ويعجب الإنسان إذا سمع أن مخلوقاً ضعيفاً محتاجاً إلى الله تعالى في كل أحواله، يحاول أن يناد الله ويحاده في ملكه، فيأمر بما يخالف أمر الله، ويسعى لإظهار الباطل وإزهاق الحق بلسانه الذي هو من خلق الله، لا يستطيع أن يتحرك حركة لا يميناً ولا شمالاً، ولا يستطيع أن يلفظ بقول إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، وهو مع هذا يحاول أن يفتري على الله كذباً، ويحاول أن يأمر الآخرين بذلك، وقد قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:9 - 19]. وعلى عباد الله إذا تعارض أمر الله سبحانه مع أمر غيره أن يقدموا أمر الله؛ لأنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وأن يعلموا أن الله سبحانه وتعالى لديه من الضغوط ما ليس لدى المخلوقين، فالضغوط سببها إما خوف أو طمع، والله سبحانه وتعالى هو الذي لديه ما يخاف منه، ولديه ما يرغب فيه ويطمع، ومن سواه لا يملك ذلك لأحد. لذلك لابد -يا إخواني- أن نتحرر من القيود ومن الضغوط، وأن نعلم أن المخلوقين ليس لهم أن يأمروا أحداً بخلاف أمر الشارع، وليس لأحد أن يطيعهم في ذلك، ومن فعل فقد عبدهم من دون الله، وقد قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].

ضرورة الثبات على الإيمان وفوائده

ضرورة الثبات على الإيمان وفوائده إن كثيراً من الناس يظن أنه بسلطانه في هذه الحياة الدنيا، أو بمكانته أو بوظيفته يستطيع أن يضغط على الآخرين، وأن يؤثر فيهم، حتى يغيروا مواقفهم، أو حتى يعدلوا عن الحق الواضح الذي لا لبس فيه، وهذا إنما هو ضرب في حديد بارد، وتخيل في غير موضعه، ولذلك لابد أن يثبت المؤمنون على الإيمان، وأن يعلموا أن الصراط الدنيوي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تمثيل للصراط الأخروي، الذي هو جسر منصوب على متن جهنم، وجاء وصفه في الحديث: (أدق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلابيب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم: فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم). وبقدر استقامة الإنسان على هذا الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فلذلك لابد أن نعلم أن كل هذه الضغوط، وكل هذه الأوامر والنواهي التي هي في غير موضعها، صادرة ممن لا يستحق أن يأمر ولا أن ينهى، ولا يملك لنفسه شيئاً، لو شرق من ريقه لما استطاع أن يزيل ذلك، ولو احتبس نفسه في رئته لما استطاع أن يخرجه، ولو احتبس أي شيء من قاذورات بدنه لما استطاع أن يخرجه من بدنه، ومن كان هكذا لا يمكن أن يخافه عاقل ولا أن يطمع فيه، لابد -يا إخواني- أن ننزل البشر منزلتهم، وأن نعلم أن حقوق الإلهية مختصة بالله جل جلاله، لا يملكها أحد ممن دونه. إن الإنسان إذا اعتقد هذه العقيدة وآمن بهذا الإيمان، فهو مؤمن عبد لله، حر من الأحرار، ليس لأحد عليه سلطان، ولا لأحد ولا عليه ضغط، وهو بذلك متصل بالله جل جلاله، وقوته مستمدة من قوة الله الجبار جل جلاله، ولا يمكن أن يضعف أمام أي سلطان، ولا أمام أي ضغط من الضغوط، ولذلك قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:39 - 41]، انظروا إلى الفرق الشاسع بين هؤلاء الذين وصفهم الله بهذا الوصف {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، وبين آخرين إذا مكن لأحدهم في الأرض، ولو كان تمكيناً ناقصاً أمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف، وأرادوا أن يغيروا حكم الله سبحانه وتعالى، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، ويتجاسرون على الله تعالى في ذلك، وهم في هذا يعلمون أن ما هم فيه زائل، وأن الكراسي التي يشغلونها قد شغلها من هو أطول منهم عمراً ومن سبقهم، وقد قيل قديماً: (لو دامت لغيرك لما وصلت إليك)، ويعلمون أنهم غير مخلدين فيها، وأن لهم يوماً يذهبون عنها ويقفون بين يدي الله سبحانه وتعالى، ليس مع أحد منهم شفيع، ولا يغني عنه نسبه ولا حسبه، ليس له حينئذ إلا ما جنت يداه، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111] حينئذ يعرضون على الله تعالى، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، حينئذ يجازون عند الملك الديان بما يستحقون، ولا يمكن حينئذ أن يراعى فيهم نسب ولا حسب {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:48 - 51]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.

أسباب طغيان الإنسان

أسباب طغيان الإنسان الحمد لله على إحسانه، والشكر له على تفضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وإخوانه. عباد الله! إن الطغيان له أسباب كثيرة، فيطغى الإنسان إذا أحس بالغنى، كما قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]. ويطغى إذا أحس كذلك بالقوة بأي وجه من أوجهها، ويطغى إذا أحس بالإمهال من عند الله سبحانه وتعالى، ويطغى إذا اقترف كبيرة من الكبائر فلم يؤاخذ بها، ويطغى كذلك إذا رأى غيره ينصره على ما هو عليه من الباطل، وكل هذه الأسباب تؤدي بكثير من الناس إلى الطغيان ونسيان الآخرة، ومن العجب الذي لا يمكن أن يتصور إنسان قدره ولا مستواه، عندما يصل الطغيان إلى أقصاه في بلاد الإسلام وبين المسلمين! وينادى به على رءوس الأشهاد ولا يستنكره أحد، فهذا من العجائب العجيبة، التي لا يمكن أن يتصورها المسلم، الذي هو على هذه المحجة البيضاء، التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

واجب أئمة المساجد تجاه الضغوطات الموجهة عليهم

واجب أئمة المساجد تجاه الضغوطات الموجهة عليهم يعجب الإنسان إذا سمع أن أئمة المساجد جميعاً يؤمرون بأن يقولوا الباطل وأن يسكتوا عن الحق! يعجب أن يسمع مثل هذا النوع من التوجيه الذي هو صريح في مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى! وهو يعلم أن المساجد ليس عليها سلطان للبشر، وأن الله تعالى نسبها لنفسه وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18]، فحررها الله سبحانه وتعالى من سلطة العباد، وجعلها خالصة لله سبحانه وتعالى، فليس فيها سلطان إلا للقرآن، ما أمر الله به فيها لابد من أن ينفذ، وما نهى عنه لابد أن يجتنب، وهي بيوت الله من أرضه، ولابد من احترامها على أن تتخذ للدعايات المغرضة، والأباطيل والأراجيف الكاذبة، لابد أن تطهر من هذا النوع، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:21]، أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، وبين الله سبحانه وتعالى أن الافتراء سبب لأخذ الله السريع، فقد قال في نذارة موسى عليه السلام: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]، وقد قال الله تعالى في تعطيل المساجد: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114]. تعهد الله لهم بأمرين: الأمر الأول: الخزي في الدنيا. والأمر الثاني: العذاب في الآخرة، نسأل الله السلامة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. إن هذا الضغط لا يمكن أن يستجيب له عاقل ولا مؤمن؛ لأنه يعلم أن الله تعالى يأمر بخلاف ما يأمر به هؤلاء العباد الفقراء الضعفاء، الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياة ولا موتاً ولا نشوراً، وأن ما يأمرون به مخالف لرضوان الله سبحانه وتعالى، والله ينظر إليهم عند أمرهم، ويستمع إلى ما يقولون ويبيتون وهو معهم أينما كانوا، ولا يستطيعون كتمان شيء من ذلك، وسيأتون فيعيدون الكلام بحضرة الملأ بين يدي الملك الديان، وبحضرة الأنبياء والملائكة جميعاً، وتشهد عليهم جوارحهم به، عندما يختم على ألسنتهم، فتتكلم جوارحهم وتشهد عليهم بما فعلوا من الزور والبهتان، والظلم العظيم. إن هذا النوع من الأوامر لابد أن يستنكر، فهو من المنكرات الكبيرة العظيمة التي يجب إنكارها وتغييرها، ومن لم يستطع تغييرها بيده وجب عليه إنكارها بلسانه، فقد أخرج مسلم في الصحيح، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

لا ينبغي للعاقل أن يصرف دينه ومروءته من أجل أن يحصل على المنصب

لا ينبغي للعاقل أن يصرف دينه ومروءته من أجل أن يحصل على المنصب إن علينا يا عباد الله! أن نعلم أن الحرص على المناصب أو الوظائف لا ينبغي أن يصل بالعاقل إلى هذا المستوى من الدناءة ونقص المروءة، إن لم يكن للإنسان دين يمنعه من مثل هذا، فعلى الأقل تمنعه منه مروءته في أوقات الحاجة إليه، وهو يعلم أن الناس تنتظر منه قول الحق، وتنتظر منه نصرة دين الله عز وجل، وتنتظر منه بما أنعم الله عليه أن يقول ما قال موسى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، إن ظهير المجرم لابد أن يسلط عليه المجرم يوماً من الأيام، وقد جاء ذلك في الصحيح، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أعان ظالماً سلط عليه)، فلابد أن يسلط عليه ذلك الظالم الذي أعانه وتزلف إليه بما يعلم هو في قرارة نفسه أنه باطل وكذب مفترى، فلابد أن يسلط عليه ذلك الظالم إن لم يتب، والله سبحانه وتعالى قد فتح باب التوبة أمام الجميع، وأذن للجميع إذا أخطئوا واستجرهم الشيطان إلى الباطل أن يعودوا إلى الحق. وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل) والتمادي في الباطل لا يكون إلا من شأن الذين تبرأ الله منهم، فأولئك هم الذين يقعون في الباطل ثم يستمرون عليه ويستمرئونه. أما أهل الحق فإن الشيطان يستزلهم للوقوع في المنكر ثم يتوبون ويرجعون إلى الله، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202]. وبالأخص إذا كان الإنسان في شعب مسلم مسالم شأنه شأن شعبنا هذا المسلم، فإنه يعلم أن أهل الحق حتى من بيته وأسرته سيلومونه على مخالفة الحق، ومن لم يلمه على ذلك كان شريكاً له كما قال الشاعر: لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إذاً للام ذوو أحسابها عمر ففي ذلك لابد أن يستحي الإنسان على الأقل على مروءته إن لم يستح على دينه، من مثل هذا النوع من الأباطيل التي هي من منكرات آخر الزمان التي لابد من إنكارها.

ظهور الحق مع قوة الباطل وطغيانه

ظهور الحق مع قوة الباطل وطغيانه والغريب أن يغتر الإنسان بسلطانه فيظن أنه سيكمم أفواه الخلائق جميعاً، وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، أيظن أنه يستطيع أن يكمم أفواه الملائكة؟! أيظن أنه يستطيع أن يكمم أفواه الرياح؟! إن الحق إذا لم ينطق به البشر نطقت به الملائكة ونطقت به الرياح، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، إذا لم يقم به أهل الأرض قام به أهل السماء، ولذلك لا تظنوا أن الحق سيخنس أبداً، بل لابد أن يقوم به قائمون لله تعالى لا يخافون في الله لومة لائم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:54 - 56]. أسمعتم هذه الصفات التي بين الله تعالى، والتي لم تجدوا فيها الذين يكممون أفواه الناس عن الحق، والذين يوزعون الأوامر في القرى والأمصار ألا يتكلم بالحق على المنابر، والذين يوزعون الأوامر في القرى والأمصار أن يعتقل كل من قال الحق، هل تجدون هذا الوصف في هذه الآيات؟ أبداً، إنما جاءت على خلافه وتكذيبه، وإبطال ما يدعيه أصحابه، فأولئك لا خلاق لهم، وإنما سلطهم الله على أنفسهم بذلك، ولا يضرون إلا أنفسهم، ولا يضرون الله ولا رسوله ولا دينه شيئاً، وسيندم من عاش منهم غاية الندم، أما من مات منهم على ذلك قبل توبته فسيعجل له عقابه، نسأل الله السلامة والعافية. عباد الله! إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته، وثلث بكم معاشر المؤمنين، فقال جل من قائل كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وزد وبارك على نبينا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم من أراد المسلمين أو الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل دائرة السوء عليه، وأدخله في ردغة الخبال، وسل عليه سيف الذل والوبال، وأرنا فيه عجائب قدرتك، وأنزل به المثلات، وأنزل به بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين، وائته من حيث لا يحتسب، وسلط عليه ما لا يستطيع الخلاص منه، اللهم شل أركانه، وهدّم سلطانه، وأخرس لسانه، وشتت أعوانه، وأبدلنا خيراً منه مكانه. اللهم فرج همنا، ونفس كربنا، اللهم عجل الفرج لنا أجمعين، اللهم عجل فرجنا وعجل مخرجنا، وانتقم لنا ممن ظلمنا وممن أعان على ظلمنا. اللهم فرق رأيهم، وشتت شملهم، واجعل كيدهم في تضليل، وأرنا فيهم عاجل انتقامك يا قوي! يا عزيز! اللهم كن للمستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم كن للمسلمين في فلسطين وفي العراق وفي كشمير وفي الشيشان وفي أفغانستان، اللهم ارفع عنهم البلاء، اللهم انصرهم على أعدائهم، اللهم أنزل بأسك ورجزك وسخطك وعذابك على كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك، ويصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، اللهم أنزل بهم المثلات، اللهم اهزمهم شر هزيمة، وأخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين مهزومين يا ذا القوة المتين! اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وبذلوا ما يستطيعون من الفساد في الأرض، اللهم اضربهم بسوط عذاب من عندك، ترينا به عاجل عقوبتك وسريع أخذك فيهم يا قوي! يا عزيز! اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اغفر لنا حوبنا وسيئاتنا كلها يا قوي! يا رحمان! يا رحيم! اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وفك أسرنا وأسر المأسورين من المسلمين أجمعين. اللهم إننا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين! اللهم ول أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا، واجعل المال في أيدي أسخيائنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، وأقام منهجك، ولم تأخذه فيك لومة لائم، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك. عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه شكراً حقيقياً يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، يغفر الله لنا ولكم.

استشعار أئمة المساجد ما استئمنوا عليه من الوحي

استشعار أئمة المساجد ما استئمنوا عليه من الوحي لابد كذلك أن يعلم أئمة المساجد أنهم أمنا الله على الوحي، وأن الله اختارهم لمكان سامق رفيع، وأنهم إذا كانوا يخضعون لمثل هذا النوع من السفاهات فقد احتلوا مكاناً لا يستحقونه، فهذا الوحي هو أشرف ما في الأرض، ولا يمكن أن يؤتمن عليه السفهاء، ولا أن يؤتمن عليه الذين خربت هممهم، ولا يمكن أن يؤتمن على وحي الله إلا من كان أهلاً لذلك، ولهذا فإن من ائتمنه الله على وحيه فقد تحمل أعباء عظيمة، وتحمل أمانة قد عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، ولا يمكن أن يكون الإنسان متحملاً لذلك إلا إذا كان مستعداً لتبعاته وما يترتب عليه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فلابد أن يتحملوا مسئوليتهم، وأن يقوموا لله بالحق الذي عليهم، وألا يبالوا بمثل هذا النوع، فإن سحرة فرعون في أول إسلامهم قد نبذوا هذه الضغوط كلها، وعندما خاطبهم فرعون بقوته وسلطانه، وهددهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وأن يصلبهم في جذوع النخل، فماذا كان منهم؟ لم يكن منهم إلا أن قالوا له: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:72 - 76].

المرأة بين الإسلام والتغريب

المرأة بين الإسلام والتغريب كرم الله المرأة وأعطاها حقوقاً تتمتع بها، وشرفها بأن جعل نفقتها ومؤنتها على الرجل، وصانها بالبقاء في بيتها، وبالحجاب وعدم الاختلاط بالرجال، ثم جاءت جاهلية الغرب فاتخذت من المرأة سلعة تباع، ومن عفافها تجارة ووسيلة للإفساد ونشر الرذيلة، وهذا مما يوجب على الداعية المسلم أن يوعي الأمة بخيرية الإسلام وصيانته للمرأة، وما عليه دعاة الغرب من الرذيلة والفواحش.

تكريم المرأة بين الجاهلية والإسلام

تكريم المرأة بين الجاهلية والإسلام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن موضوع المرأة أصبح من الموضوعات التي ينبغي أن يهتم بها الرجال والنساء في عصرنا هذا خصوصاً، لما أشاعه أعداء الإسلام فيه من الافتراءات وما روجوا فيه من الشبهات التي كان العالم في غنى عنها لولا هذه الترويجات المغرضة. وذلك أن المرأة لا تتميز على غيرها من خلق الله تعالى إلا تميزاً بسيطاً فسيولوجياً هو الذي جعلها امرأة، وهذا التميز لا يقتضي أن تفرد بكلام، أو أن تفرد بتفكير، أو أن يكون لها وضع مستقل، فهي من خلق الله تعالى، ومن الذين أرسل إليهم الرسل وامتحنوا بهذا الشرع، فإما أن يتبعوا وإما أن يضلوا، وكذلك إما أن يكونوا من أهل الجنة، وإما أن يكونوا من أهل النار. ولكنه نظراً لبعض الأوضاع التي سادت في أوروبا وفي بعض البلدان الغربية فهضم فيه هذا الجنس من الناس وظلم، فجعلت المرأة بضاعة تباع وتشترى ويقصد بها الرزق، وتستغل كثيراً من أنواع الاستغلال، كانت النهضة الأوروبية الحديثة تجعل من مقوماتها ومن دواعي انتشارها، ومن أبواقها الإعلامية قضية تحرير المرأة. ولا واقع لهذه القضية في بلاد المسلمين في الأصل إلا ما استوردت من أوروبا، ولم يستورد منها شيء إلا بعد نهضتها وبعد الثورة الفرنسية التي جاءت بإعلان حقوق الإنسان، ولذلك فإن اتخاذ المرأة بضاعة تباع وتشترى، واتخاذها ذريعة للإفساد في الناس واستغلالها بأنواع الاستغلال السيئ؛ كل هذه الأمور إنما توجد في العوالم المتخلفة. ولهذا اشتهر في جاهلية العرب، أنهم كانوا يئدون بناتهم لئلا يشركنهم في مآكلهم ومشاربهم، ويئد بضعهم بناته خوفاً من الفضيحة، وكانوا كذلك لا يورثون النساء، لا من تركة الأزواج ولا من تركة الآباء، ولا الإخوة، وكانوا كذلك يكلفون الزوجة كثيراً من التكاليف، فكانت بمثابة الخادمة عند زوجها، وكان يضربها متى شاء ويؤذيها بأنواع الإيذاء. وكانت كذلك إذا مات تعاني الأمرين، فتحبس في بيتها حتى تمضي سنة كاملة، لا تمس ماء ولا استحداداً ولا طيباً، ثم بعد ذلك يكون أكبر أولاده أولى بها من نفسها فإن شاء باعها لمن يدفع أكبر ثمن، وإن شاء خلف عليها واتخذها زوجة دون مهر. وهذا الظلم كله نفاه الله عز وجل، وبدله الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعاد للمرأة حقوقها كاملة، فحرم الرسول صلى الله عليه وسلم وأد البنات، وجاء ذلك في عدد من آيات القرآن، فقد قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، وكذلك جاء فيه قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] وكذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وحرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات). وكذلك حرم الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب الزوجة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يضرب أحدكم زوجه ثم هو ويضاجعها)، وفي رواية: (لا يضرب أحدكم امرأته ثم هو يضاجعها). وكذلك حرم الرسول صلى الله عليه وسلم إيذائهن ومنعهن من التصرف المباح، فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات). وكذلك حرم الله عز وجل عضلهن، وحبسهن عن الزواج، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]. وكذلك فرض الله لهن من الميراث نصيبهن وحظهن، فجعل للزوجة الربع من تركة زوجها إذا لم يكن له فرع وارث، والثمن إذا كان له فرع وارث، وجعل لبنت الصلب وحدها النصف، وللأخت الشقيقة وحدها النصف، وللعدد من بنات الصلب الثلثين إذا انفردن، وللعدد من الأخوات الشقائق الثلثين كذلك، وكذلك جعل للأخت للأم السدس إذا انفردت ويشتركن في الثلث إذا اجتمعن، ويستوي في ذلك الذكور والإناث من الإخوة للأم. وكذلك جعل لبنت الابن عند انفرادها مثل ما لبنت الصلب، أي: النصف، وإن تعددن فلهن الثلثان، وإن كانت بنت الابن مع بنت الصلب فلها السدس تكملة الثلثين، وكذلك الأخت لأب، إذا انفردت ترث النصف بكامله، وعند التعدد يرثن الثلثين، وللأخت لأبٍ مع الأخت الشقيقة السدس تكملة الثلثين.

الجواب عن الاعتراض في توزيع الميراث بين الذكور والإناث

الجواب عن الاعتراض في توزيع الميراث بين الذكور والإناث وهنا يعترض بعض المعترضين حين جعل الله تعالى للزوج عند عدم وجود الفرع الوارث النصف وله مع الفرع الوارث الربع، وأنه جعل في ميراث العصبات للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا مختصٌ بهاتين القضيتين فقط من قضايا التركة. والجواب هنا: أن المال لا يُنظر إليه بهذه النظرة المادية التي تقتضي التهافت عليه، فلا ينظر إلى المال شرعاً على أنه قيمة من قيم الإنسان، ولا أنه عنصر من عناصر التفاضل، أو معيار من معايير التفاضل بين الناس، بل يُنظر إليه على أنه وسيلة من وسائل تحقيق التكاليف فقط، فمن كانت تكاليفه كبيرة ينبغي أن يزداد حظه من المال ليتصرف فيه، ومن كانت تكاليفه صغيرة، لم يحتج إلى هذا المال ولا ينبغي أن يدخره ويحتكره، لأن ذلك يعتبر تعطيلاً لهذا المال عن الحكمة الشرعية التي من أجلها خلق. ولهذا فإن المرأة لم تكلف بكثير من التكاليف المادية في الشرع، فليست عليها دية، فلا تدي خطأها هي ولا خطأ غيرها، والرجل عليه الدية عن نفسه، وعن المرأة، بل يدي عن أقاربه جميعاً ذكورهم وإناثهم، والمرأة لا تدفع شيئاً من الدية. والرجل في الزواج هو الملزم بالصداق والنفقة والسكنى والكسوة، ولا يلزم المرأة شيء من ذلك، والرجل هو المكلف ببذل المال على وجه الأصالة في إعلاء كلمة الله تعالى في الجهاد في سبيل الله، ولا يجب ذلك على المرأة، فلما أسقطت عنها هذه التكاليف المادية، جاء حظها من الميراث أيضاً أقل في مقابل التكاليف، ومن هنا يزول هذا الاعتراض بكليةٍ.

الجواب عن الاعتراض على جعل القوامة للرجال

الجواب عن الاعتراض على جعل القوامة للرجال وكذلك فإن من الاعتراضات التي يعترض بها في هذا الباب القوامة التي جعلها الله تعالى للرجال على النساء؛ فإن الله عز وجل قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]. وهذه القوامة تقتضي الإشراف والنفقة، والقيام بالحقوق والحضانة، والدفاع عنها وإرشادها لما فيه مصلحتها، وهي تشريف شرف الله به الرجال في مقابل تشريف آخر شرف به النساء، وذلك أن الله عز وجل هو الحكم العدل، فجعل في الدنيا أمرين: الماديات والمعنويات، فشرف الرجال بأهم ما فيها من المعنويات وشرف النساء بأهم ما فيها من الماديات، فالنساء شرفهن الله بالذهب والحرير وحرم ذلك على الرجال، والرجال شرفهم الله تعالى بالقوامة، وحرم ذلك على النساء في الأمور العامة مثل الإمارة وإمامة الصلاة، وقوامة البيت، وغير ذلك. هذه أمور معنوية شرف الله بها الرجال، وحظرها على النساء، وفي المقابل شرف النساء بأشرف الماديات من الذهب والحرير، وغير ذلك من الأحجار الكريمة التي يمنع استعمالها على الرجال، وهذا عدلٌ من الحكم العدل، فلماذا لا يعترض على تحريم الحرير والذهب على الرجال ويعترض على تحريم القوامة على النساء؟ إن هذا العنصر الذي هو المرأة عنصرٌ فعال مؤثر، فلذلك يحتاج إلى توجيهه توجيهاً صحيحاً ليتمكن من القيام بدوره الواجب، ولا شك أن أصل خلقة النساء تقتضي منهن لطفاً وعاطفةً زائدة، ولهذا أوجب الله عليهن الحضانة والتربية، والقيام بأمور البيت، وهذه حقوق لا يمكن أن تنكر؛ فهي مما يتعارف على أنه يختص بالنساء في كل أمةٍ وفي كل حضارة، ولا يمكن أن تسند إلى الرجال أبداً. لكن المشكلة أن الذين يدعون إلى تحرير المرأة يلزمونها بهذه الحقوق، ويوجبون عليها حقوقاً أخرى، وهي الحقوق الواجبة على الرجل، فيكبلونها بقيدين: القيد الأول: الحقوق التي كانت واجبة على النساء وهي مناسبةٌ لهن وملائمة لهن. والقيد الثاني: الحقوق الواجبة على الرجال، والتي هي مناسبة لخلقة الرجال وقوتهم، وهذا زيادة في التكاليف دون مقابل، والحكم العدل اللطيف الخبير أعلم بالمصالح، وهو الذي يقول في كتابه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].

دور المرأة في الإسلام

دور المرأة في الإسلام إن نظرةً واقعية لحال المرأة في الإسلام وحالها في بلاد الغرب، تكشف لنا كثيراً من الحقائق. وإذا قلت: في الإسلام، فلا أقصد واقع المسلمين اليوم، ولا ما يعيشه المسلمون في بلاد الإسلام مع الأسف؛ لأن هذا الواقع إنما هو تجلٍ واكتشاف من تجليات الحضارة الغربية الموجودة وراء البحر الأبيض، فالواقع الذي نعيشه هنا ما هو إلا صورةٌ منقولةٌ من بعض ما هنالك، فلذلك لا يمكن أن نحاكم المرأة في الإسلام على هذا الأساس، ولا أن ننظر إلى واقع المرأة اليوم في بلاد المسلمين فنرى أنه هو الواقع الشرعي الذي يجب أن يكون. بل الواقع خلاف ذلك، فالمرأة في بلاد الإسلام اليوم إلا من رحم الله قد أخذت بما في بلاد الغرب، وسعت تنهق وراء الغربيات، وحاولت أن تُدرك ما فاتها من فجورهن وسعيهن فيما لا يرضي الله عز وجل.

المرأة المسلمة تشارك في الجهاد

المرأة المسلمة تشارك في الجهاد كذلك إذا نظرنا إلى بيوت المسلمين في الصدر الأول وجدنا أن المسئولية فيها مشتركة، وأن أعظم مهمات الإسلام وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، وقد كان النساء فيه يخرجن مع الرجال، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج في غزوة أقرع بين نسائه فمن خرجت القرعة لها خرج بها في سفره. وكذلك كان كثير من النساء لا ترضى أن تتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كلفها ذلك من المشاق، فهاهي أم سليم بنت ملحان وكانت مسناً حاملاً في شهرها التاسع، حين أراد رسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى فتح مكة، وإلى غزوة حنين والطائف، لم ترض أن تجلس خلفه في المدينة، فقالت: إن الحر الذي يستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهواجر بوجهه، لجدير بنا أن نستقبله. فخرجت من بيتها مجاهدةً مع رسول صلى الله عليه وسلم حتى شاركت في فتح مكة وفي غزوة حنين، وفي حصار الطائف، وأنجبت ولدها والرسول صلى الله عليه وسلم محاصرٌ للطائف وهي معه. وكذلك نجد أختها أم حرام بنت ملحان وهي زوجة عبادة بن الصامت رضي الله عنهما، عندما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها فاستيقظ يبتسم فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما يضحكك؟ قال: (قوم من أمتي ملوك على الأسرة أو كالملوك على الأسرة يركبون ثبج هذا البحر، هم في الجنة، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم)، فهؤلاء القوم الذين يخاطرون في سبيل الله، ويبذلون أنفسهم لإعلاء كلمة الله، ويركبون ثبج البحر، وهم في الجنة كما شهد لهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لن ترضى هذه المرأة المؤمنة إلا أن تكون في مقدمتهم، فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال (أنت منهم)، وكان قد رآها ورؤيا الأنبياء وحي. وهكذا فإننا نجد في البيت الإسلامي في الصدر الأول تكاملاً وانسجاماً بين ما يقوم به الرجال وما يقوم به النساء من أعمال، ونجد فيه تضحيةً متبادلةً من الطرفين، وعوناً متبادلاً ومؤازرة على الحق، ونصراً له، وتعاوناً على البر والتقوى، وتراحماً ومودة أكدهما الله تعالى في كتابه في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].

المرأة لها السبق إلى الإسلام ونصرة الدين

المرأة لها السبق إلى الإسلام ونصرة الدين لكننا إذا نظرنا إلى الإسلام على حقيقته مبيناً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح، رأينا أن أول من صدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نفسه امرأة، وهي خديجة بنت خويلد، ورأينا أنها أول من ضحى في سبيل نصرة هذا الدين، وأنها سعت جاهدةً لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ومؤازرته ومساعدته بالنفس والمال، وأن لها أخوات وبنات سرن على طريقتها، وقمن بهذا الواجب على الوجه الأكمل، واقتفين هذا الأثر. ولذلك لا نجد تضحية للإسلام ولا عملاً مشرفاً للمسلمين، إلا وجدنا إلى جنب الرجال نساءً قمن أيضاً بهذا الحق وسعين في نفس المسعى، بل في كثير من الأحيان نجد بعض الميادين قد برز فيها كثير من النساء واختصت بتضحيتهن وقيامهن بالحق على وجه أكبر مما هو مألوف معروف لدى الرجال، ولهذا فإن فضيلة السبق في الإسلام تُذكر للنساء هنا، فهن أول من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك فضيلة المؤازرة بالمال، فهن أول من ضحى بالمال في سبيل نصرة الدين، وكذلك فضيلة الشهادة بالحق التي هي أقوى مقوٍ للنفسية والشخصية التي نجدها عند خديجة عندما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتكرم الضيف، وتعين على نوائب الحق). فنجد قوة تصور هذه المرأة للمهمة الجسيمة التي كلف الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم من تغيير واقع الناس، وفهمها العميق لهذه المهمة، وأنها تقتضي قوة في الشخصية وقوة في التأثير، وأن على من حوله أن يؤازره وأن يبين له ما فيه من الصفات التي تقوي شخصيته على ذلك؛ وكل هذا يدلنا على الفهم العميق الذي وصلت إليه هذه المرأة وهي تواجه هذه المهمة الشاقة الصعبة.

مشاورة المرأة في أمور الدنيا والدين

مشاورة المرأة في أمور الدنيا والدين وكذلك نجد في البيت الإسلامي تحقيق التعاون والرفق، والعطف بين الطرفين أيضاً، فقد كان الرجال في صدر الإسلام ذوي شفقةٍ عظيمةٍ على نسائهم، وكانوا يشركون النساء في الرأي وفي الأمور الجسام. فهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يشاور أمهات المؤمنين في كل أمرٍ عظيم من أمور الإسلام، وكان لرأيهن آثارٌ طيبة في مسيرة هذه الدعوة المباركة، فهذه أم سلمة رضي الله عنها تشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية برأي أنقذ الموقف ورفع الغضب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، حين أمر الناس أن يحلقوا رءوسهم وأن ينحروا هديهم ويتحللوا فلم يفعلوا، فأشارت عليه أم سلمة أن يبدأ بنفسه، وأن ينحر هديه وأن يحلق رأسه، فإذا فعل فسيفعله المسلمون فلما امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أشارت به أم سلمة، امتثل ذلك المسلمون جميعاً، فأنقذت هذا الموقف، وقامت بالوجه الصحيح الذي يقتضي صواب الرأي وتمام الحنكة والفطنة. إن البيت الإسلامي مؤسسة متكاملة فيه تعاون على البر والتقوى، وقيام بالمصالح العامة وقيام بالمصالح الخاصة، فلا يحتكر فيه أحد الطرفين شيئاً من طاقاته وجهوده عن الطرف الآخر، ولهذا نجد فيه الانسجام الكامل والتعاون في كل الأمور، وأعظمها حقوق الله عز وجل، فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (رحم الله رجلاً قام من الليل يصلي فأيقظ امرأته لتصلي معه، فإن هي امتنعت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل لتصلي، فأيقظت زوجها ليصلي معها، فإن هو امتنع نضحت في وجهه من الماء). إن هذا من التعاون على البر والتقوى، ومن التعاون على حقوق الله عز وجل التي هي بداية أمر الدين وملاكه، ثم بعد ذلك التعاون على الحقوق بالتغافر والتسامح في كافة الحقوق، وأدائها على الوجه الصحيح، كما تربى على ذلك الجيل الأول الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبوه ورأوا هديه ودله وسلوكه.

بيعة النساء

بيعة النساء إن المرأة في الإسلام ممثلاً في تلك العصور الأولى وفي ذلك الصدر المبارك، لم تكن في حاجةٍ إلى تحرير ولم تكن بحاجة إلى البحث عن حقوق زائدةٍ عن الحقوق الشرعية التي وهبها الله تعالى وشرفها بها، ولذلك لم تكن شخصاً مستهجناً ولا مستذلاً ولم تكن شخصاً هامشياً في الأسرة، بل كان يوكل إليها كثير من المهمات وتقوم بكثير من الأدوار البارزة، وتؤدي كثيراً من الحقوق، وتساعد الزوج في كل الأمور، ويوكل إليها كثير من الواجبات التي لا يمكن أن يقوم بها من سواها، ولهذا فإن الله عز وجل حدد شروط بيعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12]. فحدد عز وجل شروط بيعة النساء هنا وبينها، وكانت شاملةً في جميع ميادين الحياة وجوانبها، فذكر الله فيها الشرط الأول: وهو أن لا يشركن بالله شيئا، وهذا كافٍ التحرير من الأغلال الأخرى، فإن أعظم غلٍ يغل به الشخص وأعظم عبودية يسترق بها هي العبودية لغير الله والشرك بالله، فهو أعظم أنواع الرق والعبودية، فمن كان عبداً لهواه أو كان عبداً لمن سوى الله، فهو رقيق مستذل مستعبد، ولهذا فإن الله عز وجل حرر المرأة بهذا الشرط الأول من شروط البيعة، وهو قوله: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة:12]، فيشمل هذا الشرك في الربوبية وهو عبادة الأصنام، وشرك الألوهية بأنواعها المختلفة، فيدخل في ذلك شرك الدعوة، ويدخل فيه شرك التشريع، ويدخل فيه شرك المحبة، وكل هذه من القيود التي يقيد بها الناس وتكفهم عن التصرف، ولكن الله عز وجل حرر المرأة منها في هذا الشرط الأول. ثم بعد ذلك ذكر شروطاً أخرى مكملةً، فقال تعالى: (وَلا يَسْرِقْنَ)، وهذا يشمل السرقة من حقوق الله والسرقة من حقوق الناس، وشر السرقة سرقة المرء من صلاته كما في الحديث، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أنواع السرقة من الدين، فسئل عن الالتفات، فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم، ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم، إلام تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه). وكذلك يشمل هذا السرقة من الحقوق مطلقاً سواء كانت حقوقاً ماديةً أو كانت حقوق معنوية، ويشمل كذلك السرقة من الأموال، فيشمل ذلك ترك أداء الزكاة فإنه سرقة من مال الله تعالى، وكذلك ترك النفقات الواجبة، وترك أداء الديون، فكل ذلك داخل في السرقات. ثم بعد هذا قال: (وَلا يَزْنِينَ)، وهذا يشمل أنواعاً كثيرة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة؛ فالعين تزني وزناها النظر، والقلب يزني وزناه الفكر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). فالزنا شدد الله تعالى فيه النكير، وحرمه بأسلوب يختلف عن تحريم ما سواه من الفواحش، فإن ما سواه من الفواحش جاء النهي عنه بطريق المباشرة، وأما الزنا فجاء النهي عنه بقول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، فلم يقل: لا تزنوا، وإنما قال: (لا تقربوا الزنا)، فالنهي عنه يشمل النهي عن مقدماته ووسائله وما يؤدي إليه من الاختلاط والنظر والمصافحة، والكلام في الريبة، وغير ذلك من أنواع الوسائل التي يتوسل بها ويتوصل بها إلى الزنا. ثم بعد هذا قال: (ولا يقتلن أولادهن)، وهذا يشمل قتل ديانة الأولاد بإفساد أديانهم، وقتل أخلاق الأولاد بعدم تربيتهم، وقتل أبدانهم بعدم الاعتناء بصحتهم، وغير ذلك من أنواع القتل، فليس القتل مقصوراً على إزهاق الروح بل أعظم القتل قتل الدين، ثم بعده قتل الخلق، ثم بعد ذلك قتل الروح وإضعاف البدن. ثم قال: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة:12]، وهذا يشمل الكذب مطلقاً، وشهادة الزور وادعاء الحقوق الباطلة، وكذلك يشمل ادعاء الأنساب غير الصحيحة كتبني الأولاد ونسبتهم إلى النفس من غير أن يكون لذلك حقيقة. وكذلك قال: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)، وهذا الشرط شامل لجميع الأوامر، فإن الشروط السابقة كلها متعلقة بالنواهي، وأما الأوامر فأجملت في قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12]، فشرط عليهن أن لا يعصين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به، فإن ما يأمر به هو المعروف، فيشمل ذلك الواجبات والسنن والمندوبات، فكلها داخلة في المعروف الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به. فهذه البيعة ذات طرفين ككل بيعة، فعلى النساء الوفاء بهذه الشروط، والمقابل الذي سيجنينه هو الجنة، وهو سلعة الله الغالية، فلذلك قال: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12]. ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يأتي النساء ليبايعنه يقرأ عليهن هذه الآية فيلتزمن بها، فيقول لهن: (فيما استطعتن وأطقتن)، فكن يقلن: أنت والله أرحم بنا من أنفسنا، أي: حين يشترط لهن هذا الشرط؛ لأنه يعلم ضعف عواطفهن وضعف أبدانهن، فيشترط لهن فيما استطعن وأطقن. إن هذه البيعة تقتضي أن المرأة عنصر مهم في الإسلام، وأنه ليس عنصراً هامشياً، وأنه لا يمكن أن يدعى ببهتانٍ أنه لم يعط مكانه الصحيح، ولم يتبوأ مكانته المرموقة، بل هذه الآيات التي فيها شروط البيعة وتحقيقها، وهيئة أدائها، كفيلة بالنظر إلى هذا العنصر اللطيف بأنه من أهم شرائح المجتمع ومكوناته، فالغالب أنه أكثر من نصف المجتمع، وبه صلاح النصف الآخر، فهو الذي يربيه ويشرف عليه، وهو الذي يمكن أن يستغل أيضاً لإفساده كما سيتضح لنا في حياة المرأة في الغرب.

نماذج من تضحيات النساء في الإسلام

نماذج من تضحيات النساء في الإسلام وهنا أصل إلى بعض النماذج من النساء في الإسلام، فإن هذه النماذج يمكن أن نقرأ من خلالها ملامح عامة عن حقوق المرأة ودورها الذي يمكن أن تقوم به، وعطائها ونظرة الإسلام إليها ومكانتها فيه، وهذا كافٍ وحده مثبتٌ بأن هذا بالإمكان أن يقع، وأنه لا ضرر فيه ولا خطر، وأنه ليس فيه ما يؤدي إلى الاصطدام والانتقاص.

موقف عائشة من مقتل عثمان

موقف عائشة من مقتل عثمان ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تكتفِ بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في نصرة دينه، وحفظ هذا الدين على المسلمين وتبليغه، بل حين رأت أمراً عظيماً، حصل في دولة الإسلام باغتيال الخليفة الثالث وحصاره ظلماً وعدواناً في الشهر الحرام في البلد الحرام؛ رأت أن من واجبها أن تتصرف. وأداها اجتهادها إلى الخروج للمطالبة بدم عثمان، وهي تعلم أن هذا ليس من شأن النساء، ولكنه إذا لم يقم به من يكفي من الرجال تعين على النساء، فاجتهدت هذا الاجتهاد، وإن كانت قد أخطأت في بعض جوانبه، فخطؤها مغفور؛ لأنه ليس عن رقة دين ولا عن جهلٍ، وإنما هو عن علم وطلب للحق، وهو اجتهاد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر). فـ عائشة رضي الله عنها حين رأت أن الحق هنا وهو المطالبة بدم عثمان، وقتل قتلته، لم يقم به من يكفي من الرجال، رأت أنه مما يتعين عليها أن تقوم فتطالب بدم عثمان، وتخرج في ذلك وتقاتل من أجله. وهكذا أيضاً كانت لها مشاركات أخرى في كثير من الأمور فيما بعد هذا، فهي المضحية الباذلة في سبيل الله، كان يأتيها عطاؤها من بيت المال، وهو عطاء سنة كاملة من بيت المال، وهي صائمة في النفل، فتنفقه جميعاً في يومها ولا تدخر منه درهماً واحداً للإفطار. وكانت رضي الله عنها تجتهد في تعليم الناس القرآن، وكان لها بعض الموالي الذين إذا حفظوا القرآن أعتقتهم، وكان لها مولى يحفظ القرآن ويكتب المصاحف، وكانت عائشة إذا كانت بمكة تنزل بين جبلي ثبير وحراء، فيجتمع عليها رجال قريش، فإذا كان من الليل أمرت عبد الرحمن بن أبي بكر أن يقوم بهم الليل ليصلي بهم جماعة، فإذا تخلف عبد الرحمن إلى الحرم أمرت مولاها ذكوان فيصلي بالناس، وكان ينشر المصحف أمامه فيقرأ فيه وهو يصلي بالناس.

نماذج من عصور التابعين وأتباعهم

نماذج من عصور التابعين وأتباعهم هذه بعض النماذج في الصدر الأول من المضحيات في سبيل الله، ومن اللواتي نلن حقوقهن كاملةً في ظلال الإسلام، وحفظن حقوقهن ولم يفرقن ولم يفرطن، وعرفن أنهن على حق فلزمنه، وقد اقتفى آثارهن في كل العصور نسوة صالحات مؤمنات، لا خفاء في ذلك ولا إشكال. فلا نزال نذكر كثيراً من النساء اللواتي كان لهن دور بارز في خدمة الدين، ففي عصر التابعين لا نزال نذكر بعض النساء اللواتي حفظن علم الصحابة كـ فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام وصفية بنت أبي عبيدٍ، وغيرهن من النساء اللواتي كان لهن أثر بارز في خدمة هذا الدين وحفظ هذا العلم. ثم في عصر أتباع التابعين، نجد أن نسوة كان لهن أيضاً من الأثر والتضحية والبذل في سبيل الله الشيء الكثير، فهذه زبيدة بنت جعفر بن المنصور زوجة هارون الرشيد، وهي من أتباع التابعين، حين حجت فرأت أن الحجاج ينقلون المياه على الحمر والإبل من مكة إلى عرفات، وأن كثيراً منهم يعطش، ويلقى عناءً في الحج، رأت أن من واجبها أن تقيم سقاية للحجيج تبقى بعدها، فجلست في مكة ولم تخرج منها حتى أقامت هذا المشروع الضخم، الذي أنفق عليه الملايين من الدنانير، وهذا المشروع ما زال قائماً إلى اليوم مشاهداً، وقد ظل الحجاج أكثر من أحد عشر قرناً وهم يشربون من سقاية زبيدة.

مواجهة عائشة لحادثة الإفك

مواجهة عائشة لحادثة الإفك وكذلك فإن أعظم مشكلة في حياتها هي مشكلة الإفك التي حصلت في العام السادس من الهجرة، عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً إلى بني المصطلق، فأقرع بين نسائه، فخرجت القرعة لـ عائشة، وكان ذلك العام عام قحط. وكانت عائشة قد استعارت من أختها أسماء عقداً من جزع أظفار فكان في عنقها، فبينما هي خارجة لبعض حاجتها ذكرت العقد فلم تجده، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فمكثوا كذلك حتى نفذ ماؤهم، فجاء الناس إلى أبي بكر فقالوا: أما ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماء. فأتاها فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً قد اضطجع وأسند كتفيه إلى بطنها، فجعل أبو بكر يضربها بخاصرتها، ويقول: أقمت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماء؟ تقول: فأتألم ما يمنعني من الحركة إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه جبريل بآية التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركاتكم علينا يا آل أبي بكر، فبعثوا البعير الذي كانت عليه فوجدوا العقد تحته، ثم انطلقوا، فبينما هم معرسون في مكان إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل من الليل، فكانت عائشة قد خرجت لحاجتها، فجاء رجلان فحملا الهودج الذي كانت فيه، ولم يشعرا أنها ليست فيه. فجاءت فوجدتهم قد ارتحلوا ولم تجد أحداً في مكانهم فقالت: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذكرني، فأقامت في مكانها وصلت الفجر وجلست فيه تذكر الله، فلما كان وقت الضحى مر بها رجل من الصالحين من المسلمين، وهو صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، وكان رجلاً مخبتاً يبقى في آثار الجيوش ليأتي بما يتركوه ورائهم، وليحفظ عليهم أمتعتهم، ويحفظ عليهم ظهورهم، فرآها فعرفها، فاسترجع واستعبر -أي: بكى- وولاها ظهره، وأناخ لها راحلته فركبت عليها من الخلف، وقاد بها حتى لحق بالجيش. وكان المنافقون قد خرجوا في تلك الغزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا الإفساد، فأرادوا أولاً إيقاع حرب بين المهاجرين والأنصار حين قالوا: لقد غلبنا هؤلاء الجلابيب على مدينتنا، فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فرد الله عليهم بسورة المنافقين في ذلك. وأرادوا كذلك إيقاع الفتنة بين المسلمين، فرموا عائشة بما برأها الله منه، فكان ذلك خيراً للمسلمين، رفع الله به منزلة عائشة ومنزلة أبيها أبي بكر، بل ورفع به منزلة رسوله صلى الله عليه وسلم وزاد أجره، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]. وقد رفع الله منزلة أبي بكر حين وصفه بقوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى} [النور:22]، وكذلك رفع منزلة عائشة في قوله: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]. هذه أعلى شهادة يمكن أن تحصل عليها امرأة، حين جعلها الله كفؤاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو خيرته من خلقه، وأفضل خلقه، قال الله تعالى {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]. قالت عائشة: لقد نلت أحد الوعدين وأنا راجيةٌ للثاني. فنالت أحد الوعدين وهو العاجل، أي: الرزق الذي وعدها الله به في هذه الحياة الدنيا، وهي راجيةٌ للوعد الآخر؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، وهو المغفرة الأخروية، الشاملة لما تقدم من ذنبها وما تأخر.

تضحية أسماء بنت أبي بكر بعد الهجرة

تضحية أسماء بنت أبي بكر بعد الهجرة فمن هذه النماذج البارعة في الإسلام أسماء بنت أبي بكر الصديق: فهي امرأة يرضى نساء الإسلام بتمثيلها لهن، فإنها كانت في بداية هذه الدعوة فتاة صغيرة فامتلأ قلبها بحب هذا الدين والتصديق به والإيمان به، ورأت أنها يجب أن يكون لها دور، وأن يكون لها مباشرة لعمل تنصر به دين الله تعالى، وتقوم بجهدٍ في نصره ونشره، فنجدها عنصراً بارزاً يقوم بعمل خطير في أعظم مهمة من مهمات العهد المكي، وهي مهمة الهجرة، فأعظم مهمة للإسلام في العهد المكي هي مهمة الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنها بداية إقامة الدولة الإسلامية. وهي وقت تكالب أعداء الله تعالى على هذه الدعوة وكيدهم لها، وهي وقت ضعفٍ كذلك؛ لأن المسلمين قد خرج أكثرهم من مكة وبقي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي من المستضعفين في القيود والأكبال والسجون، فكان الوقت وقتاً محتاجاً إلى التضحية والبذل في سبيل الله، فانتهزت أسماء هذه الفرصة وقامت بالحق الواجب. وهنا يأتي درس نفهمه من جهاد أسماء في هذه المرحلة، هذا الدرس ينبغي أن يكون بارزاً بين أعيننا، وهو أننا إذا تحدثنا عن أن المرأة لا يجب عليها كثير من التكاليف، وأنها ليست آلة للقيادة العامة، فليس معنى ذلك أنها إذا لم يقم بها الرجال تسقط عن النساء، بل إذا لم يقم الرجال بما يجب عليهم تعين ذلك على النساء، فإذا لم يقم الرجال بالقيادة التي تجب عليهم، فلا يحل للنساء أن يتركن ذلك، بل يجب عليهن أن يقمن بهذا؛ لأنه حق واجب على المسلمين، وهو فرض كفاية يأثمون بتركه، فإذا لم يقم به أحد تعين على من يطيقه ويستطيعه ممن شهد وحضر، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين. ومن هنا نعلم أن تراجع النساء واعتذارهن بأن الرجال لم يقوموا بالحق، أو بأن هذا من فروض الرجال وليس من فرائض النساء، تراجع في غير محله واعتذارٌ غير لائق، فإن الرجال إذا لم يقوموا بالحق وجب ذلك على النساء، ولهذا عرفت أسماء أن فرصتها المواتية أن تقوم بالحق في وقت الأزمة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يكن يأتيه فيه، فحرك حلقة الباب، فقام إليه أبو بكر فأعطاه أوامر سريعة هي خطة الهجرة، وهي على النحو التالي: أن أبا بكر يصحبه في هجرته، وأنهما سيذهبان إلى غار ثور فيمكثان فيه ثلاثة أيام بلياليهن، وأن عبد الله بن أبي بكر وكان شاباً هو المكلف بجمع الأخبار وتقصي المعلومات عن مكائد قريش ومؤامراتها، وأن أسماء هي المكلفة بالتمويل، فهي المكلفة بنقل النفقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الغار، وهي المكلفة بإعداد سفرتهما وما يحتاجان إليه من زاد، وتهيئة ذلك. وأن عامر بن فهيرة هو المكلف بالتستير والتغطية. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر في الليل إلى غار ثور، فمكثا فيه هذه الليالي الثلاث بأيامها، وكانت أسماء تأتي في الليل وهي تحمل النفقة، وأرادت أن تهيئ لهما زادهما بمكة، فلم تجد وعاءً للفقر المدقع، فلم يمنعها ذلك من التضيحة بما تستطيع، فأخذت نطاقها، وهو الإزار التي تأتزر به، فقسمته نصفين، نصف اتزرت به، ونصف آثرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فجعلته وعاءً لزادهما في هجرتهما، ومن أجل ذلك لقبت بـ ذات النطاقين بهذا اللقب الشريف الذي يشهد بتضحيتها الجسيمة، وبذلها في وقت الأزمة والحاجة. وكذلك قام عبد الله بالوجه الأكمل لمهمته، فكان يجمع المعلومات ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فينقل إليهما ما جد من أخبار قريش ومؤامراتهم. وقام عامر بن فهيرة بالمهمة أيضاً على أبلغ الوجوه، فكان يريح الغنم على أثر عبد الله فيطمسه، ويغدو بها على أثر أسماء فيطمس أثرها. فهذه الفتاة المسلمة كانت حينئذ في بيت أبيها أبي بكر الصديق، وهي متزوجة بـ الزبير بن العوام، لكن الزبير كان فتى فقيراً لا يملك إلا سيفاً وفرساً، وكان قد هاجر وتركها في بداية الحمل بمكة، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة، وكان هاجر إلى الحبشة ثم رجع منها ثم هاجر إلى المدينة. فلما خرج مهاجراً ترك أسماء حاملاً بابنها عبد الله، فهاجرت في مقدمة النساء المهاجرات بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلت إلى المدينة كان اليهود قد سحروا المسلمين، فتأثرت أسماء بهذا السحر فتأخر حملها فترة، ثم أنجبت عبد الله وأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، وكان أول مولود يولد للمهاجرين. وكانت أسماء قامت بدور بارزٍ في بيت أبيها بمكة حين ترك أبو بكر أباه شيخاً كبيراً ضريراً، أي: أعمى، وخرج أبو بكر مهاجراً بكل ماله في سبيل الله، فقال أبو قحافة لـ أسماء: ماذا ترك لنا أبو بكر؟ فأخذت ظرفاً ملأته من الحجارة وحركته وقالت: ترك لنا هذا المال الكثير، فأراد الشيخ أن يحمل الظرف فإذا هو ثقيل: فقال: هذا مال كثير، فمن تركه لا عليه أن يسافر ويخاطر! والواقع أن أسماء هنا لم تقتصر على التضحية بنفسها، وبما بذلته في سبيل الله عز وجل ونصرة دينه، ولكنها زيادة على ذلك استطاعت أن توظف وسائل أخرى للقيام بهذا الحق، فهاهي تستغل عقلها وشخصيتها في طمأنينة هذا الشيخ الكبير الأعمى حتى لا يجد في نفسه موجدة على ابنه المهاجر في سبيل الله. وبعد هجرتها كانت شخصاً فاعلاً في دعوة النساء في المدينة وتعليمهن، وكان نساء قريشٍ يعرفن الكتابة، وكان نساء الأنصار لا يعرفن الكتابة، فكان نساء المهاجرين يعلمن نساء الأنصار ما يتعلمن به القرآن من الكتابة، وكانت أسماء قد حفظت بعض القرآن قبل هجرتها فجاءت معلمة إلى المدينة، ومع ذلك لم تنشغل بالدعوة والتعليم عن واجبات البيت، فكانت تذهب إلى أرضٍ وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام بالعقيق، وكان الزبير يزرع فيها، فتأخذ منها ما تعلف به فرس الزبير، وتحمله على رأسها من مسافة طويلة، وقد مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمل علف الفرس على رأسها، فقال (لولا غيرة الزبير لحملناك). وكانت تخدم أم الزبير صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها بأنواع الخدمة، وهنا وجد الزبير أن وراءه شخصاً يوثق به، ويمكن أن توكل إليه المهمات، ويمكن أن يخاطر الشخص إذا تركه وراءه. فالشخص الذي لا يكل أموره إلى أحد، ولا يعلم أن وراءه من يقوم بمهماته، لا يتشجع على التضحية والبذل، لكن الشخص الذي يعلم أن وراءه من يقوم بكل مهماته، وأن وراءه شخصاً سيقوم بالحقوق كلها، ويؤديها على الوجه الأكمل، لا غرابة أن يخاطر وأن يبذل الكثير، وأن يضحي تضحيات جساماً، ولهذا فإنها شاركت الزبير بن العوام في أجره في غزواته كلها. وقد شهد الزبير المشاهد كلها مع رسول الله وكان حواليه، ولم تخرج غازيةً في سبيل الله لا طائفة ولا شاكية بحضرة الزبير إلا خرج فيها، وكان ينزل بألفٍ، ولذلك سيره عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت إلى عمرو بن العاص حين استنجده وكتب إليه أن ينجده بثلاثة آلاف مقاتل، فقال: (أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت عدوك فاجعلهم بين المسلمين وبين عدوهم، فإنهم لن يرجعوا حتى يقتلوا أو يحكم الله بينهم وبين عدوهم)، فهذه التضحية التي كان الزبير يقوم بها، وخلدها حسان بن ثابت، رضي الله عنه في قوله: وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل فما مله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر مادام يذبل كلها تشاركه فيها أسماء بنت أبي بكر، فهي التي خلفته في أهله وقامت بحقوقه، ووفرت له الجو المناسب ليضحي في سبيل الله، وليقوم بحقه.

أسماء تساند ابنها عبد الله بن الزبير

أسماء تساند ابنها عبد الله بن الزبير لم تقتصر أسماء فقط على بيت والدها وبيت زوجها، بل حين بلغت من الكبر عتيا وبلغت مائة سنة، كان ابنها عبد الله يرى أن واجبه أن يقوم لله بالحق حين رأى خلافة المسلمين تسقط، ويرى الدولة مهددة، فيدعو بأن ينتصب خليفة للمسلمين ويدعو الناس إلى ذلك؛ لأنه يرى أن الخلافة لابد منها وأنها أساس الإسلام ومحوره، وأنه إذا لم يقم للإسلام خلافة، فستسقط دولته، كما حصل في عصورنا هذه والله المستعان! فقام عبد الله بهذا الحق، فوجد من أمه خير مؤازرٍ على ذلك، فهذه العجوز الكبيرة التي قد بلغت المائة أو جاوزتها تقوم بالحق في هذا الوقت، وتؤازر ولدها في القيام بخلافة المسلمين، وتؤيده على ذلك، وحين دخل عليها ليودعها حين انهزم عنه أصحابه وبقي وحده يجاهد عن حرم الله وعن بيته، وكانت الخيل تدخل عليه من باب بني جمحة فيعترضها وحده حتى يردها، وتدخل عليه من باب بني عبد الدار فيعترضها وحده حتى يردها، فلما كثر عليه ذلك، أغلق أبواب المسجد الحرام، وذهب إلى أمه ليودعها، فلما دخل عليها قالت: (يا بني، إن كنت على الحق فامضِ عليه، فقال لها: إني لا أخاف إلا أن يُمثل بجسدي بعد موتي، فقالت: يا بني، إن الشاة لا يؤلمها السلخ بعد الذبح!). فشجعته بهذا، فاستمر عبد الله قائماً بالحق حتى لقي الله تعالى ومات شهيداً واحتسبته أسماء ووقفت عليه وهو مصلوب، فكانت تقول: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ ولذلك فإنها قامت بالتضحية في ثلاثة أشياء، قامت بالتضحية في بيت أبيها وأسرتها الأولى التي هي أسرة النسب، ثم قامت بالتضحية في بيت زوجها وأسرتها الثانية التي هي أسرة السبب، ثم قامت بالتضحية في الجيل الثالث وهو جيل أولادها، ولهذا علمت بنات أولادها، فهاهي فاطمة بنت المنذر بن الزبير تروي جميع حديث أسماء بنت أبي بكر ويروي عنها زوجها هشام بن عروة بن الزبير، ولذلك تجدون في الموطأ كثيراً من الأحاديث التي يرويها مالك عن هشام بن عروة، عن زوجته فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تضحيات صفية بنت عبد المطلب

تضحيات صفية بنت عبد المطلب وكذلك من هذه النماذج الصالحة صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي مات عنها زوجها وترك لها الزبير طفلاً صغيراً ولم يترك لها أي مال، فكان أخوها أبو طالب ينفق عليها وعلى ولدها، وكانت تشتد مع ولدها في تربيته، وتضربه على خلقه، لتعلمه الشجاعة والحنكة والحكمة، ولهذا نقدها أعمامه وزعموا أنها تبغضه، فقالت فيهم: من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش ويأتي بالسلب ولذلك فإنها قد أتاها رجال في الجاهلية يسألون عن الزبير حين أسلم يريدون الإيقاع به، فجاءها رجل من قريش، فقال: أحق أن الزبير قد صبأ؟ فقالت: كلا والله! ولكنه أسلم وصدق، فقال: سترين ما أصنع به، فقالت: هو في المكان الفلاني فاذهب إليه، فذهب إلى الزبير فوجده منشغلاً بأمر فهجم عليه، فأخذه الزبير وأسره وكتفه بسية قوسه، وجاء يحمله على عاتقه فوضعه بين يدي صفية، فوقفت عليه وضربته بعصا وقالت: كيف وجدت زبرا؟ أعسلاً وتمراً؟ أم أسد هزبرا؟ ثم إنها قد شجعت المسلمات على نصرة الدين وقامت بكثير من التضحية في سبيل ذلك، سواء كان هذا في العصر المكي وعصر الاستضعاف، حيث كانت صفية وأخواتها بنات عبد المطلب اللاتي لهن مكانة اجتماعية كبيرة بمكة؛ يدافعن عن المستضعفين، ويقدمن النفقات إلى المأسورين من المسلمين، حتى إن أبا جهل نقدهن بذلك، وقال: ما زلتم يا بني هاشم يتنبأ رجالكم حتى تنبأ نساؤكم؟ وذلك حين رأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤياها في قصة معركة بدر، رأت أن شهاباً نزل على جبل أبي قبيس فتفرق فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا دخلته جمرة منه، فأول ذلك بمعركة للإسلام على قريش ينهزم فيها المشركون، وينصر فيها الدين، فكانت معركة بدر. كذلك فإن صفية بعد أن هاجرت إلى المدينة، كان لها دور بارز في تعليم النساء، ومؤازرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأييده على القيام بالحق، حتى إنها كانت تجاهد بنفسها، وكانت ذات شجاعة وبطولة، فحين اشتدت الأزمة على المسلمين بالمدينة، وبلغوا مبلغاً لم يبلغوه في أي أزمة في يوم الأحزاب، فهي أعظم أزمة في التاريخ المدني، كما أن أعظم أزمة في التاريخ المكي هي قضية الهجرة. فأعظم أزمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة هي قضية الأحزاب التي وصفها الله تعالى في كتابه بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]. هذه الأزمة العظيمة انتهزتها صفية بنت عبد المطلب لتبين نموذجاً صالحاً من النماذج النسوية التي ينبغي أن يقتدي بها النساء حين لا يقوم الرجال، أو حين ينشغل الرجال عن أداء الواجبات، أو حين لا تتأتى فرصة للرجال فيقومون بما وجب عليهم، فإن النساء حينئذ سيقمن به على الوجه الصحيح كما فعلت صفية بنت عبد المطلب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل النساء في حصن حسان وكان حصناً بالمدينة، فرأى اليهود ذلك، فأرادوا الاعتداء على النساء حين شغل المسلمون بالمعركة، فجاء أحدهم يستطلع القصر، يريد أن يكتشف هل للقصر حامية تحيمه من الرجال، أو ليس كذلك حتى يصولوا عليه ويأخذوا من فيه، فلما رأت صفية هذا الرجل، عرفت أنه ما جاء إلا لشرٍ فنزلت إليه بعمودٍ فضربته حتى قسمت رأسه، ثم أمرت حسان بن ثابت أن ينزل إليه حتى يسلبه ويأخذ سيفه وسلاحه فقال: هلا سلبتيه؟! فقالت: إنه قد استقبلني بعورته فعففت عنه. فقامت بالحق، وأدت هذه المهمة الجهادية العظيمة، فلما رأى ذلك اليهود قالوا: قد علمنا أن محمداً لم يكن ليترك نساءه دون حامية، وظنوا أن صفية رجل وأنها من الرجال الذين يحمون النساء في ذلك الأطم، أي: الحصن.

علم عائشة بنت أبي بكر ودورها في الإسلام

علم عائشة بنت أبي بكر ودورها في الإسلام ومن هذه النماذج الصالحة عائشة بنت أبي بكر الصديق، الصديقة بنت الصديق التي جاء جبريل يحملها في سرقة من الجنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة، فقال هذه زوجك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن يكن ذلك من عند الله يمضه! وذلك في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت زوجه في الدنيا والآخرة، زوجه في الدنيا وزوجه في الجنة، كما قال عمار بن ياسر رضي الله عنهما. خرجت مهاجرةً مع أمها وهي بنت صغيرة في السابعة من عمرها، وقد عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في السادسة من عمرها بمكة، فجاءت إلى المدينة ومرضت مرضاً شديداً، ولكنها كانت من صباها نابهةً بالغة الذكاء، فتخصصت في العلم وحفظه على الناس، حتى أنها كانت تسمع الخطبة الطويلة فتحفظها بالمرة الواحدة، وكانت تسمع القصيدة الطويلة فتحفظها من مرة واحدة، وقد حفظت من شعر لبيد بن ربيعة عشرين ألفاً، وحفظت اثني عشر ألفاً من شعر شاعرٍ آخر. وكانت تسمع كلام أبي بكر وهي صغيرة فتحفظه كما هو، ولهذا اتجهت إلى الاتجاه العلمي والدعوي لتقوم بالحق الواجب لله تعالى، ولتصون هذا الدين عن الضياع، فحفظت على المسلمين ما يختص بأمور بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم، وزادت على ذلك بشخصيتها الفذة، فكانت ناقدةً ترد على الصحابة كثيراً من الفتاوي التي تخالف ما لديها من محفوظات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا جمع البدر الزركشي ما خالفت فيه عائشة الصحابة رضوان الله عليهم في كتابٍ سماه: الإجابة في ردود عائشة على الصحابة. وكذلك فإنها رضي الله عنها، كانت لا تسمع شيئاً لم تفهمه إلا سألت عنه وراجعت فيه حتى تفهمه، كما ثبت ذلك عنها في صحيح البخاري، ولهذا ناقشت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعته يقول: (إن من نوقش الحساب فقد عذب)، وسمعت قول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:8 - 9]. فراجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأجابها بقوله: إنه العرض، أي: فالحساب اليسير هو مجرد العرض على الله عز وجل. وكذلك فإنها فهمت من أمر الله عز وجل لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، أنه يجب عليها أن تؤدي ما حفظته وبلغها من وحي الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فبذلت الجهد في ذلك، وكانت ثاني شخص في الإسلام في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت تحدث الناس من وراء حجاب وتعلمهم في مكان يجتمع عليه الرجال فتفتيهم، ويستفتونها في كل الأمور، وكانت إذا أرادت أن يدخل إليها أحد منهم، أمرت إحدى بنات إخوتها أو بنات أختيها أن ترضعه حتى يدخل عليها، وهذا رأي لها واجتهاد منها رضي الله عنها.

تضحية أسماء بنت أبي بكر قبل الهجرة

تضحية أسماء بنت أبي بكر قبل الهجرة فمن هذه النماذج البارعة في الإسلام أسماء بنت أبي بكر الصديق: فهي امرأة يرضى نساء الإسلام بتمثيلها لهن، فإنها كانت في بداية هذه الدعوة فتاة صغيرة فامتلأ قلبها بحب هذا الدين والتصديق به والإيمان به، ورأت أنها يجب أن يكون لها دور، وأن يكون لها مباشرة لعمل تنصر به دين الله تعالى، وتقوم بجهدٍ في نصره ونشره، فنجدها عنصراً بارزاً يقوم بعمل خطير في أعظم مهمة من مهمات العهد المكي، وهي مهمة الهجرة، فأعظم مهمة للإسلام في العهد المكي هي مهمة الهجرة من مكة إلى المدينة؛ لأنها بداية إقامة الدولة الإسلامية. وهي وقت تكالب أعداء الله تعالى على هذه الدعوة وكيدهم لها، وهي وقت ضعفٍ كذلك؛ لأن المسلمين قد خرج أكثرهم من مكة وبقي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي من المستضعفين في القيود والأكبال والسجون، فكان الوقت وقتاً محتاجاً إلى التضحية والبذل في سبيل الله، فانتهزت أسماء هذه الفرصة وقامت بالحق الواجب. وهنا يأتي درس نفهمه من جهاد أسماء في هذه المرحلة، هذا الدرس ينبغي أن يكون بارزاً بين أعيننا، وهو أننا إذا تحدثنا عن أن المرأة لا يجب عليها كثير من التكاليف، وأنها ليست آلة للقيادة العامة، فليس معنى ذلك أنها إذا لم يقم بها الرجال تسقط عن النساء، بل إذا لم يقم الرجال بما يجب عليهم تعين ذلك على النساء، فإذا لم يقم الرجال بالقيادة التي تجب عليهم، فلا يحل للنساء أن يتركن ذلك، بل يجب عليهن أن يقمن بهذا؛ لأنه حق واجب على المسلمين، وهو فرض كفاية يأثمون بتركه، فإذا لم يقم به أحد تعين على من يطيقه ويستطيعه ممن شهد وحضر، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين. ومن هنا نعلم أن تراجع النساء واعتذارهن بأن الرجال لم يقوموا بالحق، أو بأن هذا من فروض الرجال وليس من فرائض النساء، تراجع في غير محله واعتذارٌ غير لائق، فإن الرجال إذا لم يقوموا بالحق وجب ذلك على النساء، ولهذا عرفت أسماء أن فرصتها المواتية أن تقوم بالحق في وقت الأزمة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يكن يأتيه فيه، فحرك حلقة الباب، فقام إليه أبو بكر فأعطاه أوامر سريعة هي خطة الهجرة، وهي على النحو التالي: أن أبا بكر يصحبه في هجرته، وأنهما سيذهبان إلى غار ثور فيمكثان فيه ثلاثة أيام بلياليهن، وأن عبد الله بن أبي بكر وكان شاباً هو المكلف بجمع الأخبار وتقصي المعلومات عن مكائد قريش ومؤامراتها، وأن أسماء هي المكلفة بالتمويل، فهي المكلفة بنقل النفقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الغار، وهي المكلفة بإعداد سفرتهما وما يحتاجان إليه من زاد، وتهيئة ذلك. وأن عامر بن فهيرة هو المكلف بالتستير والتغطية. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر في الليل إلى غار ثور، فمكثا فيه هذه الليالي الثلاث بأيامها، وكانت أسماء تأتي في الليل وهي تحمل النفقة، وأرادت أن تهيئ لهما زادهما بمكة، فلم تجد وعاءً للفقر المدقع، فلم يمنعها ذلك من التضيحة بما تستطيع، فأخذت نطاقها، وهو الإزار التي تأتزر به، فقسمته نصفين، نصف اتزرت به، ونصف آثرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فجعلته وعاءً لزادهما في هجرتهما، ومن أجل ذلك لقبت بـ ذات النطاقين بهذا اللقب الشريف الذي يشهد بتضحيتها الجسيمة، وبذلها في وقت الأزمة والحاجة. وكذلك قام عبد الله بالوجه الأكمل لمهمته، فكان يجمع المعلومات ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فينقل إليهما ما جد من أخبار قريش ومؤامراتهم. وقام عامر بن فهيرة بالمهمة أيضاً على أبلغ الوجوه، فكان يريح الغنم على أثر عبد الله فيطمسه، ويغدو بها على أثر أسماء فيطمس أثرها. فهذه الفتاة المسلمة كانت حينئذ في بيت أبيها أبي بكر الصديق، وهي متزوجة بـ الزبير بن العوام، لكن الزبير كان فتى فقيراً لا يملك إلا سيفاً وفرساً، وكان قد هاجر وتركها في بداية الحمل بمكة، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة، وكان هاجر إلى الحبشة ثم رجع منها ثم هاجر إلى المدينة. فلما خرج مهاجراً ترك أسماء حاملاً بابنها عبد الله، فهاجرت في مقدمة النساء المهاجرات بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلت إلى المدينة كان اليهود قد سحروا المسلمين، فتأثرت أسماء بهذا السحر فتأخر حملها فترة، ثم أنجبت عبد الله وأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه ودعا له، وكان أول مولود يولد للمهاجرين. وكانت أسماء قامت بدور بارزٍ في بيت أبيها بمكة حين ترك أبو بكر أباه شيخاً كبيراً ضريراً، أي: أعمى، وخرج أبو بكر مهاجراً بكل ماله في سبيل الله، فقال أبو قحافة لـ أسماء: ماذا ترك لنا أبو بكر؟ فأخذت ظرفاً ملأته من الحجارة وحركته وقالت: ترك لنا هذا المال الكثير، فأراد الشيخ أن يحمل الظرف فإذا هو ثقيل: فقال: هذا مال كثير، فمن تركه لا عليه أن يسافر ويخاطر! والواقع أن أسماء هنا لم تقتصر على التضحية بنفسها، وبما بذلته في سبيل الله عز وجل ونصرة دينه، ولكنها زيادة على ذلك استطاعت أن توظف وسائل أخرى للقيام بهذا الحق، فهاهي تستغل عقلها وشخصيتها في طمأنينة هذا الشيخ الكبير الأعمى حتى لا يجد في نفسه موجدة على ابنه المهاجر في سبيل الله. وبعد هجرتها كانت شخصاً فاعلاً في دعوة النساء في المدينة وتعليمهن، وكان نساء قريشٍ يعرفن الكتابة، وكان نساء الأنصار لا يعرفن الكتابة، فكان نساء المهاجرين يعلمن نساء الأنصار ما يتعلمن به القرآن من الكتابة، وكانت أسماء قد حفظت بعض القرآن قبل هجرتها فجاءت معلمة إلى المدينة، ومع ذلك لم تنشغل بالدعوة والتعليم عن واجبات البيت، فكانت تذهب إلى أرضٍ وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام بالعقيق، وكان الزبير يزرع فيها، فتأخذ منها ما تعلف به فرس الزبير، وتحمله على رأسها من مسافة طويلة، وقد مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحمل علف الفرس على رأسها، فقال (لولا غيرة الزبير لحملناك). وكانت تخدم أم الزبير صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها بأنواع الخدمة، وهنا وجد الزبير أن وراءه شخصاً يوثق به، ويمكن أن توكل إليه المهمات، ويمكن أن يخاطر الشخص إذا تركه وراءه. فالشخص الذي لا يكل أموره إلى أحد، ولا يعلم أن وراءه من يقوم بمهماته، لا يتشجع على التضحية والبذل، لكن الشخص الذي يعلم أن وراءه من يقوم بكل مهماته، وأن وراءه شخصاً سيقوم بالحقوق كلها، ويؤديها على الوجه الأكمل، لا غرابة أن يخاطر وأن يبذل الكثير، وأن يضحي تضحيات جساماً، ولهذا فإنها شاركت الزبير بن العوام في أجره في غزواته كلها. وقد شهد الزبير المشاهد كلها مع رسول الله وكان حواليه، ولم تخرج غازيةً في سبيل الله لا طائفة ولا شاكية بحضرة الزبير إلا خرج فيها، وكان ينزل بألفٍ، ولذلك سيره عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت إلى عمرو بن العاص حين استنجده وكتب إليه أن ينجده بثلاثة آلاف مقاتل، فقال: (أرسلت إليك ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل واحد منهم بألف، فإذا لقيت عدوك فاجعلهم بين المسلمين وبين عدوهم، فإنهم لن يرجعوا حتى يقتلوا أو يحكم الله بينهم وبين عدوهم)، فهذه التضحية التي كان الزبير يقوم بها، وخلدها حسان بن ثابت، رضي الله عنه في قوله: وكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل فما مله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر مادام يذبل كلها تشاركه فيها أسماء بنت أبي بكر، فهي التي خلفته في أهله وقامت بحقوقه، ووفرت له الجو المناسب ليضحي في سبيل الله، وليقوم بحقه.

أهمية المرأة الصالحة في إقامة الدين والدنيا

أهمية المرأة الصالحة في إقامة الدين والدنيا وكذلك غيرها من النساء اللواتي كن لهن تضحية بارزة في نصرة دين الله تعالى، والقيام بالحق، ولا يزال هذا مستمراً حتى في عصرنا هذا، فإننا نجد بنات هذه الصحوة المباركة في كل قطرٍ من أقطار المسلمين وهن يبدين النموذج الأمثل للنساء المؤمنات الملتزمات بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللواتي، فلا يطالبن بما ليس لهن من الحقوق، ولا يهتضمن الحق الذي أعطاهن الله، ولا يحاولن الترفع على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ينزعن يداً من طاعة. ولذلك كن محل ثقة لدى الجميع، فكان أزواجهن في رضاً عنهن، وفي طمأنينة وارتياحٍ؛ لأن الزوج إذا علم أن وراءه من النساء من ستقوم بكل واجباته وحقوقه، وأنها تقوم بذلك في محضره وفي غيبته، وأنها تقوم بحقوق البيت كما لو كان هو حاضراً فيه، وترعى دينه ومروءته وتقوم بكل حق عليها، فإنه سيضحي تضحية جسيمة؛ لأن العرب يقولون: الولد مجبنةٌ مبخلة، وأصل ذلك أن من كثرت عليه الحقوق والالتزامات، إذا لم يجد من يعاضده عليها، فستقل تضحيته وبذله، وأما إذا وجد من يعاضده ويساعده، فسيبذل الكثير في سبيل الله. وقد شاهدنا كثيراً من النساء المسلمات الملتزمات في زماننا هذا أبدين من الالتزام بأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ما يجعلهن يذكرن مع هذه النماذج السابقة، فهن على الأثر يهتدين بهدي هؤلاء النساء السابقات، فلذلك نجدهن يضحين في سبيل الله، ويعاديهن على ذلك الأساس أقاربهن، بل آباؤهن وأمهاتهن في كثير من الأحيان، ويجدن مضايقات كثيرةً من قبل الأزواج غير الملتزمين، ويجدن مضايقات كذلك من قبل المجتمع بأسره، ومن قبل وسائل الإعلام الماجنة المغرضة، ومع ذلك يسعين قدماً ويصبرن ويحتسبن في كل هذه الأمور، ويتمثلن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى! قد أوذي أكثر من هذا فصبر). نجدهن يحافظن على حضور الدروس، والالتزام بما تعلمن من الهدي النبوي، ويحاولن أن يقمن بالحقوق على أكمل الوجوه، وأن يكن كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم صوالح نساء قريش، أحناه على ولدٍ في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده، وأرضاه بالقليل، فهذه الصفات البارزة نجدها فقط في النساء الإسلاميات، وأما من سواهن فإن جميع الناس يعلمون أنهن لا يسلكن هذا المسلك فلا يرضين بالقليل، ولا يرعين على الزوج في ذات يده، وإن حصل منهن لطف بالولد في صغره، فليس ذلك راجعاً إلى محبة نصرة الدين، والقيام بالواجبات الشرعية، وإنما هو محبة للولد الذي هو فتنة، ولهذا يقول أحد علمائنا وهو محمد سالم بن عبدود حفظه الله تعالى في وصف نساء هذه الصحوة المباركة: ما غاب من خلف في الدار من ترعاه في مقامه والمسير كأنها إياه في كل ما تفعل في غيبته تستشير تأتي الذي يرضى وتأبى الذي يأبى عليها دينها والضمير تقوم بالدين والمروءة على الوجه الصحيح، وفي ذلك تكون مثالاً صالحاً للنساء، وتؤدي الحقوق على الوجه الصحيح، لذلك نجد أن كثيراً من الناس اليوم لا يشعر بحلاوة القوامة إلا إذا كان في بيته ملتزمة، ولا يشعر بأنه سيد البيت إلا إذا كان في البيت ملتزمة، ونجد أنه إذا كان في البيت ملتزمة فإن الرجل سيعلم أن ماله لن ينفق إلا في سبيل الله، وأنه لن يفقد منه درهماً، فسيجده جميعاً في ميزان حسناته يوم القيامة، وسيعلم أن زوجته ستتولى كثيراً من الأمور التي هو عاجزٌ عنها أو محجوبة عنه، أو لا يستطيع الاطلاع عليها، فتقوم هي بها؛ لأنه رضي عن دينها وأمانتها، ورأى أنها تستطيع من التضحية والبذل ما لا يستطيعه هو، فيخجل من نفسه حين يرى من تضحية النساء ما لا يجده عند نفسه. وبذلك كان كثير من النساء المسلمات سبباً في هداية أزواجهن، وقد شاهدنا الكثير من هذا، ولا يزال يشاهد في مختلف بلاد الله.

مكانة المرأة ودورها بنظر الغرب

مكانة المرأة ودورها بنظر الغرب

انتشار الفواحش نذير بالخطر

انتشار الفواحش نذير بالخطر إن انتشار هذه الفواحش وهذه الرذائل في مجتمعنا، هذا نذيرٌ بالخطر ينبغي أن يقف في وجهه كل غيور، وأن يتكاتف في الوقوف ضده الرجال والنساء على حد سواء، وأن يبذلوا ما يستطيعون بذله في كفاحه، وإظهاره وإشهاره، حتى لا ينخدع به ضعفاء العقول من الناس، وإن الشرر هو الذي يأتي منه معظم النار، فمعظم النار من مستصغر الشرر، تأتي الأمور في البداية صغيرة جداً ثم تكبر وتنتفخ، ولهذا قال شوقي في الزنا: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء يأتي بالتدريج، حتى يصل المفسدون إلى غاياتهم، ولو أنهم صارحوا الناس بذلك في البداية لما نجحوا، لكنهم يتدرجون بالناس، ويأخذونهم بالخفية وإن هؤلاء المفسدين الذين يضحون هذه التضحيات الجسام، ينبغي أن يقابلهم أهل الحق بتضحيات أجسم من تضحياتهم، فلماذا يكون أهل الفساد بهذا الحد من الحرص على نشر الرذيلة والفساد والإباحية، ويكون أهل الحق مستضعفين لا يقومون لله بالحق. إننا إذا لم نقم بهذا فستلعننا الأجيال اللاحقة، حينما تجد أننا قد أدركنا بقية من الدين في هذا البلد، فلم نحافظ عليها حتى نوصلها لمن يأتي وراءنا من الأجيال، وضيعناها حتى ذابت بين أيدينا، وقام عليها الناس بالفئوس والسكاكين حتى نحروها وقطعوها إرباً إرباً ونحن ننظر! إن استغلال النساء في هذا النوع من الكيد، هو مدى ما يصبو إليه المنخدعات من النساء بواقع النساء في الغرب، فيسمعن الشهرة، والبهرجة الإعلامية، والمجلات النسوية التي تبدي الصور، وتروج لأنواع وسائل التجميل وأدواته، وتروج لأنواع الملابس الشفافة، والأزياء الكشافة، وغير ذلك من وسائل الإفساد والمغريات الباطلة، فينخدع بها ضعفاء العقول، ونجد كثيراً من النساء إذا رأت هذه المظاهر وهذا البهرج وهذا الباطل انخدعت به، فظنته شيئاً ينبغي أن يحرص عليه، وظنت أن هذه الشهرة شهرة محمودة، لكن الواقع أنها بمثابة شهرة نوع من أنواع الغذاء، فمثلاً الأرز مشتهر بين الناس، وبالأخص في شرق آسيا، فإنه المطعم الوحيد لديهم، فهل هذا مما يمتدح به الأرز، ويثنى عليه به؟ لا. بل هو مأكول مذموم، كما يقول الناس عن لحم الرقبة، فكذلك النساء اللواتي يستغلهن المفسدون في إشاعة هذه الرذائل مأكولات مذمومات، واللواتي زال بهاؤهن وتقدمت بهن السن، أصبحن لا ينظر إليهن ناظر ولا يقفوهن أحد، وأصبحن يندمن على ما مضى، ولذلك نجد أن اللواتي انخدعن بمظاهر أقل من هذه كمظاهر التوظيف والدراسة، وأصبحن دكتورات وأصبحن موظفات، وبعضهن أصبحت وزيرة، فهذه المظاهر كلها عناءٌ مبينٌ، وإذا رجعت المرأة إلى بيتها رأت أنها ستبيع كل هذه البهارج بلحظة واحدة من سعادة البيت، ومن سعادة الإنجاب، ومن سعادة التحدث إلى الأولاد، وتربيتهم، وسعادة القيام بالحق. ولقد قرأت لكثير من النساء اللواتي ينشرن كثيراً من الكتابات في الصحف العالمية، يشتكين فيها من أنهن خدعن بالدراسة والتوظيف، فسعين حتى يحصلن على الدكتوراه وغيرها من الشهادات العليا، ثم يتوظفن في الوظائف، فلا ينتهين من ذلك حتى يتجاوزن مرحلة الإنجاب، ولا يكون لهن تأثير في بناء البيت، فتصبح إحداهن تشعر أنها عجوز مرمية، وأنها لا يزورها زائر ولا يذكرها ذاكر، وأنها مهمشة داخل المجتمع وهي التي همشت نفسها، فهي التي اشتغلت بما لا يعنيها وانصرفت عما فيه مرضاة الله، فلذلك أصبحت في محلٍ غير مشرف، وأصبحت تنقد نفسها. وكثير مما نراه من الانتحار في كثير من البلدان في صفوف النساء، سببه شكايتهن من هذا الوضع المزري، الذي يجدنه في أنفسهن وفي بيوتهن، وأضطر الآن لقطع هذا الحديث لاستقبال بعض الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا لأحسن الأعمال والأخلاق، وأن يصرف عنا سيئها، لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا هو.

المرأة وسيلة لإفساد المجتمعات

المرأة وسيلة لإفساد المجتمعات إننا إذا ذهبنا إلى الطرف المقابل فرجعنا إلى المرأة في الغرب، أو في تصور الغرب، نجد أن الغرب ينظر إلى المرأة على أنها بضاعة رخيصة تباع وتشترى، فقيمتها المثلى هي أن تكون عارضة أزياء يتلذذ الناس بها في الشوارع، وتعرض على الشاشات وفي المجلات الخليعة، ولا تعدو هذا، فليس لها أية كرامة وليس لها أي حق من حقوق الإنسانية، ولا يعول عليها في القيام بمصالح البيوت ولا في تربية الناس، ولا في القيام بالأعمال المفيدة، ولا يمكن أن تخدم شعباً ولا أن تغير فيه، بل لا تزيده إلا تردياً وسعياً وراء الرذيلة، وبذلك كان النساء حسب تصور الغرب وحسب خططه حبائل للإفساد، وشراكاً للشيطان يقتنص بها من قدر عليهم، وكانت المرأة بهذا خارجة عن دورها البناء، عاملة في الهدم فقط. تكون مروجةً لاتباع الشهوات والملذات، ولإتلاف المال وإفساده في الموضات، ولتعطيل الحكم الربانية وتغيير الأحكام الشرعية، وبهذا تتخذ نفسها جنداً من جنود الشيطان، وعدواً لله عز وجل، وساعياً للإفساد والهدم، وحينئذ يكون أثرها سيئاً على أسرتها الأولى أسرة النسب، ثم على أسرتها الثانية أسرب السبب، ثم على الجيران، وهكذا.

انتشار السفور في بلاد المسلمين

انتشار السفور في بلاد المسلمين ويتفاوت ضررها بتفاوت نشاطها في الفساد، فلا نزال نذكر أن أول ما جاء الفساد النسوي إلى بلاد الإسلام بدأ بتركيا، حين قام بعض النساء اللعينات بمسيرة المطالبة بالحقوق، ونزعن الحجاب عن رءوسهن، ورمينه ودسنه بأرجلهن، ثم انتقلت العدوى إلى مصر، فقامت اللعينة المسماة بـ نوال السعداوي، وهي أول امرأة خلعت الحجاب في مصر، فنزعت غطاء رأسها أمام الأزهر وداسته بأرجلها، وكانت بذلك داعيةً إلى شرٍ، فعليها وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً. ووجد هؤلاء النسوة من المفتونين ومن المتبعين للأهواء والشهوات الذين يريدون الحصول على الملذات دون مقابل، من يروج لهن ويسعى لإشاعة فكرتهن، ليتوصل بذلك إلى أهدافه السيئة، فالمستفيد الوحيد هم جند الشيطان الغواة، الذين لا يريدون تحمل مسئوليات إقامة بيوت، وإنما يريدون أن يشبعوا غرائزهم وملذاتهم دون مقابل، وهؤلاء هم البخلاء الجبناء الدخلاء في المجتمع الإسلامي، فلا خير فيهم، فلو كان فيهم خير لأقاموا أسراً صالحة، ولالتزموا بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولنجا منهم الناس، فهؤلاء كانوا مروجين لهذه الفكرة الشيطانية والساعين للاستفادة منها بأكبر قدر ممكن، حتى إنهم ألفوا الكتب، وبحثوا عن بعض المفتونين من العلماء، فأرفدوهم ببعض الأدلة التي لم يفهموها حق فهمها، والنصوص التي حرفوها عن مواضعها، والحكايات المزورة التي لا أساس لها، فجمعوا ذلك كله وجعلوه كتباً يتلقفها الناس بأفواههم، دون أن يتدبروها بقلوبهم. وكان من المروجين لذلك قاسم أمين المعروف لديكم، وكذلك اقتفى أثره كثير من المخانيث والمفسدين من أمثال طه حسين وغيره، ثم انتقلت هذه العدوى بعد مصر إلى غيرها من بلاد الإسلام، وما زالت تسير كالسيل الجارف الذي يسمع هديره قبل أن يصل، ونحن نراها الآن على أعتاب هذا البلد وعلى حدوده، والسيل الجارف إذا جاء فلم يجد سداً منيعاً أمامه فسيقتلع البناء، ويزيل الشجر، ويحمل معه كل ما استطاع، ونحن نرى هذا السيل ونسمع هديره، وهو على حدودنا وأعتابنا، فإما أن نقف في وجهه فنقوم بالحق لله تعالى، وهذا لا بد فيه من تكاتف الجهود وتعاضدها، ولابد من مشاركة النساء في ذلك وإبدائهن للأمثلة الصحيحة، ونبذهن لهذه المؤامرات التي يروج لها أعداء الدين، وأعداء المروءة، وأعداء الفطرة، وأعداء العقل، وأعداء العلم التي لم تأت إلا بشر.

المخطط الماسوني لنشر النساء في مكاتب الأعمال وإفساد الشباب بالخمور والمخدرات

المخطط الماسوني لنشر النساء في مكاتب الأعمال وإفساد الشباب بالخمور والمخدرات ولا شك أن من المخططات المفسدة التي يروج لها المخطط الماسوني في العالم، أنه يسعى لأن لا يبقى مكتب في العالم، إلا وفيه سكرتيرة أنثى، فأصبح من التقاليد السائدة في بلاد الكفر وبلاد الإسلام أن السكرتيرة لا تكون إلا أنثى، والمقصود بذلك أن السكرتيرة لا بد أن تخلو بصاحب المكتب ويخلو بها فتحصل الريبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، ويريدون بذلك أن النساء اللواتي لديهن ضعف عاطفي ويسهل التأثير عليهن، إذا كن مطلعات على أسرار المكاتب، يمكن أن تأخذ منهن هذه الأسرار، مقابل أسعار زهيدة. ولذلك تجدون أن المكاتب هنا في بلادنا وفي غيرها من البلدان أكثر من يعمل في العمل السكرتاري من النساء، وهذا مخطط ماسوني معروف، قد انتشر من قبل وقدمت عنه التقارير، وقد طبق في كثير من البلدان. ثم إن أصحاب الخمور الذين يروجون لها يستغلون النساء دائماً لجمع الشباب، فكثير من الشباب لا يستهويهم الخمر لما قال عبد الملك بن مروان: أولها مرار وآخرها خمار، أي: تغطية للعقل، ولكن كثيراً من الشباب تستهويهم النساء المفسدات، فيسعون إلى إلحاق أجيال من الشباب بهؤلاء المفسدين ومروجي الخمور فيفسدون بذلك أجيالاً واسعةً من الناس، ويضلون جيلاً كبيراً من الناس، وإن بلدنا هذا كغيره من البلدان معرض في عصرنا هذا -وبالأخص في هذه الأيام- لموجة من هذا الإفساد، وبالأخص في أم الخبائث الخمر، وفي المخدرات. فمثلاً هذا النوع من الخمور يباع الآن في البقالات بأسعار زهيدة رخيصة، ولم تكتب عليه الجهة التي صنعته، ومع ذلك يكتب عليه اسم الخمر بالفرنسية، وهو يباع بأسعار زهيدة رخيصة ويوزع في كثير من الأماكن، ويوجد في البقالات، ولا يشعر كثير من أصحاب البقالات أنه خمر، وأن ذلك مكتوب عليه، فيبيع لهم، ويستدل كثير منهم أنه من شرب هذه القنينة الصغيرة قد لا يسكر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أسكر منه الفرق فملء اليدين منه حرام). فما كان مسكراً بكثيره فيحرم تعاطي قليلة، إن انتشار هذا النوع وذيوعه بين الناس مقتضٍ لإفساد ديانة الناس وأخلاقهم، ومن شرب هذا الشيء القليل الخفيف في نسبة الكحول التي فيه ونسبة الإسكار فيه، فسيتدرج به إلى ما هو أقوى منه، وهكذا فإن من خالط الخمر دمه ومازجه، وأصبح مدمناً عليه من تلقاء هذه القنينات الصغيرة الزهيدة الثمن، سيجد نفسه مضطراً لأن يوغل في شرب ما هو أكبر منها وأقوى، وبالتالي يكون قد مُلك فيسدد الثمن الذي كان صغيراً الآن، فهذه ثمنها الآن يمكن أن يكون مائة أوقية مثلاً في البقالات، لكن الثمن سيؤخذ من الأجناس الأخرى التي هي أغلى منها وأكثر تركيزاً. فالشخص في البداية يستجذب بهذه، حتى إذا أصبح مدمناً للخمر اضطر إلى أخذ تلك الأنواع الأخرى الغالية، وهذه خطة عالمية، وقد اشتهرت في كثير من البلدان، وتأتي بالتدريج، فإذا لم ينتبه الناس دأبوا عليها وأصبحت أمراً بسيطاً بمثابة أول السلم الطويل الذي يصل إلى السقف، بدايته درجة واحدة يضع الشخص عليها رجله، ورجله الأخرى في الأرض، وهكذا.

أضرار السفور والتبرج

أضرار السفور والتبرج وقد رأى كل أفراد بني آدم في مختلف البلدان كثيراً من أضرارها، فنحن نشاهد اليوم من الأمراض التي انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها أمراضاً لم تكن مألوفةً لدى الأسلاف الذين مضوا، من أمثال مرض سيدا (الإيدز) ومرض الزهري وغير ذلك من الأمراض المنتشرة التي سببها الشذوذ والانحراف الجنسي. وكذلك نرى تفكك الأسر وانتشار أولاد الزنا الذين يمكن أن يستغلوا في كل فساد، فأنتم تعلمون أن المستعمر عندما جاء إلى الجزائر وأراد أن يرسي قواعده فيها، لم يجد من أبناء الجزائر من يستطيع التعامل معه ويكون من جنوده الذين يمكنون له، فكان أحد الفرنسيين خبيثاً جداً، حين وضع لهم خطة قال: أفشوا فيهم الزنا، فأولاد الزنا هم الذين سيخدمونكم؛ لأنهم ينقمون على المجتمع، ويجدون أن المجتمع يحتقرهم، ويجدون أنكم أنتم الذين ترفعون شأنهم، وسيخدمونكم ويبذلون أنفسهم في سبيلكم، فتحققت هذه الفكرة حينما انتشر الزنا في الجزائر وانتشرت فيها الخمور، فنشأ جيل كامل من أولاد الزنا رباهم المستعمرون وجندوهم وضربوا بهم المسلمين، فوطدوا بهم الحكم الفرنسي في الجزائر. وهكذا نجد اليوم القذافي يسعى لإشاعة الزنا في ليبيا ويدعو إليه ويتبنى أولاد الزنا، ويقول: ليسوا أولاد الزنا وإنما هم أولاد العقيد القذافي فينسبهم إلى نفسه؛ لأنه يعلم أنهم يجدون نقمة على المجتمع كما ينقم المجتمع عليه هو، فيريد أن يوجد منهم جنداً يدافع عنه ويثبته على عرشه، ويبذل نفسه في سبيل التمكين للقذافي، وهكذا في كل البلدان.

استغلال النساء في نشر الزنا والخمور والفساد

استغلال النساء في نشر الزنا والخمور والفساد إن انتشار هذه الفواحش وهذه الرذائل، ومنها أم الخبائث الخمر، كله مما يستغل له النساء في كثير من البلدان، فالنساء هن اللواتي يقدن الشبكات التي تروج للمخدرات والخمور، والغالب أن مروجو المخدرات معتمدون على شبكات من النساء في كل البلدان، وكذلك شبكات التجسس الكفري في بلاد المسلمين لا تعتمد إلا على شبكات من النساء، وكل مظاهر الفساد ينظر فيها إلى هذا الجنس اللطيف الذي يخدع بالعبارات ويخدع بالموضات وبالثناء، كما قال أحمد شوقي: خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء فيخدعون النساء بهذا الثناء، لاستغلالهن في هدم هذا الدين، واستغلالهن في الإفساد وإشاعة الفاحشة بين الناس. إن انتشار الفواحش وشيوعها بين الناس في كثير من أنحاء العالم اليوم من ورائه شبكات من النساء اللواتي جعلن أنفسهن من حبائل الشيطان ومن جنوده، فسعين للإفساد ما استطعن إلى ذلك سبيلاً. وأنتم تعلمون أن بلاد الإسلام وبالأخص بلاد المشرق الإسلامي، يوجد فيها اليوم شبكات كبيرة تسمى شبكات قسم الإيدز، وهي الشبكات التي توزع السيدا وتسعى لإشاعة هذا الميكروب بين الشباب المسلمين، وكل بلد له نجم معين لهذه الشبكة، وتجدون أن الفنادق في مختلف أنحاء العالم لا يكاد الشخص يدخل منها غرفةً إلا وجد فيها شبكة الإيدز لدولة من الدول الإسلامية، ومعنى ذلك أن امرأة من المصابات بالإيدز والمكلفات بتلويث كثير من الشباب بهذا الميكروب الضار، كانت قد استغلت تلك الغرفة في هذه الفاحشة وفي إشاعة هذا الميكروب، فتضع ذلك النجم رمزاً لأنها قد استغلت هذه الغرفة لذلك الميكروب الضار، وفي كثير من الأحيان يكتب تحتها رمز البلد غالباً. ولا شك أن إشاعة هذه الفواحش وانتشارها بين الناس هو بداية الدمار؛ لأن الأخلاق إذا هدمت فسيهدم الدين على الأثر، ثم بعد ذلك تهدم الدنيا، وقد أخرج أحمد في المسند وابن ماجة في السنن من حديث ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما أظهر قوم الفاحشة فأعلنوا بها، إلا ظهر فيهم الطاعون وانتشرت فيهم الأمراض التي لم تكن في أسلافهم، ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وجور السلطان، ونقص المئونة، ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)، وهذه هي بداية دمار الدين والدنيا.

الأسئلة

الأسئلة

حكم رطوبة الفرج في نقض الوضوء

حكم رطوبة الفرج في نقض الوضوء Q رطوبة الفرج أثناء المداعبة هل تنقض الوضوء أم لا؟ A أنها لا تنقض الوضوء، وأن المرأة إذا التذت أثناء المداعبة فإن الراجح أن ذلك لا ينقض وضوءها مطلقاً إلا إذا حست بالإنزال، فإن أحست به وجب عليها الغسل، ولا يجزئها الوضوء حينئذ، وأما إذا لم تحس بالإنزال فمجرد رطوبة الفرج، إنما هي مثل ما هو في داخل البدن من الرطوبات كلها، وحكمها حكم ما كان داخل البدن من الرطوبات على الراجح. وإن سال منها شيء عن محله ووصل إلى الثوب أو غيره، فإن الراجح أن حكمه حكم البول ينقض الوضوء ولا يجب منه الغسل، وهو نجس يطهر، ولا يعفى منه إلا عما كان داخل المحل، وما جاوز المحل منه لا يعفى عنه.

حكم مصافحة النساء

حكم مصافحة النساء Q هل المصافحة بين الرجال والسناء فريضة أم سنة أم حرام؟ وما الدليل على ذلك؟ A بالنسبة للمصافحة بين الأجانب محرمة شرعاً باتفاق أهل العلم ولم يخالف فيها أحد، ودليل تحريمها قول الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، فإنه حرم الأدنى والأعلى، وتحريم الأدنى والأعلى تحريم لما بينهما لأنه إذا حرم الطرفين دخل ما بينهما من الوسائط، وقد حرم الله الطرفين جميعاً؛ حرم الطرف الأدنى وهو مجرد النظر، وحرم الطرف الأعلى وهو الزنا، فقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، فلما حُرم الطرفان دل ذلك على تحريم ما بينهما من الوسائط، وكذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لا أصافح النساء، وإنما مقالي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة). وكذلك ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (والذي نفسي بيده ما مس رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له)، وكذلك فهو محل إجماع بين أهل العلم لم يخالف فيه أحد منهم من جميع المذاهب المعتبرة. وأما المصافحة بين الأزواج فهي من الأمور الجائزة التي ليس فيها طلب شرعي، وليس فيها محذور شرعي، فإن صافح الزوج زوجته فلا حرج وإن لم يصافحها فلا حرج، فهذا من الأمور الجائزة. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

حكم تعلم المرأة في المدرسة

حكم تعلم المرأة في المدرسة Q ما حكم تعليم المرأة في المدرسة هل هو جائز أم لا؟ A المقصود تعلم المرأة في المدرسة، والجواب أن المدارس الموجودة اليوم في بلادنا هذه وفي أكثر البلدان سواها مدارس فاسدة، بنيت في أصلها على الفساد، ففيها الاختلاط، وفيها البرامج التي لم تراع فيها مصالح الدارسين، ولا مصالح البلد، بل ما رأيكم في مصلحة شبابنا وشاباتنا اليوم هنا في دراسة مقررات الفلسفة التي تدرس في الثانوية، هل تفيد في دين أو مروءة أو علم أو دنيا أو آخرة؟ لا فائدة فيها وإنما هي أخذ وقتٍ وجهدٍ كبير، وعناء مبين، وتعطيل طاقةٍ كبيرة كان يمكن أن تستغل فيما هو نافع، وكذلك الآداب الفرنسية، والتاريخ الفرنسي، وكثير من العلوم التي لا فائدة فيها. حتى العلوم المفيدة، إنما يستفيد منها نخبة من الناس قلة، كعلوم الفيزياء، والرياضيات، والعلوم، هذه علوم مفيدة، لا تستغني عنها الأمة، لكن هل ينبغي أن يتعلمها كل أفراد الأمة؟ لا. لا فائدة من هذا. وهل كل من تعلمها سيفيد بها؟ كثير منكم الذين درسوا في المدارس كثيراً من القوانين الفيزيائية والكيمائية، فهل فيكم من أنتج لنا شيئا من المنتجات الجديدة؟ لا يوجد هذا! إذاً هذه المواد بنيت على باطل، ولذلك فإن هذه المدارس الموجودة من أصل نشأتها بنيت على فساد وباطل، ويجب محاولة إصلاحها، ومحاولة ترشيدها، وإزالة ما فيها من الفساد بما يستطيع الناس من ذلك، ولن يكون هذا في عشية واحدة، ولا في ضحاها، بل لا بد فيه من زمن، لأن هذا الفساد ما جاء إلا بالتدريج بمدة طويلة، فلذلك لا يزول أيضاً إلا بالتدريج بمدة طويلة. لكن يجب على النساء وعلى الرجال المشاركة في إيجاد البدائل الصحيحة، فمن تمكن من إقامة مدرسة حرة، وكان بإمكانه أن يجعل التعليم فيها منفصلاً بحيث إن الرجال يدرسون وحدهم والنساء يدرسن وحدهن، وتكون المواد فيها ملائمة للمستوى المطلوب المفيد النافع، أو أقام معهداً وكانت الدراسة فيه بحسب ما هو ملائم نافع، وكانت منفصلة للرجال وحدهم، والنساء وحدهن، كان هذا من البدائل الصحيحة النافعة، ولذلك يجب على الدولة أن تغير واقع المدارس، ويجب عليها شرعاً أن تمنع الاختلاط بين الرجال والنساء في المدارس، وأن تغير البرامج المدروسة، ويجب على القائمين على ذلك سواء كانوا في المعهد التربوي الوطني أو في وزارة التعليم أو في المفتشية العامة، أن يغيروا واقع هذه المدارس، وأن يصلحوه وأن يبادروا إلى ذلك، وألا يأخروه، فلا يحل لشخص أن يؤخر توبة ولا يقول: حتى يؤتيني الله مالاً، فإنه من علامات الشقاء والخذلان وطمس البصيرة.

حكم لبس الجوارب للمرأة

حكم لبس الجوارب للمرأة Q ما حكم لبس الجوارب بالنسبة للمرأة؟ هل هو واجب عليها أم لا؟ A أن القدم مختلف فيها، هل هي عورة أم لا؟ على أربعة أقوال في الفقه الإسلامي: القول الأول: أن الرجل ليست عورة مطلقاً وهذا مذهب المزني من الشافعية. والقول الثاني: أنها عورة مطلقاً ظاهرها وباطنها، سواء كان فيها خضاب أو لم يكن فيها، وهذا هو ظاهر مذهب مالك رحمه الله تعالى، وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى ورواية عن أحمد. القول الثالث: أن الرجل يفصل فيها، فظاهرها عورة وباطنها غير عورة، وهذا مذهب الحنفية. القول الرابع: أن الرجل يفصل فيها: فإن كان فيها خضاب كانت عورةً لا لذاتها بل لأجل الخضاب، وإن لم يكن فيها خضاب لم تكن عورة، وذهب إلى هذا بعض أهل الظاهر، واختاره ابن القيم وغيره من الفقهاء. والذي يبدو أن اتخاذ الجوارب أصبح شعاراً للمتعففات من النساء، فهو عادة حسنة، ومن فضائل الأعمال، ومن محاسن الأخلاق، فاتخاذها مما يشجع عليه ولكنه لا يجب.

نصيحة لمن يتأخرون عن الزواج لعوائق مادية أو اجتماعية

نصيحة لمن يتأخرون عن الزواج لعوائق مادية أو اجتماعية Q بم تنصحون الشباب الذين يرغبون في الزواج، ويخافون على أنفسهم من الفتنة، وعندهم عوائق منها قلة المئونة، ولا عمل ولا دخل، ووجود الوالدين وخصوصا ًإذا كانا عاجزين، والعائق الآخر هو حب طلب العلم الشرعي، والكلفة المادية، وكذلك العادات؛ مثل أن أصغر الأسرة لا يمكنه الزواج، فهل هناك من حلول؟ A إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم). فلذلك يجب على من خاف العنت على نفسه أن يسعى لأن يتزوج، والزواج لا يمنع منه الفقر، بل هو وسيلة من وسائل الغنى، فإن الله تعالى يقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32 - 33]. والنكاح يتجلى فيه مظهر من المظاهر السابقة في الفرق بين نظرة الغرب إلى النساء، ونظرة الإسلام إليهن، فالنظرة الغربية مادية تنظر إلى المرأة على أنها سلعة تباع بأبلغ الأثمان وأكثرها، ولذلك يبقى كثير من النساء في بيوت أهلهن دون زواج؛ لأن الوالد يعتبرها بضاعة لديه، ويريد أن يبيعها بثمن كبير، فيضن بها حتى يأخذ مقابلها مالاً، وهذا كله مخالف لشرع الله عز وجل، فإن الصداق ملك المرأة ولا ينبغي أن يبالغ فيه، فإن أكثر النساء بركة أقلهن مهراً، ونساء الرسول صلى الله عليه وسلم اللواتي تزوجهن كن أقل النساء مهراً، وكذلك بناته صلى الله عليه وسلم، وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مؤمنة لرجل مؤمن على سور من القرآن يعلمهن إياها، ولهذا فإنه لا ينبغي أن يكون من العوائق نقص المال. كذلك عدم وجود العمل لا ينبغي أن يكون عائقاً عن الزواج، فينبغي إذا حصلت أسرة إسلامية بين شاب وشابة، أو بين رجل وامرأة مسلمين فقيرين أن يسعيا بجهدهما المشترك، حتى يحصل على نفقةٍ وحتى يحصلا على بداية أمر، والرزق لا يكون عن الكسب، وإنما هو هبة من الله تعالى، ولكن الأسباب واجبة، فينبغي أن نعرف هنا أن التوكل على الأسباب شرك وأن تركها معصية، وعلينا أن نجمل في الطلب، وأن لا نبالغ فيه أكثر من المطلوب شرعاً. وكذلك ما يتعلق بالعادات كالصغر وغيره، وككون الفرد من أسرةٍ فيها أولاد أكبر منه لم يتزوجوا أو بنات أكبر منها لم يتزوجن، كل هذه الأمور من العادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وليس لها فائدة، بل هي داعية إلى انتشار الرذيلة، وانتشار عدم العفة بين الشباب والشابات، فلذلك ينبغي أن تترك وتتجاوز. وكذلك ينبغي أن يخفف من الغلواء التي نجدها لدى نسائنا بما يتعلق بحب كثرة المهور، وحب الإسراف بالعادات، ومن ذلك منع تعدد الزوجات، فإن كثيراً من النساء تظن أن تعدد الزوجات هضم لهن، وأنه يوصل عليهن ضرراً، والواقع أن تعدد الزوجات وإن كان ليس جائزاً لبعض الناس، وليس مطلوباً أيضاً لكثير منهم، إلا أنه في بعض الأحيان قد يكون مفيداً في حق من كان غنياً يمكن أن يعف عدداً كبيراً من النساء، أو ينفق عليهن، فإذا تزوج امرأتين وكان لكل واحدة منهما عدد من القرائب الفقيرات فأنفق على الجميع، أو كانت لكل واحدةٍ منهما أم وأخوات وخالات وعمات كان ينفق على الجميع، أو تزوج أربع نسوة، وكان لكل واحدةٍ منهن أخوات وأمهات، فأنفق على الجميع؛ فإن هذا بمجرد النظرة الاقتصادية أيضاً مفيدٌ مثمر، وأيضاً فيه حصانة للفروج، وتعاون على البر والتقوى وليس فيه أي ضرر على المرأة، فلا يمكن أن تتضرر الزوجة به بأي نوع من أنواع الضرر، بل إنها قد تستفيد منه، فتجد من يساعدها ويؤازرها على مؤن البيت وحقوق الزوج. بل تجد أنها قد زادت من راحة زوجها، وساعدته على الارتياح في البيت، ولهذا نجد أن بعض النساء قد تجاوزن هذه العقدة في كثير من البلدان، وحتى في بعض المناطق من بلادنا هذه، فأذكر أن امرأةً من النساء المسلمات قالت لزوجها ذات يوم من الأيام: إنني ذكرت فوجدت أنه ليس من المناسب أن أختار راحتي على راحتك، فأنا مكثت سنوات وأنا أقدم راحة نفسي على راحتك أنت، والآن تراجعت عن ذلك فافعل ما بدا لك، وهو عن طمأنينة بال مني ورضاً، ولن تجد له أثراً في نفسي إن شاء الله! فأعجبه هذا الموقف وشجعها عليه، وكان موقفاً جريئاً شجاعاً، له أثر طيب في نفسيات الأزواج. وكذلك فإن بعض العادات السيئة التي تنتشر فتكون حائلاً دون الزواج، مثل اشتراط بعض الناس أن لا يزوج مولياته إلا لأقاربه، أو لسنٍ معينة أو لمستوى من الغنى معين، كل هذه العادات سيئة ومخالفة للشرع، فالمعيار الشرعي هو الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). إن من أتاه مسلم يحفظ كتاب الله تعالى، ويحفظ بعض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلتزم بأوامر الله تعالى ويعلم أنه إن شاء الله تعالى كامل الدين والمروءة، فخطب إليه موليته التي يريد أن يقوم لها بالحقوق الشرعية، وليس فيه أي هجنة عليها في دين ولا مروءة، فرده، فقد سعى إلى إحداث فتنة عظيمةٍ بين المسلمين، وهذه الفتنة قد تكون بلاءً يصيبه في أهله، وقد شاهدنا هذا في بعض البلدان الإسلامية، فإن بعض الرجال عضلوا بناتهم عن الزواج ببعض من خطب إليهم من أهل الدين والمروءة، فابتلاهم الله تعالى -نعوذ بالله من المصائب- في بيوتهم، فزنى بناتهم وأنجبن من الزنا نعوذ بالله! أجارني الله وإياكم! وكل هذا من وراءه هذه العادات السيئة التي يحافظ عليها بعض المجتمعات وينبغي أن تزول فيها.

تعليم الرجال للنساء

تعليم الرجال للنساء Q ما حكم تعليم الرجال للنساء في مكان واحد، مع ذكر الدليل الشرعي وشروط ذلك جزاكم الله خيراً!. A إن الله عز وجل أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً للناس، فعلم الرجال والنساء معاً ولم تختص دعوته بالرجال دون النساء، بل كان يعلم الرجال والنساء، وأول من استجاب له النساء، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن النساء قلن له: (يا رسول الله! إن إخواننا من الرجال غلبونا عليك فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوم الخميس فاجتمعن عليه فعلمهن وذكرهن، وكان مما قال: ما من امرأة يموت لها ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا كانوا لها ستراً من النار، فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: واثنين). وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري في الصحيحين أنه (خطب يوم العيد فظن أنه لم يسمع النساء، فتوكأ على بلال فوقف على النساء فوعظهن، وذكرهن، وكان مما قال: يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار). وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم النساء في المسجد في الحلقات التي يسمعها الرجال والنساء، ويروين ذلك الحديث، فهذه أم عطية رضي الله عنها، تروي لنا كثيراً من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر التي تشمل الرجال والنساء، وكذلك كان على المنبر يأمر الرجال أن لا ينصرفوا حتى ينصرف النساء، لأن النساء يصلين في الصفوف الخلفية، ويأمر النساء أن لا يرفعن أبصارهن من السجود حتى يجلس الرجال؛ لئلا ينكشف عليهن شيء من عورات الرجال. ونهى عن منع النساء من الذهاب إلى المسجد، ومن المعروف أن المسجد لم يبن للصلاة فقط، وإنما بني للتعليم ونشر العلم والتبليغ عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أخرج مالك في الموطأ: (ما من امرئ يخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه، إلا كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً)، فهذه الأحاديث الصحيحة تقتضي جواز، بل وجوب تعليم الرجال للنساء، وأنه يحرم خلوة رجل واحد بامرأة واحدة، ليس معهما ثالث، لكن لا يحرم خلوة رجل واحد بامرأتين، أو بأكثر من ذلك، وبالأخص في غير ريبة إذا كان سيعلمهن. وإذا لم يجد النساء من يعلمهن فروض الأعيان وجب ذلك على من يستطيعه من الرجال، وإن تركه أثم، ولا يجوز له أن يسمع في ذلك لومة لائم، ولا أن يطيع فيه أحداً لأنه معصية لله تعالى، ويجب على النساء كذلك أن يتعلمن فرض عينهن من العقيدة، والعبادة والمعاملة، وما يمكن أن يتعلمن من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يسعين لتعلم ذلك مهما استطعن، وأن لا تأخذهن في ذلك لومة لائم، مهما كلفهن ذلك، وعليهن أن يصبرن على ما يجدنه في سبيل ذلك من المضايقة.

حكم عمل المرأة المسلمة خارج البيت

حكم عمل المرأة المسلمة خارج البيت Q هل عمل المرأة المسلمة المتحجبة يتنافى مع الآية الكريمة {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، نريد شرحاً مفصلاً للآية. A إن عمل المرأة الأصلي هو تربية أولادها والدعوة إلى دينها، وإقامة أسرةٍ كريمةٍ صالحة، ومساعدة زوجها في القيام بالحقوق الشرعية، ومساعدة والديها كذلك على القيام بالحقوق الشرعية، وتعلم العلم النافع وتعليمه، وإرشاد الناس ودعوتهم إلى الخير، والمشاركة في تكثير سواد المسلمين، وزيادة عددهم، وكل هذه الأمور يمكن أن تتحقق من خلال البيت. أما التوظف في الوظائف، فإنما ينظر إليه على أنه وسيلة بحسب ما تحققه من المقاصد، فإن كان لا يمكن للمرأة أن تشارك في بناء البيت المسلم، أو لا يمكن أن تشارك في الدعوة، أو لا يمكن أن تشارك في التعليم إلا من خلالها، كأن تكون معلمة للبنات مثلاً أو أن تكون حاضنة لهن، أو أن تكون موظفة في وظيفة شريفة ليس فيها اختلاط بالأجانب ولا هجنة، فهذا أمرٌ لا مانع منه شرعاً بشرط التحجب وعدم الاختلاط، وعدم الخلوة، وأن لا يكون في ذلك هجنة في المروءة، وأن لا يكون فيه تفريط في الواجب الأول المتعلق بالبيت، أما إن اختل شرط من هذه الشروط فيكون العمل حينئذ محرماً. وينبغي أن ننتبه هنا إلى أن بعض الأعمال التي هي أول ما يخطر في بال المرأة إذا أرادت الوظيفة، أن تبحث على أن تكون سكرتيرة مثلاً أو محاسبةً أو أي عمل من هذه الأعمال، وهذه مؤامرة كما ذكرنا، وهي خسيسة وتؤدي إلى خلوة الرجال الأجانب بالأجنبيات وتؤدي إلى الريبة وانتشار الفاحشة وهدم البيوت القائمة، ولذلك ينبغي أن نحذر منها، وأن نخافها كل الخوف، ولا شك أن الملتزمات إذا عملن في المجالات الحيوية، أبدين نماذج صالحة، ولا ينبغي أن تترك الوظائف الصالحة للفاسدات يفسدنها ويستغللنها في الباطل والإفساد. لكن على الصالحات أن يزاحمن الفاسدات في هذه الوظائف على الوجه الشرعي، وبالشروط الشرعية التي بيناها. أما قول الله تعالى في خطاب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]. فهذه الآية خطاب من الله لأزواج رسوله صلى الله عليه وسلم وليست خطاباً لكل المؤمنات، بل فيها من الأحكام ما يختص بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:32 - 33]. والأسلوب واحد، فهذا خطاب متسلسل لأمهات المؤمنين عليهن السلام، وفيه بيان لأنهن لسن مثل غيرهن من النساء، فأجرهن مضاعف ووزرهن مضاعف أجارهن الله من الوزر، وقد فعل ذلك. فلذلك ليس الخطاب هنا لكل النساء، بل على غيرهن من النساء أن يسعين لما يسددن به الرمق، ولما يسددن به حاجتهن، ويستغنين به عن مسألة الناس، ويؤدي بهن إلى العفاف، لكن يكون ذلك بالضوابط والشروط الشرعية التي بيناها، ولا يكون فيه اختلاط ولا خلوة، إلا إذا اضطرت المرأة إلى ذلك.

وضوء المرأة مع وجود الخاتم الضيق ونحوه

وضوء المرأة مع وجود الخاتم الضيق ونحوه Q كيف تتوضأ المرأة مع وجود ما يسمونه (العكيمة) في مؤخرة الرأس، والقرطين في الأذنين والخاتم الضيق؟ A الوضوء لا يشترط له إزالة ما تمسك المرأة به رأسها من المماسك إلا إذا كان ذلك كثيرا ًيغطي على أكثر الرأس، فإن كان ذلك كثيراً يغطي على أكثر الرأس وجب عليها أن تنزع بعضه حتى تمسح على رأسها دونه، وإن كانت الممسكة التي تمسك بها شعرها مرتفعة عنه يمكن أن تدخل يدها تحتها فلا يجب عليها نزعها لمسح الرأس، ولكن يجب نزع كل ذلك في الغسل، وأما القرطان في الأذنين فلا ينزعان لأجل الوضوء، وإنما ينزعان لأجل الغسل فقط، لإدخال الماء في ثقبي الأذنين على القول بوجوب ذلك، وقد اختلف فيه العلماء. وأما الخاتم الضيق فإنه لا تلزم إزالته، ولا إجالته، فيجوز للمرأة أن تتوضأ وبيدها الخاتم، ولا يجب عليها إجالته ولا إزالته، بل يبقى على مكانه، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، وقد ذهب بعضهم إلى أنه يجب إجالته فقط، ومحل هذا الخاتم المشروع، فلذلك لو كان الرجل متختماً بذهب وجب عليه إزالته مطلقاً للوضوء ولغيره، وإذا كان متختماً بفضة وكانت للتسنن وكان درهمين فدونه فإنه لا يجب عليه إزالة الخاتم على الراجح. والإجالة هي أن يحركه، والإزالة هي نزعه.

شخصية المسلم

شخصية المسلم إن التغيير المنشود اليوم في عالمنا الإسلامي أساسه تغيير نفوس المسلمين إلى الأحسن، ولا يتم ذلك إلا بإعادة بناء الشخصية وتربيتها وتزكيتها بهذا الدين العظيم، وإن عملية بناء النفس عند الجادين المخلصين لا تعرف التوقف ولا التعثر، بل هي مستمرة عندهم حتى يأتيهم الموت، ولا تتضح معالم شخصية المسلم إلا بجهد عظيم متواصل، وببناء للنفس محكم متكامل يقوم على أسس دعا إليها الشرع وبينها.

شخصية المسلم هي التي تميزه عمن سواه

شخصية المسلم هي التي تميزه عمن سواه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن كل ملة ونحلة وكل أيديولوجية لها قيم وأسس تبينها وتميزها عما سواها، وإن هذا الدين الذي هو الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى له ميزات هي التي تميزه عما سواه، وهي التي يزداد بها منسوب الإيمان في قلوب ذويه، وهي التي يحسن الإنسان بها إيمانه فيصبح حسن الإسلام، ومن عدمها ولو كان مؤمناً بقلبه ولسانه وبعض جوارحه فإن إسلامه غير حسن، وحسن الإسلام هو الذي شرطه الرسول صلى الله عليه وسلم في تكفير الحسنات للسيئات، فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه). وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض أسس حسن الإسلام في قوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فعلى هذا الأساس فإن المؤمن مطالب بأن يعرف أسس شخصيته التي يرتضيها له بارئه سبحانه وتعالى، فيتخلق بهذه الأسس ويزيدها في نفسه، وما كان عادماً له منها تاب واستغفر وتدارك التثبيط فيما مضى، وما كان متصفاً به بفطرته أو بتربيته حمد الله عليه ورسخه وزاد فيه.

من أعظم الأسس التي تميز شخصية المسلم الأساس العقدي

من أعظم الأسس التي تميز شخصية المسلم الأساس العقدي إن الأسس التي تميز بناء شخصية المسلم متعددة المشارب، فأعظمها وأقدمها: الأساس العقدي، فعقيدة المؤمن المقتضية للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره هي التي تميز تصوره لهذا الكون والحياة، وتميز كذلك تصرفه في حياته هذه، فإن الذي لا يحدد مبادئه بالإيمان يبقى ضائعاً في هذه الحياة مذبذباً كحال المنافقين الذين يقولون عندما يسألون في قبورهم: لا ندري، فالمنافق والمرتاب إذا سئل قال: لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. والمؤمن الصامد الثابت إذا سئل في قبره: ما ربك وما دينك وما تقول في هذا الرجل؟ يقول: الله ربي، والإسلام ديني، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا؛ ولذلك يجيبه الملائكة بقولهم: قد علمنا إن كنت لموقنا. فهذا الأساس العقدي يميز شخصية المسلم ويلزمه بكثير من الأعمال وكثير من الأخلاق، وكثير من التصرفات، ويرد عنه ما يقابلها.

الأساس العقدي يقتضي صرف العبادة لله وحده

الأساس العقدي يقتضي صرف العبادة لله وحده كذلك فإن عقيدة المسلم هذه تقتضي منه أن يميز بين الخالق والمخلوق تمييزاً كاملاً، فمقتضيات الألوهية لا يعدل بشيء منها إلى المخلوق لعلمه أنها من خصائص الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يمكن أن يصرف شيئاً منها للمخلوق، فلا يمكن أن تصرف عبادة للمخلوق أياً كانت لا في ظاهرها ولا في باطنها، فالمؤمن ذو الشخصية الإسلامية القوية لا يصرف شيئاً من عبادته الباطنية لمخلوق، فلا يرائي ولا يلتفت بشيء من عباداته لغير الله، لعلمه بالمراقبة الحقيقية (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه). وكذلك لا يعدل عنه بشيء من عباداته الظاهرة، فلا نذر للمخلوق، ولا رجاء ولا خوف؛ لأنه لا يأتي من عنده إلا ما كتبه الله، ومن هنا لن يصرف للمخلوق أي جزء من أجزاء العبادة بأي وجه من الوجوه؛ لأنها من خصائص الألوهية، حتى لو كان هذا المخلوق أشرف الخلق على الله وأكرمهم لديه وأحبهم إلى الناس وأنفعهم لهم، فرسل الله وملائكته المقربون عليهم السلام هم أبلغ عباد الله تحقيقاً لهذه العقيدة؛ ولهذا قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] ويقول في وصف الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] ويقول في وصف من ارتضى عملهم، ويدخل فيهم الأنبياء وغيرهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:16 - 18]. هذا الأساس مقتض لهذا التميز وعدم الميوعة، أما من اختل لديه شيء من الأسس العقدية فسيضع كل شيء في غير موضعه، فيجعل العبادة في غير موضعها فلا يتجه بها اتجاهها الصحيح، ويجعل التوكل في غير موضعه فلا يتجه به الاتجاه الصحيح، ويجعل الخوف والرجاء في غير موضعهما فلا يتجه بهما الاتجاه الصحيح، ومن هنا يصاب بالتذبذب كحال المنافقين الذين قال الله فيهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143].

الأساس العقدي مقتض محبة الله وعبادته ومحبة رسوله

الأساس العقدي مقتض محبة الله وعبادته ومحبة رسوله ومن هنا فهذا الأساس الأول مقتض من الإنسان محبة الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وحده ورجائه وخوفه والأدب معه، وكذلك مقتض لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر رسل الله، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية لتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وأن لا يعبد الله إلا بما بلغ عنه هذه ثلاثة أمور هي مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.

الأساس العقدي يقتضي من الإنسان الصبر والثبات والثقة بالله وحده

الأساس العقدي يقتضي من الإنسان الصبر والثبات والثقة بالله وحده وكذلك فإن هذه الأسس العقدية تقتضي من الإنسان الصمود والصبر والثبات وعدم التزحزح، فالذي يؤمن بالله وحده ويعلم أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، وأن الله كتب ما هو كائن في قدره النافذ، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن الأمة كلها لو اجتمعت على أن تنفعه بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له، وأنها لو اجتمعت على أن تضره بشيء لم تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه؛ لا يمكن أن يخضع ويذل لغير الله، ولا يمكن أن يؤثر رضا المخلوق على رضا الله، ولا يمكن أن يخاف إلا من الله سبحانه وتعالى وحده، ذلك لأن إيمانه بالله سبحانه وتعالى مقتض لمعرفته به، بمعرفته وأنه ديان السماوات والأرض الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بيده مقاليد كل شيء، هو الحق الملك المبين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويعلم أنه سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء فلا يعجزه شيء، وأنه المدبر للكون كله، وأنه لا يغفل عنه لحظة واحدة، ومن هنا فإن قناعته بهذا مقتضية منه تمام التعلق بالله والاتصال به والتوكل عليه ورجائه وخوفه، وعدم رجاء من سواه أو خوفه أو الاعتماد عليه في أي شيء؛ لعلمه أن كل من سوى الله لا يملك لنفسه فضلاً عن الغير حياة ولا موتاً ولا نشوراً ولا نفعاً ولا ضرراً، ومن هنا لا يحق أن يتوكل عليه ولا أن يرجى نفعه ولا أن يخاف ضرره. وإيمان الإنسان الراسخ بأن الأنفس كلها بيد الله، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، مقتض منه كذلك أن لا يثق فيما سوى الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي لا يبدو له البداء، فعلمه سابق لكل خلقه {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231] والمخلوق يبدو له البداء في كل لحظة، فيتغير رأيه ويعدل عن الآراء التي كان يراها.

من الأسس التي تميز شخصية المسلم الأساس التعبدي

من الأسس التي تميز شخصية المسلم الأساس التعبدي

مما ينمي العبادات ويزكيها الإخلاص لله وموافقتها للشرع

مما ينمي العبادات ويزكيها الإخلاص لله وموافقتها للشرع كذلك مما ينمي هذه العبادات ويزكيها: الإخلاص فيها لله سبحانه وتعالى وموافقتها لما شرع، وهذان الركنان هما ركنا صلاح العمل: الركن الأول: أن يكون الإنسان مخلصاً في كل حركاته وعباداته وحده ديان السماوات والأرض، لا يشرك معه غيره في شيء من تصرفاته، فهو الملك الحق المبين الذي يقول فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، فأنا أغنى الشركاء عن الشرك) ومن هنا يحاول الإنسان الإخلاص في تصرفاته، وقد كان كثيرٌ من الصالحين إذا بدأ عملاً في العبادة ثم تذكر أن بعض النيات قد ندت عن ذهنه، أو قصر عنها تفكيره رجع عنها إلى الوراء حتى يبتدئ العمل بهذه النيات المخلصة كلها. والركن الثاني: أن تكون هذه العبادة موافقة لما شرع الله، فكم من أقوام يعبدون ولا يستريحون ولا يفترون؛ لكن عبادتهم غير موافقة لما شرع الله فلا يتقبلها الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:2 - 7]، فهؤلاء خالفوا فلم يتقبل الله تعالى عبادتهم وردها عليهم؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن من أكبر المصائب على الإنسان العابد أن يكون أجنى جناياته عبادته التي يريد بها التقرب إلى الله، فإذا كانت الصلاة -التي هي القربة الأولى لدى الإنسان يتقرب بها إلى الله- هي الجناية الكبرى يوم القيامة، فهذا من أعظم المصائب. ومن هنا فعلى الإنسان فيما يتعلق بعباداته أن يتعلم ما شرعه الله فيها، وأن يحافظ على ذلك، فهذا هو إقامتها والمحافظة عليها، فإنه لا ينبغي أن يمل الناس من دراسة أحكامها وسننها وهيئاتها وآدابها الكثيرة التي لا نرى تطبيق كثير منها، فكثير من الناس يعلم هيئة الركوع ولكنه لا يعطيه وقتاً ولا يطمئن فيه، وكثير منهم يعلم هيئة السجود ولكنه لا يؤديه كما شرع! فنراه منقبضاً يدخل مرفقيه عند بطنه ويمس جنبيه بضبعيه! ويخالف الهدي النبوي في هيئة الصلاة كلها. إن دراسة الهدي النبوي في العبادة مقتض من الإنسان أن يحسن هذه العبادة، التي هي قيمة وأساس شخصيته، ومن هنا اعتنى كثير من أهل العلم ببيان الهدي النبوي في العبادات، ومن هؤلاء شمس الدين بن القيم رحمه الله الذي ألف كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد)، فحاول أن يجمع فيه الهدي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هيئات التعبدات ليكون ذلك معيناً للمسلم على تطبيق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء الحافظ البغوي رحمه الله فقد ألف كتابه (مصابيح السنة) ورتبه في كل عبادة وفي كل باب على فصلين: الفصل الأول: ما جاء في الصحيحين. الفصل الثاني: ما كان في السنن والمسانيد والمعاجم. وسمى الأول الصحاح والثاني الحسان، وإن كان أهل الحديث قد لاحظوا عليه هذا الاصطلاح؛ لأن أحاديث السنن منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف فلا توصف كلها بالحسن؛ ولهذا قال العراقي رحمه الله في الألفية: والبغوي قسم المصابحا إلى الصحاح والحسان جانحا أن الحسان ما رووه في السنن عيب عليه إذ بها غير الحسن لكن مع هذا جمع هذا الجمع المفيد الطيب الذي أفاد الناس في مختلف العصور، وجاء بعده الإمام التبريزي رحمه الله فاختصر (المصابيح) واستخرج منها أهم أحاديث الأبواب في كتابه (مشكاة المصابيح)، وهذا الكتاب ميسر وسهل وفي متناول الأيدي، وبالإمكان أن يرجع الإنسان فيه إلى الهدي النبوي في كل تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك أصلاً يرجع إليه في إحسان عباداته لله وحده. إن هذه القيمة التعبدية هي التي بها النور، والإنسان محتاج إليه، فنور بصيرته وفهمه وأدبه مع الله إنما يستقى من قيمته التعبدية، فهي أساس عظيم من أسس شخصيته تستنير بها بصيرته ويستنير بها وجهه وقلبه ويصلح للتلقي عن الله سبحانه وتعالى والتفهم في كتابه، ومن عدم هذه القيمة لم ينل وقار العلم ولا هيبته، حتى لو أفنى عمره في الدراسات ولن يستشعر هذه العظمة والسعادة والراحة القلبية التي عبر عنها أحد العلماء في هذه البلاد بقوله: إن من أعظم النعم التي تذاق بها حلاوة الإيمان أن يأتي إلى الإنسان خطاب من ربه أن افعل كذا، فيكون قد علم حكمه وعرف هيئته الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأداه على وفق ما شرع، فيحصل له بهذا سعادة عجيبة.

الإنسان مفطور على العبادة

الإنسان مفطور على العبادة الأساس الثاني بعد الأساس العقدي: هو الأساس التعبدي: فمن شخصية المؤمن أنه عابد بطبعه، والإنسان مفطور على العبادة، فإذا عرف أن الله يستحق العبادة أبره بهذه العبادة، وإن لم يعرف إلهه بدأ يلتمس شيئاً يعبده، فلا بد أن يعبد شجراً أو حجراً أو مدراً أو غير ذلك، لأنه بطبعه مفطور على العبودية، والذي يزعم من البشر أنه هو الإله منتكس الفطرة مكذب لنفسه؛ ولذلك كان عمل فرعون وغيره من الذين ادعوا الربوبية نشازاً في عالم البشرية، فالبشر لا يمكن أن يصدقوا هذا، ومن الغريب أنه إذا لم يهتد الإنسان إلى ربه وإلهه فإنه يعبد شيئاً هو أشرف منه في الواقع، فقد كان الناس في أيام الجاهلية يعبدون الحجارة التي يصنعونها؛ ولهذا نبهم خليل الله إبراهيم إلى أنهم أشرف من هذه الحجارة وأعظم منها. وكذلك كانوا يعبدون أتفه الأشياء، فقد حدث طارق بن شهاب: أنهم كانوا إذا وجدوا حجراً فأعجبهم عبدوه، فإذا وجدوا حجراً آخر أحسن منه عدلوا عن الأول وكسروه وعبدوا الثاني، فإذا لم يجدوا حجراً جمعوا تراباً واحتلبوا عليه شاة فإذا يبس عبدوه من دون الله. هذا من انتكاس الفطرة، والموافق للفطرة إنما هو العبودية، فالإنسان بطبعه عبد، والذين يدعون الحرية ويدعون إليها يعلمون أن تلك الحرية مقيدة، وأن لها حدوداً لا بد أن تنتهي إليها، فالإنسان مفطور على العبودية.

قيمة الإنسان في هذه الحياة قيامه بالعبادة

قيمة الإنسان في هذه الحياة قيامه بالعبادة لهذا فإن من أسس بناء شخصية المؤمن أن يكون عابداً لله سبحانه وتعالى وأن يكون مسارعاً في ذلك، وأن يعلم أن قيمته هي هذه العبادة، فقيمة كل شيء ما ينفع فيه، فمثلاً: هذا الجهاز قيمته أنه وضع للتسجيل، فما دام يقوم بوظيفته فهو ذو سعر مرتفع، وإذا خرب ولم يؤد هذا الدور لم يبق له ثمن، والإنسان كذلك خلق من أجل العبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، فإذا فقد الإنسان هذه القيمة ولم يؤد هذه العبادة أو كان يؤديها بدور ناقص، مثل الجهاز إذا كان يسجل لكن بتشويش وأصوات مزعجة، فإنه تنحط قيمته ويقل سعره. وبهذا فإن الفضل في البشرية إنما يكون بحسب التقوى والعبادة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وهذه القيمة لا شك أنها متدرجة متفاوتة، فأعظم العبادات وأجلها ما افترضه الله على عباده، ودونها سياجها المكمل لها من السنن والمندوبات، فالواجبات مثل البيت والسنن والمندوبات مثل السور الذي يحيط بالبيت ويعصمه من السراق ومن اللصوص والسيارات والبهائم، والبيت محتاج إلى هذا السور الذي يحيط به، وكذلك العبادات في تكميلها وتتميمها بهذه السنن والمندوبات، ومن فرط في شيء منها فإن ذلك سيكون على حساب الأصل؛ لأن العبادة كل متكامل، فإذا فرط الإنسان في المندوبات ساقه ذلك إلى التفريط في السنن، وإذا فرط في السنن ساقه ذلك إلى التفريط في الفرائض التي هي رأس المال.

أثر النية الصالحة في رفع الدرجات

أثر النية الصالحة في رفع الدرجات والله تعالى من فضله وكرمه أن أتاح للإنسان كثيراً من الفرص في مجال العبادات، من أعظم هذه الفرص فرصة النية، فالإنسان وقته محصور وجهده يسير لكن ينوي للعمل الواحد عشرين نية، فيكتب له عدد هذه النيات من الأعمال، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً خرج فرأى كثيباً أهيلاً من الرمل فتمنى لو كان له مثله سويقاً فينفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة حسناته فإذا فيها كثيب أهيل من السويق، فقال: من أين لي هذا وما أبصرته عيناي قط؟ فقال: إنك مررت بكثيب رمل فتمنيت لو كان لك مثله سويق فتنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك). ونية المؤمن أبلغ من عمله، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). وهذه النية يمكن أن تنمى وينمى بها العمل ويزداد، فإذا جاء الإنسان وأدرك الناس في أثناء الصلاة فإنه ينوي أداء هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام، ثم ينوي كذلك الحفاظ عليها حين أمره الله بذلك، وينوي المحافظة على الصلاة الوسطى؛ لأن أرجح شيء فيها أنها صلاة العصر، وينوي كذلك تكثير سواد المسلمين، وينوي كذلك أن أجر خطاه إلى المسجد: فلا يرفع خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة، وأن لا يمر على شيء إلا شهد له، وأن يعتدل في الصف كما تصف الملائكة عند ربها، وأن يحبس جوارحه عن المعصية ما دام في المسجد، وأن (يأتي لعلم يعلمه أو يتعلمه فيكون كالمجاهد في سبيل الله ويرجع غانماً) كما أخرج مالك في الموطأ، وأن يكون كذلك من الذين يتعرفون على الله في الرخاء حتى يعرفهم في الشدة، ومن الذين يتعرفون على ملائكة الله الذين يستغفرون لعباده وهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، وأن يكون كذلك من الذين يترهبون بعمارة المساجد ولو لحظة، وأن يلتمس دعاء المسلمين في المساجد، وأن يكون من عمارها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة:18]، وأن يكون كذلك من الذين يلتمسون بركة الذين يعمرون هذه المساجد من الملائكة ومن صالحي الإنس والجن، فدعواتهم وأخلاقهم ومجالستهم تغفر بها الذنوب كما في الحديث الصحيح: (أشهدوا أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). كذلك نية تحية المسجد، إذا جاء الإنسان ووجد الإمام في أثناء الصلاة، فهذه الفريضة بالإمكان أن ينوي بها السنة، فينوي بها أيضاً تحية المسجد فتحسب له صلاة أخرى زائدة على أصل ذلك. كل هذه النيات تكتب أعمالاً مستقلة في ميزان الحسنات الذي توزن فيه مثاقيل الذر وهي أصغر شيء: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].

من الأسس التي تميز شخصية المسلم أساس المعاملة مع الله عز وجل

من الأسس التي تميز شخصية المسلم أساس المعاملة مع الله عز وجل والأساس الثالث من أسس شخصية المسلم: أساس المعاملة، وهذا أساس عظيم جداً، ففيه الجانب الخلقي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا)، وفيه جانب التعاون بين الناس الذي قال الله فيه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:2]. وفيه جانب الاكتساب والسعي في الأرض الذي يقول الله فيه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، فكل هذه الجوانب داخلة في هذا الأساس من أسس بناء شخصية المسلم وهو أساس التعامل.

من حسن التعامل مع الله الصبر عند المصيبة

من حسن التعامل مع الله الصبر عند المصيبة كذلك فإن من واقع التعامل مع الله سبحانه وتعالى الذي ينبغي أن يكون حاضراً في أذهان المؤمنين: أن المؤمن إذا أصابته أي مصيبة، أو نفذ فيه أي قدر من أقدار الله سبحانه وتعالى، تذكر الكلمة البليغة التي هي الأدب الشرعي في التعامل مع الله عند المصائب وهي: إنا لله وإنا إليه راجعون. {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]. (إنا لله) فنحن مملوكون له سبحانه وتعالى وتصرفه فينا نافذ ماض لا معقب لحكمه، (وإنا إليه راجعون) فنحن جميعاً راجعون إليه حتى لو تعدتنا المصائب الآن وتجاوزتنا، فلا بد أن نصل إلى الرجوع إليه؛ لأن مصير الأمور كلها إليه {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53].

من حسن التعامل مع الله دعاؤه والتضرع إليه

من حسن التعامل مع الله دعاؤه والتضرع إليه كذلك: الدعاء فإنه مقتض أن يتذكر الإنسان مذلته وفقره وعجزه فيتذكر ما يقابل ذلك من صفات الله المخالف للحوادث، يتذكر غنى الله المطلق، يتذكر دوامه وقيوميته التي لا انتهاء لها ولا انقضاء، يتذكر كرمه وجوده وسخاءه، يتذكر فضله وأن يده سبحانه وتعالى سحاء لا تغيض الليل والنهار. ويتذكر حلمه ورأفته ولطفه فهو الذي يرى الناس على المعصية فيغفر ويستر، فما من أحد منا إلا ويتذكر مواقف بينه وبين الله يخجل منها، ويستحي أن يطلع الله عليه وهو على المعصية، ولكنه يستره ويسامحه وهو قادر على أخذه أخذاً وبيلاً بهذه اللحظة؛ نسأل الله أن يتبع الستر بالمغفرة وأن يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا في أمرنا. فإذا تذكر الإنسان ذلك عرف أنه محتاج إلى هذا الدعاء، وأنه أساس من أسس شخصيته التي تميزه، فغير المسلم يدعو غير الله ويكثر من دعائه! والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]. وهذا الدعاء لله سبحانه وتعالى هو حقيقة الغنى بالله عما سواه، والذي إذا أصابته أية مصيبة أو احتاج إلى أي حاجة، أو تذكر فقراً أو تذكر ذنباً بادر إلى باب الدعاء، فسيغلق الله عنه باب الفقر ويفتح له باب الغنى، فيستغني بالله عمن سواه، والذي إذا تذكر حاجة أو فاقة علقها بالمخلوق فبدأ يسأل الناس فإنه كلما سأل فتحت عليه أبواب أخرى من الفقر، فيجعل الله فقره بين عينيه، ويجعله متعلقاً بالآخرين دائماً، وهذا الذي كتبه الله على اليهود، فقد كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] فهم دائماً يريدون من يحميهم، ويريدون من ينفق عليهم، ويريدون من يبدي لهم جانب الرحمة؛ لأنهم مفطورون على الذلة للمخلوق. بخلاف أهل الإيمان فإن من أساس شخصيتهم أنهم يسألون الله الذي رضي لهم أن يسألوه فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ولهذا يعلقون آمالهم ودعاءهم في حوائجهم كلها بالذي يقدر على قضائها، الذي لو اجتمعت الخلائق كلها في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، الذي لا يعجزه قضاء حوائج عباده، ولا تغيض يداه بل هما سحاءان بالليل والنهار، هذا هو الذي يستحق أن يسأل وأن يدعى ومن سواه لا يستحق ذلك، بل العباد مفطورون على البخل في الأصل؛ ولهذا يقول أحد الحكماء: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب ويقول آخر: إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد وقفت بباب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إنني لك قاصد ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد

من حسن التعامل مع الله التعرف على عجائب خلقه وتدبيره ولطفه

من حسن التعامل مع الله التعرف على عجائب خلقه وتدبيره ولطفه ثم إن التعامل مع الله سبحانه وتعالى مقتض أن يتعرف الإنسان على عجائب خلقه وتدبيره ولطفه، فإن الإنسان إذا لم يدرك هذه الحقائق يبقى جانب عظيم من تعلقه بالله مهملاً مغلقاً، لكن إذا رأى تصرف الله في هذا الكون الذي يخرج فيه النقيض من نقيضه والضد من ضده {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس:31]، يرى العجائب العجيبة، وذلك مقتض منه لزيادة التعلق به، وزيادة محبته وزيادة الإيمان به وزيادة الرجاء وعدم الانقطاع عنه مطلقاً. من رأى عجائب كون الله سبحانه وتعالى ودقائق ملكوته لم ينزعج ولم تسد أمامه الأبواب، ولم يقنط ولم ييأس {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فإذا تعالى الباطل وعلت صيحاته وانتفش وانتفخ فإن أهل الإيمان يعلمون أن الفرج قريب، وأن النصر مع الصبر وأن الذي أهلك قوم نوح فأمر السماء ففتحت أبوابها بالماء المنهمر وأمر الأرض فتفجرت عيوناً {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12]، وأهلك عاداً بالريح التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، وأهلك ثمود بالصيحة التي لم تبق لهم باقية، {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:51] وأهلك قوم لوط بالحاصب الذي قلب مدينتهم، وأهلك أصحاب فرعون وفرعون بالتطام البحر والتقائه عليهم، غير عاجز عن أن يهلك أعداءه في أي زمان وأي مكان {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:43 - 45]. فمن هنا لا ييأس الإنسان ولا يحزن إذا رأى انتفاش الباطل، لعلمه أن له صولة ثم يضمحل.

من حسن التعامل مع الله التعرف إليه في الرخاء

من حسن التعامل مع الله التعرف إليه في الرخاء ومن أسس التعامل مع الله سبحانه وتعالى: أن يتعرف الإنسان إليه في الرخاء كما ذكرنا، وهذا مقتض لأن يكون الإنسان راغباً إلى الله في كل أحواله، فكثير من الناس لا يعرفون الدعاء إلا في وقت الشدة، أما في وقت الراحة والسعادة والطمأنينة والغنى والصحة فإنهم يبطرون بتلك النعم فلا يدعون الله!! وكثير من الناس إذا رأى من تسيل دمعته وتفيض عيناه ويمد يديه إلى بارئ السماوات والأرض يقول: هذا في مشكلة، هذا مصاب بمصيبة!! لتصور الناس أنه لا يدعى الله إلا في وقت المشكلات، والواقع خلاف هذا. فعلى الإنسان أن يتعرف إلى الله في الرخاء وأن يكثر من دعائه، وأن يعلم أن هذا الدعاء هو حقيقة المذلة بين يدي الله، فحقيقة التذلل لله إنما تكون بدعائه، والإنسان محتاج إلى هذا في كل أوقاته، وهذا الدعاء هو مخ العبادة، وهو مقتض لأن يثني الإنسان على الله بالمحامد والثناء الذي هو أهله ومستحقه، وهي فرصة عجيبة تتاح للإنسان للثناء على الله، ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يهمل هذا الجانب من شخصية المؤمن، فلو عرضت عليه صحيفة كلامه لوجد فيها كثيراً من الثناء على المخلوقين، ولما وجد فيها من الثناء على الخالق إلا شيئاً يسيراً، مع أن الله هو الذي يستحق الثناء، وألسنة كثير من الناس لا تتعود الثناء على الله بصفاته ونعمه وآلائه الجسيمة وهو أهل للثناء (وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أعرابياً قام في المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج إلى بيته فجاء بذهيبة -أي قطعة من الذهب- فقال: خذ هذا بحسن ثنائك على ربك) جائزة على حسن ثنائه على الله. وثبت في صحيح البخاري: (أن رجلاً من الأنصار خرج في سرية فكان يؤمهم، فكان إذا قرأ الفاتحة قرأ بعدها سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ثم يقرأ سورة أخرى، فأنكر عليه أصحابه، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: (قل هو الله أحد) صفة الرحمن فأجدني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة)، كان يحب الثناء على الله فأدخله ذلك الجنة.

حسن تعامل العبد مع ربه يقوم على ثلاثة أسس

حسن تعامل العبد مع ربه يقوم على ثلاثة أسس وهذا الأساس معناه أن الإنسان مضطر للتعامل مع غيره، وأولى من يتعامل معه ربه سبحانه وتعالى، فعليه أن يحسن المعاملة معه. الأساس الأول: وهو أهم ضوابط إحسان المعاملة مع الله، الصدق في التوجه إليه، فإذا علم الله الصدق من عبده بالتوجه إليه هداه سبله وأراه طريق الحق وأخذ بناصيته إلى ذلك. أما إذا رأى منه كذباً في التوجه إليه وأنه لم يكن صادقاً في ذلك فإن الله يغويه ويضله، كما قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109 - 111]، إن صدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى يقتضي من الإنسان أن يتأدب مع الله في الأخذ وفي التلقي. والأساس الثاني: أن يعرف نعمة الله ويقيدها بشكرها، وهذا أساس في التعامل مع النعم، فكثير من الناس لا يعرفون النعمة بوجودها وإنما يعرفونها بزوالها، فإذا فقدوا النعمة تذكروا أنهم كانوا في خير وعافية، وأن ذلك قد فارقهم فأسفوا وندموا!! وهذا مخالف لأساس شخصية المسلم؛ لقول الله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]. {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]. وعلى هذا فلابد أن نعرف نعمة الله بوجودها لا بزوالها، ثم بعد ذلك لا بد أن نعرف من أين أتت هذه النعمة، فكثير من الناس تطغيه النعمة فينسى من أين أتت، والله تعالى يذكر رسوله صلى الله عليه وسلم بمصدر نعمته عليه فيقول: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1 - 4] ويقول في السورة التي قبلها: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:1 - 8] فيذكره بمصدر النعمة. كثير من الناس يجهل مصدر النعمة بالطغيان، يطغى بالنعمة فينسى مصدرها. {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]؛ ولهذا فإن قارون حين أغناه الله نسي مصدر النعمة، فقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]. والأساس الثالث في التعامل مع الله: هو تقييد نعمه بالشكر، ومعناه: أن كثيراً من الناس ينكر هذه النعمة بعد معرفته بها ومعرفته من أين أتت، كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]، وأهل الإيمان يعرفون نعمة الله ويقيدونها بالشكر، فإذا شرب الإنسان أو أكل قال: الحمد لله، فتذكر هذه النعمة عليه، وإذا استيقظ من نومه ورد الله عليه روحه تذكر هذه النعمة فقال: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره، وإذا من الله عليه بالعبادة حمد الله على ذلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده يقول: ربنا لك الحمد، وهكذا فالنعم المتسلسلة يصاحبها ويحاذيها الحمد الذي هو قيدها، والشكر الذي هو سبب زيادتها، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].

من الأسس التي تميز شخصية المسلم أساس المعاملة مع النبي صلى الله عليه وسلم

من الأسس التي تميز شخصية المسلم أساس المعاملة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أمنّ الخلق على الناس، وقد شرط الله عليهم محبته في الإيمان (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) (لا، حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك). ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروطة بالإيمان، والتعامل معه صلى الله عليه وسلم مقتض للتأدب معه تمام الأدب كما قال سبحانه وتعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:1 - 5]، فالتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أساس التقدير والتوقير الذي شرطه الله سبحانه وتعالى وأمر به، يعتبر من مميزات شخصية المسلم في مجال التعامل. أما من لم يأخذ بهذه القيمة من قيم شخصية المسلم فسيكون ما بين مفرط ومفرط، فالمفرط: سيحل الرسول صلى الله عليه وسلم في غير منزلته، ولن يعرفه على حقيقته، بل سيحجب عن صفاته الحقيقية وعن الأدب معه بمجرد خرافات وأقوال اختلقها أقوام ليس لها أساس، والنبي صلى الله عليه وسلم في غنى عنها، فقد شرفه الله وكرمه بالتشريف الكافي، ولا يحتاج إلى الإطراء بالباطل ولا يحتاج إلى الخرافات، بل آتاه الله المعجزات الحقيقية التي هي مقنعة لكل من سمع وبلغ. النوع الثاني: المفرِّطون الذين يسيئون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يوقرونه ولا يقدرونه ويعتدون على جانب النبوة فينسبون إليه بأفهامهم ما هو خلاف الواقع، ويظنونه كرجالاتهم، وليس كذلك، بل هو المعصوم الذي شرفه الله على سائر الناس وكرمه، والمؤمن بين هاتين الرذيلتين: بين الإفراط والتفريط.

من الأسس التي تميز شخصية المسلم: أساس المعاملة مع المؤمنين

من الأسس التي تميز شخصية المسلم: أساس المعاملة مع المؤمنين كذلك فإن من مقومات شخصية الإنسان المؤمن في مجال التعامل: تعامله مع إخوانه المؤمنين الذين وصف الله تعاملهم فيما بينهم بالرحمة والشفقة، فقال سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. ومن هنا فالصفة العظيمة التي كتبها الله على نفسه وأمر بها عباده هي صفة الرحمة، فيتصف بها المؤمنون فيما بينهم، فهم الرحماء الذين يرحمهم الله، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لا يرحم لا يُرحم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). وهذه الرحمة يحتاج الناس إليها في تعاملهم فيما بينهم، وإذا انعدمت فإن الخيرية سترفع، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها)، فإذا نزعت الرحمة من الناس زالت الخيرية منهم، وعدموا الخير الذي اختارهم الله له: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].

الناس في التعامل درجات باعتبار الحقوق الشرعية

الناس في التعامل درجات باعتبار الحقوق الشرعية وهذا الأساس من أسس بناء شخصية المسلم في التعامل مع الناس: مقتض كذلك لتفاوت درجات الناس في الحقوق الشرعية، فأحق الناس بحسن صحابة الإنسان أمه، ثم بعدها أبوه، ثم أدناه فأدناه، وكذلك حقوق الجار الذي حض النبي صلى الله عليه وسلم على أداء حقوقه، وحقوق الضيف، وحقوق ذي الشيبة في الإسلام، وحقوق أهل العلم والدين، فهذه الحقوق أعلى مما سواها من حقوق عوام المسلمين. ثم بعد ذلك حقوق الداعين والساعين في طريق الحق، وأدنى من ذلك حقوق عوام المسلمين الذين لا يلتزمون بجزئيات الإسلام، ولا يتبعون سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفصيلاته، لكن مع ذلك فإن حق الأخوة لا ينصرم ولا ينقطع إلا بالكفر بالله؛ ولهذا فقد أثبت الله الأخوة بين المؤمنين مع وجود الظلم والبغي في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] الأخوان هنا هما الباغي والمبغي عليه، فكلاهما أخوان لنا، فالأخوة الإيمانية لا ينقضها البغي والظلم، لكن حقوق أهلها متفاوتة على ترتيب الحقوق الشرعية.

حكمة الله في إيجاد الترابط الاجتماعي لوجود الحاجة بين الناس

حكمة الله في إيجاد الترابط الاجتماعي لوجود الحاجة بين الناس الجانب الآخر من جوانب التعامل هو جانب الاكتساب: فالله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق بين الناس، ومن حكمته فيما يقتضي حصول الترابط بينهم أن يعطي هذا ما هو في غنى عنه ويحتاج إليه غيره، ويعطي الآخر ما هو في غنى عنه ويحتاج إليه غيره، حتى يقع التكامل بينهم، وحتى يحتاج بعضهم إلى ما في يد بعض فيقع التبادل بينهم؛ ولهذا شرع لهم البيع وحرم عليهم الربا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ليقع التكامل فيما بينهم، وهذا التكامل لا بد أن يكون وفق الشرع. فميزة المسلم المؤمن أنه يميز بين دائرتين متباينتين هما دائرة الحلال ودائرة الحرام، ففي طلب الرزق والاكتساب يعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل له دائرة هي دائرة الحلال وأجاز له التصرف فيها والسعي الموافق للشرع بما ليس فيه مذلة ولا إساءة في الطلب، بل عليه أن يجمل في الطلب ويعلم أن رزقه مضمون، وأنه لا ينال بالحيلة، وكم رأينا من يبذل جهده ووقته طيلة عمره في محاولة جمع المال ويموت فقيراً لا يملك شيئاً! وكم رأينا من لم يتعب في هذه الدنيا ولم يبذل فيها جهداً يذكر ومع هذا مات غنياً وعاش غنياً غير محتاج إلى الناس!! فالقضية هنا ليست باتباع الحيل، بل يقول أحد الحكماء: مثَل الرزق الذي تطلبه مثَل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك ويقول الآخر: باتت تعيرني الاقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما تباً لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما ومن هنا فعلى الإنسان أن يجمل في الطلب وأن لا يذل نفسه، وأن لا يجعل نفسه خادماً للدنيا، بل المطلوب أن تكون الدنيا خادمة له هو. وفي هذا المجال عليه أن يعلم أن الدائرة الأخرى وهي دائرة الحرام دائرة مسدودة، ولا خير له فيها، وإذا زين له الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء أو إخوان السوء أن يتزود من هذه الدائرة التي حرم الله؛ فليتذكر قصة إبليس مع آدم وحواء حين أخرجهما من الجنة، ليتذكر أن على حافتي الطريق أبواباً مفتحة وعليها ستور، ووراء كل باب داع يدعو للولوج، وفوقه داع الله ينادي يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه. ليتذكر الإنسان إذا عرضت عليه أية صفقة أو أي مكسب وهو مما حرم الله عليه، أنه يمكن أن يستدرج بهذا حتى يهوي في النار، فيحاول الابتعاد عن دائرة الحرام ما تيسر له ذلك، وليعلم أن (كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)، وأن ضعاف الإيمان هم الذين يريدون أن يدخلوا هذه الدوائر ويتزودوا من هذا الحرام؛ ولهذا فولاؤهم المنبني على أساس العقيدة غير صحيح، فهم يوالون الكفار لا رغبة في دينهم ولا في قيمهم، ولكن لأنهم يخشون الدوائر، فيريدون أن يغنيهم الكفار مما تحت أيديهم، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52]. وفي هذا المجال على الإنسان أن يتعلم حدود الحلال والحرام؛ ولهذا صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من لم يكن فقيهاً أكل الربا شاء أو أبى)، وقال: (من لم يكن فقيهاً فليخرج من سوقنا)؛ لأنه يخاف أن يغلب غير الفقهاء على الأسواق فيتعاملون بمعاملات محرمة فتنتشر تلك المعاملات، وهي الغبار الذي ينال الناس من الربا، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه في آخر الزمان سيعم الربا فمن لم ينل منه ناله من غباره). وهذا هو واقعنا اليوم، فالاقتصاد العالمي كله يقوم على الربا المؤدي إلى حرب الله ورسوله، ومن لم ينل منه ناله من غباره. فعلى المؤمن وهو يسعى لبناء شخصيته أن يعلم أن من مقومات شخصيته الابتعاد عن الحرام.

ليس من التعامل الشرعي مع الناس إحصاء ذنوبهم

ليس من التعامل الشرعي مع الناس إحصاء ذنوبهم عند التعامل مع الناس لا بد أن يتذكر الإنسان أنه مخلوق مثلهم، وأنه ليس محصياً لذنوبهم ولا مكلفاً بذلك، وأن عليهم ملائكة يحصون أعمالهم لا يفوتهم شيء منها، وأنه لا يكلف إلا نفسه، ويؤمر بتحريض الآخرين فقط، فهو يأمر وينهى لكن ليس حسيباً ولا مسيطراً ولا مهيمناً، إنما هو شاهد فقط، ولهذا أخرج مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).

من الأسس التي تميز شخصية المسلم الرغبة فيما عند الله والدار الآخرة

من الأسس التي تميز شخصية المسلم الرغبة فيما عند الله والدار الآخرة والمقوم الرابع من مقومات بناء شخصية المسلم بعد المقوم العقدي والمقوم التعبدي ومقوم التعامل، هو: مقوم الرغبة فيما عند الله والرغبة في الآخرة.

لو دامت الدنيا لأحد لما وصلت إلينا

لو دامت الدنيا لأحد لما وصلت إلينا وبهذا يعلم المؤمن أن تنافس الناس في هذه الدنيا وفي زهرتها وملكها قد سبق هذا الزمان، وأنها لو كانت تدوم لأحد لما وصلت إلينا اليوم؛ ولذلك قال أحد الوعاظ لأحد الملوك حين جلس في ملكه واستعرض جيشه وإمكانياته المختلفة، قال له: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك! فتذكر مفارقة السابقين لها والحال الذين كانوا فيه، وهذا ما أرشدنا الله إليه في بيان أن السابقين قد عمروها أكثر مما عمرها اللاحقون، فأولئك قد مكن لهم في الأرض ما لم يمكن لنا، ومع ذلك خرجوا منها وتركوها وراء ظهورهم. فلذلك لما خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مكة في حجته، وقف على ضجنان وهو جبل في شمال مكة فقال: كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن قيصر يوم خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا وكما قال الآخر: ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا سوداء حالكة وسحق مهوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا فبينا الإنسان مشتغل بهذه الدنيا يهدبها ويطول أمله فيها، وكلما فتح له منها باب تمنى أن يكون وراءه أبواب، إذا بالموت يهجم عليه فلا يرده حراس ولا أعوان ولا يجد مدافعاً عن الباب كما قال ابن مناذر: كل حي لاق الحمام فمودي ما لحي مأمل من خلود لا تهاب المنون شيئاً ولا تبـ ـقي على والد ولا مولود يرضخ الدهر في شماريخ رضوى ويحط الصخور من هبود ولقد تترك الحوادث والأيا م وهياً في الصخرة الجلمود يفعل الله ما يشاء فيمضي ما لفعل الإله من مردود فكأن أهل الموت ركب محثو ن سراعٌ لمنهل مورود إذا تذكر الإنسان سرعة زوال هذه الدنيا وتقلباتها علم أنها ليست دار بقاء ولا خلود، وأن حال الذي يرجو فيها البقاء ويريد أن لا يناله فيها كدر هو كما قال الشاعر: طبعت على كدر وأنت تريدها خلواً من الأقذار والأكدار وهذا ما لا يمكن أن يتم أبداً. ومكلف الأيام غير طباعها متطلب في الماء جذوة نار

كل ما في هذه الدنيا إلى فناء وزوال

كل ما في هذه الدنيا إلى فناء وزوال فالمؤمن يعلم أن هذه الدنيا ليست دار بقاء، وأن ما فيها كله فان منتقل، وبالتالي لا تكون أكبر همه ولا مبلغ علمه، يعلم أن زخارفها لن يمضي عليها زمن يسير حتى تكون أقذر ما فيها! فإذا رأيت شيئاً يعجبك من الدنيا فتذكر حاله بعد عشرين سنة أو خمسين سنة أو مائة سنة، فإذا كان مبنى جميلاً فإنه بعد مائة سنة لن يستطيع أحد السكنى فيه بل سيبقى للحمام وغيره. إذا رأيت أي شيء يعجبك من أمور هذه الدنيا فاعلم أنه إلى زوال. إذا أعجبتك الدهر حال من امرئ فدعه وواكل أمره واللياليا فلهذا قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132]. وهذا المقوم مقتض للرغبة فيما عند الله والزهادة في هذه الدنيا، فالمؤمن يعلم أنها فتنة، فالأموال والأولاد كثيراً ما تشغل الناس عن طاعة الله وعبادته؛ ولهذا كانت عذر الأعراب حين أمرهم الله بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:11]، وهي الفتنة التي قال الله فيها: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدونه بعدي من زهرة الدنيا فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير والمسكين وابن السبيل) قيمة المؤمن الخلقية في مجال الدنيا هي أن يتذكر قول الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، وكقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45]. إذا أعجب الإنسان بأي شيء مما في هذه الدنيا مما يتنافس الناس عليه من الأموال والأولاد والملك وغير ذلك تذكر أن كل هذا إلى زوال، فالذين ينعمون بهذه الدنيا ويسعدون بما فيها من زخارفها عما قليل سينقلون عنها ويخرجون، وهذا ما نشاهده يومياً، فكم رأينا ممن كان يخدمه الناس وقد أصبح في حفرة لا ندري هل هي روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، قد انتقل من هذه الدنيا وخلفها وراء ظهره كما قال تعالى: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] انتقلوا من هذه الدنيا وخرجوا منها لم يصحبهم منها إلا أكفانهم وأعمالهم، وسكنوا بعد القصور القبور، وقطعوا عن أخبار العالم بعد أن كان كل واحد منهم لا يستطيع الصبر عن وسائل الإعلام ومتابعة القنوات الفضائية، يسهر عليها ليله كله، واليوم قد انقطعت عنهم الأخبار فلا يصل إليهم أي خبر. فلهذا لا يغتر المؤمن بهذه الدنيا، وليعلم أن كل ما فيها مما يتنافس الناس فيه مصيره للزوال. كل شيء مصيره للزوال غير ربي وصالح الأعمال

الزهد في الدنيا لا يقتضي إهمال عمارتها

الزهد في الدنيا لا يقتضي إهمال عمارتها فمن أسس ومقومات شخصية المسلم أن يعرف قيمة هذه الدنيا ولا يزيدها عن حجمها، ومع هذا فما ذكرناه لا يقتضي منه إهمال العمل فيها فهي دار العمل، وهو مسئول عن عمارتها ومستخلف فيها، وقد استعمرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض وجعلنا خلفاء فيها، ومن هنا أوجب علينا الأسباب لكنه بين لنا أن هذه الأسباب لا تقدم ولا تؤخر: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]. فنحن مطالبون بأن نعمل وأن نعمر هذه الدنيا بخير ما استطعنا، لكن نحن مطالبون كذلك بأن لا نغتر بها وأن نعلم أنها ليست دار بقاء، ومن هنا فالتعامل الصحيح مع هذه الدنيا أن يجعلها الإنسان في يده وأن لا يجعلها في قلبه، فإنه إن جعلها في يده كان بالإمكان أن يستفيد منها وأن يتصرف فيها وأن يبعد قذرها عن نفسه، وإن جعلها في قلبه ملكته وكان وعاء لها وخادماً ولم يفته شيء من أقذارها وأكدارها.

المبالغة في جمع الدنيا لا يوصل إلى السعادة

المبالغة في جمع الدنيا لا يوصل إلى السعادة إن الذي حمل الناس على الإيغال والمبالغة في جمع هذه الدنيا هو أنهم يطلبون السعادة بها، والواقع أنهم يعلمون أنها لا تدوم على حال وأنها عرض يزال، ومن هنا فما يطرأ فيها من التغيرات سيصيبهم بالغموم والهموم فتزول السعادة لديهم. وأنا أعرف أحد التجار الكبار أغمي عليه ذات يوم فنقل من مكتبه إلى المستشفى فلما حضر الأطباء أجروا له كل التحليلات اللازمة فلم يجدوا فيه أي مرض، فاكتشف أحد الأطباء أن الذي أصابه هو الجوع، قال: صاحبنا قتله الجوع والعطش، فبحثوا عن سبب ذلك فإذا هو منذ أيام يراقب مؤشر أسعار العملات، فلم يجد وقتاً لشرب ولا لأكل، يأتيه الخادم بكأس الشاي أو بالشرب فيضعه بين يديه وهو مشغول لا يتناوله والهواتف على أذنيه، ومتابع مؤشر العملات بين يديه، فيأتي العامل ويأخذ الكأس ويضع جديداً مكانه، وهكذا حتى يذهب الوقت دون أن يتناول أكلاً ولا شرباً! فقد أصبح خادماً لهذه الدنيا وباذلاً وقته ونفسه لخدمة الدنيا بدل أن كانت تخدمه، فلم يستفد منها شربة ماء حتى أهلكه الجوع والعطش! وأعرف آخر من التجار في هذه البلاد يحدثني عن نفسه فيقول: أنا وفلان من أغنى الناس في هذا المكان، ومع ذلك حرم علينا كل ما في هذه الدنيا من الشهوات، فحرم علينا كل ما فيه حلاوة وكل ما فيه دسم، وكل ما فيه ملح، فلا نتغذى إلا بالعيش والحليب الذي ليس فيه دسم! فكثير من الناس لا يميزون بين جعل الدنيا تحت أيديهم وبين تسخيرها لهم، كثير من الناس يتمنى أن يجعل تحت يديه الملايين أو المليارات لكن لا يعلم أن جعلها تحت يديه لا يقتضي انتفاعه منها، فكم من إنسان جعلت تحت يديه فلم ينتفع منها أصلاً، ولم تسد له أية حاجة، فهذه هي قيمة الدنيا الحقيقية.

من أسس بناء شخصية المسلم أساس العلم

من أسس بناء شخصية المسلم أساس العلم ومن أسس بناء شخصية المسلم: أساس العلم: وهو أساس مهم يميز المسلمين، فالمسلم دائماً يسعى لزيادة العلم، وهو يتذكر أن الله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، ويتذكر أن هذا العلم ميز الله سبحانه وتعالى به شهداءه على الناس وائتمنهم عليه، وبقدر علم الإنسان تتحقق خشيته لله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ويتحقق تلقيه عن الله: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وترتفع منزلته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]. ومن هنا فالمؤمن حريص على ضالته التي يبتغيها في أي مكان، وهي الحكمة، فأنّى وجدها فهو أحق بها، يسعى للازدياد من الكتاب ومن السنة ومن الأحكام الشرعية، ومن كل علم يقربه إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يستنكف عن الازدياد من العلم؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]. والمسلم الذي يفرط في الازدياد من العلم شخصيته ناقصة، وهو مهزوز لا يستطيع الاستقرار ولا الصمود؛ لأنه لم يتخذ من وسائل التحصين ما يكفيه سلاحاً ضد كيد أعدائه وضد شبهات الشيطان التي يلقيها، فهذه لا تزال إلا بالازدياد من العلم، ومن التشريف للمؤمن أن يثبت إيمانه بما يتعلم من القرآن والسنة كما في حديث حذيفة في الصحيحين: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال تعلموا من الكتاب ثم علموا السنة)، فكان هذا سياجاً للأمانة وتثبيتاً لها في القلوب، والذي يحاول أن يزداد كل يوم علماً أياً كان فهو سائر في طريق الجنة (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) والذي يعرض عن ذلك مصيره أن يحشر يوم القيامة أعمى، ويضمن الله له معيشة ضنكاً ونكداً في العيش في هذه الدنيا، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:126 - 127]. كذلك فإن حفاظ المسلم على الازدياد من العلم يقتضي منه حرصاً على أن يكون أحد ثلاثة: إما أن يكون عالماً، وإما أن يكون متعلماً، وإما أن يكون معيناً، ولا يمكن أن يكون الرابع الذي لا له ولا عليه؛ لأن الرابع هو الذي ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالقيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً فقال: (وذلك مثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به)، فلهذا كان من بناء شخصية المسلم أن يكون متعلماً، فهو حريص على الازدياد من العلم بالفكر والمطالعة والسماع والاستفتاء و Q { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:82 - 83]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه في صحيح البخاري: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه أي: خير المسلمين من تعلم القرآن وعلمه، فلهذا كان من أسس بناء شخصية المسلم التعلق بهذا القرآن وقراءته وتدبره، والذي لا يجد ذلك ولا يأنس بكتاب الله، ولا تتعود أصابعه على فتح المصحف، ولا يتعود يومياً على قراءة آيات من كتاب الله ينور بها بصيرته وبصره، فجوفه خال، وهو بمثابة البيت المهجور الذي ليس فيه خير! أما المؤمن الذي يقرأ القرآن ويتدبره سواء كان ذلك شاقاً عليه أو كان سهلاً عليه فهو موعود بالأجر العظيم والذخر الجسيم، الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به ولا يتتعتع فيه وهو عليه غير شاق مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق ممن يؤتى أجره مرتين. فلذلك فإن الذين يعرضون عن هذا التعلم بالكلية ولا يهتمون به، ولا يجعلون جزءاً من أوقاتهم له، لم يتخلقوا بشخصية المسلم في هذا الباب.

من أسس ومقومات شخصية المسلم: المقوم السياسي

من أسس ومقومات شخصية المسلم: المقوم السياسي كذلك من مقومات شخصية المسلم: المقوم السياسي: فمن مقومات شخصيته وأسسها أن موقفه السياسي محدد منطلق من عقيدة راسخة لديه لا يتزحزح عنها، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:21 - 22]، هذا هو المقوم السياسي لشخصية المسلم {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المجادلة:22]. فيعرف المؤمن لمن يكون ولاؤه وعلى من تكون عداوته، ومع من يكون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} [الصف:14]، فلا يلتبس عليه الأمر، ولا تزيغ به الأهواء، ولا يسير وراء كل ناعق ولا يتقلب مع الرياح ولا تذهب به المطامع يميناً وشمالاً، بل موقفه ثابت صامد على وفق ما رضي الله له وعلى وفق ما شرع له.

من أسس ومقومات شخصية المسلم المقوم الاجتماعي

من أسس ومقومات شخصية المسلم المقوم الاجتماعي ثم المقوم الاجتماعي لشخصية المسلم: فمن أسس بناء شخصية المسلم أنه يحب الخير للناس ويحب أن ينفعهم، ويحب أن يكون من أودية الخير، فأهل السخاء هم أودية البشر في الأرض، تمطر السماء مكاناً بعيداً فتنقل تلك الأودية المياه وتسقي بها أماكن أخرى، فكذلك في الناس أهل سخاء يكدون ويجمعون ثم يصل خيرهم إلى من سواهم، ويتعدى نفعهم إلى الأباعد، وهؤلاء هم أودية السخاء في البشر، وهم مفاتيح الخير مغاليق الشر، والله سبحانه وتعالى امتدح الأنصار بهذا السخاء فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. فيسعى المؤمن في هذا المجال أن يكون وسيلة للخير ووسيلة لتخفيف المعاناة عن الناس، ووسيلة لفتح أبواب الخير أياً كانت وإغلاق أبواب الشر، لا يريد أن يستغل في باطل ولا أن يكون سبباً لأذى الناس ومعاناتهم، بل يعلم أن ذلك من أوصاف المنافقين والمرجفين؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]. يريد أن يكون مشعل هداية ونور، وأن يرحم عيال الله، والناس كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، يريد أن يخفف معاناة أقوام وما يلقونه من البأساء ليخفف الله عنه كما قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الإنسان:8 - 11]. هؤلاء يخافون ذلك اليوم؛ فلهذا يعدون العدة من الآن {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:9 - 10].

من أسس ومقومات شخصية المسلم المقوم الثقافي

من أسس ومقومات شخصية المسلم المقوم الثقافي ثم المقوم الثقافي: فإن ثقافة المؤمن متميزة ليست كثقافة من سواه، فأهل الإيمان مصادرهم في التلقي معروفة واضحة، يعلمون أن الحق هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، وأن الوحي كما أنزل وأن الدين كما شرعه الله، وأنه لا يمكن أن يزاد ولا أن ينقص منه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فمرجعهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرجعون إلى الراسخين في العلم فيما اخلتفوا فيه من الحق، ويسألون الله الهداية والتنوير فيما اختلف فيه من الحق بين الناس، ومن هنا فليست ثقافتهم كثقافات الذين يتقيدون بالعصور، ويتقيدون بالحضارات والمدنيات المتباينة المتضاربة، بل ثقافة المؤمن تنطلق من الوحي المنزل الذي يقول الله فيه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]، فيحسمون مأخذهم ومرجعهم ولا يحتاجون إلى التذبذب والسير وراء كل ناعق في مجال الثقافة.

من أسس ومقومات شخصية المسلم المقوم الاقتصادي

من أسس ومقومات شخصية المسلم المقوم الاقتصادي ثم المقوم الاقتصادي في شخصية المسلم: ومبناه على أن المسلم يعلم أن الأرض وما فيها لله وحده، وأن الرزق بيد الله، وأن المال مال الله، وما جعل تحت يده منه فليس له، وإنما هو أمانة عنده يتصرف فيها تصرف الوكيل ينتظر العزل في كل حين، والعزل إما أن يكون بالموت، وإما أن يكون بحجر، وإما أن يكون بالافتقار، وإما أن يكون بالسجن أو غير ذلك، وهذا ما نبه الله عليه بقوله: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فهذا المال ليس لنا وإنما هو لله ونحن مستخلفون فيه مدة محددة لا نعلمها، ولكنها ستنتهي، فتارة يكون الإنسان غنياً وتارة يكون فقيراً، وتارة يتعاقب عليه الأمران، وكثير من الناس من ينظر إلى ذوي العروض فيظنهم أغنياء، والواقع أن كل واحد منهم يعتريه الفقر يومياً؛ لأن الفقر ليس معناه أن لا يكون الإنسان قادراً على الاكتساب، بل المقصود به أن تعرض له حاجة فلا يجد ما يحققها به. فما من غني على وجه الأرض إلا ويعتريه الفقر عدة مرات يومياً، تعرض له كثير من الحوائج ولا يستطيع قضاءها، وهذا هو الفقر بعينه، فما الفرق بينه وبين الفقير في الحوائج الأخرى؟ الجميع فقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، ومن هنا فنظرة المؤمن الاقتصادية أنه لا يحزن إذا حصلت الندرة في المواد، ولا يفرح ويبطر إذا حصل فيها الرخاء والاستمرار، لعلمه أن ذلك متعاقب، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وأن الأمر كله بيد الله، ومن هنا فتصرفه في كل ذلك مضبوط بضوابط الشرع، فإذا حصل تضخم أو انكماش في الاقتصاد لم يقتض ذلك منه عدولاً عن الحق الذي جاءه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقتض ذلك منه ادخاراً لأكثر من حاجته، ولم يقتض منه كنزاً لما لا يزكى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]. هذه مقومات شخصية المسلم، وعلى كل واحد منا أن ينظر إلى تنوعها واتساعها، فيرى شمول هذا الدين واتساعه وتميز أهله في مختلف الجوانب، ويعلم بذلك أن هذا الدين دين الله وليس دين الناس، وأنه هو الكفيل بقضاء حوائج الناس ومصالحهم كلها، ما كان منها دنيوياً وما كان أخروياً، وأنه لا يعتريه النقص وإنما يعتري النقص الناس، فهم الذين يقصرون في التطبيق والأخذ بالدين، أما الدين نفسه فقد أكمله الله (اليوم أكملت لكم دينكم). ومن هنا يتشبث المؤمن بهذه القيم والمبادئ التي تميزه عمن سواه، ويعلم أن شرفه وعزه ومكانته مرتبطة بهذه القيم، وإذا فرط في شيء منها انتقص ما يقابل ذلك، فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين؛ ولذلك لا يمكن أن يبتغي العزة في غير الدين، لعلمه أن عزته مرتبطة بهذه القيم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يهدينا سواء السبيل، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وفيما أنزلت فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

تاريخ الدعوة الإسلامية في موريتانيا

تاريخ الدعوة الإسلامية في موريتانيا انتشر هذا الدين حتى وصل إلى كل أنحاء العالم، وكان الفضل في ذلك -بعد الله- للمجاهدين في سبيله من أهل العلم والفضل والصلاح. وقد فتح الفاتحون بلدان المغرب العربي، ثم تحللت هذه البلدان، وأصبحت دويلات متناحرة يأكل القوي منها الضعيف، فجاء الاستعمار وهي لقمة سائغة فابتلعها.

الله ناصر دينه

الله ناصر دينه بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن هذا الدين دين الله، وليس دين الناس، فالله عز وجل ناصر دينه ومظهره ومعزه، بذل ذليل أو بعز عزيز، ثبت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه كان مرتفقاً في ظل الكعبة، فأتاه خباب بن الأرت رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتفقاً على برده، فرفع يده وجلس وقال: كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه فيقسم نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه، ولا يرده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده! ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولكنكم قوم تستعجلون). إن هذا الدين دين الله عز وجل، وهو ناصره ومؤيده، وهو الذي امتحن عباده بنصرته ونشره، وهو غني عنهم، وسيعزه سواءً تقدموا بحمل مسئوليتهم أو تأخروا وتقاعسوا، فإن الله عز وجل لا يعجزه البدل ولا يعجزه الخلف، وهو القائل في محكم كتابه: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]. وهذه الأمة أمة واحدة كما قال الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، وإن العاملين لدين الله عز وجل الداعين إليه في مختلف العصور سلسلة واحدة؛ ولذلك قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد أبناء علات)، فالأنبياء كلهم على طريق واحد ومنهج واحد، وإنما يختلفون فيما ينزل إليهم من الشرائع والأحكام، لا في أصل التوحيد والعقائد، ولذلك قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. فالدين واحد، والعاملون له في مختلف العصور سلسلة واحدة، والتجربة فيه تجربة واحدة، فهذا الأثر وهذا الطريق هو المسلوك من لدن نوح عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن الناس يتفاوتون في تحمل مسئولياتهم وفي القيام بها، وكذلك بعض البيئات والواقع الذي يعيشه الناس يختلف تارات اختلافاً ليس عائداً إلى نفس المنهج، وإنما هو عائد إلى حياة الناس وما هم فيه. لذلك فكلامنا عن الدعوة إلى الإسلام في بقعة من أرض الله تعالى لا يعني أن ذات هذه البقعة تتميز عن غيرها من بقاع الأرض كلها، بل الأرض كلها لله، وكل من فوقها عباد لله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، فجميعهم سيأتون يوم القيامة فراداً، مقرون بتوحيد الله سبحانه وتعالى، وكلهم مكلفون بما بلغهم من دين الله عز وجل الذي أرسل به الرسل، وأقام به الحجة. وكلامنا عن بقعة معينة من هذه البقاع، وعن رجالها الذين حملوا هذه الأمانة فأدوها؛ إنما هو تثبيت للقائمين على آثارهم، والقائمين على صراط الله تعالى والداعين إليه، وأيضاً إقامة للحجة على ذويهم وأتباعهم وذرياتهم الذين لم يسلكوا مسلكهم، ولم ينهجوا منهجهم، فكلامنا عن الرجال الذين حملوا هذه الأمانة في هذه البلاد إنما هو من باب قول الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78]، فإن الله عز وجل لا يريد ترويجاً لدينه بأن يجعله منسوباً إلى رجل من البشر، فالدين دين الله، وهو الذي اختاره لعباده، ولا يرضيه سواه، ولكنه أراد شحذ الهمم وإثارة العواطف، وجعل إبراهيم أباً لكل المؤمنين: سواءً منهم من كان من ذريته، كذرية إسماعيل وإسحاق، أو من لم يكن كذلك، فكلهم على ملة إبراهيم بالمعنى الديني، فهم ذريته وهو أبوهم، والأبوة هنا أبوة دينية لا أبوة طينية، فإبراهيم أب لكل المؤمنين الموحدين ممن جاء بعده إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ولذلك جعل الله تعالى كل الرسل من بعده من ذريته، فأكثر من بعث من الرسل كانوا من ذرية إبراهيم. وكذلك من باب قول الله تعالى حكاية عن يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم في قوله لصاحبيه في السجن: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} [يوسف:38]، فالملة ما اقتنع بها ديانة وفطرة ووحياً وعقلاً، ولكنه مع ذلك يقول: (مِلَّةَ آبَائِي) ليبين ارتباط هذه الملة بالعاطفة، وأن محبتها راسخة في قلبه؛ فلذلك ذكر أن هذه الملة هي التي سار عليها آباؤه من قبله، فليس بدعاً من الرسل.

أسماء موريتانيا قديما وأصل هذه الكلمة

أسماء موريتانيا قديماً وأصل هذه الكلمة هذه البقعة من الأرض لها أسماء متعددة: فقد اشتهرت في القديم بأرض المرابطين الملثمين، واشتهرت قبل ذلك ببحر الرمال، واشتهرت بعد ذلك ببلاد التكرور، واشتهرت أيضاً بعد هذا ببلاد غانة، واشتهرت في فترة من الفترات ببلاد أوداجست، واشتهرت أيضاً ببلاد مالي، ثم سماها المستعمر بلاد موريتانيا، وهذه كلمة رومانية، وهي مركب إضافي أصلها مورأيتاه، ومعناها: أرض السمر أو أرض المسلمين، وكلمة (المورو) تطلق في اللغات الأوروبية كلها على المسلمين، وهي مشتقة من السحنة العربية؛ لأنهم عرفوا أن العرب هم الذين نقلوا الإسلام إلى بلاد أوروبا، فسموا كل المسلمين بهذا الاسم؛ ولذلك تسمعون الآن (المورو) في أسبانيا، وهم بقايا المسلمين الذين نجوا من محاكمات التفتيش التي كانت تقام عندما خرج المسلمون من بلاد الأندلس، وتسمعون جبهة (المورو) في جنوب الفلبين في مشارق الأرض، وهم المسلمون الموحدون الذين يخلصون العبادة لله تعالى ويجاهدون في سبيله، وكذلك أنتم سموكم بهذه التسمية ولم يريدوا بها إعزازكم، ولكنها وافقت أن هذه التسمية لا تطلق إلا على المسلمين، وأنتم سماكم الله المسلمين على لسان إبراهيم، ثم من بعده سماكم بهذا الاسم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفيكم الاسم الذي سماكم الله تعالى، ولكن هذا من باب التعارف. هذه الرقعة لم تعرف الحضارة قديماً، وإنما كان أهلها بدواً يعيشوا على نتاج حيواناتهم، وبعض الثروات السمكية، وأيضاً على بعض الزراعة القليلة في الجنوب وفي بعض السهول في بعض هذه المناطق. وكانت حدودها ليست الحدود الجغرافية المعروفة الآن في تاريخنا هذا، بل كان يدخل فيها بعض المناطق الأخرى، فمثلاً جنوب الجزائر مثل (توات) وما حولها كان منضماً لهذه الأرض؛ ولذلك لما هاجر سيدي أحمد المغيلي إلى هذه البلاد، جاء من (توات) وذهب إلى (ولاته) وكذلك لما سافر السيوطي من مصر إلى هذه البلاد مر بجنوب الجزائر. وكذلك فإن أرض (جاوا)، وكذلك (أضواد) وما حولها هي من هذه البلاد قديماً، وكذلك مما كان من البلاد جنوب النهر، فهو أيضاً من هذه البلاد، وهذا النهر سماه البرتغاليون: نهر صنهاجة، وصنهاجة قبيلة كانت في هذه الأرض، وسموا النهر بها ثم حرفوها، ففي لغة البرتغال إذا نطقوا صنهاجة يقولون: صنج؛ ولذلك سميت (سنجال) فأصل هذه الكلمة صنج، وصنج معناه: صنهاج، فهي في الأصل منسوبة إلى هذه القبيلة المعروفة التي كانت تسكن هذه الأرض، وتعود إليها قبيلتان: إحداهما: (لمتونة)، والأخرى: (مسوفة) وهما من سكان هذه البلاد، وفيها يقول الداني وهو شاعر أندلسي قديم: قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا

أهم الأحداث التاريخية في موريتانيا

أهم الأحداث التاريخية في موريتانيا هذه البقعة من الأرض لها أسماء متعددة: فقد اشتهرت في القديم بأرض المرابطين الملثمين، واشتهرت قبل ذلك ببحر الرمال، واشتهرت بعد ذلك ببلاد التكرور، واشتهرت أيضاً بعد هذا ببلاد غانة، واشتهرت في فترة من الفترات ببلاد أوداجست، واشتهرت أيضاً ببلاد مالي، ثم سماها المستعمر بلاد موريتانيا، وهذه كلمة رومانية، وهي مركب إضافي أصلها مورأيتاه، ومعناها: أرض السمر أو أرض المسلمين، وكلمة (المورو) تطلق في اللغات الأوروبية كلها على المسلمين، وهي مشتقة من السحنة العربية؛ لأنهم عرفوا أن العرب هم الذين نقلوا الإسلام إلى بلاد أوروبا، فسموا كل المسلمين بهذا الاسم؛ ولذلك تسمعون الآن (المورو) في أسبانيا، وهم بقايا المسلمين الذين نجوا من محاكمات التفتيش التي كانت تقام عندما خرج المسلمون من بلاد الأندلس، وتسمعون جبهة (المورو) في جنوب الفلبين في مشارق الأرض، وهم المسلمون الموحدون الذين يخلصون العبادة لله تعالى ويجاهدون في سبيله، وكذلك أنتم سموكم بهذه التسمية ولم يريدوا بها إعزازكم، ولكنها وافقت أن هذه التسمية لا تطلق إلا على المسلمين، وأنتم سماكم الله المسلمين على لسان إبراهيم، ثم من بعده سماكم بهذا الاسم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفيكم الاسم الذي سماكم الله تعالى، ولكن هذا من باب التعارف. هذه الرقعة لم تعرف الحضارة قديماً، وإنما كان أهلها بدواً يعيشوا على نتاج حيواناتهم، وبعض الثروات السمكية، وأيضاً على بعض الزراعة القليلة في الجنوب وفي بعض السهول في بعض هذه المناطق. وكانت حدودها ليست الحدود الجغرافية المعروفة الآن في تاريخنا هذا، بل كان يدخل فيها بعض المناطق الأخرى، فمثلاً جنوب الجزائر مثل (توات) وما حولها كان منضماً لهذه الأرض؛ ولذلك لما هاجر سيدي أحمد المغيلي إلى هذه البلاد، جاء من (توات) وذهب إلى (ولاته) وكذلك لما سافر السيوطي من مصر إلى هذه البلاد مر بجنوب الجزائر. وكذلك فإن أرض (جاوا)، وكذلك (أضواد) وما حولها هي من هذه البلاد قديماً، وكذلك مما كان من البلاد جنوب النهر، فهو أيضاً من هذه البلاد، وهذا النهر سماه البرتغاليون: نهر صنهاجة، وصنهاجة قبيلة كانت في هذه الأرض، وسموا النهر بها ثم حرفوها، ففي لغة البرتغال إذا نطقوا صنهاجة يقولون: صنج؛ ولذلك سميت (سنجال) فأصل هذه الكلمة صنج، وصنج معناه: صنهاج، فهي في الأصل منسوبة إلى هذه القبيلة المعروفة التي كانت تسكن هذه الأرض، وتعود إليها قبيلتان: إحداهما: (لمتونة)، والأخرى: (مسوفة) وهما من سكان هذه البلاد، وفيها يقول الداني وهو شاعر أندلسي قديم: قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا

محاولات العلماء لإقامة دولة في موريتانيا

محاولات العلماء لإقامة دولة في موريتانيا استثار المامي الناس لبيعة خليفة ولإقامة دعوة للجهاد في سبيل الله، وكذلك الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سديه الذي دعا أيضاً للجهاد في سبيل الله، ورأى أن الدين مهدد من جهتين: إحداهما: البدو الذين يغيرون على الناس ويأخذون أموالهم وما لديهم من الممتلكات. الثانية: جهة النصارى الذين يغزون من الجنوب، ويريدون إعادة الحروب الصليبية التي علا وجهها، وقد قال ذلك في قصيدتيه الرائية والهمزية، يقول في الرائية: حماة الدين إن الدين صار أسيراً للصوص وللنصارى فإن بادرتموه تداركوه وإلا يسبق السيف البدارا وكذلك حبيب الله بن القاضي من قبيلة ديدبا، فقد دعا أيضاً لبيعة خليفة، وجمع العلماء للمشورة فيه، فاختلف علماء ديدبا على قولين: القول الأول: ينبغي أن نقيم نحن إماماً وأميراً، فإذا اتفقت كلمة المسلمين بايعوه أو بايعوا غيره. القول الثاني: قال: لا يحق لنا أن ننصب إماماً وحدنا، وإنما ننتظر بعد إشاعة هذه الدعوة بين الناس حتى يتفقوا عليها أو يرفضوها. ولما أرادوا أن يتخلصوا حينئذ من إقامة الحجة عليهم، قالوا: نبايع أحدكم، فلم يترشح أحد من العلماء، لذلك لم تصل الإمرة لأحد، فبقيت المسألة دون أن يكون لها أثر. ثم دعا سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم بعد هذا لإقامة دولة، وكان يرى من نفسه أنه يستحق إقامة بعض الحدود وإقامة الجمعة للناس، وإنه إنما نال ذلك بتفويض -على الأقل- من عبد الرحمن بن هشام في المغرب، وكان إذاك أمير دولة آل ملا إسماعيل، فأقام سيدي عبد الله جمعة في تجبجة، وأقام فيها بعض الحدود، وأرسل بعض تلامذته لذلك. وكذلك قام في مختلف هذه البلاد بعض الدعاة الذين رجعوا من بلدان أخرى خارج هذه الأرض، فرأوا ما ينعم به أهل تلك البلاد من الانتساب إلى الخلافة العثمانية، فدعوا لربط الصلة بالخلافة العثمانية الموجودة في الأستانة في استانبول، فخرج وفد منهم لذلك، وما زالت ذراريهم إلى اليوم في استانبول، وأنا قد لقيت شيخاً منهم كبير السن كان جده من الذين وفدوا من هذه البلاد على السلطان عبد الحميد وبايعوه بالخلافة، وهو رجل من البصابيين، ما زال حياً اليوم في استانبول، وما زالت له زاوية، وما زال له أتباع في تلك البلاد، وقد خرج بفريق كامل لنصرة الخلافة عندما تداعت عليها الدول الصليبية ودول المحور، فأرادوا إسقاط الخلافة العثمانية فذهب هو لإقامة الحجة. ومن هؤلاء أيضاً محمد محمود من تلاميذ الشركصي الذي ذهب أيضاً إلى الخلافة في الأستانة، وأرسله الخليفة في ذلك الوقت إلى النرويج سفيراً عن المسلمين كلهم للمفاوضة مع ملك النرويج في تسيير قافلة بحرية من الأسطول الإسلامي الذي كان محاصراً في بحر الشمال المتجمد. وكذلك أحمد الأمين العلوي صاحب الوسيط، فقد كان يصبو للرجوع إلى هذه البلاد، لعل أهلها يعودون إلى بيعة أمير منهم يقف في وجه المستعمر الغاشم الذي بدأ يغزو البلاد، وقد تشبث بعض علماء هذه البلاد ببعض أمراء القبائل الذين كانوا أهل ديانة وعفة، فأرادوا أن ينصبوهم خلفاء؛ فلذلك اجتمعت كلمة بعض علماء (إيجيدي) على أن ينصبوا محمد أميراً لهذه المنطقة على الأقل، فنصب قاضياً منهم، وكان يقيم الحدود في وقته، فقد أقام حد القصاص على خمسة أشخاص، ولم يكن لديه آلة للقتل غير سكين يذبح به، وكان يقطع الأيدي، ويجلد الحد.

استعمار فرنسا لموريتانيا وقيام المجاهدين في وجههم

استعمار فرنسا لموريتانيا وقيام المجاهدين في وجههم ومع هذا فإن هذه الدعوات المختلفة لم تشهد وقتاً كانت آكد فيه من وقت مجيء المستعمر الكافر، عندما جاءت فرنسا بأساطيلها تجوب الأرض لاستعمارها، في وقت وصفها عبد الله الأسيطي، في مقدمة كتابه بقوله: وجنادع الروم تجوس وراءنا الأغفال وروعاتها تبين الحواصل الأحبال وهذا وصف دقيق لجيوش الروم في بداية غزوها لهذه البلاد، وإقامتها لمؤسساتها، واستعمارها لهذه الأرض، فلما جاء المستعمر أراد أولاً أن يتصل بأمراء القبائل، فدعوا بعض الأمراء ومنهم: أحمد سالم اللألي وغيره، فقالوا: نحن نريد أن تتفقوا معنا على الحماية، وعلى أن تكونوا خاضعين للدولة الفرنسية، ونحن نقيم بينكم العدل، ونحمي لكم دينكم، ونمنع أيّ فساد يقع، فقال: إني لا أجرؤ على هذا، أخاف أن يكفرني أهل الزوايا، فقالوا: ومن يجرؤ عليه؟ قال: لا يجرؤ عليه إلا رجلان لا يستطيع أهل الزوايا تكفيرهم، فأشار عليهم بالشيخ بابا بن الشيخ سديه والشيخ سعدبوه بن الشيخ محمد فاضل بن الشيخ بن مامي. فالتقى المستعمر بهذين الإمامين، فكان رأيهما قد اتفق على أن أي إصلاح يراد في هذه الأرض لا يمكن أن يتم تحت تلك الظروف والوضعية التي تشهد فيها القبائل إغارات بعضها على بعض، والظلم سافر بين الناس، وأيضاً قد تخلص الناس فيها من كل وسائل النظام، فلم يعد هناك رمز للنظام يمكن الالتفاف حوله، وكان الشيخ بابا بن الشيخ سديا من قبل هذا يسعى لأجل لم شتات الناس وإقامة دولة، ولكنه لم يستطع لكثرة الحروب الأهلية، وكثرة الإغارات بين الناس، فاجتهد هذان الرجلان اجتهاداً قد يكون مصيباً وقد يكون خاطئاً، وقد يكون وسطاً له حظ من الصواب وله حظ من الخطأ، فاتفقا على أن يأذنا للمستعمر في دخول هذه البلاد، وشرطا عليه اثني عشر شرطاً، واتفقا عليها. وكان جمهور العلماء مخالفين لهذين الرجلين، وأعلنوا الجهاد حتى من غير إمام، ومن غير أمير، ومن غير خليفة، فجاهدوا النصارى جهاداً مستميتاً، وسعوا في حث الناس على الهجرة، وكان اختلافهم في ذلك خلافاً فقهياً مبنياً على القواعد، فـ الشيخ بابا بن الشيخ سديه وكذلك الشيخ سعدبوه يريان أن ارتكاب أخف الضررين والحرامين أولى، وأن التغيير والإصلاح الذي يريدانه لا يمكن أن يتم تحت الظروف الحالية، والمستعمر لا طاقة لهم بقتاله وهم فيما بينهم متناحرون، وأنه إذا أقام لهم الهياكل استطاعوا أن يطردوه عن طريق السياسة والرأي، وذلك أن هذين الرجلين كانا قد اطلعا على أخبار الدول الأخرى، وكانت تصل إليهم الجرائد فيطلعان على أوضاع الناس، وعلى تشوف بعض الدول للحرية في ذلك الوقت، ورأيا أن المستعمر ليس له مستقبل مستمر في استعمار البلاد والبقاء فيها، أما غيرهما من العلماء فقد رأوا أن هذا المستعمر الكافر يجب جهاده بكل ما يملكه أهل هذه البلاد من قوة، وأنه لا يمكن أن يصمد أمام قوة لا إله إلا الله، محمد رسول الله. ودعا إلى الجهاد الشيخ وكذلك الشيخ محمد العاقب بن معيابا، وقام الجهاد في سبيل الله تعالى، وكانت عدتهم بسيطة جداً، وكان عدد أهله قليلاً جداً، ومع هذا وقف في وجه المستعمر وقفات عجيبة! وأنال الله تعالى به -الذين سعوا إليه- عزاً عجيباً! وهذا يدلنا على أن الرأي والصواب كان مع هؤلاء، ولذلك فإن محمد العاقب بن معيابا لما أرسل أرجوزته لأهل البلاد التي خضعت للمستعمر، أوجب فيها عليهم أحد أمرين: قال: أنتم بين قوي وضعيف، فالضعيف تجب عليه الهجرة، والقوي يجب عليه الجهاد، ولا عذر لكم في غير هذين الأمرين، وهي التي يقول في مقدمتها: مني إلى من في حمى المكبل والمكبل: يقصد به في ذلك الوقت كابولاني، وهو القائد النصراني في ذلك الوقت، يقول: مني إلى من في حمى المكبل من لما وراء العقل وأعيذكم بالله من فضيحة الدنيا ومن رأيكم المفيل إلى أن يقول في وصف النصارى: خيبتهم لخوبا والكبت لكابتين والتكبيل للمكبل ودعاهم في القصيدة للجهاد في سبيل الله، فقاموا بغارات شهدت توفيقاً عجيباً! وانتصروا فيها وغنموا، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي أخرجه أبو داود وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك والبيهقي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، والمقصود بدينكم هنا: الذي يطلب منكم الرجوع إليه وهو الجهاد في سبيل الله، انظروا إلى قوله: (وتركتم الجهاد) هذا هو الدين المتروك، (سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) معناه: حتى ترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله. والجهاد وحده هو الذي تكفل الله تعالى لمن قام به بالهداية في آيتين من كتابه، فالله تعالى يقول في خواتيم سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، ويقول في سورة محمد: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6]. فهذا ضمان من رب العزة والجلال القادر المقتدر على نصرة من جاهد في سبيله، وعلى هدايته إلى سواء الطريق.

بعض الدعوات الفردية التي قام بها بعض العلماء

بعض الدعوات الفردية التي قام بها بعض العلماء بعد هاتين التجربتين جاءت تجارب متفاوتة، وجاءت دعوات فردية، قام بها بعض العلماء في فترات وحقب تاريخية متفاوتة، دعوا لإعادة هذه الخلافة وهذه الدولة على ما كانت عليه، فمن هؤلاء مثلاً: مختار الكنسي، الذي دعا لإقامة خلافة راشدة، ولكن الوقت لم يساعده في بلده، مع أنه كان يرى من نفسه القوة على ذلك، وكان يساعد المظلومين بتسيير الجيوش لنصرتهم، ولكنه على الأقل استطاع أن يقيم دولة خارج الحدود، وهي دولة عثمان فوجي التي قامت في نيجيريا، فـ عثمان فوجي هذا كان من تلامذة المختار الكنسي، وهو الذي بعثه ليقيم دولة الإسلام في تلك البلاد، فأقامها وما زالت آثارها إلى وقتنا هذا، وكانت تطبق الحدود، وتغزو في سبيل الله وتجاهد، وفيها تعلم الحاج عمر طال الذي جاء إلى هذه البلاد، وحاول إقامة دولة إسلامية. وكذلك الأمير عبد القادر الفوتي، وهو من قبيلة الهلان، قام في فوتا، فدعا لإقامة دولة الإسلام من جديد، وساعده رجال متفاوتون، واستجلب العلماء من مختلف المناطق، فلما أتى إليه بعض أهل العلم أقام الحجة على أهل تلك البلاد، وجاهد في سبيل الله تعالى، وطبق الحدود؛ ولذلك يقول الشيخ محمد المامي رحمه الله تعالى: لله در الأمير عبد القادر! فلقد شهدته ضحوة في فوتا يقطع أيدي السراق، ويقيم الحدود على الزناة. فالأمير عبد القادر أقام دولة لم يكتب لها البقاء كثيراً، ولكنها هي التي بنى على أنقاضها الحاج عمر طال، فـ الحاج عمر جاء من نيجيريا، وقد فرأى الدولة التي أقامها أحفاد عثمان فوجي هناك، فأراد أن ينقل التجربة بكل ما فيها، فسعى من أجل إقامة دولة الإسلام في هذه البلاد، فأرسل جيشاً كثيفاً من تلامذته ومريديه وطلابه إلى جنوب النهر، فدعا بدعاية الإسلام في السنغال وفي غامبيا، حتى وصل هو نفسه إلى (بانجول)، وكان يقيم الحدود أيضاً ما استطاع، وكان يعلم الناس الإسلام، وكان يأخذ أولادهم، ويعطيهم بدل أولادهم نقوداً؛ لأن الناس كانوا قد تعودوا على المادية، فكانوا يبيعون أولادهم للحاج عمر، وهو لا يريد تملكهم، وإنما يريد تعليمهم دين الله تعالى، فإذا تعلموا أرجعهم إلى ذويهم وقال: أنت من قرية كذا فاذهب إلى قريتك، وأنت من قصر كذا فاذهب إلى قصرك، بعد أن تحملوا العلم والدين وتربوا تربية صالحة. وكذلك دعا إلى هذه الدعوة الشيخ محمد المامي في الشمال، وحاول إرجاع الناس إلى إقامة هذه الدولة الراشدة، وإحياء عهد قد سبق في زمن الاستضعاف، وهو العهد الذي قام به الخمسة الذين يسميهم الناس بتشمشة، وهم خمسة رجال، لا يجمعهم نسب، وإنما اجتمعوا في ذات الله، فتعاهدوا على خواتيم سورة الفرقان من قول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63 - 64] إلى آخر الآيات، ودعوتهم ليست مثل الدعوات الأخرى؛ لأنهم لم يريدوا إقامة دولة ولم يحاولوا بيعة رجل، إلا أنهم حاولوا فيما بينهم أن يقيموا بعض هياكل الدولة وبناها التحتية على الأقل، فلذلك قسموا الأرض تقسيماً عادلاً بينهم، ويقول في ذلك الشيخ محمد المامي: تيامن من تضاعف وانفردنا بثغر لا يقال به منوناً وأقاموا قاضياً منهم يفصل بين الناس بالعدل، فأقاموا على الأقل بعض البنى، والشيخ محمد المامي أراد أن يدعو الناس إلى بيعة خليفة، وفي ذلك يقول في قصيدته النونية المشهورة: بلاد العامري لنا اصطفاها فبارك ربه فيها وفينا إلى أن يقول فيها: فصارت في جزيرتها حجازاً ونحن لها معداً آخرينا نوافي كل طاغية أتانا ومسكين بعيد الأقربينا وننبذ من أتى منا بأمر له أهل الشريعة منكرونا والأفوة قبل لم ينكر عليه مصير بلادنا حرماً أميناً إلى أن قال فيها: إلى كم قولكم مستضعفون وأنتم للمعالي تاركونا بنو العباس ما زالوا كراماً يقتل جمعهم ويصلبونا إلى أن أدركوا ثأراً لقرن وما أدركتم ثأراً قرونا إلى أن يقول: أطابيل الأنام جفوتموها بطبع في الخنازر لن يزينا وهل فيكم نساء محصنات وما كنتم لها يوماً حصونا وهل حضيت نساء تحت بعل إذا كان الرجال مخنثينا ويقول فيها: فلم يكتب عليكم من قتال ولا قتل على ما تزعمونا إلى أن يقول: أثيروا الغرب قبل قيام عيسى لعل الله ينعشه سنينا فيحكم حاكم بالعدل منكم فلستم بعده تتقاتلونا وينفي ظلم بعضكم لبعض إلى أن يقول فيها: فقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبونا وقلتم لا إمام بلا جهاد يعززه فهلا تضربونا إذا جاء الدليل وفيه دور كفى ردعاً لقوم يعقلونا فياشمشة أهل الذكر منكم سلوا إن كنتم لا تعلمونا تعين ذاك وليسأل سواكم سواهم من يجيب السائلينا كحرمة أو كباب بني علي فإني منهما في الداخلينا وآل الحاج أنصار كرام إلى أولاده جبنة ينسبونا

ناصر الدين وسياسته المحنكة

ناصر الدين وسياسته المحنكة الدعوة إلى الله تعالى استمرت في هذه البلاد، ثم جاءت الهجرات من قبل الأندلس عند سقوطها، ومن جهة القيروان وشرق الجزائر من قسنطينة من بني هلال وغيرهم، فلما جاء هؤلاء العرب النازحون من الأندلس ومن القيروان ومن قسنطينة ومن صعيد مصر، جاء معهم بعض العلماء الأفذاذ، وبدأت الحياة العلمية والدعوية تحيا وتنشط من جديد، ولذلك حاول أهل هذه البلاد أن يعيدوا الدعوة إلى ما كانت عليه في زمن المرابطين، فاجتمع رأي أهل الرأي منهم والعلم أن يبايعوا رجلاً منهم يتفقون عليه جميعاً على إقامة دين الله تعالى وحماية البيضة، فاتفقت كلمتهم على ناصر الدين بن أبي بكر وبايعوه على الخلافة، وقام بالأمر، وساعده رجال من مختلف الطبقات من هذا المجتمع، فكان العرب الوافدون وسكان البلاد من مختلف الفئات من الزنوج ومن البربر ومن العرب ومن الزوايا كلهم اندمجوا في هذه الدولة، وجاهدوا في سبيل الله تعالى، وأعلوا كلمته، وسعوا في ذلك، حتى إن هذه الدولة كان من سياستها أنها توسعت في بعض البلدان الأفريقية التي لم يصل إليها مد المرابطين من قبل، ففتحوا كثيراً من المدن والقرى في ما وراء نهر صنهاجة، وكذلك في جهة جنوب مالي وجهة غانا وجهة النيجر. وكان من سياسة ناصر الدين أن كل بلد فتحوه ينصبوا عليه قائداً من أهله؛ لئلا تقع فيه ثورة، فكان لا ينصب قائداً على بلد مفتوح إلا من أهل ذلك البلد، وأخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فإنه ولى عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس وهو من أهل مكة، ولم يؤمر عليها أحداً من المهاجرين ولا من الأنصار، وكان عتاب وقت تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم له في العشرين من عمره. وكذلك حين فتح الله عليه الطائف أمر عليها عثمان بن أبي العاصي، وهو من بني ثقيف من أهل الطائف. وكذلك أرسل الضحاك بن سفيان أميراً على البحرين، وهو من بني كلاب، فأمره على بني كلاب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يؤمر على كل جهة رجلاً من أهلها. وهذه السياسة التي انتهجها ناصر الدين كان لها أثر فيما بعد، وذلك أن هذه الدولة لما سقطت بالحرب الأهلية التي تسمى بحرب (شرببا) كان من الآثار المتوقعة أن البلدان المفتوحة ستتساقط وتعود إلى ما كانت عليه من الكفر قبل فتحها، ولكن الله تعالى عصمها من الردة؛ بسبب تأمير أمراء عليها من بني جلدتهم، ويتكلمون بألسنتهم، ومن عشيرتهم. أقام ناصر الدين هذه الدولة، وتبعه رجال ساعدوه وقاموا بهذا الأمر أحسن قيام، فأغاض ذلك النصارى من البرتغاليين والأسبان والفرنسيين، فأردوا تشقيق هذه الدولة من الداخل، فأثاروا النعرات العرقية والقبلية بين الناس، فاستجاب لها بعض الأفراد، فكان ذلك سبباً لهذه الحرب التي دامت خمساً وثلاثين سنة، وهي حرب (شرببا)، وفسرت تفسيرات مختلفة، وسميت بتسميات مختلفة، وكثير من الناس يسميها شرببا، ويزعمون أن شر معناها: الحرب وببا: اسم رجل، ولكن هذا غير واقع، فمعنى (شرببا): فتيلة مشتعلة، وذلك أنها فتنة وقعت بين المسلمين أنفسهم في عقر دارهم، ولم يعهدوا هذا من قبل، وإنما كانت الحروب بينهم وبين الكفار، فلذلك جعلوها مثل الفتيلة المشتعلة داخل الصف. دامت هذه الحرب فترة من الزمن؛ قضت على ما كان من هذه الدولة من هياكل داخلية، ومع ذلك لم تكن شراً كلها، بل أثارت بادرة خير، واستطاع المسلمون فيها أن يحافظوا على كيانهم، وأن يحافظوا على ما معهم من العلم والدين، وبقيت كل فئة من هذا الشعب تحافظ على ما حملت من دين الله تعالى، وتسعى لحفظه، مع أن بعض الآثار السيئة المترتبة على هذه الحرب قد استمرت زمناً طويلاً، حتى إننا ما زلنا في عصرنا هذا نشهد بعض آثارها من الذلة والمسكنة في بعض طبقات الشعب. وإذا قرأت تاريخهم في تلك الأيام ستجد أنه قد اندمج فيها كل فئات الشعب، وأن كل الناس قد ساروا في ركب الدعوة وفي سبيلها، وجاهدوا جميعاً فيها، ولذلك لم يكن قبل حرب (شرببا) في هذه البلاد طبقات اجتماعية، وإنما كان الناس كلهم مجاهدين في سبيل الله، ساعين لإقامة دين الله، حتى جاءت هذه الحرب فحصل ما رأيتموه وما شهدتموه من التفرقة العنصرية. إن هاتين الدعوتين اللتين قام بالأولى منهما: عبد الله بن ياسين، وقام بالثانية: ناصر الدين، كانتا مثالاً للحركة الإسلامية المعاصرة، التي تقوم لله تعالى بالحجة على عباده، وتسعى لإقامة الحجة على الناس، ولإعادة الناس إلى المحجة البيضاء، ولإقامة الخلافة في هذه الأرض، ولذلك فإنهما قد قامتا بهذا العمل أحسن قيام، ووفقتا في أداء هذه المهمة على أحسن وجه.

فتح بلاد صنهاجة وما حولها

فتح بلاد صنهاجة وما حولها صنهاجة قرية أصلها من اليمن، وهي معروفة إلى وقتنا هذا، وربما تكون النسبة إليها؛ لأن هؤلاء من النازحين المنطلقين من تلك البلاد، وكانت هذه البلاد سائبة، وأهلها همجاً حتى دخلها الفاتحون الأولون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان، وكان ذلك أواخر خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان القائد الذي افتتحها هو عقبة بن نافع الفهري من بني الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقد فتح هذه البلاد ولم يتوسع في فتحها إلى الجنوب، وإنما فتحها شريطاً حتى وصل إلى المحيط فغرز رمحه فيه، وكان المحيط في ذلك الوقت يسمى بحر الظلمات، وهو المسمى اليوم بالمحيط الأطلنطي، فلما غرز فيه رمحه أشهد الله تعالى أنه لو كان يعلم أن خلف هذا البحر ذا نفس منفوسة لقطع البحر إليه حتى يبلغه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم. فـ عقبة لو كان يعلم أن خلف هذا البحر أمريكا والعالم الجديد -كما يسمونها- لخاض البحر إليها حتى يفتحها، وحتى يبلغها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أحفاده فحملوا هذه الرسالة، ولذلك تسمع اليوم في العالم الجديد -أمريكا- الأذان مدوياً في الأوقات الخمسة. وقد رجع عقبة من هذه البلاد ولم يدوخها تمام التدويخ؛ لأن أهلها كانوا بداة يصعب دخولهم تحت يد الحضارة والإمارة، ولما رجع غدر به كسيلة البربري فقتله فلقي الله شهيداً، نسأل الله تعالى أن يتقبله، وأن يتقبل أصحابه الذين قتلوا معه. ثم استمرت العلاقة الإدارية في هذا البلد تابعة للخلافة عن طريق الإمارة التي كانت في بداية أمرها في القيروان في تونس، ومنها انطلقت الفتوحات التي فتحت أيضاً أرض الشمال كالمغرب، ثم توسعت إلى الأندلس وقاد حملتها موسى بن نصير، وهو مولى سليمان بن عبد الملك، ثم تابع الحملات طارق بن زياد حتى فتح الأندلس. وبقيت هذه البلاد تنتسب إلى الإسلام، ويتسمى أهلها بأسمائه محرفة على اللغة البربرية، فمثلاً كانوا يسمون محمداً (مهمد)، ويسمون أحمد (همد)، ويسمونه أيضاً: (هند) في بعض البلدان، وكل هذا من التحريف البربري في الأعلام. واستمرت الحالة هكذا إلى أن خرج أحد أمراء هذه البلاد وهو يحيى بن إبراهيم القدالي من قبيلة (قدالة)، وهي بطن من بطون (مسوفة) التي هي من قبائل (صنهاجة). فرحل إلى المشرق طالباً الزيادة في الدين والحج، فلما رجع من الحج وصل إلى القيروان -وكانت أكبر حواضر المغرب في ذلك الوقت- فلقي أبا عمران الفاسي وكان من علماء المالكية الكبار، فسأله أن يرسل معه من خيرة طلابه لينشر العلم والدين في هذه البلاد، فرأى أبو عمران أن الذين عنده لا يصلحون للبادية وأهلها، فهم من أهل الحاضرة ومن أهل القيروان المتعودين على حياة الرفاهية وسعة العيش، فكتب له كتاباً إلى تلميذه وجاج بن زلو وهو من المغاربة، وطلب منه أن يرسل معه من خيرة طلابه من ينشر العلم والدين في هذه البلاد، فلما جاء الكتاب إلى وجاج اختار من بين طلابه عبد الله بن ياسين السجلماسي، وهذا الرجل في الأصل من (جزولة)؛ ولذلك تجدون نسبته عبد الله بن ياسين الجزولي في بعض الكتب، وكان حاد الذكاء، مفرطاً في الفهم، وكان عالماً عملاقاً، ومع ذلك كان أيضاً صاحب سياسة وتدبير، فاختاره وجاج لتحمل هذه المسئولية، فكان عند حسن ظنه، فلما جاء إلى هذه البلاد ورأى حال أهلها، علم أن الدعوة الفردية لا يمكن أن تؤثر فيهم.

أمير المسلمين يوسف بن تاشفين

أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ثم قتل يحيى بن عمر اللمتوني شهيداً في سبيل الله، فبايع عبد الله بن ياسين أخاه أبا بكر بن عمر الذي يشتهر بين العوام اليوم بـ ابن عامر، وهو أبو بكر بن عمر، فبايعه عبد الله بن ياسين والمرابطون معه، واضطلع بما كان يضطلع به أخوه من قبله، فقام بالأمر خير قيام، ولكنه فوجئ بظهور رجل في المغرب في وادي مراكش يدعي النبوة، فأرسل إليه جيشاً من المرابطين، وكان قائد هذا الجيش يوسف بن تاشفين، فلما وصل يوسف إلى تلك البلاد، رأى البون الشاسع بين ما يعيشه أهلها وبين ما يعيشه المرابطون الذين تربوا على ذلك المنهج، فأراد أن يقيم فيهم دولة الإسلام من جديد، فلما قتل هذا المتنبئ الذي ادعى النبوة، وقتل أصحابه ومزقهم شر ممزق؛ بنى مدينة مراكش، وجعلها عاصمة لدولة الإسلام في تلك البلاد. ثم سير الجيوش والبعوث حتى خضع له أهل تلك الأرض كلها، وسمى نفسه أمير المسلمين؛ تأدباً مع الخلافة العباسية في المشرق التي كان الخليفة فيها يسمى أمير المؤمنين، فلم يرد يوسف أن يأخذ هذا اللقب، بل تسمى بأمير المسلمين، ولا يعرف في تاريخنا الإسلامي رجل تلقب أمير المسلمين إلا يوسف بن تاشفين وابنه علي، أما من سواهما فإنما يتلقب بلقب الخلافة: أمير المؤمنين، وهو لقب عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء. ولما قويت شوكته وتغلب على المغرب، رأى أن الرجوع إلى هذه البلاد من الصعوبة بمكان، وأن حياة الناس متفاوتة بين الحضارة في الشمال والبداوة في الجنوب، فأرسل الرسل إلى ابن عمه أبي بكر بن عمر ليتقابل معه، فالتقيا، فنصبه على ما تحت يده من الأرض، ورجع أبو بكر إلى هذه البلاد، وقد أتحفه يوسف بالمال والرجال، وساعده بما يريد من المساعدات. ثم وسع يوسف نفوذه حين استنجده أهل الأندلس من المسلمين المستضعفين، وإنما وقع استضعافهم بعد تخالفهم وتقاتلهم وتناحرهم فيما بينهم، فقطع إليه المعتمد بن عباد المنذري اللخمي البحر مستنجداً به، فخرج يوسف في ثلاثين ألف رجل مسلح من المؤمنين المجاهدين، فقطعوا البحر وجاهدوا الأسبان في شهر رمضان، وكان التقاء الصفين في يوم الجمعة، وكان يوسف يخطب في أسفاره كما يخطب في إقامته؛ لأنه يرى نفسه خليفة إماماً، فهو في كل بلد الإمام، فوقف على المنبر خطيباً يوم الجمعة في رمضان، فثارت في وجهه خيل الأسبان؛ فنزل من المنبر، واخترط سيفه، وأمر المجاهدين بالقتال فقال: يا خيل الله! اركبي، وبدأت المعركة، وكان بين يدي يوسف المعتمد بن عباد، وتناثر القطن من فوق رأسه عندما لعبت السيوف في طاقيته على رأسه، ولم تزل الدماء تسيل حتى انهزم الأسبان بعون الله، وكان ذلك اليوم مشهوداً، وهو يوم (الزلاقة) الذي نصر الله فيه المؤمنين وأعز فيه دينه وجنده. وقد قتل في ذلك اليوم مائة وعشرون ألفاً من الأسبان الصليبيين، وكان المسلمون يعرفون الأسبان بتعليق الصلبان في رقابهم، فاستحر فيهم القتل حتى لم ينج منهم إلا فئة يسيرة هربت مع الأدفنش، وهو ملك الأسبان في ذلك الوقت. ثم أراد يوسف أن يضم الأندلس إلى المغرب حتى يوحد دولته؛ لأنه رأى أن الحضارة متناسبة، فضم الولايات الأندلسية وأخضعها لسلطانه، ومن ذلك الوقت هابه المستعمر الكافر الصليبي، ولم يستطع الجرأة على ما كان يغير عليه من كور الإسلام وثغوره. ثم مات يوسف بن تاشفين بعد أن مكث سبعين سنة يدعى أمير المسلمين، وتولى بعده ابنه علي، واستمر على نهج أبيه حتى توفي سنة خمسمائة وأربعة عشر. وبقيت الولاية الجنوبية وهي إمارة أبي بكر وأبنائه في هذه البلاد، حتى سرى إليها داء الدول، وحصل فيها خلاف؛ فسقطت، ثم قامت على أنقاضها دولة (البدوكل) التي قامت في شمال هذه البلاد، وإن كانت لم تصل إلى مستوى دولة المرابطين من ناحية القوة والانتشار، وهي التي تربى فيها سيدي محمد الذي نشأ في هذه القبيلة، وتربى في هذه الدولة. ثم جددوا دعوة الإسلام في هذه البلاد، وأقاموا علمه بارزاً، ولكنهم لم يستطيعوا زيادة الفتوح، ولم يستطيعوا أن يتجاوزوا ما وصل إليه المرابطون الأولون. وهنا تأتي حقبة في التاريخ لا نعرف كثيراً من أبعادها، ولكننا موقنون أن الدعوة قائمة، وأن المجاهدين فيها كانوا يضحون بما كان يضحي به أسلافهم في سبيل الله، ولكننا لا نجد كثيراً من المعلومات عنها.

عبد الله بن ياسين وما قام به من تربية وجهاد عظيمين

عبد الله بن ياسين وما قام به من تربية وجهاد عظيمين هذا الرجل رأى أن الدعوة الفردية والاتصال بالأشخاص مباشرة ليس ذا أثر بالغ يمكن أن يقيم دولة في هذه الأرض، فأراد عبد الله بن ياسين أن يخرج نخبة من هذا المجتمع يربيها تربية خاصة حتى تستطيع تحمل هذه الرسالة، وحتى تستطيع تحمل أعبائها، فانفرد بهم في جزيرة (تيدرا) -وهي القريبة من نواكشوط- ثلاث سنين يربيهم، حتى وصلت أعدادهم إلى ثلاثة آلاف، وكان يأخذهم بالشدة والقسوة، وكان من سياسته أنه يضرب من تخلف عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تخلف عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تخلف عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تخلف عن الصلاة الرباعية كلها جلده أربعين سوطاً، حتى إنه كان يجلد أمراء القبائل ورؤساءها إذا تخلفوا عن بعض الصلاة أو قصروا في بعض العبادات، وهكذا أخذهم بالشدة والقسوة حتى أخرج منهم جيلاً صالحاً لتحمل هذه المسئولية وللتضحية في سبيل الله. فلما بلغوا ثلاثة آلاف مجند، من الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، وتربوا تربية صالحة، والتزموا بهذا الدين ظاهراً وباطناً، وخضعت رقابهم له، وجعلوه فوق أهوائهم وفوق انتماءاتهم، وجعلوا هذا الدين هو مصيرهم، وهو الذي يرتبط به مستقبلهم، وربطوا به آمالهم وآلامهم؛ علم أنهم أهل لأن ينصرهم الله، فالنصر جائزة الله، ولا يمكن أن تعطى إلا لمن يستحقها؛ لذلك لم يغتر ابن ياسين بكثرة الأتباع والأشياع، ولم ينظر إليهم في بادئ الرأي وبادئ الأمر على أنهم رجال أقوياء وأهل حرب وقوة، وإنما نظر إلى أن القلوب هي محط التكليف، فبدأ أولاً بتربية النفوس وتكوينها، حتى إذا علم أنهم قد استووا إلى هذا المستوى خرج بهم على المجتمع، فلما رآهم الناس أيقنوا فيهم هدي الأنبياء وسلوكهم. فهؤلاء قد تربوا على منهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا من ورثة الأنبياء حقاً؛ لذلك استجاب لهم الناس، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ورضوا بما رضي به المرابطون، وأقاموا الأربطة في كل مكان، وسعوا لأجل إعزاز هذا الدين ونشره ونصره، فبعثوا القوافل، وجيشوا الجيوش، وأرسلوا السرايا والبعوث، فنشروا هذا الدين حتى دخل أهل كل هذه البلاد في الدين، وحتى فهموه واستجابوا لدعوته وقاموا بواجبه، حينئذ رأى عبد الله بن ياسين أن المراحل التي يمكن أن تمر بها هذه الدعوة خمس مراحل في البداية: المرحلة الأولى: هي تكوين جماعة مقتنعة بهذا المنهج الصحيح، ملتزمة به، تجعله أمامها، وتسعى من أجل الجهاد بالأنفس والأموال والألسنة دونه، وهذه المرحلة الأولى تحققت في جزيرة (تيدرا). المرحلة الثانية: تكوين دولة تستطيع حماية البيضة، ورفع لواء الإسلام عالياً مدوياً مرفرفاً فوق بلاد الله تعالى، فأقام الدولة، وبايع أميراً، ولم يشأ أن ينصب نفسه خليفة؛ ليتغلب على حظوظ النفس، ولأجل ألا يكون هو صاحب كل المسئوليات، فتقاسم المسئوليات هدف رائع من الأهداف التي دعا إليها الإسلام. المرحلة الثالثة: هي إقامة الحجة على الناس بإبلاغ دين الله إليهم، وهذه المرحلة هي التي سعى إليها الأمير بعد أن نصبه عبد الله بن ياسين. المرحلة الرابعة: هي بث الأمن، وإقامة هياكل اجتماعية تكفل للناس استمرار دعوتهم وحياتهم، وتكفل لهم وسائل عيشهم باستمرار، وهذا ما سعى له ابن ياسين، وهو من حظ الدنيا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]. المرحلة الخامسة: هي أستاذية العالم، أن يبث نفوذه فيما حوله من الأرض حتى يجعلها كلها خاضعة لدين الله، إما أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتلتزم بدين الله، أو أن تمد الرقاب خاضعة وتمد الأيدي منبسطة بالجزية، وهذا ما فعله أهل تلك البلاد فخضعوا لهذه الدولة. بايع عبد الله بن ياسين يحيى بن عمر اللمتوني فقام بالأمر خير قيام، ولكنه كان شجاعاً أكثر من اللازم، فكان إذا التقى الصفان في الجهاد في سبيل الله كان أمام الجيش، فلذلك كان عبد الله بن ياسين يعاقبه إذا رجع من غزوة، فيجلده خمسين سوطاً؛ لأنه تقدم عن صفه، والله تعالى {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، فكان الأمير إذا رجع منتصراً يخاف من سطوة القائد الأعلى عبد الله بن ياسين إذا خالف النظام وتقدم على الصف. ثم لما نشر عبد الله جيوشه وسراياه، وفتح كثيراً من البلاد، كان من سياسته أنه ينصب في كل بلد يفتحه قائداً عسكرياً وقائداً دينياً يربي الناس، وقد أخذ هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل إلى اليمن معاذ بن جبل قائداً دينياً وأبا موسى الأشعري قائداً عسكرياً، وجعل كل واحد منهما أميراً فقال: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وكان لكل واحد منهما فسطاط يزوره فيه صاحبه، فأخذ عبد الله بن ياسين من هذا الحديث الصحيح الذي في الصحيحين وغيرهما أن المسئولية أعظم من أن يتولاها واحد، فكان يرتب لكل قوم قائداً عسكرياً، وقائداً دينياً يربيهم على نفس المنهج.

تزكية النفوس

تزكية النفوس لقد اهتمت الشريعة الإسلامية بتطهير النفوس وتزكيتها، ولا تكون تزكية النفوس إلا بالتحلية بالإيمان والقربات ومحاسن الأخلاق، والتخلية من المعاصي والذنوب والأخلاق الرذيلة، ولأهل العلم في هذا الباب تفصيلات تربوية يحتاجها كل مسلم يريد الوصول إلى مقامات اليقين.

عناصر تركيب الإنسان وعلاقتها بمراتب الدين

عناصر تركيب الإنسان وعلاقتها بمراتب الدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وألفه من ثلاثة عناصر: أشرفها الروح، التي هي نفخة غيبية من أمر الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. ثم العقل الذي شرف الله به هذا الإنسان على غيره من الحيوانات. ثم البدن الذي هو من تراب. إن هذه العناصر الثلاثة مجتمعة تشكل إنساناً، فرتب الله على هذه العناصر الثلاثة -عناصر الدين- فجعل الإيمان لمصلحة العقل، والإسلام لمصلحة البدن، والإحسان لمصلحة الروح، وجعل التكامل بين هذه العناصر مطلوباً، فلا يكون الإنسان كاملاً إلا بالموازنة والاعتدال بين هذه العناصر، ومن مال مع واحد من العناصر على حساب غيره كان مائلاً غير مستقيم، ومعوجاً غير معتدل، ولهذا شرع الله سبحانه وتعالى العناية بهذه العناصر الثلاثة، وجعل من أهمها وأعظمها خطراً عنصر الإحسان، الذي لا يمكن أن يتم الإيمان والإسلام إلا به، وعنصر الإحسان إنما يتعلق بتزكية النفوس.

معنى التزكية

معنى التزكية والتزكية في اللغة مصدر زكى الشيء يزكيه، ولها معنيان: المعنى الأول: التطهير، يقال: زكيت هذا الثوب تزكية، أي: طهرته، ومنه الزكاء، أي الطهارة. والمعنى الثاني: الزيادة، ويقال: زكا المال يزكو إذا نما وزاد، ومنه الزكاة، لأنها تنمية للمال وزيادة له. وعلى أساس المعنى اللغوي جاء المعنى الاصطلاحي في تزكية النفوس، فتزكية النفس شاملة لأمرين: الأمر الأول: تطهيرها من الأدران والأوساخ. والأمر الثاني: تنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة. أما المعنى الأول فهو تخليتها عن الأوصاف الذميمة.

حكم علم أمراض القلوب وحكم التداوي

حكم علم أمراض القلوب وحكم التداوي

خلاف العلماء في حكم تعلم أمراض القلوب

خلاف العلماء في حكم تعلم أمراض القلوب والعلماء قد اختلفوا في حكمه، فذهب الغزالي رحمه الله إلى أنه فرض عين على كل مؤمن، فكل مؤمن يلزمه أن يتعلم أمراض القلوب وطريقة علاجها. وبنى الغزالي رحمه الله تعالى رأيه هذا على أن الإنسان لا يخلو من هذه الأمراض في الأصل، فهي أصلية فيه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأرضاهم وأطهرهم، قد شق الله صدره مرتين، وأخرج منه المضغة السوداء التي هي محل هذه الأمراض في الإنسان، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أن يشق صدره وأن تنزع عنه هذا المضغة، فمن سواه أولى بذلك وأحرى. وذهب الجمهور إلى أن تعلم أمراض القلوب ليس فرض عين وإنما هو فرض كفاية، إلا في حق من تحقق أو ظن وجود مرض من الأمراض فيه، فيلزمه أن يعالج ذلك المرض وأن يعلم مظاهره وأسس علاجه. واستدل الجمهور على هذا المذهب، بأن الأصل في الإنسان السلامة، وأن فطرته سليمة في الأصل، ولهذا قال الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] وبما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مولود إلا ويولد كما تخدج البهيمة بهيمة عجماء، فهل ترى فيها من جدعاء؟). أي: فهل ترى في البهائم من جدع وقت ميلادها؛ فأعضاؤها متكاملة غير مقطوعة ولا منقوصة. وأدلة الجمهور لا شك أوجه وأقوى، ولكن يمكن الجمع بينها وبين ما استدل به الغزالي بأن الذي هو في عامة بني آدم هو القابلية لهذه الأمراض لا وجودها، وبالتالي فشق الصدر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليس علاجاً لمرض موجود، وإنما هو منع للقابلية، فهو العصمة التي لا يمكن أن يحل بعدها شيء من هذه الأمراض.

حكم التداوي من الأمراض القلبية والبدنية

حكم التداوي من الأمراض القلبية والبدنية وعلى هذا فالأمراض القلبية مثل الأمراض البدنية، الأصل السلامة منها، ولكنها قد تعرض بعد الولاد، أو قد يولد الإنسان متصفاً ببعضها بلية وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى كالأمراض البدنية، ومن هنا فمن ظن أو تحقق وجود مرض من هذه الأمراض وجب عليه عيناً أن يعالجه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم ينزل الله داءً من السماء إلا وأنزله له دواء، فتداووا عباد الله). وقد حمل العلماء هذا الحديث على الوجوب في حق أمراض القلوب، وعلى الندب في حق أمراض البدن، وذلك في حق من يستطيع الصبر؛ لأن الصبر أولى، ولهذا فإن المرأة حين أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو الصرع، فقالت: (يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي، فقال: إن شئت دعوت لك وإن شئت فاصبري، قالت: إني أتكشف فادع الله ألا أتكشف، فدعا لها وصبرت)، والضرير الذي أتاه فقال: (ادع الله أن يرد علي بصري، قال: أو تصبر؟ قال: ادع الله أن يرد علي بصري، فدعا الله فرد عليه بصره). فالصبر مقدم في الأمراض البدنية، وهو أولى لمن يستطيعه، وذلك لأنه استسلام لقدر الله، ولأمره سبحانه وتعالى، ورضا بما صنع، أما العلاج فلا ينافي التوكل على الله والاستسلام لأمره، لكنه لا يغير شيئاً من القدر أيضاً، فإذا كتب الله البرء أو الشفاء من مرض من الأمراض أو سقم من الأسقام، فإنه قد يشفيه بالعلاج وقد يشفيه بالدعاء وقد يشفيه بالصدقة وقد يشفيه بغير ذلك، وإذا كتب عدم شفائه واستمراره، فسيستمر حتى لو بذل الإنسان كل جهده في العلاج، وأتى على سائر أنواعه، فإن للأمراض آجالاً مسماة محددة في علم الله تعالى لا بد أن تبلغها.

أهمية التزكية

أهمية التزكية إن تزكية النفس مهمة للإنسان جداً، وتأتي أهميتها من عدة أوجه: الوجه الأول، أن الله سبحانه وتعالى أقسم في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من أهمل ذلك، فقال: {وَالشَّمْسِ} [الشمس:1] هذا القسم الأول: {وَضُحَاهَا} [الشمس:1] هذا القسم الثاني: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2] هذا القسم الثالث: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:3] هذا القسم الرابع: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:4] القسم الخامس: {وَالسَّمَاءِ} [الشمس:5] القسم السادس: {وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] القسم السابع: {وَالأَرْضِ} [الشمس:6] القسم الثامن: {وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:6] القسم التاسع: {وَنَفْسٍ} [الشمس:7] هذا القسم العاشر: {وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] هذا القسم الحادي عشر، فهذه أحد عشر قسماً متوالية من ربنا سبحانه وتعالى الذي يصدقه عباده دون قسم، ولكنه أقسم للتأكيد أحد عشر قسماً على النتيجة وهي قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] الفلاح فلاح الحال في الدنيا والآخرة، (من زكاها) أي: من زكى نفسه، وهذا يدلنا على أهمية هذه التزكية. الوجه الثاني من أوجه أهمية التزكية: أن الإنسان محب للكمال، وهو قد بدء بالضعف عند النشأة الأولى، ثم لا يزال يتدرج في الازدياد حتى يصير إلى حد الكمال فيبدأ حينئذ بالنقص والتراجع، وعلى هذا فحرص الإنسان على الكمال، مقتض منه للحرص على التربية، والتربية ثلاثة أقسام: الأول: التربية البدنية، وتشمل الوقاية من الأمراض والحرص على النظافة وتشمل العلاج من الأمراض بعد حصولها، والحرص على إكساب البدن ما يحتاج إليه من اللياقة، وإحسان التصرف في الأمور. الثاني: التربية العقلية، وهي زيادة المعلومات، أن تزداد معلومات الإنسان في أمور دينه أو في أمور دنياه، وأن يزداد اطلاعاً بعقله على إنتاج البشرية، وما وصلت إليه تطوراتها وحضارتها، فازدياد العقل إنما يكون بزيادة العلم، وهذه تربيته، سواء كان ذلك في المجال النظري أو في المجال التطبيقي. أما الثالث من أقسام التربية: فهو تربية النفوس، وهو صعب للغاية، لأن النفس خفية، يؤمن بها الإنسان ويعلم وجودها وقربها، لكنه لا يراها ولا يستطيع الوصول إليها بالمباشرة، فليست مثل البدن الذي إذا أصابه مرض، أو شاكته شوكه، أو لامسه برد أو حر تألم الإنسان لذلك، وليست مثل العقل الذي يشعر فيه الإنسان بالازدياد والنهم للزيادة من العلم والحرص عليه، بل هذه النفوس أخفاها الله سبحانه وتعالى وجعل ارتفاعها وخروجها ورجوعها خفي لا يطلع عليه الناس. ولذلك فإن من أبلغ الأدلة على توحيد الله سبحانه وتعالى، أن تقول لمن ينكر وجود الله سبحانه وتعالى أو اتصافه بصفات الكمال لأنه لا يراه؛ أن تقول له: هل لك روح أم لا، فلا بد أن يستسلم وأن يقر بأن له روحاً، فاسأله: هل هي موجودة أو معدومة؟ فلا بد أن يقر بوجودها، فقل له: هل رأيتها؟ هل لامستها؟ هل رأيت لونها؟ هل شممت رائحتها؟ هل ذقت طعمها؟ فلا يستطيع أن يثبت شيئاً من ذلك؛ وإذا كانت روحه أقرب شيء إليه مجهولة بالنسبة إليه، فجهله بديان السماوات والأرض أعظم وأكبر، لكنه مضطر للاستسلام حينئذ، وهذه النفس تصاب بالأعراض التي تصاب به الأبدان، فهي محتاجة إلى تغذية دائمة، ومحتاجة إلى رعاية ومتابعة للازدياد من الخير، كما يزداد البدن من الطاقات والمعارف. ومن هنا احتاج الإنسان إلى أن يراقب تطورات نفسه وأن يعلم أنها وعاء إيمانه، وأحب شيء إليه هذا الإيمان فإذا سلبه فلا فائدة في حياته كلها، من هنا فهو يحتاج إلى مراقبة هذا الإيمان لأنه يخلق ويجد، ويصدأ ويصقل في النفوس، ونظراً لخفاء ذلك وصعوبة تصوره كان أمراً مهما جداً، وكانت هذه المراقبة أمراً ضرورياً لا بد منه لتربية الإنسان. وهذا الجانب من جوانب التربية وهو التربية الروحية، وحاجة الإنسان إليه كذلك من وجه آخر: هو أن التزكية هي طريق الجنة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] فهي شرط إذاً لدخول الجنة.

انقسام التزكية إلى تخلية وتحلية والكلام على التخلية

انقسام التزكية إلى تخلية وتحلية والكلام على التخلية بعد أن عرفنا أهمية العناية بتربية النفس وتزكيتها، بقي أن نعرف أن تزكية النفس تنقسم إلى قسمين: إلى تخلية وتحلية. والتخلية هي: تطهيرها من الأوصاف الذميمة. وهذه الأوصاف الذميمة بعضها يتعلق بالأخلاق والعادات وبعضها يتعلق بالتصورات التي ترسخ والمفاهيم التي تسبق إلى التصور، فالجانب الأول ما يتعلق بالأخلاق والعادات، تفاوت الناس فيه هو تفاوتهم في الإيمان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ومن هنا فإن الذي يتجنب الأخلاق الذميمة، ويراقب نفسه فيها ويعاقبها عقاباً شديداً إذا حصل منها خلل أو خطأ؛ هو الذي يستطيع أن يزكيها وينميها. (خاصم أبو ذر رضي الله عنه رجلاً من إخوانه المؤمنين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه، فقال: يا ابن السوداء، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية) فندم أبو ذر ندماً شديداً حتى أتى الرجل، فوضع عنقه على الأرض وأقسم بالله ليضعن رجله على عنقه عقاباً لنفسه، على أن صدر منها مثل هذا الخلق الذميم، فاستطاع أن ينتصر على نفسه وأن يتغلب على هذا الخلق وأن يتخلص منه، لعلمه أنه من أخلاق الجاهلية، ولهذا فإن النفس، هي بمثابة طفل صغير يتعود على أنماط من العيش والحياة، وإذا عولجت تلك الأنماط تغيرت، وإذا استمر عليها صعبت عليه مفارقتها، كالرضاعة مثلاً، فإنه يتعودها من بداية نشأته، وعند تمام الحولين يشق عليه الفطام، ولكنه ما إن تمضي أيام قليلة حتى يتعود على ترك الرضاعة، ولهذا قال البوصيري رحمه الله: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فكذلك هذه الأخلاق الذميمة، مالم يطلع الإنسان عليها أولاً ويتحقق أنها موجودة لديه ويتعرف على أوصافها وأعراضها فلا يمكن أن يعالجها، لأن من لا يشعر بمرض لا يهتم بعلاجه، ومن هنا احتاج الإنسان إلى أن يتابع الأوصاف الذميمة وأن يتعرف عليها وعلى مظاهرها حتى يتقيها، وإن استطاع أن يتخلص من الأوصاف الذميمة سواءً كانت في الأخلاق أو العادات فقد زكى نفسه. فهذا هو الجانب الأول من التزكية الذي هو التخلية، لأن التخلية سابقة على التحلية.

كيفية التخلية من الأوصاف الذميمة في التعامل مع الله

كيفية التخلية من الأوصاف الذميمة في التعامل مع الله وإذا أردنا توزيع هذه الأوصاف توزيعاً شاملاً، فإننا نقول: إن هذه الأوصاف الذميمة كلها تتعلق بالتعامل، والتعامل ثلاثة أقسام: تعامل مع الله، وتعامل مع النفس، وتعامل مع الناس.

مرض الشرك الأكبر

مرض الشرك الأكبر فالتعامل مع الله سبحانه وتعالى بالأوصاف الذميمة يكون بالأوصاف التالية: أولاً: الشرك، وهو أعظم الأمراض القلبية ضرراً وأخطرها، ولذلك كان أعظم الذنوب، فلا بد أن يتعلم الإنسان الشرك، وأن يعرف ما هو حتى يعلم هل هو متصف بهذا الوصف الذميم الذي هو أخطر الأوصاف أو ليس كذلك، فإذا عرف -ولله الحمد- أنه خالص منه، عرف أن ذلك يحتاج إلى متابعة ومراقبة، وأن نجاته من الشرك ليست من تلقاء نفسه وإنما هي نعمة أنعم الله بها عليه، فتستحق أن تقيد بالشكر، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم). والإنسان محتاج إلى أن يتابع أنواع الشرك، وأن يعرضها على نفسه، فإذا وجد نوعاً من أنواع الشرك، تخلقت نفسه ببعض أخلاقه، أو ظهر عليها بعض مظاهره بادر للعلاج من ذلك. ومن أعظم أنواع الشرك: الشرك في العبادة، وهو أنواع كثيرة، وله مظاهر متعددة، منها مثلاً: أن يسجد الإنسان للصنم، فهذا نوع واحد من أنواع الشرك وهو الشرك في العبادة. ومنها: أن ينذر الإنسان لغير الله، أو أن يذبح لغير الله، أو أن يستغيث بغير الله، فكل ذلك داخل في هذا النوع من أنواع الشرك الذي هو شرك العبادة، لأن كل هذا تذلل وتضرع والتذلل والتضرع هو العبادة، ولا أحد يستحق أن يتضرع له الإنسان ويتذلل له إلا ديان السماوات والأرض وحده. النوع الثاني من أنواع الشرك: الشرك في الدعوة، وهو التوكل والاعتماد على غير الله سبحانه وتعالى، وهذا أنواع كثيرة، فيدخل فيه -مثلاً- الاستغاثة بغير الله ودعاؤه، وكذلك يدخل فيه أن يعتمد الإنسان على الأسباب وأن يتوكل عليها، وأن يظن الإنسان أن مخلوقاً يملك له نفعاً أو ضراً، أو موتاً أو حياة أو نشوراً، ويدخل فيه الخوف من المخلوق أو الطمع فيه، ويدخل فيه الطيرة والرقى والتمائم والتولة التي هي من أمر الجاهلية. ويدخل فيه أن يقطع الإنسان عملاً كان بدأه من أجل أنه رأى ما يكره، فهذا نوع من أنواع الطيرة ويدخل فيه كذلك خلطة الجن والكهانة، فكل هذا داخل في هذا النوع من أنواع الشرك. والنوع الثالث من أنواع الشرك: الشرك في التشريع: لأن ديان السماوات والأرض وحده هو عالم الغيب والشهادة، وهو الذي يشرع لعباده ما يشاء؛ لأنه هو وحده الذي يعلم مصالحهم، ومن هنا قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فلا يمكن أن يشرع ويحل ويحرم ويأمر بأمر وينهى عن أمر إلا ديان السماوات والأرض وحده، ومن هنا فطاعة المخلوق في معصية الخالق تشريع لما لم يأذن به الله بوضع قوانين مخالفة لشرع الله، وكذلك مخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالآراء الباطلة؛ كل هذا داخل في هذا النوع من أنواع الشرك الذي هو شرك التشريع. النوع الرابع من أنواع الشرك: شرك المحبة: وهو تعلق القلب بغير الله سبحانه وتعالى محبة ورضاً، والله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يستحق المحبة، لأن المحبة إنما تكون على أساس الكمال، أو على أساس الطمع، وهو وحده المتصف بصفات الكمال المنزه عن جميع النقائص، وهو كذلك وحده الذي يملك لعباده ما ينفعهم وما يضرهم، فهو الذي يستحق أن يرجى ما عنده وأن يتعلق به وحده. وهذه الأنواع من الشرك هي الشرك الأكبر، أما ما دونها من أنواع الشرك فهو الذي يسمى بالشرك الأصغر، وهو أخفى في بني آدم من دبيب النمل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

مرض الشرك الأصغر

مرض الشرك الأصغر الشرك الأصغر موجود في الناس، لكنه أخفى من دبيب النمل، ومنه: الرياء: أن يرائي الإنسان بعمله فيريد أن يراه الناس على ذلك العمل، فيمدحوه به، أو يتقربوا إليه به، أو يكون محلاً لتقديرهم واحترامهم، فهذا النوع شرك بالله سبحانه وتعالى، وهو غير مخرج من الملة لخفائه واستبطانه، لكنه محبط للعمل ومبطل له. ومنه التسميع: وهو أن يسمع الإنسان، فيتحدث بأنه فعل القربة الفلانية، سواء كان صادقاً أو كان كاذباً، فكل ذلك إشراك بالله في هذا الجانب، وهو من الشرك الأصغر الذي يحبط ذلك العمل، لكنه لا يقتضي كفراً، ولا خروجاً من الملة. ومثل ذلك كل اعتداء يقتضي كفراً أصغر كقتال المسلمين، والسعي لتفريق كلمتهم والاعتداء على حقوقهم، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، لكنه كفر أصغر لا يخرج من الملة، قال صلى الله عليه وسلم (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بع). فيجب على الإنسان أن يتعلم هذه الأحكام وأن يعرضها على نفسه، فإن وجد في نفسه جانباً من جوانب الشرك أياً كان عرف أنه قد تلبس بأخطر الأمراض وأعظمها، فهو أعظم من كل الأمراض البدنية، وعليه أن يبادر لعلاجه، وعلاجه إنما يكون بتحقيق الإيمان، والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى منه، وإحسان العمل في المستقبل، كما قال تعالى في حق الكفار: {فإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).

مرض سوء الأدب مع الله

مرض سوء الأدب مع الله ثم بعد هذا يأتي المرض الثاني بعد الشرك، فيما يتعلق بالتعامل مع الله، وهو سوء الأدب مع الله: وهو مرض خطير من أمراض النفوس، وهو أنواع متعددة: منها سوء الأدب معه في العبادة: ومعناه: أن لا يؤدي الإنسان العبادة كما شرع الله، أو أن يؤديها وهو منصرف عنها بقلبه غير حاضر لها، فهذا سوء أدب مع الله لأنه يناديه ويناجيه ويخاطبه وهو منصرف القلب عنه: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإن التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه). ومن سوء الأدب معه: الاعتداء في الدعاء: بأن يسأل الإنسان ما لا يمكن أن يتحقق له، فهذا سوء أدب مع الله وقد حكى الله عن نوح عليه السلام أنه قال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتداء في الدعاء. كذلك من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى: الاعتراض على قدره بأي مرتبه من مراتبه، واستعظام شيء عليه في خلقه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. فالاعتراض على الله تعالى في أي شيء من فعله، وعدم الاستسلام لحكمه وقدره أو لأي شيء من فعله؛ هو سوء أدب معه سبحانه وتعالى وعدم معرفة به، ومن هنا يجب على الإنسان أن يتتبع أنواع سوء الأدب مع الله، فإن وجد نفسه مسيئاً للأدب مع الله في أي جانب من الجوانب عرف أنه مبتلى بمرض عضال، وأن عليه أن يعالج هذا المرض قبل أن يصل به إلى سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.

كيفية التخلية من الأوصاف الذميمة في التعامل مع النفس

كيفية التخلية من الأوصاف الذميمة في التعامل مع النفس كذلك في التعامل مع النفس فعلى الإنسان أن ينظر إلى أن أسس التعامل مع النفس ثلاثة هي:

الإنصاف من النفس

الإنصاف من النفس أولاً: الإنصاف منها: فإذا كان الإنسان كلما اعتدت نفسه على الآخرين، وأخذت ما ليس لها من الحقوق، أهمل محاسبتها وتركها تستطيل على الآخرين وتأخذ من حقوقهم؛ فإنه مصاب بمرض عضال في التعامل مع النفس، لأن النفس أصبحت ذات سلطان عليه ولم يملكها، وفي الدعاء المأثور: (اللهم ملكنا أنفسنا بخير ولا تسلطها علينا بشر)، والإنسان محتاج إلى أن يملك نفسه، ولا يمكن أن يملكها ما دامت النفس هي التي تقوده تبعاً للهوى، وتتفيأ به مراحل الهوى فيسير وراءها في أي اتجاه سارت، ولذلك قال أحد الصالحين لولده حين رآه مالت نفسه إلى شيء فاشتراه: (أكلما اشتهيت اشتريت؟ إنك إذاً لعبد لنفسك). إذا كان الإنسان كلما اشتهى اشترى، فهو عبد لنفسه لم يتغلب عليها ولم يملكها، ولهذا فعلى الإنسان أن يحرص على مراقبة نفسه فيما يتعلق بالإنصاف منها.

ترك الانتصاف للنفس

ترك الانتصاف للنفس الثاني: ترك الانتصاف لها: فعلى الإنسان أن لا ينتصف لنفسه إذا اعتدى عليه الآخرون؛ وعليه أن يصبر ويحتسب، وأن يعلم أن الصبر عند الصدمة الأولى، فإذا كان كلما اعتدى أحد على حق من حقوقه من أي وجه من الوجوه ثارت ثائرته وقامت قيامته وسعى للانتصار للنفس، فمعناه أنه مصاب بمرض عضال في التعامل مع نفسه. كل واحد منا بالامكان أن ينظر الآن إلى تشخيص هذه الأمراض أمامه ويرى من أين داؤه: هل داؤه في التعامل مع الله أم في التعامل مع النفس، أم في التعامل مع الناس، وحينئذ يبادر لعلاج هذا المرض قبل فوات الأوان.

اتهام النفس

اتهام النفس الثالث: اتهامها: فهذه النفس ينبغي أن تكون دائما في قفص الاتهام، ومن لم يراقبها ولم يجعلها في قفص الاتهام، فإنها تغويه وتذله من حيث لا يشعر، ومن هنا فإن النفس بصيرة على الإنسان، فإذا أرخى لها الحبل على الغارب نادته: سأذهب بك إلى الحضيض، وإذا أخذ بزمامها استطاع أن يسير بها إلى المراتب العالية. يقول السيوطي رحمه الله: ومن تكون نفسه أبيه تطمح للمراتب العليه رجا فخاف فأصاخ فأحب مأموره وما نهى عنه اجتنب أحبه الله فكان سمعه وعقله ويده ورجله واعتده من أوليائه وإن دعاه أجابه أو يستعن يعن أما الذي همته دنيه فلا مبالاة له سليه ففوق جهل الجاهلين يجهل وتحت سبل المارقين يدخل فخذ صلاحاً بعد أو فسادا وشقوة ترديك أو إسعاداً وقرباً أو بعداً وسخطاً أو رضاً وجنة الفردوس أو نار لظى فالإنسان من هذا الجانب مخير من زمام نفسه، إن شاء أطلق لها الزمام فسارت به إلى أسفل سافلين إلى الحضيض الأدنى، وإن شاء طمح بها إلى المراتب العلية، فانقادت له وراء ذلك، وإذا راقبها هذه المراقبة أتت طائعة فإذا دعاها إلى عبادة وخير استسلمت وانقادت، وإن دعيت إلى شر وجدت تأبياً وتمنعاً من ذلك. أما الذي لا يعالج نفسه هذا العلاج، ولا يجتهد في مجاهدة نفسه عما تهوى أو تحب، فإنه إذا دعاها إلى العبادة تكاسلت، وإذا رأت أنه سيحملها علي طاعة من الطاعات نفرت مثل الدابة، فالدابة إما أن تكون مطيعة وإما أن تكون شروداً حروناً، فكذلك النفس، فإذا عودها الإنسان على إزالة هذه الأخلاق الذميمية، كانت كالدابة المطيعة المنقادة التي يحمل عليها ما شاء، وتسير به حيث شاء، وإذا عودها على هذه الأوصاف الذميمة وأرخى لها الحبل على الغارب كانت حرونا شروداً إذا احتاج إليها نفرت منه ولم يستطع أن يمسك بزمامها، وإذا أحست ببردعة أو بأي حمل سيحمله عليها نفرت منه. إذاً: لا بد من مراقبة النفس هذه المراقبة، فالذي إذا سمع الأذان (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، أخذه النعاس وبحث عن الوسادة فنفسه لم تنقد له بعد، وهي مريضة بهذا المرض العضال المخوف ومن نام على فراشه ولم يستيقظ من الليل ولم يستطع إذا تعار من الليل أن يذكر الله وأن يتوضأ وأن يصلي وأن يحل عقد الشيطان، فنفسه مريضة بهذا المرض. والذي لا تطاوعه نفسه على صوم النذر، أو لا تطاوعه على صوم النفل أو لا تطاوعه على إنفاق المال، أو لا تطاوعه إذا أراد أي خير من الخيرات، فنفسه مبتلاة بهذا المرض العضال ولابد من معالجته قبل فوات الأوان، ولا بد أن يضعها في قفص الاتهام وأن يحاسبها محاسبة دقيقة، وليعلم أن أمامه حساباً آخر أكبر من هذا حساب عندما توضع الموازين القسط ليوم القيامة فتوزن فيها الأعمال بمثاقيل الذر، لذلك كان لزاماً عليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب.

كيفية التخلية من الأوصاف الذميمة في التعامل مع الناس

كيفية التخلية من الأوصاف الذميمة في التعامل مع الناس ثم النوع الثالث: التعامل مع الناس، وهذا أيضاً له دلائل وضوابط:

أداء حقوق النبي صلى الله عليه وسلم

أداء حقوق النبي صلى الله عليه وسلم الضابط الأول في التعامل مع الناس: أداء حقوقهم لهم: وهم متفاوتون في الحقوق تفاوتاً عجيباً، فأعظم الناس حقاً على الناس، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو السبيل إلى الهداية والمبلغ عن الله سبحانه وتعالى، وقد شرط الله على المؤمنين في الإيمان محبته، وأن يكون أحب إليهم من أنفسهم، فإذا وجد الإنسان جفافاً فيما يتعلق بالتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سمع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه سمع اسم إنسان من معارفه، أو من الذين يعرفهم، أو كان إذا بلغه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتأثر به وكان كأنما بلغه كلام أحد الناس، فهو مصاب بمرض عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى يقول في كتابه: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * ولَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:1 - 5]. فاعتبار الإنسان لتعامله مع النبي صلى الله عليه وسلم وتأثره به، يعرف به هل هو سقيم مريض النفس في هذا الجانب، أم هو صحيح معافى، إذا كنت يا أخي تسمع حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد أثراً لذلك الحديث على نفسك، أو إذا سمعته كأنما سمعت كلام الناس المعتاد فأنت مريض في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضاً عضالاً عظيماً، ولا بد من علاجه. إذا كنت لا تستشعر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تستشعر الانتماء له وأنك تريد أن تبعث تحت لوائه يوم يدعى كل أناس بإمامهم: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء:71] ولا تستشعر محبتك للورود عليه والشرب من حوضه شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبدا، أو لا تستشعر تعظيمك لأصحابه وخلفائه الحاملين سنته الناشرين دعوته، أو تستشعر اشمئزازاً من أي خلق من أخلاقه أو وصف من أوصافه؛ فاعلم أنك مبتلى بداء عضال. أخي! لاحظ السنن والهيئات والأوصاف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وجدت في نفسك نفوراً من أية صفة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم بأنك مصاب بهذا المرض، فالذي ينفر -مثلاً- من توفير اللحية، أو من أي وصف من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم مبتلى بداء عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي ينفر من الدعوة إلى الله التي هي وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتلى بداء عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يشمئز من الذين يبلغون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه إذا رأى إنساناً يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقول المعلم الأعظم: (بلغوا عني ولو آية): (ليبلغ الشاهد منكم الغائب)، (ورب مبلغ أوعى من سامع)، (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)؛ فإذا كان الإنسان يشمئز من هؤلاء ولا يتحمل سماع ما يقولون؛ فهو مبتلى بداء عضال في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يعالجه قبل أن يكتب له سوء الخاتمة. ولهذا فإن مالكاً رحمه الله كان في طريق العقيق، فسأله رجل عن حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: من هذا الذي يسأل عن حديث رسول الله عليه وسلم في الطريق؟ اجلدوه عشرين جلدة، فقيل له: يا أبا عبد الله! إنه القاضي! -قاضي المدينة- فقال: القاضي خير من أجلد، فجلدوه عشرين سوطاً، فرحمه مالك فدعاه إلى بيته وأجلسه في مجلسه وحدثه عشرين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل سوط بحديث، فقال القاضي: وددت لو جلدني مائة فحدثني مائة حديث. وكان مما قال مالك رحمه الله: (لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، وكان إذا ذُكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته، وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اصفر وجهه، وعلاه الغشي، حتى رحمناه وخرجنا عنه). هذا هو التوقير الذي اشترطه الله على المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي لا يحس بهذا التقدير والتوقير في باطنه وقلبه، فهو مبتلىً بداء عضال في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقلما ينتفع بشيء مما جاء به، فقد حيل بينه وبين النور الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أداء حقوق الوالدين

أداء حقوق الوالدين كذلك في التعامل مع الوالدين اللذين هما أمن الناس على الإنسان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى الإنسان أن يعاملهما معاملة حسنة كما أمر الله بذلك فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]. فإذا كان الإنسان يجد في نفسه ازدراءً واحتقاراً لوالديه، أو عدم عناية بأمرهما وشأنهما، أو نقصاً في احترامهما أو عدم نصيحة لهما أو برٍ بهما، فهو مبتلى بمرض عضال في التعامل مع الوالدين، وهذا المرض هو الذي يسمى بالعقوق وصاحبه لا يدخل الجنة، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة)، أنه سيموت على الكفر فتسوء خاتمته، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة عاق لوالديه، ولا منانٌ بالخير، ولا ماشٍ بالنميمة) فهؤلاء الثلاثة لا يدخلون الجنة، بمعنى أن من استمر على ذلك إلى الموت فستسوء خاتمته؛ نسأل الله السلامة والعافية.

أداء حقوق الناس والزهد فيما بأيديهم

أداء حقوق الناس والزهد فيما بأيديهم وكذلك في التعامل مع الآخرين لا بد من أداء حقوقهم إليهم أياً كانت هذه الحقوق، والله سبحانه وتعالى رتب بعضها بقوله: {عْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] فكل هؤلاء لهم حقوق يجب أداؤها على ما أمر الله به، ومن قصر في شيء من هذه الحقوق أو لم يؤدها، فإن نفسه مريضة مرضاً بحسب ذلك الحق الذي قصر فيه. ثم بعد هذا من حقوق الآخرين عليك: الزهد فيما في أيديهم: أن تزهد فيما عندهم، لأنك كلما زهدت فيما عند الناس رغبت فيما عند الله، وهذا من تمام إيمانك بالله وتعلقك به. ومنها عدم تغيير قلوبهم بما ليس بلازم شرعاً: فلا تغضب الناس في غير حق، أما في الحق فإن الحق أحق أن يتبع، لكن إذا لم يكن ذلك بحق وكنت من الفضوليين الذين إذا رأوا أي إنسان حاولوا إغضابه واستفزازه بأي وجه من أوجه الاستفزاز والإغضاب، فاعلم أنك مبتلى بمرض عضال في التعامل مع الناس، لأنك تسعى لإغضابهم بغير حق شرعي. والغالب أن من ابتلي بهذا المرض قلما يستطيع تغيير منكر أو أن يغضب لغضب الله، أو يرضى لرضاه، فمن كان يغضب الناس بغير حق فقلما يوفق لإغضابهم في الحق، لأنهم تعودوا على أنه يسعى لإغضابهم في غير حق، فإذا رآهم على منكر فلا يستطيع أن يغضب لغضب الله ولا أن يغير ذلك المنكر، لأنه تعود أن يغضبهم بأمور تافهة خارجة عن الحق، فهذا مبتلى بداء عضال في التعامل، وعليه أن يعالجه قبل أن يموت عليه. ثم بعد معرفة حقوق الله وحقوق النفس وحقوق الآخرين في التعامل، ومعرفة الإنسان للنقص الذي لديه في أي وجه من هذه الأوجه، يجب عليه العلاج.

معالجة الأمراض الجامعة

معالجة الأمراض الجامعة وبعد ذلك ينبغي له أن يبحث عن الأمراض النفسية الجامعة، ومنها الشح والبخل، والحرص على الدنيا وإيثارها على الآخرة، وحب الدنيا ولذاتها. ومنها الغضب: فمن كان سريع الغضب لأدنى الأسباب فهو مريض مرضاً نفسياً عضالاً حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إلى تركه، وهو من عمل الشيطان. ومنها كذلك الحسد للآخرين: فإذا رأى من هو في نعمة من نعم الله حسده على ذلك، وسيبقى دائماً في قلق وهم؛ لأن نعم الله سابغة، ولا يمكن أن ترى عبداً من عباد الله إلا وهو في نعمة عظيمة من نعم الله: {إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فإذا كانت نعم الله تغضبك فستبقى غضبان أبداً؛ لأن نعم الله سابغة على الناس، والحاسد إنما يضر نفسه؛ لأنه سيبقى في قلق دائم ولا يرد شيئاً عمن حسده. كذلك فإن من هذه الأمراض الجامعة الكبر: حيث يتكبر الإنسان على الآخرين ويغمط الحق وينكره، ويدعوه إلى ذلك تكبره هو، كحال إبليس الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وهو أصل كثير من الأمراض القلبية. وكذلك من هذه الأمراض التي يبتلى بها الناس: الفضولية وعدم الجد في الحياة؛ فهو مرض عضال من أمراض النفوس، فمن وجده في نفسه فليعلم أنه مبتلى بداء عضال من هذه الأمراض. وعلاج هذه الأمراض كلها بالمبالغة في التوبة والاستغفار، والإنكار على النفس اتصافها بهذه الصفات، والحرص على إزالتها، والتعود على ما يخالفها، واللجوء إلى الله بالدعاء ليزيلها، ولذلك كان في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجبرني وعافني واهدني لأحسن الأعمال والأخلاق واصرف عني سيئها، فإنه لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا أنت)، والإنسان محتاج إلى أن يدعو بهذا الدعاء دائماً، حتى يتحلى بالأوصاف الجميلة وينقطع عن الأوصاف القبيحة. فإذا حصل الإنسان على هذا المستوى وهو التزكية بمعنى التطهير، فطهرت نفسه من هذه الأمراض، وتخلى عن الشرك بكل أنواعه، وتخلى عن الأمراض المتعلقة بالتعامل، وتخلى عن الأمراض الجامعة فطهرت نفسه من هذه الأمراض، أصبح مستعداً للتحلية، جاهزاً لها.

الكلام على التحلية وذكر مقاماتها

الكلام على التحلية وذكر مقاماتها والتحلية هي الشق الثاني من التزكية، وهي الاتصاف بالصفات الحميدة. وهذه الصفات الحميدة أعظمها تنويراً الإيمان وزيادته بأن يكون إيمان الإنسان حسناً، وأن يحسن إيمانه وإسلامه، والناس في درجات الإيمان بينهم من التفاوت ما الله به عليم. وهو تفاوت يكون تفاوتهم في النجاة على أساسه يوم القيامة، فأهل الجنة يتراءون يوم القيامة من الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء من شدة تباعد منازلهم، وأعلى الجنان الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن للمقربين، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتته أم حارثة بعد رجوعه من بدر، قالت: (يا رسول الله! أخبرني عن ولدي أفي الجنة هو فأصبر، أم ليس فيها فسترى ما أصنع؟ فقال: أوجنة هي! إنما هي جنانٌ، وإن حارثة قد أصاب الفردوس الأعلى منها). والله سبحانه وتعالى بين لنا في سورة الرحمن وفي سورة الواقعة التفاوت العجيب بين الجنتين وأهلهما، والتفاوت العجيب بين المقربين وأصحاب اليمين واضح، ودرجته متباينة متفاوتة، وهذا التفاوت يقتضي من الإنسان الحرص على ألا يكون فقط من أصحاب اليمين، بل أن يكون من المقربين، وأن يزداد إيماناً ويقيناً كلما تقدم به العمر، فيحاول أن يحلي نفسه بمراتب الإيمان العالية.

مقام التوبة

مقام التوبة وهذه المراتب منها أولاً: مقام التوبة، وهو مقام رفيع، يكون الإنسان به مخلصاً في توبته، فتكون توبته توبة نصوحة: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8] {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:112]، فالذي يتحلى بهذه التوبة يذوق حلاوة الانتقال من مرحلة التخلية إلى مرحلة التحلية. والتوبة ثلاث مقامات: المقام الأول: توبة الله على العبد، بمعنى: إرشاده وتوجيهه لأن يتوب إلى الله، وهذا شرط لعمل العبد، لأن العبد مالم ينعم الله عليه بنور التوبة، فيستمر في معصيته، لكن إذا شاء الله له النور، سلط عليه النور المشع العظيم -نور التوبة- فيراه ويتبعه فيتوب. المقام الثاني: إذا تاب العبد وخرج من سيئه وندم عليه لقبحه شرعاً، وعزم ألا يعود إليه. المقام الثالث: توبة الله على العبد، أي: قبول توبته. إن هذه المراحل اثنتان من عند الله وواحدة من عند المخلوق، التوبة الأولى من عند الله، وهي توجيه العبد إلى أن يتوب، والتوبة الثانية التي تليها هي توبة العبد نفسه، والتوبة الثالثة هي توبة الله على العبد بقبول توبته، ولذلك قال الله تعالى: {ولقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] وهذا العطف بثم يقتضي المغايرة، فهي توبة جديدة: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] والعطف كذلك بنية تكرير العامل والمعنى: وتاب على الثلاثة الذين خلفوا: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118] تاب عليهم ليتوبوا، معناه: سلط عليهم نور التوبة، وجههم إليه فاتبعوه ثم قبل منهم التوبة بعد ذلك، وهذه التوبة الأخيرة.

مقام الشكر

مقام الشكر وبعد مقام التوبة يترقى الإنسان إلى مقام الشكر على النعم، لأنه يشهد نعم الله التي كانت مستورة عنه بذنوبه وكانت مغطاة بسوء خلقه، وبأوصافه الذميمة التي كانت يتحلى بها، فلم يكن يستشعر نعمة الله. عباد الله! كثير من الناس تجد أن القلق الذي يصيبهم والحزن الذي يغلق نفوسهم سببه أن الذنوب قد سترت استشعار نعمة الله عندهم فغيرت سلوكهم؛ لكن إذا تخلصوا من هذه الذنوب، اتسعت أخلاقهم واتسع بالهم وعرفوا أنهم لا ينالهم إلا ما كتب لهم، وأن الدنيا زائلة، وأنها دار الغرور، وبالتالي فكل ما فيها لا ينبغي أن يصيب المؤمن بحزن: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ٍ} [الحديد:23]. فمن تجاوز مظلة الذنوب وخرق جدار الصوت -فهي بمثابة جدار الصوت الذي يحيط بهذه الأرض- استطاع أن يشكر النعمة. وشكر النعمة هو صرف جميع نعم الله في مرضاته، فالوقت نعمة من الله فيصرفه الإنسان في مرضاته، والإيمان نعمة من الله فيصرفه في مرضاته، الجوارح نعمة من الله فيصرفها في مرضاته، فيسعى حينئذ لأن تنكشف له أبواب النعم التي كانت مستورة عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، كثير من الناس حيل بينهم وبين أن يشاهدوا النعمة، فهم يعيشون فيها ولا يشاهدونها ولا يدركونها، فحينئذ لا يمكن أن يشكروها، لأنهم ما عرفوها أصلاً، بل هم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وأكثرهم كافرون.

مقام الخوف والرجاء

مقام الخوف والرجاء ثم بعد مقام الشكر، يصل الإنسان إلى الخوف والرجاء فيصل إلى مستوى يعيش فيه بين خوف الله ورجائه، طيلة حياته كلها. فأنت الآن تزعم أنك تخاف الله ولكن ذلك الخوف لا يمنعك من الوقوع في المعصية، وتزعم أنك ترجو ما عند الله، ولكن ذلك الرجاء لا يمنعك من القلق والخوف من غير الله، ومعناه أنك ما تحققت بعد من مقام الخوف والرجاء. فمقام الخوف والرجاء إذا وصلت إليهما، عشت بينهما، فشاهدت الأمور من عند الله لا من عند الناس، وكنت، بين هذين المقامين بحيث يأتي الوعد من الله سبحانه وتعالى على أعظم درجات الكمال، ويأتي منه الوعيد على أعظم درجات النقص، فيبقى الإنسان متردداً بين الحالين، كما قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:13 - 16] فتقول ولله الحمد: أنا لست الأشقى، ولم أكذب ولم أتول، لكن إذا جاء الوعد: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21] فتقول: أنا أيضاً لست كذلك. فتبقى متردداً بين الخوف والرجاء، تعيش بينهما وتذوق حلاوة ذلك، وهذه الحلاوة إنما يذوقها من وصل إلى مقام التردد بين الخوف والرجاء، وهو أحلى مقامات العيش، ولذلك يعبر عنه أصحاب العشق الدنيوي بما تمثله أبو الطيب المتنبي: وأحلى الهوى ما شك بالوصل ربه وبالهجر فهو الدهر يرجو ويتقي فكذلك في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، إذا كان الإنسان متردداً بين الخوف والرجاء دائماً ذاق حلاوة هذه المعاملة.

مقام التوكل على الله

مقام التوكل على الله ثم بعد هذا مقام آخر، وهو مقام الرجاء والتوكل، الذي يقتضي من الإنسان أن يعلم علم اليقين أن الله لا يخلف الميعاد، وأن وعده هو الحق لا ريبة فيه، وأنه هو الذي في قبضته السماوات والأرض ومن فيهن، وهو الذي القلوب بين أصبعين من أصابعه، وهو الذي النفوس كلها في يده، ومن هنا فينظر إلى من خالفه في ذات الله نظرة المشفق الوجل، لعلمه أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتا ولا نشوراً، فينظر إليه هذه النظرة، وهذا المقام هو الذي وقف فيه نوح عليه السلام حين قال لقومه: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71] وكذلك هود عندما قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] وهذا المقام هو الذي تحلى به إبراهيم عندما رموه في النار فقال الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] وتحلى به محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174]. فأنت اليوم تهلع وتطمع وتخاف وترجو وأنت تزعم أنك مؤمن، والسبب أنك ما وصلت إلى هذا المقام، ولهذا يذكر عن أبي الحسن الشاذلي أنه حين أتى الإسكندرية استقبله علماؤها، فسألهم فقال: أتصلون؟ قالوا سبحان الله أنترك الصلاة؟ قال: أفتهلعون وتطمعون؟ قالوا: نعم، قال: إذاً أنتم لا تصلون، فالله تعالى يقول: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]. والمقصود بذلك: المصلون الذين صلاتهم هي الصلاة الحقيقة الكاملة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففيها تذوق لآيات الله، وإدراك لعجائب خلقه، ومقارنة بين ما يشاهد من الآيات المنيرة وبين ما يسمع ويتدبر من الآيات المذكورة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:105 - 106].

مقام الرحمة وحسن الخلق

مقام الرحمة وحسن الخلق ثم بعد أن يصل الإنسان إلى هذه المقامات ويتحلى بها سيسعى إلى التعامل مع الناس وسيسعى إلى تحسين الخلق، بأن يصل إلى درجة يعدل فيها مع القريب والبعيد، يحسن فيها كل الإحسان حتى في حال القتل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) فهو يقاتل الكفار وهو يرحمهم، لأنه يخاف أن يموتوا على الكفر، ويجلد العصاة وهو يرحمهم، لأنه يريد بذلك رجوعهم عما حرم الله عليهم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في غاية الحرص على المأمور ليهتدي ويتوب، ولأنه يعلم أنه غير رب وغير معصوم وإنما أنجاه الله تعالى من الوقوع في هذه المعصية لطفاً ورحمة به، وابتلى بها غيره، فهو ينظر إليه على أنه مبتلى قد وقع في بلاء عظيم. فهو من واقع حرصه عليهم يريد هدايتهم، ولا يريد التشفي فيهم، ولا التسلط عليهم ولا التجبر، وبهذا يستطيع أن يحسن التعامل مع الناس، وأن يحسن خلقه للآخرين، وحينئذ سيسعى الإنسان، للتحلي بالأعمال التي تكمل هذا الإيمان وتزيده، وهي نهاية المطاف في مجال التزكية.

تحقيق الفرائض والسنن

تحقيق الفرائض والسنن وهذه الأعمال التي تقتضي من الإنسان أن ترسخ قدمه ولا تزل بعد ثبوتها، فيحتاج الإنسان فيها إلى كثير من المراقبة والمتابعة، ومن أعظم هذه الأعمال الفرائض التي افترضها الله عليه، فيحافظ عليها حفاظاً شديد جدّاً؛ لعلمه أنها هي الحد الحائل بينه وبين الكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين العبد والشرك والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) وكذلك لعلمه أنها أعظم ما يتقرب به إليه: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) فهو يتصور أنه في طريق سائر إلى الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن أبلغ ما يتقرب به إليه وأنجى ما ينجيه في هذا الطريق الفرائض. ثم بعدها يأتي بالمكملات من السنن والمندوبات: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).

الافتقار إلى الله تعالى

الافتقار إلى الله تعالى وهذه النوافل آثارها متفاوته جداً فيما يتعلق بالتزكية، فمن أعظم ما يقتضي التزكية ما فيه خضوع ومذلة لله، ولهذا كان كثير من العلماء يحب الفقر ويؤثره، لأنه مقتض منه للرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، والتعلق به واللجاء إليه، وكان كثير من العلماء يعدون الفقر والحاجة عيداً لأنها تقتضي اتصالهم بالله وكثرة دعائه وكثرة التعلق به، كما قال الشاعر: العيد قالوا غداً ما أنت لابسه فقلت خلعة كاس ثوبه خلع أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلع إلى أن يقول: عبد يرى الفاقة الأعياد والجمعا الفاقة هي عيده، وكذلك الجمعة هي عيده، لما فيها من اتصال بالله سبحانه وتعالى واللجأ إليه والضراعة بين يديه. كذلك فالمقصود هنا بالفقر هو الحاجة التي تقتضي من الإنسان أن يمد يديه إلى الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] وليس المقصود به الفقر الذي يؤدي بالإنسان إلى الفقر إلى الناس وتكففهم، وتعلق القلب بما في أيديهم، فهذا من المذلة المخالفة لما نحن فيه تماماً، ولذلك فإن الله وصف المهاجرين بالفقر، وهم أعلى أهل الإيمان مقاماً، فعندما قسم الفيء بين المؤمنين بلغ بالمهاجرين أعلى مستوى من مستويات الإيمان فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]. فهؤلاء هم أعلى الناس إيماناً ومقامهم فوق المقامات الأخرى، وقد قدمهم الله على الأنصار، وقدم المهاجرين والأنصار على من سواهم من أهل المال فقال: {السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا} [التوبة:100] فهم أعلى الناس مقاماً، وفقرهم إنما هو إلى الله لا إلى الناس. وكذلك علينا أن نعلم أن الفقر ليس بانعدام العرض، فكثير من الأغنياء معتبرون من جهة الشرع فقراء، لأنهم متعلقون بما جعله الله تحت أيديهم من المال، فهم بهذا في عداد الفقراء لا في عداد الأغنياء، وكثير من الفقراء هم في عداد الأغنياء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس) فالغنى غنى النفس، وليس عن كثرة العرض وكثرة الأموال، بل إن الأموال كثيراً ما تطغي، كما قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] وكثيراً ما يكون الإنسان معبداً لها يخدمها ويعالجها فلا يستفيد منها راحة ولا طمأنينة ولا سعادة، بل هو خادم لها طيلة حياته. فعلى هذا إذا وصل الإنسان إلى مقام يحب فيه ما يؤدي إلى انكساره بين يدي الله سبحانه وتعالى، وتعلقه به، ورجائه والاتصال به، فهذا هو المقام المطلوب، ومما يعين عليه السهر، لأن كثرة النوم معينة للبدن على النفس، وهي مقتضية لفساد المزاج، ولأن يكون الإنسان الذي هو كثير النوم كثير السعي إلى الراحة، وكثير الأكل والغضب، فلهذا على الإنسان أن يحاول أن يتقلل من النوم ما استطاع.

الصمت عن فضول الكلام

الصمت عن فضول الكلام كذلك الصمت إلا ذاكراً لله تعالى فهو مما يعين على الوصول إلى هذا المقام، فالإنسان الذي يكثر الكلام في غير ذكر الله، لا بد أن يقسو قلبه، وقسوة القلب منافية للتزكية التي نسعى للوصول إليها، ولذلك أخرج مالك في الموطأ، أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية) وقد أخرج مسلم في الصحيح بعض هذا الحديث من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى كل فإن إكثار الكلام مقتض لفساد المزاج، فالذي يكثر الكلام في غير حاجة لا بد أن يكون فضوليا، ًوالفضولي لا يمكن أن يكون جاداً، ومن لم يكن جاداً لا يمكن أن يتوجه أصلاً، ومن لم يتوجه لم يسلك، ومن لم يسلك لم يصل.

قلة الصابرين على سلوك طريق المفلحين

قلة الصابرين على سلوك طريق المفلحين وهذه هي الدرجات، فأول ذلك الصدق في التوجه، أن يصدق الإنسان في توجهه إلى الله، ثم يتوجه، ثم يسلك الطريق بعد أن يتوجه إلى الله، ثم بعد السلوك يصبر على هذا الطريق ويستمر عليه حتى يصل، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: إن عوائق الزمن كثيرة جداً، فلذلك قل من توجه، ثم قل من صدق في توجهه، ثم قل من سلك، ثم قل من وصل، وهذا ما نظمه الشيخ محمد سالم حفظه الله في قوله: لذاك قل القصد بدءاً ثم قل بعد السلوك ثم قل من وصل وقد ذكر هذا خليل رحمه الله أيضاً في كتابه الجامع، فكثير من الناس ينصرفون في العقبة الأولى من الطريق، وكثير منهم في العقبة التي بعدها، وآخرون في العقبة التي وراء ذلك، ومن هنا لا يصل من السالكين إلى طريق الحق إلا قلائل، وهم الذين يصبرون على هذا الطريق ويصمدون عليه إلى نهايته، وهم عدد قليل جداً: {وكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] فالذين يصبرون على هذا الطريق هم الأقل.

قصة بني إسرائيل مع طالوت

قصة بني إسرائيل مع طالوت عندما قص الله علينا قصة بني إسرائيل وامتحاناتهم التي امتحنهم بها في طريق الجهاد بين أنه في كل امتحان يسقط جمهور، ثم في الامتحان الذي يليه يسقط جمهور الناجحين في الامتحان السابق، حتى لم يبق إلا الفئة القليلة، ولذلك قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] هنا قالوا: نقاتل في سبيل الله، وهذا أول امتحان. {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] وهذا سقوط في الامتحان ورسوب فيه بالكلية، لأنهم لم يعودوا مجاهدين في سبيل الله وإنما أصبحوا مجاهدين في سبيل أوطانهم وأولادهم: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:246] وهذا الرسوب المطلق وما نجح إلا عدد قليل: {مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]. {قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247] هذا امتحان آخر. {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] فرسبوا: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247]. هذه دورة، وهذا الامتحان الثاني يكون للذين وصلوا إلى الدور الثاني، ثم بعد ذلك جاء امتحان آخر: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:248 - 249] هذا امتحان آخر: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمَْ} [البقرة:249] الذين نجحوا في الامتحان الأول، والذين نجحوا في الدورة بعد ذلك، هنا تساقطوا ولم يبق إلا قليل من قليل، فلذلك قال: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249]. ثم بعد هذا الامتحان الآخر، {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:249]، وهم قليل من قليل {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] وهذا امتحان آخر فرسبوا فيه مع الأسف: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:249 - 251]. ولذلك بين الله سبحانه وتعالى سنته في التدافع بين الناس في الأرض: {ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] فهذا فضل الله على الناس يقتضي التدافع بينهم، فلو استبد أهل الباطل وحدهم ولم يجدوا من يقارعهم، أو استبد أهل الحق وحدهم، ولم يجدوا من يقف في وجههم لفسدت الأرض، لكن الدنيا دار امتحان، ولا بد أن يبقى فيها أهل الامتحان، ومن هنا لا بد أن يبقى الحق فيقف في وجهه أقوام، ويبقى الباطل كذلك فيقف في وجهه أقوام، ويبقى الصراع مستمراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذه سنة الله في التدافع، فهؤلاء يردعهم هؤلاء وهكذا.

ضرورة الصبر في درجات اليقين

ضرورة الصبر في درجات اليقين فإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى احتاج إلى التحقق بالصبر واليقين: فالصبر بالصمود والاستمرار على ما هو عليه والخوف من أن ينتكس: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60 - 61] فهؤلاء يعملون هذه الأعمال الجليلة ولكنهم يخشون أن ترد عليهم وألا تقبل منهم، فكل عمل عملوه يخافون ألا يتقبله الله منهم وأن يرده عليهم، ومن هنا فلا يصابون بالغرور، ولا يستعظمون أعمالهم أياً كانت، ويخافون من سوء الخاتمة، ومن الحور بعد الكور، وهم بهذا على وجل من عدم القبول. أما من ركن إلى العمل، فقد وقع في جانب من جوانب الشرك وانحرف عن الجادة، وأخذ ذات الشمال عن السكة؛ لأنه ركن إلى العمل ولم يركن إلى من ألهمه هذا العمل ومن وفقه به، فيحس باتكاله على العمل ويلجأ إليه، والله تعالى يقول: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] فلذلك إذا ركن الإنسان إلى عمله وأعجب به، أو أحس بهذا العمل وأصبح يستشعره، فكثيراً ما يبتلى بالغرور، والمغرور لا يمكن أن يكون من جند الله المفلحين الذين سيبيض الله وجوههم، وستختار لهم منابر النور عن يمين الرحمن. ثم بعد ذلك إذا استطاع الإنسان التحلي بالصبر، وحاول التحلي باليقين، بأن يكون المؤمن متنوراً بنور الله، بحيث تشرق نفسه، وتتخلى عن الأغلال بالكلية، فلا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يبغض إلا ما يكرهه الله، ولا يرضى إلا ما يرضاه الله سبحانه وتعالى من عباده، فتصبح جوارحه مربوطة برضا الله سبحانه وتعالى متعلقة به، وتصبح بصيرته نافذة وتصوره صحيحاً؛ لأن الذي يجعل الإنسان يتصور تصوراً خاطئاً، أو يتوهم الأمور فلا تمشي على وفق ما يريد، أو يتخيلها على وجه فتكون على خلافه، هو الاستتار بغشاء الذنوب، والاستتار بأقذار هذه الدنيا وأوساخها، فإذا تخلص الإنسان من ذلك بالكلية أضاءت بصيرته، وأصبح نوراً على نور، فيزده الله نوراً كما قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور:35]. وقد بين الله حال أولئك الذين يركنون إلى الأعمال وأنهم ظلام في ظلام، فقلوبهم مظلمة لاشتغالها عن الله سبحانه وتعالى وإعراضها عن الحق، وظواهرهم مظلمة لاشتغالها بالمعصية، فضرب لهم المثل، فقال في هذه السورة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:39 - 40]. نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينورنا بنوره، وأن يملكنا أنفسنا بخير، وألا يسلطها علينا بشر، اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. اللهم ارزقنا معرفة بك يا أرحم الراحمين. اللهم اشغلنا بك عمن سواك يا أرحم الراحمين. اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم استرنا بسترك الجميل اللهم استرنا بسترك الجميل اللهم استرنا بسترك الجميل. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

صلة الأرحام

صلة الأرحام شرع الله سبحانه لعبادة شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الشرائع صلة الأرحام، فمن وصلها وأدى حقها وصله الله ورضي عنه، وكان ذلك سبباً في زيادة عمره وبركة رزقه، ومن قطعها وأهمل حقها قطعه الله، وقطع نسله ورزقه.

الأدلة الدالة على الإحسان إلى ذوي القربى وصلة الرحم

الأدلة الدالة على الإحسان إلى ذوي القربى وصلة الرحم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وألزم عباده باتباعها، وحظهم على الأخذ بها إيجاباً وسلباً، فالإيجاب بالترغيب في اتباعها، والسلب في الترهيب من مخالفتها، ومن هذه الشرائع التي شرعها الله لعباده وارتضاها لهم: شريعة صلة الأرحام، إنها شريعة عظيمة، ذات مكانة عظيمة في هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.

الكفر والفجور لا يمنع صلة الرحم

الكفر والفجور لا يمنع صلة الرحم فالأرحام لابد أن تبل ببلالها، ولا يقطعها الكفر، لما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أتتني أمي بالمدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش، وكانت على دين أهل مكة، فجاءت راغبة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشاوره فيها فقلت: إن أمي جاءت راغبة وهي مشركة، فقال: صلي أمك)، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصل أمها وهي مشركة. ولذلك فسر ابن العربي وغيره قول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] قالوا: تقسطوا إليهم، أي: تؤدوا إليهم قسطاً من أموالكم، فالإقساط في هذه الآية مشتق من قسط المال الذي هو جزؤه، على تفسير ابن العربي وغيره، وسبب نزول هذه الآية قصة أسماء مع أمها. وكذلك الفجور فإنه لا يقطع صلة الرحم، حتى لو كان الإنسان مبتدعاً أو مضيعاً لما أمر الله بالحفاظ عليه، فإن ذلك لا يمنع صلة رحمه، بل يجب على الإنسان أن يصل رحمه، وأولى ما يصل به رحمه أن ينصح له، وأن يرشده إلى عدم تضييع ما أمر الله بالحفاظ عليه. ولذلك فإن حق المضيع المبتلى في دينه هو النصح؛ ليرجع إلى دينه الذي ضيعه، فقد أخرج مالك في الموطأ أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية). إن أعظم البلاء البلاء في الدين، فالإنسان المفرط المضيع الذي يقبل ويدبر في معصية الله عز وجل مبتلى بلاءً عظيماً، وبلاؤه في الدين، وشر البلية البلاء في الدين، ورحمته إنما هي بنصيحته والاقتراب منه؛ لعل المقترب يحول بينه وبين الشيطان. فالابتعاد منه لا يزيده إلا تمادياً في أمره، ولا يزيد الشيطان إلا عوناً عليه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عن أن يعينوا الشيطان على أخيهم، فلابد أن يحاول الإنسان القرب من ذوي رحمه، وصلتهم بما يستطيع، إن هذه الصلة التي بينا نحتاج إلى تعريفها، وبالأخص في مثل زماننا هذا الذي كثرت فيه الوسائل وانتشرت.

الآثار الدالة على صلة الأرحام

الآثار الدالة على صلة الأرحام وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير ابن جرير بإسناد صحيح أن عمر كان يقول: أيها الناس! تعلموا أنسابكم لتصلوا بها أرحاكم، وفي رواية: تعلموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم، فإن الرحم لا توصل إلا بالمعرفة؛ فلذلك لابد أن يتعلم الإنسان رحمه. وهذا الحق المؤكد الذي يترتب عليه صلة الله سبحانه وتعالى لمن وصله، ويترتب عليه قطيعة الله لمن قطعه، لابد أن يتعلمه الإنسان وأن يقوم به؛ لأن الإنسان لا يستغني عن صلة الله ولا يستطيع أن يقاطعه. إن من تذكر نعمة الإيمان ثم بعدها نعمة الوجود ونعمة الجوارح ونعمة التثبيت على دين الله، عرف أنه لا يستطيع مقاطعة الله سبحانه وتعالى، فإن الهواء الذي يتنفسه أثر واحد من آثار رحمة الله، والجوارح التي ينعم بها أثر واحد من آثار رحمة الله {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73] وقال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]. إن الاتصال بالله سبحانه وتعالى لا يستغني عنه الإنسان في حال من الأحوال، فأعظم عقوبة يعاقب الله بها العبد أن يلعنه أو أن يطرده عن رحمة الله، والملعون المطرود عن رحمة الله لا يمكن أن يتقبل الله منه أيّ عمل، ولا يمكن أن ينعم عليه بأية نعمة، نعم يمكن أن يرزقه، لكن يكون ذلك الرزق وبالاً عليه وحسرة يوم القيامة وندامة، لا ينعم عليه بنعمه؛ لأن النعم تشريف ولا يستحق التشريف إلا من اتصل بالله سبحانه وتعالى، أما من قاطع الله عز وجل فقاطعه الله، فأولئك هم الذين نسوا الله فنسيهم، وهم المقطوعون الذين لا يطمعون في مغفرة الله ولا في رحمته، يطردون عن رحمة الله ومغفرته، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هؤلاء القاطعون: الذين يقطعون أرحامهم في هذه الحياة الدنيا. إن أمراً كهذا نحتاج إلى تعلمه وإلى البحث عنه؛ لأن خطاب الشارع فيه صريح، ولأن الحض النبوي فيه واضح، فما أحوجنا إلى أن نتعلم هذه الشعيرة من شعائر ديننا، وبالأخص أن كثيراً من الناس اليوم قد سرت إليهم عادات الغربيين التي يزعمونها من الحضارة، ويزعمونها من الرقي والتقدم، فأخذوا بها، فقطعوا أنسابهم وهجروا أقاربهم. بل إن من المؤسف جداً أن تجد الرجل ينعم بأنواع النعم في المدينة ويكون أبوه وأمه في غاية ما يكونان من البؤس والشقاء، وهو لا يشعر بحال أبويه اللذين ربياه صغيراً وحملاه، وهما أمن الناس عليه، وأعظمهم نعمة عليه. ونتذكر قول أمية بن الأسكر رضي الله عنه وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شيخاً كبيراً قد كف بصره، وكان يسكن الطائف، وكان له ولدان رباهما أحسن تربية فصحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجا في الغزو إلى القادسية وتركاه، فأرسل بقصائده يستقدمهما، يقول في إحدى هذه القصائد: يا ابني أمية إني عنكما غاني وما الغنى غير أني مرعش فاني يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحبسها بجمدان إن ترع ضأناً فإن قد رعبتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان أوما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان ولست أهدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحباني فلما بلغت هذه القصيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص أن يرسل إليه كلاب بن أمية بن الأسكر في أسرع وقت، فأرسله سعد إلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه سأله: بم كنت تبر أباك؟ فقال: كنت أختار خير نياقنا، فأغسل ضرعها، وأغسل الإناء وأحتلبها فيه، وأمسكها عليها حتى يشرب منها ما شاء، فدعا عمر بـ أمية فأجلسه بين يديه، وأمر كلاباً أن يحتلب الناقة دون أن يخبره به، فاحتلب تلك الناقة فأمسكها عمر على أمية، فلما ذاق طعم اللبن قال: حلب كلاب ورب الكعبة، فأمره عمر أن يلزم أباه، وألا يكون منه أبعد من سجر الكلب حتى يلقى الله، ففعل ذلك. وهذا التنبيه العظيم من أمير المؤمنين رضي الله عنه ينبه به الأبناء على أهمية الوالدين، فإنهما إذا خرجا من هذه الدنيا وماتا لم يستطع الإنسان برهما، ولم يمكنه أن يستغني عما كانا يقدمان له، أتذكر أن أحد الدعاة المشاهير كانت له أم هو بها بر، وكانت امرأة صالحة كثيرة الدعاء والصدقة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، فلما ماتت، قال لإخوانه: إنه كانت لي أم كنت أترك بسبب دعائها، وكنت أمهل بسبب صدقتها، وإن الله قد أخذها إليه، فدعوني أتعبد لله وأتحصن؛ فإنني كنت أترك في مقابل ما كانت تلك الأم تقدمه. كذلك ما زاد على هذا من الأرحام الذين بين الله ولايتهم في قوله تعالى: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6]. فالذين هم أولياء بعض ينبغي أن يتعرف بعضهم على بعض، وأن يقوموا بحقهم وألا يهملوه، وينبغي ألا يغتر أحد بالحفاوة الدنيوية؛ فإن الإنسان يمكن أن يسامح قريبه في هذه الدنيا في حقه، لكنه إذا جاء يوم القيامة حافياً عارياً أغرل ليس مع أحد حينئذٍ إلا عمله لا ترجى منه المسامحة. فإذا جاء في ذلك الوقت، ورأى الحق بعيني رأسه، وزالت عنه الغمرة، وكان بصره يومئذ حديداً لا يمكن أن يسامح في حقوقه، فالأنساب قد انقطعت كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:101 - 104]. إن هذه الصلة لابد أن تبل ببلالها، وقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين، لكن لهم رحم أبلها ببلالها).

الأحاديث التي تذكر بصلة الرحم

الأحاديث التي تذكر بصلة الرحم كذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عنه في صلة الرحم عدد كبير من الأحاديث الصحيحة، منها ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق، فلما فرغ من خلقهم قامت الرحم فأمسكت بساق العرش، فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله تعالى: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ فقالت: بلى. فقال: ذلك لكِ)، هذا ضمان من الله عز وجل للرحم أن يصل من وصلها وأن يقطع من قطعها. وكذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه). وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في وصفه أنه كان وصولاً للرحم، فقد أخبرته خديجة بذلك عندما أرادت تثبيته عند أول نزول الوحي، فقالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). وكذلك قال ابن الدغنة لـ أبي بكر رضي الله عنه حين لقيه مهاجراً إلى أرض الحبشة، حين آذاه قومه بمكة، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى أرض الحبشة، فأذن له بذلك فخرج مسافراً فلقي ابن الدغنة وكان سيد القارة، فلما لقيه قال: إلى أين يا أبا بكر! فقال: أسيح في الأرض أعبد ربي، فإن قومي منعوني ذلك في دارهم، فقال: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، ولكن ارجع إلى دارك فكن فيها فاعبد ربك، فإنك جار لي، فرجع معه ابن الدغنة حتى أتى مجالس قريش من المشركين، فكان يقول: إن أبا بكر مثله لا يخرج ولا يخرج، فإنه ليصل الرحم، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، وإنه جار لي، فأقرته قريش على ذلك، فكان أبو بكر يصلي بمكة لا يخاف أحداً. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على تعلم الأنساب لصلة الأرحام، فقد أخرج الحاكم في المستدرك وابن حبان في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم، فإن تعلم الأنساب معين على صلة الأرحام). ولذلك جاء في لفظ هذا الحديث عند الحاكم: (فإن الرحم إذا قربت كانت قريبة ولو بعدت، وإذا بعدت كانت بعيدة ولو قربت). والمقصود ببعدها وقربها في الجملة الأولى تعلمها، فإذا عرف الإنسان رحمه إلى إنسان معين، فإنه سيتخذ تلك الرحم قريبة حتى لو كانت بعيدة من ناحية النسب، وإذا لم يعرف النسب إليه كانت الرحم بعيدة حتى لو كان قريباً منه جداً كابن عمه أو ابن خاله، فلهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإرشاد العظيم.

الآيات التي تذكر بصلة الرحم

الآيات التي تذكر بصلة الرحم فقد قال الله تعالى في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. فقراءة الجمهور: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيباً) وتفسيرها: اتقوا الله، واتقوا الأرحام الذي تساءلون به، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها وصلوها. وقراءة حمزة الكوفي: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً)، أي: الذي تساءلون به وتساءلون أيضاً بالأرحام، فإن الناس يقولون: أنشدكم الله والرحم، والمقصود بذلك: أذكركم الله وأذكركم الرحم، وذلك لما لها من المكانة والهيبة. وعرف ذلك من القراءتين معاً من قراءة النصب وقراءة الجر، فكلتاهما تدل على مكانة الرحم في الإسلام، سواءً كانت مما يتقى أو كانت مما يتساءل به، فكلا الأمرين ذو حرمة ومكانة عظيمة. ثم إن الله سبحانه وتعالى توعد في الجانب السلبي الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وعيداً شديداً، ومن أبلغ ذلك ما جاء في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، فهذا وعيد شديد في حق قاطع الرحم. وقد أمر الله سبحانه وتعالى بصلاة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى في كتابه في آيات كثيرة، وعطف ذلك على الإيمان به سبحانه وتعالى فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36]. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24] إلى أن قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26]. وبين الله سبحانه وتعالى دخول صلة الرحم في البر، فقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة:177]، إن أمراً بدئ به قبل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في الإسلام لأمر عظيم. وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى بين الوعد العظيم الذي وعد به من يصل ما أمر الله به أن يوصل، فقال في سورة الرعد: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21]، وبين كذلك في المقابل ما في قطيعة الرحم من النكس والرجوع إلى الأعقاب، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فبين سبحانه وتعالى موعظته للمؤمنين بما أمر به. ووعظ الله لعباده ينقسم إلى قسمين: إلى وعظ بالأوامر والنواهي. وإلى وعظ بالتذكير والتخويف. وقد جمعت هذه الآية بين الأمرين معاً، ففيها وعظ بالأوامر والنواهي في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، وفيها كذلك الوعظ بالتخويف في قوله: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فهذا بيان للتذكير ببأس الله الشديد، وبما عنده من المخوفات التي يخوف بها من خالف أمره. إن الآيات في صلة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى كثيرة في كتاب الله عز وجل، وهي متنوعة تنوعاً عظيماً؛ يدل على العناية بهذا الأمر الذي أنزل الله فيه عدداً كبيراً من آيات كتابه.

تعريف صلة الأرحام

تعريف صلة الأرحام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده شرائع الدين، وأكدها وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وألزم عباده باتباعها، وحظهم على الأخذ بها إيجاباً وسلباً، فالإيجاب بالترغيب في اتباعها، والسلب في الترهيب من مخالفتها، ومن هذه الشرائع التي شرعها الله لعباده وارتضاها لهم: شريعة صلة الأرحام، إنها شريعة عظيمة، ذات مكانة عظيمة في هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.

معنى الصلة لغة وشرعا

معنى الصلة لغة وشرعاً إن الصلة في اللغة تشمل كل اقتراب، فتشمل الزيارة والحديث والكلام والإهداء والتلطف وغير ذلك، فكل هذا يدخل في الصلة في اللغة. وقد عرف البخاري صلة الرحم فقال: هي تشريك الإنسان قرابته فيما أوتي من أنواع الخيرات. تشريك الإنسان قرابته: أي الذين بينه وبينهم قرابة، وهذا يشمل ما كان من الرحم وما كان من المصاهرة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل نسب الآدمي رحماً وصهراً. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً في قوله: (ستفتحون أرضاً اسمها مصر، وهي أرض يذكر فيها القيراط، فإذا فتحتموها فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم نسباً وصهراً)، وفي رواية: (رحماً وصهراً)، وهذا يقتضي تشريك الإنسان ذوي قرابته في كل ما أوتي من أنواع الخيرات. فإن كان الإنسان قد أوتي مالاً فتشريكه لذوي رحمه في ماله من صلة الرحم، وإن كان أوتي علماً فتشريكه لذوي قرابته فيما أوتي من العلم من صلة الرحم، وإن كان أوتي جاهاً فتشريكه ذوي قرابته في جاهه من صلة الرحم، وإن كان أوتي عقلاً فتشريكه لذوي قرابته في الرأي والتسديد والنصيحة هو من صلة الرحم، وهكذا فكل خير أوتيه الإنسان فإن تشريكه لذوي قرابته فيه هو من صلة الرحم التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.

تحديد ذوي الأرحام

تحديد ذوي الأرحام يبقى بعد هذا تحديد الرحم، وتحديد الرحم لأهل العلم فيه أقوال كثيرة، فأشهر هذه الأقوال أن الرحم درجتان: الدرجة الأولى: ما يجب وصله؛ وهو الرحم الوارث الذي يرث، سواءً كان ذلك بالفرض أو بالتعصيب، فهذا الرحم تجب صلته قطعاً، فرضاً عينياً على كل إنسان، فيشمل ذلك الآباء والأبناء إلى منتهاهم: ارتفاعاً واستفالاً، ويشمل كذلك فروع هؤلاء إذا قربت، ويشمل كذلك الكلالة عند حصول الكلالة، أي إذا لم يكن للإنسان أصل ولا فرع وارث، ففروع أجداده إلى منتهاهم. فهذه إذن هي الرحم المؤكد صلتها، وهي الرحم التي يرث صاحبها. والمرتبة الثانية: هي ما عرفه الإنسان من نسبه مما يصله بغيره، فكل من عرفت النسب بينك وبينه فهو ذو رحم منك، حتى لو بعد ذلك النسب، ولكن القسم الأول آكد من القسم الثاني.

صلة المقاطع من الأقارب

صلة المقاطع من الأقارب ولا يقطع هذه الصلة أن يكون ذو الرحم كاشحاً، أي: حاسداً مقاطعاً، بل ذلك مما يزيد الأجر، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل من يقطعه)، فالواصل هو الذي يصل من يقطعه من أرحامه، وليس الواصل المكافئ الذي إذا أحسن إليه ذو رحمه أحسن إليه في المقابل، فهذا مكافئ فقط وليس واصلاً. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتاه فقال: (إن لي أقارب أحسن إليهم فيسيئون إليّ، فقال: إن كنت صادقاً فيما تقول فإن الله تعالى سيورثك دارهم)، والمقصود بذلك أن ذا الرحم الكاشح إذا أساء إلى رحمه فإن صلته تقتضي استمرار نسله، وطول عمره، وقطيعتهم للرحم تقتضي قرب آجالهم، وانتقاص ذريتهم، فلذلك سيرثهم هو، قال الزبيري وهو من مشاهير النسابين من قريش: قد جربنا ذلك في أنساب قريش، فما من بيت كان أهله يصلون الرحم إلا استمرت ذريتهم، وطالت أعمارهم، وما من بيت اشتهر أهله بقطيعة الرحم وعدم الصلة، إلا قصرت أعمارهم وانتفت ذرياتهم. ومن القصص العجيبة في هذا الباب أن رجلاً من بني هاشم خرج مع رجل من بني جمح في عير له أجيراً عليه وعسيفاً، فلما كان في طريق الشام مر به قريب له، فسأله حبلاً فأعطاه إياه، وكان الحبل لصاحب العير، فسأله صاحب العير عن الحبل فقال: أعطيته قريباً لي! فضربه بعصاً على رأسه ففت بها دماغه، فتركه مسجاً بثوب على حافة الطريق وهو يجود بنفسه، فمر به ركب من أهل مكة، فقال: إذا أتيتم الحرم فاسألوا عن أبي طالب، فقولوا له: إن أخاك قد قتله فلان بعصاه في فضل حبل، فلما أبلغوه ذلك غضب أبو طالب وبنو هاشم لهذا الأمر، وقال أبو طالب فيه شعره المشهور الذي يقول فيه: أفي فضل حبل لا أبا لك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا فلما رجع إليه سأله عن ذلك فأنكر، فتحاكموا إلى حكيم، فلم يرض أبو طالب إلا بالقسامة، وهي: أن يحلف له خمسون منهم خمسين يميناً عند الكعبة ما قتلوه، فأتى منهم خمسون ليحلفوا، فجاءت امرأة من بني هاشم وهي أميمة أخت أبي طالب، فافتدت ولدها طليباً بخمس أبعرة، فقالت: إن هذا منابه من الدية، فأنا أعطيك إياها فلا تحلفه، فلم يحلفه وحلف الآخرون، فلم تمض سنة حتى مات أولئك جميعاً، وورثوا بالقعدد، ولم ينج منهم إلا طليب وحده الذي لم يحلف. إن هذه الصلة من ناحية النسب كما ذكرنا تكون في هذين المقامين: في المقام المؤكد الذي هو الرحم الوارث، وفي المقام الذي دونه، وهو الرحم الذي يعرف الإنسان النسب بينه وبينه.

صلة الأرحام من جهة المصاهرة

صلة الأرحام من جهة المصاهرة أما الصلة من ناحية الصهارة فهي أقل من ذلك، فأصهار الإنسان أقارب الزوج أو أقارب الزوجة يدخلون في هذا الرحم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل النكاح سبباً لحصول الرحمة والشفقة، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فهذه المودة والرحمة التي تحصل بسبب الصهارة مقتضية للصلة والإحسان. ولذلك صح في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح شاة قال: أرسلوها إلى أصدقاء خديجة)، وكان صلى الله عليه وسلم يحسن إلى أقارب خديجة، فقد كان ذات يوم مضطجعاً في فراشه يريد أن ينام، فدخلت امرأة فسمع سلامها فتهلل، وقام مرحباً بها، فسئل عن ذلك، فقال: (إنها كانت تأتينا في زمان خديجة). وفي حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها حين هجرت عبد الله بن الزبير ابن أختها ذهب فأتاها بقوم من وجوه بني زهرة -وكانت عائشة ترحمهم وتحنو عليهم لمكانهم من النبي صلى الله عليه وسلم، فبنوا زهرة أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فرضيت عنه بشفاعتهم. وكذلك ما يتعلق بالبعد في المسافة، فإن الرحم إذا ابتعدت عن الإنسان فإن صلته لها ستكون بحسب الذكر والقدرة، وبحسب ما يتمكن للإنسان، ولذلك أخرج ابن هانئ في مسائله: أن رجلاً أتى الإمام أحمد بن حنبل، فقال: إن لي رحماً، وإني مرابط في الثغر، وإنه في مكان ناء قاص، أترى أن أذهب إليهم فأصلهم أم أرجع إلى الثغر الذي كنت فيه فأحمي ثغور المسلمين؟ فقال له أحمد: استخر -أي: صل الاستخارة- ثم قال له: اذهب إلى ذوي رحمك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشد من استأمره في الجهاد، فقال: (ألك والدان؟ فقال: نعم، قال: فيهما فجاهد)، فدل هذا على تقديم صلة الرحم. وقال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن أحب الأعمال إلى الله: (إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ أو قال: ثم مه يا رسول الله؟ قال: صلة الرحم)، فهي التي تلي الإيمان بالله في حبها إلى الله سبحانه وتعالى، فإن أحب الأعمال إليه الإيمان به ثم صلة الرحم. والذين يصلون الرحم بالمال فقط دون أن يصلوهم بالسؤال أو الزيارة أو المحادثة أو التلطف، هؤلاء وصلهم ناقص، فإنهم لم يؤدوا الحق في كل ما افترض عليهم الحق فيه، ولذلك لابد من إشراك ذوي الرحم في جميع ما أوتي الإنسان من أنواع الخيرات، فيشمل ذلك الوقت والزيارة، وكثير من الأرحام صلتها ليست ببذل المال لها، فقد يكون ذو الرحم غنياً عنك، ولكن الصلة بالزيارة والسؤال عن الحال والاتصال، حتى يشعر بأن تلك الرحم مؤداة الحق وأنك لا تمل الاتصال بها، فإن شعور ذي الرحم بالملل مدعاة لخبث النفس، ولذلك يقول صخر بن عمر الشريدي: أرى أم عمر لا تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني وأيّ امرئ ساوى بأم حليلة فلا عاش إلا في شقا وهوان فعلينا أن نراجع أنفسنا، وأن نحاسبها في معاملة ذوي الأرحام، ففي واقعنا هذا نجد أن كثيراً من الناس يقطعون أرحامهم بالكلية، فيحبون أن لا ينسبوا إلى أحد، وأن لا ينتسب إليهم أحد، وأن لا تكون بينهم وبين أحد من أقاربهم علاقة، فيقطعون أشد الناس حقاً عليهم من الوالدين والإخوة والأخوات ويهجرونهم بالكلية! وما ذاك إلا خشية أن يشركوهم في شيء مما آتاهم الله، وهذا نظير الوأد الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه.

حقوق ذوي الأرحام

حقوق ذوي الأرحام ومثل ذلك ما يفعله بعض الآباء والأمهات من التفريط في حقوق الأولاد، وعدم الاطلاع على ما في نفوسهم وما يدور في خلدهم، وعدم مشاورتهم في الأمر، واستصغارهم في كل الأمور، فهو من قطيعة الرحم. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن فاطمة بضعة مني، يريبني ما يريبها، ويريبها ما يريبني)، وفي حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: (ألا إن فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني، ومن أغضبني فقد أغضبها)، فهذا يقتضي عناية الوالد بأولاده، والتقرب إليهم ومعرفته بأحوالهم وما يحبون ويبغضون، وقيامه بهذا الحق، وهذا الذي يقتضي من الأولاد كذلك الحرص على بر الوالدين.

صلة الرحم صدقة وصلة

صلة الرحم صدقة وصلة فالقريب أولى؛ لأن في ذلك صدقة وصلة، ولهذا جاءت زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة من ثقيف وابن مسعود ليس قريباً لها فهو من هذيل، فجاءت هذه المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله عن صدقتها على زوجها ابن مسعود، وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين خرجوا من أموالهم لله عز وجل، ولم يصحب من ماله إلا سيفه الذي هاجر به من مكة. فجاءت امرأته تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صدقتها عليه أفيها أجر قال: (بل أجران، هي صدقة وصلة)، فلذلك فإن صدقة المرأة على زوجها هي صدقة وصلة. وكذلك ما يهديه الرجل لامرأته وما يدفعه إليها مما آتاه الله من المال إذا نوى به الأجر فهو عظيم الثواب عند الله، ولهذا أخرج الشيخان في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك، أي: في فمها، فهو صدقة كذلك) أي: يعتبر أجراً عند الله سبحانه وتعالى. ومثل ذلك إحسان الإنسان إلى أقاربه مطلقاً، حتى لو كان لديه من هو أقرب منهم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مخرمة أتاه فسمع صوته والنبي صلى الله عليه وسلم يقسم أثواباً أتته، فلما سمع صوت مخرمة أمسك ثوباً عنده، فلما دخل عليه رماه بين يديه فقال: (أرضي مخرمة؟ أرضي مخرمة؟)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يداريه، أي: يسترضيه، وكان شيخاً كبيراً قد كف بصره، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغضب عليه إذا وزع الأثواب ولم يعطه ثوباً، وكان بينه وبينه رحم، فهو من بني نوفل بن عبد مناف والنبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم بن عبد مناف. وكذلك فإن القريب إذا كان محتاجاً فإن الأجر في صلته مضاعف، كما إذا كان القريب مريضاً فقيراً يحتاج إلى خدمة، فإن زيارتك له تؤديها بنيات كثيرة تثاب على كل نية بثواب عمل كامل، فنية الصلة وحدها تأتي بعمل كامل، ونية عيادة المريض، ونية المواساة، ونية خدمة المحتاجين، ونية التوسعة على الفقراء، كل هذه النيات يثاب عليها الإنسان بثواب عمل كامل عند الله سبحانه وتعالى، يضاعفه إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء. وكذلك إذا قصدت الصلة من بعيد، فإن الخطى التي تسيرها تكتب في ميزان حسناتك، ويشهد لك كل ما تمر به من ذرات الهواء والتراب، وقد جاء عن فاطمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من خطوة بعد الجهاد في سبيل الله هي أحب إلى الله من خطوة في صلة الرحم)، فالخطوة أي: المسير الذي يسيره الإنسان. وإن كثيراً من الناس قد تعترضه المشاغل والمشكلات الكثيرة، فتحول بينه وبين زيارة أقاربه فعليه أن يجعل لذلك أمداً ووقتاً يزورهم فيه وأن لا يقطعهم بحال من الأحوال، فإن استطاع أن يجعل ذلك أسبوعياً فبها ونعمت، وإن لم يستطع فليجعلها في كل خمسة عشر يوماً، فإن لم يستطع ففي كل شهر، وعلى الأقارب أن يساعد بعضهم بعضاً في الزيارة. فلتكن زيارتهم متبادلة، فإذا كان هذا يزور في هذا الأسبوع، فالآخر يزور في الأسبوع الذي يليه وهكذا، حتى يقع التعاون على البر والتقوى ويقع التكامل، فلكل واحد منهما من الحق ما عليه. نعم لكبار السن من الحق ما ليس عليهم، وللعجزة من الحق ما ليس عليهم.

صلة الرحم لا يمنعها عدم المحرمية

صلة الرحم لا يمنعها عدم المحرمية وصلة الرحم لا يمنعها عدم المحرمية، بل على الإنسان أن يزور قريباته، حتى لو لم يكن محارم له، فإن كان للإنسان بعض النساء اللواتي بينه وبينهن رحم لكنه ليس محرماً لهن فإن ذلك لا يمنع زيارته وصلته، بل عليه أن يزورهن وأن يتفقد أحوالهن وأن يقدم لهن بعض ما آتاه الله من أنواع الخيرات في أي مجال من المجالات. وقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يذهبان إلى أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزورانها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فأتياها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جلسا إليها وسلما بكت أم أيمن بكاءً شديداً، فقالا لها: وما يبكيك؟! أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا؟! فقالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسوله من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فأبكتهما فبكيا بكاءً شديداً حتى قاما. فكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور مليكة أم سليم وكانت قريبة لـ عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عبد الله بن عبد المطلب أبوه عبد المطلب وأمه سلمى بنت صخر بن عمر النجارية وهي ابنة عم مليكة أم سليم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور تلك العجوز في بيتها ويصلي لها في بيتها ويدعو لها.

وجوب صلة ذي الرحم ولو كان مبتدعا

وجوب صلة ذي الرحم ولو كان مبتدعاً إن الذين يريدون سلوك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته عليهم أن يصلوا أرحامهم، والجفوة التي نشهدها بين كثير من الشباب الذين يتسننون ويأخذون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبين أرحامهم، دليل على نقص الفقه في السنة. فلو كان أولئك من المتضلعين بالسنة لوصلوا أرحامهم ولما قطعوها، حتى لو كان ذوو أرحامهم من المبتدعة، فإن ذلك لا يقتضي قطيعة الرحم، بل لابد أن يصلوا رحمهم حتى لو كان الرحم مبتدعاً؛ ليتخلقوا بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، وليهتدوا بهديه. فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم (أنه عندما قفل من غزوة بدر نزل بفج الروحاء أو بالصفراء، فأمر علي بن أبي طالب أن يضرب عنق النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبراً، ففعل، فأتاه كتاب من قتيلة أو نتيلة ابنة النضر أو أخته من مكة فيه هذه الأبيات: يا راكباً إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ به ميتاً بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق هل يسمعنَّ النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق صبراً يقاد إلى المنية متعباً رسف المقيد وهو عان موثق أمحمد يا خير ضيء كريمة في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت فربما منَّ الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فلنأتين بأعز ما يغلو لديك وينفق فالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق فلما قرئت الأبيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم دمعت عيناه، وقال: لو أتتني هذه الأبيات لأرسلته إليها برمته)، أي: بحبله الذي فيه، فهو امرؤ مشرك كافر، وكان محارباً لله ورسوله، ومع ذلك رق له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استنشد بالرحم. إن من أراد التسنن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يصل أرحامه، وأن يسعى لاستصلاحهم وانتصاحهم، وأن لا يقاطعهم، فليست مقاطعتهم بعلاج لما هم فيه من المخالفة للهدي النبوي، كذلك فإن على الذين أنعم الله عليهم بنعم لم تكن لدى من مضوا من أسلافهم، أن يعلموا أن قيد هذه النعم بشكرها، وإن من شكرها أن يصلوا أرحامهم بها، وعليهم أن يستشعروا نعمة الله عليهم، فليتذكروا حال أسلافهم وأجدادهم، وما كانوا فيه قبل أن يفتح الله عليهم ما فتح من أبواب الدنيا. وليتذكروا كذلك أن الدنيا لا تدوم على حال، وأنها عرض زائل، وأن كل ما فيها إلى زوال، فما أعجل انقطاعها وانصرامها، فعلى من أوتي بعضها أن لا يغتر به، وأن يعلم أنه امتحان امتحنه الله به، وأنه إذا جعل الله الدنيا تحت يد البخيل، فإنه سرعان ما يذهب الله بها، كحال التراب الذي على الصخر عندما يأتيه المطر الشديد فيذهب به، كما ضرب الله بذلك مثلاً لحال الغني البخيل بالصخرة الصماء التي يجتمع عليها التراب، فيأتي المطر فيذهب به، فتبقى خالية ليس عليها شيء من التراب. فعلى هؤلاء أن يتذكروا أن الله سبحانه وتعالى امتحنهم بما جعل تحت أيديهم، وبالنعمة التي آتاهم، فعليهم أن يشركوا فيها أقاربهم، وأن يعلموا أن الصدقة على القريب صدقة وصلة، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: والله لدرهم أنفقه على قريب لي أحب إليّ من عشرة أتصدق بها على معدم، ولعشرة أعطيها قريباً لي أحب إليّ من مائة أتصدق بها على معدم.

البر بالوالدين والإحسان إليهما

البر بالوالدين والإحسان إليهما وكذلك على الولد أن يفعل ما أمر الله به من التأدب فيما يتعلق بحق الوالدين، من خفض جناح الذل لهما من الرحمة، فيكون بين يديهما مأموراً ينتظر الأمر، ويحب أن يؤمر بأيّ أمر حتى لو كان شاقاً؛ ليبادر إليه، فهذا هو سبب دخول الجنة، وهو الذي أرشد الله إليه، وبين في كتابه عظمه وأهميته، حيث عطفه على الإيمان به {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وفي الآية الأخرى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وغير ذلك من الآيات الصريحة في هذا الأمر. فهذه كلها تقتضي أن يخفض الولد جناح الذل من الرحمة لوالديه، وأن لا يخاطبهما إلا بأبين عبارة، وأن لا يرفع عليهما الصوت، وأن يكون ذليلاً بين يديهما، يأمرانه بما يشاءا، فهذا الذي ينبغي للولد أن يكون عليه مع والديه. وإذا كان الأمر كذلك تحسس الولد ما يرضي والده، وبحث عنه حتى ولو لم يأمره به، وتحسس كذلك ما يغضب والده، فيفر منه ويجتنبه حتى ولو لم ينهه عنه، وإذا حصل ذلك حصل التآلف في الأسرة، واجتماع الكلمة، وحصل فيها من محبة بعض أفرادها لبعض الشيء الكثير. وقد رأينا عجباً من هذا، فقد رأيت رجلاً كان يسكن في هذه المدينة وكان من التجار، وكان أبوه شيخاً كبيراً هو سيد قبيلته، وكان الولد من أصغر أولاده، لكنه كان أبرهم به، فكان الولد يسارع إلى كل ما فيه بر لوالده، فيقول الوالد: إنه يسبقني إلى مرادي، فيأتي بالشيء الذي أريده قبل أن أفكر فيه؛ وهذا من شدة بره به. وكان الوالد بعد هذا إذا رأى أحداً من أصدقاء ذلك الولد قام بخدمته؛ من شدة محبته لذلك الولد، وكان الوالد كحال شيوخ أهل البادية، قد لا يفهمون أو لا يستوعبون كثيراً من أمور الدعوة أو كثيراً من تفاصيل الأمور، لكنه كان إذا قيل له: إن ابنك محمد محمود في هذا الأمر، قال: محمد محمود لن يكون إلا فيما هو خير في الدنيا والدين. وقد توفى الله هذا الرجل -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- فكان أبوه بعد ذلك إذا رأى أحداً من الذين كانت بينه وبينهم علاقة يقول: هذا من أصحاب محمد محمود، ومحمد محمود لا يصحب إلا الصالحين، كان أبوه يشهد له بهذا فيما بعد. وهذا يدلنا على أن الخلاف الذي يحصل بين الوالد وولده سببه نقصان البر، فإن كان الولد براً بوالده فسيحب له ما يحب، وسيبادر إلى مرضاته، والتأثير في عقلية الوالدين ميسورة سهلة، فقد جبلهما الله على الرحمة، لكن على الولد أن لا يتعجل، وأن لا يبادر إلى المخالفة، بل عليه أن يتقرب إلى الوالدين، وأن يجعل نفسه أشد أولادهم براً، وإذا حصل على ثقتهما فلن يخالفاه في أيّ شيء يريده بعد ذلك.

صلة الأرحام مما تتوارثه بعض الأسر

صلة الأرحام مما تتوارثه بعض الأسر والبر من الأمور التي تتوارث في الأسر، فإذا كان الإنسان براً بوالديه فسيبره أولاده، ويستمر ذلك البر متوارثاً في السلالات، ونسأل الله السلامة والعافية، ففي المقابل إذا كان الإنسان عاقاً لوالديه فسيعقه أولاده، وقد جرب ذلك وحصل. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى شاباً ملوي اليد، قد يبست على الالتواء، فسأله فقال: ما ليدك هذه؟ قال: دعوة أبي، فقال: ماذا قال؟ فأنشده أبياتاً لوالده يقول فيها: وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه فأخرجني منها لقىً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه فتحققت فيه دعوة أبيه، ويبست يده ملوية، وكذلك فإن بعض السلالات اشتهرت بالبر، ومن ذلك البيت النبوي الشريف، فإن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم اشتهر فيهم بر الوالدين واستمر ذلك فيهم، وكان من صفاتهم التي يعرفون بها، فقد كان كثير منهم يتخفى في أيام الفتن؛ لكثرة متابعات الناس لهم ومقاتلتهم لهم، لكن كان الناس يعرفونهم بالبر والازدياد فيه والمبالغة فيه. وقد ذكر ذلك عدد من الذين ذكروا صفات أهل البيت من المؤلفين، فقد اشتهر ذلك فيهم، حتى إن بعضهم كان يصرح به، فقد صح عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون بالبر وصلة الرحم، فهي من صفاتهم المشهورة المعروفة، ولا غرابة في ذلك، فهم أهل بيت ليس عهدهم في ذلك بقديم، فهذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي وصفه بها كل من عرفه. ولذلك فإنها -أي: صلة الرحم- من أوائل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه ويأمر به، فقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب أنه كان في قوم من قريش، وكانوا تجاراً في الشام، في المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وكفار قريش، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فسلمه إلى صاحب بصرى ليسلمه إلى هرقل، فلما أتاه كتابه سأل: هل بالشام أحد من قريش؟ فدل على أولئك الركب، فأتي بهم، فجمع وجوه الروم في قصر له، وأمر بأبوابها فأغلقت، ثم سألهم فقال: أيكم ألصق نسباً بهذا الرجل؟ قال: أبو سفيان فقلت: أنا ألصقهم نسباً به، فقال: أدنوه عندي واجعلوا أصحابه وراء ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إذا كذب فكذبوه، قال: فسألني اثني عشر سؤالاً عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما سأله عنه أن قال: فبم يأمركم؟ قال يأمرنا بالصدق والبر والصلة، وأن نعبد الله وحده ونترك ما يقول آباؤنا. فمن أول ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه الصلة، فهي إذاً كانت قديمة في دعوته صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يعرفون دعوته بأنها دعوة صلة.

صلة الرجل أهل ود أبيه

صلة الرجل أهل ود أبيه وكذلك فإن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل بقي عليه بعد موت والديه شيء من برهما؟ فأخبره بخمس فقال: نعم، أن تصلي عليهما، وأن تستغفر لهما، وأن تنفذ عهودهما، وأن تصل أرحامهما، وأن تصل ذوي ودهما)، فهذه خمسة أمور تبقى بعد موت الوالدين من برهما. وقد صح في الصحيحين عن ابن عمر (أنه كان في طريقه بين مكة والمدينة، فأتاه أعرابي فأعطاه ابن عمر حماراً له كان يركبه، وعمامة له كان يستظل بها من الشمس، فقال ابن دينار وهو مولى ابن عمر راوي الحديث عنه: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن! إنهم الأعراب وإنهم يرضون بأقل من هذا، فقال ابن عمر: إن أب هذا كان صديقاً لـ عمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من أبر البر أن يصل الولد -وفي رواية: الرجل- ذوي ود أبيه)، أي الذين كان بينهم وبين أبيه ود، فمن أبر البر أن يصلهم ولده. وهذا لا يختص بالوالد الذكر، بل يشمل كل والد والأم داخلة في عموم الوالد؛ وهكذا آباؤها وأمهاتها. فالصلة أصلها للرحم، والرحم في الأصل مكان الولد من الأم، فالأرحام من جهة الأمهات في الأصل أكثر دخولاً في صلة الرحم من الأرحام من جهة الآباء، ولهذا كان العرب يفرقون في النسب بين الظهر والبطن، أو بين الظهر والرحم، فالأرحام قد تطلق على أقارب الأم فقط؛ لأن الولد خرج من رحم أمه، والرحم مشتق من ذلك.

اغتنام صلة الأرحام قبل الانقطاع عن الدنيا

اغتنام صلة الأرحام قبل الانقطاع عن الدنيا على الإنسان الذي يعلم أن مدة بقائه في هذه الحياة الدنيا قليلة، وأن انتقاله عنها سريع، أن يصل أرحامه قبل أن ينقطع عنهم انقطاعاً لا يجتمع معهم بعده، إلا في الجنة أو في النار، نسأل الله السلامة والعافية. وفي هذا يقول أحد الحكماء: وصل حبيبك ما التواصل ممكن فلأنت أو هو عن قريب ذاهب إما أن تذهب أنت وإما أن يذهب هو، فأنت أو هو عما قريب ذاهب. كذلك على الإنسان أن يعلم أن فرصه في صلة الرحم قليلة وستنقطع، فأنت الآن بالإمكان أن تذهب وتزور، وبالإمكان أن تجد فراغاً في الوقت لصلة الرحم، وبالإمكان أن تقدم جزءاً من مالك في صلة الرحم، لكن سيأتي وقت لا تجد فيه ذلك، فعليك أن تنتهز هذه الفرصة لهذا العمل الصالح المبارك، الذي يزيد في العمر ويبارك في الرزق ويعمر الديار، فقد جاء في حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في الأعمار وتعمر الديار وتكثر الأموال والأولاد، فهي سبب لكل هذه النعم العظيمة. فعلى الإنسان أن يبادر إليها قبل أن يفوت الأوان، وأن يعلم أنه ليس بالإمكان دائماً أن يفعل ذلك، فلهذا على الإنسان أن يتذكر أن الصنيعة قد لا تتأتى في كل الأوقات، فليس كل وقت يتأتى للإنسان فيها أن يصل رحمه أو أن يفعل معروفاً، فإذا وجد ذلك فليبادر إليه، وإذا وجد محتاجاً يمكن أن يقدم إليه خدمة فليبادر إلى ذلك، وليعلم أنها امتحان من الله تعالى، كما قال الحكيم: واشكر فضيلة صنع الله إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات فالإنسان إذا كانت الحاجات إليه لا له فقد أكرمه الله بنعمة عظيمة ينبغي أن يبادر لشكرها، وأن يعلم أنه ممتحن بها، كحال الثلاثة الذين امتحنهم الله بالملك الذي أرسله إليهم، وهم: الأقرع والأبرص والأعمى، وقصتهم مشهورة معروفة قد حدثنا بها أكثر من مرة.

من عواقب قطيعة الرحم

من عواقب قطيعة الرحم علينا أن نصل أرحامنا، وأن نعلم أن كثيراً من الضيق في الرزق، ومن نقص البركة في العمر، ومن عدم الارتياح والطمأنينة في الوظائف والأعمال سببه عدم أداء حق الرحم، وقد سمعت من بعض العقلاء في هذا البلد أنه جرب تجربة، وهي أن كل موظف أنفق راتبه الأول في صلة أرحامه سيبارك في راتبه ولن يبتلى بالديون بعد ذلك، وأن كل من لم ينفق راتبه الأول في صلة أرحامه قل ما يبارك له في راتبه، وقد ذكر أمثلة كثيرة من ذلك في واقعه وفي الذين يعرفهم. فلا شك أن صلة الرحم سبب للبركة مطلقاً، فلذلك ينبغي للإنسان أن يعلم أن كثيراً مما يعانيه من عدم استجابة دعائه، أو من تأخر نجاحه في الامتحان، أو من التضييق عليه في الرزق، أو من عدم وجود الأولاد أو الزوج الصالح، أو غير ذلك من النعم، إنما تحبس بتأخره عن صلة رحمه، فليتعاهد رحمه وليبادر لصلته، فإن ذلك سبب لفتح الأغلاق. كان رجل من الأنصار عاقاً بأمه، فلما أدركه الموت عرضت عليها الشهادتان فامتنع ولم يستطع أن ينطق بهما، فاشتد ذلك على الناس، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبروه بشأنه، فدعا أمه فسألها أن تغفر له وأن تسامحه، فامتنعت من ذلك، فأمر بنار فأوقدت، ثم قال: احملوه فارموه في النار، فلما رأته أمه يحمل إلى النار رحمته فسامحته وغفرت له، فحينئذٍ انطلق لسانه بالشهادتين، فما زال يكررهما حتى مات. إن أمراً يحول بين الإنسان وبين النطق بالشهادتين لأمر عظيم، وبالأخص عند الموت والاحتضار، كذلك فإن كثيراً من الذين يخالطهم الإنسان ويعايشهم قل ما يسلم من الحيف عليهم والجور، فعليه أن يحاول استرضاءهم قبل أن يخاصموه بين يدي الله. وقد حدثني رجل من العلماء والمعروفين بالصلاح في جزيرة العرب، أن أمه كانت امرأة صالحة قوامة صوامة، وكانت تخدمها جارية، فكانت ربما أساءت إليها، وهو لا يعلم إلا خيراً لا يعلم ذلك، فلما ماتت أمه رأتها جارة لهم من الصالحات في النوم، فقالت: اذهبي إلى ابني عبد الرحمن فأخبريه أني بخير وأني ما لقيت ضرراً إلا من فلانة، فقد كنت أسأت إليها فليسترضها عني، قال: فجاءتني المرأة تطرق عليّ الباب بعد صلاة الفجر فأخبرتني بما رأته في النوم، فذهبت إلى تلك الجارية أسترضيها، فقلت: هل لك حق على فلانة، فقالت: لا، وامتنعت في البداية أن تقر بشيء، فما زلت بها حتى أقرت أنها ماتت وهي تجد عليها في نفسها، قال: فاسترضيتها بمال حتى رضيت، ثم مكثت أسبوعاً فإذا المرأة تطرق عليَّ الباب بعد صلاة الفجر، فقالت: لقد رأيت أمك البارحة في حالة عجيبة من النعيم، فأخبرتني أنك سددت عنها باباً عظيماً كانت تجد منه أذى. فلذلك على الإنسان أن يسترضي الذين يمكن أن يكون أساء إليهم من الخدم أو الجيران أو الذين يعاشرهم، فهم خصوم يوم القيامة، فعلى الإنسان أن لا يدعهم يحملون الضغائن فيأتون بين يدي الحكم العدل فيشكون إليه سبحانه وتعالى، وما دام الإنسان في هذه الدنيا يستطيع أن يسترضي خصومه فعليه أن يبادر لذلك. إن الكلام حتى لو طال وانتشر في صلة الأرحام لن يؤدي شيئاً منها، وإن ما ذكرناه إذا لم نعد به إلى واقعنا ونطبقه في أمور حياتنا فلا أثر له ولا فائدة، لكن علينا أن نذهب إلى بيوتنا ونحن عازمون على أداء هذا الحق الذي سمعناه وسمعنا أدلته من كلام الله وكلامه رسوله صلى الله عليه وسلم. وأن نعزم على أداء الحقوق إلى ذويها، وعلى صلة الأرحام ما استطعنا، وأن نستسمحهم فيما مضى من التفريط، فإنها حقوق تحمل إلى الدار الآخرة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً، وأن يبارك لنا فيما سمعنا، وأن يجعله حجة لنا على علينا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى وآله وأصحابه أجمعين.

المنهجية في طلب العلم

المنهجية في طلب العلم العلم خير ما تفنى فيه الأعمار، وأفضل ما يتنافس فيه الأبرار، حتى جعل الله للعلماء منزلة سامقة، ومكانة عالية، وأكرمهم بما لم يكرم به غيرهم، ولطالب العلم آداب وأركان وأجنحة ينبغي له معرفتها ومراعاتها في حال طلبه وانشغاله بالعلم، كما أن عليه أن يهتم بترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم.

فضل العلم والعلماء

فضل العلم والعلماء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى عظم شأن العلم، فأشهد العلماء على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]. وحكم بفضلهم على من سواهم، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلامه، فقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]. وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشون الله حق خشيته، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وبين سبحانه وتعالى أنه فضل الجنس البشري على غيره من الأجناس بالعلم، فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33]. ولم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستزادة بشيء من أمر الدنيا إلا من العلم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بشأن العلم والعلماء، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). وأخرج البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وأخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان بها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب بها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس، فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به).

اغتنام الأوقات قبل ضياعها

اغتنام الأوقات قبل ضياعها لا شك أن الفضل العظيم للعلم الذي نوه الله به في كتابه ونوه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مقتضٍ من ذوي الهمم العالية الراغبين في رفع الدرجات، أن يبادروا وأن يتنافسوا، وأن يستغلوا الأوقات -قبل ضياعها- للالتحاق بالرعيل الذي انطلق، وبالركب الذي سار. فهذه الدنيا مدتها ضئيلة يسيرة، وقيمتها هي الوقت الذي يمضيه الإنسان فيها، ومن لم يستغل هذا الوقت كان وبالاً عليه بين يدي الله؛ لأن الله يخاطب أهل النار يوم القيامة فيقول: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]. لابد أن يتفكر المسلم أنه جاء إلى الأرض وليس من سكانها الأصليين ولا من أهلها، وإنما أهبط إليها إهباطاً من الجنة، وجاء لمهمته العظيمة بتأشيرة مدتها محددة، فعليه أن يؤدي عمله قبل أن تنتهي تأشيرته ويرجع، فالذي ذهب بتأشيرة مدتها محدودة، وتكلف التكاليف، وقطع المسافات، ثم رجع خائباً ولم يؤد أي عمل مما خرج من أجله؛ لا يمكن أن يعد رابحاً بأي مقياس من مقاييس الدنيا؛ فلذلك علينا أن نتذكر أننا جئنا هنا من أجل مهمة محددة، حددها الله في كتابه فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وأن مدة بقائنا في هذه الدار محصورة، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]. فنحن راجعون إلى الله لا محالة، ومسئولون عن هذه المهمة التي من أجلها أهبطنا إلى هذه الأرض، ولا يمكن أن يدعي أحد منا أنه لم يؤت الوسائل، فقد أتاح الله لنا من الوسائل، وسخر لنا من النعم ما لا يمكن أن نحصيه، سخر لنا الليل والنهار وما فيهما، وسخر لنا السماء والأرض والبحار والأنهار والجبال والسهول، وجميع ما في هذه الأرض جعله مسخراً لعبادته وطاعته؛ ولذلك يمكن أن يستفيد الإنسان في عبادته من كل شيء في الأرض، قال بعض أهل العلم: ما من شيء في الأرض إلا وهو معين لابن آدم على عبادة ربه، إن كان فيه نفع انتفع به في قوة بدنه أو عقله، وإن كان فيه ضرر كان امتحاناً له ليثبت ويصمد، وإن لم يكن فيه نفع ولا ضرر كان فيه اعتبار وتذكر، وفي الجميع منافسة؛ لأن جميعها مسبحة لله، وجميعها ساجدة لله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فتستشعر أن ثوبك ينافسك في القرب من الله والسجود له والتسبيح بحمده، وأن شعرك ينافس لسانك، وأن كل عضلة من عضلاتك وكل ذرة من ذراتك هي منافسة لك في التقرب إلى الله بالعبادة، كما تستشعر المنافسة من إخوانك وبني جلدتك والبشر جميعاً، فالله تعالى يقول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، فالجميع يتنافسون في القرب منه وفي عبادته وطاعته، وإذا استشعر الإنسان ذلك أحس أن كل ما في الأرض مهيأ ومسخر ليعينه على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، وأبلغ الطاعات والعبادات هي ما أوجب الله سبحانه وتعالى، كما قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، وما افترضه الله لا يمكن أن يعرف ويميز بينه وبين غيره إلا بالتعلم.

العلم قبل القول والعمل

العلم قبل القول والعمل التعلم شرط لأداء الفرائض، وشرط لأداء السنن، وشرط لأداء المندوبات، وشرط لاجتناب المحرمات، وشرط لاجتناب المكروهات، وشرط لاستغلال الأوقات، لا يمكن أن تقدم على أي شيء إلا على أساس العلم، وإذا أقدمت على أي أمر دون أن تعرف حكمه فأنت عاصٍ قطعاً؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فأنت مأمور بالتعلم قبل العمل، وقد عقد البخاري في الصحيح باباً قال فيه: باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم أولاً قبل القول وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، وقبل العمل بذلك وهو الاستغفار، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، وهذا يقتضي منا أن نعلم أن العلم هو المفتاح الأول في النجاح في حياتنا وفي مهمتنا التي أهبطنا من أجلها إلى هذه الأرض، وهذا العلم لا يمكن أن نطيع ربنا إلا به، وما عصي الله إلا عن جهل به أو بشرعه، فالجهل بالله سبب لمعصيته؛ لأن الإنسان إذا لم يعرف الله ونهي عن أمر من الأمور، وكان يخاف عقوبة تترتب على تلك المخالفة، فإنه سيحاول الاحتيال عليها أو إخفاءها، لكن إذا عرف الله، وعرف أنه هو الجليل الكريم الكبير، وأنه لا يمكن أن يخفي عنه الإنسان شيئاً من تصرفاته، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه يعلم السر وأخفى؛ حينئذ سيخافه ويقلع عن معصيته، كذلك قد يعصي شخص الله تعالى على أساس جهله بما يقدم عليه؛ لأنه يظن أنه عبادة وطاعة، فيفعله وهو في نفس الوقت معصية، فهذا جهل بشرعه لا به، فالجهل قسمان: جهل بالله وجهل بشرعه، وكلاهما سبب لمعصيته ومخالفته، ولا يمكن أن يتخلص الإنسان منهما إلا بطلبه للعلم. الإنسان الرشيد يعلم أن الفرص المتاحة نادرة، وأن الوقت ضيق جداً، ونحن نستشعر في أيامنا هذه سرعة الزمان، فعجلاته أصبحت تدور بسرعة غير طبيعية، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (إن بين يدي الساعة أياماً تكون السنة فيها كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة)، وقت سريع جداً، ولا يزداد الزمان إلا إسراعاً، فلذلك نحتاج إلى استغلاله قبل فوات الأوان، فكل يوم نودع بعثاً إلى الدار الآخرة لا يرجعون إلا عند النشور، منهم من هو معاصر لنا في سننا، ومنهم من هو أصغر منا، يدفنون جميعاً في المقابر، ويقدمون إلى ما قدموا، وتزول عليهم الغشاوة، فيرون الأمر حق اليقين، ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولاشك أنهم سيندمون جميعاً، فالمحسن يندم على عدم الازدياد، والمسيء يندم على أصل إساءته، فما من أحد من أهل الآخرة إلا وهو في ندم، فالآخرة كلها دار ندم، المحسن يندم ألا يكون قدم زاداً أكثر لما يرى من تفاوت الناس، ولما يعلم من استحقاق الله للزيادة في الطاعة والعبادة، والمسيء يندم على أصل إساءته، لماذا فرط في جنب الله؟ ولماذا قصر في أداء حقوقه؟

أركان التخطيط لطلب العلم

أركان التخطيط لطلب العلم علينا أن نستغل أوقاتنا في طلب العلم والعمل به، وأولى ما تصرف فيه الأوقات أربعة أمور، هي خطة موضوعة لطلب العلم، فالناس مولعون بالتخطيط، ويبحثون عن استغلال الطاقات استغلالاً جيداً، ولا يكون ذلك إلا من خلال تخطيط محكم.

دراسة البيئة الخارجية

دراسة البيئة الخارجية الركن الثالث من أركان التخطيط: دراسة البيئة الخارجية، أي: المحيط الذي تعيش فيه، وهذا المحيط لاشك أنك ستجد فيه فرصاً تستطيع استغلالها في الوصول إلى أهدافك، وتجد فيه في المقابل أشياء فيها خطر عليك؛ لأنها ربما تقطعك عن بعض أهدافك، فالمحيط الذي من حولك لا يمكن أن تعيش بدونه، فأنت محاط به فتحتاج إلى دراسته، فتعرف ما فيه من نقاط إيجابية يمكن استغلالها وهي مثلاً: تعاون الناس في المجال العلمي. احترامهم لمن يشتغل بالعلم. الظروف المواتية للطلب. وجود كثير من المنافسين الذين يحثونك على الطلب؛ لأنهم ينافسونك فيه. فهذه فرص تزيدك في الطلب، وفي المقابل هناك مخاطر تقطعك عن الطلب، كالملهيات، والمشاغل الدنيوية، ومنها وسائل الإعلام، فرغم إيجابيتها ففيها بعض السلبيات وهي: أنها تقطع عن الطلب، وتنقص الوقت، وتنقص بركته مما يراه الإنسان من مظاهر، وما تنقل إليه من الأخبار المحزنة. وهكذا تبحث عن المخاطر التي من حولك فتحاول التقلل منها والابتعاد عنها، وتحاول الاستفادة من الفرص.

تزمين الخطط

تزمين الخطط الركن الرابع من أركان التخطيط هو: تزمين الخطط، وهو أن يكون لك وقت معين تقيس فيه ما قطعته من أشواط، فلابد أن تعلم (أن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى)، فأنت لا تستطيع أن تسهر الليل والنهار جميعاً في الطلب، وقد تقرأ في حياة بعض السلف كثرة الاشتغال في الليل والنهار، فمثلاً النووي رحمه الله مكث في وقت الطلب في دمشق أربع سنين لم ينم مضطجعاً، كان ينام مسنداً ظهره إلى اسطوانة، ولم يكن يضطجع خلال هذه المدة، واجتنب بعض المآكل لشبهة فيها ومخالفة لما يهواه، فمثل هذه الأمور نحن لا نطلبها في طالب العلم اليوم، لأن فيها جلد وقوة لا تحصل إلا من الأفذاذ والنوابغ، لكن نريد منك فقط تزمين وتقسيم الأهداف على الوقت الذي لديك، وأن تخطط لمدة محددة، ولو مت قبلها فهي في ميزان حسناتك، وليس هذا من طول الأمل ولا من التسويف، فخطط لمدة محددة، فإذا بلغتها فالحمد لله تكون قد نجحت فيما تريد، وإن لم تبلغها فأنت سائر على الطريق، والإنسان يثاب على نيته وعزمه، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقد حضنا عليه الصلاة والسلام على الأيسر فالأيسر من الأسباب. أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولم يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة). فأنت محتاج إلى أن تجعل جزءاً من الوقت لراحتك، وجزءاً لدنياك، وجزءاً لأهلك، وجزءاً لمشاغلك الدنيوية، لكن ما دمت طالباً للعلم فلابد أن تخصص وقتاً للطلب، وهذا الوقت تستغله استغلالاً مبرمجاً، لابد من ذلك، وحينئذ تزمنه وتوزعه، فالعلم لا يؤخذ جزافاً، ولا يمكن أن يحيط به محيط، فلابد أن يوزع، وأن يبدأ بأولوياته ومفاتيحه، وأن تترك الفروع والتوسعات، فإن الوقت غير مناسب لها. فالوقت هو مثل وقت الناس الآن في الاستعداد لرمضان، فرمضان قد اقترب على الأبواب، وبدأ الناس يستعدون له؛ لأن شعبان سريع الذهاب، وكذلك مدة بقاء هذه الحياة الدنيا وسرعتها، وينبغي أن نتصور هذا التصور، وقديماً قال عبد الله بن المعتز أمير المؤمنين رحمه الله: إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار فقد ضاق الزمان على الصغار وهكذا يضيق الزمان عن تتبع المسائل العلمية الدقيقة في كل فن من الفنون، ولم يعد الوقت مناسباً لها، وليس معنى هذا أننا نزهد فيها، لا، لكن نرى ترتيب الأوليات في طلب العلم، فلابد أن يبدأ الإنسان بالأولى ثم الذي يليه، فإذا أراد الإنسان أن يضع خطةً لطلبه للعلم، فعليه أن يبدأ أولاً بتحصيل شروط العلم، ثم يبدأ بعدها بالأجنحة التي تطير به، ثم يرتب أولويات العلوم التي يدرسها، وهذه ثلاثة أمور مهمة جداً في التخطيط للعلم.

تحديد الأهداف وتحليلها

تحديد الأهداف وتحليلها التخطيط لطلب العلم له أربعة أركان: الركن الأول: تحديد الأهداف وتحليلها: تحدد الأهداف التي تطلبها ثم تحللها حتى تجعلها جزئيات صغيرة، لتتمكن من أدائها، فإذا لم تحدد هدفك ستعيش مثل حياة البهائم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]؛ لأنه ليس لهم هدف في الحياة، فهم يعيشون كما تعيش البهائم، لا يفكرون فيما بعد الموت. فمدة حياتهم في تصورهم هي هذه المدة اليسيرة القليلة، وحظهم من المعاش ما أخذوه من ملذات الحياة الدنيا الزائفة الزائلة، ثم لا خلاق لهم في الآخرة، وهذا لا يرضى المؤمن به بوجه من الوجوه، المؤمن لا بد أن يفكر في معاده ومستقبله، ولابد أن يخطط لذلك، ومن هنا لابد أن يكون لديه هدف كبير وهو: تحقيق رضوان الله، وأن يرضى الله عنه. فإذا رضي الله عنا لا يضرنا ما لم يتحقق لنا من أمور الدنيا، الذين قتلوا يوم أحد، وبقرت بطونهم، وأخرجت أكبادهم، وقطعت أنوفهم وآذانهم -رضي الله عنهم- هل ضرهم مما حصل شيء؟! والذين عاشوا بعدهم من الصحابة لحقوا بهم وماتوا جميعاً، إذاً: لم يفتهم شيء من هذه الحياة الدنيا، وأدركوا ما يريدون من رضوان الله. من رضي الله عنه لا يضره ما فقد ولا يضره ما نقصه من هذه الحياة الدنيا، ومن لم يرض الله عنه -والله- لا ينفعه ما أحرز وما حقق من الأهداف، وما وصل إليه من المراتب، لا ينفعه ذلك شيئاً. إذاً: لابد أن يكون الهدف الأسمى والغاية التي نريدها: تحقيق رضوان الله، وأن نتقرب إليه بما يرضيه عنا. وإذا كان هذا الهدف واضحاً بين أعيننا فلابد أن نبحث عن تجزئته، وأن نحلل هذا الهدف، وتحليله سيجعله سهلاً؛ لأنك ستجعله مراتب، فمثلاً: تفسير الإمام البغوي تفسير كبير، وإذا كان من هدفك -مثلاً- قراءة هذا التفسير كاملاً، ولم تجزئه على الوقت، سيكون شاقاً وصعباً لديك، ويكون بمثابة جبل تحمله، لكن إذا جزأته وقرأت كل مقطع منه، فإنك تكون قد أنجزت هدفك إذا قرأت ذلك المقطع، فمثلاً إذا أردت قراءة سورة البقرة وآل عمران، وأنجزت ذلك، فأنت ناجح على كل حال، بخلاف الذي يريد قراءة الكتاب كاملاً ولم يكمله فهو فاشل، لأن الهدف الذي حدده لم يصل إليه، بخلاف الذي حلل الهدف وجعله أهدافاً صغيرة، فهو ناجح عندما يصل إلى كل هدف من الأهداف الصغيرة. إذاً: لابد من تحديد الأهداف أولاً، ثم تحليلها إلى جزئيات لنتمكن من الوصول إليها. كثير من الناس يعيش مع العموميات، فيقول مثلاً: نحن نريد إرجاع الأمة إلى الكتاب والسنة، هذه عموميات لا نختلف فيها، لكن كيف ذلك؟ ما لم يحلل الهدف ويحدد، لا يمكن أن تنجح أصلاً، كيف يقاس أن الأمة رجعت فعلاً إلى الكتاب والسنة؟! متى يكون لديك شهادة على أنها رجعت للكتاب والسنة؟! إذاً: هذا هدف غير محدد، وغير محلل، ولا يمكن قياسه، فلابد من تحديد الأهداف وتحليلها.

دراسة البيئة الداخلية

دراسة البيئة الداخلية الركن الثاني من أركان التخطيط هو: دراسة البيئة الداخلية: المقصود بالبيئة الداخلية: ما آتاك الله من الإمكانات، أن تعرف ما لديك من القوى، ما لديك من نقاط القوة وما فيك من نقاط الضعف لابد أن تدرسها تماماً. فإذا كان هدفك الكبير أن تكون مرضياً عند الله، وتعلم أن ذلك لا يتم إلا من خلال العلم بشرعه، وتطبيق ما علمت، والدعوة إليه، والصبر على طريق الحق. إذاً: أول الخطة: إحراز العلم، والعمل بكل جزئية تعلمتها، ثم بعد ذلك خطة الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به، ثم بعد ذلك تربية نفسك وأطرها على الحق، والصبر حتى تصل إلى نهاية المشوار، وهو وقت الامتحان عند الموت. فتدرس بيئتك الداخلية: ما لديك من نقاط القوة وما لديك من نقاط الضعف، فتجد لديك من نقاط القوة مثلاً: الهمة العالية التي لا ترضى بالدون، تريد الفردوس الأعلى من الجنة، تريد مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، تريد أن تسد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مسداً كان يسده بعض أعلامها وعلمائها الكبار، تريد أن يكون لك أثر في تحمل هذه الرسالة، تريد أن تزيد عمر النبي صلى الله عليه وسلم من عمرك، فتقدم شيئاً من عمرك إمداداً في مدة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العمر المقصود به التبليغ، وقد توفاه الله بعد أن عاش مبلغاً ثلاثاً وعشرين سنة، بلغ فيها رسالات الله، وبقي بعد ذلك كل تبليغ يبلغه أحد من أمته امتداد في عمره؛ لأنه أداء لمهمته، فأنت تريد أن تقدم شيئاً من عمرك إمداداً وزيادة في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخطط لذلك. إذاً: من دراسة البيئة الداخلية عرفت منها نقطة قوة لديك وهي الهمة العالية، وكذلك من نقاط القوة لديك: الصبر والتحمل والجلد، وجدت أنك صاحب جلد وصبر وتحمل، وأنك لست من الذين إذا أصابتهم أية نكبة أو أخفقوا في أي مجال ينقطعون ويرجعون، فهذه نقطة قوة في طلب العلم لابد منها: التحمل والصبر. وكذلك من نقاط القوة: وجود الوسائل: وجود من تدرس عليه، ووجود المكان الذي تدرس فيه، ووجود الكتب التي تدرسها، ووجود الوقت الذي يمكن أن تستغله في الطلب، فهذه من نقاط القوة المهمة. ومنها: الذكاء، ومستوى الضبط والفهم الذي يؤهلك للطلب، فهذه قوة لديك تمتلكها. ثم بعد هذا تدرس نقاط الضعف، ولابد أن تبحث عنها في نفسك، فإذا كان لديك من نقاط الضعف مثلاً: عدم ترتيب الأولويات، أو عدم البرمجة، أو إقبال على الدنيا ونهم على جمعها، أو لديك تكاليف كثيرة وأعباء كبيرة، أو دخلت في انشغالات تأخذ حيزاًَ كبيراً من وقتك وتفكيرك، أو نحو ذلك من نقاط الضعف، فهذه نقاط لابد أن تخطط لسدها، فتستغل نقاط القوة لسد ثغرات الضعف.

شروط طالب العلم

شروط طالب العلم

معصية الهوى

معصية الهوى الشرط السادس: معصية الهوى: فالإنسان المتبع لهواه لا يمكن أن يكون طالب علم؛ لأن الهوى يدعوه إلى الراحة والنوم، والانشغال مع الناس فيما هم منشغلون فيه، وتلقي أخبار الناس، ومتابعة أحداث العالم، فهذه أمور يدعو إليها الهوى، فمن لا يستطيع التغلب على هواه لا يمكن أن يكون طالباً للعلم.

العمل بالعلم

العمل بالعلم الشرط السابع: الاتباع أو العمل بما تعلمه الإنسان؛ لأن العلم حجة لك أو عليك، فهو سلاح ذو حدين، إذا لم يعمل به الإنسان كان حجة عليه، أخرج أبو عمر بن عبد البر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟ وأخرج الدارقطني وغيره عنه أنه قال رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرة فلم تزدجر بي. هذه هي حياة القلوب، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يخافون من هذا القرآن أن يكون خصماً لهم يوم القيامة، كل آية مرت على الإنسان أو سمعها أو قرأها ينبغي أن يخاف أن تلعنه وهو يقرؤها، فرب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه! وكذلك العلم كله، رب سامع للعلم! والعلم يلعنه؛ لأنه لم يعمل به، وقامت عليه الحجة به، ومن الأسئلة الأربعة: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به؛ وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟). وهذه الشروط السبعة نظمها ابن هلال في بيت واحد: فقال له: تغرب وتواضع واترع وجع وهم واعص هواك واتبع (تغرب) هذا الشرط الأول وهو الغربة، (وتواضع): هذا الشرط الثاني، (واترع): أي: تكلف الورع، افتعل من الورع، (وجع، وهم، واعص هواك، واتبع). وبعد تحصيل هذه الشروط وهي غير شاقة يحرص الإنسان على أجنحة العلم التي تعينه على الطلب.

المخاطرة

المخاطرة الشرط الخامس من هذه الشروط هو: المخاطرة: والمقصود بها أن تهون على الإنسان نفسه في طلب العلم، حتى يسترخص حياته، ويسترخص ماله، ويسترخص علاقاته في سبيل الحصول على العلم، فموسى عليه السلام ما نال العلم حتى ركب في سفينة مخروقة في عمق البحر، وهذه من المخاطرة، وأهل العلم من هذه الأمة خاطروا في طلبه بالأسفار الشاقة والطويلة، أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: ما بقيت قرية ولا مدينة من مدن الدنيا يذكر فيها حديث إلا سافرت إليها على رجلي هاتين. والبخاري رحمه الله سافر من العراق قاصداً عبد الرزاق بن همام الصنعاني بصنعاء، فلما وصل إلى مكة قيل له: مات عبد الرزاق، فرجع من مكة إلى البصرة، فقيل له: إن عبد الرزاق حي يرزق فرجع إلى مكة على رجليه حتى جاءه الخبر اليقين بأن عبد الرزاق قد مات، وكل أحاديث عبد الرزاق عند البخاري بواسطة، لكن أراد أن يسمع منه مباشرة، أراد علو الإسناد، فسافر سفرين: من العراق إلى مكة مع الرجوع من أجل علو الإسناد فقط! مخاطرات كبيرة، وأسفار شاقة جداً. وسافر أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، وسافر جابر بن عبد الله من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وسافر أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد. ويقول المكي بن إبراهيم -وهو شيخ البخاري الذي يروي عنه ثلاثياته التي هي أعلى شيء في صحيحه-: كتبت بأصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أنه يحتاج إلي لكتبت عن أكثر. فهؤلاء الأئمة خاطروا مخاطرات كبيرة جداً في طلب العلم، وتعبوا ونصبوا في جمعه، فأحرزوا منه ما أحرزوا، فلذلك لابد أن تهون على الإنسان نفسه في طلبه، فـ زكريا الأنصاري رحمه الله فقد بصره في طلب العلم، كان يقرأ الليل كله ولم يكن ذا مال، وكان سراجه ضعيف الضوء، ففقد بصره بسبب ذلك، وعدد كبير من العلماء فقدوا بعض أطرافهم أو أجزائهم بالمخاطرة في طلب العلم. إذاً: لابد أن تهون على الإنسان نفسه في الطلب، وهذا شرط للحصول عليه، فالدر والحجارة الكريمة لا ينالها من لم يخاطر في طلبها، ومن لم ينغمس في البحر ويخاطر لا يمكنه أن يصل إلى هذه اللآلئ.

الجوع

الجوع الشرط الرابع: الجوع: الإنسان ما دام شبعاناً، راغباً في الدنيا، مقبلاً عليها، لا يمكن أن ينال هذا العلم، وقديماً يقول الحكماء: البطنة تذهب الفطنة، العلم يحتاج إلى فطنة ونباهة، والبطنة تذهب الفطنة، والشافعي رحمه الله يقول: ما رأيت سميناً عاقلاً إلا محمد بن الحسن الشيباني، فالغالب أن الإنسان إذا شغل أجهزته الداخلية بكثرة الأكل فإن ذلك سينقص تفكيره، وبالتالي لا يمكن أن يحرز المطلوب من العلم؛ ولذلك فإن موسى عليه السلام لما نال من العلم ما نال قال لفتاه بعد ذلك: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، فعندما جاع نال ما يريده من طلب العلم.

الورع

الورع الشرط الثالث من هذه الشروط: الورع: الورع هو اتقاء المحرمات والمكروهات والشبهات، والذين يعرفونه قديماً بأنه اتقاء المحرمات والشبهات، يرون أن المكروهات داخلة في الشبهات، في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وقد اختلف أهل العلم في تفسير الشبهات على خمسة أقوال: القول الأول: أن المشتبهات هي ما سكت عنه الله سبحانه وتعالى فلم يرد فيه تشريع، فكل مسكوت عنه في الأصل يرونه شبهة، وهذا القول ضعيف؛ لأنه ورد في أحاديث أخرى أن ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه، ففي الحديث: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها). القول الثاني: أن المشتبهات هي المكروهات التي لم يرد فيها نهي جازم، ومع ذلك نهي عنها. القول الثالث: أن المشتبهات هي ما اختلط فيه الحلال والحرام، مثل المال الذي بعضه حلال وبعضه حرام. القول الرابع: أن المشتبهات هي ما تعارضت فيه النصوص، بعض الأدلة تحله، وبعض الأدلة تحرمه، وتعارضت لدى الإنسان. القول الخامس: أن المشتبهات هي ما اختلف أهل العلم في حكمه، فاشتبه عليهم، ولا يكون ذلك إلا على أساس الاختلاف في قوة الدليل أو في دلالته. فهذه هي الأقوال الخمسة، والذين يرون دخول المكروهات في المشتبهات لا يذكرونها في تعريف الورع، فلا يقولون: اتقاء المحرمات والمكروهات والمشتبهات، بل يقولون: الورع هو: اتقاء المحرمات والمشتبهات؛ لأنهم يدخلون المكروهات في المشتبهات، والورع شرط لطلب العلم؛ لأن طالب العلم إذا كان لا يتورع فلا يمكن أن ينال هذا النور؛ لأن العلم نور، والنور لا يمكن أن يبقى في المكان الموحش المظلم، النور يبحث له عن الألوان البيضاء الناصعة التي تزيده إضاءة، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]. وقد ورد عن الشافعي رحمه الله أنه قال: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي

الغربة

الغربة ذكر أهل العلم سبعة شروط لطالب العلم: الشرط الأول: الغربة: فالإنسان ما دام في بيته وبيئته وبين أهله لا يجد وقتاً وفراغاً للطلب، وهذه الغربة يمكن أن تكون حقيقية، ويمكن أن تكون شعورية، قد يعتزل الإنسان أهل الدنيا في زاوية من بيته، فهو غريب ولو كان بين أهله. ودليل اشتراطها أن موسى عليه السلام لم ينل العلم الذي رغب فيه حتى قال: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]. ومن أدلتها كذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل الله عليه الوحي حتى حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد)، فهذا التحبيب الذي حبب إليه الأنبياء أسوة وقدوة؛ ليحبب إلى طالب العلم الخلاء كذلك، ولهذا سئل يحيى بن معين رحمه الله عن أحب شيء إليه في الدنيا، فقال: إسناد عالي وبيت خالي. يريد أن يعتزل الناس، ويريد إسناداً عالياً لا يتطلب كثيراً من البحث في الجرح والتعديل، ولا يتطلب كذلك تعباً في الحفظ (إسناد عالي وبيت خالي). فلابد من هذه الغربة، ويمكن أن يفعلها الإنسان في بيته -كما ذكرت- وبين أهله، فيتخذ وقتاً لطلب العلم، لا يدخل عليه فيه أحد، ولا يرى فيه وجه أحد، ولا ينشغل فيه بأي شيء من أمور الدنيا.

التواضع

التواضع الشرط الثاني: التواضع: طالب العلم لا يمكن أن يكون متكبراً أبداً؛ لأن المتكبر لا يمكن أن يستفيد من أحد؛ لأنه يرى نفسه خيراً من غيره، فلا يمكنه أن يأخذ ما عند غيره، وكذلك الأستاذ لا يمكن أن يقدم ما جمعه بالتعب والنصب لمن لا يحترمه، فيحتاج إذاً إلى أن يتواضع له حتى يأخذ عنه، ودليل ذلك أن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، فلم يقل: سأتبعك، بصيغة القرار، وإنما قال: هل أتبعك؟ بصيغة الاستفهام (على أن تعلمن) فجعل نفسه طالباً وهو كليم الله، (مما علمت رشداً) بعض ما علمت فقط، وهذا غاية التواضع. وكذلك جبريل لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم: (أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام)، فبدأ يسأل بهذا السؤال المؤدب، ويسأل عن أولويات الدين وكبرياته، وأهم ما يسأل عنه، هو هذه الأمور الأربعة التي سأله عنها: سأل عن الإسلام؟ وعن الإيمان؟ وعن الإحسان؟ وعن الساعة؟ إذاً: من شروط العلم: أن يتواضع الإنسان لمن يأخذ منه، وهذا التواضع يقتضي منه قبول الحق دائماً، فالكبر ينافي الفطرة، لأن الإنسان في الأصل ولد على الفطرة، والفطرة تفسد بالمفسدات، ومفسدات الفطرة كثيرة، عد أهل العلم منها: التكبر، والعناد، والتقليد للأهل أو للأصحاب أو للمشايخ، ومنها كذلك: الانغماس في اتباع الهوى، فهذه مفسدات الفطرة التي تفسد على الإنسان فطرته الأصلية.

أجنحة العلم المعينة على طلب العلم

أجنحة العلم المعينة على طلب العلم

الشيخ الناصح

الشيخ الناصح الجناح الخامس من أجنحة العلم التي يحتاج إليها الطالب: الشيخ الناصح الذي يرتب له الأولويات، ويختار له الكتب، ويفهمه ما يحتاج إلى تفهيم، ويؤدبه بأدب العلم، فهذا يحتاج إليه الإنسان كثيراً في الطلب، فكم من إنسان لديه كل المؤهلات للطلب، ولكن لم يجد شيخاً ناصحاً يمكن أن يسير معه إلى نهاية مشواره في الطلب، فتكون هذه ثغرة تعقيه عن الطلب، فتجده يجلس عند شيخ في مرحلة من الطريق، ثم يتركه ويبحث عن شيخ آخر وهكذا تجده منقطعاً بين الشيوخ، ولن يضل إلى مراده، ولو أنه وجد عالماً ناصحاً واستمر معه فإنه سيصل به؛ ولذلك فإن مالكاً رحمه الله يقول: حفظنا من علم ابن شهاب، وتعلمنا من علم ربيعة، فابن شهاب حفظوا منه، حيث كانوا يروون عنه الحديث، لكن ربيعة هو الذي كان يسدده ويرشده، ويتابع دراسته ويعتني به، ويختار له الفنون، ويختار له المشايخ الذين يروي عنهم؛ فلذلك انتفع بعلم ربيعة أكثر من انتفاعه بعلم شيوخه في الرواية.

الطالب المنافس

الطالب المنافس الجناح السادس من أجنحة العلم: الطالب المنافس: فالإنسان يحتاج إلى مذاكرة، والهمة تضعف، وعليه؛ يحتاج الإنسان إلى منافس له، وهذه المنافسة تارة تقع حتى من الأعداء، وقديماً قال الحكماء: عداي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاتقيتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا وقد تكون منافسته جارية من القرناء والأصدقاء، فيزداد الإنسان علماً بمنافستهم، ولاشك أن الإنسان بحاجة إليهم دائماً في الطلب؛ لأنه يكل ويتعب، وفي كثير من الأحيان يصاب بإحباط من المحيط الذي حوله، فإذا وجد ذوي الهمة العالية الذين يمشون معه في الطريق؛ زادوه نشاطاً واستمراراً وانتفع بمذاكرتهم.

البلغة

البلغة الجناح السابع من أجنحة العلم: البلغة: أي: المال الذي يكون يسيراً، وليس كثيراً حتى يشغل الإنسان، ولا قليلاً أقل من حاجته، بل القدر الذي يكفيه لسداد أموره، كالحصول على الكتب ونحوها، فهذا مما يحتاج إليه الطالب، وهو من أجنحة العلم التي يوصل إليه بها.

التدريب

التدريب الجناح الثامن من أجنحة العلم التي يحتاج إليها الطالب: التدرب على التعليم والتلقين في وقت الطلب، فكثير من الناس فرغوا طاقاتهم للطلب، ولم يتعودوا على التدريس، فلم يدرسوا مدة الطلب، فلما كبروا لم يكونوا صالحين للتدريس، والتدريس مهارة مختصة لا يتقنها إلا من تدرب عليها. فكثير هم أولئك المتقنون لكثير من العلوم لكن لا يستطيعون تقديم الدروس، ولا يستطيعون أن يشرحوا أي متن من المتون، وكثير هم أولئك الذين يعرفون كثيراً من المعلومات لكن لا يستطيعون توصيلها للناس، لأن تعبيرهم قاصر، أو ليست لديهم أساليب التفسير، وكثير هم أولئك الذين يعلمون المعلومات، ولكن لا يستطيعون الخطابة على المنابر، لضعفهم في شخصياتهم، فيحتاج الطالب في مدة الطلب أن يتعود على التدريس، وإذا وجد من يعلمه ذلك فبها ونعمت، ولو حتى مع زملائه في المذاكرة، وإن لم يجد فليبحث عن شيء يعلمه، كما كان الأعمش يتخذ تيساً فيحدثه ويشرح له ويقول: أفهمت؟ وهو تيس! فأراد أن يتعود على مهارة التعليم، حتى ولو لم يجد من يعلمه إلا هذا التيس. فينبغي للطالب أن يتأهب لمثل هذه الأمور، وأن يتهيأ للخطابة والتعليم، وتقديم الكلمات، وتلخيص الدروس في وقت الطلب حتى يفلح عند تقديمها، ورب شخص ليس لديه من العلم إلا اليسير، ولكن بارك الله فيه؛ لأنه يزكيه ويقدمه، فينتفع الناس بعلمه ولو كان شيئاً يسيراً، وكم تعرفون من الدعاة الذين هم في عداد العوام من الناحية العلمية ولكن نفع الله بهم؛ لأنهم يزكون ما لديهم، فيقدمون ما عندهم ولو باللهجة العامية، ولو بالمستوى الضعيف، لكن ينفع الله بهم!

الفهم

الفهم الجناح الرابع من هذه الأجنحة هو: الفهم، وهذا الفهم قسمان: قسم فطري خلقي، فالقرائح يخلقها الله كما يخلق أبدان الناس، فيركب في كل إنسان منها ما شاء، والقسم الثاني: مكتسب، فالإنسان بربطه بين المعلومات بتسلسلها، ومجالسته للناس، وازدياده من العلم يزداد فهماً فيه؛ ولذلك فإن كثيراً من الذين كانوا من أهل العلم في المرويات إذا وصلوا إلى التطبيق يقعون في أخطاء، ما لم يشاهدوا أهل التطبيق، فـ أبو حنيفة رحمه الله -وهو من هو في جلالة قدره في العلم، وكان سيد أهل العراق وإمامهم في عصره-ذهب إلى مكة يريد الحج، فجاءه طفل صغير من أهل مكة، فقال له: هل لك فيمن يدلك على مناسكك مقابل درهم أو شيء يسير جداً؟ قال: لا حاجة بي إليك، فجعل الطفل يتبعه، فلما دخل المسجد الحرام أراد أن يحيي المسجد بركعتين، فقال الطفل: ما أجهل هذا الشيخ بالسنة! ألا يعلم أن تحية مسجد مكة الطواف؟ فكانت واحدة. ثم بعد هذا أراد الطواف فما عرف من أي أركان البيت يبدأ، ما عرف ركن الحجر، فجاءه الصبي فقال: ما أجهل هذا الشيخ بالسنة! ألا تدري أن الطواف يبتدئ من ركن الحجر؟! ثم بعد أن أنهى الطواف أراد أن يذهب إلى الصفا فما عرف مكان الصفا، فإذا بالصبي هو الذي يدله على ذلك، ثم كان يظن أن السعي مثل الطواف، الشوطان شوط واحد، من الصفا إلى الصفا شوط واحد، فدله الصبي أن الشوط من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر. ثم بعد أن أنهى سعيه جاء إلى الحلاق، فجعل يساومه بكم يحلق له، فالصبي دله على أن هذا من الأمور التي لا تنبغي المساومة فيها، فهو نسك وعبادة، فكانت الأخرى. ثم ولاه جانبه الأيسر فقال له الصبي: وله جانبك الأيمن، ففعل، فأعطى الصبي المبلغ وأضعافه؛ لأنه دله على هذه الأمور التي كان يجهلها من ناحية التطبيق، مع أنه عالم بها وبتفاصيلها، لكنه من ناحية التطبيق خفيت عليه، فاستفاد من علم هذا الصبي الصغير. وجانب الفهم المكتسب يزيده التعبد لله سبحانه وتعالى، فالإكثار من ذكر الله يزيد البصيرة نوراً، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لتستغلق علي المسألة فأجلس وأذكر الله فتفتح لي، وكان يجلس فيكثر من الاستغفار إكثاراً شديداً ويقول: يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، فيسهل ما استغلق عليه من المسائل. فهذا الفهم المكتسب من أسبابه التعلم والمراجعة والمذاكرة ومجالسة أهل العلم، والتطبيق للمسائل العلمية.

الوقت

الوقت الجناح الثاني من أجنحة العلم هو: الوقت، فالعلم يحتاج إلى أن يتفرغ له الإنسان، وقد قال ابن عيينة رحمه الله: إن العلم لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وليس المقصود بكلك: جميع الوقت، بل المقصود الوقت الذي تخصصه للعلم اجعله للعلم خالصاً ليس فيه شيء آخر، فإذا كنت مشغولاً في وقت الطلب بإصلاح السيارة، أو مشغولاً بمتابعة الهاتف، أو مشغولاً بمتابعة وسائل الإعلام؛ فلا يمكن أن تفهم ما تطلبه ولا أن تحفظه، فإذاً لابد أن يكون الوقت المخصص للعلم، ليس فيه مشاريع أخرى، لابد أن يكون خالياً للعلم ليس فيه أي أهداف أخرى، ولا يطلب فيه تحقيق أي مآرب أخرى.

الحفظ

الحفظ الجناح الثالث من هذه الأجنحة هو: الحفظ: فالعلم لابد فيه من الحفظ لمتونه، فإذا كان الإنسان فاهماً لكل شيء ولكنه لا يحفظه فهو بذلك يكون آلة فقط، ليس معه رصيد ولا أساس، فهو مثل جهاز الهاتف الذي ليس له شريحة؛ فلذلك لابد أن يحفظ الإنسان متون العلم وكتبه، ولاحظوا أن الذين يحفظون القرآن يتميزون على من سواهم فهم أولى بالإمامة، (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم أولى كذلك بالتقدم في أمر الدين: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، والذين يحفظون السنن، ويحفظون كتب العلم، هم الذين يحفظونه على الأمة، وهم الذين مثل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقعة التي أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وهذه لاشك أنفع وأكثر فائدة من غيرها؛ ولذلك فإن الشافعي رحمه الله يقول: علمي معي حيث ما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق وابن حزم رحمه الله يقول: فإن يحرقوا القرطاس لا يحرق الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري فحفظ العلم والمذاكرة فيه حتى يرسخ في النفوس من أجنحة العلم التي يحتاج إليها الطالب حتى يصعد بها.

الإخلاص والتقوى

الإخلاص والتقوى أجنحة العلم التي يحتاج إليها الطالب ليصل إلى المستوى المطلوب في دراسته كثيرة، وأول هذه الأجنحة: الإخلاص لله سبحانه وتعالى وتقواه؛ لأن العمل الذي يقرب إلى الله ويقصد به وجهه الكريم؛ إذا خلا من الإخلاص لم يتحقق فيه مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، فيكون مغايراً لقناعة الإنسان، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي أن يكون العمل خالصاً لوجهه الكريم، وشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، وإذا خلا العمل من الإخلاص ومن الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان عملاً مردوداً على صاحبه، لا يمكن أن يقبل بوجه من الوجوه، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، فلذلك لابد من الإخلاص في الطلب، ولاشك أنه في كثير من الأحيان يغفل طلاب العلم عن الإخلاص، فيشعرون أنهم يدرسون من أجل النجاح في الامتحان، أو من أجل التفوق والتميز على قرنائهم، أو حتى من أجل بعض المآرب الدنيوية، وكل هذه الأمور تحصل للطلاب، لكن على الإنسان أن يحقق إخلاصه، وأن يراجع نيته في كل فترة، لابد أن يراجع نفسه عند بداية دراسته، وعند دخوله للقسم، وعند سماعه لأية محاضرة، وعند فتحه لأي شريط، وعند مطالعته لأي كتاب، فيراجع نيته ويجدد إخلاصه لله سبحانه وتعالى، فقد قال ابن عيينة رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، والعلم النافع مذكر بالله حتى لو دخلته بنية أخرى ستذهب تلك النية، فلابد أن تراجع نيتك وأن تجددها في كل وقت، وهذا مما يبلغ به الإنسان الدرجات العلى؛ لأنه كلما ازداد تقىً لله كلما فتح الله له خزائن من خزائن العلم لا يمكن أن ينالها بطاقته وجهده، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، وهذا الفرقان يميز الإنسان به بين الحق والباطل، وتظهر له الأمور على حقيقتها؛ ولذلك فالتقوى سبب لنيل الإنسان لعلوم لم يكن لينالها بجهده، ولا يصل إليها في عمره، وليس له شيخ يعلمه إياها، وليس فيها كتب ومؤلفات، وليس عنده الوسائل لنيلها، لكن بتقواه لله تفتح له تلك العلوم؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى آتى الخضر من لدنه علماً، وامتن على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العلم اللدني فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، والذين يلتمسون ما عند الله بتقواه والتقرب إليه عرفوا من أين تؤكل الكتف، وعرفوا الباب فدخلوا منه فاستقاموا. ولاشك أن هذا الإخلاص تشوبه الشوائب، وأن التقوى تقع فيها الخدوش بمخالطة الناس والأهواء وبغير ذلك، لكن لابد أن يعالج الإنسان ذلك، وأن يستمر على الطريق ولا يتراجع، فيحاول إصلاح نفسه مع طول الوقت.

ترتيب الأولويات

ترتيب الأولويات بعد تحصيل الشروط والأجنحة يبدأ الإنسان في ترتيب أولوياته، ولاشك أن هذا الترتيب يحتاج إلى عناية كبيرة، وهو مما تختلف فيه مناهج المؤسسات، وتختلف فيه مناهج المشايخ، فليس لترتيب العلوم منهجية موحدة، بعض الناس يبدأ بعلوم الآلات ويترك علوم المقاصد؛ حتى يحرز من الآلات ما يستطيع به فهم المقاصد، ولكن هذا فيه خطر؛ لأنه قد ينقطع عن الطلب فيكون عارفاً فقط بالنحو والصرف والبلاغة، ولم يعرف شيئاً من الفقه ولا من الحديث! وهذه مشكلة. والعكس في منهجية أخرى يبدأ الطالب بعلوم المقاصد ثم بعد ذلك تأتي الآلات، لكن في كثير من الأحيان يمتلئ الطالب بالمقاصد، وتبقى ثغرة كبيرة جداً فقدها من الوسائل، فيحتاج إذاً إلى الاعتدال والموازنة، فيأخذ من كل علم طرفاً في البداية، وأهل العلم ألفوا في كل علم كتباً متفاوتة الحجم، كتب صغيرة للمبتدئين، وكتب متوسطة، وكتب كبيرة جامعة، فلابد أن يبدأ الإنسان من كل علم بكتاب من المختصرات أولاً؛ حتى يأتي ويغطي المساحة التي يريد دراستها، والعلوم الشرعية وآلاتها تصل إلى خمسة وأربعين علماً فقط، أي: خمسة وأربعين تخصصاً، فكل علم من هذه العلوم يأخذ الإنسان فيه كتيباً صغيراً أو مختصراً فيقرؤه، وإذا حفظه فهذا أفضل وأكمل، ثم بعد ذلك يأتي التوسع، وسيجد نفسه قادراً على المتابعة، وإذا استطاع أن يأخذ من كل علم عدداً من الكتب يحفظها فيه؛ فسيكون أهلاً حينئذ للازدياد حتى يصل إلى مستوى الاجتهاد، وإذا لم يستطع فعلى الأقل يكون لديه عدد من الكتب في العلوم السياسية، فهذا من الأمور التي لابد منها.

أهمية التأصيل الشرعي بالأدلة

أهمية التأصيل الشرعي بالأدلة بعد اللغة والفقه يحتاج الطالب إلى التأصيل الشرعي بالأدلة، فاليوم كثرت الفتن والخلافات بين الناس، وهذه الخلافات ليس في الأمة معصوم يمكن أن يحسمها، فالذي يمكن أن يحسمها هو الدليل، ومن تمسك بالوحي فقد اعتمد على ركن ركين، فلذلك يحتاج الإنسان إلى تأصيل لجزئيات معلوماته الفقهية، وأن يكون معه حجج، وهذا التأسيس يكون بأن يأخذ الطالب كتاباً من كتب أدلة الأحكام من القرآن، ثم كتاباً من أدلة الأحكام من الحديث مختصراً فيبدأ به، فطالب العلم الذي يريد التأسيس البدائي في أدلة الأحكام من القرآن عليه أن يأخذ كتاب الإكليل للسيوطي مثلاً، واسمه: الإكليل في استنباطات التنزيل، وهو كتاب مختصر جداً، لكن فيه الاستنباطات من خمسمائة آية هي آيات الأحكام. وكذلك يأخذ كتاباً من أدلة الأحكام من الحديث مثل: منتقى الأخبار، أو بلوغ المرام، أو نحو ذلك من الكتب، فيكون محيطاً بهذه الأحاديث حافظاً لها، ويعرف ما فيها من العلل، ويعرف تخريجها، ويستطيع الاعتماد عليها في استنباطه، وإذا وجد من ينتقي له الأصح، ويسقط ما كان ضعيفاً منها، فهذا جيد، فأهل العلم عندما يؤلفون في أدلة الأحكام يجمعون ما صح وما لم يصح لديهم؛ لأنه من المعلوم أن قصدهم بالصحيح والضعيف الظن فقط، وهذا الغالب، ولذلك قال العراقي رحمه الله في الألفية: وفي الصحيح والضعيف قصدوا في ظاهره لا القطع والمعتمد وإمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصح مطلقاً وقد خاض به قوم فقيل مالك عن نافع فيما رواه الناسك مولاه واختر حيث عنه بسند الشافعي قلت: وعنه أحمد فلذلك يقصدون بقولهم: هذا صحيح أو هذا ضعيف: الظاهر الذي ظهر لنا منه، وإلا فيمكن أن تكتشف فيه علة، ولو كان ظاهره الصحة، ويمكن أيضاً أن يكون ما عللناه به وضعفناه به لا يضر، فيكون صحيحاً من وجه لم نطلع نحن عليه، فلذلك يجمعون في كتبهم -في أدلة الأحكام- الصحيح والضعيف، ولكن في كثير من الأحيان يحكمون عليها، فالحافظ ابن حجر مثلاً في البلوغ في كثير من الأحاديث يحكم عليها، يقول: إسناده جيد أو ضعيف، فيحتاج الطالب إلى حسن الاختيار في هذا المجال.

أهمية تزكية النفس

أهمية تزكية النفس من الأولويات في حياتنا المعاصرة ما يتعلق بالتربية، فلابد أن يكون الإنسان لديه من الدوافع التربوية ما يدعوه للاستمرار، ويتعلم كيف يعالج نفسه؟ فالنفس مثل الدابة إذا أهملها الإنسان كانت حروراً شروداً، وإذا رباها انقادت له، فيحتاج الإنسان إلى تربية نفسه، ثم بعد ذلك يربي أهل بيته وطلابه ومن يؤثر فيهم، وهذه التربية تحتاج في الواقع إلى تأسيس قوي من الإيمانيات، والروحانيات، وإحسان التعامل مع الله، والدافع العقدي الذي يدفع الإنسان للعمل من خلال عقيدته، حتى يرتبط كل شيء بعقيدة الإنسان، فهذا الجانب التربوي مهم جداً في التأسيس لدى الإنسان، وهذا الجانب يجده الإنسان في كتب متخصصة، ولابد أن يكون لديه تأسيس منها، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في إحياء علوم الدين للغزالي رحمه الله: كتاب لا يستغني عنه طالب علم، ومع ذلك حذروا من مواضع؛ لأن فيه كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وفيه أيضاً بعض الاصطلاحات والأمور التي لا يحتاج إليها طالب العلم، لكن مع ذلك فيه أمور من نكت الشريعة ومعانيها ما يحتاج إليها الإنسان في التربية، مثل: معاني الصلاة، وقضايا الطهارة، وقضايا الإخلاص لله، وقضايا معالجة النفس، وقضايا أمراض القلوب، مثل: الحسد والبخل، وغير هذه الأمور مما لا يستغني عنها الطالب. بعد أن يضع الإنسان لنفسه هذه المنهجية، ويختار المختصرات التي سيتقنها، يرتبها على حسب ما تيسر له، فإذا كان مثلاً في مكان ليس فيه من يعرف علماً من العلوم فإنه يؤخر ذلك العلم إلى وقت آخر، فاستغلال الباب المفتوح أولى من البحث في الباب المغلق.

أهمية الفقه

أهمية الفقه من الأولويات التي لابد من العناية بها في هذا الزمان: الفقه الذي يحل مشكلات الناس، ويتدخل في كل جزئيات حياتهم، وهو من العلوم التي يعيشها الناس، فالناس بحاجة إلى ما يصلح طهارتهم وصلواتهم، وبحاجة إلى ما يصحح عقودهم وأنكحتهم وبيعاتهم، وهم بحاجة إلى متابعة دقيقة لواقعهم، ولا يكون ذلك إلا بالفقه، فكثير من طلاب العلم الآن إذا عرضت له مشكلة حتى في طهارة زوجته من حيضها ونفاسها لا يستطيع أن يحل لها المشكلة، ويظنون أن هذا من الأمور التي ليست مهمة في الدين، وبعض الناس يتندر على مسائل الحيض والنفاس، ويرى أن هذه المسائل لا يشتغل بها الناس كثيراً، لكن الواقع أن هذا ما يعيشه الناس، ومشكلاتهم اليومية هي هذه، فإذا لم يكن للناس حلول فيها، ولم تستطع أن تجد حلاً لأقرب الناس إليك، في أدنى مشكلة، فكيف تحل أمر الأمة بكاملها؟! إذاً: يحتاج الطالب إلى التأسيس في مجال الفقه، والفقه قد توسع كثيراً، فأصبح فيه عدد كبير من المذاهب، وفي كل مذهب عدد كثير من الكتب، ولا يستطيع الإنسان الإحاطة بذلك، لكن بحسبه في البداية أن يأخذ مختصراً واحداً من مذهب واحد، فإذا أتقنه يقرأ بعد ذلك من الكتب الفقهية شرحاً لذلك المختصر الذي لديه، وسيجد فيه توسيعاً لمادته، سواءً كان من مذهبه أو من مذهب آخر.

أهمية علوم اللغة العربية

أهمية علوم اللغة العربية من أهم ما يشتغل به الإنسان في العصر الذي نحن فيه في بداية الطلب: ما يتعلق بلغة العرب التي بها نزل القرآن، وبها تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان الذي ليس لديه تأسيس لهذه اللغة لا يستطيع التلقي، ولا الفهم عن الله، ولا الفهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالناس الآن لم يعد أحد منهم عربياً بالسليقة، بل كلهم يدرسون أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن المضاف إليه مجرور، كل الناس يدرسون هذا، ولا يستطيع أحد أن يتكل على سليقته في عالمنا المعاصر، فإذا كان الحال كذلك احتاج الإنسان إلى أن يأخذ من لغة العرب بعلومها المختلفة مبادئ تأسيسية، وهذه المبادئ لابد أن يبدأ فيها بمفردات اللغة، وقديماً كان الناس يحفظون في مفردات اللغة دواوين العرب، والوقت اليوم ضيق عن متابعتها، وفيها كثير من المضامين السيئة، نعم؛ فيها بعض الشعر الذي فيه مروءات، وفيه شهامة، يحض على الكرم والضيافة والشجاعة والأخلاق الحميدة، لكن منها أيضاً أشعار أخرى مضامينها سيئة، وكذلك بعض الدواوين الإسلامية، وقديماً كان بعض أهل العلم يذكرون أن ديوان غيلان بن عقبة المنقري التميمي فيه ثلث مفردات اللغة العربية، ولكن الواقع أن الديوان أيضاً فيه ما في أشعار الجاهليين، فيه كثير من الغزل، والمدح لأقوام قد لا يستحقون ذلك المدح كله، وفيه معاني كبيرة يحتاج إليها الإنسان في تأسيس لغته وتقويم لسانه، وفيه ألفاظ يحتاج إليها الإنسان كذلك في فهم الكتاب والسنة، وقد كان الأولون يحفظون أشعار الناس جميعاً، ف عبد الله بن العباس رضي الله عنهما كان لا يسمع شعراً إلا حفظه؛ ولذلك كان ترجمان القرآن، واشتهرت مسائل نافع بن الأزرق رئيس الخوارج لما أتاه في مكة يسأله عن تفسير كتاب الله، فكان كلما سأله عن كلمة بين له معناها، فيقول: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فيقول: نعم، أما سمعت قول فلان فينشده، فمنها أنه سأله عن آية: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ما معنى مجذوذ؟ قال: غير مقطوع، قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري: فترى خلفها من الرجع والوقع منيناً كأنه إهباء فكان يسأله عن المسائل ويسأله عن شواهدها من اللغة، وبينما هو معه إذ جاءه عمر بن أبي ربيعة المخزومي وهو شاب من قريش في حداثة سنه، فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر، فأنشده قصيدته: أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر بحاجة نفس لم تقل في جوابها فتبلغ عذراً والمقالة تعذر تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ولا الحبل موصول ولا أنت مقصر وهي ثمانية وستون بيتاً، فأنشدها كاملة فحفظها ابن عباس، فقال له نافع بن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! نضرب إليك آباط الإبل في طلب العلم فتعرض عنا، أو فتضجر بنا، ويأتيك شاب حدث من قريش ينشدك سفهاً فتسمعه! فقال ابن عباس: ما سمعت سفهاً، فقال: بلى أما سمعت قوله: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيخزى وأما بالعشي فيحصر فقال: ما هكذا قال، إنما قال: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر ولو شئت أن أعيدها عليك لفعلت، فلما كان من الغد سأله عن قول الله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119]، قال: ما معنى تضحى؟ قال: تبرز للشمس، أما سمعت قول المخزومي بالأمس: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر فلابد من التأسيس في اللغة.

أهمية مطالعة الكتب

أهمية مطالعة الكتب مرحلة أخرى لطالب العلم، وهي ما يستفيده الإنسان مطالعةً، فالإنسان بعد التأسيس أصبح مشاركاً في بناء نفسه، وليس كل العلوم يجد الإنسان وقتاً لقراءتها على الشيوخ، والكتب هي شيوخ موجودة معنا، لكن شيوخ من جنس آخر كما قال الحكيم: لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم من مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا فإن قلت أحياء فلست بكاذب وإن قلت أموات فلست مفندا فهذه الكتب هي في الواقع شيوخ تأخذ عنها، وإن كان فيها بعض الخطأ، فإنه لا تخلو الكتب من الخطأ، فقد قال البويطي رحمه الله: لما أكمل الشافعي كتابه ناولينه فقال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قلت: يا أبا عبد الله! أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، أبى الله العصمة إلا لكتابه؟ الكتاب المعصوم الوحيد الذي ليس فيه أي خطأ هو كتاب الله، وما سواه من كتب لابد أن يوجد فيها أخطاء، لكن مع هذا التأسيس يجد الإنسان ما يصحح به الخطأ، ولا ينبغي أن يعتمد على الكتب الأصلية دون رواية، وأما الشروح فقد لا يحتاج فيها إلى رواية، لكن متون الكتب وأصولها لابد من روايتها، أي: سماعها على شيخ، وذلك الشيخ أيضاً لابد أن يكون له رواية فيها، فتبحث هل لديه رواية في الكتاب الفلاني؟ هل سمعه من شيخ؟ هل قرأه على شيخ؟ لأن كثيراً من الشيوخ يخطئون في قراءة بعض الكتب التي لم يرووها ولم يسمعوها عن شيخ، فيقعون في أخطاء كبيرة جداً، ولذلك قال أبو حيان رحمه الله: يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلوم وما يدري الجهول بأن فيها مزالق حيرت ذهن الفهيم إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيم وتلتمس الأمور عليك حتى تصير أضل من توما الحكيم فيحتاج الإنسان إذاً إلى رواية لها، وتقويم لسانه في قراءتها.

آداب المطالعة

آداب المطالعة يحتاج الطالب إلى منهجية في المطالعة، ومنهجية المطالعة هي ألا يشوش الإنسان فكره إذا أراد قراءة كتاب ما، وإذا بدأ المطالعة في كتاب لابد أن يكمله، ولابد أيضاً أن تكون هذه المطالعة مطالعة علمية، فالمطالعة غير العلمية هي أن تقرأ في كتاب وليس لديك قلم ولا ورقة، ولا تحفظه، بل تقرأه فقط، فلا تحرز منه فائدة، والمطالعة العلمية هي أن تجعل لك دفتراً لكل كتاب تطالعه، وتضع فيه اسم الكتاب، وتبدأ الصفحة الأولى بتاريخ، وتكتب: بدأت القراءة الساعة كذا لليوم الفلاني من الشهر الفلاني من العام الفلاني في الكتاب الفلاني من الصفحة كذا، حتى تكمل ما تطالعه منه، وتقسم الدفتر إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: للزوائد النادرة، والأشياء العجيبة التي استفدتها من الكتاب، ولا تكتب الأشياء المكررة والموجودة في الكتب كلها؛ لأنها موجودة في الكتب، ولا فائدة من نسخك لكتاب مطبوع، لكن تكتب الفوائد النادرة، والأشياء الغريبة جداً. القسم الثاني: لما فهمته أنت من الكتاب مما ليس فيه، وهو ما يسمى: قراءة ما بين السطور، فتستفيد معلومات بفهمك وربطك للمعلومات بمعلومات سابقة لديك، فتكون بذلك استفدت من هذا الكتاب فهماً ومقارنة، فتكتب المعلومات التي استفدتها حتى لا تضيع منك، وستبقى مادة لديك في المستقبل لكتبك ودروسك التي أنت فهمتها من الكتب، ولو لم تكن مخصوصة ولا موجودة فيها. القسم الثالث: للإشكالات: كل كتاب قرأته لابد أن يعرض لك فيه كثير من الإشكالات، بعضها ناشئ عن أخطاء مطبعية، وبعضها ناشئ عن أخطاء من المؤلف نفسه، وبعضها ناشئ عن عدم فهم منك أنت، وبعضها ناشئ عن اختلاف في الدلالة، فدلالة اللفظ الواحد قد يكون مشتركاً، وقد يكون مجازاً، وقد يكون مستعملاً في وقت المؤلف استعمالاً شائعاً، وفي وقتك غير ذلك. فتحتاج إلى تقييد هذه الإشكالات للرجوع إليها في مراجع أوسع، أو لسؤال من تلقاه من أهل العلم عنها، فالاستشكال علم كما قال أهل العلم، فإذا استشكلت شيئاً فقد ازددت علماً؛ لأنك ستبحث عنه، وسيقتضي ذلك منك اطلاعاً على ما لم تكن لتصل إليه لولا ذلك الإشكال، وكم من شوارد علمية نالها الإنسان ولم يكن يبحث عنها، وإنما بحث عن مسألة أخرى دونها، ففتح الكتاب وقرأ فاستفاد علماً آخر أكثر مما كان يبحث عنه! فإذاً: ستقسم دفتر المطالعة لكل كتاب إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: تقييد النوادر التي هي مخصوصة في الكتاب. القسم الثاني: تقييد ما فهمته أنت ولم يكن مدوناً في الكتاب. القسم الثالث: للإشكالات التي عرضت لك أثناء قراءتك للكتاب. وتستمر على هذه المنهجية حتى تكمل ذلك الكتاب، وتحتفظ بالدفتر، ثم تأتي إلى كتاب آخر. ومن المهم جداً في المطالعة العلمية: أن تكون لديك مقارنة بين الكتب المتقاربة، مثلاً إذا كنت تدرس سورة يونس، فتريد مطالعة كتب التفسير في هذه السورة، والمقطع الذي لديك هو من الآية رقم واحد إلى الآية رقم عشرة مثلاً، فستأخذ من كل مدرسة من مدارس التفسير تفسيراً أو اثنين أو ثلاثة، فتتطلع على ما فيها، فيغنيك بعضها عن بعض، كما هي قاعدة أهل الفرائض: تكتفي بأحد المثلين، وبأكبر المتداخلين، وبحاصل ضرب أحد المتباينين في الآخر، وعندها يتباين الرءوس والسهام بحاصل ضرب أحدهما في الآخر، فتنظر بهذه الأنظار إلى الكتب، فمثلاً: إذا قرأت في كتب التفسير بالأثر، ستجد أنهم ينقلون مثلاً عن ابن عباس كذا، وعن مجاهد كذا، وعن عكرمة كذا، وعن سعيد بن جبير كذا، وعن الضحاك كذا، وعن مقاتل كذا، وعن زيد بن أسلم كذا، وعن عبد الرحمن بن زيد كذا، وعن محمد بن كعب القرظي كذا، وعن أبي العالية كذا، وعن قتادة بن دعامة السدوسي كذا. وهذه الآراء غالباً تكون متداخلة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن تفسير السلف إنما يقصد به المثال، كما لو سألت عن الخبز: ما هو؟ فرفعت خبزةً فقلت: هذا الخبز، فليس معناه أنك تزعم أن الخبز محصور فيما رفعت، بل المقصود أن تبين له فرداً من أفراد الماهية ليفهم به الماهية، وإذا سألك إنسان عن تفسير قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4]، قال: ما هو القلم؟ فرفعت قلماً وقلت: هذا القلم. ليس معناه أنك تزعم أن القلم الذي علم الله به هو هذا، بل المقصود أنك تريد شيئاً يفهم به المقصود، ويفهم به ما يطلب فهمه، وهكذا كان تفسير السلف، ومن هنا لم تتبع الروايات، ولم تتعب في تتبعها، ثم تأخذ بعض التفاسير التي تعتني بالرأي، ثم تأخذ بعض التفاسير الفقهية، ثم تأخذ بعض التفاسير اللغوية، وتأخذ بعض تفاسير المتأخرين، فتجمع نتيجة الجميع، فتكون ملخصة لديك تستطيع تقديمها في درس في تفسير الآيات العشر الأول من سورة يونس، ثم تذهب للمقطع الثاني وهكذا. وإذا كنت مدرساً فستكون لديك مادة جاهزة لكتاب أو لمقرر علمي، وستختصر بها على الطالب كثيراً من المتابعات، وبالأخص إذا كنت صاحب توثيق، فكل قول تنقله من كتاب توثيقه بالصفحة والجزء، حتى يرجع إليه إذا وقع فيه إشكال في الطباعة أو في الخط، فإذا كنت صاحب توثيق فستنفع الطلاب، وستختصر عليهم المسافات والوقت. وبالإمكان أن يرجع الطالب إلى بعض الورقات التي أعدت في منهجية الطلب، وفيها بعض الكتب المقترحة لطلاب العلم في التأسيس في كل علم من هذه العلوم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

كم ترك الأول للآخر

كم ترك الأول للآخر الغريب أن هذه الكتب جميعاً فيها أماكن تبقى مصونة، وأرزاق تبقى مدخرة لبعض المتأخرين، فيفتح الله لهم فيها ما كان مسدوداً على من سواهم؛ ولذلك قال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. ويقول أحد علمائنا رحمه الله: وقسمة الحظوظ فيها وادخلوا فهم المسائل التي تنعقل فيحرم الذكي بالفهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزلي فالقضية كلها أرزاق، ومن هنا فقد يرزق المتأخر فهماً لم ينله المتقدم، وأنتم إذا دخلتم أية مكتبة ستجدون فيها كثيراً من كتب التفسير، فيعجب الإنسان لماذا لا يستغني الناس بتفسير فلان عن بقية التفاسير؟! و A أن بعضها لا يغني عن بعض؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنزل إلينا هذا القرآن بأساليب متنوعة مختلفة، وجعل فيه رزقاً لكل جيل من أجيال هذه الأمة، كل جيل يفهم منه ما لم يفهمه من قبله، فلذلك لو أردت أن تستغني فقط بتفسير ابن جرير الطبري المتوفى سنة ثلاثمائة وعشر من الهجرة، أو أن تكتفي فقط بتفسير أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة ثلاثمائة وثلاثة، أو أن تكتفي فقط بتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفى سنة ثلاثمائة وسبعة وعشرين؛ فإنك حينئذ ستقتصر على ما كان لدى السلف، وقد تجدد بعدهم الكثير من الفهم الذي لم يصلوا إليه في القرآن، وهي أرزاق، ولو كان السابقون لخصوا وأخرجوا الزبدة من الكتب لما بقي للمتأخرين أثر وفائدة، بل لأمكن الاستغناء بتآليف المتقدمين عن المتأخرين، وهذا لا يقول به أحد، فلذلك احتيج في كل عصر من العصور إلى مؤلفات جديدة، ولا يزال الوقت دافعاً إلى ذلك، وبعض الناس اليوم إذا رأى من يؤلف أي كتاب يزهده فيه فيقول: لماذا تؤلف في هذا وقد ألف فيه السابقون؟ ولكن الواقع أن لكل أهل عصر مفاهيمهم، وهذا يقتضي منهم أن يفهموا كثيراً مما كان غامضاً، ومما يكون متشابهاً من متشابهات القرآن، فالقرآن {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7]، وهذا التشابه يزول مع الزمان، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39]، فـ (لما): هي في الماضي المنقطع، معناه: أنهم سيأتيهم تأويله، وهذا يقتضي بالضرورة أنه سيشرح لهم، وتأويله: هو بروزه للأيام ومشاهدة معانيه، كما قال ابن رواحة رضي الله عنه: خلوا بني الكفار عن سبيله نحن ضربناكم على تنزيله واليوم نضربكم على تأويله أي: بروزه للأيام، ولذلك نفهم اليوم في كثير من آيات القرآن ما لم يفهمه السابقون والسلف الصالح، وليس ذلك تفضيلاً للمتأخرين على المتقدمين، بل هو رزق الله، كما رزقنا آلات ووسائل لم تكن لديهم، مثل آلات رفع الصوت، وآلات التسجيل، وآلات الطباعة، وآلات معرفة الوقت، فهذه وسائل لم تكن لدى المتقدمين، وفتح الله لنا فيها، فكذلك الفهم والأشياء المعنوية يفتح الله فيها أيضاً للمتأخرين بحسب. ما يرزق الله سبحانه وتعالى به الناس.

الأسئلة

الأسئلة

طريقة الحفظ

طريقة الحفظ Q كيف يحفظ الطالب المتون العلمية (أي: ما هي آلية الحفظ)؟ A بالنسبة لآلية الحفظ يحتاج فيها الإنسان إلى ما يلي: أولاً: تقويم ما يريد أن يحفظه الطالب، فالإنسان إذا حفظ شيئاً على وجه الخطأ، فلا فائدة من حفظه له، مثل كثير من الذين يقرءون القرآن، ويتقدمون أئمة للناس وهم يخطئون ويكسرون في كل كلمة، فما فائدة حفظ هؤلاء؟! لو حفظوا آية واحدة متقنة لكانت خيراً لهم من حفظ القرآن كله على وجه الخطأ، فلذلك لابد من التصحيح أولاً. إذاً: أول خطوة في الحفظ هي: تصحيح ما تريد حفظه. ثانياً: أن يأخذ الإنسان الشيء الذي يستطيع حفظه، فتجد بعض الطلاب يريد مسابقة الزمن، فهو يريد أن يحفظ صفحات في وقت واحد، هذا غير صحيح، خذ أسطراً يسيرة، فإذا أحكمت حفظها وأتقنتها فأنت رابح، لا تتعب نفسك بصفحة كاملة أو صفحتين في وقت واحد، فهذا متعب للذهن، خذ الشيء اليسير، ثم الشيء اليسير بعده، ثم الشيء اليسير بعده، وكلما كان التجزيء ممكناً يكون أفضل في الحفظ وأقوى. ثالثاً: الوقت المختار للحفظ، وهو إما آخر الليل وإما أول النهار، هذا أحسن وقت للحفظ، السدس الأخير من الليل أو الصباح الباكر، بعد صلاة الفجر، فهذا أحسن وقت للحفظ؛ لأنه أصفى للذهن؛ ولأن الإنسان في هذا الوقت في الغالب لا يسمع كثيراً من الأصوات المزعجة، ولا يشم كثيراً من الروائح المزعجة، ولا ينشغل بكثير من الانشغالات، وأي وقت آخر ليس فيه انشغالات، ويجد فيه الإنسان راحة جسمية وقلبية، فهو أيسر للحفظ. رابعاً: كثرة التكرار، فإذا أردت حفظ حديث واحد مثلاً، أو أربعة أسطر من كتاب، أو خمسة أبيات؛ فاجلس وكررها كثيراً حتى ترسخ ويتقوم بها لسانك، ثم احفظها عن ظهر قلب من غير نظر إليها، ثم اتركها فترة لتتخمر في ذهنك، ثم عد إليها واقرأها وأكثر من التكرار؛ لأن التكرار الأول لابد بعده من فترة تخمير، وهو عبارة عن امتحان للنفس، ثم تعود إلى هذا التكرار مرة أخرى ولو كانت محفوظة لديك، فلابد أن تكررها، ويمكن أن تضع لنفسك عدداً معيناً من التكرار، ويوجد شيخ من العلماء المشاهير كان متقناً لكثير من الكتب ويحفظها مع كبر سنه، فسئل: ما السبب؟ فقال: كنت أكررها ألف مرة، أكرر النص أو المتن ألف مرة، وأكرر الشرح مائة مرة! فلذلك لابد أن يفرغ الإنسان وقتاً للحفظ، فإذا كانت أربعة أبيات أو خمسة أبيات، أو حديثاً واحداً، وتأتي بهذا العدد من التكرار، فسيرسخ المحفوظ رسوخاً بيناً، وبالأخص إذا كان التكرار متقطعاً، مثلاً: تكررها مائة مرة الآن وتنقطع عنها في الصباح، ثم مائة مرة في وقت الظهيرة، ثم مائة مرة في المساء، ثم مائة مرة في الليل، فيكمل لك ألف تكرار في مدة قصيرة، وسترسخ لديك رسوخاً بيناً، ومع تقدم سنك لا يضعف حفظك لها ولا إتقانك لها، بينما الأمور التي قرأتها فقط أو كررتها أربعين مرة أو عشرين مرة فإنه إذا تقدم بك العمر فستنساها. خامساً: المراجعة الدائمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في حفظ القرآن: (تعاهدوا القرآن فلهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من الإبل في عقلها)، ومثله المحفوظات كلها، فإذا كان القرآن الذي هو نور ووحي يتفلت من الصدور، فكيف بما سواه من كلام البشر؟! فلذلك تحتاج إلى مراجعة مبرمجة، كل أسبوع يكون عندك يومان للمراجعة، ليس فيهما استزادة، لا تحفظ فيهما، عطل الحفظ يومين من الأسبوع لمراجعة ما حفظته طيلة الأسبوع. وهكذا الذي يريد حفظ القرآن، فما حفظه في النهار من القرآن يصلي به في الليل حتى يرسخه في ذهنه. ولابد أن تأخذ يوماً كاملاً من الشهر تعتزل الناس فيه، وتراجع كل محفوظاتك التي حفظتها خلال الشهر. وبعض الكتب قد تحفظها في ستة أشهر مثلاً، فإذا حفظتها حفظاً متقناً في ستة أشهر، فينبغي عليك أن تعطي كل شهر يوماً لتراجعها فيه، وبذلك يرسخ ما حفظته، ولا تحتاج بعد هذا للرجوع إليه. إذاً: هذه بعض وسائل الحفظ وثباته، ونسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.

العلم سراجنا

العلم سراجنا العلم نور يستضيء به السائرون إلى الله عز وجل، ولهذا كان العلماء هم أهل الخشية والخوف والمراقبة لله عز وجل، وكما قيل: من كان بالله أعرف كان لله أخوف. فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم ما يهمه من أمر دينه، وما يستطيع أن يعبد الله به على بصيرة.

فضل العلم والعلماء

فضل العلم والعلماء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله عز وجل قد وصف نفسه بالعلم، وأثنى على العلماء من عباده، واستشهد العلماء على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، وأخبر أن العلماء وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وأخبر أنه يرفع منزلتهم ويعلي درجتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَا فْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يصلحون للتلقي عن الله عز وجل، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وحكم لصالحهم في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وكذلك نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلتهم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء)، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا -معاشر الأنبياء- لا نورث، ما تركناه صدقة، إنا لم نورث ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثنا هذا العلم فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر)، وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحض على طلب العلم، فقد أمره الله بذلك في قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وحض صلى الله عليه وسلم على طلبه، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). وكذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في السنن أنه قال: (إن العالم يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر). وكذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم في السنن والمسند أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم).

ضرورة طلب العلم

ضرورة طلب العلم وكل هذا يستشعر به المؤمن المخلص ضرورة طلب العلم، ومنزلته ودرجته عند الله تعالى، ويعلم أنه لا يمكن أن يعبد الله تعالى إلا عن طريقه، فلا يمكن أن يعبد الله على جهل، وما عصي عز وجل إلا عن جهالة، إما عن جهالة به أو عن جهالة بتشريعه، والذين يعصونه من الذين يعرفون أنهم خالفوه قد جهلوه؛ لأنهم لم يتصلوا بمعرفة الله؛ فلذلك عصوه، والذين يعصونه وهم لا يعلمون أنهم عصوه فقد جهلوا تشريعه وما أرسل به رسله؛ فإن الله عز وجل لم يترك البرية سدى، وإنما أرسل إليها الرسل ليعلموها ما أنزل إليهم من ربهم، وليرشدوها إلى ما يرضيه عز وجل، ومن هنا ختم الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم المقفي لما سبق والخاتم له، الذي جاء بهذه الآيات والأحاديث التي سقناها، وحض صلى الله عليه وسلم على هذا العلم وعلى الاتصاف به، وجعل منزلة الناس إنما هي بحسب ما تعلموه وحملوه. ومن هنا فضّل الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار على الأعراب الذين انشغلوا عن طلب العلم.

أقسام الناس في العلم

أقسام الناس في العلم وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس حيال هذا العلم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قومٌ تعلموا ما ينفعهم وينفع من سواهم، فعلموا الناس وأرشدوهم، وعملوا هم بما تعلموا، وهؤلاء في أعلى الدرجات. القسم الثاني: قومٌ تعلموا ما يعملون به وينجيهم من عذاب الله، ولكن لم يعلموا الناس، ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى ذلك المستوى، وهؤلاء هم الدرجة التي تليها. القسم الثالث: قومُ لم يرفعوا بذلك رأساً، ولم ينتفعوا بهدى الله الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فأعرضوا عما جاء به، فلم يتعلموا ولم يعلموا. وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لهذه الأقسام الثلاثة، فقد أخرج البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه ما بعثني الله به فعلم، وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به)، فهنا بيَّن هذه الطبقات، وجعل المعرضين عن هذا التعلم الذين لا يرفعون به رأساً ولا ينتفعون به في أدنى الدرجات وأحطها وأبعدها عن الحق. ومن أجل هذا قال الله سبحانه وتعالى في وصف الأعراب: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]، فليس وراء الجهل بحدود ما أنزل الله على رسوله عيب، ولذلك أخرهم الله تعالى بالمنزلة، وجعل ولاية المؤمنين لهم ناقصة. فالله تعالى جعل الولاء درجتين: الدرجة الأولى: الولاء العام بين عامة المسلمين وهذا الولاء هو المذكور في قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وفي قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعض} [التوبة:71]. الدرجة الثانية -وهي أقوى من سابقتها-: الولاء بين العاملين لنصرة الدين والساعين لإعلاء كلمة الله. وهذا الولاء أخص وأقوى من سابقه، وهذا الذي أكده سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72]. فجعل هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يشاركوا في إقامة دولة الإسلام ولم يتعلموا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما جلسوا في باديتهم وما كانوا عليه، مع أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، جعل ولاء المؤمنين لهم مختصاً بمن لم يكن بينه وبين المؤمنين عمل، فقال: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، فجعل هذا الولاء الخصوصي في أن يهاجروا، فالهجرة مشاركة في إقامة دولة الإسلام، ومشاركة كذلك في تعلم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

تفضيل طلب العلم على العزلة

تفضيل طلب العلم على العزلة ومن هنا لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرب بعد الهجرة إلا لأفراد قلائل، منهم: سلمة بن الأكوع، فقد أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرب لما علم أنه قد جمع من العلم ما يكفيه، وأنه لا يقدر على كثير من خطوط الخلطة، وكذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر رضي الله عنه بالتعرب، بل أخبر أن ذلك سيقع فقال: (رحم الله أبا ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)، وذلك لما علم من حدته، وأنه لا يستطيع الصبر على كثير من الخلطة، فأذن له بالخروج بعد أن يجد أمارات يعرفها. وقد رأى هذه الأمارات حين ثارت الفتنة في خلافة عثمان بن عفان، فخرج من المدينة، وبقي بالربذة حتى مات. ولهذا فالاشتغال بتعلم ما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم هو أفضل ما يشتغل به الإنسان من عبادة الله، ومن أجل هذا سئل مالك رحمه الله تعالى عن المقرب للقتل الذي لم يبق من عمره إلا ساعة واحدة في أي عبادة يصرفها؟ فقال: علم يتعلمه. فقيل له: يا أبا عبد الله! إنه لا يعمل به؟ فقال: تعلمه أفضل من العمل به. وقد صرح الشافعي رحمه الله بأن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، وذلك ما رواه السيوطي رحمه الله في قوله: والعلم خير من صلاة نافلة فقد غدا الله برزق كافله وقد كان الشافعي رحمه الله مثالاً في ذلك، فحين زار أحمد بن حنبل رحمه الله خصص له بيتاً للضيافة، فنزل في تلك الغرفة وبقي وحده، وبقيت ابنة لـ أحمد بن حنبل تراقبه، فلما أصبح قالت لأبيها: عجبت لضيفك هذا الذي يشار إليه؛ فإنه أكل كثيراً ونام كثيراً وصلى بغير وضوء! فتعجب أحمد من ذلك، فسأله فقال: أما أني أكلت كثيراً فقد سمعت أن من طوى بطنه عن طعام أخيه وهو يشتهيه لم يحسن أدبه معه، وأما أني نمت كثيراً فلم أنم، وإنما سمعت حديثاً فأعملت ذهني في الاستنباط منه، وأخرجت منه أربع عشرة مسألة -وهو حديث أنس بن مالك في قصة تردي الشاة من سلع-، وأما أني صليت بغير وضوء فما انتقض وضوئي حتى أذن المؤذن، فالوضوء الذي صليت به العشاء هو الذي صليت به الفجر. ومن أجل هذا حرص كثير من سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى على أن ينظموا وقتهم وأن يقسموه، وأن يجعلوا جزءاً لا بأس به من أوقاتهم لتعلم هذا العلم، وجعلوا ذلك رباطاً في سبيل الله، حتى إن أحمد بن حنبل رحمه الله ذهب في تفسير قول الله تعالى في مصارف الزكاة: {وفي سَبيلِ الله} [التوبة:60]-وهو المصرف السابع من مصارف الزكاة الثمانية- إلى أن المقصود بذلك المجاهدون في سبيل الله الغازون، وطلبة العلم الذين يدرسونه، والحجاج والمعتمرون، وجعل طلاب العلم بمثابة الغازين المجاهدين في سبيل الله يستحقون سهماً من الزكاة حتى لو كانوا أغنياء. وكذلك فإن المالكية رحمهم الله تعالى نصوا على أن المشتغلين بتعلم فروض الكفاية يتحملون فرض كفاية عن الأمة، فيستحقون الارتزاق على ذلك من بيت المال إذا كان بيت المال منتظماً، فإن لم يكن للمسلمين بيت مال كان لهم حقٌ في أموال الناس، وقد فصل العلماء في هذه المسألة، وشيخي رحمه الله يقول: من واجب الإسلام جمع مال تقضى به حقوق بيت المال إن لم يكن كحاملي علوم فرض الكفاية من الموسوم بحسن إدراك مع السريرة والطيب في سجية وسيرة ومن خلا من هذه الأوصاف منعه لفقد الاتصاف بل طلب العلم بتلك المرتبة خالٍ من المصلحة المجتنبة من هو في التكليف ما لم يطق وعبث في فعله والمنطق وكل يوم حجروه حجرا فكيف يأخذ عليه أجرا ذكره البواق في الإبداع فانظر تجده يوم يدع الداع

أقسام العلم الذي ينتفع به

أقسام العلم الذي ينتفع به وكذلك فإنهم نصوا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وفي رواية: إلا من ثلاثة-: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية) على أن العلم الذي ينتفع به ينقسم إلى قسمين: إما علم بثه في صدور الرجال وأوصله إليهم، فيتناقله الناس وما يزال ينمو له، ويزداد أجره بحسب من استفاد منه. وإما أن يكون المقصود أن يقف أوقافاً على طلبة العلم، كما فعل ذلك الخلفاء الراشدون، وفعله كثير من أئمة الإسلام في مختلف العصور، ومن أجل ذلك قامت المدارس الوقفية في أكثر بلدان الإسلام، ففي دمشق وحدها وصل عدد المدارس الوقفية التي ليس للناس عليها سلطة وإنما يسيطر عليها العلماء وطلاب العلم في أيام النووي رحمه الله تعالى إلى قرابة السبعين في مدينة دمشق وحدها، وقد كانت دمشق من عواصم الإسلام، ومنها (دار الحديث) التي تعلم فيها النووي وابن الصلاح، وغيرهما من كبار الأئمة، وكذلك منها (الصالحية) التي تعلم فيها آل قدامة وابن تيمية وغيرهم، ومدارس أخرى كثيرة جداً اشتهرت في ذلك الوقت، وكذلك في مصر اشتهر عدد كثير من المدارس الوقفية التي كانت مستقلة تمام الاستقلال، فلا يتأثر فيها العلماء ولا طلاب العلم بأية مواقف أخرى، وإنما كانوا ينفردون لطلب العلم ويجدون ارتزاقهم من هذه الأوقاف، فيعلمون الغرباء ويرجع هؤلاء الغرباء وافدين إلى بلادهم بما حملوه من هذا العلم؛ تحقيقاً لقول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. ولاشك أن العلم الذي يبث في صدور الرجال ذو منزلة عالية؛ لأنه لا ينتفع به أحد مدة هذه الدنيا إلا كتب لمن نقله أجراً، ومن أجل هذا ازداد فضل السلف على الخلف، فكلما ازداد خلف هذه الأمة ازداد أجر وشرف سلفها؛ لأن أجورهم تتضاعف فتضرب في أعداد اللاحقين إلى يوم القيامة؛ فأجور هذه الأمة كلها في ميزان حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دون ذلك في ميزان حسنات أصحابه الذين بلغوا هذا العلم، ونقلوه عنه، ثم دون ذلك في ميزان حسنات التابعين، وهكذا طبقة طبقة حتى يصل ذلك إلينا، ثم إلى ما شاء الله بعدنا، وفي هذا يقول شيخي رحمه الله: وكل أجرٍ حاصلٍ للشهدا أو غيرهم كالعلماء والزهدا حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا مع مزيد عدد ليس يحد وليس يحصي عده إلا الأحد إذ كل مهتدٍ وعامل إلى يوم الجزاء شيخه قد حصل له من الأجر كأجر العامل وضعف ذا من ناقص وكامل وشيخ شيخه له مثلاه وأربعٌ لثالث تلاه وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عالي المرتبة ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف فمن أجل هذا حرص الناس على أن يحملوا ويبلغوا ما حملوه؛ فإن من بلغه علم عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الجزء الذي بلغه من الدين، ومن هنا يتشرف بخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم في ائتمانه على ما بلغه، ولو كان آية واحدة فعليه أن يسعى لتبليغها، وقد وعده الله على ذلك الأجر الكثير، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بلغوا عني ولوا آية)، وثبت عنه أنه قال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فرب مبلغٍ أوعى من سامع)، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم متواتراً أنه قال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فربّ حامل علم ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

العلم أمانة

العلم أمانة إن الذي اؤتمن على هذه الأمانة فلم يؤدها قد تعرض لوعيد شديد، ققد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم؟! فوالذي نفس محمد بيده ليعلمن قوم جيرانهم وليذكرنهم أو ليعاجلن لهم العقوبة)، فقد شدد على أولئك الذين حملوا بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤدوه حق أدائه؛ لأن ما جاء به قد سلمه وأداه إليهم، وهذا من تمام رسالته، فهو رسولٌ إلينا جميعاً ولم يلقنا؛ لأن الله تعالى شاء أن يقبضه عند عمره المحدد، لكن بقيت رسالته ودعوته في أعناق الذين تحملوها أمانة لديهم، فتبليغهم لها من تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم لها، فيجب عليه أن يبلغ من تقوم به الحجة، ويسقط عنه بعد ذلك، كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]، فإنما يلزمه أن يبلغ من تقوم بهم الحجة على الناس، وقد فعل ذلك، ثم بقي أن كل من بلغه شيء عنه يجب عليه أن يبلغه، وتبليغه من تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ورسالته، فيقوم بالخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأداء ما تحمل على الوجه الصحيح، ويكون كالوصية التي لا يحل فيها التغيير ولا التبديل، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة:180 - 181]. فلذلك من بلغه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فيجب ألا يغير فيه وألا يبدل، وأن يؤديه ويبذله لمن طلبه، ومن أجل هذا حض الرسول صلى الله عليه وسلم على أقوامٍ سيأتون في آخر الزمان يلتمسون علمه وما جاء به، وأخبر أنهم وصيته، فقال: (ليأتينكم أقوام يطلبون هذا العلم، فاستوصوا بهم خيراً)، فجعلهم وصية يجب الرفق بهم والتلطف إليهم؛ لأنهم جاؤوا بوصية سابقة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وكذلك فإن حصول الشرف للإنسان يوم القيامة إنما يكونُ بحسب علمه؛ لأنه لا يمكن أن يكون عاملاً إلا بما تعلم، وما لم يتعلمه من هذا الدين فإن قدر على تعلمه حسب عليه وحوسب عليه حينئذ، وما قدر على تعلُمِه وتعلَمَه وعمل به نال ثوابه، وما قدر على تعلمه فتعلمه ولم يعمل به كان حجة عليه، وكان أيضاً في ميزان سيئاته، فلذلك يلزم أن يقبل الناس على طلب هذا العلم، وأن يخصصوا له جزءاً من أوقاتهم، وليس المقصود أن يعطلوا أعمالهم وأن يلتحقوا بمدارس فيتركوا مصالح الأمة متعطلة، بل المقصود أن يتعلم كل شخص منهم ما تيسر، وأن يخصص جزءاً من وقته على حسب طاقته بما تيسر من هذا العلم، كما قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]. فلم يعذر أحداً من هؤلاء، لا التجار، ولا المجاهدون في سبيل الله، ولا المرضى، وهؤلاء كل فئة منهم تمثل فئة جليلة من فئات هذه الأمة، وتمثل طبقةً من طبقاتها، ولذا لم يعذر أحداً منهم في ترك التعلم، بل أمرهم أن يتعلموا ما تيسر وما يكفيهم بقيام هذه المهمة وهذا الواجب، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ومن أجل هذا حض الله تعالى في كتابه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن على نقل هذا العلم الذي سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأين، وكان خصوص أمرهن بذلك أنهن يشاهدن من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهدن منه ما لا يشهده كثير ممن سواهن، فلذلك قال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، وهذا يشمل ما فعل وطبق عملياً وما سمعنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولياً، فأمرهن بتبليغ ذلك كله. ومن أجل هذا كان لأمهات المؤمنين أبرز حظ ونصيب في تبليغ هذه الرسالة ونقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل ما أفتى به ونقل أحواله كلها إلى الأمة، وقد سعين لتبليغ ذلك وتعليمه، وهذا هو الذي ائِتسى بهن فيه من خلف من علماء هذه الأمة على مختلف العصور، فقد كان كثير منهم يقتدي بـ أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال: (والله لأرمين به بينكم)، وكذلك يقتدي بـ أبي ذر الذي قال: (والله لو جعلتم الصمصامة على هذه -وأشار إلى قفاه- وعلمت أني أنفذ خبراً واحداً مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا علي لأنفذته). فلذلك سعى هؤلاء الأسلاف إلى تبليغ هذا العلم في مختلف الظروف، حتى إن بعضهم كان سجيناً فيجد النافذة في وقت من الليل يجتمع عليها أفراد من الناس فيملي عليهم العلم، ولا يجيبهم في شيء من السؤال عن أحواله هو؛ لأن الوقت ضيق، وهو أمانة لديه، فيملي عليهم شيئاً مما اؤتمن عليه فيكتبونه. والسرخسي رحمه الله أملى كتابه (المبسوط) وهو سجين في السجن، يقال: إنه كان في بئر، وكان الطلاب يقفون حيث يسمعون صوته ويكتبون عنه من مكانه ذلك، حتى كتبوا هذا الكتاب الكبير -المبسوط- الذي يزيد على ثلاثين مجلداً. وكذلك كان عدد منهم إذا مرض قال: إنه ما يسره إلا أن يبلغ ما في هذا الكتاب، أو أن يبلغ هذا العلم الذي رواه. وعدد كبير منهم سعى في مرض موته بأن يبلغ أكبر حظ ممكن من العلم الذي معه، حتى كان الأطباء يتضجرون من ذلك، كحال ابن عرفة، وكحال عدد كثير من الذين مرضوا وعولجوا، فإن كثيراً منهم كان يُتعب نفسه في أيام المرض؛ لأنه يعلم أنه منتقلٌ عن هذه الدنيا وميت لا محالة، فيريد أن يبلغ شيئاً من العلم الذي حمله قبل أن يذهب وينتقل معه.

شروط طلب العلم

شروط طلب العلم

عدم إرادة الدنيا

عدم إرادة الدنيا كذلك فإن من الشروط التي لابد من تحققها حتى يلتحق الإنسان بهذه الزمرة ألا يطلب على ذلك مثوبة في هذه الدنيا، فإن طلب المثوبة على تبليغ الرسالة مخالف لهدي جميع الأنبياء، ومخالف لشرع الله عز وجل، فإن الله قص علينا قصص جميع الأنبياء الذين قص قصصهم، وكلٌ منهم نجد في قصته: (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، فلا يسألون أجراً عما يبلغونه عن الله عز وجل، فمن طلب بعلمه أجراً دنيوياً أو طلب عليه أي مثوبة دنيوية فإنه لا يمكن أن يستقر معه؛ لأنه لم يعمل بهدي الأنبياء ولم يلتزم قيد العلم.

الحفظ

الحفظ وكذلك من هذه الشروط المكملة أن يكون الإنسان حافظاً بذهنه ما يتعلمه، وألا يتكل على كتابه أو تسجيله؛ فإن العلم محله الصدر، والذي يملك مكتبة كبيرة ضخمة ولا يقرأ ما فيها لا يمكن أن يعد من العلماء، بل لا يكون عالماً حتى يحوي ذلك صدره، كما قال الراجز: ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر وقال الشافعي رحمه الله: علمي معي حيث ما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق وكذلك قال أبو محمد علي بن حزم رحمه الله: إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري

العمل بالعلم

العمل بالعلم ومن هذه الشروط: الاتباع. فلابد أن يتبع الإنسان ما علمه، وإلا قامت به الحجة عليه، ولذلك قال أبو الدرداء رحمه الله: (إن أخوف ما أخافه كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرة فلم تأتمرني، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يـ أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي!) وكذلك قال: (إني أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: فما عملت فيما علمت؟!) فمن علم فقد قامت عليه الحجة، وانقطعت أعذاره بين يدي الله عز وجل، ولهذا من أعدت له العدة ليتعلم كذلك، فقد انقطعت حجته، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]. فإذا حصلت النعمة بالعمر والوقت، وهيئت الأسباب للعلم فلم يتعلم الإنسان فقد قامت عليه الحجة وكأنه قد علم، كما في قوله تعالى في هذه الآية: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].

معصية الإنسان لهواه

معصية الإنسان لهواه ومن هذه الشروط: معصية الهوى. فلابد للإنسان أن يكون مخالفاً لهواه حتى يحصل على هذا العلم، فمن لم يخالف الهوى وتبعه فإن هواه أبعد ما يكون عن طلب العلم، فطلبه شاق على الأبدان شاق على الأذهان؛ لأن الإنسان يسهر فيه الليالي ذوات العدد، ويتأذى بأذى الناس، وينصرف عن جمع الدنيا والانشغال بها، فهذا شاق على النفوس مخالف للهوى، فلا يكون من لا يصبر على مخالفة هواه عالماً أبداً، والله سبحانه وتعالى حض على مخالفة الهوى، وجعل ذلك طريق الجنة في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. والعلم طريق الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).

هوان نفس طالب العلم عليه

هوان نفس طالب العلم عليه ومن هذه الشروط: أن تهون على الإنسان نفسه في طلب هذا العلم، وأن يضحي في سبيل ذلك، فإن لم يضح في سبيله وإنما أخذ منه ما تيسر ولم يوله قيمة، ولم يعتبره بأي اعتبار لم يكن ليناله، ولهذا فإن موسى عليه السلام لم ينل هذا العلم حتى خاطر وركب البحر في سفينة مخروقة، وكذلك فإن علماء هذه الأمة رحلوا في طلب العلم لمسافات شاسعة، فقد سافر جابر بن عبد الله من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، وسافر عبد الله بن أنيس رضي الله عنه من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وسافر أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد، ومن أجل هذا فإن ركوب الخطر هو أصل التضحية، فالتضحية لا تكون إلا مع الخطر عندما تعارضها المصالح، وما دامت المصالح متفقة مع ما يبذله الإنسان فإن ذلك لا يُسمى تضحية، ولا يكون مجاهداً بسببه؛ لأنه لم يبذل جهداً، وإنما أنفق الزائد من جهده، ومن لم يضح فمعناه أنه: لم يبذل جهداً، وبهذا يفسد على نفسه بعض الأمور التي يهواها، ولا يُعد من المضحين المجاهدين، ومن أجل هذا قال أحد الحكماء في الأخوة: إن أخاك الحق من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدَّعك شتت فيك شمله ليجمعك فلا يكون الإنسان مضحياً إلا إذا بذل من الجهد ما يؤدي به إلى أن يفقد بعض ما يتمناه ويهواه.

الصبر على الجوع

الصبر على الجوع ومن هذه الشروط: الجوع. فإن البطنة تذهب الفطنة، والإنسان إذا اشتغل بالأمور المادية، وملأ بطنه فإن ذلك يشغله عن الأمور المعنوية، ومن هنا فإن موسى عليه السلام لم ينل هذا العلم حتى قال: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]، والذين أحرزوا حظاً لا بأس به من هذا العلم ما نالوا ذلك إلا في فترات الجوع عليهم والقلة، وهم الذين أصبحوا مثلاً يؤتسى بهم في التاريخ كله.

الإخلاص في طلب العلم

الإخلاص في طلب العلم إن هذا العلم مهمة شاقة وأمانة عظيمة، فلذلك يقتضي كثيراً من الشروط قبل طلبه. فأهم هذه الشروط وأبلغها الإخلاص لله تعالى فيه؛ فإنه عبادة، فسماعه وكتابته وتلقيه كل ذلك عبادة عظيمة، والعبادة إذا كانت بغير إخلاص فهي مردودة على صاحبها، كما ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، فلذلك يجب على من أراد طلب العلم -ولو لحظة واحدة- أو أراد سماع شريط أو أراد قراءة أسطر كتاب أو قصد مكاناً لطلب العلم أياً كان ألا يضيع شيئاً من هذا الإخلاص حتى تحسب له خطاه، وحتى تشهد له الحصى، فلو مات في طريقه تلك كان كمن مات في هجرته إلى الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]. فعلى من قصد هذا العلم من أي مكان أن يحتسب خطاه من أول خطوة، وألا يغفل شيئاً مما يمر به من الخطا أو غيره، حتى لو مات في طريقه فسيموت على هذه النية، ويكون كالمهاجر في سبيل الله، ولو وصل كتبت له الأجور كاملة لا ينقص منها شيء. وهذا الإخلاص شرط لقبول العمل وشطر لصحته؛ فإن العمل لا يكون صالحاً إلا بأمرين: الأول: الإخلاص لله سبحانه تعالى. والثاني: الموافقة لما شرعه. فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا جمع هذين الركنين: الإخلاص والموافقة.

الغربة عن الأهل

الغربة عن الأهل ثم بعد هذا الشرط الأول -الذي هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى- تأتي شروط أخرى يعد بها الإنسان نفسه ليلتحق بهذا الركب، وليكون من الذين يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلمون، وقد ذكر العلماء منها عدة شروط كلها بتجربة من هدي الأنبياء والصالحين. فمن هذه الشروط: الغربة، فمن جلس في مكانه بين أهله قل ما يحصل على علم، ولذلك يقول الشاعر: الأهل والجهل ساكنان في بلد فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني حتى لو كان أبوه عالماً فأزهد الناس في العالم أهله، فيمكن أن يعيش الشخص في البيت مع عالم من العلماء الأجلاء لكنه يكون زاهداً فيه بقربه منه، ومن هنا رحل موسى عليه السلام إلى الخضر، وقال: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60]. ولم ينل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي حتى حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار (حراء) فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ويرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى جاء الحق. وكذلك فإن الذين اشتهروا بالعلم من هذه الأمة إنما رحلوا في سبيله، وطلبوه في أماكن مختلفة، ولذلك فإن كثيراً منهم عندما يسألون عن منتهى آمالهم يقولون: إسنادٌ عالٍ -وبيتٌ خالٍ- كما كان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إذا سئُلا عن بغيتهما يقولان: إسنادٌ عالٍ وبيتٌ خالٍ. أي: أنهما يبحثان عن أعلى الناس إسناداً، كالذي ليس بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة رجال في طبقة أحمد مثلاً، فهذه ثلاثية أحمد، وهي الأحاديث التي رواها عن أبي الزبير عن جابر، فأولها حديث: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذه الأحاديث تكون عالية الإسناد جداً، ولهذا كانوا يبحثون عنها لسهولة تصحيحها، ولأنها لم يتناقلها كثير من الناس. ثم بعد ذلك بيت خالٍ يتفرغ فيه الإنسان للعلم، ويستطيع فيه أن يراجع، وأن يحفظ، وأن يستذكر ويتدبر، ولذلك يقول آخر: قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصَّبرا لا يدرك العلم بطالٌ ولا كسل ولا ملول ولا من يألف البشرا فلابد من هذه الغربة.

التواضع للمعلم

التواضع للمعلم ومن هذه الشروط: التواضع. فلا يمكن أن يكون الإنسان متعلماً حتى يتواضع لمن يعلمه ومن يأخذ عنه، فهذا موسى عليه السلام وهو كليم الله وقد اجتباه الله برسالاته وبكلامه، ومع ذلك حين جاء إلى الخضر: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] فلم يقل: إني (متبعك) بصيغة الجزم، بل قال: (هل أتبعك) بصيغة الاستفهام تواضعاً، ثم قال: (على أن تعلمني) فجعل نفسه طالباً، ولم يقل: على أن تذاكرني، أو أن أستفيد منك، فلم ينسب الفعل لنفسه، بل قال: (على أن تعلمني)، ثم قال: (مما عُلِمت) بصيغة (من) التبعيضية، ومعناه: بعض ما علمت، ولا أريد أن تعلمني كل ما عندك. ثم قال: (تعلمني مما علمت رشداً)، وذلك أن هذا العلم بضاعة غالية، ومن خصه الله به فإنه لا يمكن أن يدفع هذه البضاعة ويسلمها لمن لا يحترمه، ولمن لا يجد فيه تقدير العلم وأدبه، فأهم آداب العلم التواضع، ولذلك فإن من تكبر من العلماء أو من طلاب العلم فسيسلك طريق إبليس الذي تكبر بما علمه الله، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فعلى من طلب العلم أو نال حظاً منه أن يتواضع بقدر ما تعلم، ومن هنا يقول الحكيم: وإن كريم الأصل كالغصن كلما تزايد من خير تواضع وانحنى فلذلك لابد أن يتواضع الإنسان حتى يحصل على ما كتب له من هذا العلم.

الورع

الورع ومن هذه الشروط: الورع. فمن كان غير ورعٍ وغير متقٍ للشبهات وغير متقٍ للحرام والمكروهات فلا يمكن أن يحصل على علم؛ لأن هذا العلم نورٌ، والنور يفر من مكان الظلمة، فمن أراد أن يوقد نوراً في مكان فليختر أصقل مكان، وليختر الزجاج الصقيل المضيء، فهو الذي تحسن فيه الإنارة، وأما المكان المظلم الأسود الموحش فإنه لا يستقر فيه النور، ومن هنا فإن على الإنسان الذي يريد طلب العلم أن يجتهد في الورع، وأن يتقي الحرام، وأن يتقي المكروهات والمشتبهات، وبذلك لا يفر منه هذا العلم، بل يستقر في صدره. ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال: شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يعطى لعاصي ويروى عنه رحمه الله أنه قال: أتيت مالكاً فجلست إليه، فلما انفض المجلس دعاني فتبعته، فقال: يا بني! إني أرى أن الله قد قذف في قلبك بشيء من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية. فنصحه بهذه النصيحة البالغة، ومن هنا فإن صاحب المعصية ذليل، وصاحب العلم عزيز، فإذا اجتمعت الذلة والعزة اجتمع ضدان، وإذا اجتمع الضدان فإن النتيجة تتبع الأخس دائماً كما يقول المناطقة، فيكون الإنسان حينئذ متدنياً إلى أسفل الدرجات، ومن أجل هذا كان الذين يضلون الناس بالعلم أخطر عليهم وأكثر ضرراً من الذين يضلون عن جهل، ولهذا كان عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كثيراً ما يقول: وهل أفسد الدين إلا الملوكُ وأحبار سوء ورهبانها فأحبار السوء والرهبان الذي ليس معهم ورع يبيعون ما معهم من العلم، فيفتون على مقتضى ما تملي عليهم سيادة أسيادهم، وبذلك يَضِلون ويُضلون.

آداب طلب العلم

آداب طلب العلم ومن أجل هذا فإن تفاوت الناس في العلم إنما هو بحسب ما بذلوه من الجهد والوقت حتى يحفظوا ويفهموا، وبعد ذلك عليهم أن يبلغوا، وقد ذكر العلماء آداب ذلك مرتبة: فأولها: الاستماع. لقول الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]. الثاني: الفهم. لأن ما استمع إليه فلم يُفهم لا يستفيد به الإنسان، بل يكون كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد:16]. الثالث: الحفظ لما سمعه وفهمه. فالحفظ هو القيد الثالث في ذلك. الرابع: العمل بما سمعه. وفهمه. وحفظه. الخامس: بث ذلك ونشره، ومعناه: تعليم ما سمعه وفهمه وحفظه وعمل به، ولابد أن يتأخر التعليم عن هذه القيود السابقة، فإذا كان يسمعه ويفهمه ثم ينقله إلى غيره دون أن يعمل هو به ودون أن يحفظه فإنه لابد أن يتخالف قوله، ولا يكون متقناً لما يحدث به، ثم إذا سمعه وفهمه وحفظه فأراد أن يُسمعه وأن ينقله إلى غيره قبل أن يعمل به كان كالداعي لما لم يعمل به، وهذا مخالف لهدي الأنبياء، فقد قال الله تعالى حكاية عن خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، فلذلك لابد أن يبدأ هو بتعلم ما يدعو إليه، ثم بعد ذلك يبلغه للناس حتى يعملوا به، ولهذا فإن ابن الجوزي رحمه الله كان من الخطباء المؤثرين، وكان إذا خطب بكى وأبكى، فلا تقع نازلة ولا أمر، يهم الناس إلا قدم فيه خطبة يرجع الناس إليها، حتى ولو كان كثير منهم يخالفه في المذهب فإنه سيعدل عن مذهبه ويرجع لما قاله ابن الجوزي لحسن أسلوبه، ولما يربط به كلامه من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وهذا الأسلوب القرآني هو المؤثر. فكثير من الناس يدرسون كتب الفقه، فيدرس أحدهم -مثلاً- مختصر خليل، وفيه مائة وعشرون ألف فرع فقه، أو يدرس الرسالة، وفيها ثمانية عشر ألف فرع فقه، أو يدرس غير ذلك من الكتب الفرعية التي فيها كثير من الفروع، لكن لا نجد نور ذلك ولا ورعه في حياته وسلوكه. وسبب ذلك أنه لم يقترن ما تعلمه بالوعد والوعيد، ولم يقترن بالترغيب والترهيب، بل قرأ هذه الأحكام جافة كمواد القانون الوضعي، وإن كان أولئك العلماء ما قصدوا بهذا إلا خيراً، لكنهم علموا أنهم يضعون مناهج لمدارس فيها تخصصات مختلفة، وفيها كتب مساندة مساعدة، فـ خليل رحمه الله ألف كتاباً آخر سماه (الجامع)، ذكر فيه آداب طلب العلم، وذكر فيه الأخلاق، وتهذيب النفوس، وربطه بهذا الجامع، وكذلك غيره، فـ ابن أبي زيد في رسالته وضع في مقدمتها المقدمة العقدية، وفي خاتمتها (الجامع) الذي فيه الآداب والأخلاق الشرعية. لكن كثيراً من الناس يقتصر على دراسة ما بينهما، فيهمل الطرف الأول الذي هو الأساس، ويهمل الطرف الثاني الذي هو ذروة السنام، ويبقى في الوسط فقط، ومن هنا حصل الخلل في تربية الناس من أجل إهمالهم لجانب حياة القلوب, والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فذات يومٍ كان ابن الجوزي رحمه الله تعالى في مجلسه، وقد تهيأ للجمعة، فأتاه بعض الأرقاء يشكون إليه سوء معاملة ذويهم، وأرادوا أن يخطب خطبة عن العتق فوعدهم خيراً، فلما خطب حضروا فلم يذكر في خطبته شيئاً عن العتق، فجاؤوه فقالوا: ألم تعدنا بأنك ستتكلم عن العتق في خطبتك؟ فقال: حتى الآن لم يتيسر لي ذلك، فأتوه يذكرونه بعد ذلك فلم يفعل، فلما كانت الخطبة الثالثة خطب خطبة بليغة، فبادر الناس إلى عتق أرقائهم، فأتاه هؤلاء يشكرونه وسألوه عن سبب التأخير؟ فقال: إني لأستحيي من الله تعالى أن أخطب الناس وأندبهم إلى أمرٍ لم أفعله، ولم أكن أملك من أعتقه، فذهبت أجمع دريهمات أشتري بها رقبة وأعتقها حتى إذا أمرت الناس امتثلوا؛ لأنني قد انتهيت في نفسي. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أراد أن يأمر الناس بأمرٍ جمع أهل بيته وآل الخطاب فقال: (إني متقدمٌ إلى الناس في هذا الأمر، وأنتم أول من أتقدم إليه فيه، فوالذي يحلف به عمر بن الخطاب لا ينقل إلي أن أحداً منكم خالف ذلك إلا جعلته نكالاً)، فيبدأ بآل بيته -وهم أول من ينهاهم ويعظهم- ثم بعد ذلك يوجه الكلام للناس، وسيمتثلون ما يأمر به بعد أن يمتثل به آل الخطاب ومن يتأثر بـ عمر رضي الله عنه.

مسئولية العلماء

مسئولية العلماء من شرط النفع بهذا العلم أن يدرك الإنسان مسئولية العلماء في هذه الأمة؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وهم الذين يحملون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قامت عليهم الحجة بما تعلموه، وهم الذين امتلأت صدورهم بهذا الوحي، فلم يكن الله ليجعلهم بدار هوان، فعليهم أن يكونوا مثلاً حسناً في التضحية والبذل في سبيل الله، وأن يقدموا ما لم يقدمه سواهم، وأن يكونوا أسوة وقدوة صالحة للناس، فإذا لم يفعلوا ذلك فقد ضيعوا ما حملوه، وفرطوا في هذه الأمانة التي تلقوها، ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تعرف منزلتهم العلمية بتضحياتهم في سبيل الله، فقد ثبت أن يوم اليمامة أسرع فيه القتل في القراء، والمقصود بالقراء العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان من شهداء اليمامة خمسمائة ممن يحملون القرآن، وهؤلاء كانوا هم أول من يستقبل السلاح، وهم الصفوف الأمامية؛ لأن معهم ما يشجعهم ويتقدم بهم، فلذلك عرفوا بهذا، وكان المنافقون لا يكرهون أحداً مثل ما يكرهون هؤلاء القراء، ومن أجل ذلك قالوا فيهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء فأنزل الله فيهم (المقشقشة) سورة التوبة، ومازال يقول: (ومنهم ومنهم) حتى فضح كل أمورهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. فمن أجل هذا كان على من يتعلم العلم ومن يعلمه أن يكون مثلاً حسناً، وأن يقدم التضحية اللائقة به لنصرة الله تعالى، وأن يلتزم بأخلاق هذا العلم وآدابه، فإنه لو كان فظاً غليظاً أو كان جافياً أو كان مخالفاً للسنن فقد رد وقطع الطريق على كثير من السالكين، فيكون من قطاع الطرق من حيث لا يشعر؛ لأنه قطع الطريق على أقوام كانوا سيلتزمون هذا المنهج ويسلكون هذا الطريق، وهو الذي فتنهم وردهم عن ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منكم منفرين)، وحذر غاية التحذير من ذلك، ولذلك قال الصحابي: (فما رأيته غضب غضباً في موعظة كما غضب يومئذٍ)، فحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من التنفير غاية التحذير، وما غضب في موعظة مثلما غضب في موعظته هذه التي يحذر فيها من تنفير الناس عن اتباع سنته، وعن هذا العلم وعن عبادة الله عز وجل. كذلك فإن على من يسلك هذا الطريق أن يعلم أن عليه للناس حقاً، وأن يبحث عن واقعهم وأمورهم، وأن يهتم بتلك الجوانب التي يعيشونها، فإن الجوانب التي يعيشها الناس أولى بالبحث والتنقيب من الجوانب التي لم يعد لها ذكرُ في حياة الناس، وقد كان مالك رحمه الله إذا سُئل عن مسألة يسأل: هل وقعت أم لم تقع؟ فإن قيل: وقعت؛ استعان بالله عليها حتى يجيب فيها، وإن قيل: لم تقع قال: إن لها رجالاً سيشهدونها وهم أولى بها. وكان يقولُ: لست من الأرائكيين. والأرائكيون هم الذين يقولون: أرأيت لو كان كذا ماذا يكون الجواب؟! أي: أنهم هم الذين يتوقعون المشكلات التي لم تقع، فهؤلاء حذر منهم لأنهم يتكلفون، والتكلف منهي عنه، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. وكذلك على هؤلاء الذين يشتغلون بهذا الجانب المهم من دين الله تعالى أن يعلموا أنهم شهود على الأمة، وعليهم بذلك أن يحافظوا على عدالتهم؛ لأن الشاهد إذا لم يكن عدلاً فهو مردود الشهادة، وقد أخرج أبو عمر في مقدمة (التمهيد)، والخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، فمن ليس عدلاً فليس من حمال هذا العلم، ولا يمكن أن يوثق به على هذه الأمانة الجسيمة، فلا يكون من الموقعين عن رب العالمين، ولا من خلفاء الأنبياء ولا ورثتهم.

العلماء وأبواب السلاطين

العلماء وأبواب السلاطين كذلك فإن عليهم أن يقنعوا بما آتاهم الله تعالى، وأن لا يذهبوا إلى أبواب السلاطين، فقديماً قيل: إذا أراد الله فتنة العالم ألزمه أبواب السلاطين. ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله تعالى إذا دعاه أحد الأمراء أن يأكل في بيته امتنع أن يأكل في بيته أو أن يشرب، فقيل له في ذلك فقال: من أكل مرقة السلطان افترق لسانه عن قول الحق، فلا يستطيع أن يقول الحق بعد ذلك. وقد حصلت قصة واقعية لعالم من علماء دمشق، وهي أنه كان يدرس في جامع بني أمية، فدخل عليه إبراهيم باشا، وهو ملك مصر، وكان قد استحوذ على الشام، ولم يجد من يعارضه، وقويت شوكته وسلطانه بذلك، فلما دخل دمشق منتصراً استقبله الناس، فبقي هذا العالم في مسجد بني أمية يدرس الناس، فسأل إبراهيم عمن لم يستقبله من وجوه الناس وعلمائهم وقاداتهم فذكروا له هذا العالم، فقال: اذهبوا بنا إليه. فجاء مغضباً، فدخل مجلسه فلم يقم إليه، وإنما سلم عليه واشتغل بالتدريس، فجلس إبراهيم قبالة وجهه، وأوسع الناس له في الحلقة، فلما طال مجلسه بسط الشيخ رجله إليه -وهذا عيب عند أهل الشام، وأهل مصر ينزعجون منه كثيراً-، فبعد أن خرج الأمير إلى بيته أرسل إلى هذا العالم مالاً جزيلاً كثيراً، فلما أتاه هذا المال رده وقال: قولوا للأمير: إن من يمد رجله لا يمد يده! فالذي يمد رجله لا ينبغي أن يمد يده، فلذلك عليهم أن يقنعوا بخلق من يرثونه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً)، وعرض عليه أن يكون نبياً ملكاً، وأن يكون نبياً عبداً فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعاش على ذلك، فقد كان الحصير يؤثر في جنبه، وقد عاش هذه الحياة حتى نقله الله إلى دار الكرامة، وقد كان يمضي الشهر والشهران والثلاثة ولا توقد في بيوت آل محمد نار، فهذا كافٍ ومقنع لهم، وعليهم أن يلزموه.

أقسام العلم، وأقسام الناس فيه

أقسام العلم، وأقسام الناس فيه من الأخلاق التي ينبغي أن يأتسي بها من سلك هذا الطريق أن يعلم أن العلم ينقسم إلى قسمين: علم ينفع في الدارين، وعلم ينفع في إحداهما فقط. فعليه أن يبدأ أولاً بالعلم النافع في الدارين، وألا يهمل العلم النافع في إحداهما، خاصة أنه قد يكون فرضاً كفائياً على الأمة، بل قد يتعين على بعض الناس، كما إذا لم يطمح له سواه، وعلى هذا فإن الذين يشتغلون بطلب العلم عليهم ألا يتحجروا، وألا يقفوا وارء الكتب التي يدونها أسلافهم ويجعلونها مناهج دراسية فلا يطلبوا ما زاد على ذلك، بل عليهم أن ينهلوا من ثقافات هذه العصور التي هم فيها، وأن يختاروا منها خيرها، وأن يكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فحينئذ سيؤتيهم الله فرقاناً يميزون به بين الحق والباطل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، ومن كان له فرقان يميز به بين الحق والباطل أمن الفتنة -إن شاء الله تعالى- من كل ما يقرؤه. وعلى الإنسان أن يتزود من ثقافة زمانه حتى يكون بذلك مستطيعاً للإفتاء فيه؛ فإن الفتوى مركبة من قضيتين: أولاهما قضية واقعية وأخراهما قضية شرعية. فالقضية الواقعية هي أن هذه الصلاة كانت إلى هذه الجهة مثلاً، والقضية الشرعية أن الصلاة إذا كانت إلى هذه الجهة فهي باطلة، فكل حكم شرعي مركب من هاتين القضيتين: قضية واقعية وقضية شرعية، فمن عرف الشرع ولم يعرف الواقع لا يحل له الإفتاء؛ لأنه عرف أخرى القضيتين ولم يعرف أولاهما، ومن عرف الواقع فقط فكان فقيهاً فيه ولم يعرف الشرع أيضاً لا يحل له الإفتاء، فلابد أن يجمع الإنسان بين هاتين القضيتين: أن يكون مطلعاً على حال واقعه، وأن يكون مطلعاً على الحكم الشرعي حتى يستطيع تنزيله على الواقع الذي يعيش فيه. كذلك فإن الله عز وجل عندما أمرنا بالتعلم أطلق ذلك، كما في قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفاد بعض التجارب حتى من الأمم الكافرة، فاستفاد تجربة فارس في الخندق، واستفاد تجارب أخرى من أقوام آخرين، فتجربة ختم الكتاب إنما استفادها من الروم، كما ثبت ذلك في الصحيح، وكذلك غير هذا من التجارب المفيدة النافعة التي كان يأخذها من حضارة الأمم الراقية، فعندما بلغه أنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً اتخذ خاتماً، فكان يختم به كتبه، فكل ما هو نافع ينبغي أن لا يترك، وأن لا يختص به أعداء الدين، ومن هنا فإن الجدلية التي سادت بعض بلداننا في حقبة من التاريخ أدركنا آخرها كانت بين فريقين من الناس: الفريق الأول: قوم يلتزمون بالماضي، ويعيشون على المساطر السابقة، ولا يريدون التجديد في أي شيء، ويرون أن الجديد من حيث هو مردود شرعاً، فهؤلاء هم المتحجرون، وضرر تحجرهم أكثر من نفعه، وقد أخروا مسيرة الدعوة، وأخروا مسيرة العلم في بعض البلدان تأخيراً كبيراً، ولذلك فإنهم هم المثقفون في وقت مجيء الاستعمار، وهم المثقفون في وقت ذهابه، ولم يكن لهم دور في دفعه وقتاله ولا في تبوؤ مكانه بعد ذهابه، فأخروا هذه الدعوة زماناً طويلاً. الفريق الثاني: شباب تربوا في أحضان الاستعمار ونهلوا من ثقافته، لكنهم رغبوا في الجديد أياً كان، وأنفوا من القديم أياً كان، فأهملوا الجانب الشرعي، فلذلك كانوا جيلاً فاسداً، وما زال كثير من أفراده يعيشون بيننا، ونحن نشهد تلك الأجيال التي عاشت في آخر أيام المستعمر وفي أول زمان ذهابه، وهي من أسوأ طبقات المجتمع في الالتزام الشرعي وفي العلم، ولم تستفد العلم الذي كان لدى الأسلاف، ولم تستفد التزاماً ولا دعوة كما حصل بعد حصول هذه الدعوة المباركة، فكانت برزخاً وسطاً بين جيلين من الناس، ولذلك تجد أن كبار السن وصغار السن هم أحسن هذا المجتمع، فكبار السن -على الأقل- معهم علم والتزام ودين، وصغار السن معهم حرص على العلم، وحرص على الدعوة، والتزام بما علموه مما سمعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين هاتين الطائفتين طبقة متوسطة، لا هي أخذت بما كان عليه السابقون، ولا هي أتت بما جاء به المشددون، ومن هنا قال أحد العلماء: شكا دين الهدى مما دهاه بأيدي جامدين وملحدينا شباب يحسبون الدين جهلاً وشيب يحسبون الجهل دينا وكذلك قال آخر: أشكو إلى الرحمان من دهر غدا قد قلّ من تلقاه فيه على هدى فذوو الهداية لا ثقافة عندهم وذوو الثقافة ناكبون عن الهدى والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الجيل الرباني الأول

الجيل الرباني الأول لقد امتن الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فأخرجها به من الظلمات إلى النور، وقد قام صلى الله عليه وسلم بتربية أصحابه تربية تؤهلهم لخدمة الدين والقيام بأعبائه، وتحقيق مطالبه والتعاون على نصرته، ونحن اليوم نعيش غربة الإسلام آخر الزمان، فينبغي على كل مسلم منا أن ينصر الإسلام، ويؤازر الصالحين بقدر إمكانه، لعل الله يلحقنا بالجيل الرباني الأول.

إغاثة الله للأمة بالإسلام بعد الجاهلية

إغاثة الله للأمة بالإسلام بعد الجاهلية الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى ختم الأمم بهذه الأمة المشرفة العظيمة التي جعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرفها بأنواع التشريف، فأرسل إليها أفضل الرسل، وأنزل عليها أفضل الكتب، وشرع لها خير شرائع الدين. وقد جعل الله سبحانه وتعالى أهل هذه الأمة شهوداً على الناس عدولاً، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وشرفها بأن جعلها أجيالاً متفاوتة، وأفضل هذه الأجيال وأشرفها القرن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

فضيلة القرن الأول من المسلمين

فضيلة القرن الأول من المسلمين وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً فيقولون: نعم، فيفتح لهم). وذلك الجيل الأول الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الأسوة والقدوة لمن يأتي بعدهم، فقد اختارهم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كما اختاره هو من سائر الخلائق، وشرفهم بصحبته والأخذ عنه، والتربي على يديه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نالوا من السبق والتقدم في الإسلام ما لا يمكن أن يدركه من وراءهم، فقد قال الله في كتابه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي! فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). إن تلك المنزلة العظيمة والمزية الكبيرة التي خص الله بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية منا جميعاً أن نحرص على الاقتداء بهم، وأن نحرص على أن نحاول أن نهتدي بهديهم لعلنا نلحق بهم، فهم السابقون الذين وصفهم الله بالسبق في كتابه، وأثنى عليهم به فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. لذلك جدير بنا أن نتدارس حياتهم وآثارهم، وأن نتعلم هديهم وسلوكهم، وأن نحاول الاقتداء بهم في الشأن كله. إن أولئك القوم لم ينالوا هذه المنزلة ولا هذا الشرف بوراثة عن آبائهم وأسلافهم، ولم ينالوه كذلك بالأموال والجمع لحطام الدنيا، ولم ينالوه بالشهادات الراقية، وإنما نالوه بأن أسلموا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، فصدقوا ما عاهدوه عليه، ونصروا رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبعوه وكانوا معه، فبذلك نالوا هذا الفوز العظيم الذي لا يصلي أحد منكم إلا دعا لهم به، ولا يمكن أن يفعل أي معروف إلا كان تابعاً له فيه. فهم السابقون السابقون، وهم المقدمون على الناس في كل شيء، فجدير بنا اليوم أن نراجع بعض ما تقدم به أولئك الرهط.

حال العرب قبل البعثة

حال العرب قبل البعثة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بمكة في بيئة جاهلية يظهر فيها من القيم كثير مما تعرفونه، فتلك البيئة كان أهلها يعبدون الأصنام من دون الله، وكانوا يشرعون لأنفسهم، فهم الذين يحلون ما أرادوا ويحرمون ما أرادوا، وكانوا يغيرون شرع الله عمداً ويفخرون بذلك، ويقول شاعرهم: ونحن الناسئون على معد شهور الحل نجعلها حراما وكانوا كذلك يقطعون أرحامهم ويفسدون في الأرض، فالغني يزداد غنى باستغلال الفقراء، والفقير يزداد فقراً؛ لأنه لا أحد يرحمه. وكانوا كذلك يتقاتلون لأتفه الأسباب وأقلها، فقد كانت حرب البسوس قبيل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودامت ثلاثين سنة، بسبب أن ناقة وطئت بيضة قبرة فكسرتها، ودامت حرب داحس والغبراء أربعين سنة بسبب أن فرساً غلبت أخرى في الجري، وكانوا أهل جاهلية جهلاء بكل مفاهيمها، ومن أعظم ذلك أن من ليس من أهل الحسب لم يكن يطوف بالبيت الحرام إلا عريانا. وقد وقف أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه القضية مثالاً على جهل أهل الجاهلية، وضعف عقولهم، وتردي أوضاعهم، فقد جاءت امرأة فطلبت من يعيرها ثوباً لتطوف به فلم تنله، فأرسلت شعرها على جسمها وقالت: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله وطافت عريانة. كذلك كان حال أهل الجاهلية في تلك الجاهلية الجهلاء، وفي تلك الظروف التي كان العرب فيها تحوط بهم الحضارات الكبرى كحضارة الروم بالشام، وحضارة فارس بالعراق، وحضارة الحبشة في القرن الأفريقي.

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الظروف كانت جزيرة العرب مقسمة في الولاء تبعاً لهذه الحضارات والمماليك الكبرى، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالبينات والهدى في وسط جزيرة العرب؛ لينذر أم القرى ومن حولها، فعندما بعث -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- هيأه الله لتحمل هذه المسئولية الجسيمة، فقد اختاره الله من أوسط نسب قومه، فهو أشرفهم نسباً، والأوسط بمعنى الأشرف والأفضل من ناحية الآباء ومن ناحية الأمهات، ولا يمكن أن يغمز أحد فيه من جهة النسب؛ لئلا يكون ذلك حائلاً بين الناس وبين اتباع دعوته، وما هذا إلا لطف من الله سبحانه وتعالى بعباده الذي يعلم ضعفهم، فعرفوا نسبه وعرفوا مكانته، وإلا فالأنساب لا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فالناس جميعاً سواسية بين يديه وهم عباده جمعياً. لكنه اختار أن لا يمتحنهم بما يتنافى مع طباعهم، فأرسل إليهم من هو أشرفهم نسباً، وكذلك هيأه في خلقته فجعله أحسن الناس صورة، ولذلك وصفه من راءه بأن وجهه مستدير كفلقة القمر، وقال هو عن نفسه: (أوتي يوسف شطر الحسن وأوتيت الحسن كله). وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد أتم الله خلقه فلم يكن يعرف أحد أحسن منه خلقاً لا فيمن تقدمه ولا فيمن تأخر عليه، وعرف في الجاهلية قبل البعثة بالصدق والأمانة والإخلاص والكرم والجود والتفاني في خدمة الناس، ولذلك حينما بعث إليه فارتاع من الملك أول ما أتاه قالت له أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). فقد عرف بهذا صلى الله عليه وسلم حتى لم يكن أحد يتهمه في مقال قاله، ولذلك عندما أذن له بالجهر بالدعوة وقف على الصفا فصاح في الناس ثلاثاً: (واصباحاه! فاجتمعوا عليه، فقال: يا بني عبد مناف! أليس إذا أخبرتكم أن وراء هذا الجبل خيلاً ستغير عليكم تصدقونني؟ قالوا: ما عرفنا عنك كذباً، فقال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فأعلن دعوته من ذلك المكان الشريف وصدقوه فيما عرفوا فيه من الصدق والأمانة والإخلاص والنزاهة.

معايير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم

معايير دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وعندما بعث صلى الله عليه وسلم لم يتصل بعلية القوم وكبارهم، ولم يحتقر أحداً أن يبلغ إليه رسالات الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن قيم أهل الدنيا ومغاييرهم ليست هي المعايير عند الله.

التخلص من كل مظاهر الشرك

التخلص من كل مظاهر الشرك وتخلصوا كذلك من كل مظاهر الشرك بالكلية، فهذا عمر بن الخطاب الذي كان يصنع صنماً من التمر ويسجد له، فإذا جاع أكله، أصبح بعد إيمانه يقول للحجر الأسود الذي به شرف وشرف آباؤه: والله إني لأعلم إنك لحجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. تغيرت المفاهيم التي كانت سائدة لديهم، فأصبحوا جميعاً يصرحون بعداء ما كان آباؤهم يعبدونه من دون الله، فهذا خالد بن الوليد الذي كان يقاتل قائداً من أجل نصرة اللات والعزى، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمانه ليقطع شجرة العزى، فلما قطعها ضرب في جذعها بالسيف فخرجت له عجوز من الجن ثائرة الرأس تدعو بالويل والثبور فأتبعها بالسيف حتى قتلها وهو يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك

التخلص من الأخلاق والقيم السيئة

التخلص من الأخلاق والقيم السيئة ثم تخلصوا كذلك من الأخلاق والقيم السيئة التي نهاهم الله عنها، فقد أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في التحذير من مفاهيم الجاهلية: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]. فأهل الجاهلية الذين لم يؤمنوا ولم يصدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم وختم على قلوبهم، فلا يمكن أن يعرفوا معروفاً ولا أن ينكروا منكراً، وهم شر الدواب عند الله كما وصفهم الله بذلك، فلم يجعلهم من جنس البشر، بل قال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23]، وقال فيهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال:55].

إزالة المفاهيم الجاهلية الخاطئة من عقول الناس

إزالة المفاهيم الجاهلية الخاطئة من عقول الناس وأول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم صياغة الرجال، فقد بدأ بتكوين أولئك القوم وتربيتهم على خلاف مفاهيم الجاهلية، فأزال من أذهانهم كل ما يتصل بالجاهلية، فتلك المفاهيم الخاطئة التي كانت سائدة في الجاهلية عالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى محاها بالكلية، ولذلك قام فيهم خطيباً ذات يوم فقال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتفاخرها بالآباء). فقد أذهب الله عنهم ذلك بالكلية، وأصبح الرجل منهم يعرف أن أباه عدو له، وأن أخاه عدو له إذا لم يسر معه على طريق الحق. ولهذا أنزل الله فيهم: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22]، انظروا إلى الفرق الشاسع والكبير بين حالهم وحال أهل الجاهلية الذين كانت القبيلة بكاملها تقاتل من أجل نصرة فرد من أفرادها ظالم وقع في ظلم سافر، ومع ذلك تنصره القبيلة بكاملها، فإذا غضب غضب لغضبه سبعون ألفاً لا يسألون مما غضب، كما قال الأحنف بن قيس. فهم بعد هذا أصبحوا يقاطعون ويقاتلون آباءهم وإخوانهم وأبناءهم وعشيرتهم في ذات الله عز وجل.

الحرص على هدايته الناس أجمعين

الحرص على هدايته الناس أجمعين فهذا عبد الله بن مسعود راع للغنم من هذيل وهو حليف في بني زهرة في قريش، حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدايته فآمن واتبع وصدق، وكان من أفضل هذه الأمة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: (رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد). كان رضي الله عنه نحيفاً رقيقاً لفقره، فصعد في شجرة فرآه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك بعضهم من حموشة ساقه -أي: من رقة ساقه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتضحكون من حموشة ساق ابن مسعود، فلهي عند الله أثقل من جبل أحد). فالمعايير التي عند الناس ليست هي المعايير عند الله، بل قد يرى الرجل الذي لا يعرفه أحد وهو عند الله يوزن بالآلاف، ويرى الرجل الضخم السمين لا يساوي عند الله جناح بعوضة. وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل الضخم السمين يوم القيامة لا يساوي عند الله جناح بعوضة)، لذلك اتصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن يثق بهم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، وهذا يدلنا على أهمية الثقة بين الناس، فمن المهم أن تتصل القلوب وأن يقع بينها التعارف والانسجام والتفاهم، فإن ذلك معين على تقبل الحق وسماعه، فقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به. وقد فعل ما فعل من سبقه من الأنبياء، فقال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:52]، فاستجاب له الذين أراد الله بهم الخير من ذلك الجيل المشرف فاجتمعوا حوله.

تضحية الجيل في سبيل الدعوة وتفانيهم في حب المصطفى

تضحية الجيل في سبيل الدعوة وتفانيهم في حب المصطفى كذلك جعل هؤلاء القوم أنفسهم وقوداً لهذه الدعوة، فرضوا أن يقدموا أرواحهم لله عز وجل، وأن يجاهدوا في سبيله بكل ما يملكون، فعندما آمن مصعب بن عمير كان أعز فتى في قريش، وكانت أمه من أغنى النساء في مكة، فكانت كل يوم تشتري له ثوباً جديداً غير الثوب الذي كان يلبسه بالأمس، ولا يأتي نوع من أنواع الطيب إلا كان مصعب أول من يستعمله. فلما أسلم وهو فتى شاب من أحسن ما يكون الفتيان، وكان يشبه في خلقه برسول الله صلى الله عليه وسلم، حبسته أمه بين أربعة جدران، وعذبته بأنواع التعذيب، وقطعت عنه كل ما كانت تعطيه، وخلعت عنه كل ملابسه، وذلك من أجل كلمة واحدة وهي أن يكذب بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فامتنع من ذلك وصمد وصبر على هذا المنهج، حتى كان أول سفير في الإسلام، وأول إنسان عهد إليه ببناء دولة الإسلام، فكان أول من هاجر إلى المدينة من المهاجرين. وكذلك فإن عبد الله بن أم مكتوم كان رجلاً ضريراً أعمى، ولكنه كان مستنير البصيرة، حي القلب، مقبلاً على الله محباً للخير، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم جاءه فآمن وصدق، ثم لم يزل يغدو عليه كل يوم يريد أن يتعلم من الدين كل ما ينزل وكل ما يتجدد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواعد بعض علية القوم من المشركين الذين يأتون لمجادلته ويأتون للرد عليه، فكان من ردهم عليه أن يقولوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، وهذه سنة سالفة لمكذبي الرسل، فقد قالها مكذبو نوح عليه السلام، ثم لم يزل مكذبو الرسل يرددونها فيظنون أن المعيار في الفضل هو بكثرة المال والولد. فيقولون: لم يتبعك الوليد بن المغيرة، ولم يتبعك العاص بن وائل، ولم يتبعك أبو حكيمة زمعة بن الأسود، ولم يتبعك عمرو بن هشام، ولم يتبعك عتبة بن ربيعة، وإنما اتبعك ضعفاء الناس وفقراؤهم. وكانوا يرون أن هؤلاء لا يمكن أن يحصل منهم خير ولا نصرة، ولذلك قال عروة بن مسعود رضي الله عنه يوم الحديبية عندما قدم سفيراً عن قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إني أرى قومك قد لبسوا جلود النمور وصحبوا العوذ المطافيل يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وما أرى معك إلا أشابه من الناس، جدير أن يفروا عنك ويتركوك! يظن أن أولئك القوم الذين ليسوا أكثر الناس مالاً ولا أولاداً ولا أكبرهم مكانة اجتماعية بين الناس، يمكن أن يتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن ينصروه، وهذا بمفاهيم أهل الجاهلية. ثم إن عبد الله بن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت مجيء الوفد من قريش لمجادلته، فلما دخل عليه استحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوده مع أولئك القوم الذين يحتجون عليه بأنه لم يصحبه إلا الضعفاء، فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد التخلص منه في ذلك الوقت حتى يمضي علية القوم. فعاتبه الله في كتابه في شأن ذلك الرجل الضرير فأنزل الله فيه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]. زكى الله عبد الله بن أم مكتوم وجعله من خيرة الناس، فكان ثاني من هاجر إلى المدينة بعد مصعب بن عمير. وقد ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في بضع عشرة غزوة كما في الصحيح، يوليه على المدينة وعلى إمامة المسجد النبوي والخطابة فيه؛ لأنه عاتبه فيه ربه سبحانه وتعالى، وشهد له وزكّاه. ثم لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ضاقت الأرض بما رحبت بـ عبد الله بن أم مكتوم؛ لشدة محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحرص على الشهادة في سبيل الله ليلتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما بعث أبو بكر رضي الله عنه أول جيش إلى العراق تجهز ابن أم مكتوم وخرج فيهم، ولم يزل يقاتل ويتعرض للموت حتى كان يوم القادسية فدعا الأمير سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: يا سعد إني رجل ضرير لا أرى شيئاً أرهبه فأعطني اللواء فلن أزال أتقدم حتى ألقى الله أو يفتح للمسلمين. فأعطاه سعد الراية فما زال يتقدم بها والفرس بين يديه وعن يمينه وعن شماله لا يبالي بهم، حتى لقي الله شهيداً رضي الله عنه وأرضاه. إن ذلك الجيل الأول رجالاً ونساء وكباراً وصغاراً حققوا من الأمثلة مثل هذا الذي حققه عبد الله بن أم مكتوم؟ فما منهم أحد إلا وقد كان أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له وتصديقاً بما جاء به، وقناعة بتحقق وعد الله الذي وعده به، ولذلك لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش قال: يا معشر قريش! لقد زرت النجاشي في ملكه، وكسرى في ملكه وقيصر في ملكه فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، فوالله إنهم حوله لكأن على رءوسهم الطير، وإذا امتخط لم تقع مخاطته إلا في يد رجل منهم فيدلك بها وجهه ورأسه، وإذا تكلم أصغوا لكلامه، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. فقد كانوا يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم التعظيم الذي أمرهم الله به في كتابه، فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:8 - 9]. فهذا خبيب بن عدي بن مالك الأنصاري خرج غازياً في بعث الرجيع فقاتل بني لحيان فأمسكوه أسيراً، وجلبوه إلى مكة وباعوه لقريش، فحبسته قريش بمكة حتى خرج الشهر الحرام ثم ذهبوا به خارج الحرم ليقتلوه، فلما نصبوا الخشبة ليصلبوه عليها، تقدم إليه أبو سفيان بن حرب فقال: يا خبيب أتحب أن ابننا محمداً عندنا نقتله وأنك في قومك في عزك ومكانتك؟ فانتفض خبيب وقال: والله الذي لا إله غيره ما أحب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بشوكة في مكانه الذي هو فيه، وأنجو أنا من القتل والصلب، وأعلن أبياته منشداً لها في قوله: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع وسأل الله أن يبلغ سلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله ملكاً يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام خبيب وما لقي، وأن الله سبحانه وتعالى رضي عنه وأرضاه. وكذلك فقد كان كل فرد من أفرادهم حريصاً على أن يكون من الذين يمكرون في أهل الجاهلية، ومن الذين يعلون كلمة الله بكل ما يستطيعون، ولذلك عجب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوم بدر عندما ابتدره الفتية الصغار من الأنصار يقولون: يا عم إذا رأيت أبا جهل فأرناه، فيقول: وما حاجتكم إليه؟ فيقول كل فرد منهم: أريد أن أكون أنا الذي أقتله لما أعرف من عداوته لله ولرسوله، فيعجب عبد الرحمن بن عوف من هؤلاء الفتية الصغار الشباب الذين يحرص كل واحد منهم أن يكون هو الذي يقطع رأس الكفر، ويزيله بالكلية.

نساء الجيل الأول وعبيده وغربائه

نساء الجيل الأول وعبيده وغربائه وكذلك نساؤهم فقد كن عند هذا المستوى من تحمل الأمانة والسعي لإعلاء كلمة الله بكل ما يطلب منهن، وبكل ما يستطعن تقديمه في سبيل الله وإعلاء كلمته. فتخرج المرأة مهاجرة من مكة إلى المدينة أربعمائة وستة عشر كيلو في شدة الحر على رجليها، لا تحمل نفقة ولا زاداً حتى تصل، وقد خرج وفد من النساء مهاجرات ساخطات لشأن أهل الجاهلية، حتى قدمن المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهن في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]. فشرفهن الله عز وجل جل بهذا التشريف العظيم الذي ما زال المسلمون يقرءونه في صلاتهم ويتعبدون الله بتلاوته. وكذلك عبيدهم الذين كانوا يعانون من الظلم والمسكنة والمهانة في الجاهلية، فقد كان منهم من أعلى كلمة الله ونصره، وبذل في سبيله ما لا يستطيع أحد أن يبذله اليوم، وكانوا بتلك المنزلة العالية، حتى إن أبا ذر يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال: (يا محمد! ومن تابعك على هذا الأمر؟ قال: رجل وامرأة وعبد وصبي). كل شريحة من شرائح المجتمع خرج منها سابق هو أفضلها، فكان من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينذاك الرجل أبو بكر، والمرأة خديجة بنت خويلد، والعبد بلال، والصبي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وكذلك الحال بالنسبة للغرباء الذين أتوا من ديار بعيدة، فهذا صهيب الرومي كان بمكة وكان تاجراً ثرياً، وكان كبير السن قد بلغ أكثر من المائة، وكان رامياً معروفاً لا يخطئ في رمايته، فلما أراد أن يهاجر إلى الله ورسوله أرادت قريش منعه من ذلك، فجمع ماله فنثره بين أيديهم، فقال: يا معشر قريش! ماذا تبغون مني؟ فأنتم تعلمون أني شيخ قد بلغت أشدي، وتجاوزت المائة، وليس بيني وبينكم رحم، وإن كنتم تطلبون المال فهذا مالي في وجوهكم، وإن كنتم تريدون ردي عن ديني فوالذي يحلف به صهيب لا يصل إلي أحد منكم حتى يخرج سهم من كبده. ونثر كنانته وفيها السهام وهم يعرفونه بالرماية، فتركوه وخرج مهاجراً إلى الله ورسوله. وكذلك عدد من الذين أتوا من أماكن نائية من أطراف جزيرة العرب عندما سمعوا بهذا النبأ العظيم وببعثة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، جاءوا يلتمسون ما جاء به من عند الله، وقد أخبرنا أحد هؤلاء بأمر عجب، ألا وهو عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: (كنت في قومي وأنا صبي صغير فسمعنا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكنت أتلقى الركبان وأتحسس الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يأتي وافد من قبل المدينة إلا سألته عما أنزل من القرآن، فكنت أحفظ كل ما بلغني عنه. فلما أسلم قومي وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يجعلوا إمامهم أقرأهم لكتاب الله، فكنت أقرأهم، وكنت إذا ذاك صبياً صغيراً، فكنت أصلي لهم -أي: أؤمهم في الصلاة- فقالت: امرأة من نسائنا: غطوا عنا سوءة إمامكم، فاشتروا لي ثوباً ألبسه، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي بذلك الثوب). هذا الطفل الصغير كان ذا همة عالية، فكان لا يرى راكباً من جهة المدينة إلا أتاه وسأله عما نزل من القرآن، فحاول حفظه حتى كان أحفظ قومه لكتاب الله، وكان إمامهم مع أنه كان لا يجد ما يستر عورته من الملابس، لكنها علو الهمة وعلو القدر وعلو المنزلة عند الله عز وجل.

الإيثار من أبرز صفات الجيل الأول

الإيثار من أبرز صفات الجيل الأول إن ذلك الجيل قد رباهم الله وهيأ لهم الظروف؛ ليخلعوا أمر الجاهلية بالكلية، فأنتم تعلمون حرص أهل الجاهلية وبخلهم، وأن كل إنسان منهم لا يمكن أن ينذر أحداً بخير، لكن ذلك الجيل الفاضل عندما حاصرهم أهل الجاهلية وحاربوهم وحبسوهم في الشعب لا يبيعون إليهم ولا يشترون منهم، ولا ينكحون منهم ولا ينكحون إليهم ثلاث سنين، جعل الله لهم هذه البيئة الصالحة لمقاطعتهم الجاهلية، حتى تتحقق فيهم قيم الإسلام، فلولا حصار الشعب لم يستطع أولئك القوم أن يحققوا قيم الإسلام تماماً كما هي؛ فمثل الإيثار الذي تحقق بينهم إذ ذاك إذا سمعه أحد الآن عجب له. تصور أن عدداً كبيراً من الفقراء الذين لا يملك أحد منهم ثوباً ولا لقمة عيش، وهم في حرب يحاصرهم الأقربون والأبعدون، ولا يستطيع أحد منهم أن يخرج لحاجة، يجد أحدهم كساء أو جبة مدفوناً في الأرض فينفضه فيأتي به أصحابه، ولا يستأثر به دونهم، ويجد أحدهم جلداً يريد أكله وهو في غاية الجوع فيغسله ويأتي به أصحابه؛ ليشتووه ويأكلوه جميعاً. إنه الإيثار الذي أثنى الله به على الأنصار فيما بعد! يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لقد رأيتنا في الشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتد بنا الجوع فخرجت لبعض حاجتي فوقعت يدي على شيء، فإذا هو جلد فأخذته فأتيت به أصحابي، فغسلناه وشويناه وأكلناه. ويقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: (لقد رأيتنا بالشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا وهو يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ولقد خرجت ذات ليلة لقضاء بعض حاجتي فوقعت يدي على شيء، فإذا هو جبة فنفضتها فأتيت بها أصحابي، فاقتسمتها أنا وسعد بن مالك اتزرت بنصفها واتزر بنصفها، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار). بعد هذا الأذى وهذا الحصار المطلق فتح الله لهم أبواب الفتح، واستجابت لهم الأمم؛ لصدقهم مع الله سبحانه وتعالى، فنصرهم بالرعب وهيأ لهم الأسباب. فأولئك القوم الذين هم بهذا القدر من القلة، كما وصفهم الله تعالى في قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال:26]، آواهم الله ومكن لهم في الأرض، وأزاح عروش الملوك أمامهم، وجعل سيوفهم علامة على الرعب في وجوه الأمم كلها، ففتحت الأرض أمامهم، ولم يستطع ملك من الملوك ولا قائد من القادة أن يقف في وجه أضعف أولئك القوم. إنهم نصروا الله سبحانه وتعالى وصدقوا معه، فنصرهم الله كما تعهد بذلك، فقد قال في كتابه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] , وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]. فكتب الله لهم الغلبة والعزة والتمكين.

مقارنة بين أحوالنا وأحوال الجيل الأول رضوان الله عليهم

مقارنة بين أحوالنا وأحوال الجيل الأول رضوان الله عليهم تعال بنا لحظة لنقارن وضعنا نحن مع وضع أولئك القوم. إن أحفاد هؤلاء القوم بعد أن فتحت عليهم الدنيا أبوابها انشغلوا عما شرف به أولئك القوم، فأصبح الرجل من أحفاد الصحابة يعيش هنا في هذه المدينة أو غيرها من مدائن الإسلام لا يفكر إلا فيما يجمعه من الأموال، ولا يفكر بغزو في سبيل الله، ولا إعلاء لكلمة الله، ولا جهاد في سبيله، ولا أن يرعب عدواً من أعداء الله، ولا أن يذل عدواً من أعداء الله، ولا أن يقول كلمة الحق مدوية صارخة، ولا أن ينصر الله في أي موقف، يريد أن يعيش مائة سنة معافى في جسمه آمناً في سربه، لا يتعرض لأذى بمقال أو حال، ولا يتكلم أحد فيه، ولا يتلقى أي تهديد ولا أي أذى، فهل هكذا عاش أولئك القوم؟ إن أولئك القوم الذين تحبون الاقتداء بهم، وتريدون مجاورتهم في الفردوس الأعلى من الجنة، ما نالوا ذلك إلا بما بذلوه، فكيف تتمنون الأماني بدون أن تسلكوا الطريق؟! إن هذا الطريق كل من سلكه قد تعهد الله له بأن يوصله إلى هذا المقام، فقد انتدب الله لمن خرج في سيبله لا يخرجه إلا إيمان به وتصديق برسوله، أن يرجعه إلى المكان الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، أو أن يدخله الجنة. لذلك إذا قارنا أوضاعنا مع أوضاع البعثة سنجد انتشاراً للشرك في هذه الأرض حتى بين المسلمين، قد يفعل بعضهم من الشرك ما لا يظنه شركاً، ونرى انتشاراً للفواحش والظلم، ونرى استبداداً على الناس، ونرى قطيعة للرحم، ونرى أن الغني يزداد غنى من غير حل، وأن الفقير يزداد فقراً كذلك؛ لاستغلال الأغنياء للفقراء أبشع استغلال. ونرى الفقراء يزدادون فقراً، فلا يمكن أن يحقق أحد منهم ما هو مضطر إليه وما هو محتاج له إلا بالعناء المبين، والمشقة الكبيرة، بل قد فرض على الناس من أنواع الظلم ما يجعل الذي يريد أن يعيش من حلال لا يستطيع ذلك إلا بالربا والمحرمات. ونرى كذلك إدباراً عن منهج الله وإعراضاً عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من البيئات، ونرى حرصاً بالغاً على جمع هذه الدنيا وحطامها كما كان أهل الجاهلية يفعلون، ونرى تناصراً بين الناس على أساس النسب القبلي كما كان في الجاهلية من غير قناعة بذلك من الناحية الدينية. لذلك كان لزاماً علينا أن نراجع مسيرتنا حتى نعود إلى ما كان عليه ذلك الجيل، وحتى يحقق لنا الله ما وعدنا من النصر والتمكين في هذه الأرض. إن علينا عباد الله أن نراجع هذه المسيرة بالبدء بمدارسة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستسلام المطلق له، والأخذ به، وأن نعلم أن ما يصيبنا في سبيل ذلك ليس شراً لنا، فالمفاهيم التي ترسخت في أذهاننا لابد أن نزيلها، فإن الذين قتلوا يوم أحد شهداء في سبيل الله، وقطعت آذانهم وأنوفهم، وبقرت بطونهم، وقد حكم الله بأنهم لم يمسسهم سوء، فكل ما أصابهم ليس بسوء عند الله عز وجل. إذ قد حقق الله لهم أعلى الدرجات، وخصص لهم مقامهم في الفردوس الأعلى من الجنة، وشهد لهم بأنهم شهداء في سبيله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]. إن حال أولئك كان حال الصدق مع الله سبحانه وتعالى، ولهذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد قبل موته بثمانية أيام، فقال: (إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا الله ما عاهدوه عليه)، فترحم على أصحاب أحد وصلى عليهم. إن هذا المكان الذي ناله أصحاب أحد في الإسلام بالإمكان أن يناله الحاضرون اليوم والسامعون، فما هو إلا بالتضحية في سبيل الله، والبذل لإعلاء كلمة الله، وإيثار الآخرة على الدنيا، والأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، والتمكين له مهما كلف ذلك.

سبل اللحاق بالجيل الرباني الأول

سبل اللحاق بالجيل الرباني الأول

التعاون على إقامة السنة ونصرة الحق

التعاون على إقامة السنة ونصرة الحق علينا عباد الله أن نحرص على أن نتمسك بما نسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاءنا من الهدي المبين الذي نؤمن به ونصدق، وأن نعلم أن سلوك هذا الطريق يحتاج منا إلى مجاهدة، وهذه المجاهدة تحتاج إلى تعاون فيما بيننا، فلا يمكن أن يسلك الناس هذا الطريق من غير أن يجاهدوا أنفسهم في سلوكه؛ لكثرة المغريات والفتن المضلة، ولا يمكن كذلك إذا جاهدوا أنفسهم على سلوكه أن يستمروا عليه إلا بالتعاون على البر والتقوى. فكل إنسان منا عرضة للنسيان، وعرضة للفتن، وعرضة للضعف أمام الشهوة، وعرضة للضعف أمام الضغوط، لكنه إذا وجد من يتعاون معه فيذكره بما نسي، ويعظه إذا فتر، ويرغبه حين الترغيب، ويرهبه حين الترهيب، ويعينه إذا احتاج إلى العون، فإننا سننطلق جميعاً إن شاء الله تعالى في طريق الحق.

مؤازرة الصالحين قدر الاستطاعة

مؤازرة الصالحين قدر الاستطاعة علينا عباد الله أن نحرص على الصحبة الصالحة المعينة على هذا الطريق كما حرص عليها أولئك النفر، فقد جاء أعرابي فرأى ما هم فيه، فأحبه وهو يعلم أنه لا يستطيعه، فقال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت). انظروا إلى هذا الإعرابي الذي جاء من غنمه وباديته وهو يحب أن يفعل ما يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولكنه يعلم في نفسه العجز عن ذلك، فقال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟! قال: أنت مع من أحببت). فإذا حرص الإنسان على أن يحقق أمر الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، حرص على أن يكون مع الصادقين، فإن الله يرفع مقامه ومنزلته بذلك الحرص ويكون هو من المؤازرين إن لم يكن من الذين يحملون الثمر، فقد ضرب الله هذا المثل لهذه الأمة في الإنجيل فقال: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، فالزرع يخرج شطأه في البداية فتخرج السنبلة التي تحمل الحب وهي ضعيفة ملتوية، لكنها يحيط بها السنابل من كل جانب، وتلك السنابل لا تحمل الحب لكنها تتحمل الضربات عن السنبلة التي تحمل الحب، فتحول بين الطفيليات وبين الوصول إلى الحب، وتؤازرها في وجه الرياح، وبذلك تكون مشاركة، فمن كان عاجزاً عن أداء عمل لكنه يستطيع أن يناصر أهله بما يستطيع، فإن ذلك كاف في تحقيق مأموله والوصول إلى مراده، حتى يكون: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29]. إن علينا عباد الله أن نعلم أن هذا الزمان الذي نحن فيه زمان الفتن المضلة التي لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخلته. فعلينا أن نستعيذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن نحاول النجاة منها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتمسكنا بالهدي الأول، وأن لا نتجاوزه، وأن نحرص عليه جميعاً، فقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيام بين يدي الساعة المتمسك فيها بدينه كالقابض على الجمر. إن ما ترونه اليوم هو الغربة الثانية التي أخبركم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء). (طوبى للغرباء) إما أن تكون خبراً وإما أن تكون دعاءً، فقد تحمل على الخبر، فمعناه أنهم قد طابوا، وأن الله اختار لهم طوبى، وهو إما مقام في الجنة أو منزلة عظيمة عند الله. أو أن يكون ذلك دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاؤه مستجاب، فقد دعا لهم بأن يطيب ما هم فيه من أمور الدنيا، وأن ينالوا تلك المنزلة العالية في الجنة يوم القيامة. إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن خير كثير يكون في آخر هذه الأمة، وخرج إلى المقبرة يوماً فأخذ عوداً فنكت به في الأرض، فقال: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعوانا). إننا لم ندرك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل وأسمى وأكمل، فعلينا أن نحرص على إدراك أخوته حتى نكون من إخوان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به ولم يروه، فهم الذين يتحقق فيهم الخير الآخر الذي يكون في هذه الأمة. فهذه الأمة لن تعدم خيراً، وسيكون في آخرها خلافة على منهج النبوة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يقوم اثنا عشر خليفة، وقال كلمة فأسر بها، قال جابر بن سمرة فسألت أبي، فقال: كلهم من قريش). وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك الخلافة على منهاج النبوة كما في حديث حذيفة بن اليمان في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).

المسابقة إلى الخيرات

المسابقة إلى الخيرات إن علينا معاشر المسلمين أن نتسابق في ميدان الإيمان، وأن يحرص كل واحد منا على زيادة قربه من الله سبحانه وتعالى قبل أن يسخط عليه، وأن نحاول إذا سمعنا من هذا الدين وهذا الهدي شيئاً أن نكون من الآخذين به، فقد كان أولئك الجيل الصالح إذا سمع أحدهم كلمة واحدة مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تمسك بها، ولم يتركها بعد أبداً. أخرج مسلم في الصحيح عن عنبسة بن أبي سفيان بن حرب عن أخته أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى لله اثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة في اليوم والليلة بنى الله له قصراً في الجنة). قالت أم حبيبة: فما تركت ذلك منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنبسة: وأنا ما تركته منذ سمعته من أم حبيبة. فهكذا كان الحرص، بحيث إذا سمع الإنسان حكماً واحداً أخذ به ولم يتركه، وكان صادقاً عندما يقول: ما تركته منذ سمعته، ولذلك حين قطعت رجل أحدهم في سبيل الله أخذها فقبلها وقال: هذه الرجل لم تحملني إلى حرام منذ خمسين سنة.

ضرورة التخلص من مظاهر الجاهلية

ضرورة التخلص من مظاهر الجاهلية إن علينا -عباد الله- بعد مدارستنا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نزيل ما بقي عالقاً بأذهاننا من أمور الجاهلية، فما نراه اليوم من حرص على الدنيا، وأخذها من غير حلها، وما نراه من فشو الكذب والغش، وما نراه من فشو قطيعة الرحم، وما نراه كذلك من المذلة لأعداء الله، وما نراه من الهوان أمام أمم الشر؛ كله من مظاهر الجاهلية الجهلاء. إن رجلاً من أبناء المسلمين وقف في ملأ عظيم من الناس في الأسبوع الماضي، فذكر زعيماً من الزعماء وقال: إن الناس لم يتفقوا على محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل دولة كذا قد اتفقوا على هذا الزعيم الفلاني. تباً له كيف يقارن أحداً برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو كان من الصالحين! فكيف يقارن زعيماً من زعماء الدنيا وظالماً من ظلمتها برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن ذلك الملأ الذي قالت فيه هذه الكلمة ودوت فيه في الأبواق، لم يستنكر أحد منهم، ولا وقف أحد منهم للرد عليه، بل قد أعجبوا بكلامه؛ لأنهم جميعاً يتسابقون في ميدان واحد هو ميدان النفاق.

جمع الناس على نصرة الدين والدعوة ليس فيه مخالفة للسلف

جمع الناس على نصرة الدين والدعوة ليس فيه مخالفة للسلف إننا -عباد الله- بأخذنا بذلك الهدي لا يمكن أن نلام بأننا قد نقدنا، فما يفعله أقوام من المناورة والمجادلة عندما يقولون: إن الذين سبقونا من أهل القرون الماضية قد كانوا على خير وهم خير منا، ولم يكونوا يفعلون هذا الذي تفعلونه. إن هذه الحجة واهية؛ لأننا وأهل القرن الماضي، وأهل القرن الذي قبله جميعاً عيال على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباع لهم. ولا يمكن أن يأتي أحد بأفضل مما جاء به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان مقتدياً فليقتد بالأفضل، وليس ذلك طعناً في الذين قبلنا ولا نقداً عليهم، فقد أفضوا إلى ما قدموا، ونحن مهمتنا أن نستغفر لهم، وأن ندعو الله لهم، كما أثنى الله على اللاحقين من هذه الأمة بذلك. فالله سبحانه وتعالى قد بشر بأجيال آتية في هذه الأمة في عدد من آي كتابه، فقد قال في سورة الحشر بعد ذكره للمهاجرين والأنصار، قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. فهذا حالنا مع كل السابقين من آبائنا وأجدادنا والقرون السابقة نقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. ومن بشارات الله بهذه الأجيال اللاحقة قوله تعالى في سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3]، فهذه بشارة بالجيل الذي سيأتي. (وآخرين منهم) أي: من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم. (لما يلحقوا بهم) أي: أنهم سيلحقون، فـ (لما) هي للماضي المنقطع، معناه: أن ذلك سينقطع فسيلحقون بهم. فهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى بأجيال لاحقة في هذه الأمة فيها الخير العظيم، ويكفي من تشريفها أن الله سبحانه وتعالى وعدها باللحاق بالأجيال الأولى. (لما يلحقوا بهم) هذا إخبار بأنهم سيلحقون بهم، وهذا كاف من رفع القدر والمنزلة أن يوصفوا بأنهم سيلحقون بالأجيال السابقة من هذه الأمة، وبالسابقين من المهاجرين والأنصار. إننا عباد الله في هذا البلد في غرب هذه الأمة الإسلامية، وقد ورد في ذكر فضل غرب هذه الأمة كثير من الأحاديث، فقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وهم أهل الحق. فعلينا أن نحرص على أن نكون من أولئك الطائفة الظاهرين على الحق الذين هم من أهل الغرب، حتى نلقى الله سبحانه وتعالى، وقد بذلنا ما عاهدنا الله عليه، وصدقنا فيما وعدناه سبحانه وتعالى. وعلينا أن نعلم أن الله غني عنا، وأنه سيعز دينه بعز عزيز أو بذل ذليل، وأننا إذا تراجعنا عن نصرة هذا الدين فسيخرج الله من الأجيال من ينصره، ولا يخاف في الله لومة لائم، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب عليّ وعليكم إنه هو التواب الرحيم. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولا تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم. نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض؛ أن تهدي قلوبنا، وأن تسترنا عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا! اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا! ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا! اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه! اللهم اجعلنا قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واسقنا من حوضه بيده الشريفة شربة هنيَّة لا نظمأ بعدها أبداً، وبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وآتنا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله ولو كره المشركون! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم وسدد سهامهم، واجمع على الحق قلوبهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم! اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم، ونعيذهم بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم! اللهم أنزل رجزك وبأسك وسخطك وعذابك على كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك، ويصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك؛ اللهم لا تحقق لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية! اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا ذا القوة المتين! اللهم طهر المسجد الأقصى من رجس اليهود، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا ذا القوة المتين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين، واجعل المال في أيدي أسخيائنا! اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك! اللهم لا تدع في عشيتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين. اللهم لا تخرج أحداً منا من هذا المسجد إلا وقد غفرت له! اللهم إنك أعلم بنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، واجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

المستقبل لهذا الدين

المستقبل لهذا الدين الدلائل والمظاهر الكثيرة تشير إلى عودة هذا الدين العظيم ليحتل مركز الصدارة والسيادة على الأمم والمجتمعات، كما كان عليه الحال في المراحل الأولى من ظهوره، ومهما تمكن الكفر وساد الظلم وحورب الحق، وتواطأ القريب والبعيد على عداوة الإسلام، فإن لهذا الطغيان نهاية ولابد، وليس أدل على ذلك من المبشرات التي وقعت وتقع وتدل على أن المستقبل لهذا الدين، وأن الله سينصر جنده وأولياءه، وهو وعد من الله لن يتخلف، والله لا يخلف الميعاد.

كمال هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم

كمال هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، لا معقب لحكمه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وهو الذي يقول في محكم التنزيل {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، وقد شاء بحكمته البالغة أن يختم الرسالات والنبوات ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل الدين الذي جاء به مكملاً للأديان، فقد أكمل به الله الدين لأهل الأرض، فلا يمكن أن يأتيهم خطاب من عند الله بعده؛ ولذلك قال في نهاية تنزيل أحكامه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} [المائدة:3] فقد ارتضى الله هذا الدين دِيناً للبشرية كلها، وخاطبها بذلك، وقد جاء في الصحيح أن حبراً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! آيةٌ في كتابكم لو فينا -معاشر اليهود- أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وما هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] قال: أما إني لأعلم أين أُنزلت، ومتى أُنزلت، لقد نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقفٌ بعرفة يوم جمعة، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية إلا اثنين وتسعين يوماً، فكان ذلك في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فعاش عشرين يوماً من شهر ذي الحجة، وثلاثين يوماً هي شهر المحرم، وثلاثين يوماً هي شهر صفر، وتوفي في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وقد أنزل الله عليه هذه الآية؛ إيذاناً بأن الوحي قد انقطع، وبأن الدين الذي ارتضاه الله للبشرية هو هذا الإسلام الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

مظاهر حفظ الله لهذا الدين

مظاهر حفظ الله لهذا الدين وقد تعهد الله بحفظه ونشره ونصره، وأنتم تعلمون أنه القادر على الوفاء بما تعهد به، وأنه لا يخلف الميعاد، وكان تعهده بحفظه بارزاً في عدة مظاهر:

حفظ كتابه العزيز

حفظ كتابه العزيز المظهر الأول منها: حفظ الكتاب الذي أنزله، فالكتب السابقة، إنما كان يستحفظها أهلها، فيحفظها الأحبار والرهبان، وهذا الكتاب تولى الله حفظه بنفسه؛ ولذلك قال الله في ذكر التوراة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44]. وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال فيه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقال فيه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:193 - 196]، فتولى الله حفظه بنفسه، فهذا القرآن المحفوظ في الصدور، المتلو بالألسنة، المكتوب في المصاحف، مادام موجوداً على الأرض، فذلك معناه استمرار هذا الدين وحفظ له، ولا يمكن أن يعتدى على هذا الدين، ولا أن ينقص منه شيء، مادام هذا القرآن قائماً في الأرض حجةً على أهلها، وقد تحدى الله به الثقلين -الإنس والجن- أن يأتوا بسورةٍ من مثله، وقد حاول ذلك بعض البلهاء فما وصلوا إلى نتيجة، جاء مسيلمةُ الكذاب وهو من فصحاء بني حنيفة، فحاول أن يحاكي سورة من القرآن، فما جاء إلا بالمضحكات التي يعجب منها العقلاء، سمع سورة الفيل {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5] وهي غاية في البلاغة والإيجاز، تضمنت تقريراً كاملاً عن قصةٍ عظيمةٍ من قصص التاريخ، وذكرت ما فيها من العبر والآيات، وبينت آثارها، وما ترتب عليها، فجاء هو فسلطه الله على نفسه، فلم يأتِ إلا بقوله: [الفيل وما الفيل، وما أدراك ما الفيل، ذنبه قصير، وخرطومه طويل!!] وهذا كلام سمج، يضحك منه العقلاء، وكذلك عندما سمع قول الله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:1 - 4]، على ما في هذه السورة من البلاغة العظيمة، ومن أعظمها: ما فيها من البديع {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1] فالفاء في (ذرواً) مفتوحة {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:2] والفاء في (وقراً) مكسورةٌ {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات:3] والفاء في (يسراً) مضمومة، وجاءت هذه على ترتيب الحركات الفتحةُ، ثم الكسرةُ، ثم الضمة، بالإضافة إلى ما فيها من الإعجاز اللفظي، وحاول مسيلمة الكذاب أن يأتي بشيء يقابل هذا فقال: [والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً!!] فلم يأت بشيء كذلك يستحق أن يسمع. والمتأخرون من أعداء الله تعالى ساءهم وجود هذا القرآن واستمراره، فعندما اجتمعت الحكومة الإنجليزية في سالف الزمان؛ لتنفيذ مؤامرةٍ على المسلمين، قام فيهم خطيبهم، وحمل نسخةً من المصحف الشريف، وقال: ما دام هذا الكتاب موجوداً بأيدي المسلمين، فلن تصلوا منهم إلى مرادكم؛ فلذلك يبقى هذا الكتاب حافظاً لهذا الدين؛ لأن المستقبل له، فالمسلم إذا وجد ضيقاً، وتكالبت عليه الأمم يجد الفرج في كتاب الله، وإذا وجد مرضاً وألماً يجد الفرج في كتاب الله {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، إذا جهل حكماً أو جهل خُلقاً فيجد الجواب في كتاب الله، فيه حل لكل المشكلات؛ ولذلك لا يمكن أن يحس بالغربة من رفيقهُ القرآن، ولا يمكن أن يحس بالعراء من يعيش في ظلال القرآن، فلا بد أن تستذكر هذه الأمة، وأن تستحضر هذه المعونة التي مجدها الله بها، ببقاء كتاب الله بين أظهرها، وهو تسليةٌ عن كل ما يحصل، فكلما جاءت ضائقة، أو احتج المشركون بشبهة؛ ففي القرآن ما يفرج ذلك، اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء:106 - 109]، وكذلك اقرءوا قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:32 - 33] إذا اشتكى الناس هزيمة من الهزائم، لجئوا إلى القرآن، فوجدوا فيه قصص السابقين وما نالوا من الأذى والضيق، فعلموا حينها أن حالهم سيتسع، إذا قرءوا في وقت ضيق وشدة قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:110 - 111]، عرفوا أن ما هم فيه إنما هو حلقة من حلقات سلسلة التاريخ، وسنةٌ من امتحانات الله التي يمتحن بها العباد، وأنه كلما جاء العسر فمعه يسران {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]، وإذا جاء الضيق وصبروا، فإن النصر مع الصبر، وإذا جاء الكرب فإن الفرج مع الكرب، وبهذا يتقوى المسلم قوةً ليس لها حدود. أحد العلماء ضايقه الناس فسجن ونُفي، وصودرت ممتلكاته، فأتاه شخص وهو في السجن، فنظر إلى حاله فإذا هو في غاية السرور والسعادة، فقال: يا أبا العباس ما يسرك؟! قال: ماذا يفعل أعدائي بي؟ قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة، جنتي في صدري، هذا القرآن بين يدي، فلا يمكن أن يُضايق من يجد المتسع في كتاب الله.

وجود المجددين على رأس كل مائة سنة

وجود المجددين على رأس كل مائة سنة من مظاهر بقاء هذا الدين واستمراره: أن الله سبحانه وتعالى وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدد لها أمر دينها، وهؤلاء المجددون الذين يجددون أمر الدين ما فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، ولا ابتعثوا من قبل دولة ولا سلطة، إنما ابتعثهم الملك الديان؛ لتجديد أمر الدين، وفاءً بوعده لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فهم يجددون ما جهله الناس من أمر الدين، وأخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) أولئك اصطنعهم الله سبحانه وتعالى ووفقهم؛ ليجعلهم أمناءه على وحيه، ولم يكن الله ليأتمن على وحيه المهلكين، لا بد أن يختار له الأمناء الموقعين عن رب العالمين، الذين يميزهم الله بما آتاهم وبما وفقهم له وسددهم، ليحفظوا دين الله سبحانه وتعالى، وأنتم تعلمون أن هذا القرآن منزه عن القذر والوسخ والأنجاس، وإذا كان في بيت أحدهم فسيجعله في أشرف مكانٍ في البيت وأطهره وأنظفه، وهذا إنما هو بأمر الله، فكذلك لا يمكن أن يختار الله أوعيته إلا أنظف الناس قلباً، وأتقاهم لله، وأكثرهم إخلاصاً له، وتضحية في سبيله، أولئك هم الذين يؤتمنون على كتاب الله. ثم إن هذا التجديد الذي تعهد الله به لهذا الدين، يشمل تجديده من ناحية ما يتجدد من الوقائع، فالنوازل والوقائع تتجدد، والناس يبحثون فيها عن حكم الله، فيخرج الله من يستنبط الحكم فيخرجه من القرآن ومن السنة، ويبينه للناس وكأنه أنزل الآن، وكذلك ما يردون به على شبهات المفترين، وابتداع المبتدعين، وما يؤيدهم الله به من التوفيق للأدلة وبيانها. وكذلك من أوجه التجديد: ما يجددونه من بعث روح الأمل في الناس، وبعث التضحية فيهم، وتنبيههم إلى المخاطر المحدقة بهم، فكل ذلك من تجديد أمر الدين؛ لأن الأمة إذا أحست أن الدين مهدد، فلا شك أنها ستبذل قصارى جهدها في الدفاع عن دينها الذي هو أغلى شيءٍ لديها.

هذه الأمة خاتمة الأمم وأكثرها

هذه الأمة خاتمة الأمم وأكثرها من مظاهر استمرار هذا الدين: أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة خاتمةً للأمم، وهي أكثر أمم الأنبياء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه عرضت عليه الأمم، فكان يرى النبي وحده، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، حتى رأى سواداً كثيراً فظن أنهم أمته، فقيل: هذا موسى وأمته، ولكن انظر إلى الأفق قال: فنظرت فإذا سوادٌ عظيمٌ قد سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك في صحيح البخاري أنه قال: (ما من نبيٍ بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر) أي: أوتي معجزةً لو رآها البشر جميعاً لآمنوا، (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)؛ وقال: (لا يبقى بيت شجرٍ ولا مدر إلا دخله هذا الدين)، والشجر أي: البيوت المبنية من الأكواخ والأشجار ونحو ذلك، والمدر: الطوب، أي: لا يبقى بيتٌ من الشجر والطوب إلا دخله هذا الدين، وكذلك أخبر أنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا واقع الآن فالأذان يرفع في جميع أصقاع الأرض، لا توجد مدينةٌ في أنحاء العالم إلا وفيها من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وسيزداد ذلك ويعم، فهذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، والله تعالى بين هذا الوعد في عدد من آيات كتابه، فقد قال تعالى في سياق قصة موسى عليه السلام: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال تعالى في ذكر زبور داود: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106]، وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:39 - 41]. وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. وقد بين الله سنته الماضية في أحلك الظروف وأقساها على المسلمين، عندما كان يوم الأحزاب، وحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في المدينة، وجاءتهم قريش وأحلافها من جهة الغرب، وغطفان وأحلافها من جهة الشمال، واليهود ومن معهم من جهة الشرق، فأحاطوا المدينة من كل جانب، وأصبح الأعراب الذين حول المدينة يتربصون بهم الدوائر، يريدون الاعتداء على سارحتها، أو على زرعها، ويظنون أن من فيها سيتخطفون في الأرض، ولن تبقى لهم باقية، واشتد الحال بالمسلمين حتى وصل إلى ما بين الله في محكم التنزيل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11]، ثم جاء فرج الله عز وجل، وهذا الفرج لم يكن متوقعاً إلا لدى أهل الإيمان والتقوى؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:25 - 27]، وكل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى وتقديره، وفي ذلك الوقت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (أوتيت مفاتيح الأرض، وأوتيت كنوز كسرى وقيصر) وقال: (لتفتحن كنوز كسرى وقيصر، فتنفق في سبيل الله) فكان المنافقون يقولون: يعدكم محمدٌ أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحدٌ منكم أن يخرج لقضاء حاجته، وفي ذلك الوقت كان المسلمون لا يتجاوزن ألفاً وخمسمائة مقاتل، وهم محاصرون في المدينة، ليس لهم مدد خارجي، وليس لهم أي سلاح ضارب، فلم تمضِ ست سنوات حتى دخلت الجزيرة العربية كلها في دين الله، وخرجت الجيوش الإسلامية فاتحةً إلى العراق والشام، وتوالت الفتوح، وتضاعفت الرقعة، وفتحت كنوز كسرى وقيصر وأنفقت في سبيل الله. إن هذه السرعة في ذلك الزمان الأول مؤذنة بسرعة النصر في هذا الزمان، فزماننا هذا أسرع، وما يحصل فيه مما ليس متوقعاً أكثر، فقبل سنوات قليلة من كان يتوقع منكم ما حصل اليوم من التطورات في هذا الزمان؟! فمثلاً: التلفون المحمول! من كان يتوقع أننا سنستخدم مثل هذه التقنية عن طريق هذا الجهاز؟! قبل سنواتٍ يسيرة لم يكن أحد يحلم بمثل هذا النوع، لكن ذلك يقع بين الكاف والنون، إذا أراده الله تحقق، ومن هنا لا يُستغرب أن يأتي نصر الله من غير أن نفكر في الوسائل، ومن غير أن نتعب أنفسنا في التخطيط، فسيأتي النصر لا محالة، لكن له شروط لا بد من تحققها، وهذه الشروط يسهل جداً على الأمة الإسلامية أن تحققها، فلا يطلب تحقيقها في جميع الأفراد، بل يطلب تحقيقها في الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وهذه الشروط بينها الله بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] إذاً: هذه هي الشروط، وهي ميسورةٌ سهلة، وتحقيقها ليس شاقاً، وإذا تحققت لابد أن يأتي النصر الموعود.

وجود الثوابت المسلمة التي لا يناقش فيها أحد

وجود الثوابت المسلمة التي لا يناقش فيها أحد ومن مظاهر استمرار هذا الدين، ما ثبت الله به المؤمنين من الثوابت المسلمة التي لا يناقش فيها أحد، مثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52] فالكفار ماذا يطلبون من المسلمين؟ أعداء الله ماذا يريدون؟ هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: إما أن ينال المسلمون الشهادة في سبيل الله، وإما أن ينالوا النصر وهزيمة الأعداء؟ فهذا مثبتٌ عجيب لقلوب المؤمنين، وهو يقتضي منهم ألا ينهزموا فهم الرابحون على كل حال، {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] إما الشهادة في سبيل الله، وهي أحسن، وأبلغ وأكبر من النصر على الأعداء وهو الذي يلي ذلك.

وجود الآيات والدلائل التي تبين أن الحق هو هذا الدين

وجود الآيات والدلائل التي تبين أن الحق هو هذا الدين ومن هذه المظاهر: أن الله سبحانه وتعالى يريهم من الآيات في هذا الكون ما يدل على صدق وعوده، وصدق آياته المذكورة في كتابه، كما قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فنحن اليوم نشهد حالات كثيرة من إيمان الكفرة الفجرة، الذين يدخلون في دين الله أفواجاً، ويرجعون إلى هذا الدين طواعيةً من غير إكراه، بعضهم يرجع إليه بسبب اكتشافٍ علميٍ اكتشفه، فوجد أنه موجودٌ لدى المسلمين في كتابهم، أو في سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الذين يُسلمون بسبب الإعجاز العلمي عددهم كثير، ونجد آخرين يُسلمون بسبب مشاهد ومظاهر رأوها في وقت الحرب مع المسلمين، فقد أسلم كثيرٌ من الجنود الأمريكان عندما رأوا جثث المجاهدين المستشهدين في أفغانستان تمكث الأسابيع ولا تتغير، ليس لهم أية رائحة كريهة، أو تغير في اللون، أو اختلال في الجسم، إنما يعلو محياهم النور، وتظهر الابتسامة، وكذلك أسلم عددٌ كثيرٌ من الجنود الروس، بسبب ما شاهدوا من قبل في وقت الجهاد الأفغاني من النصرة التي نصر الله بها المؤمنين، ومن غرائب ذلك ما أخبروا به اليوم، فقد أخبروا الأمريكان في حربهم في أفغانستان، وقالوا لهم: مادمتم لم تشاهدوا الإبل، فلا بأس عليكم. قالوا: ما هي الإبل؟ قالوا: كنا في الليل نرى بالرادار إبلاً أو جمالاً تقدم إلى المعسكر، فنراقبها بالرادار والتصوير، فإذا دخلت المعسكر تفجرت، فكانت كالصواريخ أو القنابل!! وقد شاهدت في جريدةٍ أمريكية عن بعض الجنود الأمريكان الذين كانوا مشاركين في تلك الحرب في أفغانستان أنهم شاهدوا في الليل جملاً عملاقاً يتقدم، فذكروا نصيحة الروس، فضربوه بالرصاص؛ فلم يؤثر فيه، كلما ضربوه قطع مسافةً إليهم، حتى وصل إلى المعسكر فتفجر، وهو مشاهد على الشاشات ليس معه أي أحد، وليس محملاً بأي شيء، لكن هذا من مكر الله وكيده. وكذلك عدد من الذين يحضرون هذه الحروب، فيشاهدون من المجاهدين الصبر والمثابرة في الجهاد في سبيل الله، فيسلمون بسبب ذلك، فأحدهم أسلم في باكستان وقال: إنه لن يخرج من باكستان حتى يحفظ القرآن، وذلك بسبب أنه رأى الطائرات تقصف المجاهدين في خنادقهم، فإذا ولت وفرغت حمولتها، خرج منهم رجل فوضع إصبعه في أذنه وأذن، فما يكتمل الأذان حتى يخرج الناس من الخنادق، ويقيمون الصلاة، ثم يرجعون إلى خنادقهم قبل أن تأتي الطائرات، فهذه من الأمور التي يشاهدها الكفار، فيشهدون بها، وتكون سبب إسلام بعضهم.

من المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين

من المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين

دخول كثير من الكفار في دين الإسلام لأسباب متعددة

دخول كثير من الكفار في دين الإسلام لأسباب متعددة وهنالك بعض الآيات الكونية التي لا تتعلق بنصرة الدين، لكنها تتعلق بصحة ما جاء في القرآن، فإسلام عدد كبير من الأطباء بسبب شفاء بعض المرضى الميئوس منهم بسبب شرب زمزم، أو بسبب قراءة القرآن؛ واضحٌ منتشر، وكذلك بعض الأمور العجيبة التي ترونها، وقد تكون أمراً معتاداً لدينا نحن، لكن يجعله الله سبباً لإسلام بعضهم، لقيت شاباً إنجليزياً في (برمنجهام) قد أسلم وحُسن إسلامه، فسألته أسلمت على يد من؟ فقال: أسلمت على يد هرة!! لم يسلم على يد أحدٍ من الدعاة، ولا بسبب شريطٍ ولا بسبب كتاب، إنما أسلم على يد هرة، فسألته عن ذلك، فذكر أنه كان سائقاً لليموزين -أي: تكسي- فاستأجره رجلٌ في وقت المساء. وهو من شرق آسيا لا يدري هل هو من باكستان أو بنغلاديش أو غيرها، فحان وقت صلاة المغرب، فطلب منه أن يتوقف، وأن يترك العداد يشتغل حتى يصلي صلاة المغرب عند مسجد من المساجد، قال: فدخل الرجل يصلي وأنا مرتاح؛ لأنني من الصباح وأنا واقف والعداد يشتغل، فليس علي خسارة! فخرجت من السيارة فإذا هرة جميلة عند باب المسجد، فذهبت لأداعبها، وألعب معها، ففرت مني ودخلت المسجد، فرجعت كئيباً حزيناً، فما وصلت إلى السيارة حتى خرجت مرةً أخرى تنظر إليّ، فرجعت إليها، فدخلت المسجد، ثانيةً وثالثة، فعرفت أنها تُحس أن شيئاً ما يعصمها في الداخل، وأنني لا أتجاسر عليها إذا دخلت، فتبعتها قليلاً لأرى ما بالداخل، فنظرت فإذا جميع المصلين في حال الركوع، وهم جميعاً خاشعون لله، نظرت إلى أناس كلهم يدينون لرب العالمين في هيئةٍ واحدة، فكان هذا سبب إسلامه. وآخر أبوه يهوديٌ متعصبٌ متطرف من أغنياء الإنجليز، وهو طبيب من مشاهير الأطباء في لندن ويعمل معه طبيب ليبي في نفس المستشفى الذي يعمل فيه، فحصل بينهما شجار، فهذا اليهودي قال: ما من شعبٍ من شعوب الدنيا أوسخ ولا أقذر من المسلمين، فالطبيب الليبي قال له: هذا غير صحيح، وإن أقذر شيء في الإنسان لدى المسلمين أطهر من وجهك أنت، أنت تغسل وجهك كم مرة في اليوم؟ قال: مرة في الصباح. قال: المسلمون ينظفون موقع خروج النجاسة، ويغسلونه خمس مرات، في أوقات الصلاة، وذكر له الوضوء، فأنكر هذا، فقال: تعال معي لتشهد ذلك في مسجد من المساجد، فخرج معه، فلما أتيا إلى مسجد لندن في إحدى الصلوات الجهرية -أظن أنها صلاة العشاء- وقف قبل الصلاة عند مكان الوضوء، فإذا الناس مقبلون على الوضوء، يأتي الإفريقي والآسيوي والإنجليزي والعربي المسلم، كلهم يتوضأ بنفس الهيئة، يغسل كل عضو ثلاث مرات، وهم لا يشاهدون هذا الرجل، ثم دخل المسجد وقال له: انتظرني هنا فقد حان وقت الصلاة، وأنت لا يحل لك أن تدخل المسجد، دعني أصلي وأعود إليك، فوقف حول الميضئة والناس مازالوا يأتون فيتوضئون ويدخلون، قال: انتظرت قليلاً فإذا الباب عندما يفتح يخرج إلي منه صوت جميل بنغمة هادئة، فأحببت أن أسمعه عن كثب، فاقتربت إلى الباب، فأدخلت وجهي فقط، فسمعت الإمام يقرأ قراءة هادئة جداً، والناس وراءه في صمت رهيب يستمعون إليه، سمعت ذلك وقتاً ثم خرجت، ولم يشد هذا الأمر انتباهي كثيراً، فأنا كثيراً ما أسمع الأغاني والأناشيد، فهذا أمر طبيعي عندي، فوقفت في المكان الذي تركني فيه صاحبي، فلما قضى الناس الصلاة وسلموا، صاروا يخرجون أفواجاً، وكلما مر عليّ أحد منهم نظر إليّ نظرة مستغرب، وبدأ يقترب مني ويسألني ما شأنك؟ حتى تجمهر حولي عدد من الناس يقولون: إن وجهك مضيء يُشرق، وكنت أنكر ذلك ولا أظنه صحيحاً، حتى جاء صاحبي، فقال: ماذا في وجهك؟ قلت: ليس به شيء قال: بلى إن وجهك يضيء كالقمر، قال: فأنكرت ذلك فتقدمت إلى المرآة فنظرت، فإذا فيه بقايا من النور الذي ذكروا، فوجد أنه الجزء الذي دخل منه في المسجد، فقد أصبح مثل فلقة القمر، فكان هذا سبب إسلامه، وهذا الذي حصل لهذا الرجل لا يحصل الكثير من المسلمين ممن يدخل المسجد، لا يحصل لهم هذا النور، لكنها آية خصه الله بها. ومثل هذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في محلم بن جثامة، الذي قتل رجلاً يشهد أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله عند إسلامه: (اللهم لا تغفر لـ محلم)، فمات فدفنوه فلفظته الأرض، ثم دفنوه أخرى فلقطته الأرض، ثم دفنوه ثالثةً فلفظته الأرض، فواروه بالحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الأرض لتواري من هو شر منه)، ولكنها آية، كذلك هذا الرجل الذي ابيض وجهه، كثير من المسلمين ممن هو خير منه لا يحصل له هذا، لكنها آية كانت سبب إسلامه. ومثل ذلك طبيبٌ أمريكي متخصصٌ في الأمراض الباطنية، جاءته امرأةٌ مغربية مصابة بالسرطان في مراحل متقدمة، وأخبرها أنه ليس لها أي علاج، وأعطاها بعض مسكنات الألم، ونصحها بالخروج من المستشفى؛ لأن بقاءها فيه مُكلف، بل نصحها أن تذهب إلى قريتها أو مكانها حتى تموت، وكان ذلك بأسلوب مهذب، وفهمت منه المرأة اليأس من حياتها، وأنها لا يمكن أن تعيش، فقالت له بكل صراحة: أنا موقنة بأنني سأموت، لكن أخبرني فقط كم تتوقع بقي من عمري؟ قال: حوال شهر. فذهبت هذه المرأة، وطلبت من زوجها أن يرتحل بها إلى مكة المكرمة، فذهب بها إلى المسجد الحرام، فلم تقبل الخروج منه، وجلست تشرب ماء زمزم وتقرأ القرآن، فلما مضت المدة المسموح بها في التأشيرة، وجدت أن شعرها قد ازداد وقد كانت تشرب الكيماويات التي تزيل الشعر، ووجدت أن صحتها قد تحسنت، وبعد مدة وجدت أنها قد برأت تماماً، ولم تعد تحس بشيء، فرجع بها زوجها إلى نفس الطبيب الأمريكي، فلما شاهدها كاد يغمى عليه من الهول، وأمر بإجراء فحوص عاجلة لها، فوجد أن كل شيء سليم! وهو لا يصدق هذا، سألها عن السبب، فذكرت له ذلك، فكان هذا سبب إسلامه. وآخر أيضاً كان يعالج الأمراض النفسية، ووجد أن الأصوات من أبلغ المؤثرات، فكان يجمع أشرطة الأغاني والموسيقى وغيرها من مختلف أنواع الشعوب، حتى أصوات الطيور يسجلها، فيسمع المرضى تلك الأشرطة، حتى وقع على شريطٍ من القرآن بتلاوة الشيخ محمد علي المنشاوي من سورة الرعد، فوجد أنه أشد تأثيراً على المرضى من كل الأشرطة، فحاول أن يستعرض ما فيه، فسمع الكلام وإذ بالصوت عادي جداً ليس مثل أصوات المغنيين الجميلة، فعرف أن القضية لا تتعلق بالنغمة والصوت، وإنما تتعلق بمضمون الكلام، وبحث عن تفسير هذه السورة، حتى وصل إلى قول الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فقال: هذه النكتة! فكان ذلك سبب إسلامه، ومثل هذا كثيرٌ جداً في أنحاء العالم.

اعتراف أعدائه به

اعتراف أعدائه به ومن هذه المبشرات التي تقتضي استمرار هذا الدين أن أعداء الدين اليوم معترفون به، وأعتاهم الجيش الأمريكي أكبر مؤسسة لعداء الإسلام وأقواها، ومع ذلك فإن للجيش الأمريكي معهداً لتكوين أئمة مساجد الجيش الأمريكي، وقبل ثلاث سنوات طبع الجيش الأمريكي نسخةً من المصحف، واتخذ قراراً بأنها تعتبر قطعة سلاح، أي: أنها محترمة، لا يحل لأي عسكري إلا أن يحترمها غاية الاحترام مثل احترام السلاح.

رجوع كثير من عصاة المسلمين إلى طريق الهدى

رجوع كثير من عصاة المسلمين إلى طريق الهدى ومن هذه المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين: رجوع كثير من أوساط المسلمين إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن نشهد اليوم زيادة أعداد المساجد، وزيادة المصلين فيها، والذين كانوا منكم في هذه المدينة قبل فترة، لا شك أنهم يتذكرون عندما كان عدد المساجد فيها يسيراً، وكان رواد المسجد عدداً يسيراً من الشيوخ وكبار السن، واليوم -ولله الحمد- أعداد المساجد بهذا الحجم، وروادها بهذا العدد، وكثير منهم من الشباب الذين هم في مقتبل العمر، ومثل ذلك في أوساط النساء، وهن اللواتي كثيراً ما يعتلي بهن أصحاب الفجور، ويجعلونه من حبائل الشيطان ومن وسائل الإغواء، فاللواتي يلتزمن، ويهتدين، ويتسترن من النساء، أعدادهن متزايد، وليس ذلك خاصاً بشريحةٍ ولا طبقة، بل هو منتشرٌ في المستويات الراقية من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك في بلاد الكفر، فأعداد المساجد الآن في باريس وحدها تتضاعف في كل عام تقريباً، ما من عام يمر إلا ويزداد العدد بمثله تقريباً، بالإضافة إلى إقبالٍ شديد عليها، فقلما يبنى مسجد إلا ويمتلئ، وبالأخص في أيام الجمع، بل إن كثيراً من الذين فجروا وفسقوا وأوغلوا في أنواع الفجور والعصيان؛ أصبحوا اليوم من الداعين إلى الإسلام، بل وأصبح كثير منهم من الدعاة البارزين المشاهير، وتسمعون اليوم عدداً كبيراً من الخطباء والوعاظ الذي كانوا عصاة، ثم هداهم الله كالشيخ أحمد القطان في الكويت، والشيخ محمد العوضي، والشيخ عادل الكلباني والشيخ محمد بن سعيد القحطاني والشيخ سعيد بن مسفر القحطاني، والدكتور عمرو خالد المصري الذي كان من بيئةٍ موغلة في الإسراف في أمور الدنيا، ومن أرقى الطبقات الاجتماعية في مصر، وقد تربى بعيداً جداً عن دين الله والالتزام به، وقد أصبح اليوم يهتدي على يديه أعداد كبيرة جداً من الناس، وقد حضر مؤتمراً إسلامياً في باريس، وهو مؤتمر اتحاد المنظمات الإسلامية العاملة في فرنسا، وحضر هذا المؤتمر أكثر من مائة ألف من المسلمين، وكان من أبلغ المحاضرين المؤثرين فيه. وهكذا عددٌ كبير من الذين يرتادون المساجد اليوم في كل مدينة من مدن العالم، كانوا قد فجروا وبغوا وطغوا ووصلوا إلى ذروة العصيان، ثم هداهم الله، فرجعوا طائعين غير كارهين، وأقبلوا على الدين من جديد، وقد حدثني أحد المهندسين الجزائريين وقد كان من هؤلاء الذين طغوا من قبل، قال: لم أكن أعرف شيئاً اسمه الصلاة، وكنت يوماً من الأيام راجعاً من العمل في وقت صلاة العصر، فرأيت أمام البيت والدي وهو شيخٌ كبي، ر ولا أسلم عليه إلا مرةً في الأسبوع، مع أننا نسكن في بيتٍ واحد!! فقلت: من أين جئت يا أبتي؟ قال: من المسجد، قلت: ما هو المسجد؟!، فأخذ بيدي فإذا مسجد قريب من باب دارنا، لكنه في زقاق ضيق ومختفي بطرف البيت، قلت: ماذا تعمل فيه؟ قال: أصلي أنا والمجموعة التي معي، فإذا هو يصلي مع تسعة كهول كبار السن، قال: فقلت له: إذا مت أنت وهؤلاء الكهول فسيهدم هذا المسجد ولن يتذكره أحد، قال: لا. بل سيصل المصلون إلى باب دارنا هنا، فقال لي المهندس: واسمه محمد حبيب الله البشير: فوالله الذي لا إله غيره، لقد خرجنا من ذلك البيت توسعةً للمسجد، فالبيت أعطوه للمسجد فصار توسعة له. واليوم شباب الجزائر خير من كهولها، وهذا دليلٌ على أن الصحوة بدأت من جديد؛ ولذلك فإن بعض طلاب العلم الدارسين هنا في موريتانيا من أبناء الجزائر يذكرون أن آباءهم كانوا أعداءهم، يمنعونهم من الصلاة، ويمنعونهم من قراءة القرآن، ويمنعونهم من الأذكار، وإذا وجدوا عندهم أي كتاب مزقوه، ويحاولون أن يكون معاشهم من الخمر وأنواع الفجور، ومع ذلك خرج من هؤلاء طلاب للعلم، مهاجرون بدينهم، يدرسونه -إلى الآن- في المحاضر. وأذكر شاباً أتانا قبل سنوات هنا في المحضرة من بلاد المغرب، وما زال موجوداً هنا في موريتانيا حسب ما أعتقد، ذكر أنه مات أبوه وترك له خمّارة! فكان يبيع فيها الخمر، ألفى أباه يكتسب بذاك الكسب، ولم تكن له هوايةٌ إلا جمع الدراهم والدنانير، وهو مشتغل بذلك، يقول: حتى أتاني شاب أنيق نظيف، فكان يجلس إليّ ويتحدث إليّ، ثم بدأ يدعوني لزيارة المسجد، فزرت معه مسجداً، ثم دعاني لقراءة الحزب من القرآن، وهو أمرٌ معهود في المغرب، فأهل المسجد جميعاً يأخذون المصاحف ويقرءون حزباً واحداً بنغمة واحدة، قال: ثم بدأت ألتزم بأوقات الصلاة إلا صلاة الفجر، ثم فوجئت أن هذا الشاب الصديق صار يأتيني في وقت الفجر ويوقظني، فأذهب معه إلى المسجد، وبعد فترة ناقشني في قضية العمل في الخمر، وقال: أليس الأولى بك أن تحول هذا المتجر إلى متجر من نوع آخر أكثر ربحاً، وأكثر زواراً ورواداً، وأطيب، قال: أول مرة أسمع أن الخمر كسب خبيث، تفاجأت فترة مما قال، ثم عرفت أنه قد صدقني، وأنه محبٌ لي، فكان هذا سبب هدايته والتزامه.

تاريخ الأمة شاهد على أن بعد الذل عزا

تاريخ الأمة شاهد على أن بعد الذل عزاً تاريخ الأمة حافلٌ بالعز بعد الذل، وليس هذا مستغرباً، تعرفون أن التتار لما دخلوا بغداد في عام (654) من الهجرة، وذبحوا الخليفة وسبعمائة ألف معه على شاطئ النهر!! وكانت المرأة من التتار تأتي عدداً من رجال المسلمين فتقول: انتظروني هنا حتى آتي بالسكين أذبحكم بها، فينتظرونها حتى تأتي بالسكين فتذبحهم واحداً بعد الآخر وهم ينظرون؛ بسبب الوهن الذي دب في النفوس، وما هي إلا فترة يسيرة حتى عادت بغداد إلى مكانتها، ورجع إليها المسلمون بكل قوة، وانهزم التتار، ولهذا يقول أحد الشعراء فيها: بغداد صاحبة الزمان صروفا شتى ولابسة الزمان ظروفا شابت وعاودها الشباب ولم تزل أماً لأفذاذ الرجال عطوفا لم تنس عهد بنين قد ثكلتهم وسرى بهم ريح الذناء عصوفا ونظير هذا كثير، فعندما استقر العُبيديون بالقاهرة، وقتلوا علماء أهل السنة، ذبحوا منهم أكثر من ثلاثمائة عالم، وأرادوا القضاء على السنة بالكلية، حتى زعم زاعمهم أنه لن تقوم للسنة قائمة بعد اليوم في مصر، ولم تمض سنوات قليلة حتى ذهب الله بهم ورجعت إلى السُنة مكانتها وقوتها، جاء صلاح الدين الأيوبي الذي كان من خدمهم فأصبح قائداً لأهل السنة، وأصبح على تلك المكانة، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ويقوم ثلث الليل دائماً، وكان محدثاً، فاجتمع حوله يوماً عدد من طلاب الحديث، فسألوه أن يحدثهم بحديث مسلسل بالابتسامة، وهو حديث مشتهر على ألسنة المحدثين، فحدثهم به ولم يبتسم، فقالوا: لو سمح سيدنا بالابتسامة حتى يتسلسل لنا الحديث، فقال: إني لأستحي من الله أن أبتسم وبيت المقدس بيد الصليبيين، ثم غزا الصليبيين حتى أخرجهم من بيت المقدس وحرره منهم، وكذلك ما حصل للأتراك المسلمين عندما غزوا مدينة هرقل وهي القسطنطينية التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتح عليكم القسطنطينية مدينة هرقل، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش جيشه)، خرج محمد الفاتح لحصارها، وهو يعلم أن ملوك المسلمين وأمراءهم من قديم الزمان كانوا يغزونها من أجل هذا الوعد، ويرجون أن يكونوا هم الموعودين بهذا الوعد: (نعم الأمير أميرها، ونعم الجيش جيشه)، فقد غزاها يزيد بن معاوية ومعه أبو أيوب الأنصاري، وغزاها عدد كبير من قادة المسلمين فلم تفتح، فغزاها هو ففتحها الله عليه، فلما فُتحت ودخل عزيزاً منصوراً كنيسة (أياصوفيا) وهي الجامع الكبير باسطنبول الآن، واجتمع المسلمون للصلاة قال: هل أحد في الجيش منذ أن بلغ لم تفته تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في الجماعة؟! قالوا: لا. قال: إنها مسألة كنت أحتسبها عند ربي، ولم يكن يطلع عليها أحد، ولكني اضطررت لأن أبينها اليوم، فما فاتتني تكبيرة الإحرام في صلاة الفجر في الجماعة منذ بلغت إلى وقتي هذا، فتقدم فصلى بالناس.

التضييق عليه وعلى أهله يفتح له آفاقا جديدة

التضييق عليه وعلى أهله يفتح له آفاقاً جديدة ومن هذه المبشرات التي تدل على أن المستقبل لهذا الدين: أن الشيوعية الحمراء التي تمسخ الشعوب وتهجرها، وتعرفون ما حصل فيها من قبل من الاستبداد والشدة، وتعرفون أن شعب الشيشان قد تعرض من قبل للتهجير والإبادة، وأُخرج من بلاده كاملاً، شعب بكامله يُهجر من بلاده، وكذلك الشعوب المجاورة فإنها خضعت تحت سلطان الشيوعية سبعين سنة، وهاهم اليوم تخرج منهم النماذج الفذة المدافعة عن الإسلام، مثل القائد جوهر دوداييف رحمه الله، والقائد شامل باسييف وغير هؤلاء من المجاهدين في سبيل الله، وأذكر قبل سقوط الشيوعية أننا كنا في زيارة هنالك، فلقينا امرأة روسية مسلمة كبيرة السن، فأخبرتنا أنها لو وجدت من يريها المصحف لأعطته كل مصوغاتها ومقتنياتها، مقابل رؤية المصحف فقط!! تقول: أتمنى أن أرى المصحف، ولا تعرف كم جزء هو، فهممت أن أعطيها مصحفاً، فنصحني أصحابي وقالوا: لا تفعل، فإنك لو فعلت لماتت من حينها فرحاً به!! وكان الوقت إذ ذاك في شدته وقسوته، وكان الشباب يدرسون أحكام الطهارة والصلاة والعبادات تحت الأرض في الأقبية، وهم الذين خرجوا اليوم يقودون المسلمين في الجمهوريات الإسلامية كلها، أولئك الذين كانوا يتعلمون الأحكام في ظل سلطان الشيوعية الذي يضرب بيدٍ من حديد، وأذكر أن شباباً من طاجكستان أتوني وهم يريدون الدراسة، فوجدت أن كل واحدٍ منهم يلبس ثياباً قد جعل فيها مخابئ للكتب، وكانوا يشترون نسخاً من الكتب الصغيرة جداً -المضغوطة- يضعونها داخل ملابسهم، بحيث لا يطلع عليها أحد بوجه من الوجوه، ويخرجونها بصعوبة من داخل ملابسهم، ثم يردونها بعد نهاية الدرس. كل هذا دليلٌ على أن هذا الدين عظيم، وأنه لن يتراجع أبداً ولن ينهزم، وأن البلايا والمحن التي تصيب هذه الأمة إنما هي معالم على طريق الحق، ونكبات أصابت من هو خير منا، وسيستمر الأمر خيراً مما كان، فلابد أن يبقى في هذه الأمة من يجاهد في سبيل الله ويعلي كلمة الله وينصر الحق، والآثار واضحة شاهدةٌ بهذا، لا ينكرها بوجه من الوجوه إلا مكابر. أخبرني رجلٌ من الفلسطينيين: أنه لقي حبراً من أحبار اليهود في فلسطين، فقال له: ماذا تعلم عن المعارك القادمة؟ فقال: ما شأنك وشأنها؟ قال: نسمع أن اليهود سيهزمون في فلسطين، وأن دولتهم ستسقط؟ قال: نعم، ذلك واقع، لكن لستم أنتم أصحاب ذلك، قال: وما يدريك؟ قال: أصحاب ذلك من يكون عددهم في صلاة الفجر في المساجد كعددهم في الجمعة! إذا وصل العدد الذي يشهد صلاة الفجر في الجماعة قدر العدد الذي يشهد صلاة الجمعة فسيحصل ذلك، وهذا الذي قاله هذا اليهودي قد بدأت اليوم ملامحه، فالرجل الذي حدثني بهذا قد توفي رحمه الله، وهو شيخٌ من شيوخ القدس اسمه بيوض التميمي من ذرية تميم الداري رضي الله عنه، وكان عضواً في المجمع الفقهي، واليوم يخبرني عددٌ من الذين يأتون من فلسطين بإقبالٍ عجيبٍ على الله سبحانه وتعالى، وبالأخص في الشباب والنساء، ويذكرون من التزام الناس ما لا يتصوره أحد في ظل القمع الصهيوني والإهانات والأذى. سئل عبد الفتاح مورو عن النهضة في تونس، وعن الصحوة الإسلامية فيها ما سببها، مع أن تونس من قبل ركز عليها الفرنسيون من أجل مسخها حضارياً بالكلية، وما لم يقوموا به قام به (بورقيبة)؟ فقال: كانت بداية الصحوة في تونس قطرةً من دم سيد قطب، قالوا: كيف ذلك؟ قال: لما قتل سيد قطب وصل خبر قتله إلى المسلمين في تونس، والشباب غارقون في أمرهم، لا يعرفون شيئاً عن واقع الأمة، ولا عن الدعوة، ولا عن الجهاد في سبيل الله، فحينئذٍ فكروا في هذا الأمر، فبدأت الصحوة في تونس بثلاثة أشخاص، كانوا يتدارسون مختصر الأخضري في المسجد، وبهؤلاء الثلاثة بدأت هذه الصحوة المنتشرة التي دخل الناس بسببها في دين الله أفواجاً، وهذا من العجائب الغريبة، ومثله ما حصل قديماً في ليبيا، عندما ظن الإيطاليون الفاشيون أنهم قضوا على الروح الجهادية في ليبيا بالكلية، فوجدوا أن المجاهدين يزداد عددهم، وفي كل فترة يزداد العدد، والحصار والقتل والتشريد مستمر، وكل ذلك يزيدهم عدداً، فقال أحدهم كلمته المشهورة: (إن المجاهدين المسلمين كشجرة الصنوبر، كلما قطع منها غصن نبت غصنان) فالعدد يزداد ولا يزيده القتل ولا التشريد ولا السجون إلا زيادةً وتقدماً. ومن كان يظن أن تركيا التي مسخها مصطفى كمال أتاتورك، وحرم فيها الأذان بالعربية، وحرم فيها الحجاب، ستعود إلى حالها اليوم؟! إن الذي يزور تركيا الآن وقد زارها من قبل عشر سنين أو قبل خمسة عشر سنة يرى العجب خلال هذه الفترة، مدرسةٌ واحدة في تركيا يحفظ فيها أعداد هائلة من الشباب القرآن حفظاً عجيباً جداً ما رأيت مثله، شاب يحفظ القرآن، يحفظ الكلمة والتي قبلها والتي قبلها حتى يكمل القرآن إلى الخلف، يحفظه إلى الوراء كما يحفظه إلى الأمام، ويحفظه بأرقام الآيات وأرقام السور، إذا قلت له: هات الآية رقم كذا من السورة الفلانية، فإنه مباشرةً ينطلق، هذه المدرسة قائمة إلى الآن، ونظيرها كثير جداً من المدارس العلمية والقرآنية، وإقبال الناس على الحجاب والالتزام شيء كثير جداً، فكل هذا يدلنا على أن المستقبل لهذا الدين، وأن كل مضايقةٍ له لا يمكن أن تؤثر فيه، ولا يمكن أن تزيده إلا إقبالاً، وتعلمون أن الصحوة في هذا البلد استفادت كثيراً مما حصل من قمع الصحوة في الجزائر، لما قُمع الناس في الجزائر تحمس الناس هنا للدين، فرجع كثير من الشباب الموريتانيين للالتزام بالدين حين سمعوا الأخبار، وهكذا كلما حصلت واقعةٌ، كما إذا حصلت مشكلة في فلسطين فأوذي المسلمون هناك، أو في العراق أو في أي مكان؛ ينتشر الإسلام في أطرافٍ أخرى، وقد مثّل له أحد الناس باليبس من الأرض، فالأرض اليابس منها قدر الربع، والبقية كلها بحار، لكن لو قُدر أن جزيرة من الجزائر خسف بها فاختفت، فلا بد أن يظهر من اليبس قدرها أيضاً، إذا اختفت قارةٌ من القارات، فستظهر قارة أخرى؛ لأن القضية مبنية على هذا التوازن، فلهذا إذا حصلت المضايقة على الإسلام في جانب، ظهر الانفتاح والزيادة في جانب آخر، وما هذا إلا نظير قول الشاعر: كأن عيني وقلبي بعدكم طرفا غُصنٍ من البانة الخضراء فينانِ يسيل جانبه ماءً إذا اشتعلت ناراً مؤججةً في الجانب الثاني أو كما قال: أبو بكر بن جريج رحمه الله: قلبٌ تقطع فاستحال نجيعا فجرى فسال مع الدموع دموعا رُدت إلى أحشائه زفراته فقبضن منه جوانحاً وضلوعا عجباً لنارٍ أظلمت في صدره فاستنبطت من جفنه ينبوعا لهبٌ يكون إذا توقد في الحشا أيضاً ويظهر في الجفون ربيعا فكلما اشتدت المضايقة في جانب من الجوانب يتسع الحال في جانبٍ آخر، وقد تعهد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ألا يسلط على هذه الأمة عدواً من سوى أنفسها، فيستأصل بيضتها، وإذا سُلط عدو على جانب من الجوانب؛ فسيحصل رخاءٌ في المقابل في جانب آخر، كلما حصلت شدة في مكان، فاعلموا أن الاتساع واقعٌ في مكان آخر، وهذا مبشر عجيب؛ والشدة لما وقعت على المؤمنين بمكة جاء الفرج بالهجرة، فالفرج لم يأت في البداية في دارهم الأصلية مكة، لكنه جاء في مكان آخر، وقد كانوا يبحثون عن مكانٍ مطمئنٍ، فهاجروا إلى الحبشة، فلم يكن المطمأن هنالك، بل كان بالأرض التي هي بين الحرتين، وقد أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أرضٌ ذات حرارٍ ونخلٍ بين جبلين، فظنها الأحساء وهجر فكانت المدينة، إن وعد الله سبحانه وتعالى حق، ولا بد أن يتحقق، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الناصرين لدينه، وأن يعزنا بالدين، وأن يعز بنا الدين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

التوبة وأثرها

التوبة وأثرها التوبة واجبة على جميع العباد؛ إذ إن العباد غير معصومين من الزلل والعصيان، ولكن الكارثة التي استشرت عند المسلمين اليوم هي الإصرار على المعاصي وترك باب التوبة دون أوبة، وهناك موانع وعوائق تحول بين العبد وتوبته إلى الله عز وجل، ينبغي على العبد معرفتها ليتجنبها ويكون على حذر منها.

التوبة إلى الله تعالى

التوبة إلى الله تعالى

أقسام التوبة

أقسام التوبة ثم إن هذه التوبة تنقسم إلى قسمين: توبة نصوح صادقة صاحبها صادق في توبته، صادق في توجهه إلى الله، قاصد بذلك الخروج من الذنب، وهذه هي التوبة المقبولة. وتوبة غير نصوح، فصاحبها عازم على الرجوع ناوٍ للتكرير، إنما يتوب بلسانه وقلبه يكذب ذلك، وهذه التوبة هي زيادة افتراء واقتراف -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن صاحبها لم يعزم على ترك المنهي عنه أصلاً، وإنما قال بلسانه قولاً لا ينويه بقلبه، وأشهد الله على ما يقول وهو كاذب، فكلامه الذي يقوله يلعنه، واستغفاره الذي يستغفر به يلعنه؛ لأنه يكذبه من باطنه وقلبه.

الحالات التي لا تقبل فيها التوبة

الحالات التي لا تقبل فيها التوبة تقبل التوبة إلا في حالين: الحال الأول: حال الغرغرة فإذا غرغر الإنسان وهو قد ودع الدنيا وختم على صفحات أعماله وأصبح الموت أقرب إليه من شراك نعله فحينئذ لا تقبل توبته؛ لأن أعماله قد ختمت، وهو يشاهد قبل الموت أحوالاً عجيبة هي التي ذكرها الله في قوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فالمرء عندما يدبر عن الدنيا ويقبل على الآخرة يرى أموراً عجيبة لم تكن تخطر على باله، ولم يكن يتصورها بوجه من الوجوه، يشاهد ملائكة ربه، فيرى ملك الموت الذي يأتيه لقبض روحه، ويرى الملائكة الآخرين الذين كأن وجوههم الشموس يجلسون مد البصر وهم مادو أيديهم: أخرجوا أنفسكم. ويشاهد كذلك الفتان الذي يدعوه للموت على غير الإسلام، فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المؤمنين أن يستعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ففتنة المحيا هي قبل الموت عند الغرغرة، وفتنة الممات هي سؤال القبر الذي يسأل فيه الإنسان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ وفي هذه الحال حال الغرغرة لم يعد للإنسان أمل الرجوع، فلذلك توبته هي من قبيل توبة فرعون عندما أدركه الغرق فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ} [يونس:90 - 91]، فلا يتقبل الله ذلك، فلهذا ترد التوبة ولا تقبل في حال الغرغرة، وأكثر الكفار يتوبون في وقت الغرغرة؛ لأنهم يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولهذا ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن النصارى جميعاً يبدو لهم عيسى قبل موتهم، فيخبرهم أنه عبد الله ورسوله وليس ابن الله، وذلك مصداق قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]، فيعرض عليهم عيسى بن مريم بصورته عند الموت فيقول: أنا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، ولست ابن الله، ولست الله. فتقوم عليهم الحجة بذلك، ويشهد عليهم عيسى يوم القيامة، لهذا قال: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي: ليؤمنن بعيسى {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت الشخص من أهل الكتاب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159] بذلك أنه قد بلغهم أنه ليس ابن الله، وليس هو الله، وإنما هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، هذا مذهب جمهور أهل التفسير. وذهب آخرون إلى أن الضمير يعود على عيسى بن مريم، فيكون معنى (إلا ليؤمنن به قبل موته) أي: قبل موت عيسى بن مريم فإن عيسى بن مريم سينزل في آخر الزمان، ولن يموت قبل ذلك، وإذا نزل آمن به كثير من أهل الكتاب وصدقوا عندما يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقاتل اليهود حتى يقتل المسيح الدجال. الحال الثاني الذي لا تقبل فيه التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها. لأن الحجة قد قامت، فهذه الدنيا كلها دار امتحان، والناس فيها مبتلون بهذه الأعمال، والامتحان إذا انكشف وعرفت نتيجته وعرف جوابه فلن يعود النجاح حينئذ وارداً، فإذا وقف الأستاذ وحل الامتحان وشرحه للناس فما فائدة أن يأتي شخص في مؤخرة الركب ويقول: أنا أحل لك الأسئلة وأعيد عليك ما قلت لنا؟! هل يعتبر هذا ناجحاً في الامتحان؟! لا يعتبر ناجحاً فيه، فكذلك بعد أن تطلع الشمس من مغربها فإن الناس قد قامت عليهم الحجة النهائية في هذه الدنيا، وقد أقبلت الآخرة مرتحلة، وأدبرت الدنيا مرتحلة كذلك. ومن هنا لا تقبل التوبة ممن كان حياً قبل مطلع الشمس من مغربها، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام:158]، فإذا طلعت الشمس من مغربها فهذا بعض آيات ربك، وإذا جاء ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ويدخل في ذلك أنواع التوبة من الذنوب كلها.

صحة التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر

صحة التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر وتصح التوبة من ذنب مع مقارفة ذنب آخر؛ لأن الإنسان له جهات متعددة، وكل هذه الجهات تقع فيها الذنوب والطاعات، فيمكن أن يكون طائعاً بجوارحه عاصياً بلسانه أو بقلبه أو بماله، فيتوب من إحدى الجهات وهو متلبس بذنب آخر، ولا يبطل ذلك توبته، بل قد تتقبل توبته في ذلك الذنب وحده ويبقى ما عدا ذلك في المشيئة، ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى في إعلان البراءة من المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، فإن تابوا من الكفر -ولا يكون ذلك إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدخول في الإسلام- وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، فجعل الإسلام توبة مما سبقه من الكفر، والتوبة بهذا المعنى تشمل كل ذنب من الذنوب، فكل ذنب سواءٌ أكان شركاً أكبر لا يغفر، أم كان ذنباً لا يترك كحقوق العباد، أم كان ذنباً في المشيئة كحقوق الله المتمحضة فالإنسان مطالب بأن يتوب منه.

مراحل التوبة

مراحل التوبة الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى افترض على عباده أجمعين أن يتوبوا إليه، فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]، وهذه التوبة هي لطف من الله وفضل، وإقالة للعثرات، يقيل الله سبحانه وتعالى عثرات عباده الذين فرطوا في جنبه، فيفتح لهم باباً من قبل المغرب اسمه باب التوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، وبهذا تتاح الفرصة لكل من أخطأ وأذنب أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فيخرج من ذنبه بتوبته إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذه التوبة ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: هي توبة الله على العبد، وهي نور رباني يقذفه الله في قلب المذنب ليرجع عن ذنبه ويعود إلى الله سبحانه وتعالى، وهي توبة الله الأولى على العبد. المرحلة الثانية: هي توبة العبد نفسه، واستغفاره ورجوعه عمَّا فرط فيه بجنب الله، وندمه على ما مضى، وعزيمته أن لا يعود إلى ذلك الذنب، وإرجاعه للحق إلى مستحقه إن كان ذلك في حقوق العباد، وهذه التوبة هي من فعل المكلف، وهي التي يثاب عليها، وهي الواجبة عليه؛ لأن الأولى هي من فعل الله لا يستطيع العبد التدخل فيها. المرحلة الثالثة: هي توبة الله الثالثة على العبد، بمعنى: قبوله لتوبته. والتوبة عمل من الأعمال، والأعمال كلها عرضة للقبول وللرد، فما شاء الله قبله من الأعمال، وما شاء رده وهو الغني الحميد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وبذلك إذا رضي الله توبة من عبده فإنه يتقبلها، ويسمى ذلك القبول توبة في عرف الشرع، ولهذا قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:117 - 118]، فهذه توبة الله على العبد ليتوب.

الإسلام الحسن هو الذي يكفر الذنوب

الإسلام الحسن هو الذي يكفر الذنوب ثم بعدها إذا تاب العبد وأحسن تاب الله عليه، وأعظم التوبة الدخول في الإسلام بعد الكفر، فإنه يجب ما قبله، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام يجب ما قبله)، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الإسلام المقصود هنا هو الإسلام الحسن لا كل إسلام، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان أزلفها)، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه. فالإسلام الذي يكفر الذنوب هو الإسلام الحسن الذي يخلص فيه المرء لله، ويحسن ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، ويفعل ذلك تقرباً إلى مولاه واستسلاماً لأحكامه، فمن يعمل العمل ابتغاء ظهور أو ابتغاء التسمية أو ابتغاء الذكر في هذه الدنيا، أو يعمله لقصد حصوله على هدف من أهدافه أو غرض من أغراضه فإن ذلك العمل لا يقبل، بل يرد على صاحبه، وليس إسلامه حسناً، بل الإسلام الحسن هو الذي يقتضي الاستسلام الكامل لأمر الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فإذا كان العبد لا يستسلم تمام الاستسلام لأمر الله فما وافق هواه من الشرع أخذ به وما خالف هواه رده أو التمس المعاذير لنفسه فهو غير حسن الإسلام، وعمله مردود عليه، ولا يقبل الله توبته حينئذ، ولا تكفر عنه سيئاته السابقة لذلك الإسلام المزيف. ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:49 - 52]، فهذه التوبة المفترضة على المؤمن إذا أحسن إسلامه تكفر ما سبق، وهي بحسب الذنب الذي يتوب الإنسان منه، فإذا كان الذنب شركاً بالله فإن التوبة منه لا تكون إلا بالإسلام، وإذا كان الذنب بترك حق من حقوق الآدميين فإن التوبة منه لا تكون إلا بإرجاع ذلك الحق لمستحقه، وإذا كان الذنب بحق من حقوق الله المحضة فإن التوبة منه بالندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله، والإسراع للخروج منه إذا كان متلبساً بالجريمة في وقتها، وكذلك النية على أن لا يعود إلى هذا الذنب، فبهذا تصح توبته.

فوائد التوبة

فوائد التوبة

تحقيق رغبات التائب في الدنيا

تحقيق رغبات التائب في الدنيا كذلك من فوائدها: أنها مقتضية لنيل ما يرغب فيه الإنسان في حياته الدنيا، فهي سبب للتوسعة في الرزق، وللبرء من الأسقام، وللحصول على الأموال والأولاد، كما قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:10 - 14].

حصول السعادة

حصول السعادة كذلك من فوائد هذه التوبة أن التائبين قد نالوا حظهم، وأخذوا بعض ما يرغبون فيه، فوفقوا بعد ذلك للتوبة فكانوا سعداء بهذا؛ لأن العبرة بالخواتيم لا بالمبادئ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، فلذلك العبرة هنا بالخواتيم، ولو لم يبق من عمر الإنسان إلا ما هو بمثابة الذراع من الثوب فإذا وفقه الله سبحانه وتعالى فيه للإحسان، كان ذلك خيراً من كل ما مضى من أيام حياته، وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حضره العدو، فقال: يا رسول الله! أسلم وأقاتل أم أقاتل ثم أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فجرد سيفه فقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً) عمل عملاً يسيراً لكنه كان ختام حياته، وأجر كثيراً بسبب ذلك، فقد أصبح في الدرجات العلى لأنه أصبح من الشهداء، وهم الذين يلون الصديقين والأنبياء، ومن حسن عمله بعد أن كان فرط فهو من السعداء بذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد اختار له أن يكون من أهل الجنة، فتأتي اللحظات الأخيرة فتكون مغيرة لما قبلها، كما قال ابن الطثرية: ألا قل لأرباب المخائض أهلموا فقد تاب مما تعلمون يزيد وإن امرأ ينجو من النار بعدما تزود من أعمالها لسعيد فيسعد الله سبحانه وتعالى من شاء في هذه اللحظات الأخيرة.

التوبة سبب للإحسان بقية عمر التائب

التوبة سبب للإحسان بقية عمر التائب كذلك من فوائد التوبة أنها مقتضية للإحسان في بقية العمر، فإن كل إنسان يعلم أنه قد فرط في جنب الله في كثير مما مضى من حياته، وهو محتاج إلى أن يتدارك هذا العمر الذي ضيع أوله، ولذلك جاء في الأثر (إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره)، فكثير منا ضيعوا ما مضى من أعمارهم، فبقية العمر جديرة أن تحفظ، يقول أحد العلماء: بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير مرغوب من الزمن يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، والإنسان محتاج إلى أن يتبع سيئاته الماضية بما يكفرها من الحسنات، وأولئك الذين تابوا توبة نصوحاً هم الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات، بمعنى أنه يوثقهم بأن يصرفوا الوقت الذي كانوا يصرفونه بالمعصية في الطاعة، فتكون تلك الحسنات بدلاً عن السيئات التي كانوا يعملونها فيما مضى من أعمارهم.

إعانة التائب على الطاعة

إعانة التائب على الطاعة كذلك من فوائد التوبة أنها تعين الإنسان على الطاعة، فكثير من الناس اليوم مقتنع بأن عليه أن يكون من العابدين الطائعين لله المبادرين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولكنه عاجز عن ذلك لا يستطيعه، والذي حال بينه وبينه هي الذنوب، فهو مكبل بذنوبه، وهذه الذنوب قيد عظيم تحول بين الإنسان وبين الطاعة، فإذا تاب الإنسان منها كسر كبلاً، وإذا كسر كبله أسرع في الخطو، وإذا أتى الله مشياً أتاه هرولة، ومن هنا فإن ما نشكوه من قسوة القلوب وتكاسل الجوارح عن الطاعات من علاجه التوبة والاستغفار. ولهذا فالحسنات تنقسم إلى قسمين: حسنات أصلية، وحسنات جزاء، والسيئات كذلك تنقسم إلى قسمين: سيئات أصلية، وسيئات جزاء. فالحسنات الأصلية هي ما يقبل العبد به على الله سبحانه وتعالى طائعاً يريد وجه الله والتقرب إليه. وحسنات الجزاء هي ما يوفقه الله له بعد ذلك من الطاعات، فيعمل العبد حسنة صغيرة جداً هي من أقل درجات شعب الإيمان، كأن يميط الأذى عن الطريق، لكنه فعل ذلك مخلصاً لله، فيوفقه الله لحجة مبرورة، أو يوفقه لجهاد في سبيل الله بالمال، أو يوفقه لشهود صلاة في المسجد قد كتب الله أن كل من شهدها في المسجد يغفر له، أو يوفقه لعمل صالح من الأعمال المستمرة التي تبقى بعد الموت كالوقف، أو الولد الصالح الذي يدعو له، أو النفقة الجارية بسبب عمل يسير جداً كان قد عمله، كإماطة الأذى عن الطريق أو نحوها، فالله سبحانه وتعالى يجزي على الحسنات جزاءً مضاعفاً أنواعاً منوعة، ومنه جزاء دنيوي وجزاء أخروي، وأعظم الجزاء الدنيوي أن يوفق الإنسان للازدياد من الخير. لذلك فالحسنات يتبع بعضها بعضاً، فمن تجرأ على أن هزم الشيطان وهزم نفسه فترك المعصية وبادر للطاعة فإن ذلك معين له للاستمرار على هذا الطريق، ومن كانت عقده منكوثة كلما عقد العزم على الاستمرار على الطاعة والهداية وجد هذا العزم منتكثاً رجع أدراجه فهو متصف بصفة من صفات المنافقين: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143].

التوبة سبب للانكسار بين يدي الله

التوبة سبب للانكسار بين يدي الله كذلك من فوائد هذه التوبة أنها مقتضية للانكسار والأدب بين يدي الله، فالمؤمن محتاج إلى حسن معاملة الله سبحانه وتعالى، أن يعامل الله معاملة صحيحة، ولا يتم ذلك إلا بالتوبة؛ لأنها مفتاح باب المعاملة، فمن لم يدخل من هذا الباب لا يمكن أن يوفق للشكر -مثلاً- ولا للصبر ولا لتحقيق الخوف والرجاء، بل لا يتم هذا إلا من طريق الباب الذي هو التوبة؛ لأنه بمثابة الطهارة للصلاة، فالصلاة أعظم ما فيها السجود بين يدي الله، والقراءة في حال القيام، لكنها ما لم يتنظف الإنسان قبلها ويتطهر لغو ومردودة على صاحبها. فكذلك هذه الأعمال إذا لم تسبقها هذه التوبة التي هي طهارتها، فالتوبة طهارة القلب، كما أن الوضوء طهارة الجوارح، إذا لم تسبقها هذه التوبة فهي مثل الصلاة الباطلة التي لم يسبقها وضوء.

اقتضاء التوبة تقصير الأمل

اقتضاء التوبة تقصير الأمل كذلك من فوائد هذه التوبة أنها مقتضية من الإنسان تقصير الأمل، والإقبال على الله سبحانه وتعالى بوجل؛ لأن التائب يريد أن يختم له بالحسنى، فيتذكر أن كل وقت بالإمكان أن يكون خاتمته، وكل ساعة تنتهي فيها آجال عدد كبير من الناس، ويأتي فيها الموت فجأة لكثير من الناس، وليس لدى كل واحد ضمان من الله أن لا يأتيه الموت في ساعته هذه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، ومن هنا فكل ساعة تمر علينا من المحتمل أن تكون خاتمة بعضنا، فمما يعين على تذكر هذا وتقصير الأمل أن يكون الإنسان من التوابين، ولهذا افتتح الله سبحانه وتعالى وصف عباده المرضيين بذكر هذه التوبة، فقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112].

اقتضاء التوبة حسن الخلق مع الناس

اقتضاء التوبة حسن الخلق مع الناس كذلك فإن من فوائد هذه التوبة أنها مقتضية من الإنسان حسن الخلق حتى مع الناس، فالتائب منكسر، والمنكسر نادم على ما مضى، ومغير لبعض سلوكه وتصرفاته، وهذا التغيير مقتضٍ لتغيير حاله؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11]، فيغير الله حاله بتوبته.

تثبيت الإيمان

تثبيت الإيمان هذه التوبة لها فوائد كثيرة جداً يحتاج إليها ابن آدم، وأعظم هذه الفوائد أنها تثبيت للإيمان؛ لأن الإنسان الذي يجاهر الله بالمعصية ثم لا يتوب بعد ذلك عرضة لأن يختم له بخاتمة السوء، ولهذا فمن أصر على الذنب إلى وقت الموت فقد عمل بعمل أهل النار، ومن عمل بعمل أهل النار فهو ميسر لها: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ومن تاب تاب الله عليه.

العوائق التي تحول بين العبد والتوبة

العوائق التي تحول بين العبد والتوبة

قتل النفس التي حرم الله بغير حق

قتل النفس التي حرم الله بغير حق كذلك مما يقتضي عدم التوبة قتل النفس التي حرم الله بغير حق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، والله تعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، والخلود يقتضي من الإنسان الموت على الكفر وسوء الخاتمة، فمعناه أن من تجاسر على قتل مؤمن دون حق فهو -نسأل الله السلامة والعافية- سيوفق للموت على خاتمة السوء ويقاد لها، ومن هنا لا يوفق للتوبة. إذاً فهذه عوائق تحول دون التوبة، وينبغي أن نعلم أن التوبة يمكن أن تتم مع التكرار، كمن وقع في ذنب استزله الشيطان إليه فبادر بالتوبة وأحسن توبته، ثم بعد فترة استزله الشيطان ثانية للوقوع في ذلك الذنب من غير أن يكون عازماً على مراجعته فتاب وأحسن، فتوبته مقبولة، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد يذنب فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي. فيقول الله: قد فعلت. ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي. فيقول الله: قد فعلت. ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب! أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي. فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، لا يضر عبدي ما فعل بعدها أبداً)، فيحل الله عليه رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده.

هجران المساجد

هجران المساجد كذلك مما يمنع من التوبة هجران المسجد، فالذي لا يشهد الجماعة في المساجد لا يوفق للتوبة من كثير من معاصيه؛ لأن عدم شهود الصلاة في المساجد مدعاة لسوء الخاتمة، كما أخرج مسلم في الصحيح عن ابن مسعود: (من سره أن يلقى الله مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى).

كون الإنسان من أعوان الباطل

كون الإنسان من أعوان الباطل كذلك مما يحول دون التوبة ويقتضي من الإنسان الإصرار والاستمرار أن يكون الإنسان من أعوان الباطل، فالذي هو من أعوان الباطل سيفتن بالاستمرار على ذلك حتى يندم حيث لا ينفع الندم، ولهذا أخرج عبد الرزاق وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد عليّ الحوض) هؤلاء يطردون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطرد غرائب الإبل.

البدعة

البدعة كذلك مما يحول دون التوبة البدعة، فالمبتدع قلما يتوب من بدعته، وإنما يتوب من بدعته من كان مغروراً بها وكان صادق التوجه من قبل. فغر بالوقوع في البدعة، أما من جاءها بقلب مستسلم فإنه سيعجب بتلك البدعة، ولا يمكن أن يراجع نفسه فيها، ولا يستطيع أن يتحمل نقداً لها ولا كلاماً فيها، ومن هنا لن يتوب منها أبداً، حتى لو كان من أهل الصلاح والالتزام؛ لأن نفسه لا تقبل مناقشة في ذلك المجال، ولو رجع هذا إلى إيمانه لوجد أن الله سبحانه وتعالى أثنى على أهل الصلاح فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]، وليس له أن يصر على الإنكار، ولا على عدم المناقشة، بل إذا كان ما معه من الحق البين الذي عليه برهان من الله فإنه لا يخاف المناقشة فيه؛ لأنه صاحب حجة وبيان، أما إذا كان داحضاً باطلاً فهو الذي يتهرب صاحبه من المناقشة فيه، ولا يجرؤ على ذلك؛ لعلمه أنه يمسك بحبائل العنكبوت، فيخاف أن يتخرق عليه.

عقوق الوالدين

عقوق الوالدين كذلك مما يحول دون التوبة ويمنعها عقوق الوالدين، فإن من عق والديه متوعدٌ بأن يموت على خاتمة السوء، حتى لو كان ساعياً للخير وعاملاً به فقد فرط في حق أكبر الناس عليه وأولاهم به، ومن هنا فإنه يحال بينه وبين التوبة في آخر عمره، نسأل الله السلامة والعافية.

المن والنميمة

المن والنميمة ومثل ذلك المنان والنمام الذي يحمل النميمة، فإنهما لا يتوبان كذلك؛ لأنهما متوعدان بالنار على وجه الخلود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث معاذ بن جبل -: لا يدخل الجنة قتات)، والقتات: هو النمام الذي يحمل النميمة. وكذلك قال: (لا يدخل الجنة عاق لوالديه ولا منان ولا نمام). فهؤلاء الذين لا يدخلون الجنة لا يوفقون للتوبة؛ لأن هذه التوبة بحد ذاتها ليست كفراً أكبر مخرجاً من الملة، ولكن معنى النصوص أنها مقتضية لسوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية.

أكل الحرام

أكل الحرام كذلك مما يحول دون التوفيق للتوبة أكل الحرام، فالذي يعيش من حرام لا يستجاب دعاؤه، ومن دعائه الاستغفار، ولذلك كُلْ ما شئت فمثله تعامل، واصحب من شئت فإنك على دينه، فالذي يعيش من حرام كيف يوفق لتوبة الله ولأن يكون من أهل الجنة وزاده كله حرام؟! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب. ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك!)؟ فكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به، ومن عاش بالحرام فإن معاشه أول ما يصل إلى جوفه منه سيكون ناراً على قلبه يحجبه عن مشاهدة أنوار التوبة، وبذلك لا يتوب ما دام الحرام في بطنه.

قرناء السوء

قرناء السوء كذلك مما يحول بين الإنسان وبين التوبة أن كثيراً من الناس يسلط الله عليه قرناء السوء فيحولون بينه وبين الخير، فيشجعونه على المعصية والاستمرار عليها، بل إذا رأوه منكسراً تائباً حاولوا تعييره ليتجلد على معصيته، نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء ستقام العداوة بينهم يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29]، وقال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. وكثير من الناس يأخذ هؤلاء القرناء جل وقته وجل اهتمامه، ولا يكاد يوفق لطاعة في حضرتهم، بل لا يوفق له من الطاعات إلا ما استرقه استراقاً من هؤلاء. واختلسه اختلاساً.

الجهل

الجهل كذلك مما يحول دون التوبة الجهل، فإن كثيراً من الناس يجهل ما أوجب الله عليه وما حرم، ولذلك إذا وقع في الذنب لم يستشعر أنه وقع في معصيته؛ لأنه لم يعرف أن هذا محرم، وإذا أهمل طاعة لم يتب من ذلك؛ لأنه لم يستشعر أنه ترك واجباً، ومما يعين على الجهل قادة الفتنة، وعلماء السوء الذين يبيحون للإنسان ما حرم الله عليه فيطيعهم بذلك اتباعاً للهوى. وعلى الإنسان حينئذ أن يراقب هواه؛ فإنه إن مال وراءه كان إلهاً: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23]، فالذي إذا قال له ناصح: هذا حرمه الله عليك، وهو طريق من طرق النار. وقال له آخر: بل هذا من الأمور الجائزة. أو: يمكن أن أجد لك فيه رخصة. أو: قال فلان وفلان بإباحته فرأى نفسه مائلة إلى المبيح لا إلى المحرم فقد اتبع هواه بغير هدى من الله.

طول الأمل

طول الأمل كذلك فإن مما يحول بين الإنسان وبين التوبة طول الأمل، فكثير من الناس يسوف ويعقد الشيطان على قافية رأسه عقدة، ولا تزال هذه العقد تزداد، ففي كل نومة يعقد الشيطان ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم. فيستيقظ الإنسان وهذه العقد موجودة، فإذا لم يحلها ونام نومة أخرى عقد الشيطان ثلاث عقد أخرى، وهكذا حتى يكون على الإنسان شبكة من عقد الشيطان، فتكبله هذه الشبكة، وتحيط به من كل جانب، وإنما تحل العقد العقدة الأولى بذكر الله، والثانية بالوضوء، والثالثة بالصلاة، فإذا حل الإنسان العقد تخلص من شراك الشيطان وحبائله، وأصبح طيب النفس مقبلاً على الطاعة، وإذا استمر زادت عقد الشيطان وأخلد إلى الأرض ودعاه هذا إلى ترك طاعة الله سبحانه وتعالى، ولا يزال الشيطان يغرَّه حتى يأتيه الموت وهو على حالة لم يكن يرضى أن يموت عليها. ولذلك فإن كثيراً من الذين عرفت أحوالهم عند الموت حصلت لهم عجائب جداً، فأذكر أن شاباً خرج مسافراً في سفر معصية، وقد أطال له الشيطان أمله، وأخبره أنه شاب في مقتبل عمره، وأنه ما زال أمامه عمر طويل يمكنه أن يحسن وأن يتوب وأن يرجع بعد هذا، فسافر ذلك السفر، وكان على موعد فيه مع ملك الموت وهو لا يشعر، فلما جاءه الموت انكسر انكساراً شديداً وحصل له رعب شديد، وقال: أين الأمان الذي كنت أتمناه؟! وأين المشاريع التي كنت أخطط لها؟! وأين كل الآمال التي كنت أعلقها؟! قد ذهبت خلال لحظات يسيرة! ومثل هذا يحصل لمن كان يؤمل آمالاً كبيرة فيفاجئه الموت دون ذلك.

تأخير التوبة

تأخير التوبة ومما يحول دون هذه التوبة أن كثيراً من الناس إذا اقترف الذنب حاول تأخير التوبة لغده لملذة ذلك الذنب، أو لتطويل أمل عارض، أو لانشغال عن التوبة بأمر من الأمور، فكثير من الناس ينشغلون، فينشغل تفكيرهم بانشغال أبدانهم وتعطل طاقاتهم بذلك الانشغال، ومن هنا لا يجدون وقتاً للرجوع، ولا للتوبة، ولا للتفكير؛ لأن التوبة لا تكون إلا بعد تفكر وإدراكٍ للمخاطر المترتبة على عدمها، وإدراك لعظمة من عصيت وخالفت، فكثير من الناس منشغلون عن التفكير في هذا أصلاً، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:105 - 106].

الجرأة على الذنب

الجرأة على الذنب كذلك من هذه الأمور التي تحول دون التوبة الجرأة على الذنب، فإن لله سبحانه وتعالى برهاناً في قلوب عباده المؤمنين، هو النور الرباني الذي يحول بين الإنسان وبين اقتراف معصية الله، فيتذكر إذا مسه طائف من الشيطان، وإذا عرضت عليه النفس الأمارة بالسوء سوء ذكر الله، وإذا عرض عليه أي ذنب من الذنوب ذكر الله ففر منه وتركه. وأحوال الناس في هذا البرهان متفاوتة، فمنهم من يقوى البرهان الرباني في نفسه فلا يقارف المعصية ولا يسمع لها صوتاً ولا يرى لها حركة ولا يشم لها رائحة، وهؤلاء محفوظون من الوقوع في المعاصي، ومنهم من يستزله الشيطان ولكنه يتذكر فيتوب ويرجع، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، ومنهم من تعجبه المعصية يسمعها من غيره، وتكون مشاركته حينئذ الإقرار والسكوت، ولكن من رضي وتابع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من يشارك فيها ولا يكون رأساً، ولكنه يكون ذنباً في المعصية، ومنهم رؤساء المعصية وقادتها، نسأل الله السلامة والعافية. وكل هؤلاء درجاتهم متباينة في هذا البرهان الرباني الذي يحول دون المعصية، فلذلك قد ينزع هذا البرهان بالكلية من قلب الإنسان وهو أمانته، فينام الرجل النومة فيسرى على الأمانة فتنزع من قلبه، فيبقى أثرها كالوكت كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ فتراه منتبراً وليس فيه شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، نومة واحدة ينامها الإنسان فيسرى على الأمانة فتنزع من قلبه. ويكثر هذا في آخر الزمان، فمن فتن آخر الزمان أن تنزع الأمانة، ولذلك قال حذيفة: (اثنتان حدثنا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أحدهما فقد رأيناه، وأما الآخر فنحن ننتظره، ولقد مضى عليّ زمان وما أبالي من بايعت منكم، لئن كان مؤمناً رده عليّ إيمانه، وإن كان ذمياً رده عليه ساعيه، وأما اليوم فقد أصبحت لا أبايع إلا فلاناً وفلاناً)، وذلك بنزع الأمانة حتى في المعاملات في أمور الدنيا، ومن هنا فعلى كل منا أن يحاسب نفسه، وأن يتذكر أوقاتاً كان فيها يجد حاجزاً يحول بينه وبين المعصية، ويتذكر أوقاتاً أخرى يخف فيها ذلك الحاجز فيتجرأ فيها، وحينئذ سيعلم أن إيمانه يخلق ويجد فيراقب ذلك، ويسعى لتقوية إيمانه وتجديده، ومحاولة الانقطاع عن كل ما يقتضي ضعفاً في الإيمان وخرقاً له؛ لأن المشكلة أن هذا الإيمان إذا انخرق اتسع الخرق على الراقع، وصعب على الإنسان إعادته كما كان، كما قال الحكيم: فهل تهاب العفو عن كل زلة فأين مقام العفو من منزل الرضا فمعدن ترجو زوال سواده كثوب جديد لم يزل قط أبيضا ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطريق بطريق بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفوق الستور داعٍ يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه. هذه الأبواب المفتحة هي الذنوب، والستور التي عليها ستر الله الذي يحول بين الإنسان وبين الوقوع فيها، فمن ولج الباب لم يستطع الخروج منه، فتزل به قدمه إلى ما وراء ذلك، نسأل الله السلامة والعافية والثبات، ومذكر الله وداعيه يذكر أهل الإيمان بهذا.

المجاهرة بالذنوب

المجاهرة بالذنوب كذلك من هذه العقبات التي تحول دون التوبة الجهر بالذنب، فالمجاهرة بالذنوب يعتبرها بعض الناس شجاعة، وبذلك يجاهر أمام الناس بذنبه ليبدي لهم شجاعته وأنه لا يخاف أحداً ولا يستطيع أحد أن يغير عليه وليس لأحد عليه يد، لكنه يجهل في هذا الوقت ربه، ولا يتذكر قدرة الله الذي السماوات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه، والقلوب كلها بين أصبعين من أصابعه، وأنفس العباد كلها بيده متى شاء أخذها، ولهذا تجرأ عليه وتجاسر. والإعلان بالذنب دعوة إليه، والدعوة إليه محادة لله تعالى، فالذي في قلبه فطرة الإيمان يشمئز ويقشعر من الذنوب، فإذا رأى ذنباً من الذنوب اشمأز منه واقشعر، لكنه سرعان ما تزول هذه القشعريرة بكثرة رؤية الإنسان للذنب وتكرره عليه؛ لأن كثرة المساس تزيل الإحساس. وقد كان الناس إذا ذكر اليهود اقشعرت الأجساد واشمأزت القلوب، وتذكروا أنهم إخوان القردة والخنازير، لكن لم يزل الأمر بالتدريج يخف حتى أصبح كثير من الناس يشتري بضاعة اليهود ويأتي بها، وحتى أصبح كثير من الناس يعامل أفرادهم الذين يأتون، حتى أصبح بعضهم يتنفس فوق هذه الأرض الطاهرة التي ما عرفت من قبل أنفاس اليهود إخوان القردة والخنازير، فتزول هذه القشعريرة والاشمئزاز الذي كان في النفوس بكثرة المساس؛ لأن كثرة المساس تزيل الإحساس. وإنك لتقشعر وتشمئز إذا رأيت امرأة تكشف عن رأسها في الشارع إذا كنت في بلد ما زال أهلها بخير، لكنه يأتي بالتدريج والتقسيط، فتنزع حجابها عن مقدمة رأسها، فإذا سكت الناس تجاوزت ذلك إلى ما وراءه حتى تنزعه بالكلية، وبذلك يتعود الناس على هذا الذنب، ويزول عنهم ما كانوا يجدونه في نفوسهم من كراهيته والاشمئزاز منه. ومثل هذا ما كان حاصلاً عند الناس من كراهية الربا والتعامل به، والحرص على طهارة الكسب، فقد أدركنا الناس قديماً يتحدثون عن فترة مضت من حياة أهل بلاد كان الناس فيها يشمئزون من الذين يبيعون اللبن وهو في الضروع؛ لأنهم يعتبرون هذا رباً، وكان الهجاء يحصل به بين الناس، لكن اليوم أصبح الربا منتشراً، وأصبح القوي الشجاع هو الذي يتجرأ على الربا، ولم يعد أمراً يهجى به ولا منقصة لدى الناس؛ لأنهم قد تعودوا عليه وتجاسروا عليه، وأصبح معاش الناس منه، نسأل الله السلامة والعافية! ومن لم ينل منه ناله من غباره، وهكذا البدع كلها، فإنها تنشأ ضعيفة ملتوية كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم لا تزال تقوى إذا سكت الناس عنها ولم تجد رادعاً ولا منكراً، وكثير من المنكرات اليوم من تعرض لإنكارها اعتبر مجنوناً أو مخالفاً؛ لأن الناس أصبحت هذه المنكرات لديهم معروفة ولم تعد منكرات بسبب ترسخها ومضي الزمان عليها. وهكذا في كل الأمور، فأي ذنب أعلن به الإنسان وجاهر فهذا مدعاة لئلا يتوب منه أبداً، نسأل الله السلامة والعافية، ومن هذا الجانب ينبغي التنبيه إلى الفتن، فهذه الفتن التي نعيش فيها لا يستشعرها كثير من الناس، فكثير من الناس يظن أن عقله محل ثقة، وأنه لا يمكن التلبيس عليه أبداً، وأنه سيتضح له الحق إذا رآه واضحاً، ويتضح له الباطل إذا رآه واضحاً، ولا يدع مكاناً للفتنة، لكن أهل الإيمان يخافون الكفر والنفاق ويخافون الفتنة، ويعلمون أنها حاصلة في الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم! إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)، لكن المفتونين اليوم إذا نبه أحدهم على شرك وقع فيه، أو على أمر مخالف لعقيدة النبي صلى الله عليه وسلم التي جاء بها قال: أنا لا أخاف على نفسي من الكفر، ولا من الشرك. ونزه نفسه عن هذا، كأن لديه أماناً من الله من الفتنة. إن هذه العقول لا يوثق بها أمام الفتن، فكم رأينا من إنسان يقدم على ما يخالف مقتضى العقل عندما يفتن؛ لأنه ينفذ فيه القدر، وإذا جاء القدر عمي السمع والبصر، والله تعالى يقول في كتابه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109 - 111]، فلهذا يفتن صاحب المعصية المجاهر بها الذي يجاهر بها في البداية شهوة أو حباً للشجاعة والذكر، أو معاكسة للناس ومخالفة لهم، ويظن أنه سيعود ويرجع، ولكن الفتنة تأتي، وسيستمر على معصيته من حيث لا يشعر.

الإصرار على الذنب

الإصرار على الذنب ثم من هذه العوائق كذلك التي تحول دون التوبة الإصرار على الذنب، وهو من أعظم العوائق وأشدها فتنة، فكثير من الناس لا يحول بينهم وبين التوبة إلا لذتهم التي تدعوهم إلى الإصرار على الذنب الذي هم فيه، وهذه اللذة يستشعرها الإنسان حال مقارفة ذنب، ثم تزول وتبقى التبعة، وهو لا يستشعر ذلك. ولهذا فإن مما يزعج الإنسان يوم القيامة أن يرى في كفة سيئاته ذنوباً كثيرة قد ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها، يريد أن يخرج من مال محرم فيحول بينه وبينه أن نفسه تدعوه لجمع المال، ولديه شهوة للمال، فلا يستطيع ذلك، ويسوف ويؤخر، ويريد أن يترك عادة من العادات السيئة التي كان مصراً عليها ولكن نفسه لا تطاوعه لذلك؛ لأن هذه العادة قد صادفت هوى لديه، فيميل وراء هذا الهوى، ويريد أن يترك الغيبة أو النميمة وقد أصبحت عادة وخلقاً لديه، فلا تطاوعه نفسه لذلك؛ لأنه أصبح يشتهيها ويتلذذ بها. فإذاً هذا الإصرار سبب للطمس على القلب والختم عليه؛ لأن الملائكة يرتفعون بالأعمال إلى الله سبحانه وتعالى فيقولون: يا رب! عبدك فلان اقترف الذنب الفلاني. ثم يعودون في وقت آخر فيقولون: يا رب! عبدك فلان ما زال مصراً على الذنب الذي اقترفه في الصباح. ثم في الصباح الآخر، وهكذا حتى تتراكم ذنوبه عند الله، وإذا تراكمت فمعناه أن العبد لا يستحي من الله، فيختم على قلبه ويمنع من الرجوع على أثره، فلا يتذكر ذنبه حتى يسقط من الهاوية، والله تعالى يمهل ولا يهمل، يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

استصغار الذنب

استصغار الذنب إن هذه التوبة التي لها هذا العدد وغيره من المزايا العظيمة التي الإنسان بحاجة إليها لا بد أن تكون دونها فتنة، ولا بد أن لا تكون أمراً سهلاً لا يشق على الناس، بل كل الأعمال التي يترتب عليها الأجر الكثير لا بد أن يكون دونها كثير من العوائق: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، فلهذا لا بد أن نتعرف على العوائق التي تحول دون التوبة وإن من العوائق الكبرى التي تحول دون التوبة، استصغار الذنب، فكثير من الناس يستصغر ذنبه، فيرى أنه لا يستحق التوبة، وأنه ليس من المفرطين، وهذا دليل على نفاق في قلبه؛ لأن ذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه، وذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا. ومن هنا فالمؤمن يستعظم ذنبه ولو كان يسيراً؛ لاستشعاره للن خالفه ومن وقع في معصيته، والمنافق يستصغر ذنبه ولو كان عظيما؛ لعدم استشعاره لهيبة الله سبحانه وتعالى.

استكبار الذنب

استكبار الذنب كذلك من هذه العوائق التي تحول دون التوبة استكبار الذنب، فكثير من الناس ما يحول بينه وبين أن يتوب إلا أنه يستعظم ذنبه، فيرى أنه قد أوجب النار، وحينئذٍ يعد نفسه من أهل النار وأنه لا تنفعه توبة، نسأل الله السلامة والعافية، وهؤلاء أيضاً قد ذهب بهم الشيطان ذات الشمال فصدهم عن التوبة والطريق المستقيم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، والله سبحانه وتعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومهما عظم الذنب فلن يكون أعظم من رحمة الله ومغفرته.

التغيير والتحسن في الطاعة مطلوب من العبد

التغيير والتحسن في الطاعة مطلوب من العبد وكذلك ينبغي أن يعلم أن التذبذب في الأعمال كلها ممقوت شرعاً، وهو مقتضٍ لعدم القدرة على الاستمرار في الطريق، ولهذا فالتطور إلى الأحسن، وتغيير ما في النفس أمر مطلوب شرعاً، والله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن هنا فالإنسان الذي يتعود على عادة معينة ولا يستطيع مخالفة تلك العادة ولا خرقها فهو مأسور بها، فينبغي أن يتهم نفسه، وأن يتهم تلك العادة لعل فيها ما يلجئه إلى التوبة وهو لا يشعر به. والإنسان الذي يستطيع تطوير نفسه وعلاج أخطائه ويعلم أنه غير معصوم، وأنه قابل للخطأ والصواب، هو الذي يوفق للتوبة. ومن هذا المنطلق على الإنسان أن يحاول في كل فترة تمضي عليه من الزمن أن يكون عامه الجديد خيراً من عامه الماضي؛ لأنه ما زال في فسحة، فيمكن أن نكون في مثل هذا الوقت من العام الماضي قد سمعنا كلاماً مثل هذا، ولكن ما الذي أحدثناه؟! وهل عامنا هذا كان خيراً من عامنا الماضي؟! لا بد أن يحاول الإنسان الذي يريد أن يكون تائباً توبة نصوحاً أن يكون لاحقه خيراً من سابقه، وأن تكون سريرته خيراً من علانيته، وأن يزداد في الإيمان والعمل والتضحية وفي البذل في سبيل الله، فإذا قارن الإنسان بين سابقه وبين لاحقه فوجد سابقه خيراً من لاحقه فهذا مؤشر بسوء الخاتمة، وعليه أن يبادر بالتوبة منه والاستغفار. فإذا كان الإنسان في عامه الماضي أنفق مبلغاً معيناً في سبيل الله، فراجع نفسه وحساباته في هذا العام فوجد إنفاقه في سبيل الله أقل من إنفاقه في العام الماضي فهذا مؤشر يقتضي منه أن يبادر بالتوبة، وأن يتدارك الوضع قبل أن يزداد سوءً. كذلك إذا كان الإنسان في عامه الماضي قد وفق لطلب العلم، وحضر عدداً كبيراً من الدروس، وحفظ بعض الأحاديث والآيات، ووجد نفسه في هذا العام قد تراجع، وكان سيره أقل من سيره في العام الماضي، فهذا مؤشر، وعليه أن يبادر إلى التوبة قبل أن يختم له بالسوء. وهكذا في كل الأمور، ومن هنا أوجه نداءً للأخوات المسلمات أن يطورن أنفسهن، وأن لا يرضين باليسير، وأن لا يكون هذا الكلام للتشهي ولا يصحبه عمل، ولهذا فينبغي أن يكون عامنا خيراً من سابقه، وأن تكون كل جلسة لنا مقتضية للإحسان فيما بعدها، وأن يكون ذلك خيراً مما سبق. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا ونياتنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعلنا أجمعين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يرزقنا توبة نصوحاً، وأن يرزقنا عملاً صالحاً، وأن يحسن خواتمنا أجمعين. اللهم! اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك. وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وأصحابه أجمعين.

نماذج من تضحيات علماء الشناقطة

نماذج من تضحيات علماء الشناقطة العلماء ورثة الأنبياء، يختارهم الله لحمل دينه وتبليغه للناس، ومن هؤلاء العلماء الذين ضحوا كثيراً وجاهدوا في نشر العلم ورفع علم الدين علماء الشناقطة، إلا أنهم لم يشتهروا بين الناس، ولم يكن لهم في الدنيا ذكر كثير، بالرغم من شدة عنائهم وتحملهم الظروف القاسية في سبيل العلم منذ القرن الخامس، بل قبله. وقد ذكر الشيخ في هذه المادة نماذج تدل على غيرها، وتنبئ عن جهود الشناقطة وتضحياتهم في حفظ العلم وإقامة الدين

العلماء صفوة الله وورثة الأنبياء

العلماء صفوة الله وورثة الأنبياء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على الناس بالرسل الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين ليدلوا الناس على الطريق الذي يرتضي منهم خالقهم سبحانه وتعالى، فما من أمة إلا وفرط فيها رسول دعاها إلى ما يرتضيه منها خالقها سبحانه وتعالى. وعندما ختم الله رسالات الرسل إلى أهل الأرض جعل العلماء ورثة الأنبياء، فجعلهم الحاملين لمشعل الحق والرافعين للوائه، يجاهدون في سبيله ويعلون كلمة الله سبحانه وتعالى بما يبذلون ويضحون، وقد يسرهم الله سبحانه وتعالى لذلك وأعانهم عليه، واختارهم اختياراً من بين خلقه، فقد قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، وقال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]. وقد اختار من خلقه أمناءه على الوحي الذين هم خلفاء الأنبياء وحملة هذا الوحي وأمناء الله عليه، وهم الموقعون عن رب العالمين، تقوم بهم الحجة لله على الناس، وقد قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: ما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم!

اختيار الله للأمناء على دينه وإعدادهم

اختيار الله للأمناء على دينه وإعدادهم إن أولئك الذين ائتمنهم الله سبحانه وتعالى على الوحي واختارهم من بين الخلق لإقامة الحجة هم أمناء الله سبحانه وتعالى، قد ارتضاهم لهذه الأمانة، فلم يكن ليجعل وحيه بدار هوان، إنما يختار لوحيه من يصلح لأن يؤتمن عليه. ويعدهم الله سبحانه وتعالى لذلك إعداداً عظيماً قبل أن يكلفهم بهذه المهمات، وقد انتبه لهذا الإعداد أحد شعراء شنقيط وهو الحسني رحمه الله في قصيدته التي يصف بها الشيخ سديه ابن المختار رحمهم الله أجمعين حيث يقول: ما للمشيب وفعل الفتية الشببه وللبيب يواصي في الصبا خببه آلت لذي شمط الخدين رجعته إن القتير ليحمي ذو النهى طربه لما تأوب لي من طول ما جمحت نفسي هموم رمت صدري بما سلبه ناجيت فكري وقد أمعنت من نظري ثم استمر بي الرأي الذي اكتسبه أن يممت شرف الدين الكمال بنا علياء تعتسف الآكام والهضبة حتى وضعت عصا سيري بباب فتىً يؤوي الطريد ويولي الراغب الرغبة من نبعة طيب الباري أرومتها بيتاً أحل ذرى المجد العلا نسبه حارت أناس بجدوى حاتم ولقد نرى سخاء كمال الدين قد غلبه أحنى على الشعث والأيتام من نصب على صغير لها قد أكبرت عطبه أشد عند تمادي أزمة فرحاً بالمعتفين من العافي بكل هبة يلقى العفاة بوجه من سماحته كالهندوان تجلو متنه الجلبه وإن ألم به ضيف فمرتحل يثني وكان حميد الظن إذ رغبه ولى يفرق مدح الشيخ في فرق شتى ويكثر مما قد رأى عجبه رأى هنالك أخلاق الكرام إلى زي الملوك وزي السادة النخبة رأى مصرعة الأنعام قد قسمت بين الصفيف وبين الجونة الرحبه رأى الضيوف على باب الكمال كما يرى العفاة على عدّ حمت قلبه من معتفٍ وأخي حوجا وملتمس فصل القضا ومريد كشف ما حجبه أو كشف مسألة والكل قد وسعت جفانه ولكل منه ما طلبه فالله بارك في نفس الكمال وفي ما الله موليه من قصوى ومقتربة إن تستبق حلبات المجد راكضة نحو المعالي تراه سابق الحلبة لا يضمر الضغن من جار أساء ولا من المصاحب يوهي صبر من صحبه وكم ذءاً بينما حيي أصلحه خرز الصناع لمسنى أجرة قربه أما الرقاع فأعناق يجود بها والسير نصح بليغ يبتغي القربة رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه فهنا انتبه إلى الاختيار الرباني للذين يأتمنهم الله على الوحي ويجعلهم أساطين الأرض يقومون بالحجة لله فيقولون كلمة الحق مدوية لا يخافون في الله لومة لائم، ويقومون لله بالقسط في عباده، فيؤدون الحق الذي عليهم بعد أن تحملوه، فأخذوه من حله ووضعوه في محله، وجاهدوا في سبيله، فلذلك قال: رآه ذو العرش علام الغيوب لذا أهلاً فساق إليه قبله سببه علماً وفهماً يصيد المشكلات به درك الطيرة من سرب المها عطبة

تفريق الله للعلماء على البلاد المختلفة

تفريق الله للعلماء على البلاد المختلفة إن أولئك الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لابد أن يتفرقوا في الأرض ضرورة؛ لأن الناس تفرقوا فيها وشغلوا، فلذلك لابد أن يكون في كل بلاد من بلاد الله من يحملون لواء الحق ويضحون في سبيله، ويبذلون كل ما يبذله الناس في أمور الدنيا في سبيل الله عز وجل وإقامة دينه. ومن هؤلاء حملة العلم الذين آثروه على كل ما سواه، وبذلوا في سبيله أوقاتهم النفيسة، فكما ضحى المجاهدون بدمائهم في سبيل الله كذلك ضحى العلماء بمدادهم في سبيل الله، وكان لهم الدور البارز في تكوين المجاهدين والباذلين بمختلف أنواع البذل، فكم من عالم كتب له أجر الآلاف من المجاهدين والمضحين، وكم من عالم كذلك كتب لدعوته البقاء فاستجاب لها الملايين بعد موته، واستمرت خالدة في هذه الأرض ببركة إخلاصه لله عز وجل وقناعته بصدق ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. إن هؤلاء الذين تفرقوا في الأرض لا يمكن أن يكون لبلد منهم ما هو أوفر من نصيب غيرهم من البلدان؛ لأن عدل الله سابق، لكن إنما تتفاوت حظوظهم باعتبار اعتراف الناس لهم بالجميل أو عدم اعتراف الناس لهم بذلك. ومن هنا فعلماء قطر شنقيط الميامين الذين خاضوا مشارق الأرض ومغاربها حاملين هذا العلم ومبلغيه إلى كل من يمكن أن يؤتمن عليه، ومربين الأجيال على ما حملوه منه ثم يكن لهم في الماضي من الحظ لدى الناس ما ينقص أجرهم، فلم يشتهروا في حياتهم بالذكر والشكر في أغلب الأحيان، وإنما عاشوا في أغلب الأحيان مغمورين لا يعرفهم إلا أهل بلادهم. واليوم في هذا الزمان الذي أصبح العالم فيه بمثابة قرية واحدة، وأصبحت الأنباء فيه تتناقل بما يسوء في أكثر الأحيان من مشارق الأرض إلى مغاربها ومن جنوبها إلى شمالها وبالعكس، كان جديراً بهؤلاء أن يذكر ما قدموه لعدة أمور: أولاً: اعترافاً بالجميل وشكراً للنعمة. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، وفي رواية (لا يشكر الله من لم يشكر الناس)، فلابد أن يشكر الناس بما معهم من الحق. وقد أمر الله بشكر ذوي النعم كالوالدين في قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك بالاعتراف بالجميل لأهله، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أمره بإنزال الناس منازلهم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، ومن المعلوم أن الصحابي الكبير إذا قال: (أمرنا) فالمقصود بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: أن هؤلاء العلماء قد اختارهم الله للائتمان على وحيه، فمن الثناء على الله ومن إعلاء كلمته ومن إعزاز دينه تشريفهم وتكريمهم، فهم أمناء الرسل وخلفاؤهم، فجدير بهم أن يذكروا وأن يبين فضلهم للأمة، وبالأخص في الأوقات التي تتعالى فيها صيحات المدعين الذين هم من الأدعياء الذين لا يبلغ أحدهم شسع نعل أحد من أولئك، ولا يمكن أن يصل إلى أقل شيء من تضحياته وبذله. وفي الوقت الذي أصبح الخلف فيه يتنكرون للسلف فأصبحوا يظنون أنهم في غنى عما كان لدى أسلافهم، بل أصبح كثير من الناس يهرع في سباق محموم إلى حضارات أعدائه وثقافاتهم متنكراً لحضارات الأسلاف الذين هم -لا شك- أعقل وأزكى وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى. كذلك فإن هؤلاء الأئمة رحمهم الله قد خلفوا مجداً عريقاً ينبغي أن يحيا في أذهان الجيل الصاعد ليعلموا أنهم ورثة لذلك الجيل، وليساهموا في إحياء ما أبقوه، وليسلكوا طريقهم، فقد كانوا مُثُلاً يحتذى بها ويقتدى بها في طريق الحق. وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن فتنته. فأولئك الأسلاف الذين شهد لهم بالاستقامة حتى ماتوا على طريق الحق جدير بهم أن تبين سيرهم للناس ليقتدوا بهم وليسلكوا طريقهم. كذلك لاشك أن البلدان الإسلامية -وبالأخص البلدان الفقيرة- تشهد في زماننا هذا كثيراً من المؤامرات الدنيئة الخسيسة من قبل أعداء الله ورسوله، فهم يشوهون تاريخها ويحاولون قطع الشعوب عن ماضيها، ويحاولون شغلهم بما لا خير فيه، فإذا راجعت المقررات الدراسية التي يقرها المعهد التربوي المحترم في موريتانيا ستجد فيها كثيراً من أدبيات الفرنسيين وغيرهم وقليلاً من تراث المسلمين، وبالأخص التراث العلمي لهذا البلد العريق. كذلك مما يحدو إلى بيان حال هؤلاء والتنويه بأمرهم أن آثارهم أيضاً في هذه الأمة مشهودة محمودة، فقد سافر عدد منهم، فكانت لهم الصولات والجولات في مشارق الأرض ومغاربها، وأبقوا الأثر المحمود الذي ينبغي أن يشتهروا عليه وأن يذكروا به. كذلك مما لا شك فيه أن هؤلاء أيضاً من حقهم علينا أن نبين بعض مآثرهم وبعض كتبهم التي تركوها لعلها تجد من يهتم بها فيبحث عنها ويفتش عنها بين مكتبات أهل البادية، لعلها تخرج فيستفيد منها الجيل الصاعد، فكم من إنسان عثر على مخطوطة نادرة ولم يكن هو من أهل العلم فاختزنها في خزانة وبقيت حبيسة طيلة عمره حتى إذا مات اكتشفت وعرفت قيمتها. ومع الأسف فإن هذا المجال سبق فيه أعداء الله عز وجل من المستشرقين من المنصرين واليهود، فهم الذين سبقوا للتنقيب عن المخطوطات ونشرها، لكن من الواضح أنهم في ذلك لا يقصدون إشهار العلم وإحياءه، وإنما يقصدون إذاعة المنكر وإشاعته بين الناس. ولهذا فإنهم يبحثون عن الكتب المنحرفة، فيفرحون كثيراً إذا وجدوا كتاباً في الخمريات، أو في أشعار الغزل المنحرف، أو في الفلسفات المترجمة الدخيلة على الإسلام، أو بعض كتب الذين اندسوا في التاريخ ولم يكن لهم ذكر في تاريخ هذه الأمة، فيحاولون نشر هذه الكتب. وإذا تجرد بعضهم فاطلع على مخطوطة نادرة من التراث المهم لهذه الأمة في مثل مكتبة (الإسكوريال) أو (دبلن) أو غيرهما من المكتبات الغربية الكبرى يحاول إخراجها محرفة، والأمثلة على هذا كثيرة، وبين يدي كتاب المصاحف لـ أبي بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله، وهذا الكتاب قد نشره أحد المستشرقين عن نسخة مخطوطة، لكنه تعمد التحريف فيه والتبديل بما لا يدع مجالاً للشك من أنه قاصد لذلك متعمد له، ونظير هذا كثير جداً. ولذلك فإن الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله عندما ألف كتابه المهم (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) فضح بعض سرائر هؤلاء المستشرقين، فناقش أحد المشاهير منهم وهو يوسف شخت عندما أراد أن يطعن في الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله فذكر أن مسلماً طعن فيه في مقدمة الصحيح، وأنه قال: كان عبد الله بن المبارك ثقة يأخذ عن كل من هب ودب. وهذا المستشرق تعمد تحريف النص، فالنص في مقدمة صحيح مسلم هو كالتالي: قال عبد الله بن المبارك: كان بقية يأخذ عن كل من هب ودب. وهذا تجريح من عبد الله لـ بقية، وبقية من الضعفاء، فغير هو الكلمة فقال: ثقة. وجعل الكلام موجهاً إلى ابن المبارك فقال: وكان ثقة يأخذ عن كل من هب ودب. بدل: وكان بقية يأخذ عن كل من هب ودب. لكن الله فضحه أولاً بالتناقض، حيث لا يعلم أن من كان ثقة لا يمكن أن يأخذ عن كل من هب ودب، ثم بعد ذلك بما بينه الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله.

جهود عبد الله بن ياسين الجزولي في تجديد الدين ونشر العلم في المغرب

جهود عبد الله بن ياسين الجزولي في تجديد الدين ونشر العلم في المغرب إن علماء بلاد المغرب العربي قد اشتهروا منذ القرن الخامس الهجري في بداياته عندما قدم إلى هذه البلاد عبد الله بن ياسين الجزولي رحمه الله داعياً إلى منهج الحق مجدداً للإسلام في هذه البلاد، فأقام أول حركة إسلامية عرفت في هذا البلد وهي حركة المرابطين، أقامها على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الوحيين الكتاب والسنة، وأخذ الناس بالعزائم وضحى التضحية الجميلة العجيبة، فإنه قد خرج مهاجراً من بلده لم يصحب أهلاً ولا مالاً، وما أخذ معه من بلاده إلا سيفه وكتابه. ولما جاء إلى موريتانيا اعترضه أمراء القبائل، ووجد مضايقة من الملأ والكبار كعادتهم في استقبال كل دعوة وافدة، فمن المعلوم أن كبار كل أهل بلد يقفون دائماً في وجه الدعوات، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام:123]، فهم الذين يقفون في وجه الدعوات ويناصبون الأنبياء العداء ويناصبون كل من دعا إلى الله العداء، وهم الملأ الذين يريدون الحفاظ على الواقع المنحرف الذي تربعوا على عرشه فلا يريدون تغييره. لكن الدعاة من سنة الله أن يستجيب لهم الضعفاء، وأن تستجيب لهم الطبقات المسحوقة، وأن يستجيب لهم الشباب، كما قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:83]. وعندما سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أضعفاء الناس اتبعوه أم أقوياؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل. فأتباع الرسل في كل زمان ومكان والمستجيبون والمبادرون لهذه الدعوة في الغالب هم المسحوقون في أمور الدنيا يعوضهم الله عنها خيراً منها. فإن الملأ يريدون الحفاظ على الواقع؛ لأن مصالحهم مرتبطة به، أما الشباب والمستضعفون فليست لهم مصالح واقعية يحافظون عليها، فلذلك يرغبون في الاستجابة للدعوة، وإذا رأوا الحق واضحاً لم يحل بينهم وبين اتباعه والاستجابة له بعض المكاسب أو الآمال الدنيوية. عندما جاء ابن ياسين إلى بلاد موريتانيا هذه ووقف في وجهه الملأ استجاب له الشباب، فاختار منهم مجموعة قليلة رأى أنها أهل الجلد والصبر، وذكر أن هؤلاء الفئة القليلة يصدق عليهم قول الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].

طريقة ابن ياسين في التربية والسلوك

طريقة ابن ياسين في التربية والسلوك وقد أسكن أولئك الشباب في جزيرة شمال نواكشوط، وهي جزيرة (تيدرا)، و (تيدرا) بالعجمية البربرية معناها (المقبرة)، وذلك أنه يدفنها الماء في بعض فصول السنة فتختفي، وفي بعض الفصول يخف دونها الماء، فأسكنهم في هذه الجزيرة وفصلهم عن المجتمع المنحرف ورباهم تربية عميقة، فكان يجلد من تأخر عن ركعة من الصلاة عشرة أسواط، ومن تأخر عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تأخر عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تأخر عن الرباعية كلها أربعين سوطاً، حتى كونهم رجالاً أهل صلابة وقوة. وهذا الجلد قد ظنه بعض الناس تطرفاً وتشدداً وتحجراً، ولكن الواقع خلاف ذلك، كما قالت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عندما كانت تضرب حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام في صغره فكان عمه يتهمها فيقول: ما ضربته إلا لبغضك إياه. فقالت: من خالني أبغضه فقد كذب وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش ويأتي بالسلب ولذلك رأى أحد حكماء هذه البلاد وأمرائها وهو الأمير العادل محمد احبيب بن أعمر بن مختار رحمهم الله أجمعين، رأى أحد أولاده يبكي والناس يسترضونه فغضب، فقال: دعوه حتى يشبع من البكاء، فمن لا يبكي لا يُنكي. إنها كلمة حكيمة قالها هذا الرجل الحكيم، فبقيت أثراً خالداً في تربيته لأولاده، فكانوا في السكينة والقوة والصبر على المكان المعروف لهم. كذلك فإن ابن ياسين رحمه الله أخذ هؤلاء جميعاً بتعلم العلم، فجعل النهار كله للعلم والليل كله للعبادة والدعاء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان أولئك الذين صحبوه مُثُلاً عالية لهذا الشعب.

إقامة ابن ياسين لدولة المرابطين

إقامة ابن ياسين لدولة المرابطين ولما رأى منهم ما يسره من الإقبال على الله سبحانه وتعالى وإحسان عبادته والمستوى العلمي الذي وصلوا إليه. قال: الآن امتثلنا أمر ربنا في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]. ثم جعلهم بينه وبين القبلة، فمد يديه إلى الله عز وجل قائلاً: يا رب! هذه عدتي أعددتها للجهاد في سبيلك. وخرج بهم يزجيهم إلى الجهاد في سبيل الله. فجاهد لإقامة دولة الإسلام وجاهد الكفار والمنافقين فلم تقف أمامه أي دولة، ولم يهزم له لواء، واستمر الفتح في البلاد الإفريقية، وكان هو لفضله وحكمته لا يحب الرئاسة ولا الشهرة ولا الذكر بين الناس، فأمر على أولئك المرابطين المجاهدين خيرهم، وهو يحيى بن عمر اللمتوني، وكان خيرهم علماً وورعاً وشجاعة وعبادة وتضحية فكان قرة عين له، ومع ذلك عندما قاتلوا في إحدى الوقائع فتقدم يحيى حتى اخترق صفوف المشركين غضب عبد الله بن ياسين، فأمر بالأمير بعد انتهاء المعركة فجلد عشرين سوطاً، فقيل: علام تجلد الأمير وقد رجع ظافراً منتصراً على أعداء الله؟! فقال: لأنه خاطر، ما ينبغي للأمير أن يدخل المخاطرة إلا عندما يكون الجيش في خطر! ومن هنا تدرك ذكاء ابن ياسين وملكته القتالية الجهادية بالإضافة إلى ملكاته العلمية العبادية.

ذكر العلماء الذين خلفوا ابن ياسين بعد مقتله

ذكر العلماء الذين خلفوا ابن ياسين بعد مقتله في ذلك الوقت ظهر رجل في جنوب المغرب ادعى النبوة، فخرج إليه ابن ياسين لجهاده فقتله وصلبه وقتل أصحابه، لكن اغتالته هو قبيلة (برقواطة) وهي قبيلة من البربر، فكانت كارثة بالنسبة للدعوة في هذا البلد فقد فقدت مربيها الأول وعالمها وقائدها ومرشدها، فاحتاج الناس إلى خلف يخلفه فأتوا بالإمام الحضرمي، وكان من كبار طلاب أبي الحجاج الضرير، وهو من أئمة المالكية المحدثين والفقهاء، فاستوفدوه إلى هذه البلاد قاضياً ومرشداً ومعلماً، فقام بالأمر بعد ابن ياسين خير قيام. ولم يتحفنا التاريخ بكثير من قصصه إلا أنه رحمه الله ترك كتاباً يدل على نبل وعلو منزلة، وهو كتاب (الإشارة في تدبير الإمارة)، وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، وهو يدل أيضاً على مكانة الرجل وذكائه ومهاراته وخبرته وتضحيته في إعلاء كلمة الله. وقد رزقه الله الشهادة في سبيله -نحسبه كذلك- في (أثوقي) قرب مدينة (أطار)، ودفن في ذلك المكان وما زال قبره فيه معروفاً إلى اليوم. وعندما قتل كانت الكارثة الثانية على المرابطين أيضاً، فبحثوا عن بديل، فأتوا بـ إبراهيم الأموي من الأندلس، وكان من العلماء الزهاد العباد، وهو من ذرية عمر بن عبد العزيز، وكان في بقايا بني أمية الذين كانوا يحكمون الأندلس، فأخرجوه من الأندلس وحاكموه إلى قاض فحكم لصالحهم، فترك كتبه وماله وجاء بأهله حتى نزل بمجلس يحيى بن عمر اللمتوني فكان قاضي المجلس، وهو الذي اشتهرت ذريته بقبيلة المجلس، أي: مجلس العلم أو مجلس القضاء. لأنه كان قاضي ذلك المجلس وعالمه. وقد عاش فيه زماناً حتى قتل يحيى وخلفه أخوه أبو بكر الذي يشتهر لدى العامة بـ أبي بكر بن عامر، وهو أبو بكر بن عمر اللمتوني، وكان أبو بكر كذلك يجمع بين العلم والقيادة والصلاح، فقد بذل كذلك جهوداً كثيرة في الجهاد في سبيل الله حتى قتل رحمه الله تعالى، وقبره معروف إلى اليوم. ثم بعد ذلك العصر اشتهر عدد من المضحين الباذلين في عصور متفاوتة، ومن أولئك الذين صحبوا يوسف بن تاشفين إلى المغرب ثم إلى الأندلس وشهدوا معه موقعة الزلاقة، وكان فيهم ثلاثون ألفاً من الملثمين، أي: من سكان هذه البلاد، وفيهم يقول الداني الأندلسي: قوم لهم شرف العلا من حمير وإذا انتموا صنهاجة فهم هم لما حووا علياء كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا وبقي أولاد المرابطين محافظين على هذا النهج، حتى إن كثيراً من كتب التاريخ تذكر أن مدينة (تنيقي) -وكانت تسكنها قبيلة تجاكانك- كانت قبل إحدى المعارك المعروفة فيها تخرج ثلاثمائة طفل في التاسعة أو العاشرة يحفظون الموطأ والمدونة.

جهود العلماء في أواسط القرن السادس حتى القرن الثامن

جهود العلماء في أواسط القرن السادس حتى القرن الثامن

دور الحجاج الثلاثة والشريف مولاي عبد المؤمن

دور الحجاج الثلاثة والشريف مولاي عبد المؤمن ذكر المختار بن حامد رحمه الله أن قبيلة المجلس كان فيهم إذ ذاك في أيام مرابط المجلس المشهور عدد كبير من الفتيات اللواتي يحفظن المدونة. وهكذا حافظ أحفاد المرابطين على هذا العلم زماناً طويلاً، فلما كان في أواسط القرن السادس الهجري جاء الحجاج الثلاثة المشهورون فنزلوا مدينة (شنقيط) وبنوها، فكان أحد هؤلاء الثلاثة كفيلاً بالهندسة المعمارية، وكان الآخر كفيلاً بالتجارة، وكان الثالث كفيلاً بالعلم والإمامة والقضاء، واشتهرت ذريتهم بذوي الحاج، أي: بذرية هؤلاء الحُجاج الثلاثة، وكان لهم أثر بالغ في تجديد العلم بعد دولة المرابطين، وقد نشروه فاشتهرت مدينة شنقيط من ذلك العهد بالعلم، فكان الناس يفدون إليها من مشارق الأرض ومغاربها ليتعلموا فيها، واشتهر من الذين يفدون إليها كثير من الأفارقة الذين اشتهروا بالعلم والصلاح في البلدان الأفريقية. ولم يستقر أولئك الحجاج الثلاثة في مدينة شنقيط حتى جاء الشريف مولاي عبد المؤمن فبنى مدينة (تشيد)، وجاء يحمل مكتبة ضخمة عظيمة ما زالت آثارها إلى الآن خالدة من المخطوطات التي لا يعرف أحد اليوم أسماءها ولا فنونها فيما أعلم. وهي إلى الآن ما زالت موجودة قائمة في مكتبة الشريف مولاي عبد المؤمن في (تشيد) يسرق منها النصارى وينهبون، ومع ذلك بقيت آثارها إلى وقتنا هذا.

دور قبيلة البدوكل وسيدي محمد الكنتي

دور قبيلة البدوكل وسيدي محمد الكنتي كذلك عندما قامت قبيلة (بدوكل) فأعلنوا الجهاد في سبيل الله من جديد وجددوا دعوة المرابطين وفد إليهم الشيخ سيدي محمد الكنتي من (توات) من جنوب الجزائر، وهو من ذرية عقبة بن نافع الفاتح لهذه البلاد رضي الله عنه، فجاء بعلم جم وسكن في بدوكل، ورباهم على العلم وحببه إليهم، فكان الناس يفدون إليه في طلب العلم. وخرج من ذريته الشيخ سيدي أحمد البكاي الذي اتجه إلى الحج فنزل بمدينة (ولاته) فرافعه أهلها فقالوا: يجب عليك المقام بين أظهرنا حتى تعلمنا ما معك من العلم. ورافعوه عند القاضي فحكم لهم القاضي، وكان أهل (ولاته) من ذلك العهد إلى زماننا هذا محبين للعلم يجتمع عليه سوادهم الأعظم. فلم تكن مدينة من مدن هذه البلاد يجتمع سوادها الأعظم من العامة والتجار وغيرهم في حلقات العلم مثلما كان موجوداً في (ولاته)، ولذلك استمر الحال فيهم إلى هذا الزمان، فهم يختمون صحيح البخاري في شهر شوال بعد أن يقرءوا غالبه في شهر رمضان، ويختمون كتاب الشفا للقاضي عياض كذلك في شهر ربيع الأول، ويجتمع على قراءة هذين الكتابين جماهيرهم وعوامهم إلى وقتنا هذا.

دور تحالف قبائل تشمشة في نشر العلم وإحياء الدين

دور تحالف قبائل تشمشة في نشر العلم وإحياء الدين اشتهر في القرن السابع والثامن عدد من الذين وفدوا إلى هذه البلاد من خارجها، ومنهم الخمسة المشاهير الذين كونوا تحالف قبائل (تشمشة)، وهم: يعقوب جد قبيلة (بني يعقوب) وهو من ذرية جعفر بن أبي طالب، وقد كان من العلماء العاملين، وكذلك منهم ضمغر جد قبيلة (أولاد ديمان)، ومنهم كذلك دبيال يعقوب، وهو جد قبيلة (إدات شغا)، وكذلك يدال، وهو جد قبيلة (اليداليين)، ويدمسه، وهو جد قبيلة (دقبهني)، وقد وفد هؤلاء إلى هذه البلاد فتحالفوا فيها على تجديد الدين، وانطلقوا من قول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. وأرادوا إقامة دولة الإسلام، فوجدوا إذ ذاك هذه المنطقة يسيطر عليها قبائل (أولاد رزق) فلم يجدوا لديهم تحمساً لإقامة دولة الإسلام، فلما جاء المغافرة قدم عليهم أحمد بن دامان، وكان أصغر أخوته لكنه كان سيداً مطاعاً، فأعجبه هديهم ودلهم وسمتهم وأعجب بهم غاية الإعجاب، فلما جاء من الشمال من أراد مقاتلتهم منعه أحمد بن دامان ذلك وقاتل دونهم، فجعلهم قضاة هذه البلاد وعهد إليهم بالتدريس فيها، وقد نصبوا قاضياً مشهوراً فيها.

جهود العلماء من نهاية القرن التاسع وبدايات العاشر

جهود العلماء من نهاية القرن التاسع وبدايات العاشر ثم بعد ذلك اشتهرت كذلك بعض المحاضر العلمية، وهي من أولى المحاضر التي قامت بعد القرن السابع والثامن، فقد بدأت تقريباً في نهايات القرن التاسع وبدايات العاشر محضرة (بارتيل) التي تخرج منها عدد من الأعلام المشاهير فيما بعد، وكان لهم أثر بالغ كذلك في مشارق الأرض ومغاربها. فمنهم أبو بكر البارتيلي الذي أقام بـ (ولاته)، وهو مؤلف كتاب (فتح الشكور في تراجم علماء تكرور)، وقد طبع الكتاب مراراً، ومنهم عدد من الجهابذة الذين اشتهروا في بلاد الحوضين، وكذلك في منطقة الساحل. كذلك اشتهر في الجنوب في نهايات القرن التاسع وبدايات القرن العاشر عدد من الأعلام من الأفارقة الذين حملوا هذا العلم وكان لهم الأثر البارز في نشره ونصره، ومن محضرة أولئك تخرج الساموري الذي نشر الإسلام في (السنغال) و (جامبي)، وقاتل البرتغاليين الذين هم أول المستعمرين وفوداً إلى أفريقيا. ومنهم كذلك عدد من الأعلام الذين اشتهروا بمحاولتهم لإقامة دولة الإسلام فيما بعد، ومنهم، وهو من (الفلان)، وكان في (فوتا)، وقد اشتهر بالعلم واستجابة الدعاء. ومنهم كذلك قي من التكارير الذي كان يسكن في المكان المعروف اليوم (بكي هيدي)، وكان أيضاً من العباد الزهاد وكان مستجاب الدعاء، ويقال: إن أصل كلمة (كي هيدي) (قي هيجا) بلغة التكارير ومعناها: يا رب! قي جاع، يشكو إلى الله جوعه، فأرسل الله الأرزاق في ذلك البلد، ونحن ندرك أنه في العقدين الماضيين من الزمن لم يكن أهل نواكشوط يستعملون من اللحوم إلا ما جاء من (كي هيدي)، فكان ذلك استجابة من الله سبحانه وتعالى لدعاء هذا العبد الصالح.

جهود العلماء في القرن العاشر

جهود العلماء في القرن العاشر كذلك اشتهر عدد من كبار العلماء في القرن العاشر الهجري، ومنهم أبو بكر اللمتوني الذي كتب إلى السيوطي يكاتبه في القدوم على هذه البلاد، وقد انتقل السيوطي من مصر حتى قدم (ولاته)، وتحدث عن ذلك في كتابه (الحاوي للفتاوي)، وسمى (ولاته) إذ ذاك بولاتم، ولعله اسم دريس من البربرية يطلق على هذه المدينة. ومن المعلوم أن السيوطي توفي سنة تسعمائة وإحدى عشرة من الهجرة، وإنما وصل إلى هذه البلاد في أخريات عمره، وقد رجع بعد أن ترك بها علماً جماً كما قال هو، فقد روى الناس عنه الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وكان يعقد مجالس للإملاء بإملاء الحديث من حفظه دون الرجوع إلى الكتب، وقد لامه على ذلك بعض معاصريه من العلماء فرد عليهم بقوله: لام إملائي الحديث رجال قد سعوا في الظلال سعياً حثيثاً إنما ينكر الأمالي قوم لا يكادون يفقهون حديثاً كذلك جاء بعده الشيخ سيدي أحمد المغيلي قادماً من الجزائر بعد أن أفتى فتواه المشهورة في وجوب تحطيم كنائس اليهود والنصارى التي بنوها في الجزائر وهي دار إسلام لا يحل بناء كنيسة فيها، وهذه الفتوى موافقة للإجماع، فمن المعلوم أن دار الإسلام لا يحل إحداث أي كنيسة فيها ولا معبد لأي ديانة أخرى، والذين يتذرعون فيقولون: نتركهم يقيمون الكنائس هنا في بلادنا ليتركوا المسلمين يقيمون المساجد في بلادهم تذرعوا بأمر باطل لا حجة لهم فيه شرعاً، فلا يحل إقرار الكنائس في بلاد المسلمين ولا إقامتها. وعندما أفتى الشيخ بهذه الفتوى في الجزائر وقد هاجر إليها تجار اليهود من الأندلس بعد سقوطها فإن الأسبانيين عندما غلبوا عليها أقاموا محاكم التفتيش للمسلمين واليهود، فساووا بينهم فقتلوا اليهود كما يقتلون المسلمين. فخرج اليهود هرباً ولم يجدوا من يؤويهم في بلاد أوروبا، فدخلوا بلاد المغرب فآواهم الناس، وكانوا يقدمون الجزية إلى المسلمين، لكنهم غلبوا على المال فاشتهروا بالتجارة في (تلمسان) و (وهران) وغيرهما من بلاد الجزائر، فبنوا بعض الكنائس، فلما وصلت كنائسهم إلى الصحراء في جنوب الجزائر وبنو كنيسة في (بسكرة) وكنيسة أخرى في (المنيعة) قام عليهم الشيخ سيدي أحمد المغيلي فأفتى بتحطيم كنائسهم وباشر ذلك هو بطلابه، فحطم كنائس اليهود وأخرجهم من تلك البلاد، فوجد بعض المضايقة من بعض أمراء الزمان فخرج مهاجراً بدينه إلى هذه البلاد، فجاء بعلم جم وجاء معه عدد من الطلبة من الجزائريين فاشتهروا في هذه البلاد، وقد أخذ عنه عدد كبير من العلماء المشاهير.

جهود العلماء في القرن الحادي عشر

جهود العلماء في القرن الحادي عشر

دعوة الإمام ناصر الدين

دعوة الإمام ناصر الدين ثم في القرن الحادي عشر اشتهرت دعوة الإمام ناصر الدين لإقامة دولة الإسلام، وقد اتفق عليها في بدايتها سكان هذه البلد جميعاً، فقد كانت قبائل بني حسان وقبائل الزوايا يداً واحدة متفقين على إقامة دولة الإسلام، وجاهدوا تحت لواء واحد، وقتلت أعداد هائلة منهم في الجهاد في سبيل الله وفي نشر الإسلام في أفريقيا، لكن المستعمرين أحسوا بالخطر فنقلوا هذه الحرب بعد أن كانت جهاداً في سبيل الله لتصبح حرباً داخلية بما ألبوا به بعض الناس على الخليفة الذي نصبه المسلمون في هذه البلاد جميعاً واتفقوا عليه، فاغتالوه فكان ذلك سبباً لحرب ضروس دامت خمساً وثلاثين سنة.

تضحيات ابن بو الفاضلي

تضحيات ابن بو الفاضلي كذلك في هذا القرن -وهو القرن الحادي عشر- خرج عدد من كبار العلماء من هذه البلاد فقطعوا المسافات الشاسعة على أرجلهم بحثاً عن العلم وتلمساً له بعد النكبة التي حصلت في تلك الحرب، ومن هؤلاء شيخ الشيوخ ابن بوالفاضلي الحسني الذي خرج من منطقة (العقل) من هذه البلاد على رجليه حتى وصل مصر فدرس فيها أربع سنوات، ثم ذهب إلى الحج، ثم ذهب إلى العراق والشام، ثم رجع إلى مصر واستقر فيها زماناً. ثم رجع إلى هذه البلاد حاملاً لعلم جم، وأسس مدرسة عظيمة اشتهرت فيما بعد، وهذه المدرسة هي التي بقيت أسانيدها في هذه البلاد، فعنه أخذت الأسانيد جميعاً، فقد أخذ هو عن علي الأجهوري وتلامذته مثل عبد الباقي بن يوسف الزرقاني ومثل العلامة القرشي والشبرخيتي وغيرهم. وقد قدم إلى هذه البلاد بكتب الحديث بأسانيده هو بعد أن رواها عن علي الأجهوري الذي يروي أكثر مروياته العلمية عن البرهان العلقمي عن جلال الدين السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني بثبت ابن حجر المشهور في كل الكتب.

جهود ابن إعلممو والفقيه الخطاط

جهود ابن إعلممو والفقيه الخطاط وقد اشتهرت محضرة شيخ الشيوخ الحسني وتوافد الناس إليها من شرق هذه البلاد وغربها، وكان من الوافدين إليها الذين أخذوا أسانيد الشيخ ونشروا علمه القاضي ابن اعلممو السباعي من قبيلة (أولاد السباع)، ولزم الشيخ عشرين سنة انقطع فيها عن أهله بالكلية، ولازم الشيخ وقال: لن أتركك حتى تخرج إلي المكنون من علمك. فلزمه حتى أخذ كل ما عنده، ثم خرج واستقر في منطقة (أدرار) فنشر العلم بها. وكان من طلابه الفقيه الخطاط المشهور الذي أصبح مرجعاً لهذه البلاد لشرقها وغربها جميعاً، وقد بذل الفقيه الخطاط جهوداً مضنية في طلب العلم، فقد كان فقيراً لا يملك إلا ناقة جرباء، فركبها حتى بلغته حضرة الشيخ القاضي ابن اعلممو السباعي، فلما بلغ حضرة القاضي باع ناقته فأراد أن يشتري بها كتاباً، ثم احتاج إلى الملابس فاشترى ملابس يلبسها بثمن ناقته، وجلس زماناً طويلاً في طلب العلم، وكان بعد ذلك إذا رأى من يجد في طلب العلم من طلابه يتذكر هو الحالة التي وصل بها إلى القاضي ابن اعلممو السباعي. وقد حدثني بعض الثقات بالإسناد المتصل إلى المختار بن عبد الله الحاج بن المبارك -وقد كان من طلاب الفقيه الخطاط والملازمين له- أنه كان في عام شديد الجدب ولم يكن لهم أي غذاء في المحضرة، فكان هو يخرج في الصباح الباكر بعد أن يدرس درسه لمراجعته وحفظه فيذهب إلى كهف في جبل يجلس فيه طيلة اليوم، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، فبينما هو على ذلك الحال يوماً من الأيام إذ رأى نبتة من نبات الأرض تعرف لدى أهل هذه البلاد بـ (أبيلة)، وهي نبات من الكمأة يشبه الموز النحيف الرقيق، فيقول: صنتها عن نفسي، فكنت آخذ منها كل يوم أصبعاً واحداً. فكان بعد ذلك يصف حاله والدروس التي درسها وتغذيته بهذه النبتة. وقد ذكر الفقيه الخطاط رحمه الله في معرض ثنائه على طلابه أن أولئك الذين كانوا معه في وقت الشدة يوزن أحدهم بمائة من الطلاب الآخرين، فكان يقدمهم عليهم في وقت التدريس، ومنهم حامد بن عمر الذي هو شيخ العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي، ومنهم كذلك أحمد محمود بن الفقيه الخطاط، وكان ابن والده في الجد والتشمير وحفظ المتون والعلم.

جهود ابن رزاقة وتضحياته

جهود ابن رزاقة وتضحياته ومن هؤلاء الذين خرجوا لالتماس العلم في القرن الحادي عشر العلامة سيدي عبد الله المشهور بـ ابن رازقة، وقد درس العلم في بلاده، وقد كان جده الأعلى الذي اشتهر بالقاضي من مشاهير العلماء في هذه المنطقة، فدرس هو العلم الموجود هنا ثم رحل إلى المغرب فدرس على كبار علمائه حتى شهدوا له بالتقدم عليهم، وكان إذا ناظر علماء المغاربة يقولون: أنت تغلبنا في الليل لأنك تحفظ المتون ولا نحفظها، ونغلبك في النهار لأن لدينا الكتب وليست لديك. وهذا يمثل طريقة العالم الشنقيطي، فإنه يستطيع أن يتمثل بقول الشافعي رحمه الله: علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوق إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق أو بقول ابن حزم رحمه الله: فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري

جهود العلامة مسكة بن بارك الله

جهود العلامة مسكة بن بارك الله كذلك من هؤلاء الذين خرجوا لطلب العلم في القرن الحادي عشر فاشتهروا بالتضحية والبذل فيه العلامة مسك بن بارك الله بن بارك الله فيه، وقد اشتهر بجلده وصبره، وقد كان من مشاهير الناس في الصبر والحلم، وقد كان يضرب به المثل في الحلم. بل قد حصلت له قصة غريبة، فعندما ذكر له أن قوماً توعدوه أن يضربوه وأنهم سيقدمون على ذلك -وهو يعلم أنهم لن يصلوا إليه في منعة قومه- خرج مسافراً إليهم، وكتم سفره عن قومه ولم يصحبه إلا غلام صغير، فلما وصل إلى المنطقة التي فيها أولئك القوم أرسل الغلام إليهم فقال: اذهب إلى ذلك الفريق فقل لهم: مسك بن بارك الله يريد ماءً لطهارته ووضوئه. وهو لا يقصد الماء لكنه يريد أن يعلمهم بنفسه حتى يحققوا ما أرادوا، فلما أتاه رجالهم الذين كانوا يتوعدونه بالضرب ابتسم في وجوههم فهابوه واسترضوه، فخرج مسافراً راجعاً قافلاً إلى بلاده وقال لغلامه: قد تحقق مرادنا. والغلام ما سمع إلا كلاماً من أعدائه فتعجب كيف تحقق مرادنا وما سمعنا خيراً؟! فلما وصل إلى أهله جاء أولئك القوم يريدون استرضاءه فأنكر أن يكونوا قد وصلوا إليه بشر، وهذا من رجاحة عقله ووفور حلمه. وكان مسكة رحمه الله قد لازم محمد بن ناصر الدرعي في جنوب المغرب زماناً طويلاً حتى أخذ عنه كل ما عنده من العلم، حتى كتب الإجازة المشهورة، وهي من أقدم الإجازات المعروفة في بلادنا، وما زالت إلى الآن موجودة بخط العلامة محمد بن ناصر الدرعي.

جهود العلامة محمد اليدالي وتضحياته

جهود العلامة محمد اليدالي وتضحياته وكذلك من الذين سافروا لطلب العلم في القرن الحادي عشر فبذلوا جهوداً مضنية فيه العلامة محمد اليدالي الذي خرج لبلدان شتى في طلب هذا العلم وكان فقيراً، وكانت أمه امرأة صالحة، فسألت الله سبحانه وتعالى أن يغنيه عن كسب المال؛ لأنه إذا اشتغل بالتجارة وكسب المال فسينقص ذلك جهده في طلب العلم، فاستجاب الله دعاءها فرزقه إبلاً جاءت فلزمت بيتهم وليس عليها أية علامة ولا يعرف لها متملك، فأخذها فانتفع بها وكانت رأس غناه، واشتهرت فيما بعد، وكان هذا العلامة رحمه الله بعد أن تخرج وأصبح ممن يشار إليه بالعلم مرجع أهل بلاده في التأليف والتدريس وغير ذلك. وقد ألف في تفسير كتاب الله العزيز كتاباً كبيراً حافلاً، وكذلك شرح صحيح مسلم، وله كتب كثيرة غير ذلك.

جهود العلماء في القرن الثاني عشر وتضحياتهم

جهود العلماء في القرن الثاني عشر وتضحياتهم

جهود سيدي محمد الكنتي ومحضرته

جهود سيدي محمد الكنتي ومحضرته وكذلك من الذين اشتهروا في القرن الثاني عشر الهجري العلامة الشيخ سيدي مختار الكنتي الذي توفي أبوه وهو طفل صغير فتركه يتيماً فقيراً، فقام عليه أخوه وكان من الرشداء، فرأى فيه نبلاً وذكاءً فمنعه من الاشتغال بالتجارة ونصحه بالذهاب إلى (تمبكتو) لدراسة العلم، فلزم المكتبات والعلماء حتى أصبح المشار إليه بالبنان في تلك المنطقة. ويقول عن نفسه: لم تزل أفضال الله عليّ وافرة، فمن أفضال الله عليّ التي أعدها أن توفى الله أبي فتركني يتيماً فقيراً، فمن الله عليّ بهذا العلم فكان خيراً من الدنيا وما فيها. وقد اشتهر عندما استقر ببلده، فكان الناس يفدون عليه فكان موئلاً للعلماء يجتمعون عليه، فما لم يكن لديه هو من العلم يجد من يدرسه من الوافدين إليه من مختلف البلدان. وفي محضرته درس العلامة عثمان فودي الذي أقام سلطنة (سوكوتو) في نيجيريا، وهو الذي أقام سلطنة (آل فودي) التي اشتهرت فيما بعد وأقامت الجهاد وطبقت الحدود وإلى الآن ما زالت آثارها قائمة، والشيخ عثمان فودي رحمه الله اشتهر كذلك بدعوته السلفية، وبمنهجه المعتدل، وباهتمامه بالمقاصد في أصول الفقه، واشتهر ولده كذلك محمد بيلو بعلمه فيما تختلف به الأحكام، وقد ألف في ذلك عدداً من الكتب، فذكر أن الأحكام تختلف بخمسة أمور هي: باختلاف الأشخاص، والأحوال، والمقاصد، والأزمنة، والأمكنة. وألف في ذلك عدداً كبيراً من الكتب.

جهود المختار بن الفقيه موسى اليعقوبي

جهود المختار بن الفقيه موسى اليعقوبي ومن المشتهرين كذلك بالعلم والاشتغال به والتضحية في سبيله العلامة المختار بن الفقيه موسى اليعقوبي الذي كان مثالاً في ذلك العصر للتضحية والبذل في سبيل هذا العلم وسافر الأسفار البعيدة في جمع الكتب، وكان ابنه محمد من المشاهير كذلك فيه، وقد قال لأولاده: لن تدركوا العلم حتى تفقدوا أظافركم في طلبه. فلم يدركوا معنى ذلك حتى جاء الفقيه الأمين العتروسي، فنزل عليهم فكانوا يحملونه على أتان له ويقودونها به فتطأ أرجلهم فأسقطت أظافرهم وصبروا على ذلك في طلب العلم، فكان هذا مصداقاً لما أخبرهم به والدهم من أن طلب العلم لا يمكن أن يتم إلا بعد جهد وعناء.

جهود المجيدري وقوة حفظه

جهود المجيدري وقوة حفظه ومنهم كذلك بعد هذا العلامة محمد بن الفاضل بن الفقيه موسى الذي اشتهر بـ المجيدري، وقد خرج من هذه البلاد بعد أن استوعب علمها إلى المغرب وعمره خمس عشرة سنة، واستقر بالمغرب فلم يجد كفؤاً له ولا مناظراً فيه، وكان السلطان يجلسه بين يديه ويجمع له العلماء ليستخرجوا مكنون علمه، وكان في بداية شبابه صموتاً لا يتكلم إلا إذا سئل، وكان السلطان لا يعرف من العلم ما يستطيع به استخراج ما لدى هذا الشيخ الشاب، فكان يأتي بالعلماء فيقول: مالكم مهمة إلا سؤاله في كل علم من العلوم حتى تستخرجوا الكنوز التي لديه. وقد أقام بالمغرب زماناً ثم خرج إلى المشرق حاجاً فمر بمصر، وعندما أراد الخروج من المغرب أرسل رسالته المشهورة إلى أمه وأعطاها تاجر كتب، فأعطاه سلهاماً وعبداً وتسعين درهماً وزربيةً -وهي البساط المعروف-، وكتب له ورقة صغيرة كتب فيها: سلام بزيادة لامِ ماءٍ إلى لامِه، وإحدى خبر كأن في قوله: ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين. فقرأ التاجر الورقة فلم يفهم شيئاً مما فيها، فناولها العجوز فقالت: هات الزربية والسلهام والعبد والتسعين. فقال: من أين أخذتِ هذا؟ فقالت: لامُ ماءٍ هاءٌ؛ لأنه يجمع على (أمواه) ويصغر على (مويه)، وإذا أضيفت الهاء إلى لام سلام كانت سلهاماً. وأما قوله: وإحدى خبر كأن في قوله: ترديت إلى آخر كلامه فتقول: راجعت ما أحفظ من الشعر فلم أجد بيتاً بدئ بقوله: (ترديت) وفيه كأن إلا قول غيلان: ترديت من أعلام نور كأنها زرابي وانهلت عليك الرواعد وواحدة الزرابي زربية. وأما إياك نعبد وإياك نستعين فتقول: لم أفهمها، فعرفت أنها مصحفة، فانتزعت نقاطها فقرأتها فإذا هي: أتاك بعبد وأتاك بتسعين. وقد اشتهر أنه حين وفد على مصر جمع له محمد علي باشا عشرة من كبار علمائها، فلما أرادوا مناظرته سألهم التعريف، فعرفه كل واحد بنفسه وعد لنفسه عشرة آباء، وعد هو عشرة آباء لنفسه، فلما كان من الغد واجتمعوا لديه سلم على كل واحد منهم باسمه ونسبه إلى حيث انتهى، ولم يتذكروا هم اسمه هو، لكن كان مما يعينه على ذلك صعوبة النطق باسمه، أما هو فقد حفظ أسماءهم وأعادها عليهم. فلذلك قال لهم الملك: هذا الذي حفظ أسماءكم وتذكر كل ما قلتموه وأنتم لم تتذكروا اسمه لا يمكن أن تناظروه. فاستسلموا له، فسأله عن جائزته فقال: أن تخرج عني كل الزوار والقراء في دار الكتب المصرية لمدة أسبوع كامل. فأخرج عنه القراء لمدة أسبوع كامل فحفظ ما لم يكن يحفظه من مخطوطات دار الكتب المصرية خلال أسبوع. وقد امتحنوه في ذلك فكانوا يأخذون أسفل كتاب من الرف -وكانت الرفوف إذ ذاك غير منظمة- فيمسكونه عليه فيقرؤه عليهم من حفظه.

تأثر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوة المجيدري

تأثر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوة المجيدري وعندما خرج إلى الحج بدأ بالمدينة المشرفة فلقي فيها عدداً كبيراً من طلبة العلم، ومن الذين لقيهم في المدينة محمد بن عبد الوهاب بن سليمان النجدي، وقد صحبه في المدينة، وتأثر محمد بن عبد الوهاب بدعوة المجيدري، فكان يعد محمد بن عبد الوهاب من تلامذة المجيدري، ثم رجع المجيدري إلى هذه البلاد ومر بالقيروان فدرس في الزيتونة ورجع إلى بلاده ودعا بدعوته السلفية المشهورة، وقد وجد أمامه شيخه العلامة المختار بن بونة الجكني، وكان المختار بن بونة شيخاً لكثير من أهل هذه البلاد إذ ذاك، فهو عالم هذه البلاد قبل مجيء المجيدري. وقد حصلت بينهما نفرة؛ لأن العلامة المختار رحمه الله كان يرى مذهب الأشاعرة في بعض الأمر، وكان العلامة المجيدري سلفياً، وقد تشدد في النكير على المختار في بداية مجيئه.

جهود تلاميذ المجيدري

جهود تلاميذ المجيدري وتتلمذ على المجيدري عدد كبير من العلماء المشاهير، منهم العلامة المأمون بن محمد الصوفي بن عبد الله المجاور اليعقوبي، وكان أبرز تلامذته، وحدثني الثقات عن بعض كبار العلماء أن المأمون كان يحفظ الكتب الستة كما يحفظ القرآن، ولذلك يرثيه الشيخ محمد المامي رحمه الله بقوله: ريع تقاصر دونه لبنان ويهون دون ترابه المرجان يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن فقد جعله بمثابة بذور القرآن والسنة، فلما دفن في هذا المكان كأنما بذر فيه الكتاب والسنة. يا ريع لو نبت الحديث ببلدة نبت الحديث عليك والقرآن وكذلك من تلامذة هذه المحضرة ومشاهير النابغين فيها العلامة البخاري بن الفلالي بن مسك بن بارك الله بن بارك الله فيه. ومنهم كذلك العلامة مولود بن أحمد الجواد اليعقوبي، وقد كان هؤلاء في بداية الدعوة السلفية في حياة المجيدري يجدون بعض المضايقة من بعض الناس، فكانوا يسمونهم بالبدعية، لكن المجيدري رحمه الله قال: لو كنت بدعياً لما كان الصواب عندي الأحاديث الصحاح والكتاب وتجد أن تضحية هذا الرجل وسفره الطويل في طلب العلم لم يأخذ كثيراً من وقته، فقد توفي وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وكذلك من المتأثرين بهذه المحضرة العلامة محمد بن محمد الأمين المشهور بـ محمد بن الطربة اليعقوبي، وقد تربى في هذه المحضرة فتعلم فيها، وقد اشتهر لدى الناس بعلوم العربية، لكنه كان مبرزاً أيضاً في علوم الشريعة، وكان من المشتهرين بالعناية بأصول الفقه والقواعد الفقهية في هذه البلاد، مع أن العلامة سيدي سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في العصور اللاحقة يذكر أن أصول الفقه في هذه البلاد قد قل أهله وندر الاشتغال به.

نماذج من الجد في الحفظ للحاق برتبة الأذكياء

نماذج من الجد في الحفظ للحاق برتبة الأذكياء

ابن الأعمش العلوي

ابن الأعمش العلوي كذلك من الذين اشتهروا بتضحياتهم في العلم العلامة ابن الأعمش العلوي، وقد كان رحمه الله صاحب جد وتشمير، ولم يكن صاحب ذكاء، لكن الله عوض له الذكاء بالهمة العالية، ولذلك خرج ليأخذ الملح من السباخ في منطقة الغرب ليبيعه في بلاد (مالي) -وقد كانت تجارة رائدة إذ ذاك- فجاءه رجل وهو يعمل في قطع الملح في السباخ فقال: أريد أن أقرأ. فقال: مشي. بمعنى: اقرأ، فظن الشاب أنه يعتذر له في ذلك الوقت، فمكث وقتاً ثم قال له أريد أن أقرأ فقال: مشي. فشرح له الدرس على أبلغ ما يكون وأحسنه وأجوده وهو مشتغل بعمله لم يقطعه، فبهر الطالب بذلك فقال له: بأي شيء نلت هذا العلم يا شيخ؟ قال: وهو في انشغاله ألف غبابٍ ومائة تكريرة. معناه أنه كان يقرأ الدرس ألف مرة، وكان يراجع الشرح مائة مرة.

ابن قيقكو

ابن قيقكو ولا تنكر مثل هذا، فهذا ابن قيقكو لم يكن أيضاً صاحب ذكاء لكنه كان صاحب همة عجيبة، وقد دعته أمه إلى حفظ كتاب الله ورغبته فيه فكان يكتب كلمة واحدة في اليوم، ولا يزال يكررها حتى تغرب الشمس، ثم يكتب كلمة أخرى، ومكث بهذا سنة أو أكثر، ولكنه بذلك استطاع أن يكون ملكة الحفظ لديه، فكان بعد هذا لا يسمع شيئاً إلا حفظه، بعد أن صبر سنة على ثلاثمائة وستين كلمة فقط من القرآن كان بعد هذا لا يسمع شيئاً إلا حفظه، لكنه الجد والتشمير.

المختار بن بونة

المختار بن بونة وكذلك من العناء الذي لقيه المختار بن بونة رحمه الله في فهم النحو أيضاً مثال من أمثلة التضحية في سبيل العلم. فإن المختار رحمه الله درس الآجرومية فلم يفهمها، ثم درسها فلم يفهمها، فخرج مغموماً مهموماً فجلس تحت ظل شجرة، فرأى نملة تصعد تريد قطعة شحم صغيرة على رأس قضيب فإذا توسطت في القضيب سقطت، ثم عادت من جديد تصعد فإذا توسطت في القضيب سقطت، حتى أعادت سبعاً فوصلت النملة، فقال المختار: لن تكون هذه النملة أقوى مني همة. فرجع فقرأ الكتاب سبع مرات ففتح له في النحو وكان إماماً فيه. ولكنه مع ذلك عود طلابه وأصحابه أيضاً على التضحية في سبيل العلم، وقد كانوا يشكون من عناء أسفاره، وكان رجلاً مولعاً بالسفر لا يستقر يومين متواليين في مكان إلا أراد الانتقال منه والسفر. ولذلك يقول أحد طلابه: لك الله من شيخ إذا تيممت تلاميذه مأوى لنصب المدارس يفزع نون البحر طوراً وتارة يدهده جحر الضب في رأس مادس فتارة يذهب إلى (تيرس) وتارة يقطع نهر السنغال إلى أفريقيا، وكثير من هؤلاء قد لقوا عناءً كبيراً في هذه الأسفار، فكان المختار رحمه الله دائماً في سفر والطلاب يصحبونه في سفره، ولذلك يصف نفسه وطلابه بقوله: قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة فيها نبين دين الله تبيانا والعيس هي الإبل. وكذلك فإن العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله سافر أيضاً إلى بلاد السودان، ولم يكن يحسن السباحة، فكان مع قوم يحسنونها، فدخلوا في النهر وكان عليه أن يغامر كما غامروا فخاض البحر ليصل إلى منتهاه لقوة همته، ولم يكن له أية خلفية في السباحة قبل ذلك.

جهود العلامة زياد اليكودي

جهود العلامة زياد اليكودي وكذلك من المضحين التضحيات الجسام في طلب هذا العلم ونشره العلامة زياد، وكان قد لزم العلامة محمد بن محمد سالم وأولاده زماناً طويلاً، فلم يستفد حفظاً للعلم ولا فهماً له، فدله بعض الناصحين على أن يلتمس دعوة الشيخ، وكان الشيخ مجاب الدعوات في كثير من الأحيان، فقال: لن ألتمس منه هذه الدعوة حتى يكون هو الذي يدعو لي من تلقاء نفسه. فبحث عما يرضي الشيخ من الخدمة فكان يمارسه، حتى إن الشيخ في عام مجدب جربت إبله واشتهر فيها الجرب، فوضعوا طلاء في قدر لهم لطلاء الإبل، وكانوا في (تيرس) فاشتد عليهم الجدب، فارتحلوا إلى (أقان) -وهذه مسافة طويلة جداً- فأخذا زياد القدر الذي فيه طلاء الإبل الشديد الرائحة المنتن وحمله على رأسه من (تيرس) إلى نهاية (أقان)، فكان محمد بن محمد سالم كلما راح وكلما أصبح يدعو لـ زياد بالفتح والعلم النافع، فما وصلوا (أقان) حتى أصبح أذكى الطلاب وأنبههم. ويذكر مثل هذا عن خليل بن إسحاق رحمه الله عندما دعا له المنوفي رحمه الله فاستجاب الله دعاءه، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه أن يستجيب دعوات عباده، ومن أخلص لله سبحانه وكان صادقاً في التعامل معه يستجيب دعاءه، وقد كان من هذه الأمة عدد من الذين لا ترد لهم دعوة. وقد كان محمد بن محمد سالم رحمه الله من المعروفين باستجابة الدعوة، ولهذا تحدثني امرأة أدركتها وقد عاشت مائة سنة، وهي ابنة الشيخ حبيب الله بن البيتور القناني، تحدث عن والدها حبيب الله بن البيتورة وكان من طلاب محمد بن محمد سالم المجلسي. فحدثتني أن والدها أخبرها أن محمد بن محمد سالم في آخر عمره كان يصوم أغلب الأيام، فكان يذهب بعد صلاة الفجر إلى الخلاء فلا يزال يقرأ كتاب الله ويتدبر العلم ويكتب في صحف عنده مؤلفاته، فإذا حان وقت الإفطار كان بعيداً جداً عن الحي، فيأتيه حبيب الله بن البيتور هذا يحمل له ماءً يفطر عليه، فأتاه ذات يوم وقد اشتد به العطش فأتاه بماء أفطر عليه فقال له: عمرك الله طائعاً. فلما انصرف دعاه فقال: أنا قد دعوت لك، فاستجاب الله هذه الدعوة، وعاش حبيب الله مائة سنة وابنته التي حدثتني أيضاً عاشت مائة سنة، أو أكثر. وعرف عن حبيب الله هذا أنه ما صلى قط بغير وضوء، فلم يحتج إلى التيمم قط، ولم يفطر قط في السفر ولا في الحضر، أي: في رمضان لم يحتج إلى الإفطار في سفر ولا في حضر.

نماذج أخرى من جهود العلماء وتضحياتهم في بلاد المغرب من القرن الثاني عشر وما بعده

نماذج أخرى من جهود العلماء وتضحياتهم في بلاد المغرب من القرن الثاني عشر وما بعده

جهود العلامة عمرطال

جهود العلامة عمرطال كذلك من هؤلاء المضحين في جمع هذا العلم العلامة الحاج عمر طال الذي خرج من بلاده وكان من رعاة البقر، فخرج لطلب العلم فنزل على عثمان فودي، فرأى إقبال الناس على العلم فأعجب بذلك، فجلس يطلب العلم ويدرسه حتى أصبح من أنبه طلاب العلم، ثم خرج إلى مصر فدرس منها ثم حج ورجع، فلما مر بـ عثمان فودي رأى الجهاد على قوته، فخرج هو وأراد أن يقيم الجهاد في السنغال وزانبي وجنوب موريتانيا.

تضحيات العلامة عبد الوهاب بن الرشيد

تضحيات العلامة عبد الوهاب بن الرشيد وكذلك من هؤلاء المضحين في جمع هذا العلم العلامة عبد الوهاب بن الرشيد الناصري من أولاد الناصر، وقد كان رحمه الله مثالاً للجد في طلب العلم، فقد كان في سفر مع عدد من بني عمه، وكانوا يحملون السلاح في وقت الفتن والمعارك الداخلية بين القبائل، فرأى شيخاً في بادية له صاحب علم تأتيه الأطراف المتنازعة تتنافس على محبته وخدمته، فسأل فقال: لماذا يخدم أولاد الناصر فلاناً هذا؟ هل له عليهم دالة؟ هل قدم لهم خدمة؟ فقيل: لا. إلا أنه صاحب علم وتقوى. فقال: إذاً هذا الذي نال به ما نال، فلم ينله بالسلاح ولا بالقوة. فخرج هو مما كان فيه من السلاح وذهب لطلب العلم حتى برز فيه، وقد بذل في سبيله كثيراً من العناء، ويكفي من ذلك العناء الاجتماعي، فمن كان من حملة السلاح ونشأ فيه يشق عليه الخروج منه والذهاب إلى طلب العلم في المحاضر.

تضحيات العلامة محمد العاقل الديواني

تضحيات العلامة محمد العاقل الديواني وكذلك من المضحين في طلب هذا العلم الذين بذلوا فيه الشيء الكثير العلامة محمد العاقل الديواني، وقد كان رحل في طلب العلم فخاض البلاد شرقاً وغرباً حتى جمعه وسافر على رجليه إلى (تمبكتو) ورجع واشتهر بتنوع المعلومات، حتى إن النابغة الغلاوي رحمه الله حين جاء إلى هذه المنطقة يطلب العلم -وقد كان شيخاً إذ ذاك- قال: لا أدرس على شيخ حتى امتحنه. وكان لديه امتحان واحد، وهو أنه إذا جلس بين يدي الشيخ يقول له: سأدرس. فإن قال له: (مشي). قبل منه، وإن قال له: أي كتاب تدرس تركه، فهذا هو الامتحان الذي يمتحن به الناس. فيقول: مر بعدد من الناس كلما أتى شيخاً قال له: سأدرس. فيقول له: وماذا تدرس؟ فيقول: لست صاحبي. ويتركه، حتى جاء إلى أحمد بن العاقل -وهو ابن هذا الرجل الذي ذكرنا- فقال له: أريد أن أدرس. فقال: مشي. فقال: أنت صاحبي. فلزمه فترة، وقد درس عند أحمد بن العاقل عدد من كبار العلماء منهم أخته خديجة ابنة العاقل التي هي شيخة المختار بن بونة الجكني.

العلامة ابن عبيد الديواني وتقسيمه العجيب لوقته

العلامة ابن عبيد الديواني وتقسيمه العجيب لوقته منهم كذلك العلامة ابن عبيد الديواني الذي اشتهر كذلك بالجد والتشمير في طلب العلم، وقد كان صاحب ذكاء مفرط ندر مثله في هذه البلاد، وقد كان فيما بعد يقسم وقته قسمة عجيبة، فقد حدثني جدي محمد علي بن عبد الودود عن العلامة يحظيه بن عبد الودود عن العلامة المختار بن ألما الديواني: أنه كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم يخرج فيقوم على رعاية بقر عنده حتى تحلب ويخرجها من مراحها إلى مرعاها ويخرج أولادها، ثم يجلس للتدريس حتى يقترب من وقت الزوال، ثم ينام قليلاً ثم يستيقظ فيصلي الظهر، ثم يبدأ في وقت التأليف، ثم بعد العصر يراجع بعض ما لديه من المؤلفات وبعض ما أملاه على الناس، ثم ينصرف للعناية بالمواشي والبهائم، وربما اعتنى كذلك بالبئر، فقد كان القيم على شأن الحي كله، ثم بعد صلاة المغرب يراجع للطلاب ويصححون عليه المتون، وكان عمره مشغولاً هكذا طيلة الوقت كله، فليس له وقت فراغ. وقد أخذ عنه هذا الهدي العلامة المختار بن ألما، ثم أخذ عن العلامة المختار بن ألما عدد من تلامذته هذا الهدي، ومنهم ابنه العلامة محمد سالم بن ألما فلم يكن له وقت فراغ قط ولا رئي فارغاً قط، إما أن يشتغل بعلم وإما أن يشتغل بكسب دنيوي وإما أن يشتغل بعبادة.

جهود العلامة يحظيه بن عبد الودود

جهود العلامة يحظيه بن عبد الودود كذلك من هؤلاء المضحين العلامة يحظيه بن عبد الودود رحمه الله، وقد بذل الكثير في سبيل هذا العلم، فقد كان خرج إلى آل محمد سالم للدراسة، وكان آل محمد سالم إذ ذاك يأتيهم الطلاب والغرباء فيعلمونهم ويدفعون إليهم زكاة أموالهم، فيخرج الطالب من محضرتهم غنياً عالماً، فكان يحظيه من الذين أتوا للدراسة من الفقراء، فرأوا فيه الجد والتشمير، قال: وكان في مجلس محمد وجوه الناس وأبناء الأسر الكريمة يتنافسون في السبق في التدريس، وكان ذات يوم وهم في (تجريت)، فأراد الشيخ السفر وقد سافر أهله في آخر الليل وانتقلوا من مكانهم إلى مكان ناء، فتنافس الناس في السبق في الدراسة تنافساً عظيماً، قال: فأتيت الشيخ فقلت له: إذا بدأت اليوم بالتدريس آخذ عنك طلاب النحو جميعاً، فقال: (أبين ها الله)، وهي كلمة عامية معناها: وددت ذلك. قال: فبدأ بي ولم يدرس أحداً قبلي. فكان هذا مزية إذ ذاك عظيمة، مثلما يقول الأقدمون: كان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك. فكذلك كان البدء بالتدريس في أيام محمد بن محمد سالم مزية عظيمة. فلما درسه دَرْسَهُ من الفقه انتقل إليه طلاب النحو، فجعل يدرسهم حتى أكمل الدرس في وقت الظهيرة وليس معه ماء، فخرج يشتد عدواً في أثر الذين ركبوا في الصباح الإبل، وجاءت الرياح على آثارهم فطمست الأثر، ولم يزل يشتد في عدوه حتى لقي بعد العصر إبلاً تساق لـ (بني دليم)، فظن أنها من إبل المشايخ، فخرج فيها فتعب تعباً شديداً، فلما كان من الليل أناخوا، فاضطجع في جانب هذه الإبل وقد دميت أظفاره وتفطرت رجلاه من المشي في الحجارة وليس له نعلان، ومن الجوع والعطش. فيقول عن نفسه: فنظرت فإذا أنا بتلك الحال، فقلت بالعامية قولاً معناه أن كل ما كان من المصائب في سبيل الحصول على هذا العلم لن يصرفه ولن يصده عن وجهته، وهكذا شأن كل صبور جلد إذا جاءت المصائب والنكبات تذكر ما وراءها فصمد وصبر. فاستمر في طريقه أياماً وليالي صبر فيها على الجوع والعطش والألم والسهر حتى وصل إلى الشيخ، قال: فلقيت الشيخ يشرح الدرس، فلما سمعت صوته من بعيد وهو يشرح ذهب عني كل ما كان بي من العناء. وهكذا شأن الطلاب الأوفياء، فإن أحدهم إذا سمع شرح الشيخ من بعيد زال عنه كل عناء وتعب، فهذا الحسن بن زين القناني رحمه الله كان من طلاب العلامة عبد الودود بن عبد الله الألفغي، وكان عبد الودود شديداً جداً على طلابه؛ لأنه يريد تكوين الرجال، كما كان هو يقول: أنا أريد تعليم الرجال ولا أريد تعليم الدجاج. ولذلك يقول: لقد مزقت قلبي بضعف جفونها كما مزقت عمداً كتابيا وذلك من تشدده على طلابه، وكان الحسن بن زين صاحب ذكاء وجد، فكان عبد الودود يحبه ويقدمه على غيره من الطلاب، قال الحسن رحمه الله: سافر عبد الودود في سفر له فخرجت أنا إلى شيخه بُلاّ الشقروي، فأتيته من الليل فإذا صوته من بعيد -وهو يشرح قول ابن مالك رحمه الله-: وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وحذفها حتمٌ نصب قال فسمعته يقول: وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وحذفها حتم نصب وهذا هو النطق الفصيح بالفاء، وكان الناس ينسبونه لـ (بني حسن)، وهو نطق الفاء الفصيح، قال: فسمعته يقول هذا البيت فزال عني كل ما كان معي من النصب والتعب، فتركت بقرتي لم أربط ولدها. وليس له إذ ذاك مذاق ولا غذاء إلا من لبن بقرته، فلم ينتبه لها عندما سمع صوت الشيخ وأقبل على طلب العلم وجلس بمجلس الشيخ للطلب.

جهود العلامة أحمد بن سليمان الديواني

جهود العلامة أحمد بن سليمان الديواني وكذلك من الذين بذلوا كثيراً وضحوا في سبيل جمع هذا العلم من أهل ذلك العصر العلامة الشيخ أحمد بن سليمان الديواني، وقد رحل إلى الشيخ سديه في طلب العلم، ومكث عنده زماناً حتى توفي الشيخ سديه فتركه مكانه للتدريس. حدثت أنه كان يختم على أولاده القرآن، يقرأ على كل عضو منهم ختمة يريد بذلك شغلهم بكتاب الله وتحبيبه إليهم، وكذلك كان أولاده من بعده، فهذا الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد يصف حال المحضرة الموريتانية ومنافسة الناس في طلب العلم فيها فيقول: فمن لي بأصحاب كرام أعزة يكونون أصحابي وأصحبهم دهرا يخوضون في كل العلوم بفهمهم فهذا بذا أدرى وذاك بذا أدرى فمن منشد بانت سعاد ومنشد خليلي غضا أو تذكرت والذكرى ومن منشد بان الخليط ومنشد ألا عم صباحاً أو قفا نبك من ذكرى إلى آخر القصيدة التي يقول في آخرها: ومن جائبٍ عيشاً كبيراً لقومه ومن جائب لحماً ومن جائب تمرا وهذا أيضاً من ثقافة المحضرة، فقد كان بينهم من التعاون في الغذاء ما كان بينهم من التعاون في العلم أيضاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثنى على الأشعريين أنهم كانوا إذا أرملوا جمعوا أزوادهم في ثوب فاقتسموها بإناء، قال: فهم مني وأنا منهم. وقد كان طلاب المحضرة يتحلون بذلك. ولهذا فإن الشيخ محمد بن الأمين بن الددو رحمه الله كان ذات يوم في طلاب العلامة يحظيه بن عبد الودود، فكان وقت الظهيرة وهم يبنون عريشاً لهم في أوج الحر والصيف، فقال: كسا الله يا أهل العريش عريشكم بشرب لدى وقت الظهيرة سلسل وعيش يرى وسط الإدام كأنه كبير وناس في بجاد مزمل فرآهم يحظيه يضحكون فسأل عن السبب، فأنشدوه الأبيات فأمر لهم بذلك. هذا الحال قد اشتهر في كثير من طلاب المحضرة، فقد كانوا يتعودون على الجوع والنصب ويسهرون الليالي ذوات العدد، ولذلك يصف العلامة أممو زكني طلاب العلامة يحظيه بن عبد الودود رحمهم الله أجمعين بقوله: من بكر وضاح لهم مثابرة لفني دهمان العشاء الآخرة أي أنهم من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء وهم يثابرون في الدرس لا يقطعونه إلا للفريضة، وهذا ما أخذوه عن يحظيه بنفسه، فقد كان في أيام الطلب عند محمد بن محمد سالم يقول: مكثت تلك الفترة لا أكمل التسبيح بعد الصلاة انشغالاً بالعلم، فكان يقول: (السلام عليكم ورحمة الله) من الفريضة فيقول لزميله عبد اللطيف -وكان عبد اللطيف زميله في الدرس- فيقول له: هذا درس من مختصر خليل. وكذلك فقد خرج يحظيه ذات ليلة حين أرسله الحسن بن زين للإتيان بعدة يسقي غنمه، فقال: حان وقت صلاة المغرب فجلست لأصلي المغرب عند نار قد أوقدت في شجرة، فلما صليت المغرب أعجبني ضوء النار، ففتحت كتابي -وقد كان إذ ذاك يدرس باب الإضافة من الألفية- فما زلت أقلبها وأراجعها حتى انتشر ضوء الفجر، ولم أشعر بصلاة العشاء ولا بخروج وقتها ولا بأي انشغال آخر استغراقاً في الدرس وقد وصف العلامة محمد علي بن عبد الودود رحمه الله طلاب العلامة يحظيه إذ ذاك بقوله: لي جيرة كنجوم الصحو غران شم طهارا ثياباً أينما كانوا من كل قطر تؤاخي بينهم كرماً هماتهم وغروم القوم شذان يزدان بالعلم أهل العلم كلهم والعلم من جيرة يسم ويزدان لا أستلذ مقاماً بينهم فرقاً من الفراق ولا آسى إذا بانوا وقد وصف الشيخ محمد علي أيضاً طلاب المحضرة بقوله: فهذا وقير آمن في ثغائه وقار بأمن من حزمِّ كلال وأقصاص طلاب العلوم أمامهم موقرة من هيبة وجلال وأكثر طلاب المدارس همه بيان حرام أو بيان حلال وعمارها من كل ضنأ كريمة كريم كلال من كريم خلال أغرك مصباح الظلام بل إنه كمثل كلال العارض المتلالي يظلون لا يألون حتى كأنهم وليس بهم داع مراض سلال يقيمون فرض الخمس عند ندائها نداءً للأعمى أو نداء بلال

جهود العلامة سديه

جهود العلامة سديه كذلك من الذين اشتهروا بهذه التضحية من النماذج المشهورة العلامة الشيخ سديه، فقد خرج من أهله وهو في الحادية والأربعين من عمره، وخرج لطلب علم الحديث والقرآن، فخرج على رجليه إلى (تشيد)، وأقام فيها فترة طويلة ولم يرجع إلى هذه البلاد إلا بعد أن جاوز الستين من عمره، وجاء بعلم جم، وبدأ التعليم والتدريس، وكان يقول لطلابه: ما ابيض وجه باكتساب كريمة حتى يسوده شحوب المطلب وكان كثيراً ما يتمثل بأبيات سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي إذ يقول: تصدر للتدريس كل مهوس بليد تسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس

انحسار العلم والعلماء والدعوة إلى إحيائه

انحسار العلم والعلماء والدعوة إلى إحيائه كذلك فإن حال المحضرة استمر إلى هذا الوقت حتى أدركنا الناس وهم هكذا يصنعون، وأدركت كذلك كثيراً من كبار السن الذين فنيت أعمارهم في المحاضر يطلبون العلم فيها، ومنهم الشيخ الراجل بن عبدولي رحمه الله فقد عاش فوق التسعين، وما عرفت أنه عاش إلا في محضرة، ولم يستحل مقاماً قط إلا في محضرة، فكل وقته كان في طلب العلم حتى لقي الله. وقد كان يدرس معي وأنا صغير جداً وهو فوق الثمانين من عمره، كان زميلاً لي في الدراسة، وهكذا عدد كبير من كبار السن الذين ضحوا وبذلوا في سبيل بقاء هذا العلم وانتشاره، أما اليوم فقد بدأ التراجع وبدأ الحال على ما نرى، فقد أتيت مرة من المرات مدينة (قرو) -وقد كانت معقلاً من معاقل العلم- فاجتمع عليَّ كبار السن فيها فسألتهم: أيها الشيوخ! قبل ثلاث سنوات كم كان هنا في هذه المدينة من العلماء؟ قالوا: عدد كبير. وبدؤوا يحصونهم. فقلت: لكن كم تعدون الليلة فيها من العلماء؟ فبكوا ولم يتذكروا ممن يشيرون إليه إلا شخصاً واحداً أو شخصين. هذا الحال ليس مختصاً بتلك المدينة بل هو في كل المدن، بل أعرف بعض الولايات التي كان الناس يضربون إليها آباط الإبل في طلب العلم وقد انتقل منها هذا العلم بالكلية، ولم يبق فيها من يدرس الآن. إن هذا يقتضي منا أن نعيد إلى المحضرة دورها في حياتنا، وأن نخرج من أبنائنا وأجيالنا الصاعدة قوماً يضحون مثل تلك التضحية ليعيدوا لنا هذا العلم الضائع المسلوب المنهوب، وليعيدوا إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم مكانتها، وإني لأرى وجوهاً حبست أنفسها في الحر وفي العرق وهي تطلع على هذا الكلام الذي كثيراً ما يعرف هو وأمثاله؛ أرى فيها إن شاء الله تعالى من سيهتمون بهذا الأمر وينافسون فيه ولا يدعون مكانهم لغيرهم. وأرى في الوجوه المتوقدة التي تنظر إلى هذا الكلام بعناية أقواماً سيكونون ممن يشار إليهم -إن شاء الله تعالى- بالبنان في العلم والعمل، وأرى أن من يطلعون على كلامي يعلمون أن هذا العلم كنز لا ينفد، وأنه خير من التنافس فيما يتنافس فيه الناس من حطام هذه الدنيا الفانية، وأن من عرف سيبلغ من وراءه، وأن النساء كذلك سيسعين لتربية الأولاد العلماء العاملين الذين يعيدون لهذه الأمة مجدها ويستردون لها تراثها، ولا شك أن فيهن أيضاً من تسعى لأن تكون عالمة ولأن تكون مدرسة قائمة بهذا الأمر كما كان عدد من الشيخات في هذه البلاد وغيرها. نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا قرة عين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وأن يجعلنا أجمعين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

العدالة الاجتماعية

العدالة الاجتماعية خلق الله الأرض وما فيها لمصلحة بني آدم، فهيأ لهم وسائل العيش، وجمع فيها أنواع الأرزاق، وسخر فيها لنبي آدم أربعة أمور هي أصول المنافع: المطعم، والمشرب، والمسكن، والملبس، فيجب على المسلم أن يتعامل مع المال بالاعتدال، وعدم الإسراف، وأن يستقر المال في يده لا في قلبه، فيسخره في طاعة الله ولا يكون هو مسخراً يعبد المال.

تدبير الله سبحانه للخلق

تدبير الله سبحانه للخلق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن الله عز وجل خلق هذه الأرض وما فيها لمصلحة بني آدم، فهيأ لهم وسائل العيش، وجعلها كفاتاً أحياء وأمواتاً، وجمع فيها من أنواع الأرزاق وما تحتاج إليه البشرية، ما لا يمكن أن ينفد حتى تنفد البشرية: (وإن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها). ومن أجل هذا: فإن من بدائع لطف الله سبحانه وتعالى حين نشر البشرية في هذه الأرض، وعلم بأعداد البشرية الهائلة التي تزداد على الزمن وتتضاعف، أن خلق الموت ليعين به على نقص هذه الأعداد حتى تتسع الأرض لأهلها، ولو لم يخلق الله الموت لامتلأت الأرض ببني آدم، ولأخذوا ما فيها من الخيرات، واستوعبوا ما فيها من الطاقات، ولم يستطيعوا بذلك الاشتراك في العيش في هذه الحياة الدنيا، ولكن الله خلق الموت لهذه الحكمة البالغة. ثم لو أنه أعلمهم بالموت ولم يخلق لهم الأمل لضاقت عليهم الأرض بما رحبت، حتى لو اتسعت وكثرت الأرزاق فيها؛ لأن من علم أن الموت وراءه يرصده، لا يمكن أن يطيب له عيش؛ لكنه خلق لهم الأمل، فلا يزال الإنسان يؤمل الحياة حتى وهو في السياق والنزع، فيؤمل أن يعيش؛ ولذلك يكتسب، ويقدم شيئاً للذين يعيشون على هذه الأرض من بعده.

الناس ثلاثة أنواع

الناس ثلاثة أنواع وقد جعل الله الناس ثلاثة أنواع: النوع الأول: من لا يستطيعون اكتساب أرزاقهم، فهم عاجزون إما عجزاً كاملاً وإما عجزاً ناقصاً، فليس لديهم من الطاقات ما يتحملون به اكتساب أرزاقهم وحاجياتهم. النوع الثاني: من ساوى الله تعالى بين ما آتاهم من الطاقات وبين حاجاتهم، فلديهم من الطاقات ما يستوعب حاجاتهم ولا يزيد عليها شيئاً. النوع الثالث: من آتاه الله من الطاقات أكثر من حاجاته، فهو ينتج لغيره، وجعل الله سبحانه وتعالى بتدبيره هذا الصنف محتاجاً إلى الأصناف الأخرى، لا يستطيع أن يمنّ عليها، وجعله -بأمله- يفكر التفكير الذي يعيش فيه القرون وراء القرون، فالمنتج لا ينتج لعمره فقط، ولو كان كذلك لما أنتج المبدعون الذين أتوا بإبداعات كان لها ما وراءها في تاريخ البشرية، ولو كانوا كذلك لانتخبوا حسب حاجاتهم فقط؛ ولكن لتدبير الله تعالى خلق الأمل فيهم، فصار هؤلاء يفكرون لزمن غير محدد، ومن هنا ينتجون إنتاجاً غير منقطع.

ضروريات البشر

ضروريات البشر إن الله سبحانه وتعالى ضمن لآدم في الجنة أربعة أمور، وهي أصول المنافع فقال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119]، وهذه أربعة أمور من ضروريات البشر. فأولاً قال: (إن لك أن لا تجوع فيها)، فهذا يسد ضرورة الطعام، وثانياً قال: (ولا تعرى)، وهذا يسد ضرورة اللباس، وثالثاً قال: (وإنك لا تظمأ فيها)، وهذا يسد ضرورة المشرب، ورابعاً قال: (ولا تضحى) أي: لا تبرز للشمس، فهذا يسد ضرورة السكن، وهذه الأربع هي أمهات ضروريات البشر مطلقاً. وبعد هبوط آدم إلى هذه الأرض وخروجه من الجنة هو وحواء، بعد أن بدت لهما سوآتهما، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22] أضيف إليها حاجة الإنسان إلى جنسه؛ ليكون ذلك مدعاة لاستمرار النسل، فكانت ضرورة خامسة لأهل الأرض. هذه هي الضرورات، وما وراءها ينقسم إلى قسمين: حاجيات وتحسينيات (تكميليات)، وكل ذلك يحتاج إليه البشر؛ لكن حاجتهم إلى الضروريات أعظم من حاجتهم إلى الحاجيات، وحاجتهم إلى الحاجيات أعظم من حاجتهم إلى التكميليات. ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى جعل الضروريات ميسرة مهيأة في جميع الأزمنة منذ عهد آدم إلى زماننا هذا، فالهواء -الأوكسجين- الذي يتنفسه الناس على الأرض ميسر سهل، ولو أنه كان مثل المعادن النفيسة التي تحتاج إليها البشرية، لكان محتاجاً إلى طاقة وبذل وجهد، فيموت عدد كبير من الناس ممن لا يستطيعون الوصول إلى تلك الطاقة ولا إلى ذلك الضروري، ولكن الله علم حاجة الجميع إليه فيسره لهم فوق الأرض. وكذلك الحاجة إلى الماء، جعل الله على الأرض مسطحات مائية تكفي لسقي الناس، وجعل في الصحاري طبقات من الأرض تمسك المياه التي تدخل في أجواف الأرض وتصفيها، وجعل الجبال ذات طاقة لتصفية المياه، وإخراج أملاحها، وإخراج ما فيها من المضار؛ لتكون مهيأة لشرب البشرية، وكذلك أنبت على هذه الأرض من أنواع الأشجار والثمرات والخيرات ما جعل البشرية وغيرها من الحيوانات التي تعيش على هذه الأرض مستغنية بذلك حتى قبل الاختراعات الحديثة، فهذه الضروريات لم تكن محتاجة إلى كبير تفكير ولا إلى كبير اختراع، منذ بدأت البشرية وهي تعرف كيف تبني من الحجارة بيتاً يكنها من الحر والبرد، وهي تعرف كيف تحرث الأرض وتزرع فيها، وهي تعرف كيف تتناول الماء وتستخرجه من الأرض. فهذه ضرورات يسرها الله، ولا شك أن كثيراً منكم قد يتعجب إذا علم أن الماء مصنف في جنس المعادن، وهو كغيره من المعادن النفيسة؛ لكنه ما وجد في مكان في أعماق الأرض إلا وقد اكتشفته البشرية فيما مضى، والمعادن الأخرى تحيط به من كل جانب لا ينظر إليها أحد ولا يكتشفها، فكثير من آبائنا وأسلافنا، كانوا يكتشفون المياه في أعماق الأرض، ويعرفون أماكن وجودها، وكان يحيط بهذه المياه أنواع المعادن النفيسة ولا يطلعون عليها، ولا يستطيعون الوصول إليها. وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى حين علم حاجة الناس إلى اللحوم وإلى الألبان ومشتقاتها، أنزل ثمانية أزواج من الأنعام من الجنة، فكانت أصول الأنعام في هذه الأرض، ثم أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، فكان أصل الصناعات كلها، وعلم آدم الزراعة فكان ذلك أصل الفلاحة والزراعة كلها، فكانت هذه الأمور كفيلة بضمان البقاء والعيش على سطح هذه الأرض، ولله تعالى من الكواكب الأخرى -في مجموعتنا الشمسية وفي غيرها- ما هو أضعاف الأرض، ولم يجعل عليها هذه الأرزاق، ولم يضع فيها هذه البركات.

الكلام على قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين)

الكلام على قوله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) قال الله سبحانه وتعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12]، وقال قبلها: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10]. فلاحظوا أنه ذكر أربعة أنواع من الخلق في العالم السفلي، تقابلها أربعة أنواع من الخلق في العالم العلوي؛ وذلك للتوازن بين هذين السقفين: السقف الوطائي، والسقف الغطائي، فجعل بينهما توازناً بديعاً عجيباً، فقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9]، فهذا خلق لقشرة الأرض وما فيها، ثم قال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت:10] وهذه هي الجبال، وفيها من الفوائد للبشرية، والأشياء العجيبة جداً، فهي تمنع الأرض أن تميد بكم، وهي التي يستدل بها الناس ويهتدون بها، وهي التي تخزن المياه وتصفيها، وهي التي تحتوي على المعادن النفيسة في قلوبها، وهي تمنع من العدو، ويستتر بها عن أعين الحيوانات المفترسة، فكل هذا من فوائد هذه الجبال. ثم قال بعد هذا: {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت:10]، وهذه البركة التي في الأرض هي التي أخرجت ثمراتها، وأنبتت أشجارها، وجعلت فيها المعادن النفيسة والثمار الطيبة. {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت:10]، وهذا النوع الرابع من أنواع الخلق في العالم السفلي، وهو أنه قدر فيها أقواتها، فهيأ في كل أرض من الأقوات ما يحتاج إليه سكانها، فالصحاري التي يقل سكانها تقل الثمرات فيها والزروع، والأراضي المكتظة بالسكان تكثر فيها الأنهار، وتكثر فيها الأشجار، وتكثر فيها الزروع، وهذا تدبير العزيز العليم الذي يعلم الأماكن التي تصلح لاستقرار البشرية، ويجلب إليها النفوس التي تناسب تلك الأرض، فبعض البيئات شديدة الحرارة يجلب لها أقواماً يصلحون لهذه البيئة، وبعض البيئات شديدة البرودة يجلب لها أقواماً آخرين يصلحون لتلك البيئة، وبين هذا وهذا أماكن متنوعة، يجلب لكل بيئة ما يصلح لها من أنواع البشر، ويكون ذلك مؤثراً حتى في أخلاقهم وطباعهم وألوانهم ولغاتهم. ومن أجل هذا قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22]، فربط بين اختلاف الألسنة والألوان، وبين خلق السماوات والأرض؛ مما يدل على أن اختلاف الألسنة والألوان يتأثر بالبيئات وبنمط العيش، وبطريقة السكن، فمن أجل هذا ترون تغير الألوان والألسنة في الأجيال بسبب تغير السكن والبيئة والمعاش، وقد يكون ذلك بالتغير الكامل كما يحصل في الانتقال من اللغات، فأصل اللغات لغات محصورة، قال ابن عباس: هي خمس وسبعون لغة؛ ولكنها تتنوع إلى ما لا يعلمه إلا الله، فشبه الجزيرة الهندية وحدها فيها أربعمائة وثمانون لغة يتكلم بها الهنود في منطقة محصورة في دولة واحدة! وكذلك في البلدان الأوروبية -التي هي من أضيق البلدان وأكثرها اكتظاظاً بالناس- عدد كبير من اللغات واللهجات المتباينة، ففي فرنسا وحدها: ثلاث لهجات من هذه اللغة، وفي إنجلترا أربع لهجات متباينة وهكذا، وهذا من التطور الحضاري الذي يقتضي تغير اللغات بالكلية، وعليه تجد الفرق بين العبرية والعربية واضحاً جداً، وكذلك الفرق بين الفارسية والتركية مثلاً، وتأثر بعض اللغات ببعض واضح؛ لاختلاط البيئات، كتأثر اللغة الأردية والتركية باللغة العربية، وتأثر اللغة الفارسية باللغة العربية أيضاً وهكذا. وهذه اللغات لها حركات بطيئة عجيبة تسير مع الزمن، فلو أن أية لغة من اللغات أخذ أهلها قاموساً قديماً كان قبل ألف سنة متداولاً، وأرادوا التفاهم بما فيه من المفردات فيما بينهم، لوجدوا في ذلك أمراً شاقاً عسراً جداً، ومن هنا فإن الأشعار قبل ألف سنة لا يفهما طلاب المدارس اليوم في بلادنا؛ لأن اللغة تطورت بتطور المجازات وتنوع الدلالات، وبذلك لا تفهم تلك الأشعار. وأركد اللغات اللغة العربية؛ فإن أولاد العرب إلى اليوم إذا سمع أحدهم قول امرئ القيس: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) فإنه يفهم معنى هذا الشطر بسليقته، وإن لم يفهم معنى التركيب بكامله، لكنه يفهم الكلمات، وهذا البيت قد قيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة سنة على الأقل. ولركود اللغة العربية اختارها الله سبحانه وتعالى لكتابه القرآن، الذي تقوم به الحجة على من بلغ، فلو أن القرآن نزل بلغة غير اللغة العربية لم يعد اليوم صالحاً للفهم، ولأصبح محتاجاً إلى كثير من الشروح في كل زمان؛ لكن نظراً لركود هذه اللغة ولثباتها وندرة التغير في مدلولاتها، اختيرت أن تكون لغة هذا القرآن.

الكلام على قوله سبحانه: (ثم استوى إلى السماء)

الكلام على قوله سبحانه: (ثم استوى إلى السماء) الأنواع الأربعة من أنواع الخلائق في الأرض قابلها الله سبحانه وتعالى بأربعة أنواع من أنواع الخلائق في العالم العلوي، حيث قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:11 - 12]، وهذا يقابل قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]، إذاً: هذه السماوات السبع في العالم العلوي تقابلها الأرضون السبع في العالم السفلي. {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:12]، وهذا يقابل قوله: {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت:10]، وهذا الأمر الذي في السماء محجوب عنا ونحن لا نعلمه؛ لأنه ليس مهيئاً لنا، فالسماء ليست مهيأة لأن يسكنها البشر، ومن أجل هذا لم يكتشفوا ما يقابل هذه البركة التي يكتشفونها في الأرض. ثم قال: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:12]، وهذه تقابل الجبال في الأرض في قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت:10]، فالنجوم في السماء بمثابة الجبال في الأرض. ثم قال: {وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12]، وهذا الحفظ هو المقابل لقوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10]، فهذا الحفظ الذي في السماء، يقابل الأقوات التي في الأرض، ومن هنا يستغني الملائكة بالحفظ عن الأرزاق، فهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وبحفظ الله لهم يستغنون عن الأرزاق، فليسوا مثل أهل الأرض وسكانها يحتاجون إلى هذه الأرزاق. ومن تدبير الله سبحانه وتعالى أن هذه الخيرات المحجوبة في الأرض، وبالأخص ما يتعلق بالحاجيات والتكميليات لا يمكن أن يكتشف في عصر واحد، ولا أن تستخرج فيه، إذ لو استخرجت فيه لنفذت احتياجات الناس، والبشرية لا تزال تتمدد وتكثر احتياجاتها، فجعل الله تعالى اكتشاف هذه الخيرات بالتدريج، فنحن في هذه البلاد اكتشفنا معدن الحديد، فعاش الناس زماناً على هذا المعدن، ثم بعده اكتشفت معادن أخرى، فيمكن أن يكتشف من المعادن ما هو أيسر وأسهل منه كالنفط مثلاً أو غيره من المعادن الأخرى التي يحتاج الناس إليها، وهكذا في كل البلدان، وهذا تدبير العزيز العليم.

تأمين الله الأرزاق في الأرض

تأمين الله الأرزاق في الأرض إن من تدبير الله سبحانه وتعالى أن أمّن الأرزاق في هذه الأرض، ولم يجعلها ملكاً فردياً لمكتشفها، وإنما جعلها للبشرية، فجعل المال الذي في الأرض ملكاً لله سبحانه وتعالى، والبشر مستخلفون فيه فقط، وهذا يقتضي منهم ألا يبذروا فيه وألا يسرفوا، وألا يحجروه على أنفسهم، وألا يمنعوا الآخرين من الانتفاع به؛ لأنه مال الله، والإنسان فيه مستخلف فقط، فهو بمثابة الوكيل ينتظر العزل في كل حين. وعزله يكون بالموت، فينتقل ويترك ما وراءه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]، أو يكون عزله بالحجر عليه، فلا يستطيع التصرف في ماله بقهره وسجنه، أو بمرضه مرضاً يمنعه من التصرف، أو بنقص عقله بكبره وهرمه، أو غير ذلك من أنواع العزل التي يعزل الله بها من شاء عن التصرف فيما جعل تحت يده من المال. والله سبحانه وتعالى بين لنا أن هذا المال الذي جعل في هذه الأرض، ملك له سبحانه وتعالى، وليس ملكاً لنا، وأنه استخلفنا فيه فقط، فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]؛ ولهذا خاطب الملائكة بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] أي: مستخلفاً فيما في الأرض من أنواع الخيرات والأملاك، وبين أنه خلق لنا هذا بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أنواع: ما خلق انتفاعاً، وما خلق اعتباراً، وما خلق اختباراً: فما خلق انتفاعاً مثل: أنواع الأرزاق التي في هذه الأرض وينتفع الناس بها. وما خلق اعتباراً، مثل: ما في هذه الأرض مما لا ينفع ولا يضر، وإنما نراه فنتعظ، كأنواع الحشرات غير السامة وغير الضارة التي إذا حفرنا في الأرض أمتاراً، نجد فيها أنواع الدود وغيرها من أنواع الحيوانات التي تعيش في جوف الأرض، ويتعظ الإنسان فيها فيقول: من أين يأتيها الهواء؟ ومن أين يأتيها الماء؟ وكيف تعيش؟ وكذلك ما نراه في الصحاري من أنواع الغزلان والوحوش وغيرها، يقول الإنسان: من أين يأتيها الماء؟ وكيف تعيش؟ وما غذاؤها؟ فيتذكر قول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]، وحينئذ سيكون الإنسان متعظاً مستفيداً من هذه الحيوانات وغيرها مما خلق الله في الأرض، فلم يخلق الله شيئاً عبثاً، بل كل ما في الأرض لحكمة بالغة: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16]. النوع الثالث: هو ما خلق اختباراً، وهو ما يسلطه الله على الإنسان من أنواع الجراثيم، ومن أنواع الميكروبات، وأنواع الأوبئة الفتاكة، وحتى أنواع الأسلحة الفتاكة التي ييسر الله من يكتشفها ويستغلها، فهي خلقت اختباراً للبشرية، فالإنسان يمرض، ويصاب بالمصائب، ويموت، وكل ذلك اختبار له: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، فكلها من الاختبارات والابتلاءات العجيبة. إن هذه الأرزاق إذا علمنا أنها مملوكة لله سبحانه وتعالى فإن علينا ألا نبذر فيها، وأن نعدل في توزيعها، ولا نحتكرها، وألا ندخرها لأنفسنا دون من سوانا، وهذه هي الأسس التي قام عليها الاقتصاد الإسلامي، فكل مشروع حضاري أياً كان، لا بد أن تظهر ثمرته للموضوعات الحساسة التي يعيشها الناس، وإن من الموضوعات الحساسة التي يعيشها الناس موضوع الاقتصاد، وإن النظرة الإسلامية للعالم كله مشروع حضاري متكامل، فمن أجل ذلك اقتضى بيان أوجهه المختلفة، وبالأخص الكلام في الموضوعات الحساسة منه كموضوع الاقتصاد البشري؛ فلذلك لا بد أن يظهر للمسلمين رأي بارز ونظرة موضوعية حيال هذا الاقتصاد، وحيال اكتسابه، وحيال توزيعه، فإن الطاقة التي في الأرض، والنفع الذي فيها ملك للجميع، يدخل فيه المؤمن والكافر، فليس للمؤمن أن يحتكر الخيرات ويمنع الكافر منها. ولهذا نص العلماء على أنه لا يجوز للمؤمن إذا لم يجد من الماء إلا ما يكفي لوضوئه أو لشرب كافر أو كلب عقور أو حيوان غير محترم، لا يحل له أن يميته بالعطش ويتوضأ بذلك الماء، بل إما أن يسقيه ويتيمم، أو أن يقتله ويتوضأ بالماء بعد قتله، وذلك أنه مشارك له في هذا الماء وله حق فيه، وهذا يشمل جميع الحيوانات، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بغياً من اليهود غفر الله لها ذنبها؛ بسبب كلب مرت به عند بئر وهو يلهث ويأكل الثرى من العطش، فنزلت ونزعت موقها فاغترفت به من الماء، وأمسكت بفيها حتى صعدت وسقت الكلب، فغفر الله لها). وكذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض)، فهذا يقتضي اشتراك كل أنواع الحيوانات في هذه الأرزاق التي خلقها الله في هذه الأرض، وانتفاع الجميع بها.

مفاتيح الخير ومفاتيح الشر من الناس

مفاتيح الخير ومفاتيح الشر من الناس من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومنهم -نسأل الله السلامة والعافية- مغاليق للخير مفاتيح للشر، فالذين هم مفاتيح الخير: يفتحون أبواباً لأنواع الأرزاق والانتفاعات، ينتفع بها المؤمن والكافر والحيوان البهيمي، وغير ذلك. ومنهم مغاليق للشر: يغلقون أبواباً فيها مضرة تهلك الحرث والنسل، وتقضي على أنواع الكائنات الحية، سواء كانت من الحيوان أو من النبات. ومنهم عكس ذلك: مغاليق للخير، يجدون باباً واسعاً يعيش منه الناس فيفعلون ذنباً يزول به ذلك الباب، وكم من قوم كانت أمورهم مستقيمة، وكانت حياتهم طيبة، فجاء أصحاب الذنوب فأذنبوا وأسرفوا؛ فأغلق الله باب ذلك الخير الذي كانوا يعيشون منه، وأنتم تقرءون في سورة سبأ قصة أصحاب سبأ الذين فتح الله لهم أنواع الأرزاق في هذه الأرض، ويسر لهم سبل الانتفاع بها، وهوّن عليهم الانتقال، ويسر لهم السبل، ولكنهم بغوا وطغوا؛ فبدل الله ذلك، وأهلكهم على يد أضعف خلق الله، على يد فأرة، فأهلكهم الله بذلك، ومزقهم كل ممزق، وجعلهم خبراً بعد عين. وكذلك الحال في الأمم التي طغت في البلدان كلها، فعاد الذين بسط الله لهم أنواع الأرزاق، وزادهم بسطة في أجسامهم على قوم نوح، وأطال أعمارهم، ومع ذلك بغوا وطغوا، فأرسل الله عليهم الريح ثمانية أيام حسوماً، فقضت على الأخضر واليابس في بلادهم، وما زالت بلادهم إلى اليوم لا يستطيع أحد السير فيها، وإذا سارت فيها سيارة وأرادت المنقلب في نفس الساعة يضيع أثرها، ولا تهتدي إلى المكان الذي خرجت منه، وبلادهم اليوم بلاد الأحقاف، وهي معروفة بالربع الخالي في جزيرة العرب، وما زالت الريح مستمرة فيها على أثر تلك الريح التي سخرها الله ثمانية أيام حسوماً. وكذلك ثمود الذين يسر الله لهم أنواع الأرزاق، وجعل لهم الجبال بيوتاً، بغوا وطغوا فأرسل الله عليهم الصيحة التي أهلكتهم، وشقت شغاف قلوبهم، فلم يستطع أحد منهم أن يصمد أمامها، فهلكوا جميعاً في لحظة واحدة. وكذلك قوم لوط ومن سواهم من الأمم الذين كانوا يعيشون في نقطة التوازن في العالم بمكة -شرفها الله وحرسها- كانوا إذا بغوا في الحرم يسلط الله عليهم ما يهلكهم ويبيدهم، فعندما يسر الله تعالى لإبراهيم مكان البيت وبوأه له وأمره أن ينزل عنده أمته وولده، وأراه مكانه؛ أخرج الله بهذا الوادي الموحش الذي لا زرع فيه -بواد غير ذي زرع- هذا الماء الطيب، الذي لم يزل إلى يومنا هذا يسقي الحجيج، وهو ماء زمزم، فساكن هاجر في ذلك المكان العمالقة، ولكنهم حين بغوا فيه سلط الله عليهم جُرهم، فقتلوهم قتل عاد وإرم وأخرجوهم منه، ثم حين بغى جُرهم أهلكهم الله أيضاً، وسلط عليهم الذين جاءوا من سد مأرب كخزاعة وغيرهم، ثم لما بغى خزاعة بالحرم سلط الله عليهم قصياً فأخرجهم، واستمر ذلك في زمان الجاهلية كله؛ ولهذا تقول امرأة من قريش لولدها: أبني لا تظلم بمكة لا الكبير ولا الصغير أبني قد جربتها فوجدت ظالمها يبور الله آمنها وما بنيت بساحتها القصور ولقد غزاها تبع فكسا بنيتها الحرير يمشي إليها حافياً بفنائها ألفا بعير والله آمن طيرها والعصم تأمن في ثبير وكان الحكم في الجاهلية والردع عن طريق القوة الباطنية، فلما جاء الإسلام ظهرت القوة الحسية الواقعية، فرفع ذلك العقاب، كما قال ابن عباس: إن العقاب الذي كان يأتي إلى الجاهلية في جاهليتهم كان عقاباً باطنياً، فلما جاء العقاب الظاهري بشرع الله عز وجل رفع الله العقاب الباطني، فكان الذئب في الجاهلية يطرد الأرنب حتى تدخل الحرم فيرجع ويتركها! واليوم أصبح الناس يتجرءون على معاصي الله في حرمه ويقتلون، ويقومون بأنواع الجرائم، فلا يرون بعض تلك الآيات التي كان يراها أهل الجاهلية؛ وذلك حينما ردع الله بهذا الدين، وبما شرع في كتابه المبين من أنواع الزواجر التي تكفي أهل الإيمان، وتردهم عن الطغيان.

النظرة الموضوعية للاقتصاد تقتضي الاعتدال في التعامل مع المال

النظرة الموضوعية للاقتصاد تقتضي الاعتدال في التعامل مع المال إن النظرة الموضوعية للاقتصاد تقتضي الاعتدال في التعامل مع هذا المال، فإذا كان الإنسان ينظر إليه وهو يعلم أنه لا غنى له عنه، وأنه عصب الحياة، ولكنه ليس ملكاً له، ولن ينال منه أكثر من رزقه، فإنه سيحاول أن يجعله في يده لا في قلبه. فمستقر المال في النظرة الإسلامية اليد، ومستقره في النظرات الأخرى القلب؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)، فتجد الفقير الذي لا يملك ديناراً ولا درهماً غنياً مرتاحاً راضياً بما أوتي، ويتصرف على وفق ما آتاه الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وتجد الغني في المال -إذا كان المال في قلبه- إذا فقد منه درهماً واحداً ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وينشغل في عمرة تنمية ماله حتى يكون خادماً للدنيا، وكان المفروض أن تكون الدنيا خادمة له، فكثير من الناس هم عباد للدنيا يخدمونها، والدنيا ليست خادمة لهم، إذا جعل الله تحت أيديهم بعض هذه الدنيا كان أذىً عليهم ونكالاً ووبالاً، فهم يعملون لها ليل نهار، ويقضون أوقاتهم الثمينة لخدمتها. وفي المقابل نجد آخرين لم يؤتهم منها إلا القليل، ولكنهم استغلوه لخدمة أنفسهم، فقدموه لآخرتهم، واستعانوا به، واستعفوا به في دنياهم؛ وبذلك سيروه وفق ما أمر الله به، ومن هنا كان جوابهم يوم القيامة جواباً مجدياً، وجواب الأولين جواباً مخزياً، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه فيما عمل به)، فالمرء سيسأل عن ماله بسؤالين يوم القيامة: من أين اكتسبته؟ هل أخذته من حله؟ ثم بعد ذلك: هل وضعته في محله؟ وهذان السؤالان لا بد أن يجعلهما الإنسان نصب عينيه، وهو يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، فالناس جميعاً تجار، وهم مفطورون على حب المال، ولكن تفاوتهم في ذلك أن منهم من لا يأخذه إلا من حله، ولا يضعه إلا في محله، ولا يطغى إذا تكاثر عليه، ولا يجزع على ما فاته منه، كما قال تعالى: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران:153]، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]، فلا ينبغي للإنسان أن يحزن على ما فاته منه؛ لأن ذلك سلبي، ويجعله يتحسر، ويتقطع حسرات على أمر غير مقدور، ولا يمكن أن يناله، فيقتطع جزءاً من وقته وتفكيره دون أن يفيده شيئاً، وليس له كذلك أن يفرح بما نال منه؛ لأن ذلك مدعاة للطغيان؛ ولهذا كان قوم قارون ناصحون له حين قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، فهذا قانون متكامل، يشتمل على أربعة مواد، ينبغي لكل ساع لجمع المال أن يجعلها نصب عينيه: أولاً: أن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة. ثانياً: ألا ينسى نصيبه من هذه الدنيا، وحظه منها. ثالثاً: أن يحسن كما أحسن الله إليه، وأن يستشعر مسئوليته تجاه الفقراء حين أغناه الله. الرابعة: (ولا تبغ الفساد في الأرض) فلا يبغي الفساد في الأرض. وهذا إذا حاولنا شرحه فسيطول بنا الحديث، ولن نأتي إلى حقائق يسيرة من معنى هذه الآية القليلة الألفاظ، الكثيرة المعاني. قال الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] ولم يقل فيها: (وابتغ بما آتاك الله الدار الآخرة) لأن هذا مستوى من الإيمان رفيع جداً، وهو أن يخرج الإنسان كل ما لديه في سبيل الله، وهذا لا يصل إليه إلا الصديقون، ولا يمكن أن يكون قانوناً عاماً لكل الناس، بل قال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، و (في) للظرفية المقتضية للوسط، فالظرفية تقتضي الوسط، فليس مطالباً بأن ينفق خير ماله، وليس مطالباً كذلك بأن يتيمم أدناه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]. وقوله: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، هذا يقتضي من الإنسان أيضاً أن يعلم أن له نصيباً محصوراً قليلاً في هذه الدنيا، حتى لو عاش عمراً طويلاً، فإنه عندما يوضع في قبره سينسى ذلك العمر كله، ويظن أنه ما عاش فيها إلا يوماً أو بعض يوم: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104]، ومن أجل هذا فإن على الإنسان أن يعرف حظه من هذه الدنيا، وأن يعلم أنها ليست له وحده، وأن عليه أن يصلحها ويدعها لمن وراءه، فهو بمثابة الراكب الذي استظل بظل شجرة، فلا ينبغي أن يقطعها ولا أن يفسدها حين ينهي غرضه منها، بل يتركها لمن يستظل، وإذا رجع مرة أخرى استفاد منها. وهذا المثال النبوي عجيب جداً أيضاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا المثل فقال: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، الراكب إذا رأى الشجر ينبغي أن يختار خيره، وأبلغه ظلاً، وأنظفه مكاناً؛ لأنه يختار لنفسه المكان الملائم المناسب، ولكنه مع ذلك لا يتعب تعباً شديداً في استصلاح هذا الظل، ولا الاستقرار فيه، فهو يعلم أن الظل سريعاً ما يتحول وينقلب، ويعود الفيء إلى المشرق، ثم تغرب الشمس، وحينئذ يزول الظل: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45 - 46]، كذلك فإن الراكب إذا استظل بظل شجرة، فكثيراً ما تكون بعد ذلك ذات ظل دائم لمن يأتي بعده؛ لأن العرب يقولون: ولن تُصادفَ مَرْعىً ممْرِعاً أبداً إِلا وَجَدْتَ به آثارَ مُنْتَجِعِ فالمكان الذي يستظل الناس به عادةً سيكون مطروقاً ويستظل الناس به، وإذا رحلت عنه قافلة عادت إليه أخرى؛ وقد جاء في الحديث: (لعن الله من غير منار الأرض) والمقصود بذلك: أن من يقطع الأشجار التي هي معالم في الأرض، أو يغير الطرق والسبل، يؤدي بعمله ذلك إلى إتلاف وإفساد في الأرض، فهو ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

واجب الأغنياء نحو الفقراء

واجب الأغنياء نحو الفقراء قال الله: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، إن على الأغنياء أن يستشعروا أن الله عز وجل هو الذي قسم هذه الأرزاق، ولم يقسمها على أساس عقل، ولا على أساس علم، ولا على أساس جاه، ولا على أساس قوة بدن، وإنما قسمها لحكمة، وجعلها امتحاناً ومسئولية، فمن آتاه الله هذا المال فعليه مسئولية عظيمة تجاه الفقراء، خاصة إذا جعل الله أرزاقهم تحت يديه، وولاه عليهم، واستخلفه على أرزاقهم، فهو سبيل من سبل الخير، وطريق من طرقه، إما أن يستكثر وإما أن يستقل. ولهذا فإن الذين جعل الله أرزاق الناس تحت أيديهم إن أحسنوا نالوا أجور كل من انتفع بما تحت أيديهم من المال، وإن أساءوا فإنه سيكتب عليهم أوزار أولئك الذين منعوهم ما يستحقون، وحالوا بينهم وبين ما خلق الله لهم، وهذا يبين أصلاً شرعياً كبيراً ينبغي أن يدخل فيه كثير من القواعد، فمن أجله حرم الله الربا، ومن أجله حرم الله الاحتكار، ومن أجله حرم الله الإسراف، ومن أجله حرم الله الغش والخيانة، ومن أجله حرم الله سبحانه وتعالى الجهالة في البيع، ومن أجله حرم الله سبحانه وتعالى المكوس وغير ذلك من أنواع الإفساد في الأرض. فهذه الأصول ما حرمت إلا من أجل المسئولية التي هي على الأغنياء تجاه الفقراء، وإذا استشعروها فإنهم سيستصلحون المال لا لأنفسهم، بل سينفقون على عدد كبير من الناس، وسيزداد التكافل بذلك بين الناس، ومن أجل هذا شرع الله سبحانه وتعالى الزكاة في المال، وجعلها واجبة على الأغنياء، تؤخذ منهم وترد على فقرائهم، وهي حق في المال نفسه، وشرع كذلك حقوقاً أخرى في المال، ففي المال حق غير الزكاة كما صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وذكر من تلك الحقوق: أن يحتلب الناس من ضروع مواشيه إذا أوردها على المياه، ومن هذه الحقوق: الصدقة من الزرع إذا بدا صلاحه كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141]، وهذا الحق الذي يجب يوم الحِصاد، قال أكثر المفسرين: هو غير الزكاة الواجبة؛ لأن الزكاة ليست واجبة في يوم الحصاد بعينه، وهذا حق زائد عليها، وهو صدقة شكر على ما أخرج الله لنا من الثمرات.

التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم

التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم هذا وإن مشروعية الصدقات الأخرى والتكافل الاجتماعي المطلق، به يتم الاتصال بين البشرية، وترتبط الوشائج كالصداق بين الرجل والمرأة، وكالنفقة الواجبة بين الوالد وولده، والزوج وزوجته، والمملوك ومالكه، فهذه النفقات كلها تدخل في إطار هذا التكافل الاجتماعي الذي هو من المسئولية المالية. وكذلك الحق العام في المال؛ فإن في المال حقاً عاماً للأمة كلها، يؤخذ إما بطريق التبرع، وإما بطريق التقويم والتقدير، كذلك فإن من موارد التكافل الاجتماعي ومن أوجهه المطلوبة، ما بينه الشارع في أن الأغنياء عليهم أن يشاركوا بأموالهم في إعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه، وهذا يشمل إنفاقهم في الجهاد في سبيل الله وغزو العدو، وإنفاقهم كذلك في تعلم العلم وفروض الكفايات، وإقامة الجسور والمساجد والمستشفيات وغير ذلك من أنواع المصالح التي يحتاج الناس إليها، وكانت هذه المشاريع في صدر الإسلام فردية، يقوم بها بعض الأفراد، فيقيمون المدارس من تلقاء أنفسهم، ويجعلونها أوقافاً، ويقفون عليها الحوانيت والمزارع، فيضمن ذلك بقاءها واستمرارها وحريتها، وبهذا الوقف خرج العلماء الأفذاذ الكبار؛ لأنها عاشت -أي: الأوقاف- في جو من الحرية، يضمن لها الاستمرار، وعدم التدخل في قراراتها. أما حين أخذت أوقاف المدارس، وأصبحت مؤسسات تابعة للدول، فإنها عاشت في أحضان العبودية، وفقدت أنفاس الحرية، ومن أجل هذا لم تخرج العلماء، وإنما أصبحت مؤسسة من مؤسسات النظام الفاسد، فالأزهر كان مؤسسة حرة، ينفق عليه من الأوقاف التي وقفها عليه تجار المسلمين في قرون طويلة، وقد أخرج عدداً كبيراً من العلماء، واستفادت منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم عدة قرون؛ وحين جاء عبد الناصر أمم أوقافه وأخذها لصالح الدولة، أصبح الأزهر ينفق عليه من ميزانية الدولة، وأصبحت الدولة هي التي تعين فيه وتعزل، وتضع له المناهج والبرامج؛ فتوقف دوره، وتوقف عطاؤه، ولم يخرج ما كان يخرجه من العلماء، وكذلك في البلدان الأخرى المختلفة. وهكذا المستشفيات كان الأفراد والتجار يقومون ببنائها، ويتطوعون بها لصالح الأمة، ويوقفون عليها الأوقاف ذات الريع المستمر، فتستفيد الأمة من ذلك، واستمر هذا زماناً طويلاً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعاش الناس فيه بخير، حتى حصل تعميمها، ورجعت إلى مؤسسات مملوكة للقطاع العام، ليس وراءها عناية ولا صيانة، ولا يرصد لها مال مخصص، أو أصبحت أملاكاً للقطاع الخاص، وفي مجال التنافس لم يعد يسيرها روح الإنسانية والتكافل، فأصبحت مكاناً لكسب المال والتنافس في جمعه. وقد كان الناس قديماً يجتهد أحدهم في أن يبني مسجداً أو مدرسة أو مارستاناً -والمارستان هو المستشفى- وفي ذلك يقول أحد الشعراء يمدح أحد العلماء: أنشأت مدرسة ومارستاناً لتصحح الأديان والأبدانا فالمدرسة لتصحيح الأديان، والمارستان لتصحيح الأبدان. وكذلك من أوجه التكافل الديات التي تدفعها العواقل، فإن الخطأ ليس من كسب الإنسان، وليس من طاقته التخلص منه، ولو حمل عليه لنقص إنتاجه، وقصرت به أفكاره عما ينتج لصالح هذه الأمة. فلو كان الإنسان يسوق سيارته فحصل حادث من غير قصد منه، فمات به عدد من الناس، وكلف هو بدياتهم أجمعين؛ لترك الناس قيادة السيارات، وتوقفت الكثير من المشاريع النافعة، وكذلك لو أن الإنسان كان يعلم أنه إذا بنى مبنىً، وانهدم في أثناء بنائه من غير قصد منه، ودفع ديات المتأثرين به؛ لتوقف الناس عن البناء، وتعطلت منافع كثيرة للبشرية، وكذلك في الحفر، وكذلك في استخراج المعادن، وغير ذلك من أنواع المشاريع النافعة. فلتشجيع الناس على هذا، جعلت هذه العواقل هي التي تتحمل ديات الخطأ سواء كان ذلك في الأنفس أو في المنافع أو في العظام والشجاج. وكذلك الدواوين التي تقوم مقام العواقل، فالحضارة منافية للقبلية التي هي نظام بدوي في الأصل، والحضارة تجتمع فيها القبائل، وتختلط فيها الأعراق، وتقف فيها العصبية القبلية، فمن أجل هذا احتيج فيها إلى بديل عن العواقل، فأنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإجماع من الصحابة الدواوين، التي أصبح أهل كل مهنة يدفعون فيها الدية تكافلاً فيما بينهم، فالشرطة يدي بعضهم عن بعض، والجيش يدي بعضهم عن بعض، والمعلمون يدي بعضهم عن بعض، والأطباء يدي بعضهم عن بعض وهكذا، فهذا عندما يزول النظام القبلي، وتختلط الحضارة، وتنتفي العصبيات. هذه الأوجه للتكافل والتكامل بين البشرية ينبغي ألا يغفل عنها، وأن تدعم وتقوى في حياة البشرية؛ حتى يعرف من أين يؤتى بهذا المال؟ وفيما ينفق؟

الإسراف وخطورته

الإسراف وخطورته ثم إن على الإنسان ألا يسرف؛ ولهذا قال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77]، فالفساد في الأرض يتناول الإسراف في النفقات؛ لأن الإنسان له طاقة وله حاجة، فعليه أن يقارب بين حاجته وبين ما يستغله، فما يحتاج إليه لا ينبغي أن يكون أكثر مما ينتجه، وإذا كان ينتج الكثير، فإن عليه ألا يزيد في احتياجاته، وأن يرشد تلك الاحتياجات؛ لأن من البشرية قوماً لا ينتجون أصلاً، وهو يقوم عليهم بمقابل ذلك. ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه لا يحب المسرفين؛ ولذلك يقول الناظم: والسرف السرف إن السرفا عنه نهى الله تعالى وكفى ولا يحب المسرفين كافي في كف كفك عن الإسراف

دخول الإسراف في أعمال البر

دخول الإسراف في أعمال البر وقد اختلف العلماء في الإسراف هل يدخل في أعمال البر أو لا؟ وأجمعوا أنه يدخل في أمور الدنيا كلها، فذهبت طائفة منهم إلى أن السرف يدخل حتى في أعمال البر، فالذي يتصدق بكل ماله، إذا كان يعلم حاجته إليه ولم يكن له تدبير يعوض به ما أنفقه فهو مسرف، واستدلوا على هذا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن ثابت بن قيس بن شماس جذ نخله فتصدق بثمرته كلها، ولم يستبق منها تمرة واحدة يفطر عليها، غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً عند ذلك، فهذا دليل على أن الإسراف في مثل هذه الأمور غير محمود شرعاً. فعلى الإنسان أن يترك ما ينفق به على أهله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه مرض بمكة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: (يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلا بنية لي، أفأتصدق بمالي كله في سبيل الله؟ قال: لا، أمسك عليك بعض مالك، فقال: أفأتصدق بثلثيه؟ قال: لا، قال: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، قال: أفأتصدق بثلثه؟ قال: نعم، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، فقلت: يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي، فقال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك)، فعاش سعد بعد هذا زماناً، وورثه اثنا عشر ولداً لصلبه، وخرج من ثلث ماله في سبيل الله عدة مرات بعد ذلك. وهذا يقتضي منا ألا نتعجل في تصدقنا، وأن يكون تصدقنا متزناً، فالإنسان آتاه الله تعالى ثلث ماله عند حضور أجله يمكن أن يوصي به، حتى في حال مرض الموت، ففي الحديث: (إن الله قد أعطاكم ثلث أموالكم عند موتكم تتصدقون به)، وهذا هو الوصية، والوصية لا تزيد عن الثلث، فلا يجوز للإنسان أن يوصي بأكثر من ثلث ماله.

أضرار الإسراف في المطاعم والمشارب

أضرار الإسراف في المطاعم والمشارب السرف يكون أيضاً في المطاعم والمشارب ونحوها مما يقتضي مضرة بالبدن، وهذه المضرة أنواع، فما من شيء فيه منفعة وإلا وفيه نوع آخر من أنواع الضرر، فالماء فيه منافع لا تحصى، ومع ذلك فيه مضار؛ فإنه يقتضي نقصاً لبعض إفرازات المعدة التي يحتاج إليها الإنسان في هضم غذائه؛ وكذلك غيره من أنواع المشروبات، وأنواع ما يستعمله الإنسان في نفسه، فإذا زاد عن الحاجة أو تمحض وحده أضر. ومن هنا؛ فإن كثيراً من الأمراض المعروفة اليوم سببها الغذاء: كالمرض السكري، فهو ناشئ عن الإسراف في النشويات، وكمرض القلب فهو ناشئ عن الإسراف في الدهنيات، وكمرض الكلى فهو ناشئ عن الإسراف في المآكل ونقص المشارب، وكذلك أنواع الأمراض الأخرى كبعض الأمراض الجلدية فهي ناشئة عن الإسراف في استعمال السكر مثل البرص والبهق وغيرها، وكذلك بعض الأمراض تنشأ عن الإسراف في استعمال الأملاح، وبعضها ينشأ عن الإسراف في استعمال السوائل كالترهل، وهو السمنة الزائدة، فإنها تنشأ من استعمال السوائل والإسراف فيها أكثر من الحاجة، فتقتضي الاتساع في البطن، فإذا أكثر الإنسان وأسرف فيها تضخم بدنه، فكان ذلك مرضاً من الأمراض؛ لأنه يضعف قواه، ويؤدي إلى احتكاك مفاصله، وتوقف أماكن النمو في بدنه، وكثيراً ما يؤدي إلى أمراض كثيرة. كذلك الحركات: فالإسراف فيها يقتضي بعض الأمراض، فالإسراف في الرياضات يقتضي المرض في الغضروف الذي يحول بين فقرات الظهر، فيتمطط ويتمدد. وكذلك الإسراف في المشي يقتضي أمراضاً في الركب، كالاحتكاك والاحتقان وغيره. فالإسراف مضرة أياً كان هذا الإسراف. وكذلك الإسراف في الملابس، فإنه أيضاً يقتضي مضرة، فزيادة ثقلها فيه ثقل دائم على الإنسان، ووزن زائد على وزنه، والإنسان ذو طاقة محددة، عليه ألا يزيد وزنه عليها، وألا تزيد حمولته الدائمة عليها. ومن هنا فإن كثيراً من الأمراض ينشأ عن عدم الاعتدال في النعلين، فيكون الإنسان يسير سيراً غير مستقيم، إحدى رجليه أرفع من الأخرى، فيصاب بمرض ونقص للتوازن بسبب ذلك؛ لأن سرعة الدم في أحد الشقين ستكون أبلغ من سرعته في الشق الآخر، فيؤدي هذا كثيراً إلى بعض السرطانات، وبالأخص سرطان الدم وغيره، وقد حصل في إحدى الشركات التي كانت تصنع النعال في الولايات المتحدة الأمريكية أن أقيمت عليها دعوة في المحاكم، بسبب أن نعالها لم يكن مبالغاً في وزنها من ناحية المقاس، فرفعت عليها دعوى أدت إلى إفلاسها، وأخذ أموالها. إذاً هذا يقتضي منا عدم الإسراف مطلقاً، ويذكر العلماء أن الإسراف في القراءة مقتض لأمراض بدنية، واختلال في القوة العقلية. والقوة العقلية وغيرها من القوى وزنها الله على حسب بدن الإنسان، وعلى حسب روحه، فإذا زادت اختل توازنه، فكثير من الناس يريد زيادة العقل ويتمنى ذلك، لكنه لا يعلم أنه لو زيد عقله لاقتضى ذلك اختلالاً فيه؛ لأن الله وزنه على هذا الميزان، وقدره على هذا التقدير؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:1 - 2]، فهذا التقدير العجيب تقتضيه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو الاعتدال العجيب في خلقة الإنسان، فلا بد أن يكون الذراعان على حجم واحد، واليدان على حجم واحد، والأذنان كذلك، والعينان كذلك، والرجلان، والساقان، والفخذان وهكذا، حتى يتم قوام الإنسان، وما شذ عن هذا كان عيباً في الخلقة وضعفاً.

أركان الإيمان

أركان الإيمان لقد أوجب الله عز وجل على عباده أركان الإيمان الظاهرة والباطنة، ولا يقبل من العبد الإسلام بدون العمل بالإيمان وأركانه كما بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فيجب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فتلازمه مع مراتب الدين الأخرى عظيم، وأثره كبير في قلب المؤمن وجوارحه وحياته كلها.

تعريف الإيمان

تعريف الإيمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن موضوعنا عن الإيمان الذي شرطه الله تعالى على عباده، وأرسل الرسل من أجله، فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] , ومن أجله يعرف الله عز وجل، وتعرف كتبه ورسله، ومن أجله يؤمن الشخص بقضاء الله وقدره النافذ، ومن أجله يؤمن باليوم الآخر والبعث بعد الموت.

تعريف الإيمان لغة

تعريف الإيمان لغة إن الإيمان في اللغة يطلق على إطلاقين: أحدهما: معدى بالباء. والآخر: معدى باللام. أما المعدى بالباء فمعناه: التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك والذي يحض على العمل. فالتصديق غير الجازم لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي يقبل الشك لا يسمى إيماناً، والتصديق الجازم الذي لا يقبل الشك إذا لم يترتب عليه عمل لا يسمى إيماناً. الإطلاق الثاني: المعدى باللام، وهو التصديق الجازم، فالتصديق الجازم فقط يقال له: الإيمان لكذا. وأما التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل فهو الذي يعدى بالباء فيقال: الإيمان بكذا. فمن الأول قول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] , فالرسول صلى الله عليه وسلم آمن بما أنزل إليه من ربه، فصدق تصديقاً جازماً لا يقبل الشك، ويحض على العمل بما أنزل إليه من ربه؛ لأنه لا يمكنه أن يتردد لحظة في صدق ما جاءه؛ لأن الوحي ليس كالخبر وليس كالمشاهدة، فقد يشاهد الإنسان أمراً بعينه ثم يشك فيه بعد ذلك للتقادم، أو لطول الزمن، أو لقصور في النظر، أو لوجود عدد كبير من الناس يخبر بخلاف ما رأى فيتراجع عما رآه ببصره، وكذلك قد يسمع الشيء بأذنه ويجزم به في وقت معين، ثم يتزلزل ذلك الجزم بسبب طول الزمان، أو بسبب النسيان، أو بسبب مناقشة أدت به إلى أن يقلد الآخرين ويقدم سماعهم على سماع نفسه. وسبب ذلك القصور في الجوارح، فالبصر جارحة من جوارح ابن آدم الحادث المخلوق، وهي جارحة قاصرة، ومن أجل هذا القصور فإنك ترى الشيء القريب منك في حجم معين، وكلما ابتعد صغر عنك، ترى الإنسان القادم من بعيد وهو صغير في حجمه، وكلما اقترب ازداد حجمه حتى يصل إلى مستواه الذي يجزم به البصر، وإن كان هذا المستوى غير مقطوع به، فيدك هذه إذا اقتربت من عينك غطت عن الرؤية، وإذا ابتعدت صغرت، وكلما ابتعدت ازدادت في الصغر، وهذا يقتضي منك الشك في المرئيات؛ لأنك لا يمكن أن تجزم جزماً حقيقياً بأن الحجم الحقيقي للأشياء هو ما تراه لحصول التذبذب حسب المسافة. ومن هنا فنحن نرى الشمس قرصاً صغيراً يتصور الإنسان أنه بالإمكان أن يضعها في يده، والواقع أن الأرض كلها أقل من ربع مساحة الشمس، وكذلك نرى الكواكب السيارة الكبيرة في هذا الحجم الصغير في حجم شعلة النار أو في حجم المقباس، والواقع أن حجمها أضعاف حجم الأرض، فكل هذا يدلنا أن المرئيات المحسوسة بعلم الحادث كلها قابلة للشك، فلا يمكن أن يقول الإنسان: آمنت بأن فلاناً جالس بين يدي؛ لأن الإيمان لا بد أن يكون يقيناً لا يقبل الشك ولا يتزلزل، وينبنني عليه عمل. وكذلك الحقائق العلمية لا يمكن أن يؤمن بها الإنسان، بمعنى: أن يجزم بها جزماً لا يقتضي الشك، بإمكان التذبذب فيها والزوال، لا يمكن أن يقول الإنسان الآن: آمنت بكروية الأرض -مثلاً-؛ لأن هذا لم ينزل به الوحي، وإنما هو راجع إلى مشاهدات قد تكون خطأً وقد تكون صواباً، فلذلك تقيد الإيمان المعدى بالباء بهذا اليقين. الوحي ليس مأخوذاً عن طريق السماع ولا عن طريق البصر، وإنما: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195] , فلا يمكن أن يتشكك الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يوحى إليه من ربه، فأنت يمكن أن تشك فيما حدثك به إنسان أو رأيته أو سمعته، لكن ما نزل به الوحي لا يمكن أن يقع فيه الشك، ومن هنا قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285]. أما الإطلاق الثاني -وهو تعدية الإيمان بالله باللام بمعنى التصديق الجازم الذي يقبل الشك- فمنه قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] , فإخوة يوسف عليه السلام وعليهم عندما قدموا بالمكيدة إلى أبيهم يعقوب عليه السلام وأتوه بدم كذب وزعموا أن الذئب قد أكل يوسف عليه السلام قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] , فلو كنت تجزم بصدقها فإنك لا تصدقنا بذلك، ومعنى الإيمان هنا التصديق الجازم الذي يقبل الشك؛ لأنه عدي باللام ولم يعد بالباء، فلم يقولوا: وما أنت بمؤمن بنا ولو كنا صادقين. بل قالوا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]. ومثل هذا قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61] , فـ (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) هذا التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) معناه: يصدقهم فيما يقولون. وهذا هو التصديق الجازم، لكنه مع ذلك يقبل الشك؛ لأن شهادة العدل -مثلاً- الأصل فيها أنها تفيد علماً، ولكن هذا العلم غير يقيني، ومن هنا اختلف أهل الحديث في الحديث الصحيح الذي رواه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه دون انقطاع ولا شذوذ ولا علة، هل هو يقتضي اليقين الجازم أو لا يقتضيه؟ فجمهورهم على أنه لا يقتضي القطع، وهذا الذي عليه أهل المصطلح وجمهور أهل الحديث، وخالف في ذلك بعض الأصوليين فزعموا أن ما صح إسناده لزم الجزم به، سواءٌ أكان من أخبار الآحاد أو كان من المستفيض المشهور.

تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي

تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي ومن هنا نصل إلى تحديد مفهوم الإيمان في الاصطلاح بعد أن حددناه في اللغة، فنقول: إن الإيمان في اصطلاح المتشرعين من المسلمين يطلق على إطلاقين: فيطلق على الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى الذي ينجي صاحبه من عذاب النار، ويكون وسيلة لدخول الجنة، هذا هو تعريف الإيمان بمعناه العام الذي يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، ويمكن أن نعرفه تعريفاً إحصائياً فنقول: هو التصديق بالجنان، والنطق باللسان، والعمل بالأركان، الذي يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان. فـ (التصديق بالجنان) معناه: بالقلب. و (النطق باللسان) أي: بالشهادتين، و (العمل بالأركان) معناه: بالجوارح، وهو الصلاة والزكاة والصوم والحج. (الذي يزيد بالطاعات) فالإيمان يزيد بالطاعات، فكلما ازدادت طاعته ازداد الإيمان، (وينقص بالعصيان)، فكلما وقع الشخص في معصية نقص إيمانه بقسط تلك المعصية، وهذا التعريف هو الذي عليه جمهور سلف هذه الأمة. وقد خالف فيه بعض التابعين من أهل العراق، منهم حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة رحمهم الله، وكذلك أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي، وكذلك عدد من الذين يلونهم، ومنهم: أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل رحمه الله، وكذلك منهم أبو منصور الماتريدي رحمه الله، فكل هؤلاء يرون أن الإيمان إنما يطلق على عمل الجنان فقط، على الاعتقاد بالقلب فقط، وأن الأعمال لا تدخل في مسماه، وهذا هو الإطلاق الثاني للإيمان.

حقيقة الخلاف في دخول العلم في مسمى الإيمان وما ينبني عليها

حقيقة الخلاف في دخول العلم في مسمى الإيمان وما ينبني عليها واختلف هل هذا الخلاف حقيقي أو صوري؟ على قولين لأهل العلم: القول الأول: أنه خلاف حقيقي؛ لأنه ينبني عليه مسائل عقدية، منها قضية الإرجاء، فمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنه لم يصل ولم يزك وباشر الفواحش فما مصيره؟ هل هو إلى جنة أو إلى نار؟ فمذهب جمهور أهل العلم أنه صائر إلى الجنة بإيمانه؛ لأن كل من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله فمصيره الجنة، سواءٌ عذب في القبر أو دخل النار، فإن مكث ملايين السنين في النار لا بد أن يخرج منها بإيمانه ويدخل الجنة، فالله تعالى يدخل النار من شاء بسبب معصيته، ويخرجه منها بإيمانه، لكن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله لا يخلد في النار أبداً، وهنا يعلم أن الأعمال مكملة لهذا الإيمان وزائدة في مفهومه، ومرسخة له. كذلك من المسائل المبنية على هذا الخلاف مسألة زيادة الإيمان ونقصه، وقد اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال: القول الأول: الإيمان يزيد وينقص مطلقاً. وهذا المذهب هو الذي عليه جمهور أهل العلم، وهو الذي عقد له البخاري كتاب الإيمان في صحيحه، فذكر أنه يزيد وينقص، واستدل لذلك بالآيات الواردة في زيادة الإيمان في القرآن، مثل قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] , وكذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] , وكذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] , وكذلك قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] , وغيرها من الآيات التي فيها التصريح بزيادة الإيمان، وزيادته تقتضي نقصه؛ لأن الشيء الذي يزيد معناه أنه يقبل النقص أيضاً. القول الثاني: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وهذا القول يقول به طائفة من الفقهاء يسمون (مرجئة الفقهاء)، وهو مخالف لما عليه جمهور أهل السنة والجماعة من لدن التابعين إلى زماننا هذا، فهؤلاء يرون أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وإنما هو الجزم بالقلب، فما كان يقبل الزيادة والنقصان فإنه متذبذب لم يصل إلى حد الثبات المطلوب في الإيمان، وهؤلاء الطائفة يؤولون هذه الآيات التي فيها زيادة الإيمان فيقولون: المقصود بها زيادة ما يؤمن الإنسان به، فعندما أنزلت سورة العلق مثلاً: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] أول ما نزل من القرآن هذه الآيات من سورة العلق، ففي وقتها لم يكن يشترط على أهل الأرض إلا الإيمان بهذه الآيات فقط، فما لم ينزل من القرآن لا يجب عليهم الإيمان به، وكلما ازدادت سورة ونزلت سورة جديدة تزداد أفراد ما يلزم الإيمان به، حتى اكتمل القرآن فاكتمل الإيمان به، واكتملت السنة فاكتمل الإيمان بها، وهكذا. ومن هنا فإن الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الإيمان وماتوا قبل أن تكتمل الواجبات، كـ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فهي أول من صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ومن الناس عموماً، ومع ذلك ماتت قبل فرض الصلاة، فلم تصل ولم تصم ولم تزك، هذه الفرائض تجددت بعدها، لكن لا يقتضي هذا نقصاً في إيمانها؛ لأن الإيمان الموجود هو ما قامت به، والذي كان موجوداً قد حققته وأتمته على أكمل الوجوه. وكذلك الذين ماتوا بالمدينة قبل الهجرة ودفنوا إلى غير القبلة، فبعد الهجرة بسبعة عشر شهراً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الشام، هؤلاء الذين ماتوا إذ ذاك دفنوا إلى غير جهة القبلة؛ لأنهم دفنوا إلى الشام، فلذلك تشكك الناس فيهم كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في الصحيحين، لكن الواقع أنهم ماتوا على الإيمان وقد استكملوا ما نزل من الإيمان إذ ذاك، وما تجدد منه لم يكن تكليفاً لهم؛ لأنهم قد ماتوا قبل أن ينزل. فهذا قول هذه الطائفة. ولهم قول آخر في تأويل زيادة الإيمان المذكورة في الآيات، فقالوا: المقصود بزيادة الإيمان زيادة لازم الإيمان لا زيادته. ولازمه هو شرطه وهو العمل، فالعمل شرط في الإيمان وليس شطراً فيه عندهم، لكن هذه التأويلات لا يحتاج إليها، فالأصل أن تبقى الآيات على فهمها الصحيح، وأن هذه الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنه يزيد وينقص. القول الثالث في زيادة الإيمان ونقصه قول مروي عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهو أن الإيمان يزيد ولا ينقص، قول بالتفصيل، ونحن ذكرنا القول الأول أن الإيمان يزيد وينقص. وهذا القول يرى قائله أن الإيمان يزيد ولا ينقص, وسبب هذا القول أن الله تعالى ذكر في القرآن زيادة الإيمان ولم يذكر فيه نقصه، فلم يرد في القرآن ذكر لنقص الإيمان، وجاء فيه التصريح بزيادة الإيمان في عدد من الآيات، ومبنى الاعتقاد على التسليم المطلق، اعتقاد لا يرجع فيه إلى العقول المحضة؛ لما ذكرناه من أن الإيمان لا بد أن يكون جازماً لا يقبل الشك، وما أخذ عن طريق الجوارح يقبل الشك، فلذلك قال مالك رحمه الله: إن زيادة الإيمان ثابتة بالنص، ونقص الإيمان مفهوم بالعقل، وما كان وارداً بالنص فهو الاعتقاد، وما كان مأخوذاً بالعقل لا يجعل عقيدة يلزم بها الناس، فهذه رواية عنه، وإن كانت الرواية التي اشتهرت عن الإمام مالك رحمه الله موافقة لمذهب جمهور العلماء من أن الإيمان يزيد وينقص، وهي الراجح إن شاء الله تعالى. والقول الراجح من هذه الأقوال الثلاثة هو أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الزيادة مقتضية للنقص.

الإيمان بالله

الإيمان بالله أما أركان هذا الإيمان فهي ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله فقال: (أخبرني عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، وفي رواية: (بالله، ولقائه، وكتابه، والبعث بعد الموت)، ولقاؤه هو الموت، والبعث بعد الموت من اليوم الآخر، لكن لقاؤه والبعث بعد الموت كلاهما داخل في مسمى اليوم الآخر؛ لأن الموت من أمور الآخرة وليس من أمور الدنيا؛ لأنه انتقال من حال إلى حال، وتحول من دار إلى دار: (وإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته). وكذلك لقاء الله، وهو العرض عليه الذي بينه الله تعالى في كثير من الآيات، ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأنعام:30] , وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] , فهذا العرض داخل في اليوم الآخر. فهذه الأركان الستة تقتضي منا تفصيلاً، وهو ما سنحاول الإلمام بما تيسر منه فيما يأتي. الركن الأول من أركان الإيمان: الإيمان بالله. والإيمان بالله هو الذي يسمى توحيداً، والتوحيد يغلط فيه كثير من الناس، فيظنون أنه من التفعيل بمعنى: التصيير؛ لأن (فَعَّل) ترد في اللغة بمعنى: (صَيَّر)، مثل: (كَبَّرتََ الشيء) أي: جعلته كبيراً. و (ضَخَّمتهُ) معناه: جعلته ضخماً. و (صَغَّرته) معناه: جعلته صغيراً. و (صَغَّرتْ هذا الاسم) معناه: نطقت به على هيئة تصغير، ولكن التوحيد مخالف لهذا، فمعناه: اعتقاد أنه واحد. وليس معناه تصييره واحداً، فهو واحد، والتوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد لله في ربوبيته. وتوحيد له في إلاهيته. وتوحيد له في أسمائه وصفاته، فهذه ثلاثة أقسام هي معنى الإيمان بالله.

توحيد الله في أسمائه وصفاته

توحيد الله في أسمائه وصفاته أما التوحيد الثالث فهو توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته، فإن الله سبحانه وتعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] , ولا يمكن أن يشبه شيئاً ولا أن يشبهه شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] , فلا يمكن أن يعرف بالعيان ولا بالمثال، فلم يبق إلا معرفته بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، والاستدلال عليه بمخلوقاته، وفي هذا يقول العلامة محمد بن فارع المتالي رحمه الله تعالى: وطرق المعرفة الكبار عيان أو مثال أو آثار فأول منعه الجبار إذ قال لا تدركه الأبصار والثاني أيضاً منعه في النقل لأنه ليس له من مثل لم يبق بعد ذا سوى آثار صنعته في العالم السيار فهذا الدليل الباقي على معرفته، فالله سبحانه وتعالى أثنى على نفسه بكثير من الصفات، وأثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم كذلك بكثير منها، ولا أحد أعلم بالله من الله، وبعد ذلك لا أحد أعلم به من رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أعلمكم بالله وأخشاكم لله أنا) , فإذا أخبر عن نفسه بصفة وجب الإيمان بذلك وتصديقه ومعرفة أن تلك الصفة واجبة لله، وإذا أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم بشيء وجب الإيمان بذلك، وتصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من ذلك. ومع هذا يجب أن نعلم أنه لا يمكن أن يكون لصفات الله أي مثال في عالم الحوادث، فشتان بين الخالق والمخلوق، لكن لا يخفى علينا أيضاً أن الأسماء قد تشترك، فقد تكون الصفة التي يتصف بها الله عز وجل يستمي بها المخلوق، فيتسمى بهذه الصفة المخلوق، لكن لا علاقة بين الصفتين إلا في الاسم فقط، فعلم الله يطلق عليه لفظة العلم، وعلم المخلوق يطلق عليه لفظة العلم، لكن شتان بين العلمين، فعلم المخلوق قال الله تعالى عنه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] , والله هو علام الغيوب: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. كذلك وجه الله يطلق عليه هذا اللفظ (الوجه)، ووجه المخلوق يطلق عليه (وجه)، لكن شتان بين الأمرين، شتان بين الخالق والمخلوق، ومثل ذلك ما نسميه ذاتاً، فنحن نقول: ذات الله، وذات المخلوق. لكن شتان بين الأمرين، فنحن لا نعرف من الذوات إلا ذوات المخلوقين، وذات الله عز وجل هي نفس الله التي سماها في القرآن (نفساً) في قوله حكاية عن عيسى عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] , وفي قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، في آيتين من سورة آل عمران، وغير ذلك من لفظ النفس في القرآن. فإن لفظ الذات لم يرد فيه، وليست في اللغة بهذا المعنى، ولكنها مصطلح للمتكلمين، فنحن ننطق بها على هذا المصطلح، ولا ننطق بها إلزاماً لأن تكون من ألفاظ الاعتقاد الواردة في الكتاب أو السنة فليست كذلك. وهذه النفس مخالفة لنفس المخلوق، وإنما تشترك معها في الاسم فقط، فنحن لا نعرف من الأنفس إلا نفس المخلوق، ولا يمكن أن نقيس عليها نفس الخالق أبداً، وشتان بينهما. ومن هنا لزم أن نطرد هذا التفريق في كل الأمور، فلله نفس تخالف أنفس المخلوقين، فلا أحد يزعم أن ذات الله مثل ذوات المخلوقين أبداً، لكن كذلك لله صفات تنافي صفات المخلوقين، وإذا كان كذلك فلا فرق بين الكلام في النفس والكلام في الصفات، فالقول في الصفات كالقول في الذات مطلقاً، وهذا ما يغفل عنه كثير من الناس، فلا يرى ضرراً في إطلاق الذات على الله كما تطلق على ذات المخلوق مع الفرق الشاسع بينهما، لكن إذا جاء إلى الصفات تأثر من إطلاق بعض الصفات على الله؛ لأنه يفهمها على منوال صفات المخلوقين، وهذا غلط، فلماذا تميز بين الذات والصفات؟ فالقول في الذات كالقول في الصفات، وبعد هذا فالقول في بعض الصفات كالقول في بعضه، فما الفرق بين العلم واليد والعين ونحوها؟ فكلها صفات أثبتها الله لنفسه لا يمكن أن تكون مشابهةً لصفات المخلوقين، وكلها تدل على التمام والكمال، وكلها تقتضي محبته وتمام الإيمان به والتوكل عليه، وليس شيء منها يقتضي نقصاً فيه ولا عجزاً ولا تشبهاً بالمخلوق أبداً، واشتراكها في الاسم مع صفات المخلوق لا يقتضي نقصاً لها، فالمخلوق قد يشترك مع المخلوق بالاسم وشتان بينهما، فللإنسان عين وللفيل عين، لكن شتان بين عين الفيل وعين الإنسان، وقد قال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)، فالجنة فيها اللبن والدنيا فيها اللبن، فهل هذا اللبن مثل اللبن الذي في الجنة؟ شتان بينهما. والجنة فيها خمر والدنيا فيها خمر، لكن شتان بين خمر الجنة وخمر الدنيا، والجنة فيها ماء والدنيا فيها ماء، لكن شتان بين الماء الذي في الدنيا والماء الذي في الجنة. كذلك مثال آخر، فأقرب شيء إلى الإنسان نفسه التي بين جنبيه، وهو يعلم أن له روحاً يؤمن بها، وأنها تصعد وتعرج وتنزل وتذهب وتستقر، وترضى وتغضب، ومع ذلك لا ينكر شيئاً من هذه الصفات؛ لأنه يحس بها في داخله ولا يمكن أن يصورها بوجه من الوجوه، ولا يدرك لها حقيقة، وكثير من الناس اليوم يقولون: نحن نطبق المنهاج التجريبي على كل شيء. فينكرون الإيمان بالله؛ لأنهم يقولون: الحقائق كلها أصبحت علمية تجريبية. لكن يقال لهم: ألا تؤمنون أن لكم أرواحاً وعقولاً؟ فإذا قالوا: ليس لنا أرواح وعقول قلنا: أنتم إذاً أحجار أو أشجار فلا نتكلم معكم. وإذا قالوا: لنا أرواح وعقول فنقول: صفوها لنا! فما صفة عقلك أنت وما صفة روحك؟ فإذا شهد على ذلك وسلم وقال: أنا أؤمن بأن لي روحاً وعقلاً لكن لا أستطيع وصفها نقول: كيف تنكر هذا عن رب العالمين وتقر به لمخلوق ضعيف؟ فآمن بالله، واعلم أنك عاجز عن معرفته، فكما عجزت عن معرفة روحك التي هي أقرب شيء إليك فأنت معذور إذا عجزت عن معرفة الله عز وجل. ومن هنا فإن صفات الله عز وجل التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم من عنده التي وصف بها نفسه في القرآن ووصفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الصفات الإيجابية. القسم الثاني: الصفات السلبية. فالصفات الإيجابية جاءت على وجه التفصيل، والصفات السلبية جاءت على وجه الإجمال، فالصفات السلبية مثل قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] , وهي نافية للنقص عنه، والصفات الإيجابية مثل العلم، والحياة، والقدرة، وغيرها من الصفات التي أثبتها الله عز وجل لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن نفصله تفصيلاً آخر فنقول: تنقسم إلى: صفات ذاتية. وصفات فعلية. فالصفات الذاتية مثل الوجود الذي يمكن أن نقول فيه: (الحق) بدل الموجود، ومثل الأولية التي يقول فيها المتكلمون: (القدم)، ومثل البقاء والدوام، ومثل الغنى ونحو ذلك، فهذه صفات ذات، ومنها أيضاً الوجه، والعين، واليدان، والساق، والقدم، فهذه صفات ذاتية. أما الصفات الفعلية فهي تنقسم إلى قسمين: صفات اختيارية، وصفات دائمة. فالصفات الاختيارية هي مثل الكلام بمعنى التكلم، والنزول، وكذلك الخلق والرزق والإماتة والإحياء، وغير ذلك من الأفعال كالغضب والرضا والرحمة والمحبة والسخط ونحوها، فهذه صفات اختيارية. والصفات الدائمة من الصفات الفعلية كصفة الاستواء؛ فإنه قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] , بصيغة الماضي، فليس ذلك مثل غيره من الأفعال التي تكون بصيغة المضارع، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا). فهذه الصفات يجب الإيمان بها، والإيمان بها يقتضي الإيمان بكمال الله عز وجل وجلاله وجماله وتمام التعلق به ومحبته، وكذلك يقتضي التوكل عليه وحده وعدم منازعته في شيء من أمره، فهو الذي يقول: (الكبرياء ردائي، ومن نازعني ردائي قصمته) , (قصمته) ومعناه: أهلكته وقطعت دابره. فهذه الصفات يجب الإيمان بها بالإجمال، ولا يجب التفصيل، ولهذا لم يعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل الناس، وكثير منها إنما جاء في أحاديث آحاد، كثير من صفات الله جاءت في أحاديث يرويها آحاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمها لكل الناس، فلا يجب أن نمتحن الناس عموماً بصفات الله، بل لا يجب على كل الناس أن يتعلموا ذلك. كذلك أسماء الله، فقد سمى الله تعالى نفسه بكثير من الأسماء في كثير من اللغات، وهذه الأسماء كلها كذلك تدل على صفات، وتدل على كمال وجلال، وكلها تقتضي محبته ودعاءه والتوكل عليه، وهي تنقسم إلى أسماء للتعلق والتخلق، وأسماء للتعلق فقط. فالأسماء التي هي للتعلق والتخلق مثل: الرحمن الرحيم، والعفو الرؤوف، والحليم الكريم، ونحو ذلك. والأسماء التي هي للتعلق -فقط- مثل: الله، الجبار، المنتقم، ذي الجلال والإكرام، القيوم.

توحيد الله في ربوبيته

توحيد الله في ربوبيته توحيد الله في ربوبيته معناه: الجزم بأنه هو الواحد الأحد الذي خلق هذا العالم، وليس للعالم رب سواه، وهذا التوحيد هو أصل الإيمان؛ لأنه ينبني عليه كل ما بعده، فما بعده كله تابع له، فمن اعتقد تعدد الآلهة أو أن للعالم خالقاً غير الله لا ينفعه أي توحيد آخر بعد هذا. ولهذا فإن المشركين الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثير منهم يؤمن بتوحيد الربوبية، فكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك. أنت تملكه وما ملك. وكذلك فإن الله تعالى أثبت عليهم هذا التوحيد في القرآن في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63] , فلم يكونوا يخالفون في هذا التوحيد إلا نادراً. والذين يخالفون في هذا التوحيد أجناس، منهم الدهرية، والطبيعيون الذين نسميهم في زماننا هذا بالشيوعيين، الذين ينكرون وجود إله أصلاً، ويزعمون أن هذه الحياة مادة، وأن طبيعة العالم تفرز الطفرات، وأن الطفرة الكبيرة التي اقتضت الانقسام بين السماء والأرض، واقتضت توزع الكائنات هي منشأ هذا العالم، ومنها تغيرت الأمور وكانت بطبيعتها تتولد وتحتك، والاحتكاك الدائم الذي فيها يقتضي حصول تنوع شديد، وهذا الذي قالوه رد الله عز وجل عليه في كتابه بآية هي أبلغ دليل على هذا، وأبلغ دليل على إنكار تأثير الطبيعة هي قول الله سبحانه وتعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4]. لو كانت الطبيعة مؤثرة فما الفرق بين هذه البقعة في هذا المتر الواحد يخرج فيه أجناس من النبات متفاوتة متباينة الألوان، ومتباينة الطعوم، ومتباينة الرائحة، وقد نبتت في تربة واحدة، وسقيت بماء واحد؟! {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4] طعمها مختلف، فالمكان الواحد تخرج فيه نخلة، وتخرج علقمة، وتخرج وردة، وتخرج ثمرة أخرى مباينة لها، فتجد الشبر الواحد من الأرض فيه ألوان متلونة، فلو كانت الطبيعة هي التي أثرت فيها لجاءت جميعاً على شكل واحد وطعم واحد وفائدة واحدة، فعلم أن هذا بإرادة الله وتقديره، وأنه لا يمكن أن تقع طفرة دون مؤثر؛ لأن كل فعل لا يقبل العقل حصوله دون تأثير ودون مؤثر، وهذا المؤثر لا يمكن أن يكون جاهلاً به؛ إذ لو كان جاهلاً به لاختلطت الأشياء واختل نظامها. ولا يمكن أن يكون قد خفي عليه، لتمام تناسقه وانسجامه، فعلم بطلان اعتقاد الطبائعيين، علم بطلانه عقلاً بهذه الآية، وعلم بطلانه لما يترتب عليه من فساد العالم كله، فلو كانت الطفرة التي يزعمونها صحيحة فلماذا تأخرت ولم تقع طفرة أخرى في آلاف السنين التي تأتي؟ ومن الذي حدد وقت تلك الطفرة؟ وما هي العوامل التي عملت على وقت تلك الطفرة ولم تعمل على ذلك في زماننا هذا؟ لماذا لا يقع انفجار كبير كما يزعمون في آلاف السنين التي جاءت بعد ذلك؟ إن هذا رد واضح وصريح على هذه الطائفة التي تنكر الإلهية؛ وطائفة الدهرية نسبةً إلى الدهر، وهذه من النسبة الشاذة، ولغة العرب فيها شواذ النسب، مثل الدهريين، ومثل الطبعيين، ومثل الخرفيين، وغيرها من النسب الشاذة. كذلك من الذين ينكرون توحيد الربوبية الذين يزعمون أن لهذا العالم خالقين وهما: النور، والظلمة. وهؤلاء يسمون بالمانوية، وهم يزعمون أن النور هو إله الخير، وأن الظلمة هي إله الشر، وأنه لا خالق لهذا العالم سوى هذين الإلهين، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وجوابهم العقلي أن يقال: زعمتم أمرين موجودين في هذا العالم مؤثرين فيه، فمن خلقهما؟ هل خلقا أنفسهما أو خلقهما إله ثالث؟ وهنا لا بد أن نصل بهم إلى الدور أو التسلسل، فالدور أن يرجعوا من حيث بدؤوا، فيقال: النور خلقته الظلمة والظلمة خلقها النور. فيأتي الدور المستحيل؛ لأنه يتوقف كل واحد منهما على وجود الآخر فينعدمان ولا يكونان أبداً. أو نذهب إلى التسلسل، فيقولون: النور والظلمة خلقهما إله ثالث، وذلك الإله الثالث خلقه إله آخر، وهكذا حتى يصلوا إلى حوادث لا أول لها، وهذا يمنعه العقل. ولذلك يقول أبو الطيب المتنبي: وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب فظلام الليل استفاد منه كثيراً في مغامراته وهروبه، فقال: إن ظلام الليل يخبر أن المانوية تكذب، فليس هو إله الشر؛ لأنه أتى بالخير. كذلك الذين يزعمون أن هذا الكون إلهه فرعون -مثلاً- من عباده، حيث زعم هو أنه لا إله لهم سواه، وأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وقد كذب نفسه؛ لأنه حكم على نفسه بجهله بالسماوات وما فوقها بقوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ} [غافر:36 - 37] , فكيف تخلقها وأنت تجهلها وتجهل ما فوقها؟ فقد رد على نفسه. إذاً: فالمخالفون في توحيد الربوبية قلة، والموجود منهم في زماننا هذا هم الشيوعيون وبعض عبدة الأوثان في الديانات الهندية فقط.

توحيد الله في إلاهيته

توحيد الله في إلاهيته أما توحيد الإلهية فمعناه: توحيد الله بالعبادة بحيث لا يعبد إلا هو، ولا يدعى إلا هو، ولا تعلق الحوائج إلا به، ولا يشرع إلا هو، وهذا التوحيد يخطئ فيه أكثر الناس، فلذلك احتاج إلى بيانه أكثر مما سواه. فمثلاً: في مجال العبادة لا يمكن أن يستحق العبادة إلا الخالق الرازق المدبر الحي القيوم الدائم الذي لا تخفى عليه طرفة عين، ولا يغفل، ولا تأخذه سنة ولا نوم، فهو وحده المستحق للعبادة، ولا يمكن أن يعبد من سواه أبداً. ويدخل في العبادة السجود له، ولا يخالفه في ذلك إلا الذين يعبدون الأصنام أو يسجدون لها، وهؤلاء لا يلحدون في توحيد الربوبية؛ لأنهم يزعمون أن هذه الأصنام مملوكات لله، وإنما يتقربون بها إلى الله فقط، ولذلك قال الله تعالى حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] , فهم لا يعبدون هذه الأصنام لأنهم يزعمون أنها خالقة، ولكنهم يعبدونها تقرباً إلى الخالق فقط، فهؤلاء يخالفون في توحيد الألوهية ولا يخالفون في توحيد الربوبية، ومثل هذا الذين يعبدون غير الله ببعض العبادات المخصوصة، فلا يصلون لغير الله ولا يصومون لغير الله، ولكن يذبحون لغير الله، مثل الذبح للأصنام، والذبح للقبور ونحوها، فهذا عبادة لغير الله؛ لأن الذبح عبادة مختصة لله، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن في صحيفة رسول الله صلى الله عليه سلم التي أعطاه: (لعن الله من ذبح لغير الله). كذلك من العبادات النذر، فكثير من الناس لا يصلي إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يحج إلا لله، ولكنه ينذر لغير الله. والنذر عبادة؛ لقول الله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] , ولقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] , فمن نذر لغير الله فقد أشرك؛ لأن النذر عبادة مختصة لا تحل إلا لله، فهي مثل الصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك. ومن هنا احتيج إلى بيان معنى النذر الذي يجهله كثير من الناس، فالنذر معناه: إيجاب ما ندب تقرباً لله تعالى وشكراً له أن يتقرب الإنسان إلى الله بأن يلزم نفسه بطاعة مندوبة، فما ليس مندوباً من المباحات لا يمكن أن يكون نذراً، كمن نذر أن يشرب كأساً من الشاي، أو أن يشرب كأساً من الماء، فهذا لا يسمى نذراً؛ لأنه مباح وليس عبادة. ومن نذر واجباً فقد كان واجباً قبل هذا ولم يستفد من النذر شيئاً، ومن نذر مندوباً فقد تأكد حكمه وازداد أجره بسبب نذره، ولكن هذا النذر ينبغي أن لا يكون مشروطاً، وأن لا يكون مكرراً، فالنذر المشروط هو الذي يقول صاحبه: إن نجحت في الامتحان فسأصلي ركعتين شكراً لله. وينذر بذلك، أو: أتصدق بكذا. أو: أحج. أو: أصوم. أو نحو ذلك، فهذا النذر المشروط أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يرد من قدر الله شيئاً، وإنما ينتزع الله به من يد البخيل) , فالذي يفعله بخيل في تعامله مع الله، حيث يشرط على رب العالمين، فجعل نفسه بخيلاً بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، ولذلك لا يصدر من أهل الإيمان الكامل. والنذر المكرر قد يوقع الشخص في حرج، كمن نذر أن يصوم يوم الإثنين دائماً، أو يوم الخميس دائماً، فربما أتاه ذلك اليوم وهو عاجز عن صيامه، أو مشغول بأمر لا يستطيع التخلص منه، فلذلك كره هذا النذر المكرر، وإنما يطلب النذر إذا أقبل الشخص على عبادة مندوبة، فأراد أداءها وتيسرت له أسبابها، فينذرها ليكون ذلك زيادة في الأجر، كمن يجلس في مصلاه وينتظر صلاة المغرب، ويعلم أنه ليس لديه شغل سيقيمه من هذا المسجد. وقبل النذر قد كان الفعل مندوباً فصار واجباً يثاب عليه ثواب الواجب. كذلك من العبادات التي يشرك فيها الناس الحلف، فالحلف عبادة، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). وكان الناس يحلفون بآبائهم في الجاهلية، فسمع رسول الله صلى عليه وسلم عمر بن الخطاب يحلف بأبيه فدعاه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم! من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) , وكانوا يحلفون بأصنامهم في الجاهلية، فدأب بعض الناس على ذلك في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله) , فالحلف بغير الله عبادة لمن حلف به. كذلك الشرك في التشريع فهو شرك في الإلهية، فالله وحده هو الذي يشرع لعباده ما شاء، وسبب ذلك أنه وحده العالم بحياتهم ومماتهم ومصالحهم الدنيوية والأخروية، ولا يعلم أحد منهم متى يموت، ولا في أي أرض يموت، ولا ما يكسب غداً، ولا يمكن أن يطلع على مصالحه هو، بل تخفى عنه، ولذلك نرى كثيراً من الناس يجتهد في أمر فيه له مضرة، يجتهد أن يسافر سفراً هو فيه على موعد مع ملك الموت، ويتحرك حركة معينة فينكسر منه عضو بسبب تلك الحركة، ويخرج لحاجة غير مهمة فيصادفه قدر من قدر الله يصيبه بمصيبة عظيمة، كل هذا يدل على أن الإنسان جاهل بمصالحه، ومن كان جاهلاً بالمصالح والمفاسد لا يمكن أن يشرع شيئاً؛ لأن التشريع أصله على معرفة المصالح والمفاسد، ولذلك قال الله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] , فالذي هو اللطيف الخبير بالناس هو الذي يستطيع أن يشرع لهم ويعرف مصلحتهم. فإذا شرع شيئاً فأباح أو حرم أو أوجب فذلك لمصلحة بني آدم لا لمصلحته هو، فلا يصل إليه نفع ولا ضرر من ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:36 - 37] , فهذه الأنعام لا ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولا يمكن أن يصل إليه نفع منها، ولا أن يوصل إليه المخلوق نفعاً ولا ضرراً، ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فالتشريع من اختصاصات رب العالمين لا يمكن أن ينازعه فيها أحد، فمن شرع فقد أشرك، ولهذا قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] , فكل من سن قانوناً أو وضع تشريعاً مما لم يأت به محمد صلى الله عليه وسلم فقد أشرك مع الله عز وجل من شرع لهم. ومن هنا فإن اليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مشركين، يشركون أحبارهم ورهبانهم في الإلهية؛ لأنهم يحلون لهم الحرام فيستبيحونه، ويحرمون عليهم الحلال فيتركونه، وهذا مقتض لعبادتهم، ولهذا قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:31] , وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله أنه قال: (يا رسول الله! ما عبدناهم من دون الله! قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتستحلوه؟ قال: بلى. قال: ألم يحرموا عليكم الحلال فتتركوه؟ قال: بلى. قال: فقد عبدتموهم) , وهذه عبادته، ولهذا جعل الله تعالى القوانين ديانة، فيسمى القانون ديناً، كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] , معناه: في قانون الملك {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:76]، فكل قانون غير شرع الله فهو دين أراد به صاحبه نسخ دين الإسلام وتغييره، فهو إشراك بالله العظيم عز وجل. كذلك من الإشراك في الإلهية الإشراك في محبة الله عز وجل ومسألته، فإن الله وحده هو الصمد الكريم الغني الحميد الذي يستحق أن ترفع إليه الحوائج كلها، وأن ترفع إليه الأيدي في كل المطالب، فمن تعلق قلبه بمخلوق فأصبح يعلق به حوائجه ويخافه ويطمع فيه ويسأله فقد أشرك هذا الشرك، فدعوة غير الله مثل الاستغاثة بمخلوق أو مسألته أمراً لا يقدر عليه شرك بالله، كمن سأل مخلوقاً أن ينزل المطر، أو أن يكفر عنه ذنبه، أو أن يدخله الجنة، أو أن يجيب عنه الملكين، أو أن ينور له قبره، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، أو أن يرزقه ولداً أو مالاً أو نحو ذلك، فهذه أمور لا يقدر عليها المخلوق، فالخلق والرزق من عند الله وحده. ومن هنا فإن دعوة المخلوق شرك بالله، ولهذا قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14] , وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] , وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْ

الإيمان بالملائكة

الإيمان بالملائكة الركن الثاني من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة. إن لله تعالى جنوداً لا نعلمها: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] , وهذه الجنود منها جند الملائكة، وهم من أكثر جنود الله تعالى عدداً ومن أقواهم، وقد خلقوا من نور، وهم عباد مكرمون: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] , {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] , وهؤلاء منهم المقربون -وهم أفضلهم- كجبريل روح القدس الأمين عليه السلام، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك خازن النار، وملك الموت، فهؤلاء من الملائكة المقربين، ومنهم حملة العرش الذين شرفهم الله تعالى بحمل عرشه عز وجل، وهم أربعة في الدنيا وثمانية يوم القيامة: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]. وهؤلاء الملائكة يجب الإيمان بوجودهم، وبكونهم معصومين من المعصية، وبأنهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] , والإيمان بهم مؤثر في الإنسان؛ لأنه مطالب بأن يحاكيهم ويضاهيهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟!). وكذلك في الصوم، فإن الإنسان يصوم ليباهي الملائكة، وكذلك في الحج، فإن الناس يقفون بعرفة لمباهاة الملائكة، فالإيمان بهم مقتض من الإنسان المبالغة في التعبد لله واجتناب معاصيه؛ لأن الإنسان الذي يعلم أن لله عباداً آخرين يطيعونه غاية الطاعة وهو يريد الانتساب إلى الله ويريد أن يكون عبداً لله فسيحاول أن ينافس هؤلاء في طاعة الله، ويحاول أن يبتعد عن المعصية، فكلما زينت له نفسه أو شيطانه الوقوع في المعصية تذكر أن لله عباداً آخرين في حضرته لا يعصون أمراً ولا يخالفونه، ولا يقعون في أية معصية، فكف عن ذلك، ومن هنا كان المثال في هذا الباب مهماً جداً، حيث قال الله تعالى بعد سرده لأسماء ثمانية عشر من الأنبياء عليهم السلام في سورة الأنعام قال بعده: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]. والمقصود بقوله: (هؤلاء) الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، وقوله تعالى: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:89 - 90] , هؤلاء هم الذين هداهم الله عز وجل وجعلهم قدوة للناس، بين سبحانه وتعالى أن معصية الآخرين له لا تقتضي نقصاً في طاعته، فله جنود آخرون يطيعونه ولا يعصون له أمراً.

الإيمان بكتب الله السماوية

الإيمان بكتب الله السماوية الركن الثالث من أركان الإيمان: الإيمان بكتب الله. والمقصود بكتب الله الإيمان بكلامه، فالله سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء بما شاء، ويشرع لعباده ما شاء، وكلامه نوعان: كلمات خلقية. وكلمات تشريعية. فالكلمات الخلقية هي الكلمات القدرية، مثل قوله لهذا: (كن فيكون)، وقوله لهذا: (مت)، وقوله لهذا: (اذهب) وقوله لهذا: (اجلس)، وهذه الكلمات يقف عندها البر والفاجر، لا يتعداها بر ولا فاجر، فإذا قال لأحد: (مت) لا يستطيع أن يتأخر لحظة واحدة، حتى لو كان أشد وأعتى أعداء الله، ولما قال لـ أبي جهل: (مت) هل استطاع أن يتأخر؟ ما استطاع أن يتأخر. إذاً هذه هي الكلمات الكونية، وهي كثيرة جداً غير محصورة في عدد محدد، ولا ينزل بها الملائكة، ولا تنزل وحياً، وإنما يخاطب الله بها من شاء في كل اللحظات، وهي المذكورة في قول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] , وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] , وهي المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109] , وفي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]. أما الكلمات التشريعية فهي التي يشرع الله بها ما شاء لعباده، ويفصل فيها ما شاء من الأحكام، وهذه محصورة العدد لا تنزل إلا على الأنبياء، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] , وهذه هي الكتب المنزلة يقف عندها البر ويتعداها الفاجر، قال لـ أبي جهل: (آمن)، فلم يؤمن ولم يقبل، فإذا قال للكافر: (صل) فيمكن أن يمتنع من ذلك، وإذا قالها للبر المؤمن بادر إلى ذلك، إذا سمع المنادي ينادي: (حي على الصلاة. حي على الفلاح) توضأ وجاء مقبلاً إلى المسجد ليصلي، فهذه الكلمات التشريعية يقف عندها البر، ويتعداها الفاجر، وهي محصورة العدد، وهي الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ونزل بها جبريل عليه السلام، وهو أمين الوحي عليهم، وهذه يقع فيها النسخ والتأخير والإنساء، ولا يقع ذلك في الكلمات القدرية، والكلمات القدرية يقع فيها تجاذب إرادتين، مثل قول الله تعالى -فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم-: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه) , هذا تجاذب الإرادتين، لكن لا يمكن أن يقع فيها النسخ ولا التغيير، قال تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. أما الكلمات التشريعية فنزلت الشرائع على الأنبياء، ونسخ منها ما لا يتلاءم مع الوقت الذي يأتي فيه أنبياء جدد، حتى استكمل ذلك بهذا الكتاب الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فنسخ كل ما سبقه وكان مهيمناً عليه، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا لا يمكن الزيادة فيه اليوم ولا النقص منه، فهو محفوظ: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].

الإيمان بالكتب السماوية إجمالا وتفصيلا

الإيمان بالكتب السماوية إجمالاً وتفصيلاً والإيمان بكتب الله عز وجل يقتضي الإيمان بها إجمالاً، أن الله أنزل على رسله كتباً من عنده لم يكذبوا فيها ولم يفتروها: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف:111] , وأن هذه الكتب فيها تشريع يتلاءم مع القول الذي أنزلت فيه، وفيها ذكر لله، وكلها مجمعة على توحيده ومحبته والإيمان به. ويجب الإيمان تفصيلاً بأربعة منها، وهي: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن. فهذه الكتب الأربعة يجب الإيمان بها تفصيلاً، فالتوراة هي: الكتاب المنزل على موسى، والإنجيل هو الكتاب المنزل على عيسى، والزبور هو الكتاب المنزل على داود، والقرآن هو الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الإيمان بها يدخل في الإجمال؛ لأن القرآن لا يجب أن يحفظه الإنسان كاملاً عن ظهر قلب، ولكن يجب عليه أن يصدق أن الله أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع شيئاً لا يعرف هل هو من القرآن أو لا لا يقتضي ذلك كفراً؛ لأنه غير ملزم بحفظ القرآن بكامله. ومن هنا فإن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم شغلوا بالجهاد ونشر الدعوة عن حفظ القرآن، فكان كثير منهم لا يحفظ القرآن بكامله، فكان خالد بن الوليد رضي الله عنه لا يحفظ القرآن كاملاً، وكان في أكثر أوقاته أميراً، والأمير يلزمه أن يصلي بالناس فهو إمامهم، والإمامة الصغرى فرع عن الإمامة الكبرى، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأئمة في آخر الزمان لما سئل عن الخروج عليهم ومقاتلتهم قال: (لا. ما أقاموا فيكم الصلاة) , والحديث في صحيح مسلم. فقوله: (ما أقاموا فيكم الصلاة) معناها: ماداموا يصلون لكم أئمة ويخطبونكم على المنابر ويؤمونكم في المساجد فلا تخرجوا عليهم ولا تقاتلوهم، أما إذا تركوا ذلك فلا، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا. ما أقاموا فيكم الصلاة). فـ خالد بن الوليد ما ترك الإمامة؛ لأنه مسئول عنها شرعاً، لكن لم يكن يحفظ القرآن بكامله، فكان إذا صلى صلاة من ذوات الطول يقرأ فيها من آيات معينة، ثم يأتي بسورة أخرى، ثم إذا سلم التفت إلى الناس فقال: (شغلنا بالغزو عن حفظ القرآن فقرأنا لكم ما تيسر منه) يقرأ تارة من البقرة، وتارة من النساء، وتارة من آل عمران. كذلك لا يجب الإيمان تفصيلاً بما في التوراة وما في الإنجيل وما في الزبور، فما ورد في القرآن من ذلك فيلزم التصديق به، مثل التصديق بالقرآن، مثل قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] , وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] , وأما ما لم يرد في القرآن تصريح بنسبته إلى أحد هذه الكتب فلا يجب الإيمان به، ولا تصديق اليهود والنصارى فيه، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد). ولا شك أنهم قد حرفوا وبدلوا وغيروا، وشهد عليهم القرآن بذلك، ومن تمام تغييرهم أن الله أخذ عليهم العهد باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فلم يتبعوه ولم يصدقوه، وهذا غاية التغيير والإخلال بالعهد، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك لم يصدقوه ولم يتبعوه، فهذا غاية التحريف والتبديل؛ لأن الله أخذ عليهم العهد المؤكد إذا أتاهم أن يؤمنوا به ويصدقوه.

تعظيم كتب الله واعتقاد أن القرآن هو الصالح للتشريع

تعظيم كتب الله واعتقاد أن القرآن هو الصالح للتشريع ثم من الإيمان بهذه الكتب الإيمان بأنها الصالحة وحدها، فالقرآن وحده هو الصالح للتلقي والتشريع، الصالح صلاحاً مستمراً إلى أن يرفعه الله تعالى، وهو المرجع في كل الأمور، وإذا جاء الكلام فيه لابد أن يتوقف الإنسان عنده، وكان عمر وقافاً عند القرآن، يناقش في كل الأمور فإذا جاءت آية من كتاب الله وقف، فالقرآن هو الحاكم، ولا بد أن يستسلم له الناس، وإذا جاء فيه كلام من عند الله فلابد أن ينظر إليه الإنسان بنظرة أنه خطاب من عند الله له هو، فهو عبد لله، وهذا بيان من عند الله إليه: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ} [إبراهيم:52]. ومن هنا وجب أن يحب الناس هذا القرآن، ووجب أن يتدبروه وأن يتعلموه، وتدبرهم له مستويان: المستوى الأول: تدبر أهل العلم، وهم الذين يستطيعون الاستنباط والتفهم فيه، ولا يختص هذا بالعلماء، بل كل من يفهم شيئاً من العربية يمكن أن يحصل على قسط من هذا التدبر، فإذا قرأ المصحف حاول أن يتفهم في كل آية، فإذا جاءت موعظة وإذا جاءت حكمة وإذا جاء تذكير بادر إلى الإيمان بذلك وأحبه حباً شديداً. المستوى الثاني من التدبر: تدبر الجهال، وهو حصول المحبة له، فمن لا يفهم العربية إذا قرأ القرآن غير ملزم بأن يتدبر شيئاً لا يفهم معناه بمعنى: التفكر في ألفاظه ومعانيه، لكنه ملزم بمحبته، أن يقول: كل من عند ربنا. وأن يحبه حباً شديداً، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون، فهذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عندما أتاه الموت وهو في سكرات الموت أخذ المصحف وجعل يضعه على خديه ويقبله ويقول: كلام ربي. كتاب ربي. من حبه للقرآن، فلابد أن يكون الإنسان محباً له بهذا المستوى من المحبة، وهذا القدر من التدبر مشروط على كل الناس، أما التدبر في تفهم المعاني فهو مختص بمن يستطيعه.

تمام الإيمان بالقرآن

تمام الإيمان بالقرآن من تمام الإيمان بالقرآن التصديق بما فيه من الخبر، سواءٌ أكان خبراً عما مضى أم خبراً عما يأتي في المستقبل، وكذلك معرفة ما فيه من الآيات، وعدم ضرب بعضه ببعض، وعدم اتباع ما تشابه منه، وأن يحكم محكمه وأن يؤمن بمتشابهه، وأن لا يعرض عنه الإنسان. كذلك من تمام الإيمان به قراءته وعدم الإعراض عنه، فالذي ليس في قلبه منه شيء كالبيت الخالي، ومن هنا كان على المؤمنين جميعاً أن يعلموا أولادهم هذا القرآن في صباهم، وأن يحببوه إليهم، وأن لا يجعلوهم ينفرون منه، وكثير من الذين يعلمون القرآن مع الأسف ينفرون الصبيان من القرآن، فيجعلونه وقتاً للمشقة والإهانة والضرب والتعذيب والتحقير، فينشأ الصبي مبغضاً للقرآن غاية البغض، وهذا -نعوذ بالله- سوء تربية، بل على الذين يعلمون الناس القرآن أن يعلموا أنهم ذووا مسئولية عظيمة، وأنهم أفضل هذه الأمة وخيرها؛ لما أخرجه البخاري في الصحيح عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) , وهو يعلم أنه وكيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم القرآن، وأنه أمين من عند الله على كتابه، فيتشرف بهذه المسئولية، ويحرص عليها تمام الحرص، ويحاول أن يحبب هذه المادة إلى قلوب الصبيان، وأن يجعلهم يتنافسون فيها بأنفس رفيعة، ويعلمون أن مستوى فضلهم هو المستوى الذي وصلوا إليه وحصلوا عليه من القرآن، فإنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: (اقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). ومن هنا ينبغي أن نغير النظرة في تعليمنا لأولادنا القرآن، وأن نحاول أن نحببه إليهم بمختلف الوسائل، وأن نجعله مكاناً للتنافس في الخير، وأن نحبب إليهم تدبره وتفهمه، وأن لا نجعلهم يحفظون حروفه دون حدوده، وكثير من الناس -مع الأسف- لا يعتني بحروفه ولا بحدوده، فالصبيان يحفظونه هذرمة ولا يتقنون تجويد آية منه، والذين يدرسونه أيضاً لا يهتمون بتفسيره، تمر عليهم الآية عدة مرات وهم لا يفقهون كلمةً فيها، ولا يسألون عنها، ولا يبحثون عنها في أي تفسير، وهذا من رفعه؛ لأن الإعراض عنه وعدم تحكيمه بالنهار وعدم القيام به في الليل من رفعه. فإن من الإيمان بالكتب المنزلة الإيمان بأن هذا القرآن سيرفع، يسرى عليه فيمحى من الصدور والمصاحف، وذلك إذا جاء أمر الله كما قال تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:86] , وقد جاء في الأحاديث: (أنه سيسرى عليه في ليلة من الليالي، فيمحى من الصدور والمصاحف)، فهذا هو الركن الثالث من أركان الإيمان.

الإيمان بالرسل

الإيمان بالرسل أما الركن الرابع من أركان الإيمان فهو الإيمان برسل الله، والرسل: جمع رسول. والرسول في اللغة يطلق على الرسالة التي يحملها الإنسان إلى غيره، ومنه قول الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلى وما أرسلتهم برسولي أي: برسالتي. وحامل تلك الرسالة يسمى رسولاً أيضاً؛ لأنه مرسل بالرسالة, والرسل: هم الذين أرسلهم الله لبيان شرعه، وهم من الملائكة ومن البشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ} [الحج:75] , ولا يكون اصطفاؤهم إلا على أساس الاختيار والاجتباء الرباني، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] , فهو: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]. وقد بدأ الرسل بآدم عليه السلام، فقد أرسل إلى ذريته، لكنه أرسل قبل اهباطه إلى الأرض، فلذلك ليس من رسل أهل الأرض، فأول رسل أهل الأرض هو نوح عليه السلام. وأما آدم فقد أرسل في الجنة إلى حواء وإلى ما بعد ذلك من ذريته، لكن لم يرسل إلى البشرية كافة، ونوح هو أول رسول إلى أهل الأرض كافة، ثم ختم الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهو آخر الأنبياء وآخر المرسلين، كما قال تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] , فهو خاتم النبيين لا نبي بعده. وهؤلاء الرسل لا يكونون إلا أنبياء لله، واختلف في تحديد معنى النبي والرسول، وأرجح الأقوال في ذلك أن النبي هو الذي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بدعوة الناس إليه وإدخالهم فيه، والرسول هو الذي أوحي إليه بشرع وأمر بدعوة الناس إليه وإدخالهم فيه، ولكن رسالاتهم متفاوتة، فمن الرسالات ما يكون تجديداً لرسالة سابقة، كرسالة يحيى مجددةً لرسالة زكريا، وكذلك رسالة عيسى مجددةً لرسالة موسى، وإن كانت مخففةً في بعض أحكامها، كما قال تعالى حكاية عنه: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} [آل عمران:48 - 49]. وكذلك بين أنه يخفف عنهم بعض ما حرم عليهم: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] , فهذا تخفيف ونسخ من شريعة موسى بشريعة عيسى، لكن ليست ناسخة لكامل شريعة موسى. ومنهم من تكون رسالته لإصلاح خلل وقعت فيه البشرية، كشعيب عليه السلام، فإنه أرسل لعلاج الظلم الذي حصل في المكيال والميزان، ولوط عليه السلام الذي أرسل لإصلاح الخلل الذي وقعت فيه البشرية من الشذوذ الجنسي وغيره.

ما يختص به محمد صلى الله عليه وسلم عن بقية الرسل

ما يختص به محمد صلى الله عليه وسلم عن بقية الرسل ومنهم من تكون رسالته عامة شاملة، ولهذا قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] , ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أعمهم رسالة، ويختص عنهم بكثير من الخصائص، منها: أن الأنبياء قبله كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وأرسل صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة. ومنها: أنه خاتمهم، وأنه المختص بالشفاعة الكبرى والصغرى دونهم يوم القيامة. ومنها: أنه أحلت له الغنائم، وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، وكذلك الحوض المورود الذي خص به يوم القيامة ترده أمته، فيذاد عنه من غير وبدل، ويطردون كما تطرد غرائب الإبل، ويرده الذين تبيض وجوههم يوم القيامة، ويطرد عنه الذي تسود وجوههم، وهم الكاذبون على الله المغيرون المبدلون، وكذلك يطرد عنه الذين يعينون أهل الظلم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح أنه قال: (سيستعمل عليكم في آخر الزمان أمراء يظلمون الناس ويؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد علي الحوض) , فهذا ثمن الحوض، وممالأة الظالمين ومساعدتهم مانعة من الشرب من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. كذلك يختص عنهم فيما يتعلق بالإيمان، أن يؤمن الإنسان بأن شرعه ناسخ لما سبق، وأنه لا يقبل الله من أحد إلا ما جاء به بعد مجيئه، وأن كل خير اليوم ليس من طريق محمد صلى الله عليه وسلم فهو مردود، وليس خيراً، فالخير كله ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يأتي أحد بتكميل لما جاء به، فقد أكمله الله في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]. وكذلك الإيمان بصفات الأنبياء المشروطة فيهم، وهي العصمة، والأمانة، والتبليغ، وعلو المنزلة، فهذه صفات الأنبياء جميعاً، كلهم يتصفون بالصدق والأمانة والتبليغ والعصمة. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تمام الإيمان به أن يؤمن الإنسان بأنه صلى الله عليه وسلم قد ترك أمته على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وأن خير هذه الأمة القرن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأن خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم بقية أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وأحل الله عليهم رضوانهم الأكبر الذي لا سخط بعده وأنزل فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح:18] , وفيهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة). وكذلك من تمام ما يتعلق بهؤلاء الصحابة أن نعرض عما شجر بينهم، وأن نلتمس لهم العذر فيما وقع منهم من الخطأ، وأن نعلم أنهم بشر غير معصومين يخطئون ويصيبون، ولكنهم أولى الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس بأن يلتمس لهم أحسن المخارج، وأن يظن بهم أحسن الظنون، وأن لا يعادى أحد منهم، فهم أولياء الله، ومن عادى لله ولياً فقد آذنه بالحرب, فلا يعلن العداء على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون إلا بخير، ويلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المظان، وهم خيرة هذه الأمة الذين اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس بشفاعته؛ لأنه يعرفهم، وجاهدوا معه وصحبوه، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم -فيما أخرج عنه البخاري في الصحيح-: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقال: نعم. فيفتح لهم, ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم, ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم) , فهذه القرون الثلاثة المزكاة التي زكاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي خير هذه الأمة وأفضلها.

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر الركن الخامس من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر. والمقصود بذلك الإيمان بالدار الآخرة المقابلة لدار الدنيا، فدار الدنيا معناها: دار العاجلة، وهي مختلف في وصفها هذا هل هو مشتق من الدناءة؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عنده جناح بعوضة لما أطعم منها كافراً شربة ماء، أو مشتقة من الدنو لقربها؛ لأنها قبل الآخرة؟ والآخرة هي التي بعد هذه الدار الدنيا، والآخرة عبارة عما بعد نهاية هذه الدنيا، وليست منتهية إلى زمان، بل هي مستمرة إما إلى جنة وإما إلى نار، وأهل الجنة في نعيم دائم لا ينقطع، وأهل النار في عذاب مستمر دائم لا ينقطع، لكن قبل ذلك تقع مشاهد وأحداث وأهوال هي أهوال القيامة، وهذه الأهوال تنقسم إلى قسمين: أهوال تسمى علامات، وهي أشراط للساعة وعلامات لها سابقة عليها، وهذه من أعظمها الموت، فالموت علامة على القيامة؛ لأنه انتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، ولذلك فالقبر أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده. وكذلك منها الأشراط الكبرى، مثل طلوع الشمس من مغربها، وقرنها مع القمر، وكذلك خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وكذلك الدخان، والنار التي تسوق الناس من قعر عدن إلى المحشر إلى الشام، وكذلك الدابة التي تخرج في مكة في المسجد الحرام فتكلم الناس، وكذلك رفع القرآن فهو من أشراط الساعة، وكذلك خروج المسيح الدجال الكذاب الذي ما من نبي إلا وحذره قومه، وما بعد خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم منه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا فيه علامة لم يعطها نبي قوماً قط، فأخبرنا أنه أعور وأن ربنا ليس بأعور. وجاء في حديث أنه: (أعور العين اليمنى)، وفي الحديث الآخر: (أعور العين اليسرى)، ولا تعارض بين الحديثين؛ لأن (أعور العين اليمنى) معناه أنها غائرة لا ترى، وهي طافئة، أي أنها مشقوقة مستترة، والحديث الآخر: (أعور العين اليسرى) معناه أنها عنبة طافية، فهي قبيحة وقبحها هو عورها، خارجة من محلها، بمعنى أنها جاحظة كبيرة جداً ومع ذلك هي كالعنبة الطافية، ومعناه: التي تبرز فوق الماء. فإحداهما طافية والأخرى طافئة، فالطافية معناه: الخارجة من محلها. والطافئة معناه: المشقوقة الداخلة في محلها. ومكتوب بين عينيه: (ك ف ر) كفر، أو (كافر)، وهذه علامة بارزة يراها أهل الإيمان، فكل من أراد الله به أن يجتنب المسيح الدجال رأى مكتوباً بين عينيه: (ك ف ر)، فهذه علامات تختص بهذه الأمة بينها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد بالغ في التحذير منه، فقد جاء عنه فيه كثير من الأحاديث الصحيحة، ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم -عندما ذكرهم بـ المسيح الدجال وفتنته- وأن معه نهراً يزعم أنه الجنة ومعه آخر يزعم أنه النار، فجنته هي النار وناره هي الجنة، وأنه يمر بالخربة فيأمرها فتتبعه كنوزها، ويمر على قوم فيتبعونه وهم في قحط وجذب -أي: مقحلون- فيأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، فتروح عليهم ماشيتهم أطول ما كانت ضروعاً وأسمنها، ويمر على آخرين فيكذبونه فيأمر الأرض فتقحط، ويأمر السماء فتمسك، وتروح عليهم ماشيتهم أضمر ما كانت ضروعاً وأقلها لبناً. وكذلك فإن فتنته عظيمة جداً، يأتي المدينة بمسالحه، وهو يخرج بين العراق والشام فيعيث يميناً وشمالاً، ويمكث في هذه الأرض أربعين يوماً، فيوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامكم، ويتبعه اليهود، ويكون في مقدمة جيشه سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة، والطيالسة: جمع طيلسان، وهو: العمامة الخضراء التي تكون مسبلة على الرأس والكتفين. ويأتي المدينة ومكة فيحرم منهما ولا يدخلهما، وعلى أنقابهما الملائكة، كلما أراد الدخول ضربوه، وللمدينة يومئذ سبعة مداخل أو سبعة أبواب، فإذا أراد الدخول من واحد وجد عليه ملكين فيطردانه فتنزل مسالحهم على جيوشه وسلاحه بإحدى السباخ في المدينة، وينزل هو على جبل من جبالها فيطل عليها فيرى المسجد فيقول: ذلك القصر الأبيض قصر محمد. فيأتيه أهل المدينة وفيهم رجل هو من خير الشهداء فيقول: والله إنك للمسيح الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيأمر به فيفلق فلقتين فيمشي بينهما، ثم يدعوه فيقوم فيناديه فيقول: ألست ربك؟ فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقيناً، ولأنت المسيح الدجال عدو الله الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقصد أن يذبحه فلا يسلط عليه، ويجعل الله بين ترقوته وذقنه نحاساً فلا يستطيع أن يذبحه. وكذلك من هذه الأشراط الكبرى نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، ينزل بمدينة دمشق عند المنارة البيضاء شرقي المسجد، ينزل بين ملكين، وإذا طأطأ رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا رفعه سال مع عنقه كأنما خرج من ديماس، وينزل وقد أذن للفجر، فيأتي المسجد والناس يصلون وإمامهم منهم، فيقول: يا نبي الله! تقدم فصل. فيقول: ما أقيمت لي. ويصلي مأموماً، ويقاتل المسيح الدجال ويتبعه المؤمنون، ويلتقي به عند باب لد فيقتله، ولا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، ونزوله شرط من أشراط الساعة وعلامة من علاماتها. وكذلك حشر اليهود إلى بيت المقدس وإلى الشام عموماً، فهو أول الحشر، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] , وكذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء:104] , فسيجتمع بنو إسرائيل كلهم في الشام، وقد بدأ هذا وشاهدناه وحصل منه في زماننا هجرات كثيرة لليهود، فقد جاء يهود الاتحاد السوفيتي، ثم جاء بعدهم يهود الفلاشا من أفريقيا، وما زالوا يجتمعون، والآن يخططون لجلاء اليهود من أوروبا وأمريكا ليجتمعوا في هذا المكان بعد أن اجتمع فيه اليهود من المغرب واليهود من المشرق. وكذلك من هذه الأشراط الأشراط الصغرى، ومنها انتشار الفواحش، وكثرة النساء وقلة الرجال، ورفع العلم، وكثرة الجهل، وأن يقود الناس جهالهم، وأن يقود القبيلة غاويها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان، وأن يكون المال في أيدي البخلاء، وأن يرفع من أيدي الأغنياء، وكذلك أن يكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد، وكذلك كثرة الهرج وهو القتل، فلا يبقى الشخص قادماً، ولا يسمع خبراً إلا وفيه قتل في بلد من البلدان، وأنت اليوم تسمع أية إذاعة أو تقرأ أية جريدة ستجد القتل في كل خبر. وكذلك فشو الربا، فلا يكاد الإنسان ينجو منه، فمن لم ينل منه نال من رائحته ووصل إليه من غباره، وهذا ما نشاهده اليوم، فأرزاق الناس كلها متأثرة بالربا، وكذلك منها العقوق، فيكون الولد سلطاناً على والده لا يستطيع أن يأمره بشيء ولا أن ينهاه عن شيء، ويسعى أن يجعل بينه وبينه وسيطاً ليبلغه أمراً من عنده أو أن ينهاه عن شيء. وكذلك من هذه الأشراط الصغرى تقارب الزمان، حيث تكون السنة منزوعة البركة حتى تكون كالشهر، ويكون الشهر كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاشتعال السعفة -أي: سعفة النخلة- من قلة بركة الزمان، وكذلك من تقارب الزمان كثرة الاتصالات ووسائل النقل وتسهيلها. وكذلك من هذه الأشراط الصغرى ما يحصل من تفشي الكذب، فيحدث الرجل عن شخص يعرف وجهه ولا يعرف اسمه، فينتشر الكذب بهذه الطريقة، وهو الذي يسميه الناس اليوم (رجل الشارع)، فيقولون: رجل الشارع يحدث بكذا. و (رجل الشارع) معناه الشخص المجهول الاسم المعلوم للعين، والحديث وارد فيه، فيقول الرجل: حدثني رجل أعرف وجهه ولا أعرف اسمه. وينتشر الكذب، فهذه كلها من أشراط الساعة وعلاماتها.

مشاهد يوم القيامة

مشاهد يوم القيامة

النفخ في الصور

النفخ في الصور أما مشاهد القيامة فمن أعظمها النفخ في الصور، ونفخ الصور ثلاث نفخات: نفخة هي نفخة الخروج والبعث التي تخرج الأموات من قبورهم، ويجتمع إليها الناس بالساهرة، ويناَدْون: هلم إلى ربكم. فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون. ونفخة الفزع، وهي النفخة التي يفزع لها كل الناس. ونفخة الصعق، ونفخة الصعق هذه يموت منها الجميع، يصعق لها كل الناس القدماء والجدد الذين ماتوا وحشروا، والذين جمعوا من أطراف الأرض، ثم نفخة الفزع بعدها يحيون من أجلها.

حشر الناس في الساهرة

حشر الناس في الساهرة ثم بعد ذلك الحشر، وهو جمع الناس في الساهرة، فتبدل الأرض غير الأرض، وتطوى هذه الأرض وتشقق وتمزق، وتطوى السماء، ويأخذ الجبار الأرض والسماوات فيجعلهن بقبضته، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] , فيهزهن فيقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! وكذلك يأخذ الله الأرض فيتكفؤها كما يتكفأ أحدكم خبزةً، فتكون الأرض خبزة يتكفؤها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته يجعلها نزلاً لأهل الجنة: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].

اجتماع الناس للحساب

اجتماع الناس للحساب وكذلك بعد هذا اجتماع الناس في الساهرة، فيجتمع فيها أولهم وآخرهم، يرى الشخص أطرافهم، فالشخص الواحد القائم يرى أطراف الخلائق من لدن آدم إلى قيام الساعة ببصره العادي، يجتمع الخلائق كلهم حفاة عراة غرلا، حفاة لا ينتعل أحد منهم، وعراة لا يلبس أحد منهم، وغرلاً لم يختتن أحد منهم، على هيئتهم الأصلية الرجال والنساء، ثم يطول بهم الموقف ويحبسون ذلك الحبس الطويل الذي تدنو فيه الشمس حتى تكون كالميل فوق رؤوسهم، ويشتد العرق حتى يلجم كثيراً منهم، ويصل ببعضهم إلى الثديين، وبعضهم إلى الترقوتين، وبعضهم دون ذلك، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بالناس من كل جانب، ويؤتى بالملائكة صفاً صفاً، ويتجلى الباري سبحانه وتعالى فوق عرشه، قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:22 - 24]. ثم إذا طال هذا الموقف بالناس فمن مشاهد القيامة أنهم يدوكون فيما بينهم ويسألون عن الرأي، فيقولون: قد طال بنا موقفنا، وإن ربنا قد غضب علينا، وإنه لم يكن ملجؤنا في الدنيا إلا العلماء فلنذهب إليهم. فيذهبون إلى العلماء فيقولون: ليس اليوم لنا، وإنما هو للأنبياء: (فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيقولون: أنت أبونا، خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي. إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله في أكل الشجرة، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الله، اصطفاك لخلته واختارك من بين خلقه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار. فيقول إبراهيم: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي. إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى. فيأتونه فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله اصطفاك برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار. فيقول موسى: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي. إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم يؤذن لي بقتلها، ولكن اذهبوا إلى عيسى. فيأتونه فيقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار. فيقول: نفسي نفسي رب! لا أسألك إلا نفسي. إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله، ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيأتونه فيقول: أنا لها. فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله تعالى ثناءً لم يثن به أحد على الله، فيقال له: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه) فيرفع رأسه ويشفع للناس. فحينئذ يؤذن لهم في الانصراف، فينصب الصراط على متن جهنم، ويتجلى الباري لفصل الخصام بينهم، حتى يقتاد للشاة الجماء من الشاة القرناء. وأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، يكسوه الله تعالى من الديباج الأبيض من الجنة، ثم يكون الأنبياء على منابر من نور، وتقام المنابر للمقسطين -وهم العادلون من المؤمنين- فيكونون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، يشهدون على الناس، ويستشهد الشهداء، في ذلك الوقت كل إنسان يأتي معه سائق وشهيد، فالسائق: الملك الذي كان يكتب أعماله، والشهيد: الرسول الذي أرسل إليه وقامت عليه الحجة به، وكل أمة يرفع لها لواء باسم زعيمها وقائدها: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [الإسراء:71]. فيعطى الناس كتبهم، فمنهم من يعطى كتابه بيمينه تلقاء وجهه، وهؤلاء هم الذين يقولون حين يدخل عليهم السرور: {هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] , ومنهم من يعطى كتابه بشماله وراء ظهره بإهانة وإيذاء، فهؤلاء -نعوذ بالله تعالى- يشكون من حالهم ويدعون بالويل والثبور. ثم بعد ذلك يبيض الله وجوه الذين يصطفيهم للجنة ويسود وجوه الكاذبين عليه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60]. ثم بعد هذا ينادي الله تعالى آدم بصوته فيقول: (أخرج بعث النار. فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]). وحينئذ يؤتى بالنار، وتزلف الجنة لأهلها، وينصب الصراط على النار، وهو جسر منصوب على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يمر الناس عليه فيتفاوتون بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم. ثم إذا مروا دخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة، ويضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويستفتح أهل الجنة الجنة، وأول من يستفتح محمد صلى الله عليه وسلم، فيحرك حلقة الباب فتفتح أبواب الجنة كلها، ويؤذن للناس بدخولها بحسب أعمالهم، ففيها باب الصلاة، وباب البر، وباب الجهاد، وباب الصدقة، وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يلج منه أحد، ويدخل أهل النار النار، وأدناهم منزلة فيها المنافقون الذين هم أخفضهم في قعر جهنم، نعوذ بالله، وقعرها يهوي فيه الحجر الصلب الثقيل سبعين خريفاً لا يصل إلى قعرها، يرمى به من أعلاها فيمكث سبعين سنة يهوي حتى يصل إلى قعرها.

زيارة الله لأهل الجنة

زيارة الله لأهل الجنة بعد هذا يزور الله عز وجل عباده المؤمنين بعد أن استقروا في منازلهم في الجنة، فيقال لهم: إن ربكم يستزيركم. فيزينون لذلك، فيخرجون إلى كثبان من الجنة رملها من الذهب، وتناويرها من العقيق الأحمر، وكل بللها من الكافور والمسك، فيأتون فيرون ربهم سبحانه وتعالى كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، وأقواهم رؤية له أشدهم حباً له، وأشدهم تعلقاً به ومعرفةً له، فيتفاوت الناس في رؤية الله على حسب خشوعهم في الصلاة ومحبتهم لله وتعلقهم به، فبينما هم في نعيمهم إذ تجلى لهم ربهم من فوقهم، فيرون نوراً من فوقهم فينظرون إليه فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه من النعيم، فيقول: سلام قولاً من رب رحيم. وهذا هو سلام الله عليهم. هذه هي مشاهد القيامة، ويجب الإيمان بها إجمالاً ويجب الإيمان تفصيلاً منها بما جاء في القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كلها خبرية لا يمكن أن تصل إليها العقول ولا أن تعرف إلا من الوحي.

الإيمان بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر

الفرق بين القدر والشرع

الفرق بين القدر والشرع القدر سر الله المكتوب، وهو يختلف عن الشرع، فالشرع به التكليف، والقدر لا تكليف به، فالإنسان مأمور اليوم بأن يصوم رمضان القادم، لكنه قد يكون في علم الله أنه لا يبلغه ويموت قبله، فهو في التشريع متعبد بأن يعزم على صوم رمضان، وفي القدر لا يمكن أن يصومه ولا أن يبلغه، فيا رب صائمه لن يصومه ويا رب قائمه لن يقومه. فهنا الفرق بين القدر والشرع، وهو الذي خفي على إبليس، فاستدل بالقدر وترك الشرع، فحلت عليه اللعنة بسبب ذلك، ونجد كثيراً من الناس يستدل بالقدر ويترك الشرع، وهؤلاء هم الزنادقة مثلما حكى الله تعالى عنهم في كتابه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] , فهذا هو الاستدلال بالقدر في مقابل الشرع، فهم مأمورون شرعاً بأن ينفقوا على الفقراء، وهم يستدلون بالقدر ويقولون: لو أراد الله إغناءهم لأغناهم وأعطاهم مثلما أعطانا. وهذه الشبهة ردها الله عليهم فقال: أنتم مكلفون بشرعي لا بقدري، فأنا أحكم ما أشاء، وأكتب ما أشاء، فمن هنا أنتم مأمورون باتباع ما آمر به شرعاً ومحجوبون عما أفعله قدراً، ولو شئت لسخرتكم لهم ولأخذت ما في أيديكم وأعطيته لهم. فهذا الفرق بين القدر والشرع هو الذي خفي على كثير من الناس. ومن قدر الله تعالى أن جميع أفعال العباد وتصرفاته كلها من خلق الله ومن فعل العبد، فالعبد فيها مسير بالقدر مخير بالشرع، فهو مخير بالخطاب الشرعي إن شاء فعله وإن شاء ترك، إن شاء صام وإن شاء أفطر، إن شاء صلى وإن شاء ترك الصلاة، هذا في الشرع، لكن في القدر مجزوم بما سيفعله، ففي التكليف يقال له: افعل. لكنه غير مجبر، فإن شاء صلى وإن شاء لم يفعل، وفي القدر لا يمكن أن يخالف ما كتب الله له. ولذلك فإن هذه المسألة -وهي مسألة التخيير والتسيير- يغلط فيها كثير من الناس، فيظنون إشكالاً بين التخيير والتسيير أو تعارضاً بينهما، والواقع أن الإنسان مخير في الخطاب الشرعي، بمعنى أنه غير مجبر على فعل الواجبات وعلى ترك المحرمات، فهو مأمور بذلك لكنه غير مجبر عليه، فلم يوضع سيف على رأسه ولا رشاش بين كتفيه فيقال له: افعل -مثلاً- أو اترك. لكنه في القدر مجبراً إجباراً كاملاً، وهذا الإجبار الفرق بينه وبين الجبر الدنيوي أن جبر المخلوق يكون بمخالفة هوى الإنسان، وجبر الله عز وجل يكون بموافقة هوى الإنسان، فالإنسان مجبر بالاختيار، فيفعل الفعل وهو يريده ويهواه ويحبه وفيه مهلكته، يسافر في طائرة فيشتري التذكرة بثمن باهظ، ويسعى من أجل الحجز ويتعب في الحصول عليه وهو سيموت في تلك الطائرة، وستدمر به وستسقط في المحيط -مثلاً- وتتحطم، فلهذا حجب القدر عن الناس وأمروا بالشرع. والذين يستدلون بالقدر فيما يتعلق بالجهاد والدعوة هم من قبيل هؤلاء الذين اتبعوا إبليس وتركوا ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يقولون: دعوا العمل، واتركوا الدعوة، واتركوا الجهاد؛ فإن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)! ويجاب عن هؤلاء بأن هذا من قدر الله، ونحن مأمورون بالشرع لا بالقدر، فأنت مأمور أن تصلي لكن لا تدري هل صلاتك مقبولة أو غير مقبولة، فلا يمكن أن تقول: لا أصلي حتى أعلم هل صلاتي هنا مقبولة أو غير مقبولة. فالقبول من القدر، وأداء الصلاة من الشرع، وأنت مخاطب بالشرع لا بالقدر.

مراتب القدر

مراتب القدر الركن السادس من أركان الإيمان: الإيمان بقدر الله النافذ، فالله عز وجل متصف بصفة هي صفة القدر. والقدر معناه: تقدير الأشياء قبل خلقها. والقدر أربع مراتب: فالمرتبة الأولى منه: علم الله تعالى بجميع الأشياء قبل وجودها على وجه التفصيل والإجمال. المرتبة الثانية: كتابته لكل ما هو كائن في صحف عنده فوق عرشه، وهاتان المرتبتان هما المذكورتان في قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. المرتبة الثالثة من مراتب القدر: هي توزيع ما هو كائن على الزمن، ففي كل سنة ليلة ينزل الله فيها ما هو كائن في تلك السنة، كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:4 - 5] , وكذلك مع كل مولود يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. المرتبة الرابعة من مراتب القدر: تنفيذ ما هو كائن على وفق علم الله في الأزل، فكتابتنا هذه كتبت قبل خلق السماوات والأرض، ثم كتب في هذه السنة أنها تكون في يومها وفي وقتها، ثم بعد ذلك نفذت على وفق العلم السابق، وهذا سار على كل الأشياء، فلا يخفى عن الله عز وجل أي شيء من حركة أو سكون أو فكر أو حركة طرف، كل ذلك يمر بهذه المراتب الأربع وهي مراتب القدر.

الفرق بين الخلق والفعل

الفرق بين الخلق والفعل وهنا أيضاً أمر آخر يغلط فيه الناس، وهو الفرق بين الخلق والفعل، فالله خالق كل شيء، خلق العبد، وخلق فعل العبد، والفعل يصدر من الله ومن المخلوق، فالله يفعل ما يشاء، والعبد يفعل ما يشاء أيضاً، لكن العبد لا يخلق، والله يخلق، فكل أفعال العبد من خلق الله، وكل أفعال الله من خلق الله، ولكن أفعال العبد من فعل العبد وليست من فعل الله، فإذا زنى العبد فهذا الفعل فعل العبد لا فعل الله، وإذا سرق فهذا فعل العبد لا فعل الله، لكنه خلق الله، وهنا الفرق بين الخلق والفعل، فالخلق لا تكليف به ولا يستطيع المكلف التدخل فيه، والفعل مباشرة المكلف لتنفيذ ما كتب عليه، فالمكلف يثاب ويعاقب على حسب الفعل لا على حسب الخلق، فهو لا يملك شيئاً من الخلق وإنما يملك الفعل. وهنا ينبغي أن نعلم أن أفعال المكلف عموماً منها ما يكون فعلاً للمكلف وخلقاً لله، مثل الزنا من المكلف -مثلاً- أو السرقة، فهذا فعل صادر من المكلف وخلق من خلق الله، ومنها ما يكون فعلاً لله وخلقاً لله، كإنزال المطر، فهو فعل الله وخلق الله، ليس للمكلف فيه دخل، فالمكلف هل يستطيع إنزال المطر؟! لا يستطيع إنزاله، فإنزال المطر من خلق الله ومن فعل الله، لكن يستطيع الزنا أو السرقة، فهذا من فعل المخلوق ومن خلق الله، فلذلك لا تنسب أفعال المخلوق إلى الله على أنها فعل الله، لكنها تنسب إليه على أنها خلق الله. ومن هنا نعلم أن لله نوعين من أنواع الإرادة: إرادة كونية، وإرادة تشريعية. فالإرادة الكونية هي المتعلقة بالخطاب القدري. والإرادة التشريعية هي المتعلقة بالخطاب الشرعي. فالإرادة الكونية اسمها المشيئة وتختص بذلك، والإرادة الشرعية اسمها الأمر، وهنا يفترق الحال، فقد يأمر الله بشيء ولا يريد وقوعه، وقد يشاء شيئاً وهو لا يأمر به. ومن هنا نعلم أن أفعال المكلف فيما يتعلق بالإرادتين أربعة أقسام: القسم الأول: ما تعلقت به الإرادتان معاً، وهو الأعمال الصالحة من رسول الله عليه وسلم مثلاً ومن المحسنين، فهذه الأعمال الصالحة أرادها الله إرادة كونية؛ لأنها وقعت، وأرادها إرادة تشريعية؛ لأنه أمر بها وشرعها، فصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يأمر الله بها؟ لقد أمره بها. ألم يردها ويشأها؟ بلى؛ لأنها وقعت، إذاً فهذا القسم الأول. القسم الثاني: ما لم تتعلق به واحدة من الإرادتين، فلم تتعلق به الإرادة الكونية ولم تتعلق به الإرادة الشرعية، وهو مثل الأعمال السيئة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه الأعمال ما أرادها الله إرادة شرعية؛ لأنه لا يأمر بالفحشاء، ولم يردها إرادة كونية؛ لأنها لم تقع، فإذاً هذا القسم الثاني. القسم الثالث: الأعمال الصالحة من أبي جهل مثلاً، فهذه تعلقت بها الإرادة الشرعية دون الكونية، أرادها الله إرادة شرعية؛ لأنه أمره بها، ولم يرد بها إرادة كونية؛ لأنها لم تقع. القسم الرابع: الأعمال السيئة من أبي جهل مثلاً، فهذه أرادها الله إرادة كونية؛ لأنها وقعت، ولم يردها إرادة شرعية؛ لأنه لا يأمر بالفحشاء. ومن هنا أصبح من تمام الإيمان بالقدر أن نفرق بين الإرادة الكونية والإرادة التشريعية، وأن نحسن كذلك التفريق بين متعلق هاتين الإرادتين.

أقسام القدر

أقسام القدر القدر ينقسم إلى قسمين: حلو ومر. وينقسم كذلك إلى: خير وشر. فيمكن أن نقسمه إلى أربعة أقسام: القسم الأول: قدر خير حلو، مثل الأعمال الصالحة السهلة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) , فإذا استيقظ الإنسان في جوف الليل فقال: (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) وهو مؤمن فهذا قدر له هذا الأمر، وهو خير قطعاً؛ لأن له ثواباً في الآخرة، وهو حلو لأنه لا يخالف هواه. القسم الثاني: قدر خير مر: مثل الإنسان الذي تصيبه مصيبة فيكفر الله عنه بها خطيئة، مؤمن أصابته مصيبة فكفرت عنه خطيئة، فهذا من قدر الله وهو خير له؛ لأنه كفر عنه خطيئة، ولكنه مر؛ لأنه يكره المصائب. القسم الثالث من أقسام القدر: قدر شر مر -نعوذ بالله- مثل أن يصيب الله الكافر بغضبه وسخطه، فتحل عليه صاعقة من السماء فتحرقه، فهذا قدر الله المر، فهو يكرهه وهو شر له. الرابع: قدر شر حلو: مثل الاستدراج، يستدرج الله الكفار بما يعطيهم من الأموال والأولاد، وهذا من قدر الله، وهو شر لهم؛ لأنه يزيد في عقوبتهم ويزيد في إغوائهم وبعدهم عن الله، ولكنه حلو؛ لأنه موافق لأهوائهم، فهذه هي أقسام القدر الأربعة، خيره وشره حلوه ومره، فهي أربع صور. إذاً فهذه هي أركان الإيمان الستة، وبقي كثير من متعلقاتها، فأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يرزقنا تمام الإيمان به وتمام الإنابة والإخبات إليه، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم! نور بالإيمان قلوبنا، ونور بالهداية صدورنا، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم! حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر أو الفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم! استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين يا أرحم الراحمين، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

مقومات الداعية

مقومات الداعية الدعوة إلى الله من أعظم القربات، وأعظم الواجبات، وبها يهدي الله أقواماً ضلوا سواء السبيل. وللدعوة وسائل لابد من توافرها لنجاحها، كما لابد من وجود صفات مهمة في الداعي إلى الله؛ ليكون ناجحاً وموفقاً في عمله.

فضل الدعوة والدعاة

فضل الدعوة والدعاة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فموضوعنا هذا بعنوان: (مقومات الداعية) وسنتكلم فيه إن شاء الله على العناصر التالية: فضل الدعوة والدعاة. فائدة الدعوة. أهداف الدعوة. وسائل الدعوة. صفات الداعية الناجح. إن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالدعوة فقال: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، ووصف رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالدعوة فقال: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، وأمره بالدعوة فقال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87]، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن سبيلهم الدعوة فقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وأخبر كذلك أنها أحسن الأقوال وأرضاها عنده فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وقد رتب الله عليها من الفضل العظيم، والأجر الجزيل الشيء الكثير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أعطاه الراية يوم خيبر: (فوالذي نفسي بيده! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فجعل هداية شخص واحد على يديه خيراً له من أن يملك حمر النعم، أي: خير من أن يملك ما في الأرض من الإبل، والمقصود بذلك: أن يتصدق بها في سبيل الله مثلاً. ويكفي في بيان فضل الدعوة أنها وظيفة الأنبياء، فقد أختارهم الله لها: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، ومن المعلوم أن رسل الله هم أفضل خلقه، وقد اختارهم من ملائكته، ومن البشر، فقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، فالذين اصطفاهم الله اختار لهم وظيفة يقومون بها وتلك الوظيفة هي أفضل الوظائف وأسماها عند الله سبحانه وتعالى، وأعلاها. ومن فضل الدعوة أن القائم بها قائم بالحجة لله في الأرض، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8]، وقد افترض الله ذلك على هذه الأمة فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:104 - 105]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71].

فائدة الدعوة

فائدة الدعوة أما فائدة الدعوة فهي: مدافعة الباطل، فإن الله جعل الدار الدنيا مسرحاً للتدافع بين الحق والباطل، ورتبها على هذا الصراع الأبدي المستمر الذي لا ينقضي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض مصلحين وهم: حزب الله، ومفسدين وهم: حزب الشيطان، وجعل الصراع مستمراً ودائراً بين هذين الحزبين، لكن الله سبحانه وتعالى حكم بالعاقبة للمتقين، وجعل حزب الله أعلى منزلة وأسمى قدراً، فقال: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، وقال تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، وفي المقابل قال: {إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19]. وقد حكم الله سبحانه وتعالى بالغلبة لحزبه، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106]، وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، وقال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. وقد جعل الله هذا التدافع مصلحة للأرض، فلو توقف لحظة لفسدت الأرض، كما قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ} [البقرة:251]؛ وذلك أن هذه الدنيا دار عملٍ ولا جزاء، وقد جعل الله فيها هذا الصراع فلو تغلب الحق على الباطل لم يكن للدنيا معنىً؛ لأن أهلها قد نجحوا في الامتحان فينبغي أن ينقلوا إلى الجنة، ولو تغلب أهل الباطل على الأرض فلم يبقَ للحق صولة ولا صوت، لحلَّ على أهل الأرض سخط الله ومقته، كما يحل في آخر الزمان إذا لم يبقَ في الأرض إلا حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله باله، فعليهم تقوم الساعة، وفي ذلك يقول الأنبياء في حديث الشفاعة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله). فلذلك مصلحة هذه الأرض في وجود هذا الصراع، ولا شك أن هذا الصراع من طبيعته أن الأيام يداولها الله بين الناس، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141]. وتلك المداولة تقتضي أن تكون للباطل صولة، ولكنه سرعان ما يضمحل ويتراجع فلا تدوم صولته، لكنها قد تطول بحسب ما هو مصلحة لأهل الأرض في ذلك الطور، ولا يعلم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى وحده بحكمته البالغة، وقد طالت صولة الباطل في أيام نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولا تزال صولات الباطل بعد ذلك في مدٍّ وتراجع: تطول أحياناً وتقصر بحسب حكمة الله تعالى، وما علمه في أزله وأراده لخلقه، لكن من المعلوم أن النتيجة محسومة بعلم الله السابق، وأن العاقبة للمتقين على كل حال.

أهداف الدعوة

أهداف الدعوة أما أهداف الدعوة: فلها هدفان كبيران:

المعذرة إلى الله تعالى

المعذرة إلى الله تعالى أولهما: المعذرة إلى الله سبحانه وتعالى بفعل ما أمر به؛ لأننا مكلفون متعبدون بهذه الدعوة، وهي من صميم تكليفنا وعبادتنا لله، حتى لو أيقنَّا أنه لا يستجاب لدعوتنا، فإن ذلك لا يمنع القيام بها، بل لابد أن نؤديها كما أمر الله سبحانه وتعالى، ونتعبد الله سبحانه وتعالى بها؛ ولهذا فإن نوحاً عليه السلام مع طول المدة لم ييئس ولم يقنط، ولم يتراجع، بل استمر على منهجه يغير من أساليب الدعوة بحسب الأحوال، فلذلك قال فيما حكى الله عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:5 - 14]. فنوَّع الأساليب باعتبار أحوال قومه، وصبر على أذاهم، واستمر في دعوته، ومع هذا قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود:40]، وليس ذلك راجعاً إلى أنه فشل في دعوته، أو لم ينوع الأساليب أو قصر بل قد نجح غاية النجاح، وبذل قصارى جهده، وشهد الله له بذلك، وسيشهد له به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته يوم القيامة، لكن أراد الله ألا يستجاب لدعوته على مستوى واسع في ذلك الزمان، ثم يرفع الله قدره بأن يجعله أباً للبشر، فلو استجاب له الناس إذاً لم يكن نوحٌ أبا البشر؛ لأن البشر قد انتشروا وكثروا إذ ذاك من سلالات متنوعة، فلا يمكن أن يكون أبا البشر إلا بذلك الطوفان المهلك للجميع، ولا يأتي الطوفان مهلكاً للجميع إلا إذا قلَّ أتباع نوحٍ من الناس.

رجاء استجابة الناس للدعوة ونصرتها

رجاء استجابة الناس للدعوة ونصرتها الهدف الثاني: لعل الناس يستجيبون لهذه الدعوة فيخرج الله منهم من ينصر دينه، ويعلي كلمته ويلتزم بأوامره، ويتقيد بحكمة إنزاله إلى الأرض، إنما خلق الله الإنس والجن؛ لعبادته، وإنما أنزل الله آدم وذريته إلى هذه الأرض؛ لتحقيق الاستخلاف فيها، ولا شك أن بعض الناس أوتي ملكة التأثير في بعض، وأن كثيراً من الذين انحرفوا عن الطريق إنما انحرفوا بتأثير غيرهم عليهم، ولهذا فإن الذين استكبروا والذين استضعفوا يختصمون يوم القيامة في النار، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31]؛ لأنهم اتبعوهم في غوايتهم. وهذان الهدفان جاء التصريح بهما في سورة الأعراف في قول الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:163 - 164]، (معذرة إلى ربكم) هذا الهدف الأول، (ولعلهم يتقون) هذا الهدف الثاني.

أقسام الهداية

أقسام الهداية ومع هذا لابد أن يعلم الذين يسعون إلى تحقيق هذا الهدف أن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية إرشاد، وهداية توفيق. فهداية الإرشاد يمكن أن يقوم بها البشر، وهداية التوفيق لا يمكن أن تقع إلا بأمر الله سبحانه وتعالى وحده. والله سبحانه وتعالى نفى القدرة على هداية التوفيق عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وأثبت له القدرة على هداية الإرشاد، فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]. وهداية التوفيق هي المذكورة في الفاتحة في قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وهداية الإرشاد هي المذكورة في قصة ثمود، في سورة فصلت، في قول الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، (فهديناهم) أي: هداية الإرشاد، ببعثة رسول إليهم، وإقامة الحجة عليهم، (فاستحبوا العمى على الهدى) فلم ينتفعوا بتلك الهداية، فمن شاء الله هدايته لابد أن يهتدي ولو لم يبذل معه الكثير من الأسباب، ومن لم يرد الله له الهداية لا يمكن أن يهتدي، ولو بذلت له كل الأسباب، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:99 - 100]، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:109 - 111]. ولهذا جعل الله الهداية نوراً يقذفه في قلب من شاء من عباده، كما قال في وصف الإيمان: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52].

وسائل الدعوة

وسائل الدعوة أما وسائل الدعوة: فهي كما رأينا في قصة نوح تتنوع باجتهاد الداعية، وبأحوال المدعوين، وليست توقيفية ولا محصورة في نماذج معينة، وإنما يجتهد الإنسان في تبليغ رسالات الله، وفيما ائتمنه عليه من الوحي بتبليغه بأي وسيلة تؤثر في الناس وتوصل الحق إليهم، وَلْيسْعَ للأجدى والأنفع، وليأخذ بالأسهل فالأسهل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً ولا قطيعة رحم، ويمكن أن يستعين بالوسائل المستوردة من خارج بيئته، حتى لو كانت مستوردة من الكفار، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع وسيلة تؤدي إلى إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه إلا أعملها، حتى لو كانت مستوردة من خارج البيئة العربية: فالخندق فكرة مستوردة من فارس، والخاتم فكرة مستوردة من الروم، والمنبر فكرة مستوردة من الحبشة. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سبع وسائل للدعوة: أربع منها في آية، وثلاث في آية، فقال في الآية الأولى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وقد تضمنت هذه الآية أربع وسائل من وسائل الدعوة.

البصيرة

البصيرة أول وسيلة منها: البصيرة، فلابد أن يكون الداعي إلى الله سبحانه وتعالى بصيراً بمن يدعوه، وبما يدعو إليه، وبأصول التأثير على من يدعوه، فالمعرفة قبل الدعوة، ومعرفة الإنسان ببيئته من بصيرته بها؛ لأنه قد ينشغل بالجزئيات والأمور اليسيرة مع أن بيئته تحتاج أموراً أكبر منها وأهم، فإذا لم يكن ذا بصيرة ببيئته فإن دعوته ستنحرف عن مدارها، وتقدم ما ليس أولى بها على ما هو الأولى بها، وهذه البصيرة بعضها مكتسب، وبعضها موهوب من عند الله سبحانه وتعالى: فالمكتسب منها: ما يتعلمه الإنسان من العلم النافع، ومن الاطلاع على أحوال الناس وأساليب عيشهم، والأساليب المؤثرة فيهم، وما يكتسبه من المهارات، وما يبدعه هو من التجارب الجديدة التي تثبت جدارتها وأحقيتها فيأخذ بها. وأما الموهوب من عند الله سبحانه وتعالى، فهو من آثار التقوى والالتزام والورع، فمن كان صادقاً مع الله سبحانه وتعالى لم ينبُ حديثه عن القلوب، بل استمع الناس إليه بإنصات في أغلب الأحيان، ومحل ذلك الناس الذين ليس في قلوبهم مرض، أما الذين في قلوبهم مرض فإنهم لا يمكن أن يستمعوا إلى كلام المخلص أصلاً، بل يفرون منه كما يفرون من الأسد!!

أقسام الناس بالنسبة للدعوة

أقسام الناس بالنسبة للدعوة ومن هنا فإن الناس في الدعوة على أربعة أقسام: القسم الأول: الذين لا يتحملون سماعها، ولا يطيقونها، ويفرون منها كما يفرون من الأسد، وهم المشركون الذين قال الله فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51]. القسم الثاني: الذين يطيقون سماعها بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى القلوب، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16]. القسم الثالث: الذين يفصلون فيها، فيقبلونها من بعض الناس دون بعض، فإذا سمعوا من يدعو إلى الله ممن يعجبهم شكله أو نسبه أو حسبه أو يعرفونه، استمعوا إليه، وأصاخوا له، وإن قام مجهول لديهم، أو من لا ينزلونه هذه المنزلة في أمور دنياهم لم يستمعوا إليه، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين اتصفوا بصفة من صفات بني إسرائيل حين قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ} [البقرة:247]، واتصفوا كذلك بصفة من صفات أهل مكة وأهل الطائف من المشركين، عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، عندما قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]. وهؤلاء أنواع وأجناس: فمنهم من لا يحمله على ذلك إلا الحسد، كحال اليهود الذين حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم حسداً من عند أنفسهم، فمنعهم ذلك من اتباعه وطاعته، مع علمهم علم اليقين، أنه الرسول الذي أخذ عليه موسى وغيره من أنبيائهم العهد إذا بعث أن يؤمنوا به ويتبعوه. ومنهم من يحول بين الالتزام بالدعوة والانتفاع بها التقليد لما كان يجده في مجتمعه أو لطريقة آبائه، فهو مقلد تقليداً أعمى، فلا يمكن أن ينتفع من أي شيء جديد، وهؤلاء في تقليدهم قد سلكوا طريقة من طرائق المشركين، وقد وصف الله المشركين المعرضين بقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23]. أما النوع الرابع: فهم الذين يسمعون الدعوة من كل أحد، ولا يفصلون فيها، فيأخذون بالحق، ويردون الباطل، وهؤلاء هم الذين أثنى الله عليهم في كتابه، وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]، وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان:73]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:9 - 13]، وقال: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فأولئك هم الذين ينتفعون بالذكرى، وهم أهل الإيمان المستجيبون للدعوة.

وجود الأنصار

وجود الأنصار أما الوسيلة الثانية: فهي ما أشار الله إليه بقوله سبحانه وتعالى: {أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فلا يمكن أن تنجح الدعوة إلا إذا وجدت أنصاراً وأعواناً، فدعوة الإنسان وحده لا تؤثر، وإذا أثرت يكون تأثيرها محدوداً ضيقاً؛ ولهذا فإن الله جعل لأنبياء الله أنصاراً وحواريين، يأخذون بسنتهم، وينشرون دعوتهم، ويجاهدون في سبيلها، وهذا ما بيَّنه الله في ثنائه على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عدد كبير من الآيات، فمنها قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. فلابد للدعوة من مجموعة من الناس تتبنى القيام بها، وتتحمل أعباءها، وتتعاون فيها؛ وذلك أن الله تعالى جعل الناس شرائح متنوعة، وجعل مستوياتهم متفاوتة متباينة، وكل شريحة في العادة إنما تتأثر بمن كان منها، كما أن كل أهل مستوىً انتفاعهم الغالب إنما يكون ممن هو في مستواهم، أو ممن نزل إلى مستواهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر حين سأله في بداية الإسلام: (من تابعك على هذا الأمر، فقال: رجل وامرأة وعبد وصبي)، فكل شريحة من شرائح المجتمع قد دخلتها الدعوة بممثل عنها: فالرجل أبو بكر الصديق، والمرأة خديجة بنت خويلد، والعبد بلال، والصبي علي بن أبي طالب. ولا تأخذ الدعوة أبعادها إلا إذا دخلت كل الشرائح؛ لأن كل شريحة إذا كان فيها ممثل، وكان فيها أسوة وقدوة لأهلها فذلك أكمل للاستجابة إلى الدعوة، ثم إن المستويات متباينة متنوعة، ومن كان مستواه ضعيفاً لا يمكن أن يستوعب دعوة ذي المستوى الرفيع إلا إذا تنزل له صاحب المستوى الرفيع، ومن كان مستواه رفيعاً لا يمكن أن ينتفع غالباً من دعوة المستوى الضعيف وهكذا، فاحتيج -إذاً- إلى جماعة لهذه الدعوة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أهمية الجماعة لهذه الأمة، وقد صرح الله بذلك في كتابه بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، بعد قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]. والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ حذيفة: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وقال: (من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، وقال: (من فارق الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية)، وقال: (يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذّ في النا) وقال: (يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة). والدين كله لا يستقيم إلا بجماعة، ولهذا فالصلاة مثال للدين كله، فيحتاج فيها إلى إمام يتقدم على الناس فلا يُحرمون قبل إحرامه، ولا يركعون قبل ركوعه، ولا يرفعون قبل رفعه، ولا يسلمون قبل سلامه. ووراءه مما يليه أولو الأحلام والنهى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وتأتي الصفوف بعد ذلك تباعاً، الساق بالساق والمنكب بالمنكب، حتى لا تبقى للشيطان فُرجة، فذلك مثال لأمور الدين كلها.

الربانية

الربانية أما الوسيلة الثالثة: فهي الربانية، أي: الاتصال بالله سبحانه وتعالى، وقصد وجهه الكريم بالدعوة، والاتكال عليه سبحانه وتعالى وحده، والبراءة إليه من الحول والقوة، وذلك يقتضي أن ينظر الإنسان إلى الأسباب على أنها تكليف يؤديه، وعمل بمقتضى الشرع، ومع ذلك لا يتَّكل عليها، ولا يثق إلا بوعد الله سبحانه وتعالى ونصره، فالتوكل على الأسباب شرك، وتركها معصية، وهذه الربانية هي المشار إليها في الآية بقول الله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108]. فالداعية لابد أن يكون منزهاً لله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به، وأن يكون ذاكراً له شاكراً حتى يستجاب لدعوته.

التميز

التميُّز الوسيلة الرابعة: هي التميُّز؛ فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فإذا كان الداعية يفعل ما يدعو الناس إلى تركه، ويترك ما يدعوهم إلى فعله، فلا يمكن أن يستجاب لدعوته، ولا أن يطاع لأمره؛ ولذلك فإن الله تعالى حكى عن خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام أنه قال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. وأبو الأسود الدؤلي رحمه الله يقول: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليمُ تصف الدواء لذي السقام فذي الضَّنَا كيما يصح به وأنت سقيمُ وأراك تلقح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ فهناك يُقبل ما تقول ويشتفى بالقول منك وينفع التعليمُ لا تنه عن خلقٍ وتأتِيَ مثلهُ عار عليك إذا فعلت عظيمُ ويقول الآخر: فإنك إذ ما تأتِ ما أنت آمر به تلفِ من إياه تأمرُ آتيَا وفي رواية: فإنك إذ ما تأبى ما أنت آمر به تلف من إياه تأمرُ آبيا والتميز يقتضي من الإنسان الذي يدعو إلى طريق الحق ألا ينساق مع الناس فيما هم فيه، فإذا تنافسوا على أمور الدنيا تذكر قول الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132]. وإذا جزعوا أو حزنوا لأمرٍ دنيوي فاتهم، أو فرحوا بأمر دنيوي أحرزوه، تذكر قول الله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]، وهكذا. فهذه الوسائل الأربع تضمنتها هذه الآية الكريمة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. أما الوسائل الثلاث الأخر فقد تضمنتها آية النحل، وهي قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

الحكمة

الحكمة فأول وسيلة منها الحكمة، وهي وضع الشيء في موضعه: بوضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها، والسيف في موضعه، والعطاء في موضعه، وقديماً قال أبو الطيب المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى فالحكمة إذاً هي وضع كل شيء في موضعه، وهي مأمور بها لا محالةَ، ومزية عظيمة رفيعة، وهي وسيلة من وسائل الدعوة، فلابد أن يكون الداعية حكيماً في تصرفاته؛ حتى لا يكون من قطاع الطرق المنفرين عن الله سبحانه وتعالى، فليس قطاع الطرق بالذين يرعبون المارَّة، ويأخذون أموالهم، بل قطاع الطرق على الحقيقة هم الذين يمنعون الناس من الاهتداء إلى منهج الله، وسلوك طريقه، وهم المنفِّرون، وقد حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أيها الناس إن منكم منفرين). والحكمة تقتضي من الإنسان أن ينوع الأساليب باعتبار المدعوين، وأن يجامل في موضع المجاملة، وأن يجدَّ في موضع الجد، ولا يقول إلا الحق في كل ذلك.

الموعظة الحسنة

الموعظة الحسنة الوسيلة السادسة من هذه الوسائل: وهي ثانية من الثلاث في هذه الآية، قوله: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، والموعظة خطاب للعاطفة، وتنبيه للإنسان على ما كان غافلاً عنه بإحياء ضميره، ونفض الغبار عنه. والإنسان فطره الله في الأصل على فطرة الخير، ولا تزال كوامن الخير فيه ما لم يمت قلبه، فتحريك تلك الكوامن الخيرية فيه إنما يتم بالموعظة الحسنة، ولا تكون الموعظة حسنة إلا إذا اختير لها الزمان والمكان والموضوع والأسلوب واللغة، فكل ذلك هو الذي تكون به الموعظة حسنة، فإذا كان الإنسان في أوجِ شهوته وإقباله على المعصية، فليس ذلك الوقت مناسباً لوعظه في الانزجار عنها، بل وعظه حينئذٍ يقتضي أن تأخذه العزة بالإثم، ولهذا أمر الله بالإعراض عن أصحاب المعصية في ذلك الحال فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. فلابد من الذكرى لكن لا تكون في وقت الخوض، ثم بعدها إذا أعرضوا عن الذكرى ولم يستمعوا ولم يستجيبوا يهجرهم الإنسان بعد الذكرى، {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. والموعظة هي إقناع للإنسان عن طريق عاطفته، والعاطفة مؤثرة في الناس تأثيراً بالغاً، لكن بعض الناس قد لا يتأثر عاطفياً فيحتاج إلى الإقناع عن طريق المجادلة.

الجدال بالتي هي أحسن

الجدال بالتي هي أحسن فكانت الوسيلة السابعة: وهي الثالثة مما في هذه الآية، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. فالجدال هو الإقناع عن طريق العقل بقرع الحجة بالحجة، ولكنه ينقسم إلى قسمين: إلى جدال حسنٍ وجدال قبيح. فالجدال القبيح ما كان فيه تنكر للحق، وعدم استماع للخصم، وسوء أدب أو رفع صوت، فذلك كله من الجدال القبيح، وقد قال الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]، وقال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فهذه هي الوسيلة السابعة.

صفات الداعية الناجح

صفات الداعية الناجح نصل بعد هذا إلى صفات الداعية الناجح: فالداعية الناجح لابد أن يتصف بعدد من الصفات، بعضها كسبي وبعضها وهبي: فالكسبي منها: الذي يكتسبه الإنسان ويمكن أن يزيد فيه، والوهبي منها: ما يمنحه الله سبحانه وتعالى للذين يأتمنهم على وحيه، ويبعث في أنفسهم حب التضحية في سبيله، والسعي لإعلاء كلمته.

الرحمة

الرحمة فأول صفة من هذه الصفات: هي الرحمة، وهي خُلُقُ هذا الدين، فلكل دين خلق، وخلق الإسلام الرحمة، وقد كتبها الله على نفسه، وتَسمى بها، وقال سبحانه وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها). فلابد أن يكون الداعية رحيماً بالمدعوين؛ لأن حرصه عليهم ورأفته بهم ستكون سر إصراره في دعوته، واستمراره فيها، وتذكره أن هؤلاء عرضة لأن يكبهم الله على وجوههم في النار، فهو يرحمهم، ويسعى للحيلولة بينهم وبين ذلك، وقد قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]. والرحمة صفة مطلوبة في كل مؤمن، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وفي الحديث المسلسل بالأولوية، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها). وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الرحمة في عدد من الآيات، فقد سبق قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. والرحمة تقتضي من الداعية ألا يخاطب الناس من منطلق الترفع والتعالي، بل يخاطبهم من واقع الحرص عليهم؛ لإنجائهم من عذاب الله، يقول أحد العلماء: ارحم بنيي جميع الخلق كلهمُ وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة وقِّر كبيرهمُ وارحم صغيرهمُ وراعِ في كل خلق حق من خلقه

الاحتساب

الاحتساب الصفة الثانية: الاحتساب، فلا ينجح الداعية إلا إذا كان محتسباً في دعوته لله تعالى، لا يطلب عليها جزاء ولا شكوراً، ولهذا فما من نبيٍّ من الأنبياء إلا قال لقومه: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص:86]، و {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} [هود:29]، وهكذا، فما من نبي من الأنبياء إلا تبرأ من ذلك. فالداعية إذا كان يطلب غير وجه الله بدعوته فإنما يدعو إلى نفسه، أو إلى ذلك الذي يطلبه، ومن هنا فلا بد من التوحيد في الدعوة، أي: أن تكون الدعوة خالصةً لوجه الله؛ لأنها عبادة يبتغى بها وجه الله ويتقرب بها إليه. وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك: فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه). والاحتساب يقتضي من الداعية: أن يجتهد في أن يكون قدوة حسنةً، ومثالاً صالحاً يهتدي به الآخرون، فيحاول أن يكون أبلغ الناس تضحية، وأكثرهم عبادة، وأكثرهم تأثراً بما يقول. ولذلك فإن ابن الجوزي رحمه الله كان خطيباً مفوهاً، وكان إذا خطب في أمر استجاب الناس لخطبته، فأتاه الأرقاء في الشام فقالوا: لو خطبت عن العتق فلعل موالينا يعتقوننا، فوعدهم خيراً، فانتظروا الخطبة فخطب، ولم يذكر الرقَّ، ثم الخطبة الأخرى ولم يتعرض للعتق، ثم الثالثة فخطب عن العتق، وحظ الناس عليه، فأعتق الناس أرقاءهم، فأتوه فقالوا: رحمك الله تأخرت عن وعدك، فقال: (إني لا يمكن أن آمر الناس بأمر قبل أن أبدأ فيه بنفسي، ولم يكن لي رقيق أعتقه، فأخرت ذلك حتى أحرزت مالاً فاشتريت به رقيقاً فأعتقته، وحينئذ أمرت الناس بالعتق فبادروا إليه؛ لأنني بدأت بنفسي)!

المعرفة

المعرفة الصفة الثالثة: المعرفة، فلابد أن يكون الداعية عارفاً بما يدعو إليه، وبمن يدعوه، وبأساليب الدعوة، وبمعاش الناس وما هم فيه، وبلغتهم كذلك، فالله تعالى يقول في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]. فإذا كان الداعية لا يستطيع البيان لقومه بلسانهم، فلا يمكن أن يبلغ رسالات الله وأن يبينها، وكذلك إذا كان غير عارف بهم، وبمكان التأثير فيهم، أو بأولويات حياتهم، وأنماط معاشهم، فلا يمكن أن يؤثر فيهم، ومن هنا احتيج الداعية إلى أن يتعرف على المدعوين بأوجه المعرفة المختلفة، وقد سبق أن من قواعد الدعوة: أن المعرفة سابقة على الدعوة.

الثقة

الثقة الصفة الرابعة: الثقة، فلابد أن يكون الداعية واثقاً من نفسه، واثقاً من منهجه، وأن يكون من يدعى واثقاً به، ولابد أن يبني ثقة الناس به هو، فإذاً لابد أن يبني ثقته أولاً هو بنفسه، وبمنهجه، وبالناس، ثم يبني ثقة الناس به، فالذي لا يثق بنفسه لا يمكن أن يضحي. ولهذا فإن بني إسرائيل حين فرض الله عليهم دخول (أريحا)، قالوا {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22]، ففرض الله عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض، حتى مات كبارهم الذين تعودوا على المذلة لفرعون وجنوده، ونشأ جيل عاشوا في الشغف والتنقل والتيه، فكانوا هم الذين يستطيعون الجهاد في سبيل الله. وإنما وثق من بني إسرائيل رجلان فقط، حكى الله كلامهما فقال: {قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أي: من بني إسرائيل الذين هم أهل الخوف والذلة والمسكنة، أو من الذين يخافون الله، {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بتوفيقهما لذلك {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. ومثل ذلك أن يثق بمنهجه، فإذا كان الداعي إلى منهج أو على منهج لا يثق به، ويتردد فيه، ولا يدري هل غيره أقوم من منهجه، فإنه لا يمكن أن ينجح في دعوته؛ لذلك التردد الحاصل لديه، ولهذا قال الزبيري رحمه الله عندما جادله بعض الجهمية: أأرجع بعدما رجِفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني إلى أن قال: فما عوض لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين صلى الله عليه وسلم فلابد أن يثق الداعية بمنهجه وأن يعلم أنه أحسن الموجود وأقومه، ولو كان اجتهاداً، فهو يعلم أنه هو أصح الموجودين لو علم أن غيره أصح منه وأحسن لتبعه بالضرورة؛ لأن اتباع الحق واجب، وقد قال عمر رضي الله عنه في كتابه لـ أبي موسى الأشعري: (ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك فهديت إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل). وكذلك ثقته بالمدعوين، فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به. ثم بعد هذا بناء ثقة الآخرين به هو، فالداعية عرضة للعداوة، كما قال ورقة بن نوفل: (إنه لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) وقد قال الشاعر: ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل والداعية قد دعا الناس إلى ذمه بسلوكه طريق الحق، فلابد أن يجد عليه أعداءً يدافعون عن الباطل، ولا يرضون طريق الحق أبداً، وهم خصوم الرسل، وما من نبي إلا وقال فيه بعضهم: كذاب مجنون ساحر إلى غير ذلك من أنواع التُّهمِ والشبهات، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أن ذلك ماضٍ مسلسل، فقال: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53]. ومن هنا فلن يضيق الداعية ذرعاً بما يوجه إليه من الشبهات؛ لعلمه أنها وجهت إلى من هو خير منه، لكن مع هذا يسعى لقطعها عن نفسه ما استطاع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع الشبهات عن نفسه، فقد كان في معتكفه في رمضان فأتت أم المؤمنين صفية بنت حيي تزوره في معتكفه، وكان ذلك في ليلة مظلمة فأراد أن يرجعها إلى غرفتها؛ حتى لا تخرج وحدها في الليل، فخرج يقلبها، فرآه رجلان من الأنصار، فلما رأيا المرأة معه أسرعا، فقال: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله!! أنتهمك؟ قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). فلابد أن يكون الداعية بعيداً عن مواقع التهم، وقد كان مالك يعتذر عن نفسه إذا حصل منه أمر ظن أن الناس سينقدونه، وبين وجهه فيه. وهذا ما حصل للخضر مع موسى، فإن موسى انتقد عليه ثلاثة أمور: الأمر الأول: خرقه للسفينة وقد حمل فيها بغير أجرٍ وهي في عرض الماء، والثاني: قتله للولد الصغير الذي لم يبلغ الحلم والتكليف بعد، والثالث: إصلاحه لجدار أهل القرية الذين امتنعوا من ضيافتهم، ولم يأخذ عليه أجراً، فأجابه عن ذلك جميعاً بما بيَّنه الله في كتابه. ومما يذكره أهل التفسير في هذا الأمر أن ذلك كان دروساً أخرى لموسى من وجه آخر، فموسى عندما أنكر على الخضر خرق السفينة في الماء كان يظن أن السفينة إذا خرقت ودخلها الماء ستغرق، وقد نبه بذلك إلى أنه هو قد رمته أمه في التابوت في البحر ولم يغرق وهو صغير. كذلك إنكاره عليه قتل الغلام فيه تنبيه لقتله هو للرجل الذي وكزه فقضى عليه. وكذلك في إصلاحه للجدار لولدي الرجل الصالح، فيه تنبيه لقصة حصلت له هو عندما ورد ماء مدين كما قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، فسقى لهما، ولم يأخذ على ذلك أجراً، فكان ذلك تنبيهاً له على فضل الله عليه ونعمته به.

الحلم

الحلم الصفة الخامسة: الحِلم، فلابد أن يكون الداعية حليماً، فمن كان عجولاً لا يمكن أن يحصل على مآربه الدنيوية فضلاً عن أموره الأخروية، والحلم يقتضي من الإنسان أن يكون وقوراً، وأن يكون صاحب سكينة، وأن يكون صاحب ثبات، والحلم والأناة صفتان يحبهما الله ورسوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس. وحاجة الداعية إلى الحلم عظيمة جداً، فبالحلم يعرض عن الجاهلين، وبالحلم كذلك يتغلب على كثير من العقبات التي تعرض له من مخالطة الناس، ولهذا قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].

الصبر

الصبر الصفة السادسة من هذه الصفات: الصبر، فلابد أن يكون الداعية صبوراً على الأذى، وأن يعلم أن هذا الطريق طريق محفوف بالمكاره، وأن الأذى فيه مضمون، لكن الأذى معلمة من معالم الطريق يعرف به أنه سلك طريق الحق. والأذى للسالكين لطريق الحق لله فيه حِكم عظيمة، فمنها: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى يصرف به الذين لا يرتضي خدمتهم للدين، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146]، وقال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]، وقال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، فهذه الحكمة الأولى. ثانياً: أن هذا الأذى يعرف به السالكون لطريق الحق أنهم ما ضيعوا، وأنهم سلكوا طريق الأنبياء، فمن سلك طريق الأنبياء ولم يؤذَ، ولم يجد ما وجده الأنبياء على هذا الطريق، فليعلم أنه قد ضيع الطريق وسلك فجاً آخر؛ لأنه لم يسلكه نبي قط إلا أوذي، كما بينَّا في حديث ورقة بن نوفل، وكما نص الله عليه في كتابه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]. ثالثاً: من حكم الله في الأذى الذي يلحق الدعاة على طريق الحق: أنه رفع لمستواهم ولمكانتهم، فقد يكتب الله المنزلة للداعية فلا يبلغها بعمله، فيقيض الله إليه من يتنقصه ويؤذيه؛ فيرفع الله بذلك منزلته وقدره، وقد يكون ذلك بعد موته، فتتلقى ذلك الألسنة، فيرفع الله قدره بذلك ومنزلته، ويهبُ له أولئك المتنقصون حسناتهم إن كانوا من أهل الإيمان. رابعاً: من حكم الله في ذلك: أن هذه الدعوة ليس لديها من الوسائل ما تصل به كثيراً من البيئات والملأ فتحتاج إلى الوسائل؛ للوصول إلى هنالك. ومن الوسائل: أن يتكلم الناس فيها، وينتقدونها، فيكون ذلك وسيلة لتقصي أخبارها والبحث عنها، وقديماً قال الشاعر: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود فإذا تكلم فيها الناس اقتضى ذلك أن يبحث عنها الباحثون عن الحق، وأن يتلمسوا أمورها حتى يطلعوا على جليِّ الأمر وحقيقته، فتصل الدعوة إلى أماكن لم تكن لتصلها من قبل، لولا تنقُّص الناس لها. خامساً: ومن حكم الله فيها: أنها مقتضية لتوحيد جهد الدعاة واتفاقهم، قال الشاعر: لما أتاني عن عيينة أنه عان عليه تضاعف الأقياد بذلت له نفسي النصيحة إنه عند الشدائد تذهب الأحقاد نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أهمية الخشوع

أهمية الخشوع ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل، ولا يعقل المرء صلاته إلا إذا خشع فيها، ومن هنا كان للخشوع أهمية عظيمة، فعلى المسلم أن يحرص على الخشوع، وأن يعمل بأسبابه ما استطاع، فإن الخشوع أول علم يرفع من هذه الأمة، ولهذا لما كان سلف الأمة أهل خشية وخشوع مكن الله لهم، ورفع قدرهم، وأعلى مكانتهم، وخلد ذكرهم.

أحوال الناس في عبادة الله عز وجل

أحوال الناس في عبادة الله عز وجل الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنس والجن لعبادته، وجعلهم متفاوتين في أداء هذا الحق الذي من أجله خلقوا، فمنهم من يوفق بتوفيق الله سبحانه وتعالى إلى استغلال ما أنعم الله به عليه من العمر والوقت فيما خلق من أجله، وأولئك هم الشاكرون، وقليل ما هم كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]. ومنهم من يستغل ما أنعم الله به عليه من النعم في عداوته ومعصيته، وأولئك هم المخذولون الذين لا يباليهم الله باله، ولا يضرون الله سبحانه وتعالى شيئاً، وإنما يضرون أنفسهم، ومنهم من يستغل نعم الله عليه في اللغو المباح فهذه النعم لا له ولا عليه منها، ولكن أولئك قد خسروا وفاتتهم الصفقات المربحة، وكثير من الذين يظهرون في صورة العابدين تكون عباداتهم جثثاً ميتة ليس فيها روح، وذلك أن روح العبادة هو الخشوع لله سبحانه وتعالى، والتأدب بأدبه، والخضوع بين يديه، والمذلة لوجهه العظيم الذي تعنو له الوجوه يوم القيامة كما قال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]. فيحتاج المؤمن إلى التخلق بهذا الأدب العظيم مع الله سبحانه وتعالى، وأن يكون من الخاشعين لله، وأولئك الخاشعون هم المخبتون الذين بشرهم الله بالبشارة العظيمة في كتابه، فقد قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 - 35]، فأولئك قد اتصفوا بهذا الأدب مع الله سبحانه وتعالى فعرفوه ولذلك أحسنوا عبادته، وعرفوا أن مدة بقائهم في هذه الحياة مدة محصورة يسيرة، وأن فائدتها القرب منه سبحانه وتعالى، فتنافسوا في التقرب إليه، وبادروا قبل أن تفجأهم الملهيات والشواغل التي تحول بينهم وبين ذلك، فقد علموا أن لهم أوقاتاً لا يستطيعون فيها عبادة الله، وعرفوا أن شواغل هذه الدنيا كثيرة، وأن الأوقات التي تخلص للإنسان ليعبد الله فيها ويصدق معه يسيرة، فبادروا فقطعوا المراحل، وسبقوا الشيطان، فلم يبق له على آثارهم إلا الندم، وأولئك قد عرفوا هذا الطريق فلزموه، فهم في سباق مع الزمن، وأيامهم ولياليهم مشغولة بالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وقطع المسافات الشاسعة في القرب إليه، والله سبحانه وتعالى يتقرب إليهم بأبلغ من ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب ألي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فسبحان ربنا ما أحلمه وما أكرمه!. إن الله سبحانه وتعالى غني عن العبادات التي يؤديها أصحابها بقلوب غافلة لاهية، وإنه سبحانه وتعالى إذا أقبل عليه العبد بخشوع أقبل عليه الباري سبحانه وتعالى، ويكفي ذلك شرفاً ومكانة، ولذلك جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد -وهو في صلاته- ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).

أقسام أعمال القلب

أقسام أعمال القلب إن عمل القلب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الثالث: الخشوع في العبادة

القسم الثالث: الخشوع في العبادة القسم الثالث من أعمال القلب: الخشوع، وقد عرفه ابن أسد بأنه الخوف باستشعار الوقوف بين يدي الخالق، والخوف أي: ما يعتري الإنسان من الخوف والمذلة عندما يستشعر الوقوف بين يدي الخالق، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وأن الله يجيبه في كلامه، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] تذكر أن الله يجيبه فيقول: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] تذكر أن الله يجيبه فيقول: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] تذكر أن الله يجيبه فيقول: مجدني عبدي، وفي رواية: فوض إلي عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل. وهكذا حتى تنتهي الصلاة، فكل لفظ يعلم أن الله سبحانه وتعالى يسمعه، وكل خطرة تخطر في القلب يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليها، وهو: {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وأنه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، ومن هنا فهو يخاف الخوف الشديد بهيبة هذا المقام، فأنتم تعلمون أن أحدكم لو كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسلم عليه ويكلمه، فلا شك أنه سيحضر ويخاف، كما وصف ذلك كعب بن زهير رضي الله عنه عندما وضع يمينه في كف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وقال كل خليل كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول وقد أتيت رسول الله معتذراً والعذر عند رسول الله مقبول مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم أذنب وإن كثرت فيَّ الأقاويل إلى أن يقول: حتى وضعت يميني لا أنازعه في كف ذي نقمات قيله القيل لذاك أهيب عندي إذ أكلمه وقيل إنك مأخوذ ومسئول من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه من بطن عثر غيل دونه غيل يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما لحم من القوم معفور الخراديل فهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من هيبة الإنسان لأسد يقابله، وقد عرف مكانه من قبل، وعرف أنه لا يجرؤ أحد أن يدخل مكانه، وتخاف منه السباع، فكيف بمن دونها؟! منه وتظل سباع الجو ضامدة ولا تمشى بواديه الأراجيل فإذا كان الإنسان هكذا بهيبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف ستكون هيبته لديان السماوات والأرض الذي خلق النبي صلى الله عليه وسلم وشرفه وكرمه، وهو الذي أرسله؟! فلابد أن يحضر في بال الإنسان أنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان، وما يعتريه حينئذ من قشعريرة الجسم والارتعاشة في البدن، وسيلان الدموع، وحركة في القلب، هو الذي يمثل بالخشوع، فالخشوع إذاً يعرف بهذه الأمور كلها، فيظهر على البدن بقشعريرته وانتفاضته وبالدموع، وكذلك بالخوف الشديد، وبارتعاش القلب، فكل هذه آثار من آثار الخشوع، وإنما يحصل ذلك للإنسان عند تمام إيمانه، فمن لم يكن مؤمناً بأنه يكلم الله كفاحاً، وأنه معه، وأن الله سبحانه وتعالى ينظر إليه وهو في صلاته، لم يكن لينال هذه المنزلة، ولم يكن ليحضر هذا التشريف، بل هو محجوب حينئذ مطرود عن جناب الله سبحانه وتعالى، فإنما ينظر الله سبحانه وتعالى إلى من كان متحلياً بما أمره به، متخلياً عما نهاه عنه، فأولئك هم الذين يستحقون هذا المكان الرفيع.

القسم الأول: النية

القسم الأول: النية القسم الأول: النية: والنية هي توجه القلب إلى الشيء وقصده، وهي التي يمتاز بها الفعل عن غيره مما يشابهه ويحاكيه، فتتميز بها العبادة عن العادة، ويتميز بها الفرض عن النفل، فلا يقع ذلك إلا بالنية، ولذلك كانت شرطاً لأداء العبادة وصحتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وبهذه النية يتفاوت العمل تفاوتاً عظيماً؛ فهي تفسير الأعمال، ويضاعف العمل اليسير بهذه النية إذا صدق فيها صاحبها وأخلص، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قاتل فقتل: (لقد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً). وهذه النية يكتب في ميزان حسنات الإنسان بها ما لم يعمله إذا نواه، فمن نوى الخير متى ما قدر عليه كتب له ولو لم يفعله؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان فيمن قبلنا مر على كثيب أهيل من رمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرضت عليه صحائف أعماله فإذا فيها كثيب أهيل من سويق، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط قال: أتذكر يوم كذا عند أن مررت على كثيب أهيل من رمل فقلت: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله؛ فقد تقبلته منك). ولذلك فنية المؤمن هي من عمله، فيثاب الإنسان إذا نوى صيام رمضان ولو مات قبل أن يبلغ رمضان، ويثاب بأجر الشهادة في سبيل الله إذا سأل الشهادة صادقاً ولو مات على فراشه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الله الشهادة في سبيله صادقاً بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه)، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]. وكذلك ينال الإنسان ثواب شيء لم يقع أصلاً ولم يخلق، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين أحوال الناس في الدنيا فذكر أربعة أحوال فقال: (إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله فقهاً ومالاً فهو ينفق ماله فيما يقرب إلى الله، فهو بأعلى المنازل. ورجل أتاه الله فقهاً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه ما فعل هذا، فهما في الأجر سواء. ورجل أتاه الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يضرب فيه يميناً وشمالاً في معصية الله، فهو بشر المنازل. ورجل لم يؤته الله مالاً ولم يؤته فقهاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثلما فعل هذا، فهما في الوزر سوا). فلذلك يثاب الإنسان على أمر لم يخلق إذا أحسن النية فيه لله سبحانه وتعالى، وقد كان كثير من سلفنا الصالح يستعد لرمضان قبله، وللعبادات كلها بنيته، فيحاول مع نفسه حتى يخلص النية ويصدق، ويتأهب بذلك للعبادة قبل أن يأتي وقت أدائها؛ فإن مات قبلها مات في طريقها؛ وهو في صلاة منذ خروجه إليها، وإن بلغ إليها جاءها مستعداً قد تخلص من كل الشواغل والملهيات، وأقبل عليها بقلب سليم.

القسم الثاني: حضور القلب في العبادة

القسم الثاني: حضور القلب في العبادة القسم الثاني من أعمال القلب هو الحضور: وهو أن يحضر الإنسان ما يفعل وما يقول، فإن قلب الإنسان عرضة لأن يذهب به الشيطان، فإذا فعل كثيراً من أنواع العبادات ولم يكن حاضراً لها كانت جوارحه خيراً من قلبه؛ فكان معكوساً منكوس الفطرة، فالأصل أن القلب إذا صلح صلحت الجوارح، وإذا فسد فسدت، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). ولذلك جاء النهي عن خشوع النفاق، قيل: وما هو؟ قال: أن ترى الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع، فإذا كانت الأعضاء خاشعة والقلب غير خاشع فهذا هو خشوع النفاق، ولا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضر، فقد يؤدي الإنسان الصلاة وما كتب له نصفها ثلثها ربعها حتى انتهى إلى العشر، فلا يكتب للإنسان من عمله إلا ما حضره، وذلك أن الإنسان إذا كبَّر وهو لا ينوي التكبير أو لا يقصده وإنما جرى على لسانه فهو بمثابة النائم الذي يهذي، والعقل مناط التكليف، وإذا ذهب العقل فاشتغل بأمر آخر كانت العبادة مؤداة في غير موقعها، كالذي يحلم في النوم أنه يفعل فعلاً ولم يفعله، فلذلك نجد أن كثيراً من المصلين والعابدين في غير الصلاة من أنواع العبادة يشتغلون بقلوبهم بأمر وتنشغل جوارحهم بأمر آخر! ولذلك قال العلامة محمد المودودي رحمه الله: إن من دواهي شيطان الصلاة أنه يشغل الإنسان بشيء مهم من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة عن صلاته، فلا هو أدى ذلك الأمر، ولا هو أدى صلاته! قال: من أربى مثلث الوترين تذكيره أمراً من الدارين عند دخولك الصلاة فاشتغل به فلا تصلحه ولا تصل وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ما يشغل عن الحضور في الصلاة، فقال: (لا صلاة بحضرة الطعام)، وذلك أن قلوب كثير من الناس تشتغل بالطعام، وبالأخص عند الحاجة إليه، فلا تحضر في الصلاة، فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بحضرة الطعام، فقال: (إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء قبل العِشاء)، فلذلك يبدأ الإنسان بالطعام قبل أداء صلاة العشاء، ليخلص لصلاته، ويتأهب لها. وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء حاقناً وهو يدافع الأخبثين، بل قال: (لا صلاة للمرء وهو يدافع الأخبثين)، فإذا كان الإنسان حاقناً يحس بغلبة البول فإنه لا يصلي في ذلك الوقت، بل يبدأ بالاستفراغ، ثم بعد ذلك يتأهب للصلاة ويتهيأ لها؛ لأن كل ما يشغله عن الصلاة سيذهب ببعض حضوره، فلا يؤديها كما شرعت. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عن المرور بين يدي المصلي لما فيه من شغله عن الصلاة، فاللحظة التي يمر فيها المار بين يدي المصلي يقطع نور صلاته؛ لانشغاله بالمار بين يديه؛ لذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في صلاته فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل، وليدن منها، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان). وكذلك جاء من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم في المسجد فجاءت شاة تريد المرور بين يديه فزجرها -معناه: أشار إليها فلم تزدجر- فتقدم حتى ألصق بطنه بالجدار؛ حتى يمنع تلك الشاة من المرور بين يديه. وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب له أعلام -والأعلام هي الخطوط الحمر- فلما سلم خلعه وقال: (احملوا هذه إلى أبي الجهم، وائتوني بإنبجانيته، فإنني نظرت إلى علمها فكاد يفتنني عن صلاتي). فلذلك لابد أن يتأهب الإنسان للانشغال بالصلاة، وعدم الانشغال بأي شيء سواها، حتى النظر إلى الخطوط في ثياب تشغل الإنسان عن صلاته؛ ولذلك خلع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الثوب، وأمر أن يحمل إلى أبي الجهم، وأن يؤتى بإنبجانية كان يلبسها أبو الجهم، فجمع بذلك بين الحسنيين؛ فـ أبو الجهم من فقراء المسلمين فتصدق عليه بهذا الثوب الجميل، والنبي صلى الله عليه وسلم زينته في ذاته؛ فلا تزيده الثياب زينة ولا رفعة، كما قال السموءل: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل ولذلك أراد أن يلبس إنبجانية هذا الفقير من فقراء المسلمين، فيلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزدان الإنبجانية برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتخلص من كل ما يشغل عن الصلاة ويلهي عنها. إن كثيراً من الناس إذا دخل الصلاة اشتغل بأمور مضت كان فيها، فكأنه لم ينقطع عما مضى، ولم يقبل على الله، ولم يدخل في الصلاة أصلاً، فما زال منشغلاً فيما كان منشغلاً به قبل الصلاة، وهؤلاء لم تنفعهم صلاتهم شيئاً، فلا هي تنهاهم عن الفحشاء ولا المنكر، ولا هي تقطع أعمالهم التي كانوا فيها، ومنهم من يبدأ الصلاة خاشعاً حاضراً، لكنه سرعان ما ينصرف وراء الأهواء والملهيات، فيدبر شئون حياته وأموره، ومع ذلك لا يقضي منها شيئاً. وقد ذكر بعض الفضلاء أنه كان يصلي مع الشيخ الحسن فلما سلم تردد الشيخ في الصلاة، هل نقصت أو هي تمام، فقال له الرجل: بل نقصت فقال: وما يدريك؟ فقال: كنت إذا دخلت الصلاة اشتغلت بقافلة من هنا إلى مكان كذا، وإلى مكان الزرع، فلا تسلم حتى آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها، والآن سلمت وأنا في مكان كذا قبل أن آتي بالأحمال وأدخلها في مكانها!! فأصبح يعرف قدر الصلاة بقدر انشغاله، وما تتجارى به نفسه فيه من الأمور.

الخشوع صفة أنبياء الله عز وجل وأوليائه

الخشوع صفة أنبياء الله عز وجل وأوليائه وإن الملك الديان سبحانه وتعالى يختار من عباده قوماً للخدمة، فيخلصهم لعبادته سبحانه وتعالى؛ وهم المخلَصون المخلِصون الذين اختيروا قبل خلق السماوات والأرض، وكتبوا في العباد الذين محضهم الله لطاعته، وأخلصهم لنفسه، وأولئك المخلصون هم الذين يستشعرون حلاوة المناجاة، ويستلذون بهذه العبادة؛ فيستريحون بالصلاة من هموم الدنيا ومشاغلها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال!)، وكان يلجأ إليها في شأنه كله. وكان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وكثير من الساسة إذا حزبهم أمر، وتكاثرت عليهم العساكر، ودخلوا في الحروب أو المشكلات المادية الاقتصادية، أو اجتمع العمال في إضرابات آثارها سيئة، ولم يجدوا ما يدفعون به رواتبهم، فإنما يلجئون إلى المؤسسات والهيئات، والنبي صلى الله عليه وسلم في كل الأزمات إنما كان يلجأ إلى الصلاة، فإذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وهي التي جعلت فيها قرة عينه صلى الله عليه وسلم، كما قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة). وكذلك فإن المؤمن الصادق إذا تذكر هذه المناجاة، وأنه يكلم الله كفاحاً دون ترجمان تذكر هذا المقام العظيم، ونحن جميعاً نغبط موسى بن عمران إذا تذكرنا أن الله اتخذه كليماً وكلمه بكلامه، ولاشك أن كل واحد منا يتذكر أن موسى كان نبي الله، وأنه كلمه مباشرة بكلامه سبحانه وتعالى، وهذا المقام مقال عالٍ جداً يعترف به الأولون والآخرون يوم القيامة في مقام الشفاعة، فيأتون موسى فيقولون: أنت كليم الله اختارك لرسالاته ولكلامه.

الخشوع مقام رفيع

الخشوع مقام رفيع فهذا المقام الرفيع يناله الخاشع لله سبحانه وتعالى إذا تذكر أن الله يخاطبه؛ فيقول: (حمدني عبدي أثنى علي عبدي مجدني عبدي هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل). فيشعر الإنسان حينئذ بهذا التقريب العظيم، وأنه صار كليماً لله سبحانه وتعالى حين أعلى منزلته، وخاطبه الرب سبحانه وتعالى الذي لا يشغله شيء عن شيء، ولا كائن عن كائن، ولا تختلط عليه اللغات، ولا تلتبس عليه، فهو سبحانه وتعالى يخاطبك بهذا الجواب، وأنت تقول في رفعك من الركوع: سمع الله لمن حمده، إقراراً بذلك وإيذاناً بهذه المناجاة العظيمة، فكأنما أوتيت صحيفتك بيمينك، فالفرح الذي يحصل عندما تنال صحيفتك بيمينك هو الذي تصيح به في الملأ الأعلى وتقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]. فكذلك هنا إذا خشعت بين يدي الله في ركوعك ترفع صارخاً فتقول: سمع الله لمن حمده، فرحاً بهذا اللقاء للملك الديان سبحانه وتعالى، وسروراً بهذه المناجاة التي أخلصت فيها لله، إن كثيراً من الناس لا يتذوق هذا الطعم ولا يناله، فإذا قال: سمع الله لمن حمده لم تؤثر فيه، وإذا سمعها من إمام لم يفهمها أصلاً، وإذا سمع الرفع بالتكبير لم يؤثر ذلك فيه، وأولئك لا يمكن أن يعدوا من الخاشعين، بل وشتان بينهم وبين الخاشعين!

حاجة الإنسان إلى الخشوع

حاجة الإنسان إلى الخشوع إن حاجة الإنسان إلى هذا الخشوع هي حاجته إلى تغذية قلبه، فهذه القلوب إنما تتغذى بالخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، والأنس به، والقرب إليه، وكلما كان الإنسان أعلى منزلة في الإيمان كلما كان أكثر خشوعاً وإقبالاً على الله سبحانه وتعالى وتأثراً بعبادته ومناجاته له سبحانه وتعالى. إن الله سبحانه وتعالى أثنى على الخاشعين في الصلاة في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]. ولا يقتضي هذا أن الخشوع مختص بالصلاة، بل الخشوع في كل عبادة لله سبحانه وتعالى، سواء كانت قلبية أو بدنية أو مالية، وسواء كانت فعلية أو تركية؛ إذ لابد فيها من هذا الخشوع؛ فهو روحها، وبه حياتها، وهو معناها، وإذا خلت العبادة من هذا الخشوع كانت روتيناً يفعله الإنسان كما يفعل الطفل إذا رأى مصلياً، فإنه يقوم ويصلي ولا يفهم شيئاً من ذلك، وإنما يركع ويسجد ويقوم كما يفعل في تقاليده للأشخاص جميعاً، والإنسان لا يرضى أن يكون كالطفل الذي لا يفهم شيئاً من تصرفاته، فلذلك لابد أن يفهم معنى القيام، ومعنى الاستقبال، ومعنى رفع اليدين، وأن يجعل الدنيا وراء ظهره، ويفهم معنى التكبير إذا كبر، ويعلم أنه إذا كبر ملأت تكبيرته ما بين السماء والأرض، ويفهم معنى الفاتحة التي يقرؤها، ومعنى القرآن الذي يقرأ بعدها، ومعنى تكبيره للركوع، ومعنى تسبيحه وتعظيمه فيه، وهكذا في كل أجزاء صلاته. وهكذا في عباداته الأخرى، فالصائم لابد أن يخشع أيضاً، ونحن ننتظر قبل رمضان قدوم هذا الشهر الكريم الذي هو شهر الصيام، فكثير من الناس يؤدي الصيام فيه من غير خشوع، فتجدهم في نهار الصيام وهم يعملون أعمالهم كما كانوا لا يحسون برغبة ولا رهبة، ولا يؤثر فيهم صومهم شيئاً، وتراهم كذلك في ليالي رمضان الفاضلة العظيمة التي يزداد فيها عمر الإنسان بما لا يعلم قدره إلا الله سبحانه وتعالى كما إذا وفق لقيام ليلة القدر، فإنه يزاد على الأقل بأربع وثمانين سنة في ليلة واحدة، ففائدة العمر للعبادة، وهذه الليلة خير من ألف شهر و (خير) أفعل تفضيل؛ ولا يقتضي ذلك حصرها في ألف شهر فإذاً: أقل الناس من كانت ليلة القدر في حقه بقدر ألف شهر، وألف شهر أربع وثمانون سنة وزيادة ستة أشهر تقريباً، فهذه المدة التي نحتاج إليها بزيادة أعمارنا، لا يستفيد منها أولئك الذين يشغلون ليالي رمضان بما لا خير فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، وفي رواية: (إني امرؤ صائم)، فلابد أن يستشعر الإنسان أنه في حرمة الصيام. فإذا كنت في صلاتك فخاطبك إنسان فهل ستجيبه؟ لن تجيبه؛ لأنك مشغول بحرمة الصلاة، فكذلك إذا كنت في حرمة الصيام، فاعلم أنك في حرمة عبادة عظيمة هي مثل الصلاة؛ فلذلك لابد أن تشتغل بصيامك. (فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم)، (فليقل) أي: في قلبه، أي: فليتذكر ذلك وليقل: إني صائم؛ لأن هذا الصيام يحجبه ويمنعه عن إجابة ذلك الإنسان بمثل قوله. وهكذا في العبادات كلها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالت: (أهو الذي يسرق ويزني ويكذب وهو يخاف الله؟ قال: لا، بل هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف ألا يتقبل الله منه)، فهؤلاء يؤتون ما آتوا، فيقدمون الأعمال الصالحة لأنفسهم وهم يخافون خوفاً شديداً ألا يتقبل الله منهم، ولذا قال سبحانه: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60 - 61].

فائدة الخشوع

فائدة الخشوع إن الإنسان إذا أحس بطعم هذا الخشوع سهل عليه، واستطاع أن يتعود عليه في أموره كلها، فكثير من سلفنا الصالح كانوا خاشعين في كل أوقاتهم، وإذا نظر الإنسان إليهم تذكر الله سبحانه وتعالى؛ فهم دائماً مشتغلون بطاعته وعبادته، وبمجرد النظر إلى أحدهم تتذكر الله سبحانه وتعالى. كان أهل الشام يقولون: إنا لتصدأ قلوبنا فنذهب إلى أبي الدرداء، فلا نكلمه كلمة واحدة، وإنما ننظر إليه في مصلاه فنرجع وقد تخلصنا من ذلك الصدأ؛ لأن أبا الدرداء كان في عبادته كأنما ينظر إلى الجنة والنار بين يديه. وكذلك فإن كثيراً من الذين أتوا من بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيضاً- كانوا بهذا الحال في كل أوقاتهم، فقد كان أهل العراق يذهبون إلى الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فإذا رأوه ورآهم بكى هو لرؤيتهم، وبكوا هم لبكائه! وقد ذكر مالك رحمه الله أمثال ذلك عن أهل المدينة، وتعظيمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدل على تعظيمهم لله عز وجل، فقد قال مالك رحمه الله: (لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً؛ فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته. هذا هو الرجل الكريم الذي كان ينفق ماله كله على الناس، ويخدم الفقراء بيده، وهو قد جمع أشرف النسب، فأبوه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه عائشة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فجمع الطرفين، وهو عالم أهل المدينة في ذلك الوقت وعابدهم، وهذا مع حسن خلقه ولباقته، ولكنه كان إذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته. قال مالك: (وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتقع لونه وتغير، حتى رحمناه، وخرجنا عنه). فأولئك القوم كانوا بهذا المستوى من الخشوع في كل أوقاتهم، ولم يزل الخشوع يتناقص في الناس عصراً بعد عصر، فاليوم تسمع من يسمع القرآن كاملاً أو يقرؤه كاملاً ولم تتحرك نفسه لآية واحدة منه! ولو نزل القرآن على جبل من الجبال لصار دكاً لجلال الله، كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. وتجد من يذكر عنده رسول الله صلى الله علي وسلم في المجلس كثيراً، ويسمع كثيراً من أحاديثه الصحيحة عنه، وكثيراً من أحواله، ومع ذلك لا ينتفض قلبه، ولا يتأثر، ولا يتذكر. إن كثيراً من الذين لا يفهمون حرفاً واحداً من القرآن يتأثرون لسماعه تأثراً بليغاً، وكثيراً من الذين يفهمونه ويتعقلونه ويدرسون تفسيره لا يتأثرون به، وهذا عجب من العجائب! وآية من الآيات، بل هو من معجزات هذا الكتاب العظيم، وقد شاهدنا عدداً من الأعاجم الذين لا يعرفون القرآن، ولا يفهمون منه كلمة واحدة، ومع ذلك لا يسمعون قراءته حتى تسمع النشيج عن يمينك وشمالك، يبكون بكاءً صادقاً بحرقة عظيمة، وذلك أنهم يعرفون أن هذا كلام الله، فقدر مستواهم في العلم أن يعلموا أن هذا الكلام كلام الله، فأحبوه من أجل ذلك، فبكوا تأثراً به. وقد كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عند موته يقلب المصحف على خديه ويقول: كلام ربي، كتاب ربي! محبة للقرآن، حتى توفي على ذلك رضي الله عنه وأرضاه.

خشوع النبي صلى الله عليه وسلم

خشوع النبي صلى الله عليه وسلم إن الذي يعلم بعض أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سماعه للقرآن وبعض أحواله في عباداته الأخرى، يستشعر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما امتن الله به عليه من البشارة العاجلة، ومع ما ادخر له من المقام المحمود العظيم الذي خصه الله به من بين الخلائق؛ كان يتأثر بهذا القرآن تأثراً عجيباً، ففي حديث ابن مسعود في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ علي القرآن، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فقرأت سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42]، قال: حسبك! فنظرت فإذا عيناه تهملان). (وخرج ذات ليلة في المدينة فمر على باب عجوز من الأنصار، فإذا هي تقرأ القرآن، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع، فقرأت العجوز: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أتاني، نعم أتاني، وجلس يبكي عند بابها). وعندما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة فتح مكة، وقد وعده الله سبحانه وتعالى بفتحها عليه فقال: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح:21]، مع ذلك يدخلها وهو في حال عجيب من الخشوع، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ألصق ذقنه بصدره حياءً من الله أن يدخل حرمه في السلاح). فهكذا كان حياؤه من الله، مع أن الله أحلها له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وإنما أحلت لي ساعة من نهار)، كما في حديث أبي شريح رضي الله في صحيح البخاري، ومع ذلك يخشع صلى الله عليه وسلم هذا الخشوع العظيم حياءً من الله سبحانه وتعالى، وأدباً معه، وتوقيراً لحرماته، وتعظيماً لها؛ لأن ذلك من التقوى، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. إن كثيراً من السابقين كانوا يخشعون في حلق العلم كما يخشعون في الصلاة، فهي عبادة لله سبحانه وتعالى؛ فيستعدون لها، ويتأهبون لها كما يتأهبون للصلاة، ويخشعون فيها كخشوعهم في الصلاة.

أحوال الصحابة والسلف رضوان الله عليهم في الخشوع

أحوال الصحابة والسلف رضوان الله عليهم في الخشوع ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده فتكلم كأنما على رءوسهم الطير، كما وصفهم عروة بن مسعود رضي الله عنه بقوله: (كأنما على رءوسهم الطير)، والطير إذا نزل على رءوس الإبل وجلت ووقفت ولم تتحرك من مكانها، فكذلك حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا عنده، فإنهم يكونون مطرقين يستمعون إلى ما يقول، وقد كانوا كذلك إذا سمعوا كلام الأئمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يطرقون لسماع الخطب وسماع الدروس من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، حتى فيمن بعدهم. فهذا مالك بن أنس رحمه الله كان إذا تكلم أطرق الناس لكلامه، ولم يراجعه أحد في كلمة منه، كما قال عبد الملك بن المعلل: يأبى الجواب فما يكلم هيبة والسائلون نواكس الأذقان شرف الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان ولذلك عند أن كان هناك أسرة غنية في المدينة لها ولدان فقط، فحسد أحدهما الآخر فقتله غيلة، بأن ذهب به إلى بئر فرداه فيها، ومذهب أهل المدينة أن القتل غيلة ليس الحق فيه لولي الدم، بل الحق فيه للمسلمين عموماً، فالقاتل غيلة يقتل ولو عفا عنه أولياء الدم، وبه أخذ مالك رحمه الله. فعفا والدا القتيل عن القاتل، وقالا: ليس لنا ولد سواه فنحن نعفو عنه، فوضعه أمير المدينة في السجن حتى يتبين له فيه، فجاء مالك فراجع الأمير في قتله، فقال: والداه شيخان كبيران، وقد أخبرا أنه ليس لهما ولد سواه، وهما يعفوان عنه، فقال مالك: (والله لا أتكلم في العلم حتى يقتل، فتحركت المدينة كلها حتى قتل الرجل. وهذا إضراب من الإمام مالك رحمه الله احتجاجاً على تعطيل حد واحد من حدود الله في قضية واحدة، والناس اليوم يشهدون تعطيل الحدود كلها! ومع ذلك لا يتحرك أحد لهذا، ولا يضرب من أجله، ومالك رحمه الله يضرب عن تدريس العلم من أجل تعطيل حد واحد، ويقول: (والله! لا أتكلم في العلم حتى يقتل). لذلك كان أولئك السلف رحمهم الله بهذا المستوى من الإيمان والخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى، فكانت صلاتهم تزيدهم إيماناً ونوراً، وكانت زكاتهم تزيدهم زكاءً وقرباً، وكان صيامهم مدرسة تعودهم على التقوى كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وكان حجهم كذلك تصفية وتطهيراً لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، وكما قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] أي: تغفر له ذنوبه كلها فيرجع ولا إثم عليه، وإنما ذلك لمن اتقى فقط. فلهذا كانوا في أدبار العبادات يتحلون بالصفاء المطلق؛ وتدعوهم العبادة إلى الزيادة منها، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، فكلما انتهوا من عبادة ازدادوا قوة ونشاطاً للعبادة الأخرى، بخلاف الذين يأتون الصلاة وهم كسالى، ولا يؤدون العبادة بإقبال كما كان أولئك، فستشق عليهم عبادتهم، وإذا انقضى رمضان لم يستطيعوا صيام ست من شوال، وإذا انقضى الحج وانتهى لم يستطيعوا العمرة، وقد ورد في متابعة الحج والعمرة الأجر الكثير؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير صدأ الحديد). وهكذا كانوا إذا سمعوا القرآن تأثروا به فازدادوا سخاءً وتواضعاً وإقبالاً، وإذا سمعوا أوامر الله سبحانه وتعالى فيه لم يتعدوها، ولم يتجاوزوها، كما كان عمر رضي الله عنه، ففي حديث الحر بن قيس في الصحيح قال: جاء عيينة بن حصن -وكان سيداً مطاعاً، ولكنه أحمق- فقال: إن لك وجهاً عند هذا الرجل؛ فاشفع لي عنده حتى أكلمه، فكلمه الحر، فدخل عليه عيينة فقال: أيه يا ابن الخطاب! فوالله! ما تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فغضب عمر للكذب، حتى هم به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول في كتابه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما تعداها عمر حين سمعها؛ وكان عمر وقافاً عند كتاب الله. ونحن اليوم إذا قرئ على الإنسان شيء من كتاب الله أو استدل له بآية يحفظها، وقد يكون حفظها قبل بلوغه، بل قبل إدراكه ولكنه لم يقف عندها، فتراه يريد المراجعة، ويريد معارضتها بكلام المخلوقين، وهي كلام الخالق سبحانه وتعالى، وإذا أخبر بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك لم يقف عنده، ويريد معارضته بكلام من دونه من أتباعه، فكل هذا من الخلل البين الذي هو بسبب نقص الخشوع والإقبال على الله سبحانه وتعالى. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس في كل الأوقات، ولكنه كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة.

أثر الخشوع في طلب الجنة والشهادة في سبيل الله

أثر الخشوع في طلب الجنة والشهادة في سبيل الله فإذا كان الحال كذلك فينبغي لنا بعد كل عبادة أن نتأثر بأثرها، فيتضح ذلك في أخلاقنا وتصرفاتنا وكلامنا، وينبغي أن نكون أهل إقبال على الله سبحانه وتعالى وتنزه عن هذه الدنيا وعن أعراضها كلها، وعلينا أن نتطهر من كل ذلك، فينبغي أن ترف قلوبنا إلى الجنات العلى، وأن نتأهب للفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن، وحينئذ يضحي الإنسان، وتستعد نفسه للتضحية والبذل في سبيل الله بما يستطيع. ولذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا سمعوا شيئاً من الوعد أو الوعيد رفت له قلوبهم، ففي حديث أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال: حضرت أبي وقد حضر الصف، أي: التقى الصفان في حال المعركة فقام أبو موسى -وهو أبو أبي بردة -فقام خطيباً فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، لم يكن بينه وبين الجنة إلا أن يموت)، فقال له رجل: يا أبا موسى! آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فتقدم الرجل فقاتل حتى قتل. فهكذا كان يؤثر فيهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوه؛ لأنهم صدقوا الله سبحانه وتعالى فأثر فيهم هذا الكلام تأثيراً بليغاً. فهذا عامر بن فهيرة لما أحس بوقع السيف نضح الدم على وجهه وقال: (فزت ورب الكعبة!). وكذلك فعل حرام بن ملحان رضي الله عنه؛ فإنه لما ضرب بالسيف حمد الله سبحانه وتعالى على أنه قتل في سبيل الله، وهذا الحال نجده عندما سأل ابن رواحة رضي الله عنه الله سبحانه وتعالى المغفرة والشهادة في سبيله عند توديع المسلمين له في غزوة مؤتة والناس يسألون لهم العودة بأمان، وهو يقول: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا فذكر أنه يريد الشهادة في سبيل الله، وألا يرجع أبداً بعد ذلك، فقد فهموا هذه النصوص وتأثروا بها، ولذلك فإن ابن رواحة عندما نزل للبراز في وقت المعركة قال: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها علي إن لاقيتها ضرابها فترجل وقاتل حتى قتل مقبلاً غير مدبر. وكذلك عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه في يوم أحد؛ عندما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الجيش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: (أي أصحابي! لا تخونوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف؛ وقد رأيتم العدو مقبلاً، فقالوا: لو كنا نعلم قتالاً لاتبعناكم، فقال: لعنكم الله، وأغنى عنكم المسلمين). فرجع فانتزع بردة كانت عليه فوضعها أمامه، وقاتل حتى قتل، وتمنى أن يعود إلى الدنيا حتى يقاتل فيقتل، ثم يقاتل فيقتل. وقد تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلاف سرية تخرج في سبيل الله، ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل). فالشهيد لا يتمنى شيئاً من الدنيا إلا الرجوع إليها ليقتل مرة أخرى في سبيل الله لما رأى من أجر الشهادة وفضلها، فإنه يغفر للشهيد عند أول قطرة تقطر من دمه، ويزوج بسبعين من الحور العين، فلذلك لما صدق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام كانت لهم التضحيات العظيمة، وكان لهذا التصديق والخشوع الأثر البالغ في نشر الإسلام والجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، ولما تراجع الخشوع في الناس قل فيهم العمل بمقتضى ما يقرءون، فالناس الآن يصدقون هذا الكلام ويعلمون أنه الحق، لكنهم لا يعملون به كما عمل به أولئك، فلا يضحون في سبيل الله كما ضحى أولئك السابقون الأولون. ولهذا فقد تراجع مد الإسلام، وأصاب كثيراً من المسلمين الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت وانشغلوا بأمور دنياهم عن أمور هذا الدين، فأصبح كثير من الناس يؤثر السلامة العاجلة على أمور الدين، ولا يرضى أن يتمعر وجهه يوماً واحداً في ذات الله سبحانه وتعالى، فكل ذلك من نقص الخشوع لله سبحانه وتعالى وإحسان التعامل معه جل وعلا. إن علينا -عباد الله- أن نحيي قلوبنا بالخشوع لله سبحانه وتعالى في أعمالنا كلها، وأن نتذكر أن هذا الخشوع هو روحها، وأنها إذا خلت منه كانت جثة ينبغي أن ترمى في القمامة، فلا يستطيع أحد أن يحمل جيفة قد أنتنت، وهذه الأعمال إذا خلت من الخشوع والخضوع كانت جيفة منتنة لا خير فيها؛ فلابد أن نستحضر هذا في أمورنا كلها.

الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة

الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة ولابد أن نعلم أن للخشوع أسباباً معينة عليه:

استواء الصف من أسباب الخشوع

استواء الصف من أسباب الخشوع وكذلك مما يعين على الخشوع في الصلاة: استواء الصف؛ فالصف الذي يتخلله الشياطين لا يمكن أن يحضر أصحابه، ولا أن يخشعوا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مالي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم عفر؟!)، وقال: (عباد الله! لتسوون بين صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم). فلذلك لابد أن يجتهد الناس في تسوية الصفوف، وأن يلين الإنسان في يد إخوانه حتى يكون ذلك سبباً لخشوعه، وكم من إنسان لم يكن خاشعاً فأحس بقشعريرة جاره في الصف فأدى ذلك به إلى الخشوع! وكم من إنسان أيضاً كان مشتغلاً على الأقل بالحضور في الصلاة، فإذا بجاره يتثاءب، فاتصل به الشيطان فتثاءب هو بتثاؤب جاره، وكثيراً ما ترون الإنسان إذا تثاءب تثاءب جاره في الصلاة؛ لأن الشيطان يتوصل بالجار إلى جاره.

دعاء الاستفتاح من أسباب الخشوع في الصلاة

دعاء الاستفتاح من أسباب الخشوع في الصلاة كذلك من أسباب الخشوع في الصلاة: دعاء الاستفتاح الذي يقصر فيه كثير من الناس، فإن الإنسان إذا أقبل على الله وكبر تكبيرة الإحرام واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه استطاع بذلك أن يخشع؛ لأن الشيطان سيجتنبه. فكثير من الناس لا يفتتح الصلاة أصلاً، فلذلك يجد الشيطان مدخلاً إليه في بداية صلاته، وقلما يحضر معنى التكبير في ذهنه، وقلما يحضر معنى الحمد في ذهنه عندما يقرأ إذا لم يستفتح، لكن إذا استفتح الصلاة بالدعاء الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلني من الخطايا بالماء والثلج والبرد)، تباعدت عنه خطاياه، فاستطاع أن يحضر في الصلاة، واستطاع أن يخشع إذا قرأ الفاتحة أو غيرها، فكان ذهنه حاضراً؛ لأنه قد باعد الله بينه وبين خطاياه، وبينه وبين الشيطان، وغسل بالماء والثلج والبرد، وتهيأ لأن يكون من الخاشعين بين يدي الله سبحانه وتعالى.

استحضار المصلي لعظمة الصلاة من أسباب الخشوع

استحضار المصلي لعظمة الصلاة من أسباب الخشوع كذلك من أسباب الخشوع في الصلاة: عظمة هذه الصلاة في ذهن الإنسان: فإذا كان الإنسان إذا سمع (حي على الصلاة) أو أدرك أن وقت الصلاة قد دخل، استطاع أن يتخلص من أعماله، وأن ينتفض قلبه منها، وكانت أكبر همه إذا حضر وقتها، وكان مقدماً لها على كل أشغاله الأخرى، فهذا هو الذي يستطيع الخشوع فيها. أما إذا كانت الصلاة أمراً روتينياً في حياته وعادياً؛ فإنه إذا فاتته الصلاة لم يشعر بالمصيبة، وقد كان الصحابة يعزي بعضهم بعضاً إذا فاتتهم الصلاة، فمن فاتته الصلاة منهم يُعزى في تلك المصيبة التي حلت به. فإذا كان الإنسان يعلم عظمة الصلاة وأهميتها ويبادر إليها بهذه المبادرة، فلابد أن يكون خاشعاً فيها؛ لأنه مستعد لها تمام الاستعداد؛ ولذلك فإن الذي يستحضر عظمة الصلاة والاهتمام بها سيكون من المحافظين عليها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حفظهن وحافظ عليهن حفظ دينه، وكان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن ضيعهن لم يكن له عند الله عهد. إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه). وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى عماله: (إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع وأضيع). فلذلك لابد أن تكون الصلاة ذات أهمية في حياة المسلم، وأن يقدمها على شئونه الأخرى، فهذا مما يعينه على الخشوع فيها.

الحضور إلى المسجد قبل الصلاة من أسباب الخشوع

الحضور إلى المسجد قبل الصلاة من أسباب الخشوع وكذلك من أسباب الخشوع في الصلاة: الحضور قبلها إلى المسجد بوقت تستقر فيه النفس؛ حتى يؤدي الإنسان الرواتب، ويتطهر، ويذكر، وتحول بينه وبين الشيطان فترة حادثة لجوارحه في المسجد، فالذي لا يأتي إلا عند الإقامة أو بعد أن يحرم الإمام كيف يخشع وقد جاء من الدنيا مباشرة إلى الصلاة؟! وإنما يخشع الإنسان إذا جاء فجلس في المسجد بعد أن صلى الراتبة، وهيأ نفسه للصلاة، وذكر الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي يستطيع الخشوع في الصلاة.

استخدام السواك من أسباب الخشوع في الصلاة

استخدام السواك من أسباب الخشوع في الصلاة كذلك فإن مما يعين على الخشوع في الصلاة: السواك، فهو مطهرة للفم مرضاة للرب، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليه، وكان يبدأ به إذا دخل بيته وإذا خرج منه، وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وفي رواية: (عند كل وضوء)، فالعناية بالسواك مما يعين على الحضور في الصلاة والخشوع فيها.

الطهارة من أسباب الخشوع

الطهارة من أسباب الخشوع فمن أسباب الخشوع في الصلاة: أن يستحضر الإنسان ذلك في وقت طهارته، وأن يحافظ على الطهارة تمام المحافظة، فكيف يخشع من لا يؤدي طهارته، ولا يستتر من البول، ولا يأتي الصلاة إلا في ثياب متسخة، ولا يأخذ زينته عند كل مسجد؟ وإذا ذهب إلى المدرسة أو إلى العمل اتخذ ثياب زينته، فإذا ذهب إلى المسجد خرج في ثوب نومه، فكيف يخشع من كان هكذا؟ وإن سبب نقص خشوع كثير من الناس في الصلاة هو عدم حفاظهم على الطهارة، فهذه الطهارة سواء كانت من حدث أو من خبث، إنما جعلها الله سبحانه وتعالى إعداداً للصلاة وتهيئة لها، فطهارة الخبث إذا تركها الإنسان كان عرضة لعذاب القبر، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين جديدين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة). وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه). وإن كثيراً من الناس لا يستترون من البول، فترى بعضهم يبول في الطرق التي هي حق مشترك للعامة لا يحل استغلاله فيما يضر بالعامة، وهي من الملاعن التي يُلعن أصحابها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللاعنين، وعن الملاعن كلها. وكذلك تجد كثيراً من الناس لا يحافظ على أداء طهارة الحدث؛ فهو يتيمم وهو قادر على الغسل أو الوضوء، وإذا تيمم أيضاً لم يحسن التيمم، فتراه يأخذ حجراً صغيراً فيمرر يديه عليه، ويظن هذا مجزئاً في التيمم، وهذا بعيد كل البعد عن التيمم الذي شرعه الله، فقد قال الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6]، وهو يمسح به هو على يديه، فهو لم يؤد ما أمره الله به؛ ولا يعتبر هذا تيمماً، ولا يجزئه. وهكذا تجد كثيراً من الناس لا يبالي بنظافة ثيابه، مع أن الأصل أن يكون للإنسان ثوب للصلاة يعده لها، فهذه الصلاة هي أعظم أحوالك وشئونك، فأنت تعد ثوبك وتغسله وتنظفه إذا أردت الذهاب إلى العمل أو إلى المدرسة، فكيف لا تحضر ذلك للصلاة وللمسجد العظيم، وقد قال الله تعالى في كتابه: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]؟! فهذا مما يهمله كثير من الناس، وهو مما يكون سبباً لنقص الخشوع.

الخشوع مطلوب في جميع العبادات

الخشوع مطلوب في جميع العبادات وكذلك على الإنسان أن يعلم أن هذه الأسباب المذكورة في الصلاة نظيرها في غير الصلاة من العبادات الأخرى، فإذا كان الإنسان يتأهب للعبادات الأخرى ويتهيأ لها، اشتياقاً إلى الله، ورغبة في مقابلته، ورغبة في الخير الذي سيقسمه بين عباده، وهو يعلم أنه الآن قد أذن له، وفتح له باب الملك الديان، وقد تنافس المتنافسون في الدخول فازدحموا عند الباب، فلذلك يريد أن يكون من الذين يتعرف عليهم الملائكة، وأن يكون من الذين يكتبونهم الأول فالأول، وأن يتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفه في الشدة؛ فهذا لاشك أنه سيكون خاشعاً في أعماله كلها؛ لأنه يحس بالمنافسة، ويحس بأن الناس رعيل مقبل، وأن العباد منهم من يتنافسون في القرب؛ وهو لا يرضى أن يكون أحد سابقاً له حاجزاً بينه وبين القرب إلى الملك الديان سبحانه وتعالى. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الخشوع في عبادتنا كلها، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الصادقين المخلصين المخلصين، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

سبب صعوبة الزواج على كثير من الشباب

سبب صعوبة الزواج على كثير من الشباب Q لماذا أصبح الزواج صعباً على الشباب الراغبين فيه؟ A هذا من الأخطاء الاجتماعية، ومن الأمور التي ينبغي أن يتخلص منها المجتمع؛ فإن ذلك من الأمور التي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم من صلح لها وقدر عليها، والتعاون على ذلك من التعاون على البر والتقوى، وهو من الأمور التي يسرها الشارع، وحض عليها. ولم يكن غلاء المهور محموداً، ففي زمان النبي صلى الله عليه وسلم، كانت مهور أزواجه وبناته بأقل ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يذكر نساء قريش بقلة التكاليف، فقد صح عنه أنه قال: (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أرعاه لزوج في ذات يده، وأحناه على ولد في صغره، وأرضاه بالقليل). وكذلك فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بهذا المستوى، فقد ذهب بلال رضي الله عنه مع أخيه إلى قوم من الأنصار، فحمد بلال الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فأنا بلال وهذا أخي، كنا عبدين فأعتقنا الله، وكنا كافرين فهدانا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن زوجتمونا فلكم الشكر، وإن رددتمونا فلكم العذر، فقالوا: والله لا نردكما، فزوجوهما. فإذاً: كان الأمر ميسوراً على هذا الوجه، وإنما جاءت التعقيدات بأمر الجاهلية، وهي سبب لإشاعة كثير من الفحشاء والمنكر. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود بإسناد صحيح أنه قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).

حكم صلاة حامل النجاسة

حكم صلاة حامل النجاسة Q إذا سقطت النجاسة على المصلي في الصلاة، فماذا يعمل؟ A النجاسة إذا أحس بها المصلي في الصلاة فعليه أن يقطع صلاته حتى يتطهر منها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في الصلاة فأتاه جبريل فأخبره أن في إحدى نعليه قذراً فخلعهما.

تفسير قوله تعالى: ((وماكنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا))

تفسير قوله تعالى: ((وماكنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا)) Q ما هو تفسير قول الله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:45]؟ A الله سبحانه وتعالى بين لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يقتدي به من هدي الأنبياء السابقين، فبين له ما لقي موسى من الأذى، وما لقي شيخ مدين كذلك من أهلها، وما لقي غيرهما من الأنبياء من الأذى من أصحابهم، وأنهم صبروا على ذلك وصابروا، وهذا تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له عما يلقى من إعراض قومه وأذاهم، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر). وقوله: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:45] أي: ما كنت مستقراً، والثواء: الاستقرار كما قال عنترة: طال الثواء على رسوم المنزل بين اللكيك وبين ذات الحرمل والمقصود بقوله: (وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، أنهم كانوا من أفجر الأمم وأشدهم إعراضاً عن الحق، فلذلك عزي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعراض قومه بأنه قد نال ذلك من الذين سبقوه على هذا الدرب، فقد لقوا الأذى والإعراض وصبروا عليه: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وهذا هو الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً. لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من قدر، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، أخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والعمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض، أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا. اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم هؤلاء عبادك وإماؤك قد اجتمعوا في بيت من بيوتك يرفعون إليك أيدي الضراعة، فلا تردهم خائبين، ولا تجعلهم عن رحمتك من المطرودين، وهب المسيئين منهم للمحسنين يا أرحم الراحمين! اللهم ما أنت قاسمه من خيري الدنيا والآخرة فاجعل لنا منه أوفر حظ ونصيب، اللهم لا تخرج أحداً من هذا المكان إلا وقد غفرت له، اللهم لا تخرج أحداً منا من هذا المكان إلا وقد غفرت له، اللهم إنك أعلم بنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا، اللهم إنك أعلم بنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا. اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، واجعل المال عوناً لنا على طاعتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض. اللهم إن الأمور مرجعها إليك فلا تفضحنا بين يديك، اللهم خذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، اللهم ملك علينا أنفسنا بخير، ولا تسلطها علينا بشر. اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اجعل سرائرنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانياتنا صالحة، اللهم استرنا بسترك الجميل. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك في كل مكان، اللهم سدد أقلامهم، وسدد سهامهم، واجمع على الحق قلوبهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أنزل بأسك ورجزك وسخطك وعذابك على كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك، ويصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، وأنزل بهم المثلات والقوارع يا قوي يا عزيز! اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا قوي يا متين، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا قوي يا متين. اللهم طهر المسجد الأقصى من رجز اليهود. اللهم كن للمستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وفك أسرى المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم فك أسر المأسورين من المسلمين يا أرحم الراحمين! اللهم عجل فرجهم يا قوي يا عزيز، اللهم انصر دينك وأظهره على الدين كله ولو كره المشركون. اللهم اخلف نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته بخير، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا أرحم الراحمين! اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بك، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

حكم قيام الابن بتطهير أمه

حكم قيام الابن بتطهير أمه Q امرأة لا تستطيع القيام بشئونها لمرض، وليست لها بنت تقوم بذلك، فهل يجوز لابنها أن يقوم بشئونها من تطهيرها وغير ذلك؟ A تطهير بدنها إذا كان مما يتعلق بالعورة بأن يكون ملوثاً بالنجس، فالأصل أنه لا يحل ذلك للرجال، لكن إذا لم توجد امرأة تقوم به فستكون هذه المرأة كالمتوفاة، ومن المعلوم أن المتوفى يباح غسل عورته، لكن يجعل الإنسان على يده خرقة حتى لا يباشر العورة بيده ولا ينظر، بل يغسل من تحت الثوب. فابنها هذا إذا لم يجد من يزيل عنها ذلك الضرر والقذر فليجعل على يده سترة، وليغسلها من تحت ثوب، ولا يكشف عن شيء من ذلك، فيجعلها بمثابة المتوفاة، ويكون هذا من باب الضرورات كما قال خليل رحمه الله، إنما ذلك من أحكام الضرورات التي تبيح المحظورات.

حكم صرف الكفارة في نفقة الأبناء

حكم صرف الكفارة في نفقة الأبناء Q هل صرف الكفارة في نفقة الأبناء مجزئ أم لا؟ A إذا كان الإنسان فقيراً معدماً لا يملك شيئاً، وكان من أشد الناس حاجة وفقراً، فيمكن أن يخرج كفارته على أهل بيته، بدليل حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه، فإنه (أتى النبي صلى الله عليه وسلم يضرب صدره وينتف شعره، فقال: يا رسول الله! هلكت وأهلكت، فقال: ولم؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فأمره أن يعتق رقبة، فضرب صفحة عنقه وقال: والذي بعثك بالحق لا أملك غير هذه، فأمره أن يصوم شهرين متتابعين، فقال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام؟ فأمره أن يطعم ستين مسكيناً، فقال: والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فأمره أن يجلس، فجلس فجيء بعرق من تمر -وهو وعاء يتسع لستين مداً- فقال: أنفق هذا على أهلك)، فحمله فأنفقه على أهله، وهذا من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفقه بأمته. فلعل الراجح إن شاء الله تعالى: أنه إذا كان الإنسان بهذا المستوى من الفقر والحاجة فله أن ينفق ذلك على أهله.

وقت إخراج زكاة الفطر

وقت إخراج زكاة الفطر Q هل إخراج صدقة الفطر قبل الفطر جائز؟ وهل المطلوب إخراجها قبل الصلاة؟ وهل تجزئ نقداً؟ A من السنة أن تخرج زكاة الفطر إلى المساجد في الليالي الثلاث الأخيرة من رمضان، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبسط البسوط في مؤخرة المسجد، فيأتي الناس بصدقات الفطر، وكان يكلف أبا هريرة برعايتها، فكان يحرسها، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح يوم العيد، جاء إليها فقسمها، ثم إذا انتهت خرج إلى المصلى. فإذاً: ينبغي للناس أن يخرجوها إلى المساجد، وأن يجمعوها فيها في الليالي الأخيرة من رمضان، ثم توزع بعد صلاة الصبح قبل صلاة العيد. أما إخراجها بالقيمة أو بغير الطعام: فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فرضها صاعاً من طعام كما في حديث ابن عمر، فالراجح أنه لا يجوز أداؤها من غير طعام، إلا إذا كان الإنسان في مكان لا يجد فيه من يحتاج إلى ذلك الطعام، كالموجودين في بعض البلدان الأوروبية أو الأمريكية من المسلمين الذين هم في جالية غنية في جمهورها، ويحتاج الفقراء إلى نقل زكاة الفطر إليهم، فحينئذ يمكن أن تنقل، وكذلك الحال في بعض البلدان الغنية يمكن أن تنقل نقداً فيشترى بها الطعام للفقراء في أماكن وجودهم.

حكم العمليات الاستشهادية

حكم العمليات الاستشهادية Q ما حكم من نفذ عملية استشهادية فقتل فيها مجموعة من اليهود؟ A إذا كان ذلك في فلسطين فهو من الجهاد في سبيل الله، وقد أوجب الله سبحانه وتعالى الجهاد في سبيله، وأوجب إرهاب العدو وإرعابهم، فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، ولا يمكن اليوم جهاد اليهود بأي سلاح ولا بأي وسيلة لأفراد المسلمين إلا عن طريق هذه العمليات. وهذا الجهاد في أهم جهة اليوم وأعظمها، ولا يوجد غير هذه العمليات، وعلى الإنسان حينئذ أن يكون صادقاً مخلصاً، وألا ينوي بذلك إزهاق نفسه والخروج من هذه الحياة، بل ينوي بذلك جهاد العدو وإعلاء كلمة الله وإرهاب العدو بذلك، وأن يكون مخلصاً لله صادقاً، فإنما حرم الله قتل الإنسان نفسه إذا كان ذلك عدواناً وظلماً، وهي علة منصوصة؛ فقد قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:29 - 30]. وأما بالنسبة للبلاد الأخرى التي ليست مثل فلسطين، فلا ينبغي فيها الإقدام على مثل هذا ما دامت الوسائل الأخرى موجودة. والشهادة إنما تكون بالنية، فإذا كان الإنسان صادقاً مخلصاً فهو شهيد عند الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نستطيع الحكم بذلك، فإنما الشهيد من صدق، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقيل له: (الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث أنه قال: (والله أعلم بمن يقتل في سبيله).

حكم العمل الخاص في وقت الوظيفة العامة

حكم العمل الخاص في وقت الوظيفة العامة Q هل يجوز لموظف في الوظيفة العامة أن يعمل عملاً آخر مع وظيفته؟ الجوب: الوظيفة إذا كانت مباحة في أصلها، وكان الإنسان مأذوناً له شرعاً في أن يعملها، ووقع عقداً على أن يستغل الوقت المقرر في تلك الوظيفة، وكانت الوظيفة تأخذ ذلك الوقت كله، فلا يجوز له أخذ شيء من ذلك الوقت لأموره الخاصة، وإذا استغله فما يأخذ في مقابله هو من السحت. أما إذا كانت الوظيفة أصلاً لا يجوز العمل فيها فيجوز حينئذ الخروج منها، بل يطلب الخروج والتوبة منها، وكذلك إذا كانت الوظيفة لا تشغل الوقت كله كساعات التدريس، فإذا كان الإنسان موظفاً-مثلاً- لتدريس حصص محددة فدرسها، فالوقت الآخر الذي ليس فيه تدريس وليس فيه جدول لعمله يمكن أن يصرفه فيما كان من شئونه.

حكم العمل في دكان لا يصلي أصحابه صلاة الجماعة

حكم العمل في دكان لا يصلي أصحابه صلاة الجماعة Q هل يجوز العمل في دكان لا يصلي أصحابه مع الجماعة ويباع فيه بعض البضائع الأمريكية؟ A إن الإنسان إذا كان ينصح، ويؤدي الحق الذي عليه، وإذا سمع النداء إلى الصلاة أقبل عليها، ولم يكن يبيع شيئاً من المحرمات، فيجوز له العمل مع النصح لمن يعمل معه أن يكون كذلك، وأن تكون الصلاة أهم عنده من التجارة، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11]. فلابد أن يتذكر الإنسان أن ما عند الله خير وأبقى، وأن يقدم الصلاة على التجارة، وكذلك لابد أن ينصح من يعمل معه حتى يترك بيع ما حرم الله بيعه.

موضع اليدين في الصلاة

موضع اليدين في الصلاة Q جاء في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يصير كل عظم في موضعه، أليس هذا دليلاً واضحاً لمن قال بإسبال اليدين في الصلاة؟ A لا؛ فموضع اليدين في الصلاة هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم وعرف من فعله، وهو وضع اليدين على الصدر، فهذا استقرار كل عضو في موضعه، فموضع العضو لا يقصد به موضعه في حال القيام، ولا موضعه في حال الاضطجاع أو الجلوس؛ فذلك مختلف، إنما يقصد به موضعه في الصلاة، فموضع اليدين في الصلاة في حال القيام هو الصدر، فالإنسان يضع يساره على صدره، ثم يضع يمينه فوقها أو يقبضها بها، فهذا موضع اليدين في الصلاة. والسائل يسأل عن حديث أبي حميد الساعدي في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقر أبا حميد على ذلك عشرة ممن شهدوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فقد بين أبو حميد هيئة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما موضع اليدين في الصلاة فهو الصدر، لما ثبت في أحاديث أخرى كثيرة تقارب ثمانية أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في موضع اليدين في الصلاة.

تحريك السبابة في الصلاة

تحريك السبابة في الصلاة Q ما حكم تحريك السبابة في الصلاة؟ A ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بالمسبحة، و (يشير) فعل مضارع، والفعل المضارع يقتضي التجدد، والجملة الحالية تقتضي التجدد والحدوث، والفعل المضارع أيضاً يقتضي التكرار، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بسبابته، ومعنى الإشارة بها: التحريك، وأيضاً جاء في حديث زائدة بن قدامة أنه كان يحركها، بلفظ التحريك، وهي زيادة ثقة.

وقت تستر المرأة

وقت تستر المرأة Q هل تجوز مصافحة البنت التي بلغت الخامسة من عمرها إذا أمنت الفتنة؟ A نعم؛ لأن البنت إنما يطلب سترها إذا دخلت التاسعة من عمرها وهذا أرجح شيء، فإن عائشة رضي الله عنها حدثت عن نفسها: أنها كانت تلعب مع بنات من الأنصار على المراجيح، فجاء نسوة من الأنصار فأخذنها، فغسلن رأسها وهيأنها، فلم تكن حينئذ تلبس ما يسترها في وقت أخذها وهي في التاسعة من عمرها، وذلك حين دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإيمان قبل العلم وما يستحيل في حق الله تعالى

الإيمان قبل العلم وما يستحيل في حق الله تعالى لله تعالى الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقد قسم العلماء ما يتعلق بالله من الصفات إلى مستحيلة وواجبة وجائزة بحسب أقسام الحكم العقلي، وفي هذه المادة يشرح الشيخ هذا التقسيم، وما يترتب عليه من الكلام.

أقسام الحكم العقلي وتعلق الصفات بها

أقسام الحكم العقلي وتعلق الصفات بها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهنا يلزمنا أن نعرف أن الحكم العقلي ثلاثة أقسام هي: - الوجوب. - والاستحالة. - والجواز. فالوجوب هو: أن يحكم العقل بثبوت شيء بحيث لا يقبل ارتفاعه. والاستحالة هي: أن يحكم العقل بنفي شيء بحيث لا يقبل ثبوته. والجواز هو: أن يحكم العقل بتساوي الأمرين بحيث يجوز نفي هذا وإثباته. ومجال صفات الله سبحانه وتعالى أحكام العقل ثلاثة كذلك: النوع الأول من الصفات ما يوجبه العقل لله بها، وهذا فيه الصفات المذكورة، حيث يوجبها العقل السليم ودل عليها النقل الصحيح وأيضاً. النوع الثاني: ما يستحيل عقلاً في حق الله تعالى، وهو أضداد هذه، وكل نقص أياً كان. النوع الثالث: ما يجوزه العقل تجويزاً مطلقاً، فما دل النص عليه أخذ من النص، وما لم يدل عليه كان باقياً على الجواز المطلق، كالأفعال كلها، فكل الأفعال يجيزها العقل في حق الله تعالى، فإنه يجيز في حقه سبحانه وتعالى المجيء والنزول والاستواء والخلق والرزق والإماتة والإحياء، فهذه الأفعال جائزة في حق الله تعالى، فهو سبحانه يمكن أن يحيي هذا الشخص الآن ويمكن أن يميته، ويمكن أن ينزل المطر الآن ويمكن ألا ينزله، وهكذا، فهذا يجيزه العقل إجازة مستوية الطرفين. فبدأ بالنوع الأول وهو ما يوجب العقل لله تعالى من الصفات فقال: (منها فرداً) أي: واحداً، وقد جاء التعبير عن ذلك بهذا اللفظ، وهو لنفي الكم المتصل بالذات، ولنفي الكم المنفصل في الذات كذلك، ولنفي هذه الصفات عما سواها. فنفي الكم المتصل بالذات معناه: نفي التعدد في الذات الذي يقتضي نفي وجود الجوارح والحواس؛ لأن ذلك نقص في حقه، فيقتضي توحيده نفي ذلك، بخلاف الإنسان، فهو الذي يحتاج إلى هذه الجوارح، ويحتاج إلى ما يتممها من أكل وشرب وراحة ونوم وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، ولا يحتاج إلى شيء من هذا. وكذلك نفي الكم المنفصل في الذات، بمعنى: نفي أن يكون للكون آلهة متعددة، كما قال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]. وكذلك في مجال الصفات نفي الكم المنفصل فيها، معناه: أنه لا يتصف أحد بمثل صفاته، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهذا معنى الوحدانية، والوحدانية من صفات السلب، أي: التي معناها نفي؛ لأن الوحدانية معناها عدم التعدد، ونفي التعدد عدم. ثم الصفة الثانية بعدها هي قوله: (غنياً)، وهذه الصفة هي صفة الغنى المطلق. ومعنى الإطلاق فيه: الغنى عن المحل، والغنى عن المخصص. فالغنى عن المخصص معناه: أنه قديم لا يحتاج إلى من يحدثه، والغنى عن المحل معناه: أنه ذو ذات لا يحتاج إلى ما يتعلق به.

أقسام الأشياء من جهة افتقارها عن المخصص والمحل

أقسام الأشياء من جهة افتقارها عن المخصص والمحل والأشياء أربعة أقسام: القسم الأول: ما هو غني عن المحل والمخصص، وهذا ذات الله. القسم الثاني: ما هو مفتقر إلى المحل والمخصص، وهو صفات المخلوق، فاللون الأبيض في الثوب مفتقر إلى المخصص؛ لأنه حادث ليس قديماً، فيحتاج إلى من يخلقه، وهو المخصص، ومفتقر كذلك إلى محل يقوم به؛ لأننا لا يمكن أن نرى بياضاً ليس في شيء، بل لابد أن يقوم بشيء؛ لأنه صفة لا ذات. القسم الثالث: ما هو غني عن المحل، لكنه مفتقر إلى المخصص، وهو ذات المخلوق، فذاتك أنت مفتقرة إلى المخصص؛ لأنك حادث لم تكن مثلما كنت، وأنت محتاج إلى من يخلقك، لكنك بعد الخلق لا تحتاج إلى ذات أخرى تركب فيها؛ لأنك ذات لست صفة لغيرك. القسم الرابع: ما هو غني عن المخصص قائم بالمحل، ولا يقال: مفتقر إلى المحل، وهو صفات الله سبحانه وتعالى، فهي قديمة، ولا تحتاج إلى المخصص، لكنها صفة لابد أن تقوم بذات. فإذاً: هذه أربعة أقسام ونظمها أحد العلماء بقوله: الأشياء أربع فما منها غني عن المحل والمخصص الغني وعكسه وهو صفات الخلق وقام بالمحل وصف الحق وما إلى المخصص احتاج فقط فهو بذات حادث قد ارتبط ومعنى المخصص: أي الذي يخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، والممكن معناه: كل ما لم يكن، ويمكن وجوده في المستقبل، وهذا يمكن في حقه ست من اثنتي عشرة، وهي التي تسمى بالممكنات المتقابلات، وهي: الوجود والعدم، فهذا الإنسان يولد له ولد، هذا الولد يبيح العقل بأنه لم يولد بعد، ويجوز في حقه الوجود، ويجوز في حقه العدم، فهاتان الصفتان متقابلتان. ثم إذا خرج إلى الوجود لابد أن يتصف أيضاً بالبياض أو السواد؛ لأن الصفات المتقابلة لابد أن يتصف ببعضها دون بعض، فإما أن يكون أبيض أو أسود. ثم بعد ذلك في الأمكنة، فكل مكان يقابله مكان آخر، فإما أن يكون في الرياض أو في مكة مثلاً. ثم بعد هذا الأزمنة هل يولد في الليل أو في النهار؟ وكذلك الجهات هل يولد في الشرق أو في الغرب من المكان الذي خصص به؟ ثم المقادير هل يكون كبيراً أو يكون صغيراً؟ فكل مقدار يقابل مقداراً آخر، فهذه اثنتا عشرة هي الممكنات المتقابلات، والمخصص يخصص الممكن بست منها، ولا يمكن أن يخصصه بأكثر من ست؛ لأن كل واحدة تقابل واحدة تضادها. ولذلك يقول أحد العلماء: الممكنات المتقابلات وجود العدم والصفات أمكنة أزمنة جهات ثم المقادير روى الثقاة قال: [فرداً غنياً أولاً وآخراً] والتفرد والغنى أيضاً من الصفات السلبية.

إثبات صفة الأولية والآخرية والصفات السلبية لله تعالى

إثبات صفة الأولية والآخرية والصفات السلبية لله تعالى كذلك قوله: (أولاً وآخراً) صفتان أيضاً هما المعبر عنهما بالقدم والبقاء، لكنه اختار التعبير الشرعي؛ لأن الله تعالى يقول: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء). وأولية الله سبحانه وتعالى ليس لها ابتداء، وآخريته كذلك ليس لها انتهاء، ولكن الأولية والآخرية كلتاهما صفة سلب؛ لأن الأولية معناها: نفي العدم السابق للوجود، بمعنى: أن وجوده لم يسبقه عدم. والآخرية معناها: نفي العدم اللاحق للوجود، ومعناه: لا يمكن أن يأتي زمان وهو غير موجود فيه، ولا يمكن أن يعدم، فهاتان أيضاً صفتان من الصفات السلبية، وبهذا تتم الصفات السلبية، وهي خمس: وقد بدأ بالوجود أولاً. ثم الوحدانية. ثم الغنى. ثم القدم. ثم البقاء. والوجود خارج عنها، لكن الصفة السلبية الخامسة هي مخالفته للحوادث، وهذه قد أشرنا إليها. والمخالفة للحوادث معناها: أنه لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وهذه الخمس هي المذكورة في سورة الإخلاص: فقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هذه الوحدانية. وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] هذا الغنى. وقوله: {لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص:3] هذا البقاء؛ لأن الذي يحتاج إلى الولد هو الذي يفنى فيحتاج إلى ما يكون خلفاً له. وقوله: {وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] هذا القدم. وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، هذا نفي المماثلة والمشابهة وهي المخالفة للحوادث، فجاءت الصفات الخمس في هذه السورة.

الصفات الواجبة لله تعالى (صفات المعاني)

الصفات الواجبة لله تعالى (صفات المعاني) ثم ذكر المعاني التي يسميها أهل علم الكلام بصفات المعاني، وهذه تنقسم إلى قسمين: صفات تأثير. وصفات كمال.

صفات التأثير

صفات التأثير فصفات التأثير معناها: أنه لا يمكن أن يؤثر مؤثر في شيء إلا إذا كان متصفاً بها. وصفات الكمال هي: التي تقتضي كمالاً وتماماً، فقال: [حياً عليماً ومريداً قادراً ومتكلماً سميعاً ذا بصر منزهاً عن الحدوث والغير] فقوله: (حياً) هذا الاتصاف بصفة الحياة: فالله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم، وحياته تقتضي ألا تأخذه سنة ولا نوم، ولا موت ولا غفلة؛ فهي حياة ليست كحياة المخلوق؛ لأنها حياة يستحيل في حقه معها النوم والغفلة، والموت والجلاء. ثم بعد هذا ذكر صفة أخرى وهي العلم: والله سبحانه وتعالى علمه سابق على جميع الأشياء بالإجمال والتفصيل، كما قال سبحانه: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. ولذلك قال ابن عباس: (ما من عموم إلا وتحته خصوص، إلا قول الله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231])، فهو عليم بذاته وصفاته وخلقه. ثم ذكر بعد هذا الصفة الرابعة وهي الإرادة: فإنه سبحانه يريد ما شاء، وهذه الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية، وقد سبق بيانهما، وسيأتي أيضاً التحدث عنهما. ثم ذكر بعد هذا القدرة: فإن الله سبحانه كما قال عن نفسه: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]. وهذه الصفات الأربع هي التي تسمى صفات التأثير، فبها يرتبط خلقه كله وتدبيره للكون كله، وذلك بحياته وعلمه وإرادته وقدرته، وكذلك بكلامه الراجع للإرادة والكلمات الكونية، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].

صفات الكمال

صفات الكمال وقوله: (ومتكلماً سميعاً ذا بصر): هذه الصفات الثلاث هي التي تسمى بصفات الكمال عندهم، وهي اتصافه بصفة الكلام، وكذلك اتصافه بصفة السمع، وكذلك اتصافه بصفة البصر، وهي صفات كمال. فالكلام: أنه يتكلم متى شاء بما شاء، فما شاء أن يتكلم به تكلم، وهذا يشمل القسمين: الكلمات الكونية والكلمات التشريعية. وكذلك السمع: فهو عز وجل يسمع، كما قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، وقال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]. وكذلك البصر: فهو ذو بصر، كما قال سبحانه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقال: {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]. فهذه سبع صفات هي: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، وهي التي تسمى بالمعاني؛ لأنها تجمع كثيراً من الصفات الأخرى التي تدخل فيها.

الصفات الجامعة

الصفات الجامعة وهناك نوع آخر من الصفات هي: الصفات الجامعة للكبرياء والعظمة والجلال والرحمة ونحوها، فهذه تسمى الصفات الجامعة، ولذا قال: [وصفة جامعة فلتعلمه من ذاك فاعدد فضله وكرمه] فالفضل والكرم والجود ونحو ذلك؛ كل هذه من الصفات الجامعة. فهذه يوجبها العقل إيجاباً، ويستحيل ضدها على الله سبحانه وتعالى عقلاً، بالإضافة إلى ما أوجبه النقل من الصفات الأخرى. والصفات التي أوجبها النقل كثيرة جداً لا حصر لها، لكن الصفات التي أوجبها العقل في حق موجد هذا الكون هي هذه الصفات.

ذكر الصفات المستحيلة على الله عز وجل

ذكر الصفات المستحيلة على الله عز وجل

استحالة أضداد الصفات الواجبة لله تعالى

استحالة أضداد الصفات الواجبة لله تعالى ثم بدأ بذكر الصفات المستحيلة فقال: [منزه عن الحدوث والغير] قوله: (منزه)، أي: تنزيهاً عقلياً، بمعنى: أنه يقتضي العقل تنزهه وتقدسه عن هذه الصفات، ويستحيل في حقه الاتصاف بها، وهي أضداد المذكورات، فصفة الوجود ضدها العدم، والوحدانية ضدها التعدد، والغنى ضده الفقر، والقدم ضده الحدوث، والبقاء ضده الفناء، والمخالفة ضدها المماثلة، والحياة ضدها الموت، والعلم ضده الجهل، والإرادة ضدها الإكراه أو عدم حصول الإرادة، والقدرة ضدها العجز، والتكلم ضده البكم، والسمع ضده الصمم، والبصر ضده العمى، وهذه الصفات مستحيلة عليه سبحانه وتعالى، ولذلك قال: (منزهاً عن الحدوث والغير) والغير بمعنى: أن تعرض له الحوادث والآفات، فالله سبحانه وتعالى لا تعترضه الحوادث والآفات، ولا تحل به سبحانه وتعالى، فهو مدبر هذا الكون، وهو محدث هذه الأمور.

تنزيه الله عز وجل عن حدوث الصفات

تنزيه الله عز وجل عن حدوث الصفات [وعن حدوث العلم والإرادة وصفة الكلام عند الذادة] كذلك هذه الصفات قديمة غير محدثة، وهذا الفرق بينها وبين صفات الأفعال، فصفات الأفعال يجوز العقل حدوثها، فيجوز العقل أن يحدث الله ما شاء من خلقه، وأن يفعل ما شاء في أي وقت، لكن هذه الصفات السابقة من المستحيل أن تكون قد تجددت له؛ لأنه هو قديم وهذه صفاته. فحياته وقدمه وبقاؤه وإرادته وعلمه لم يكتسبها من خلقه، فلم يكتسب من خلقه أي صفة؛ فهو الخالق ولا خلق، وهو الرازق ولا رزق، وهو المحيي وهو المميت قبل وجود الكون كله، فهو المتصف بهذه الصفات حتى قبل أن تظهر تجلياتها في عجائب خلقه. ولهذا قال: وعن حدوث العلم والإرادة ومعناه: يستحيل في حقه أن يكون جاهلاً بشيء ثم يحدث له العلم، وكذلك يستحيل في حقه تجدد الإرادة، وهذا رد على اليهود الذين يزعمون البداءة على الله، فإنهم يقولون: إنه بدا له بداء، أي: ظهر له أمر كان قد خفي عنه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ولا ينافي هذا تجاذب الإرادتين، فالإرداة كما ذكرنا أنواع، فيمكن أن تتجاذب، مثل قوله سبحانه في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه)، فهذا داخل في القدر، والقدر يرد الله بعضه ببعض. وقوله: (وصفة الكلام عند الذادة)، أي: كذلك يستحيل في حقه حدوث صفة الكلام، فهو المتكلم قبل أن يتكلم بالقرآن، وقبل أن يتكلم بالتوراة، وقبل أن يتكلم بالإنجيل، فهو المتصف بصفة الكلام يتكلم متى شاء بما شاء. وقوله: (عند الذادة) أي: عند المدافعين عن الشرع من العلماء.

تنزيه الله عز وجل عن الآفات والنقائص

تنزيه الله عز وجل عن الآفات والنقائص ثم قال: [فهو متقدس عن الآفات والنقص في النفس وفي الصفات] قوله: (فهو متقدس عن الآفات)، كذلك من صفاته التقدس عن الآفات، فهو منزه عنها، ولا يمكن أن تحل به الحوادث والآفات. والآفات مثل: الأمراض والشيخوخة والعجز والفقر ونحو ذلك، فهذه تستحيل في حقه بالكلية عقلاً بالإضافة إلى امتناعها نقلاً أيضاً. وقوله: (والنقص في النفس وفي الصفات)، كذلك يستحيل في حقه النقص، فأي صفة فيها نقص أو عيب فهي مستحيلة في حقه، سواء كانت من صفات الذات أو من صفات الأفعال، لذلك قال: (والنقص في النفس وفي الصفات). وعبر بالنفس عن الذات؛ لأن هذا التعبير هو الشرعي، كما سبق بيانه. ثم قال: [لا بصفات المحدثين يوصف] فلا يحل أن يوصف بصفات المحدثين وإن كان بعض صفاته يشترك مع بعض صفات المحدثين في الأسماء، لكن لا يحل أن تكيف تلك الصفات على ما يشترك معها في الاسم من صفات المحدثين كاليد والوجه والعين ونحو ذلك، فهذه تشترك مع صفات المحدثين، ومع أجزائه في بعض الأحيان في الاسم فقط. فمن الاشتراك بالأسماء مع صفات المحدثين: العلم والحياة والإرادة، ومن الاشتراك مع بعض أجزاء المحدثين في الاسم: العين والوجه واليدين، ونحو ذلك، فهذه نظيرها في المخلوق جزء، وهي صفة لله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يفسر شيء من صفاته على نظير ما في المخلوق؛ لأنه مخالف له، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، لذلك قال: (لا بصفات المحدثين يوصف). أي: لا يجوز ذلك في حقه. والمحدثون هم المخلوقون.

تنزيه الله عز وجل عن التشبيه

تنزيه الله عز وجل عن التشبيه [وليس جائزاً لدى من أنصفوا عليه ما عليهم جاز ولا. ] بالنسبة لما يتعلق بالجواز -وهو القسم الثالث من أقسام الصفات- فيجوز في حقه فعل كل الأفعال وتركها، إلا ما ينافي ما ذكر من الكمال فالفعل الذي ينافي الكمال يستحيل في حقه، كاتخاذ الصاحبة والولد ونحو ذلك، فهذا فعل ينافي الكمال، فهو مستحيل في حقه، لكن ما عداه من الأفعال من إحداث أي شيء وإعدامه فهذا جائز في حقه. لكن لا يجوز في حقه ما جاز في حق المحدثين من الصفات، والذي يجوز في حق المحدثين هو مثل الموت والفناء والافتقار والتأثر بالرضا، وكذلك الانشغال، والسرور بمعنى الفرح بحادث وعارض، أو الحزن بمعنى الألم والانقباض النفسي بسبب شيء، فهذا لا يجوز في حقه أن يوصف به. بل يوصف به المخلوق فهو الذي يسر بما أوتي ويفرح به، ويحزن لما يصيبه، والله سبحانه وتعالى لا تحل به الحوادث والآفات فلذلك لا يوصف بمثل صفات المحدثين. وقوله: (وليس جائز لدى من أنصفوا)، أي: أن المنصفين -وهم المثبتة الذين يثبتون صفات الله سبحانه وتعالى- ليس جائزاً عليه عندهم ما عليهم جاز، أي: ما على المحدثين جاز من الصفات. ثم قال: [عليه ما عليهم جاز ولا يشبهه من خلقه شيء علا] كذلك لا يشبهه شيء من خلقه، وكما أنه لا يشبهه شيء فهو لا يشبه شيئاً من خلقه. وقوله: (علا) بمعنى: تعالى، وهذا ثناء على الله سبحانه وتعالى بعد ذكر صفاته، وهو المستحق للثناء. يقول: [وكن عمن يشبهه منزهه] كذلك يجب تنزيهه عن المشابهة حتى مع إثبات الصفات، فنثبت له ما أثبته لنفسه مع تنزيهه عن الشبه، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] تقييد لقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فأثبت سبحانه لنفسه السمع والبصر، لكن ذلك لا يشابهه سمع المحدثين ولا أبصارهم، فكل صفة أثبتت لله سبحانه وتعالى يجب أن تنزه عن أن تكون مشابهة لصفات المخلوقين، وإن اشتركت معها بالاسم لكنها لا تشابهها بوجه من الوجوه.

تنزيه الله عز وجل أن يحويه مكان أو جهة

تنزيه الله عز وجل أن يحويه مكان أو جهة يقول: [وكن عما يشبهه منزهه أو أن يضمه مكان أو جهه] كذلك مما يجب تنزيهه عنه: أن يضمه مكان؛ فهو العلي الكبير، والله أكبر من كل شيء، فلا يمكن أن يحويه مكان، فهو الذي أحدث المكان، وهو الذي خلقه، والمكان كله محصور بالجهات الست. والمكان أياً كان له ست جهات: الفوق والتحت، واليمين والشمال، والأمام والخلف، أي ست جهات لكل مكان فهو محصور بجهاته، والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، وإثبات صفة العلو والفوقية له لا ينافي ذلك؛ لأن العلو والفوقية غير محدودين، وليس لذلك حدود، ولذلك قال: أو أن يضمه مكان أو جهة. كذلك الجهة إذا قصد بها أنها تضمه وتحده فهي مستحيلة، والجهة من الألفاظ التي يستفصل فيها؛ فإن جاءت على الإطلاق كجهة العلو مثلاً جاز إطلاقها عليه، وإن كانت بمعنى الحد وتقييده فليس كذلك، ولا يجوز إطلاقها عليه بهذا المعنى.

ذكر بعض الصفات الجائزة لله تعالى

ذكر بعض الصفات الجائزة لله تعالى

صفة الرؤية وذكر درجات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل

صفة الرؤية وذكر درجات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل ثم قال: [وأنه جل يرى في الآخرة] وكذلك من الصفات الجائزة في حقه عقلاً وقد أثبتها الشرع: أنه يُرى في الآخرة؛ وذلك أن أهل الإيمان يرونه سبحانه وتعالى. ورؤيتهم له درجات: الرؤية الأولى: الرؤية بالموقف؛ فإن أهل الإيمان يرونه، فيتجلى لهم في صورة، ثم يتجلى لهم في أخرى. الرؤية الثانية: رؤيتهم له عندما يسلم عليهم وقت دخولهم الجنة، كما في الحديث: (بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، يقول: سلام قولاً من رب رحيم). الرؤية الثالثة: هي أنه يستزير أهل الجنة، فيأمرهم بزيارته تشريفاً وتكريماً لهم، ولا يراه إلا أهل الإيمان؛ لأن هذا غاية التشريف والإكرام، ومن رآه حصل له من التشريف ما لا يحصل له بأي شيء آخر، ولهذا لا ينظر أهل الجنة إلى شيء من نعيمهم ما داموا ينظرون إلى ديان السماوات والأرض سبحانه وتعالى. ولهذا فإن أهل الإيمان هم الذين يرون ربهم، وإن كانت رؤيتهم متفاوتة بتفاوت درجاتهم في الإيمان، وعلى هذا يتفاوتون تفاوتاً بالغاً في مستوى الرؤية، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر أو هذا البدر لا تضامون في رؤيته، أو: لا تُضامون في رؤيته). وقوله: (لا تضامون في رؤيته)، أي: لا يحول بعضهم دون بعض، ولا يؤثر عليه في الرؤية. وقوله: (ولا تُضامون في رؤيته) معناه: لا يحال بينكم وبينه، فمن حيل بينه وبين رؤيته وحجب عنه فقد ضيم وأذل غاية المذلة، نسأل الله السلامة والعافية، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16]. فالذين يحجبون عن رؤيته سبحانه وتعالى هم أهل المذلة الدائمة، وأهل الإيمان لا يضامون في رؤيته، ولذلك قال: [وأنه جل يُرى في الآخرة فاقرأ إذا شئت وجوه ناظرة] ومن أدلة هذا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] * {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]. وقد سبق الكلام في الرؤية، وذكرنا ما فيها من المسائل الاتفاقية والمسائل الخلافية، ومن المسائل الاتفاقية: أنه سبحانه وتعالى يُرى في الآخرة، وذكرنا أنواع الرؤية الثلاثة: الرؤية في الموقف، والرؤية عند دخول الجنة، والاستزارة. وكذلك ذكرنا المسائل الخلافية في الرؤية: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج؟ وهل يُرى الله سبحانه وتعالى في النوم؟ وهل يجيز العقل رؤيته في الدنيا؟ هذه ثلاثة أمور، وهي التي نظمها السيوطي رحمه الله في قوله: والخلف في الجواز في الدنيا وفي نوم وفي الوقوع للهادي اقتفى فهذه ثلاثة أمور وقع الخلف في جوازها في الدنيا: جواز العقل، ورؤيته في النوم، وفي الوقوع للهادي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق بيانها، وسبق الترجيح فيها. وقد ألف الدارقطني رحمه الله كتاباً مختصاً في الرؤية، جمع فيه أحاديثها وآثارها؛ لأن المعتزلة أنكروها، وهي من أوائل الصفات التي اشتهر إنكارها بينهم. وهي من الصفات الجائزة عقلاً؛ لأنه سبحانه وتعالى موجود، وكل موجود يصح أن يُرى، وإلى هذا أشار بقوله: [الله موجود وما به امترا وكل موجود يصح أن يُرى]

صفة الكلام

صفة الكلام ثم قال: وأن ذا القرآن قوله علا لا خلقه والحرف والصوت خلا] يقول: مما يوجب الإيمان به أن هذا القرآن كلامه سبحانه وتعالى، وقوله (علا) أي: تعالى، وقوله: (لا خلقه)، أي: أن القرآن غير مخلوق، وقد سبق دليل ذلك، وبيان الخلاف فيه وتفصيله. وقوله: (والحرف والصوت خلا) كذلك الحرف والصوت قد سبق الكلام فيهما، والتفريق بين تكلم الله وتكلم خلقه، قد سبق بيان ذلك في نظم العقائد.

وجوب الإيمان بالقضاء والقدر

وجوب الإيمان بالقضاء والقدر

تقدير الله لكل حركة وسكنة تقع من الخلق

تقدير الله لكل حركة وسكنة تقع من الخلق ثم قال: [ما فيهما وكل لحظة نظر أو فلتة من خاطر فيقدر ينظمها حكم القضا في سلكه في ملكوت ربنا أو ملكه] هنا ذكر بعض المسائل التفصيلية المتعلقة بالقدر، وقد سبق تلخيص جل مسائل القدر تقريباً فيما سبق، فقال: (وكل لحظة نظر) أي: كل نظرة ينظر بها ناظر أياً كان من البشر وممن سواهم. وقوله: (أو فلتة من خاطر)، كذلك كل تذكر من خاطر فهو بقدر الله، سبق في علمه وفي كتابته، وهو عنده في أم الكتاب لا يفوته شيء من ذلك، ولا يقع شيء من ذلك إلا بقدره، وإذا كان هذا في مجرد لفتة الخاطر أو مجرد خطرة البصر فما سوى ذلك من الأفعال كذلك، فكله بقضاء الله وقدره. وقوله: (وكل لحظة نظر) اللحظة هي النظرة السريعة الخاطفة، يقال: لحظه يلحظه، أي نظر إليه عن بعد. وقوله: (أو فلتة من خاطر) الفلتة هي مجرد فكرة سنحت في الخاطر. قوله: (فبالقدر) أي: كل ذلك بقدر الله. وقوله: (ينظمها حكم القضاء في سلكه)، أي: يجمعها جميعاً حكم القضاء في سلكه، فهي موجودة في الكتاب الذي عند الله تعالى في أم الكتاب، وفي علمه السابق على خلقه، ولم تحصل إلا بإرادته وقدرته وأمره. وقوله: (في ملكوت ربنا أو ملكه) سواء كان ذلك في عالم الملكوت أو في عالم الملك، فعالم الملكوت: الخفايا التي لا نطلع عليها، وعالم الملك: ما نراه من هذه الظواهر. ثم قال: [فكل ما يكون من عباده فليس بالخارج عن مراده] كل ما يحصل من عباده من الأفعال يمكن أن يخرج عن مراده، وهذا رد على الجبرية والقدرية معاً، وقد سبق الكلام في هذا، فكل ما يكون من عباده -أي: من خلقه- فليس بالخارج عن مراده، بل لابد أن يكون موافقاً لما أراد.

أنواع القدر خيرا وشرا

أنواع القدر خيراً وشراً ثم بين أنواع القدر فقال: [نفع وضر وكذا خير وشر كفر وإيمان فكل بقدر] قد ذكرنا أن أنواع القدر أربعة؛ لأن القدر إما أن يكون خيراً، وإما أن يكون شراً، وإما أن يكون حلواً، وإما أن يكون مراً، فهي أربعة أقسام سبق الكلام في ذكرها أيضاً. وقوله: (نفع وضر) أي: كلاهما بقدر الله، ووفق علمه، ووفق ما كتب. قوله: (وكذا خير وشر) أي: كل ذلك وفق علم الله وبقدره. وقوله: (كفر وإيمان) أي: كل ذلك بقدر الله وفق علمه، ولا يؤمن أحد إلا به، لذلك قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، فكل بقدر.

أنواع الإرادة وتعلق أفعال العبد بها

أنواع الإرادة وتعلق أفعال العبد بها ثم قال: [وإنما يعني ذوو التصنيف إرادة التكوين لا التكليف] هنا إذا تكلمنا عن الإرادة فنقول: كل ذلك بإرادة الله، والإرادة هنا المقصود بها الإرادة الكونية، وهي المرادفة للمشيئة، لا الإرادة التشريعية؛ لأن الإرادة التشريعية هي الأحكام التي شرعها الله لعباده، وهذه لا يكون فيها الأمر بما يخالف شرعه، بل هي بما شرعه وبما أحب، فالإرادة التشريعية موافقة للمحبة، والإرادة الكونية موافقة للأمر الكوني. ولذلك فإن أفعال العباد تنقسم إلى أربعة أقسام أيضاً: الأول: ما تعلقت به الإرادتان معاً، كالعمل الصالح من الصالحين. الثاني: ما لم تتعلق به واحدة من الإرادتين، كالعمل السيئ من المعصومين. الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، كالعمل السيئ من السيئين. الرابع: ما تعلقت به الإرادة الشرعية فقط، كالعمل الصالح من السيئين. فهذه أربعة أقسام، وقد سبق بيانها وتفصيلها، فلذلك قال: (وإنما يعني ذوو التصنيف) أي: المصنفون المؤلفون، (إرادة التكوين لا التكليف). أي: إنما يقصدون هنا في هذا الباب إرادة التكوين لا التكليف، وهي الإرادة التكوينية لا التشريعية. ثم قال: [أي كلماته اللواتي لم يكن فاجر او بر مجاوزاً لهن] إنما يقصدون بذلك كلماته الكونية، لا كلماته التشريعية، فإرادته التشريعية متمثلة في كلماته التشريعية، وإرادته الكونية متمثلة في كلماته الكونية، وكلماته الكونية لا يتعداها بر ولا فاجر، وقد سبق شرحها، وكلماته التشريعية محصورة؛ لأنه لا يتنزل شيء بعد القرآن.

الكلام على مسألة وجوب الأصلح على الله عند المعتزلة

الكلام على مسألة وجوب الأصلح على الله عند المعتزلة ثم قال: [وليس واجباً عليه لأحد من خلقه شيء فما عليه يد] كذلك من مسائل القدر التي لم تسبق لنا مسألة مهمة؛ لأنها رد على المعتزلة والجهمية، وهي: أنه سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء، وقد زعم المعتزلة أنه يجب عليه الصلاح والأصلح في خلقه. وهذه هي القضية التي رد فيها أبو الحسن الأشعري على أبي علي الجبائي، فسأله فقال: أرأيت الكبير الذي وفقه الله للهداية والعمل الصالح ومات على السعادة، هل فعل الله به الصلاح والأصلح؟ قال: نعم. قال: فالصغير الذي أماته الله قبل البلوغ، هل فعل الله به الصلاح والأصلح؟ قال: نعم؛ لأنه علم أنه لو بلغ لفجر. قال: إذاً: فسيقول الكبير الذي لم يوفق للطاعات ولا الإيمان: يا رب! لم تبلغ بي درجة الكبير الذي وفقته للطاعة، وقصرت بي دون الصغير الذي أمته قبل البلوغ؟ فلم يستطع جواب هذه، فقال: أبك جنون؟ قال: لا، ولكن وقف حمار شيخي في العقبة! فلا يجب على الله شيء، وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن ضروريات الإيمان بالقدر: أن الله لا يجب عليه شيء، فهو يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، وقال: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] كل هذا يقتضي تنزيهه عن أن يجب عليه شيء، لكنه يكتب على نفسه ما شاء؛ كقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، فهذا يكتبه على نفسه ويلتزمه لخلقه سبحانه وتعالى تفضلاً وعدلاً. والإيجاب إنما يتم في حق من تستطيع أن تكرهه على شيء، والله تعالى لا يمكن أن يبلغ عباده ضره ولا نفعه، ولذلك قال: (فما عليه يد)، أي: لا يمكن أن يصله نفع ولا ضر من خلقه. ثم قال: [بل إن يثب فذاك منه فضل وإن يعاقب فهو منه عدل] إذا أثاب بالحسنى فذلك من فضله ورحمته، وإذا عاقب فذلك بعدله، وقد نفى الله سبحانه الظلم عن نفسه، فقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). وهذه المسألة حصل فيها الغلط لدى بعض الناس؛ فزعموا أن معنى نفي الظلم عنه أنه لا يمكن أن يقع منه عقلاً أصلاً، وأن معنى الظلم عندهم: مجازاة المحسن بالإساءة، ومجازاة المسيء بالإحسان، وهذا يبيحه العقل، فأخطئوا في هذه المسألة. والفريق الآخر قالوا: بل كل ما فعله فهو عدل، ولو كان ظلماً في حق غيره؛ لأنه من تصرف المالك بملكه، فيمكن أن يعاقب المحسن، ويثيب المسيء، وهذا أيضاً غلط؛ لأنه سبحانه حرم الظلم على نفسه. والصواب في مثل هذا: أن الظلم الذي حرمه الله عز وجل على نفسه هو بالتعدي بمجازاة المحسن بالإساءة، ومجازاة المسيء بالإحسان، وهذا لا يمكن أن يقع؛ لأنه قال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، لكن لا يجب عليه مع ذلك أن يدخل أحداً الجنة، ولا يجب عليه شيء لأحد، بل الأعمال الصالحة التي يدخل بها العبد الجنة هي بفضله وتوفيقه، ويمكن أن يتقبلها، ويمكن أن يردها؛ بحسب ما يعلم من السرائر؛ فهو مطلع عليها لا يمكن أن يخفى عليه منها شيء. فمن عاقبه الله عز وجل فإنه يستحق تلك العقوبة قطعاً، ومن أثابه فذلك فضل من الله تعالى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)؛ لأن هذه الأعمال تقابل النعم التي لا حصر لها، فالعبادات تقابل النعم، ومن هنا لا يمكن أن يستحق بها الإنسان الجنة، وإنما هي سبب لدخول الجنة، لكنها ليست ثمناً للجنة، فالباء في قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] باء السببية لا البدلية.

وجوب الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به

وجوب الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وأن أحمد رسوله إلى الـ خلق أمينه على ما قد نزل من وحيه أي: مما يجب الإيمان به والتصديق: أن أحمد رسول الله إلى الخلق، وأحمد هو اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفعل تفضيل من الحمد، وهو أحمد الخلق لله، وهذا الاسم هو اسمه في الإنجيل في بشارة عيسى به، كما قال عز وجل حاكياً عن عيسى عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]. وقوله: (رسوله): هذه شهادة أن محمداً رسول الله. وقوله: (إلى الخلق): معناه إلى الثقلين الإنس والجن، وهذا عموم رسالته، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم بخلاف من سبقه من الرسل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (كان الرسول يرسل إلى قومه خاصة وبعثت إلى الأحمر والأسود)، وفي رواية: (وبعثت إلى الناس كافة). وقد دل الدليل كذلك على بعثه إلى الجن بآية الأحقاف، وسورة الجن، وغير ذلك. وقوله: (أمينه على ما قد نزل من وحيه)، أي: قد اختاره الله تعالى فائتمنه على وحيه، وهذا أعلى درجات التفضل على العبد، فأعلى درجات التفضل على العبد أن يختاره الله أميناً على وحيه؛ فالرسالة هي أعظم مراتب التفضل والنعم، فنعمة الإيمان نعمة عظيمة، لكن فوقها نعمة الولاية لله تعالى، ثم نعمة الرسالة والنبوة هي أعظم النعم. وقوله: (أمينه على ما قد نزل من وحيه)، أي: الذي أوحي إليه هو من القرآن، وهو أيضاً مصدق لما بين يديه، ومهيمن على جميع ما قد نزل من وحيه. [من وحيه فكل ما عنه نطق من أمر دنيانا وأخرانا فحق] كل ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم سواء تعلق بأمر الدين أو بأمر الدنيا، فهو حق. وقوله: (من أمر دنيانا): مثلما يقع من الفتن والحوادث وأشراط الساعة. وقوله: (وأخرانا): مثل المحشر وما بعده. وقوله: (فحق): يجب الإيمان به. ثم مثل له فقال: [كالحشر والنشر وكالعذاب في القبر والتمييز للمرتاب] النشر هو: البعث بعد الموت. وقوله: (وكالعذاب في القبر) هذا قد سبق شرحه في الدروس الماضية. وقوله: (والتمييز للمرتاب) هذا يتعلق بالسؤال من نكير ومنكر، وهذه فتنة القبر، والسؤال من نكير ومنكر هو سؤال الملائكة. وقوله: (والتمييز للمرتاب) أي: من الموقن، كما في الحديث: (قد علمنا إن كنت لموقناً). (والوزن): كذلك وزن الأعمال، وقد سبق ذكر الموازين القسط. والمسير على الصراط: كذلك المرور على الصراط والمسير عليه. ومصير السالك جنة أو ناراً: كذلك مما يجب الإيمان به مما أخبر به الجنة والنار، وأنهما مصير السالك طريق الصراط، إذ لابد أن يكون مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار. وهكذا يجب الإيمان بغير ذلك مما أخبر به من أشراط الساعة ومشاهد القيامة، فكل هذا مما يجب الإيمان به، وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من ذلك. أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ومن الماء البارد. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا. اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، والحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يُرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك؛ أن تقيلنا من العثرات، وأن تجيرنا من النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

المسابقة إلى الخيرات

المسابقة إلى الخيرات جعل الله هذه الدار دار ابتلاء وامتحان، وجعل الآخرة دار جزاء وثواب، وأمرنا في هذه الدار بالمبادرة إلى الطاعات والمسابقة إلى الخيرات، وأن نستغل أعمارنا بما يرضي الله سبحانه وتعالى حتى نثقل موازيننا بالأعمال الصالحة، وحذرنا سبحانه وتعالى من الشيطان ومشاغله ومكائده، فهو عدو لدود للمؤمنين، وأمرنا باتخاذه عدواً.

ضرورة المبادرة إلى الطاعات واغتنام الأوقات

ضرورة المبادرة إلى الطاعات واغتنام الأوقات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الوقت هو الحياة، وإن عمر الإنسان قصير، وإن هذه الحياة هي دار الامتحان، فعلى الإنسان أن يبادر فيها للطاعات ما دامت الفرصة مواتية وسانحة، فإن هذه الدنيا دار انتقال، وبقاء الحال من المحال، ولذلك سرعان ما ينتقل عنها الإنسان ولم يشف منها غله، بل إن الذين انتقلوا من هذه الدار يتمنون الرجوع إليها ولو لحظة واحدة، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11]. وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالمبادرة إلى الطاعات والمسارعة فيها، فقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال تعالى: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:133 - 135]، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]. إن هذه الدنيا مجال للمسابقة، والناس فيها كل يوم في مسابقة جديدة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فيغدو الإنسان في صباحه بعمر جديد؛ لأنه عند نومه طويت صحائف أمسه، وختم عليها، ولا تنشر إلا عندما توضع الموازين بالقسط ليوم القيامة، في كل يوم ينادي المنادي: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، عليك فيه لله خطاب أكيد، فلا تضيع الفرصة ثم إذا غربت شمس ذلك اليوم ذكر الموت الإنسان مرة أخرى بالليل: (فالله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها). ولهذا فإن عمل الشيطان يتركز في هذه الحياة الدنيا على شغل الإنسان عن المبادرة إلى الطاعة، فيحاول معه تطويل الأمل، وهو الداء الأول للبشر، يقول له: إن أمامك عمراً طويلاً. كما يقول للنائم عندما يعقد ثلاث عقد على قفاه: إن عليك ليلاً طويلاً فنم. يضرب بذلك في كل عقدة، فكذلك يقول للإنسان: إن أمامك عمراً طويلاً، فما لم تفعله في هذا اليوم ستفعله غداً، وما لم تفعله في هذا الشهر ستفعله في الشهر القادم وما لم تفعله في الشهر القادم. ستفعله في السنة القادمة، وهكذا فيطول الأمل، وقبل أن ينتبه يأتي الأجل، فالأمل أتى به الله سبحانه وتعالى ليعمل الناس في الدنيا، لا ليطيلوا الأمل فيغتروا به، وقد ورد في حديثٍ فيه ضعف (إن الله عز وجل لما أخرج ذرية آدم من ظهره رآهم فأعجبته كثرتهم، فقال: أي رب! كيف يعيش هؤلاء في هذه الأرض؟ فقال: إني خالق موتاً. فقال: إذاً لا ينعم لهم بال عليها. قال: إني خالقٌ أملاً). فبالموت ينتقصون حتى تحملهم الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً، وبالأمل تهدأ قلوبهم في هذه الدنيا، ويطمئنون إليها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه: (أنه خط خطاً مربعاً، وخط في داخله خطاً، ثم أخرج منه خطاً طويلاً، ثم خط خطوطاً صغيرة في الأطراف، فوضع إصبعه على الخط الذي في داخل المربع فقال: هذا الإنسان، ثم وضع إصبعه على المربع فقال: وهذا أجله. ثم وضع إصبعه على الخط الخامس فقال: وهذا أمله، ثم وضع إصبعه على الخطوط الصغيرة فقال: وهذه الأعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا)، فما يعرض للإنسان من الأمراض والآفات هي مقدرة عند الله سبحانه وتعالى، فإن أخطأه هذا أصابه الذي يليه، وهكذا.

حقيقة الأعمار التي تمر بالإنسان وكيفية استغلاله لها

حقيقة الأعمار التي تمر بالإنسان وكيفية استغلاله لها

العمر الأول: عمر الدنيا نفسها

العمر الأول: عمر الدنيا نفسها ومن هنا فإن للإنسان في هذه الدار ثلاثة أعمار: فهي دار عمل ولا جزاء، والناس بخروجهم منها سيندمون جميعاً، فالمحسن يندم على أن لا يكون زاد، والمسيء يندم على إساءته، وفي ذلك فما من إنسان إلا وهو يتمنى الرجوع إليها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في الصحيحين أنه قال: (ولوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل)، وكذلك فإن الشهداء يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليقاتلوا فيقتلوا مرة أخرى في سبيل الله، وكذلك كل من أحسن في عمله يتمنى أن يرجع إلى الدنيا حتى يزيد من الطاعات؛ لما يراه من تفاوت أحوال أهل الآخرة، فأحوال أهل الدنيا متقاربة، وأحوال أهل الآخرة متباعدة، فأهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء، وهذه الكواكب التي نراها يصل إلينا نورها وضوؤها وهو من ملايين السنين يتجه إلينا، فلا تظن أن الضوء الذي نراه هو ابن وقته، بل هو من ملايين السنين يتجه إلينا، فهذا الفرق الشاسع بين أحوال أهل الآخرة، وهذا في حق أهل الجنة فكيف بمن سواهم؟! أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حجراً صلباً ألقي في جهنم فمكث سبعين خريفاً يهوي حتى وصل إلى قعرها، فلذلك على الإنسان أن يعلم أن هذا العمر الأول الذي هو عمر هذه الدنيا منقضٍ لا محالة، وأن نهايته حتمية، فهذه الدنيا غير باقية، ولذلك فإن اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو أو أن يكون مشتقاً من الدناءة، فالدنيا إما أن تكون من الدنوِ لقربها من الآخرة، أو أن تكون من الدناءة لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي عنده جناح بعوضة، ما سقى منها كافراً شربة ماء، وهذه الدنيا نهايتها لا تأتي إلا بغتة، فإنما نهايتها بأن يأذن الله للملك بأن ينفخ في الصور، فينفخ فيه نفخة الفزع فيصعق الناس جميعاً لها، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ النفخة الأخرى فإذا هم قيام ينظرون، وتنبت أجسامهم من جديد، فيخرجون يلبون نداء الله عندما ينادي: هلموا إلى ربكم. فيخرجون حفاة، عراة، غرلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، كما ولدتهم أمهاتهم يبعثون، فيحشرون إلى الساهرة يجتمعون فيها جميعاً مثلما يجتمعون في المقابر، فالذي مات اليوم ودفن في المقبرة تساوت المعلومات التي لدينا عنه مع المعلومات التي لدينا عمن دفن قبل ألف سنة، فإن من ورائهم ذلك البرزخ الذي لا يمكن أن يخترق {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:100 - 104]. فمن علم هذا الحال علم أن هذه الدنيا ينبغي أن تنتهز، وقد صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير، والمسكين وابن السبيل). إنك تشاهد التقلب في هذه الدنيا، وهو مؤذنٌ بالزوال، فتشاهد الفقير ينتقل إلى غني، وتشاهد الغني ينتقل إلى فقير، وتشاهد الصغير ينتقل إلى كبير، وتشاهد الضعيف يصبح قوياً والقوي يصبح ضعيفاً، وكل هذا مؤذنٌ بانتقال هذه الدنيا كلها، فالتغير دليل الفناء، وما كان كذلك فعلينا فيه أن ننتهزه. لاحظ أن العامل الحريص الذي وقته ضيق، فإنه إذا رأى الشمس تدنو للغروب وقد تضيفت له فإنه لا يفسد شيئاً من وقته، بل يكابد العمل غاية المكابدة ليتمه قبل أن تغرب الشمس. فالآن لم يبق من هذه الدنيا التي هي دار العمل إلا مثلما يبقى من النهار عندما تتضيف الشمس للغروب، فنحن آخر الأمم، ونحن أيضاً في آخر هذه الأمة، ثم إن الذي ينتقل من هذه الدار سيرى الذين سبقوه في الأعمال، سيرى كل إنسان يستظل بظل صدقته يوم القيامة بين مستكثر أو مستقل، ويرى أولئك الذين ترجح كفة حسناتهم رجحاناً بيناً عظيماً فيفرحون عند لقاء الله فرحاً عجيباً، ويرى آخرين دون ذلك، حتى يرى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (من أن رجلاً أتى به، فلما عرض على الله عز وجل قال: هل لك من عمل صالح؟ قال: لا يا رب. فأمر الله ملائكته فجاؤوا بصحائفه، فإذا سجلات قدر مد البصر تبلغ الأفق من السيئات، وإذا بطاقة قدر الظفر كتب فيها: (لا إله إلا الله)، فقال الرجل: يارب! ما تغني هذه البطاقة عن هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم شيئاً. فوضعت السجلات في كفة السيئات، ووضعت البطاقة في كفة الحسنات، فرجحت (لا إله إلا الله) وطاشت السجلات)، وقد ذكر أحد الشعراء وصية النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه للناس فنظم ما قال فقال: أجِدك لم تسمع وصاة محمدٍ رسول الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا إن التقلبات التي نشاهدها في هذه الحياة تقتضي منا المبادرة، فما من إنسان منا إلا وقد كان يجد فراغاً وصحةً، وقد عدم ذلك إلى غير رجعة، وقد علم أنه لن يعود إلى قوته التي فقدها، ولن يعود إلى شبابه الذي فقده، ولن يعود إلى الفراغ الذي كان فيه، يعلم أن تلك النعمة قد ذهبت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، فالصحة نعمة عظيمة لا يقدرها إلا من ابتلي بالمرض، عندما تؤلمه عينه أو أذنه أو ضرسه أو أي عضو منه فيبيت يتقلب لا يستطيع النوم، يتذكر حال الصحة وما كان عليه من قبل، فيتذكر أنها النعمة العظيمة، وكذلك إذا رأى بلاء الآخرين، فرأى من فقد البصر، أو من فقد السمع، أو من فقد الحركة، أو من فقد العقل، نسأل الله السلامة والعافية. وشرٌ من ذلك البلاء في الدين، فمن فقد دينه بالكلية فهو أعظم الناس بلاءً، ثم من فقد جزءاً من أجزاء دينه كذلك فهو أعظم بلاء من الذي فقد بعض بدنه.

العمر الثاني: عمر الإنسان الشخصي

العمر الثاني: عمر الإنسان الشخصي هذا العمر الذي بدأ بالنفخ فيه وهو جنين في بطن أمه، وينتهي بنزع الروح منه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت، فجلس عند رأسه، فإن كانت نفسه طيبة قال لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، فتخرج نفسه كما تسل القطرة من في السقاء، فلا تمكث في يد ملك الموت طرفة، بل يتناولها ملائكةٌ كأن وجوههم الشموس قد جلسوا مد البصر وهم باسطو أيديهم، فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة، ويطيبونها من طيب الجنة، ويرتفعون بها إلى السماء، فيستأذنون فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فيؤذن لها حتى تخر ساجدةً تحت العرش، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت لسؤال الملكين. وإن كانت النفس الخبيثة قال لها ملك الموت: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة. فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول -والسفود: مسمار فيه عوجٌ والتواء-، فينتزعها بشدة وقوة فلا تمكث في يده طرفة عين، بل يتناولها أولئك الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم: {والملائكة بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [الأنعام:93] فيأخذون تلك النفس الخبيثة، فيجعلونها في سفط من أسفاط النار، ويغطونها من قطران النار، ويرتفعون بها فيستأذنون، فلا يؤذن لها، وقرأ صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، فترد النفس من حيث أتت خائبةً خاسرة. ومن علم أن نهايته هكذا وهو لا يدري إلى أي الحالين ٍيصير، وعلم كذلك أن انتقاله بعد الموت إلى القبر، وبه تقوم قيامته، فإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، ولهذا قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]. يتصور الإنسان المقابر عندما يقف عليها أمراً سهلاً، وأنها كما نرى ظاهرها، ولكن هناك فرق بين ظاهرها وباطنها، بل هناك أمر لا يمكن أن نتصوره، فالقبر أول منازل الآخرة، واعلم أنه أول شيء من الآخرة العظيمة التي وصفها الله بما نعلم من الأوصاف، فهي القارعة، وهي الصاخة، وهي الطامة، وهي الآزفة، إن أول منازلها لا بد أن يكون مفظعاً مروعاً، ولذلك فأول ما يلقاه الإنسان بعد تلك الضجعة ضمة القبر، التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة، فلما وضع الميت في لحده نظر إلى أصحابه، فقال: (أعدوا لمثل هذه الضجعة). كذلك بعد هذا مجيء منكر ونكير اللذين يأتيان في أبشع صورة، يأتيان المرء فيقولان له بكل عنفٍ: (من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيوفقه الله ويثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل الذي بعث إلينا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد -ثلاثاً- جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه. فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه. لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت. ويملآن عليه قبره بالثعابين والحيات والعقارب، وتفتح له نافذةٌ إلى مقعده من النار، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعه من يليه إلا الإنس والجن، وبذلك تنقطع أخبار الإنسان الذي حل في القبر، فلا يصل إلينا شيء من أخباره: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. تختلط بالقبر الواحد عظام من هو في غاية النعيم، ومن هو في غاية العذاب، فلا هذا يحس بشيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس شيئاً من عذاب هذا، وقد اختلطت عظامهما وتحللت أجسادهما في تربة واحدة، لكن ذلك الاختلاط لا يمكن أن يخفي شيئاً من حالهما على الله عز وجل، فلهذا لا يصل إلى أحدهما شيءٌ من حال الآخر، لا هذا يحس بنعيم الآخر، ولا الآخر يحس بعذاب هذا، فمن علم هذا الحال كذلك ولم يدر متى يموت، كما قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، وهو يعلم أن كل يوم من الأيام ينطلق فيه وفدٌ من أهل الدنيا إلى الآخرة، ولا يشاور من سيخرج اليوم في وفد الآخرة، فلا يدري: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185]، فيمكن أن ينتقل كل واحد إلى الآخرة اليوم أو غداً، وهكذا، فمن كان كذلك فعليه أن يجتهد في الفرصة الباقية، وهو يعلم هول ما أمامه وشدته.

العمر الثالث: ما مكن الله الإنسان من النعم وكيفية استغلالها

العمر الثالث: ما مكن الله الإنسان من النعم وكيفية استغلالها ثم إن الفرصة الثالثة والعمر الثالث هو ما مكن الله للإنسان في هذه الدار من المنافع والخيرات والنعم الكثيرة، وهي امتحان له، ولكل نعمة منها أجل مسمى. فهذا اللسان يمكن أن يقول الآن: (لا إله إلا الله)، وسيحال بينه وبين ذلك، وهذه الأرجل يمكن أن تحمل الإنسان الآن إلى طاعة الله، كالصلاة في المسجد، أو سماع درس أو غير ذلك، وسيحال بين الإنسان وبين ذلك، وكذلك السمع، وكذلك البصر، وهكذا كل النعم التي عند الإنسان لها آجال محددة في علم الله، فأهل الإنسان وماله وديعة، ولذلك قال لبيد بن ربيعة رضي الله عنه: وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع فلا بد أن ترد تلك الودائع، وعلى هذا فتمتع الإنسان بها له أجل محدد في علم الله تعالى لا يمكن أن يتجاوزه، ومن كان هكذا فعليه أن ينتهز الفرصة وأن يبادر، فما هي إلا مثل عاريةٍ، فإذا أعارك إنسانٌ آلةً لتستخدمها لمدة محددة فإنك ستبادر لاستغلالها قبل فوات الأوان، من أعارك سيارته لتبلغ عليها مكاناً معيناً وتعلم أنه سيأخذها عند وقت محدد فإنك لن تتركها قائمةً واقفة، بل لا بد أن تستغلها قبل أن يأتي الأوان، ولذلك فكل ما عندك من النعم هو مثل السيارة المستعارة، أعارك الله هذه النعم ولها آجال محددة يقبضها ويأخذها.

الحث على استغلال الأعمار الثلاثة للإنسان

الحث على استغلال الأعمار الثلاثة للإنسان فهذه الأعمار الثلاثة على الإنسان أن يجتهد في استغلالها، وأن يكون رشيداً، وأن لا يكون سفيهاً، فالسفيه هو المبذر الذي يجمع بالتعب ويفرق في غير طائل، فكذلك الذي لا يستغل هذه النعم ويبذرها في غير طائل فهو سفيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع -وذكر منها-: وعن شبابه فيما أبلاه)، إن كل من مضى عليه عمر الشباب ووقته فهو يتذكر ضياعاً كثيراً فيما مضى من عمره، ولذلك لا يسره أن تعرض عليه أعماله في شبابه، ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: إن عُمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره. السؤال الثاني: (وعن عمره فيما أفناه)، فإن كثيراً من الناس يقطع العمر بالحكايات التي لا طائل من ورائها، فيجلس مع مجموعة ساعةٍ كاملة تخلو غالباً من ذكر الله، وإن كثيراً من الناس يحسن الثناء على الناس ولا يحسن الثناء على الله، فلو عرضت عليه صحيفته لوجد فيها كثيرٌ من مدح الناس، لكن كم فيها من الثناء على الله؟! الشيء اليسير، ولا يحسن ذلك إلا إذا قرأ الفاتحة في الصلاة، وهكذا فالأوقات تمضي فيما لا طائل من ورائه. السؤال الثالث: قال: (وعن علمه فيما عمل به)، فكل من بلغته كلمةٌ واحدةٌ مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فيسأل عنها، ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه كتاب الله، أن لا تبقى آية آمرةٌ إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي. ولا آية زاجرةٌ إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي). إننا نحفظ القرآن كاملاً، ونسمعه ونقرؤه، لكن علينا أن نتذكر أن هذا القرآن يلعن أقواماً وهم يقرؤونه، فرب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، فإذا كنت تخالف ما تقرأ فكنت تقرأ قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]، وتخالف ذلك فلا تجعل حياتك لله، ولا صلاتك خالصةً لله، ولا عبادتك خالصةً لله، ولا تريد أن يكون موتك في سبيل الله، فكيف تكذب على الله وتشهده على ما ليس بحق وهو علام الغيوب؟ كذلك إذا قرأت قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. فأنت تعلم أن هذه الآية ناطقةٌ عليك، وأن هذا القرآن ينطق يوم القيامة، فإما أن يشفع وإما أن يمحل، فهو شافعٌ لا يرد، أو ماحل مصدق، يقود أقواماً حتى يدخلهم الجنة، ويسوق آخرين حتى يكبهم على وجوههم في النار، ويأتي يوم القيامة تتقدمه البقرة وآل عمران في صورة غمامتين يحاجان عن صاحبهما، ثم إنك إذا تعلمت ولو جزءاً يسيراً فاعلم أن فيه لله سبحانه وتعالى كثيراً من الحقوق، منها حق العمل به، ومنها حق تدبره وتفهمه، ومنها حق الاتعاظ به. السؤال الرابع: قال: (وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، فيسأل في المال سؤالين: السؤال الأول: يقال له: من أين لك هذا؟ هل أخذته من حله أم لا؟ فإن كان أخذه من حله فإنه سيبارك له فيه، وإذا وفق لصرفه في محله فإنه سيكون ستراً له من النار، وإن أخذه من غير حله فإنه سيندم عليه، فيقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]. السؤال الثاني في المال: هو قوله: (فيمَ أنفقه؟) بعد أن اكتسبه وجمعه، فهل يكفي مجرد الجمع؟ لا. بل المال يجمعه الإنسان فيتعب فيه، ثم بعد ذلك ينفقه ويفرقه، ففيمَ أنفقه؟ هذا السؤال على كل إنسان أن يطرحه على نفسه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مكائد الشيطان في الحرص، فقال صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو قدمت لآخرتك). وقال كذلك فيما صح عنه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر). فلذلك على الإنسان أن يستحضر هذه الأسئلة الأربعة، ويعلم أنه سيواجه بها بين يدي الله، (لن تزول قدما عبد) أي: لن تتحرك واحدةٌ منهما من مكانها حتى يجيب عن هذه الأسئلة.

التحذير من غرور الشيطان ومشاغله وخدعه وأوهامه

التحذير من غرور الشيطان ومشاغله وخدعه وأوهامه إن غرور الشيطان في هذه الحياة الدنيا كثير، كما ذكرناه من الغرور في الوقت، إنما نشاهده بعد مضي الزمن، ينظر الإنسان فيما مضى من عمره فيجد السنة والسنتين والثلاث والأربع وتقدمه في الإيمان فيها بطيء، لكن إسراعه إلى الموت سريع. فهو يسرع سرعة هائلة إلى الموت، يطوي المسافات، فكل يوم يقطع فيه مسافة طويلة إلى الموت، ومع ذلك فإن تقدمه في الإيمان والعمل الصالح يسير وقليل لا يرضاه إلا إذا كان منافقاً، فالمنافق يغتر بذلك، ويظن أن ما عمله كافٍ، والغرور ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق. ثم من مشاغل الشيطان كذلك التي يشغل بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا أن ينسى لماذا أتى إلى هذه الدار، وما هي مهمته فيها، فهل جاء من أجل تقوية بدنه وتحسين سمعته؟ وهل جاء من أجل جمع ماله؟ وهل جاء من أجل التمتع بالشهوات والملذات؟ لماذا جاء إلى هنا؟ لماذا خلقنا الله؟ فنحن ما خلقنا أنفسنا، ولا اُستشرنا بالخلق في الخلق: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] يخلقنا الله في أي صورة شاء، فمنا الطويل، ومنا القصير، ومنا الوسط، ومنا الأبيض، ومنا الأسود، ومنا الحسن، ومنا القبيح، فليس لنا مشورة في ذلك، وقد قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، فمن كان كذلك يعلم أنه ما استشير في خلقه عليه أن يسأل: لماذا خلقت؟ وجواب ذلك قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. إن كل شيء قيمته هي ما من أجله خلق، وما من أجله صُنع، فمكبر الصوت ما قيمته ولماذا صنع؟ لقد صنع لتسميع الصوت وتكبيره، فإذا لم يكن فيه هذه المنفعة هل سيُشترى بأغلى الأثمان؟ وهل له قيمة؟ ما له قيمة، بل يرمى في القمامات؛ لأنه لا فائدة فيه، ولذلك فمشاغل الشيطان التي يشغل بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا عن عبادة الله منها ما هو معصية لله، فهو يستغله تماماً على عكس الاتجاه، فالاتجاه السليم أن يتجه إلى العبادة، فإذا اشتغل في المعصية فقد عكس الاتجاه وانصرف إلى الخلف، نسأل الله السلامة والعافية. ثم إذا لم يستجب له في ذلك حاول صرفه إلى الأطراف وبنيات الطريق، فيشتغل باللغو الذي لا ينفع، ويمضي العمر في ذلك اللغو دون طائل، فإذا لم يستجب له في ذلك حاول شغله بالمفضول عن الفاضل، يشتغل بعبادةٍ مفضولة عن عبادةٍ هي أفضل منها، فإن لم يستطع ذلك خيل له التعارض بين العبادات، وأنه لا يمكن أن يجمع بينها، فيقتصر على بعضها دون بعض، وهكذا فلا يزال مخادعاً له، فهو لصٌ يجوس حول الديار يريد ثغرةً يدخل منها، كاللص الذي يجوس حول الديار، يريد أي ثغرةٍ يدخل منها، ولهذا علينا أن ندرك مخاطره وغواياته، وأن نعلم أننا إذا لم نتخذه عدواً فلم نستجب ما أمرنا الله به، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر:6]، وهذه الآية جمعت بين خبر وأمر، فالخبر صدق، والأمر لابد أن يحقق، الأمر يقتضي التصديق، والخبر يقتضي التصديق، فلذلك علينا بعد أن صدقنا الخبر أن نبادر لتصديق الأمر، ولا يمكن أن تعلم أن فلاناً من الناس عدواً لك، فتسالمه أنت ولا تفعل أي شيء يوصل إليه ضرراً، لن تطيعه فيما يأمر به وتنقاد له، فمن كان هكذا فهو في غاية المذلة والهوان، فلهذا علينا أن نتخذ الشيطان عدواً، وأن نعلم أنه يسعى لغواية الناس بحبائله المختلفة، فمنها ما يزينه للناس من بعض المكاسب المحرمة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل في الأرض كثيراً من أنواع الحلال التي يمكن أن يعيش بها بنو آدم. لكن يأتي الشيطان فيخيل للإنسان أنه لا يمكن أن يعيش في هذه الحياة الدنيا إلا بكسب خبيث، كالمشي بالنميمة، فيجعله قتاتاً يمشي بالنميمة بين الناس، وهذا شر كسب على الأرض، وقد صح في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قتات)، والقتات: هو النمام المتجسس. ثم يمكن أن يخيل إليه الشيطان أنه لن يرزق إلا من الربا، والربا يترتب عليه حرب الله ورسوله، يقول عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، ويمكن أن يخيل إليه أنه لن يُرزق إلا بأن يذل نفسه للبشر، وينسى رب البشر، الكريم الذي ينادي عباده فيقول: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32]، ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، ويقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، فهو الذي يعطي قبل المسألة، ويعطي إذا سئل، ويدخر بعد ذلك الكثير، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، فهو الذي يرضى لعباده أن يسألوه، وغيره ليس كذلك. فالمذلة كل المذلة أن يذل الإنسان لعبد مثله فقير مسكين بخيل لا يملك لنفسه ولا لغيره حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فالله سبحانه وتعالى أحق أن يرغب فيما عنده، وهو الذي يعطي وحده، وقديماً قال الحكيم: إذا عرضت لي في زماني حاجةٌ وقد أشكلت عليّ فيها المقاصد وقفت باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إني لك قاصدُ ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد. وكذلك يقول الآخر: لا تسألن بُني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه التي لا تحجب فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضب فلابد أن تبادر إلى مسألة الله عز وجل الذي رضي لك أن تسأله، وليس في مسألته مذلة، كل إنسان سألته حتى ولو كان أباك ففي مسألته مذلة، فإن السؤال في حد ذاته مذلة إلا مسألة الله فهي عز، فالعبد إذا تضرع لله بين يديه فهذا غاية عزه، غاية ما يصل إليه من العلم والضراعة إلى الله، {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43]. إنما ذكرناه فيما يتعلق بالتفريط في الأوقات، والمبادرة عامة في هذه الحياة كلها، لكن لكل زمان ومكان خصوصيات، فنحن الآن في نهاية هذه الدنيا، وقد خاطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بادروا بالأعمال ستاً: فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً أو مرضاً مجهزاً، أو هرماً مفنداً، أو الدجال فالدجال شر غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر). إن هذه الأمور الستة آتية، فعلينا أن نبادرها بالأعمال الصالحة قبل أن تهاجم وتدهم، ثم علينا أن نعلم كذلك أن أوقات المصائب في الدين والتكالب عليه الوقت فيها أشح وأضيق، فأنت تعلم الآن ما يشاهده دينك من كيد أعدائه، ففعل الجاهلية في داخل الأمة الإسلامية من حصول الشقاق والنفاق والعداوات والتمزق والتشرذم يكفي وحده لضعف الدين، فكيف بالهجوم الشرس القادم من الخارج من هذه الهجمة الصليبية واليهودية والإلحادية التي لا تريد خيراً للمسلمين، ولا تريد إلا غوايتهم، فهم من جنود إبليس الذين سيكثرون في النار يوم القيامة؟! فلذلك علينا أن نبادر هذه الأوقات وأن نستغلها في الحفاظ على ديننا، فإنه إذا ذهب فلا خير في العيش بعده، لا خير في العيش في هذه الأرض بعد ذهاب الدين، ولهذا علينا أن نتمسك به وأن نعض عليه بالنواجذ قبل أن يفارقنا، وأن نعلم أن حقوق أمتنا تقتضي منا كذلك المبادرة للقيام بها، فهذه الحقوق الضائعة التي هي لهذه الأمة المشرفة العظيمة عند الله عز وجل لابد من أدائها والحفاظ عليها، فإن الإنسان يكد لينفق على أهل بيته لترتب حقوقهم عليه، فليتذكر كذلك حقوق الأمة، وليكد من أجل أداء حقوق الأمة، وتذكر قول الشاعر الحكيم: فبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب ولي نظر عال ونفسٌ أبيةُ مقام على هذه المجرة تطلب وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعمُ ولا لذ مشرب ولا راق لي نومُ وإن نمت ساعةً فإني على جمر الغضى تقلب نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجنبنا غوايات الشيطان، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم! إنا نعوذ بجلال وجهك أن تجدنا حيث نهيتنا، ونعوذ بجلال وجهك أن تفقدنا حيث أمرتنا، ونسألك أن تستعملنا في طاعتك، وأن تجعلنا أجمعين هداةً مهديين غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

مسئولية المسلم وواجبه تجاه أهله

مسئولية المسلم وواجبه تجاه أهله Q ما مسئولية المسلم تجاه أهله؟ وهل الواجب عليه القيام بمصالحهم الدنيوية دون الأخروية؟ A الله تعالى يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فإذا كنت ترحم أهلك من المرض، وإذا مرضوا شق ذلك عليك وبذلت الأموال والأوقات في علاجهم فكيف لا ترحمهم من لواحة البشر عليها تسعة عشر؟! كيف لا ترحمهم من عذاب الله وسخطه؟! أنت لا تحب أن يعادي أهل الأرض أهلك وأولادك، فكيف تريد لهم أن يعاديهم من في السماء؟!! إن الرحمة تقتضي منك أن تحرص على مصالحهم الدينية قبل غيرها، ولذلك نص أهل العلم على أن المحافظ على أداء الصلاة في الجماعة إذا كان يفرط في أمر أهله بالصلاة فسيحشر في زمرة المضيعين يوم القيامة، قال محمد المودودي رحمه الله: محافظ تضييع أهله يذرُ في زمرة المضيعين يحشروا. نسأل الله السلامة والعافية. فلذلك على الإنسان أن يعلم أنهم أول من يخاطبونه بين يدي الله، فيمسكون بيده فيقولون: يا رب! وليت علينا عبدك هذا، فضيع الأمانة، رآنا على المنكر فلم ينهنا، ورآنا نقصر في المعروف فلم يأمرنا وهم خصومه؛ لأن النسب سينقطع بمجرد النفخ في الصور، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، فلذلك قد رأينا وشاهدنا في هذه الحياة الدنيا المشاحة بين الأقارب على أساس الحقوق المالية التافهة، رأينا المشاحة بين الأقارب بين الإخوة الأشقاء والأخوات والأولاد وآبائهم في أمورٍ تافهةٍ من أمور الدنيا، رأينا المشاحة في أمور الدنيا بين الأقارب، فإذا كان الأمر كذلك فعرف الناس أن هذا الإنسان الذي يشاح في الدنيا، ويخاصم على حقٍ ضئيلٍ تافه فليعلم أنه سيخاصم يوم القيامة في حقوقه، فهو في حقوقه يوم القيامة بخيل محتاجٌ فقير إلى تلك الحقوق، فلا يمكن أن يسامح فيها.

نماذج ممن طلبوا العلم بعد الكبر وانتفعوا به

نماذج ممن طلبوا العلم بعد الكبر وانتفعوا به Q هل من نماذج من الذين أقبلوا على العلم بعد الكبر وانتفعوا بذلك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ A إن من أمة النبي صلى الله عليه وسلم رجالاً تعلموا في كبرهم، فكانوا من كبار العلماء والقادة، كـ العز ابن عبد السلام الذي ما طلب العلم إلا وقد تجاوز الأربعين، فكان سلطان العلماء، ومنهم كذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما طلب جمهورهم العلم إلا في كبرهم، بل ما آمنوا أصلاً إلا في كبرهم، ومع ذلك انظر إلى المستوى الذي بلغوه من العلم، وكذلك من التابعين كـ طارق بن شهاب، جاء يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم وعمره إذ ذاك فوق الأربعين، فأصبح من أئمة التابعين وعلمائهم، وكذلك عددٌ كبيرٌ من مشاهير علماء الإسلام ما طلبوا العلم إلا في كبرهم، فأحرزوا هذا العلم ونفعهم الله بقدر نيتهم وإخلاصهم، ففتحت أمامهم أبواب العلم وأبواب الخير.

نماذج ممن نصروا الدين

نماذج ممن نصروا الدين Q اذكر لنا نماذج من الذين نصروا الدين؟ A منهم. الذي أرسله شيخه مع يحيى بن إبراهيم إلى هذه البلاد معلماً وداعياً، فلما أتى وجد إعراض الناس عن الدعوة وانقطاعهم لجمع المال وتنميته، فاختار مجموعة من شبابهم وخرج بهم للتعليم في جزيرة في البحر في شمال نواكشوط، فكانت هذه الجزيرة مغلقةً، فلم يزل العدد يزداد حتى بلغوا ثلاثة آلاف، ورباهم بالشدة والقوة، فكان يضرب من تخلف عن ركعة واحدةٍ من الصلاة عشرة أسواط، ومن تخلف عن ركعتين عشرين سوطاً، ومن تخلف عن ثلاث ركعات ثلاثين سوطاً، ومن تخلف عن الصلاة الرباعية كلها جلده أربعين سوطاً، حتى أخذهم بالقوة والشدة، فلذلك لما خرجوا من جزيرتهم لم تستطع أمة أن تقف في وجوههم، وكانوا أشجع الناس وأقواهم في الحق، ومن أولئك الذين كانوا معه يحيى بن عمر اللبتوني وأخوه أبو بكر بن عمر اللبتوني الذي يشتهر على ألسنة العوام بـ أبي بكر بن عامر، وهو أبو بكر بن عمر وغيرهم من المشاهير، كـ يوسف بن تاشفين الذي فتح المغرب والأندلس، وهزم النصارى في يوم الزلاقة حين زأرت الخيل في وجهه وهو يخطب يوم الجمعة على المنبر، فكبر ونزل بسيفه، وما زال يجاهدهم حتى قتل منهم أكثر من مائة وعشرين ألفاً. وغيرهم من الذين نصروا الله عز وجل في هذه البلاد وهم كُثر، وأهل هذه البلاد -ولله الحمد- من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أبناء الأنصار الذين تشملهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار)، وقد قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (إنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم)، وقال فيهم صلى الله عليه وسلم كذلك: (لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار)، وكذلك هم الذين ضحوا في سبيل إعلاء كلمة الله بأنواع التضحية، فيوم أحدٍ قتل منهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وسبعون رجلاً من خيرتهم، وفي رجعةِ النبي صلى الله عليه وسلم من أُحد استقبله أهل المدينة رجالاً ونساءً وصبياناً، فكان الصحابة يردونهم عنه لأنه مجروح وقد تعب في المعركة، فرأى امرأة تقترب إليه فإذا هي فاطمة بنت يزيد بن السكن، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يردوها عنه؛ فإنه قتل بين يديه ذلك اليوم ثمانية من رجالها، قتل بين يديه زوجها وولداها وأبوها وأخواها وعمها وعم أبيها، فلما نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (بأبي أنت وأمي -يا رسول الله- كل مصيبةٍ بعد رؤيتك جلل)، وانصرفت وقد تعزت عن كل ما أصابها. وكذلك هم الذين حملوا الراية في معارك النبي صلى الله عليه وسلم كلها، فقتل منهم يوم بئر معونة ثلاثة وسبعون من حفظة كتاب الله القراء، وقتل منهم يوم اليمامة سبعون رجلاً من القراء، وقتل منهم يوم جسر أبي عبيد سبعون رجلاً من القراء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس يكثرون والأنصار يقلون)، وعندما بايعوه في آخر عهده بهم قال عبادة بن الصامت -وهو من رجالهم الأقوياء- الذين كانوا يوزنون بألف -قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرةٍ علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم فيه من الله برهان، وأن نقول الحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)، فهذه بيعتكم لرسول صلى الله عليه وسلم أن تقوموا وأن تقولوا الحق حيثما كنتم لا تخافون في الله لومة لائم، ولن تنقلبوا على أعقابكم قطعاً، ولن تتركوا ما فعله أسلافكم وأجدادكم الذين كانوا خير الأمثلة، فعندما مات سعد بن معاذ اهتز له عرش الرحمن، ولم يهتز لأحد سواه. وكذلك فإن الأنصار يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، إذا جاء الفزع على الأمة الإسلامية وعلى الدين كثر الأنصار، وإذا جاء الطمع أدبروا وقلوا، فلذلك لابد أن تتحقق هذه الصفات في ذراريهم من بعدهم، ومن العيب على الإنسان أن ينتسب للنسب الشريف والمحتد الرفيع فلا يكون كأسلافه وأجداده. اللهم! لك الحمد خيراً مما ما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأقرب من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سُئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تصلح أولادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أمرنا، وأن تصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين. اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا، وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا. اللهم! استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداةً مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم! إن عبادك وإماءك يرفعون إليك أيدي الضراعة، فلا تردهم خائبين، ولا تخرج أحداً منهم من الدنيا إلا وقد غفرت له، اللهم! كما جمعتنا في الدنيا فاجمعنا في الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرشك، اللهم! لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين، اللهم! اغفر للمسلمين الميتين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم! إنهم أسارى ذنوبٍ لا يفكون، وأهل قرب لا يتزاورون، اللهم! نفس همهم، وفرج كربهم، وأدخل عليهم النور والسرور في قبورهم، والطف بنا وارفق بنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم! أظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم! أظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم! أنزل مقتك وغضبك وسخطك وبأسك وعذابك على أعدائك من كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك ويصدون عن سبيلك، اللهم! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واجعل تدبيرهم تدميرهم، ورد كيدهم في نحورهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم! لا تحقق لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، وأخرجهم من بلاد المسلمين يا أرحم الراحمين. اللهم! اجمع على الحق قلوبنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم! ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا إلى سواء الصراط، اللهم! اجعلنا قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! اسقنا من حوضه بيده الشريفة شربةً هنيئةً، لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم! آتنا كتبنا بأيماننا يا أرحم الراحمين، اللهم! إنا نسألك الثبات عند النزع، والأمن تحت اللحد، والتوفيق عند السؤال، اللهم! ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغاً إلى حين، اللهم! إن بالعباد والبلاد والخلائق، والبهائم، من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم! إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم! أنزل لنا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم! أنزل لنا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم! أنزل لنا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، اللهم! صيباً نافعاً، اللهم! صيباً نافعاً، اللهم! صيباً نافعاً، اللهم! اسقنا، اللهم! اسقنا، اللهم! اسقنا، اللهم! اغفر ذنوبنا التي منعت بها القطر من السماء، اللهم! اغفر ذنوبنا التي منعت بها القطر من السماء، اللهم! لا تهلكنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك، اللهم! لا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، ولا تؤاخذنا بما جنينا على أنفسنا، اللهم! لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم استرنا بسترك الجميل، اللهم! استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم! إن الأمور مرجعها إليك فلا تفضحنا بين يديك، اللهم! إن الأمور مرجعها إليك فلا تفضحنا بين يديك، اللهم! ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامةً يا أرحم الراحمين، اللهم! بارك على المسلمين أجمعين، اللهم! لا ترفع عنهم عافيتك، اللهم! أسبغ عليهم نعمك، اللهم! أسبغ عليهم نعمتك ظاهرةً وباطنة، اللهم لا تنزع منهم البركة يا أرحم الراحمين، اللهم علم جهالهم، وأغن فقراءهم، واشف مرضاهم، وارحم موتاهم، واقض الدين عن المدينين منهم يا أرحم الراحمين، اللهم! ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم! أسبغ عليهم نعمك يا أرحم الراحمين، اللهم! اجعلهم في قرة عين نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! أصلح أولادهم، اللهم! حقق مرادهم يا ذا الجلال والإكر

كيفية إقناع الوالدين بالسماح لأبنائهم بمزاولة الدعوة

كيفية إقناع الوالدين بالسماح لأبنائهم بمزاولة الدعوة Q كيف نقنع والدينا بعدم منعنا عما نحن فيه من توجيه الناس ودعوتهم، مع علمنا أنه ليس لهم في ذلك نية سيئة؟ A الإقناع بهذا سهل جداً؛ لكثرة النصوص المتواترة فيه، ولأن الوالد دائماً شفيق، ويحب أن يكون ولده أفضل منه، فما من أحد يرضى أن يكون هناك أحد خير منه غير ولده، ولدك تريده أن يكون أعلم منك، وأن يكون أقوى منك وأحسن منك، لكن لا ترضى ذلك لأخيك، ولا لأحد آخر، فلذلك الوالد يرضى لولده دائماً أن يكون خيراً منه، ولهذا يريد له أن يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن يفعل ما كان يفعله، فعليه أن يعرض على نفسه عمل النبي صلى الله عليه وسلم، فكم عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ رسالات ربه إليه؟ عاش ثلاثاً وعشرين سنة، وعلينا أن ننظر إلى العمل الغالب فيها، فما العمل الغالب في هذه الفترة من عمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ إننا نجزم ونوقن بأن العمل الغالب فيها تبليغ رسالة ربه إلى الناس وحملها وتوجيه الناس إليها، هذا أغلب عمله، فلم يكن يشتغل بالتجارة، ولم يكن يشتغل باللعب، ولا بالبناء وتشييد المنازل. بل قال: (ما أمرت بتشييد المساجد)، وكان يدخل في بيت فراشه حصير يبقى أثره في جنبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وإذا وقف الواقف فيه مس سقفه، ولذلك عندما بنى المسجد قيل له: (ألست تريد أن نبني لك بيتاً من حجارة؟ قال: لا، ولكن عريش كعريش أخي موسى)، فكان يقول عليه الصلاة والسلام: (مالي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة)، فلذلك علينا أن نصرف أوقاتنا فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرف فيه وقته، وإقناع الوالد بذلك أمر ميسور، وبالأخص إذا عرف أن خير العمل ما اختاره الله لنبيه، فمن يختار لولده أن يكون تاجراً أو أن يكون منغمساً في أمرٍ من أمور الدنيا وهو ويعلم أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من ذلك؟ وليس هذا منعاً من التجارة، بل إنما تمنع التجارة إذا ألهت عن ذكر الله، وعن الصلاة في المسجد، كما قال الله تعالى: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، أما غير ذلك فلا حرج فيه إذا أخذها الإنسان كلها ووضعها في محلها، ويمكن الجمع بينها وبين تجارة الآخرة، يمكن أن يجمع الإنسان بين تجارة الدنيا وتجارة الآخرة.

ما يجب على المسلم معرفته وتعلمه من أمور الدين

ما يجب على المسلم معرفته وتعلمه من أمور الدين Q ما حد فرض العين الذي يجب على كل مسلم تعلمه؟ A على كل مسلم أن لا يعرض عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يزداد منه يومياً، فقد جاء في الحديث (أي يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم). والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فما يعبد الإنسان به ربه، ويعرفه به، ويجتنب به نواهيه، ويمتثل به أوامره، ويحقق به الاستخلاف في الأرض، ويكون به من القوامين بالقسط لله فهذا هو فرض العين عليه، وما زاد على ذلك من علوم الدنيا أو من علوم الآلات فهو فرض كفايةٍ، لكن يكون فيه ممن قال الله عنهم: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، ولا يرضى الإنسان بالاقتصار فقط على أقل ما يمكن، فلذلك لا بد أن تعلو الهمم، وأن تتعلق بمعالي الأمور، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة) هذا إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لنا، فلا نسأل الله -فقط- وأن تكون من أصحاب اليمين، بل نسأله أن نكون من المقربين، أن نكون من أصحاب الفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن.

حكم تعليم الأجنبي للنساء في المساجد أمور الدين

حكم تعليم الأجنبي للنساء في المساجد أمور الدين Q هل يجوز تعليم الأجنبي النساء في المساجد؟ A ذلك واجب، وهو فرض كفاية، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله، فقد صح: (أن وافدة النساء أتته فقالت: يا رسول الله! إن إخواننا من الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فأعطاهن يوم الخميس، فكن يجتمعن له فيعلمهن ويذكرهن)، وكذلك فإنه أمر بخروجهن إلى مصلى العيد، كما في حديث أم عطية رضي الله عنها: (كنا نؤمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور ليشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين، غير أن لا تدخل الحائض المصلى)، ثم بعد ذلك في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب الرجال ظن أنه لم يسمع النساء، فتوكأ على بلال حتى وقف على النساء، فوعظهن وذكرهن وقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقامت امرأة من سطة النساء -أي: من أواسطهن- في وجهها سعفة -أي: تغير في لون ما تحت العينين- فقالت: لم يا رسول الله؟ أيكفرن بالله؟! قال: يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط. فبسط بلال ثوبه، فجعل النساء يرمين فيه بالخواتم والأخراص يهوين إلى حلوقهن وآذانهن فتصدقن، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لتصدقهن) والمساجد هي مكان التعليم، فهي مدارس الدين عندنا معاشر المسلمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن له مدرسةٌ إلا المسجد، وكان يعلم فيه، ولذلك فإن من تعطيله أن تُمنع أي فئة من فئات المجتمع من التعلم فيه، علينا أن نوزع الوقت في المسجد، فنجل وقتاً للرجال، ووقتاً للنساء، ووقتاً للصبيان، ووقتاً للأميين، فيستغل المسجد في كل ذلك، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري، من حديث ابن عمر-: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، بل يخرجن إذا خرجن تفلات، ومعنى تفلات: غير متعطرات ولا متزينات. فهن أيضاً لهن الحق في استقبال الملائكة، وكتابة أسمائهن عند أبواب المساجد، ولهن الحق في دخول أشرف الأماكن والبقاع، فهذا المكان هو أشرف مكان في البلد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها). والذي يذنب ذنباً عليه أن يبادر إلى أحب البقاع إلى الله، لعله يصادف رحمةً فيتعرض لنفحات الله فيغفر له، فلذلك لا يمكن أن يمنع أحدٌ جاء تائباً إلى المسجد، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني عبد المطلب -أو يا بني عبد مناف-! لا تمنعوا أحداً أراد أن يطوف بهذا البيت في أي ساعة شاء من ليل أو نهار)، وقد بين الله سبحانه وتعالى عموم المسجد، وأنه ليس بالكلمات، فقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18]، وقال تعالى في المسجد الحرام: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25]، فالمسجد للناس كلهم، فلذلك لا يمنع منه أحد.

حكم تعاونيات النساء المتصلة بالمنظمات النصرانية

حكم تعاونيات النساء المتصلة بالمنظمات النصرانية Q ما حكم تعاونيات النساء التي ظهرت مؤخراً، وكثيراً ما تتصل بالمنظمات النصرانية وتتلقى منها المساعدة؟ A أما الاتصال بالمنظمات النصرانية فهو عداوة لله ورسوله، ومحادةٌ لله عز وجل، ومسارعةٌ ومبادرةٌ إلى أعداء الله الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة والهوان، وجعلهم شر سكان الأرض، فجعلهم أخس من الكلاب والخنازير ومن القردة، فقال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]. فهم شر ما ذرأه الله من الخلائق، ومن كان هكذا لا يمكن أن يتصل به الإنسان، ولا أن يقترب منه، أيرضى الإنسان أن يدخل في لحافٍ واحد مع خنزير ملطخ بالأنجاس؟! فكيف يرضى بمخالطة من هو شر من الخنزير؟! إن أدواء الإيمان وأمراضه كذلك تعدي، فيصاب الإنسان بالعدوى عندما يميل بقلبه ولو يسيراً إلى السافلين، كما قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]. وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75]. فلذلك لابد أن لا يركن الإنسان إلى السافلين، وأن يخاف الركون إليهم، وأن يعلم أنه ضررٌ ماحق بالدين، أما التعاون على البر والتقوى، فلا حرج فيه، كأن يتعاون النساء على جمع صدقاتهن للإنفاق على بيتٍ فقيرٍ أو على يتامى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين. ورفع المسبحة والوسطى). فالفرق بينهما في الجوار، فإن المسبحة والوسطى متجاورتان، فلذلك عليهن أن يسعين إلى الخير، وأن يعلمن أن عملهن المشترك خير من عمل كل واحدة منهن وحدها، ومع هذا (فلا تحقرن جارةٌ لجارتها أن تهدي إليها ولو ظلفاً محرقاً، ولو فرسن شاة)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

نصيحة للنساء في الزهد في الدنيا والجري وراء الموضات

نصيحة للنساء في الزهد في الدنيا والجري وراء الموضات Q هل من نصيحة للنساء في تزهيدهن في اتباع الموضات ومتاع الدنيا؟ A على النساء أن يتذكرن انتقالهن من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وأن تعلم كل واحدة منهن حالها الآن، وما هي عليه من شدة الفزع والضعف، فإذا سمعت صوت رعد مجلجل خافت خوفاً شديداً، وإذا رأت برقاً قاصفاً خافت خوفاً شديداً، وإذا سمعت نبأً مفاجئاً خافت خوفاً شديداً، فكيف لا تخاف من عذاب الله؟! يقول أحد الشعراء في مرثية زوجته بعد أن انتقلت إلى الدار الآخرة: امرر على الحِدث الذي حلت به أم العلاء فنادها لو تسمع أنى حللتِ وكنتِ جد فروقهًّ بلداً يمر به الشجاع فيفزع فلقد تركت صغيرة مرحومة لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع فإذا سمعت أنينها في ليلها طفقت عليك شئون عيني تدمع وقوله: جد فروقة أي: شديدة الخوف. فلذلك عليهن أن يتذكرن ما هن منصرفات إليه، وأن يتذكرن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين عندما سألنه عن أول من تلحق به من نسائه إلى الدار الآخرة قال: (إن أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً)، فكن يتطاولن بأيديهن، لكن تبين أن المقصود بطول اليد الإنفاق، ففازت بذلك زينب بنت جحش فكانت أم المساكين، فهي أطولهن يداً في الإنفاق، وليست أطولهن يداً في الخلقة، فعلى من تريد الموضات أن تقدمها أمامها لتجدها في قبرها، من تريد البيت الوضيء والفراش الوطيء والسراج المضيء عليها أن تقدم ذلك لقبرها، فهي بحاجة إلى ذلك فيما أمامها، وقد قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مظلمةٌ على أهلها، وإن الله ينورها بدعائي وصلاتي).

بيان كون التذكرة والموعظة من وظائف المسجد

بيان كون التذكرة والموعظة من وظائف المسجد Q هل التذكرة وظيفة من وظائف المسجد، يمنع منعها؟ A إن التذكرة من وظائف المسجد، ولذلك أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن مسعود: (أنه كان يذكر الناس كل يوم خميس في المسجد، فقال له أبو وائل -أو غيره-: يا أبا عبد الرحمن! وددنا لو ذكرتنا كل يوم. فقال: أما إني لأتخولكم بالموعظة مخافة السآمة عليكم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا) والسآمة: الملل.

شروط جواز خروج النساء من البيوت

شروط جواز خروج النساء من البيوت Q هل من شرط في جواز خروج النساء؟ A لا بد أن يخرجن بثياب غير لافتةٍ للانتباه من ناحية الحسن، فلا يخرجن بأثواب الزينة، ولا يخرجن كذلك بالرائحة الطيبة، فقد أخرج مالك في الموطأ (أن عمر خرج إلى العيد فمر حول النساء، فشم رائحةً طيبةً من رأس إحداهن، فقال: من صاحبة هذا الطيب؟ فلو عرفتها لفعلت بها وفعلت. فزعم النساء أنها قامت عن حدث لروعتها مما قال عمر)، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أيما امرأةٍ تعطرت فخرجت من بيتها فهي زانية). فلذلك على النساء أن يتقين الله وأن لا يخرجن بثياب الزينة، ولا بشيءٍ منها، فقد حرم الله عليهن إبداء الزينة إلا لمن أذن لهن في إبداء الزينة له.

الوسطية في الإسلام

الوسطية في الإسلام دين الإسلام دين كامل لا تجوز فيه الزيادة ولا النقصان، وهو دين الوسطية، ولذلك فإن الإسلام أمر بالتوسط في باب العبادة ونهى عن الإفراط والتفريط فيها، وأمر بالتوسط في باب الدنيا وجمعها، فنهى عن الانشغال بها كل الشغل ونهى عن تركها، وأمر بالتوسط في باب الخلق، فنهى عن الإفراط والتفريط فيه، وهكذا فالإسلام دين الوسطية في الأمر كله.

كمال الإسلام وعدم قبوله للزيادة والنقص

كمال الإسلام وعدم قبوله للزيادة والنقص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده خير الدين، وأرسل به أفضل الرسل وأنزل به أفضل الكتب، وارتضاه للناس وقال فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. وقد نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، العاشر من شهر ذي الحجة وهو واقف بعرفة بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً ووقف في الموقف، وكان ذلك في العام العاشر من الهجرة، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها إلا اثنين وثمانين يوماً، وقد بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أنزلت هذه الآية، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: لم يتم شيء إلا نقص. وقد صح عنه رضي الله عنه أن حبراً من اليهود أتاه فقال: (يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم لو علينا معاشر اليهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال: وما هي؟ فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فقال عمر: أما إنها أنزلت يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة). إن هذه الآية قد حددت أن الدين المرضي عند الله هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن أن يزداد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن ينقص منه، ولذلك قال مالك رحمه الله: قد أنزل الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً. ومن هنا: فكل ما يزيده الناس وكل ما ينقصونه من الدين فإنما هو إما إفراط وإما تفريط، فالإفراط بالزيادة في الدين والتفريط بالنقص منه والتقصير عما طلب فيه، وكلا الأمرين مقيت شرعاً، والتوسط بينهما هو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، وهو الذي أنزل الله به الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ارتضى من عباده، فكل ما شرعه الله لعباده فهو المصلحة المتوسطة التي تراعي أمور الدنيا وأمور الآخرة، وتراعي حقوق الأفراد، وتراعي حقوق الجماعات، وتراعي حقوق الرب جل وعلا وحقوق العبد، وهذه الأمور لا يمكن أن يراعيها مشرع إلا العليم الخبير اللطيف الذي يعلم السر وأخفى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. من هنا فلا يمكن أن يأتي أحد بأعدل مما شرعه الله لعباده، ولا يمكن أن يأتي بما هو مصلحة إلا ما شرع الله لعباده، فكل ما شرعه الله لعباده فهو مصلحتهم، لكن قد يغيب عن الإنسان وجه المصلحة فيه؛ لأنه لا يخطر بباله ما يتعلق بالآخرة، فيظن أن المصلحة مقصورة على أمور الدنيا فقط. ولذلك فمصائب المؤمنين وبلاياهم هي عين المصلحة عند الله، وذلك أنها تكفر من سيئاتهم، وترفع من درجاتهم، وتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وتلهمهم اللجوء إليه وتذكرهم به سبحانه وتعالى، فإن الغنى مدعاة للطغيان ومدعاة للنسيان، فإذا لم يمرض الإنسان ولم يشتك من أية شكوى؛ لم يتذكر حاجته إلى الباري سبحانه وتعالى، ولم يحسن الضراعة إليه والدعاء. وكذلك فإن المصالح الأخروية لا يمكن أن تدرك بمقتضى العقول الدنيوية؛ لأن الإنسان إنما ينطلق من المعايير المادية التي يمكن أن تقاس بها أمور الدنيا، ولا يمكن أن تقاس بها أمور الآخرة، فالوزن باعتبار الدنيا إنما هو بالثقل والوزن في الآخرة إنما هو بما عند الله، ولذلك رجحت بطاقة قدر الكف فيها (لا إله إلا الله) على السجلات التي سدت الأفق، فطاشت السجلات، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8]. ولذلك فالوزن الدنيوي هو وزن مادي تراعى فيه الظواهر فقط، والوزن يومئذ -أي: في يوم القيامة- هو الحق الذي لا يمكن أن يلتبس بغيره، ولا أن يخالطه باطل في وجه من الوجوه، إذا عرفنا هذا أدركنا أن كل ما شرعه لنا ربنا سبحانه وتعالى فهو عين المصلحة لنا وإن خفي علينا ذلك، وأن علينا أن نرضى بكل ما شرعه الباري سبحانه وتعالى بكل استسلام وطمأنينة، وأن نعلم أنه سبحانه وتعالى غني عنا وعما يصيبنا وعما يعطينا، فهو الغني الحميد لا يصل إليه نفع ولا ضر من عباده، (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني). وقد بين سبحانه وتعالى أن الخلائق جميعاً لو كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.

العبادة لمصلحة العابد

العبادة لمصلحة العابد ومن هنا يعلم أن العبادة إنما هي لمصلحة العابد لا لمصلحة المعبود، وأن المنتفع بها هو العابد وحده، وأن الله قادر على هداية الناس أجمعين وإلهامهم طريق الحق وأطرهم عليه أطراً، ولكنه يبلوهم بالخير والشر ويمتحنهم بذلك، ولهذا قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس:99 - 102]. الأيام التي خلت فأخذ فيها الله السابقين أخذاً وبيلاً، يعيدها الله سبحانه وتعالى ويكررها؛ لأن من سنته التي هي مصلحة أهل الأرض بقاء الصراع الأبدي فيها بين الحق والباطل.

الصراع بين الحق والباطل لا يتوقف

الصراع بين الحق والباطل لا يتوقف ومن هنا فلو توقف هذا الصراع لحظة واحدة، فخلص الحق على الأرض واستقام الناس، أو خلص الباطل على الأرض وكفر الناس، لم يكن لهذه الدنيا معنىً ولا فائدة، فالدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، فلذلك امتحننا الله بهذه الحياة الدنيا، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون؟)، فهذه الدنيا دار استخلاف وامتحان، يمتحننا الله سبحانه وتعالى فيها، فلو تمحض فيها الحق لنجح الناس جميعاً، واستحقوا الخروج من هذه الدنيا التي هي دار الأكدار إلى دار القرار، ولو كفروا جميعاً لرسبوا في الامتحان، وحل عليهم غضب الله الأكبر: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله). فاحتيج إذاً إلى أن يبقى في هذه الأرض صراع مستمر بين الحق والباطل، وهذا الصراع لابد فيه من مروق وخروج على صراط الله ومنهجه، وهذا المروق والخروج منه ما يسير عن يمين الصراط ومنه ما يسير عن يساره، فما كان عن يمين الصراط فهو غلو وتجاوز للحدود التي حدها الله سبحانه وتعالى، وابتداع في الدين، وما كان عن شماله فهو تقصير عن الدين ونقص منه، وكلا الأمرين مذموم، وهذا الصراط الدنيوي الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، هو تمثيل للصراط الأخروي الذي هو جسر منصوب على متن جهنم: أدق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.

بقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي

بقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فيمكن أن يقوّم الإنسان نفسه الآن في طريقه: فإن كان سالكاً لهذا الطريق لا يميل ذات اليمين ولا ذات الشمال مع بنيات الطريق ويلتزم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى رجاء أن يثبت على ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، وإن كان يميل ذات اليمين أو ذات الشمال مع بنيات الطريق، فليخف على نفسه يوم القيامة، عندما يرتجف الصراط، أن يميل عنه يميناً أو شمالاً، نسأل الله السلامة والثبات، ودعاء الأنبياء يومئذ: اللهم سلم سلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على مقربة من الصراط يقول: (اللهم سلم سلم)، فلذلك لابد أن يحرص الإنسان على نجاته في سلوكه لهذا المنهج الرباني وهذا الصراط المستقيم؛ حتى يقيس بذلك نجاته على الصراط الأخروي يوم القيامة، ونحن نعلم أن الصراط الأخروي مزلة مدحضة كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الصراط الدنيوي كذلك صعب جداً وبالأخص في أيامنا هذه أيام الفتن التي هي كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا. فلابد أن يحرص الإنسان كل الحرص على ألا يضع قدمه إلا في مكان معتدل في سواء الطريق، وأن يعلم أن على حافتي الطريق أبواباً مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داعٍ يدعو إليه: يا عبد الله! إلي إلي، وفوق السورين داعي الله ينادي: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه.

وجوب الاعتدال في الأمر كله

وجوب الاعتدال في الأمر كله ثم إن علينا أن نعلم أن الاعتدال على هذا الصراط منهج متكامل يكمل بعضه بعضاً ويصدقه، فلا يمكن أن يكون الإنسان معتدلاً في اعتقاده على الصراط المستقيم ومائلاً في عمله؛ لأن عقيدته تدعوه إلى العمل، إذا استقامت عقيدته دعته إلى الاستقامة على العمل، ولا يمكن أن يكون مستقيماً في عبادته غير مستقيم في معاملته؛ لأن العبادة تدعو إلى حسن المعاملة، ولا يمكن أن يستقيم في تعامله مع الله وينحرف في تعامله مع المخلوقين؛ لأن الاستقامة مع الله سبحانه وتعالى تقتضي لين الجانب لعباده والاستقامة في الخلق، ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤدياً لحقوق الأقربين مقصراً في حقوق الأبعدين فيكون على الصراط المستقيم؛ لأن أداء حقوق الأقربين مقتضٍ منه للزيادة في أداء حقوق الآخرين حتى لا يكون مطففاً. ومن هنا فهذا المنهج الرباني متكامل يكمل بعضه بعضاً، وإذا حصل الميل في جانب من جوانبه أدى ذلك إلى اختلال البنيان كله، ألا ترون أن حجراً واحداً في أساس البنيان إذا كان مائلاً فبنيت عليه الأسوار الطويلة والمباني الشاهقة، كان ذلك سبباً لتزحزح تلك المباني الطويلة، ولا يقول أحد: هذا الحجر مساحته يسيرة صغيرة، والبناء طويل جداً، لعلمه أن ذلك البناء الطويل مبني على ذلك الحجر الواحد، فإذا مال مال البنيان كله. من هنا على الإنسان أن يحرص على الاعتدال في كل هذه الأمور على المنهج المستقيم، وأن يحرص على الانطلاق من هذا المنهج في كل صغيرة وكبيرة، وهو بالاستسلام لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نرضى جميعاً بكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء تعلق بالعقائد أو بالعبادات أو بالمعاملات أو بالأخلاق أو بأمور الدنيا، فلابد أن نستسلم؛ لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الصراط، ومن زاد فيه أو نقص منه فإنما خرج عن ذلك الصراط وضل ضلالاً بعيداً، وسيستمر في غوايته؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين أن من ضل عن بداية الطريق لابد أن يفتن بأنواع الفتن التي تقصيه، ولا يزال في ابتعاد عن المحجة بعد ذلك، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:110 - 111]. فلابد إذاً من الحرص على هذا الصراط المعتدل المستقيم، والغريب في الشأن أن هذا الصراط هو أيسر السبل وأقومها، وأن كثيراً من الناس لا يصبرون على الاستقامة، فهم يملون العافية، نسأل الله الاستقامة والثبات، ومن هنا فيريدون الزيادة أو النقص من دين الله كحال أهل سبأ، الذين أنعم الله عليهم بأنواع النعم في الأرض والأمن واستقامة الحرث وغير ذلك، فملوا هذا: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19]. فلنحذر من أن نمل العافية، ولنحرص على الاستقامة على هذا الدين وعلى وسطه وسوائه.

خطورة الغلو في الدين

خطورة الغلو في الدين ثم علينا أن نتعلم أن الميل ذات اليمين أو ذات الشمال في أي جانب من جوانبه مقتض لاستمرار ذلك في الجوانب الأخرى من حيث لا يشعر الإنسان. فمثلاً: في الجانب العقدي، إذا أخذ الإنسان بسواء الطريق، أدى ذلك منه لاستقامة عمله كله، ولانطلاقه من المبدأ الصحيح، فلا يكون غالياً مجاوزاً للحد في الاعتقاد، فذلك مدعاة لمسلسل من الأخطاء لا حصر له، وإذا بالغ الإنسان في إتباع ما تشابه من القرآن, أو في إتباع ما تشابه من السنة وغلا في ذلك لابد أن يصل إلى حد يكون به مبتدعاً آتياً بما لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما لم يقله أحد من قبله، ومن هنا يزداد ضلالاً بعيداً ولا يزال في ذلك الطريق المظلم الموحش، نسأل الله الثبات والاستقامة. وهذا الذي يؤدي بالناس إلى تكفير المسلمين، ويؤدي بهم إلى الغلو في الدين، بأن يأخذوا جزئية واحدة ليست من المحكم البين فيجعلوها محكاً للناس ومعياراً لهم، يمتحنونهم على أساسها، فليس ذلك من المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإنما كان يأخذ الناس بمحكم الدين وبالأسهل والأخف، وعندما سأله جبريل عن الإيمان ذكر ستة أمور فقط، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). وعندما أتاه رجل وقد حضر الصف فقال: (يا رسول الله! أسلم وأقاتل أو أقاتل ثم أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً).

براءة الدين من التكلف

براءة الدين من التكلف ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتكلفين، لذلك لا تجدون في أي حديث ولا في أيه آية مناظرة على الطريقة المنطقية، أو على الطريقة الفلسفية، مع أي حبر من أحبار أهل الكتاب، أو عالم من علماء ذلك الزمان، أو فيلسوف من فلاسفتهم، بل عندما جاء نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه فيهم الكتاب المحكم البين من سورة آل عمران حين قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المباهلة التي أمره الله بها. وكذلك في مجادلته للمشركين إنما كان يقرأ عليهم القرآن، فعندما أتاه عتبة بن ربيعة وهو ابن عمه، وكان شيخاً كبيراً محترماً في قريش، وأراد أن يجادله وذكر له حجج المشركين التي أوحتها إليهم الشياطين {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]، استمع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل أدب حتى أكمل ما معه من الحجج، فقال له: اسمع أبا الوليد، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4]، حتى قرأ عليه صدر هذه السورة، فهذه مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يقنع الناس، فما يظنه الناس سبباً للهداية أو سبباً للإقناع من النظر الفلسفي والمنطقي وتركيب الأشكال والجدل وغير ذلك، فإن أدى إلى إقناع شخص فليكن ذلك الشخص واحداً في المليون، وقد أسلم الملايين المملينة في أنحاء الأرض مشارقها ومغاربها من غير مجادلات فلسفية ولا تركيب أشكال منطقية. وقرئ عليهم هذا القرآن، فمن هداه الله منهم رأى أنه عين الصواب والحق واستسلم له، ولذلك فإن رجلاً من أحبار اليهود من أهل اليمن كان في ديره يتعبد ذات ليلة، فمر راكب من حوله يقرأ سورة النساء، فاستمع إليه الراهب حتى بلغ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء:47]، فلما سمع هذه الآية نزل مسرعاً من الدير وأقبل إلى المدينة مؤمناً وهو يلمس وجهه ويخاف أن يطمس على قفاه قبل أن يقبل الله إسلامه! وهكذا فإن أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير حين قدما المدينة وذهبا إلى بني عبد الأشهل وجاءهم أسيد بن حضير يريد طردهما من المدينة، وقد أرسله بذلك سعد بن معاذ، أقبلا إليه فرحبا به وأدنيا مجلسه، ثم قالا: هل لك في أن نعرض عليك بعض ما جئنا به من هذا الكتاب الذي أنزل على صاحبنا -أي: على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإن كان حقاً عندك قبلته، وإلا خرجنا وتركنا لك مكانك، فقال: قد أنصفتما، فجلس إليهما فقرآ عليه القرآن فبادر إلى الإيمان ولم يخالف في كلمة واحدة مما قرئ عليه. ومثل هذا ما حصل لـ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عندما أرسل المشركون عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي بالهدايا، وهم يريدون إخراج المهاجرين من الحبشة، وأتيا التجار الكبار والملأ من أهل الحبشة فزينا لهم إخراج المهاجرين، وقالوا: هؤلاء يزعمون أن عيسى عبد مملوك -وأولئك يعبدون عيسى من دون الله! ويزعمونه ابناً لله- فشق ذلك على المهاجرين، فلما دعاهم الملك للمناظرة، وجمع حوله الملأ من قومه قام عمرو بن العاص فتكلم فقال: إن هؤلاء يزعمون أن عيسى عبد مملوك، فتقدم جعفر بن أبي طالب فبين لهم عقيدة المسلمين في عيسى وقرأ الآيات التي أنزلها الله في ذلك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، وبين أنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فأخذ النجاشي عوداً فقال: والذي يحلف به النجاشي لم يزد عيسى على هذا شيئاً قدر هذا العود، فاقتنع النجاشي بذلك وأسلم وحسن إسلامه، ورجع وفد المشركين خائناً.

النقص والتقصير في جانب الاعتقاد يؤدي إلى التفريط في أمور كثيرة

النقص والتقصير في جانب الاعتقاد يؤدي إلى التفريط في أمور كثيرة وفي المقابل أيضاً إذا حصل التقصير في جانب الاعتقاد والنقص فيه، أدى ذلك أيضاً إلى التفريط في كثير من الأمور التي عليها ينبني أمر هذا الدين، فلابد أن نعلم أن التفريط في هذا الجانب مقتض لأن يقبل غير المسلم في المسلمين، وأن يتغاضى عن الكفر الصريح، وأن يتغاضى عن التعدي على حدود الله، وأن يتغاضى عن الابتداع البين الذي هو هدم للدين، وأن يترك ركناً من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يترك ما أخذ الله علينا العهد به من القيام بالقسط والعدل في الأرض، وهذا ما أكده الله في كتابه، فقد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135]، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8]. ومن هنا فالذين يريدون التنازل والمحاباة والمسامحة لابد أن يصلوا إلى خروج ومروق عن الجادة بالكلية، فهذا الدين دين فرقان يميز بين الحق والباطل، ولا يمكن أبداً أن يلبس فيه الحق بالباطل، فلبس الحق بالباطل هو الفتنة بعينها، وقد قال الربيع بين أبي الحقيق: إنا إذا مالت دواعي الهوى وأنصت السامع للقائل واصطرع القوم بألبابهم نقضي بحكم عادل فاصل لا نجعل الباطل حقاً ولا نلط دون الحق بالباطل نخاف أن تسفه أحلامنا فنخمل الدهر مع الخامل

خطورة التسامح والمحاباة على حساب الدين

خطورة التسامح والمحاباة على حساب الدين فلذلك لا يجوز أن يصل الإنسان في محاباة الناس إلى حد التجاوز، فقد عرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أقل من ذلك فلم يقبل، وعندما عرض عليه المشركون أن يسكت عن سب آلهتهم لم يفعل في البداية حتى أنزل عليه في ذلك الأمر المؤقت فقط: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]. وعندما عرضوا عليه أن يعبد آلهتهم ويعبدوا إلهه أنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:5] * {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]. فعرفوا أنها المفاصلة، ولا يمكن أن يقع بعدها أي ميل ولا ركون، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، وقال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75]. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربي أصحابه على هذا المنهج، فهذا سعد بن أبي وقاص تضغط عليه أمه وهي أحب الناس إليه وأمنه عليه وتضرب عن الطعام! فلما كادت أن تموت أتاها سعد فهمس في أذنها فقال: يا أماه! لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً تلو أخرى على أن أرجع عن شيء من ديني ما رجعت فاحيي أو فموتي. فلذلك لابد أن نعلم أن مسلسل التراجع والمسامحة سيصل بالناس إلى ما يعرف اليوم بالأنترفيت أي: الدين العالمي، وهو دين مشوه يجمع كل الأديان وكل الأيديولوجيات، وقد بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية، وأراد به أصحابه أن يجمعوا -أولاً- الديانات الثلاث السماوية، ويأخذوا الأمور المتفق عليها بين المسلمين واليهود والنصارى فيجعلون من ذلك ديناً موحداً! وهذا ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وهو غاية في التغيير والتبديل. ومثل هذا ما حصل لدى بعض المسلمين -أيضاً- من السعي لمحاباة المبتدعة، حتى أرادوا أن يجعلوا مذهباً خامساً للمسلمين متفقاً عليه وهو المذهب الجعفري! وقد انعقد لذلك مؤتمر في الأزهر لإرضاء الشيعة، وأرادوا أن يتكلموا عن المذاهب الخمسة، وأن يجعلوا مع المذاهب الفقهية السنية المتبوعة مذهباً خامساً وهو مذهب الجعفرية لمجرد السياسة وإرضاء الشيعة الروافض. وهذا لا يمكن أن يستقيم بحال من الأحوال، ولا أن يقره المسلمون، ولا أن يرضوا به، وقد حاول المستعمرون من قبل كثيراً من الطعن في الدين ومن محاولة التراجع عنه، فلم يستجب لهم المسلمون، والذين يستجيبون لمثل هذه الدعايات لابد أن يتركهم التاريخ على الأثر، ولهذا فقد قال الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله وهو في بيئة مليئة بالشيعة وأنواع المبتدعة: لقد حاولت في بداية الأمر في سوريا ولبنان الدعوة إلى التقريب بين أهل السنة والشيعة، حتى تبين لي أني أضرب في حديد بارد، وأن هذا الأمر لا يمكن أن يستقيم بحال من الأحوال، فما اتفق معهم على شيء إلا نقضوه، فعرف أن ذلك من المستحيلات وأنه لا يمكن أن يقع، ولهذا ذكر في كتابه السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، أن من أراد السعي للتقريب فلابد أن يكون مسعاه بتقريب المبتدعة إلى الصراط المستقيم، لا إلى تقريب الصراط المستقيم إلى المبتدعة، فالصراط المستقيم ثابت في مكانه. فلذلك لا حرج في أن ندعو المبتدعة إلى ترك ما هم عليه من بدعهم وتقريبهم إلى الصراط المستقيم، لكن من المستحيل أن نحاول تقريب الصراط المستقيم إليهم وزحزحته عن مكانه. فهذا في جانب الاعتقاد.

وجوب إعطاء كل ذي حق حقه

وجوب إعطاء كل ذي حق حقه أما في جانب العبادة فمن المعلوم كذلك أن الله سبحانه وتعالى أعطى للمخلوق حقوقاً، فلعينه حق، ولزوره حق، ولأهله حق ولعمله الدنيوي حق، ولغرمائه حق، ولذريته حق، ولجيرانه حق، ولدعوته حق، وهذه الحقوق لابد من أدائها، فمن أداء حق الله الحرص على أداء كل حق رتبه الله، والذين يتغافلون عن هذا أو ينسونه إنما يجعلون العباد نداً لله فيظنون أن تلك الحقوق ند لحق الله، وهذا غاية في الانحراف؛ لأن تلك الحقوق ما رتبت إلا بترتيب الله. فمن حق الله عليك أن تنام عند حاجة بدنك إلى النوم، ومن حق الله عليك أن تأكل عند حاجة بدنك إلى الأكل، ومن حق الله عليك أن تشرب عند حاجة بدنك إلى الشرب، ولذلك أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنكار البالغ، على الرجل الذي كان قائماً في الشمس لا يستظل، وبين أن هذا من الغلو الشديد، وأن من رغب عن سنته فليس منه، وأنكر كذلك على الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً حتى عرف الغضب في وجهه وقال: (أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). ونهى الذين أرادوا التبتل ومنهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه، ونهى أيضاً الحولاء بنت تويت وكانت امرأة من بني تيم بن مرة، كان ينفق عليها أبو بكر، فكانت تقوم الليل كله ولا تنام، وكانت تصوم الدهر كله، فجاءت تزور عائشة رضي الله عنها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذه؟ فقالت: فلانة. تذكر من صلاتها وصيامها -أي: تثني عليها عائشة بذلك- فقال رسول الله: (مه! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، إن الله لا يمل حتى تملوا). ومعناه: اجتهدوا أن تؤدوا من الأعمال الصالحة ما تطيقون فقط، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا تطيق. وقال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص حين كان شاباً قوياً فكان يصوم النهار دائماً ويقوم أكثر الليل: (إن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وأمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم يومين من الأسبوع: الإثنين والخميس، فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم صيام داود: أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فلما كبر عبد الله وضعفت سنه قال: ليتني أخذت برخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعندما دخل في اليوم العشرين من رمضان، والرسول يريد أن يدخل معتكفه فرأى الأخبية في المسجد قد كثرت فقال: (ما هذا؟ فقيل: أمهات المؤمنين يعتكفن فقال: آلبر ترون بهن؟).

الاجتهاد الزائد في العبادة شر وضلال

الاجتهاد الزائد في العبادة شر وضلال فذلك لابد أن يعرف الإنسان أن الاجتهاد الزائد في أداء حق الله في مقابل التعطيل لحقوق الآدميين ليس من الاستقامة على المنهج الصحيح، ولا هو من سلوك سواء الطريق، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً من الأنصار يلزم المسجد فسأل: من يقوم عليه؟ فقيل: أخوه، فذكر أن أخاه الذي يعمل ويجاهد ويجمع المال من حله وينفق على أخيه هذا أفضل منه، وهذا يقتضي أن المؤمن المعتدل المتكسب الذي ينفق على من تلزمه نفقته أفضل من الذي ينقطع للعبادة فيكون كلاً على الآخرين وعالة عليهم. من هنا علينا أن نعلم أن الإنسان إذا أراد المبالغة في العبادة وتجاوز الحد فحينئذ لا يمكن أن يشاد الدين إلا غلبه، ولابد أن يأتي وقت يضعف فيه أمام بدنه، أو أمام عقله، أو أمام نفسه، أو أمام شهوته، أو أمام المرض الذي يصيبه، ولابد كذلك أن يصاب بإحباط من كثرة ما يحصل، ولذلك حصل لبعض الذين دخلوا هذا الباب وبالغوا فيه أنه كان يظن أن مقامه عال جداً، فلما حضره الموت ندم غاية الندم وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب.

يبتلى المبالغون في العبادة باحتقار المنهج المستقيم

يبتلى المبالغون في العبادة باحتقار المنهج المستقيم فالذي يريد المبالغة في العبادة وتجاوز الحد فيها لابد أن يبتلى بأحد أمور: إما أن يحتقر المنهج المستقيم فيريد أن يزيد على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا غاية الضلال البعيد، ولذلك قال ابن مسعود: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً). وقاعدة أهل السنة والجماعة: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وهي عكس قاعدة المشركين، فالمشركون يقولون: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]. كل خير فهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه رضوان الله عليهم، ولا يمكن أن يأتي الآخر بأفضل مما جاءوا به، ولهذا قال مالك رحمه الله: إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها.

يبتلى المبالغون في العبادة بالابتداع

يبتلى المبالغون في العبادة بالابتداع أو أن يبتلى بأمر آخر وهو: الابتداع، بحيث يشرع ما لم يأذن به الله، فيظن أن الدين ناقص وأنه يكمله من عنده، وهذا شريك الأول في الضلال المبين؛ لأنه زعم أن الله تعالى لا يعلم ما يتمم به دينه ويكمله، فجاء هو ليكمله باجتهاد من عنده! وقد ذكر الشاطبي رحمه الله أن أعظم ما في البدع من المنكر: أن صاحبها يظن أنه يكمل الدين، وأن الدين كان ناقصاً قبل اجتهاده هو، وأنه جاء بجديد يكمل به الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يزعم أن قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] غير صحيح، نسأل الله السلامة والعافية.

يبتلى المبالغون في العبادة بالغرور

يبتلى المبالغون في العبادة بالغرور أو أن يبتلى بالغرور، بأن يبالغ في العبادة فيظن نفسه وصل إلى مقام عالٍ، وقد يخيل إليه الشيطان أنه قد حطت عنه التكاليف، وأن له أن يقع في المناكر والمعاصي! ويظن بذلك أنه وصل إلى مقام لا يتضرر بالمعصية، كما زعم اليهود الذين قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، فهذا الحال هو من سلوك طريقهم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد أن يكون في هذه الأمة من يسلك طريقهم، فقال: (لتتبعن سنن من قبلكم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذاً؟!). فاليهود الذين قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران:24] اتبع آثارهم غلاة الناس في العبادة من هذه الأمة الذين يزعمون أنهم وصلوا إلى مقام لا يعذبهم الله فيه، بل يصل الغرور ببعضهم إلى درجة كبيرة من الوقاحة فيقول: لو أن الله رماني في النار لانطفأت! نسأل الله السلام والعافية. فهذا غاية في الانحراف والبعد عن الطريق المستقيم، وعن هذه المحجة.

يبتلى المبالغون في العبادة بقولهم بوحدة الوجود وترك العمل

يبتلى المبالغون في العبادة بقولهم بوحدة الوجود وترك العمل بل ربما ابتلي بأمر آخر وهو: أن يزعم أنه وصل إلى مقام يتحد فيه العابد بالمعبود، وهو الذي يسمونه بوحدة الوجود، أو بمقام الحلول، أو بوحدة الوحدة، أو بالاتحاد، أو بوحدة الشهود، وكلها اصطلاحات ترجع إلى هذه الفكرة من أصلها، وإن كانت بينها فروق دقيقة. فيزعمون أن الإنسان إذا عرف أتاه اليقين ويتأولون قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] بهذا، وهذا غاية في الغلط وسوء الفهم، فاليقين الموت، (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) أي: حتى يأتيك الموت، والذين يزعمون أن المقصود باليقين هنا مقام معلوم يصلون إليه، قد انحرفوا غاية الانحراف وضلوا عن سواء السبيل وقادهم الشيطان بأزمتهم إلى الكفر البواح، نسأل الله السلامة والعافية. وربما ابتلي المبالغ في العبادة أيضاً بأمر آخر وهو بالازدراء، فيسول له الشيطان أن كل عمله غير مقبول عند الله، وبالتالي فأداؤه للعمل وتركه له سواء، ومن هنا سيترك العمل من هذا الوجه، بل ربما ابتلي بالوسوسة في الإخلاص، فيظن كل عمل غير خالص، فلا يزال يعيد الصلاة أو يعيد الوضوء، كما ترون الموسوسين الذين إذا غسل أحدهم وجهه لم يكد ينتهي منه، والمبالغين في العبادات يصابون بأنواع من البلاء، وهكذا الذين يتجاوزون الحد المشروع يصابون بكثير من أنواع البلاء من هذا القبيل.

التفريط سبب لسوء الخاتمة

التفريط سبب لسوء الخاتمة وبالمقابل المقصرون أصحاب التفريط في العبادة هم الذين ابتلوا بالميل ذات الشمال عن هذا الصراط، فنسوا الحكمة التي من أجلها خلقوا، ونسوا أنهم ما خلقوا إلا لعبادة الله، ففرطوا في عبادته وقصروا فيها، وتمنوا على الله الأماني وتعلقوا بالظنون، ولذلك فإن الشيطان يستهويهم إلى الوقوع في معاصي الله، ولا يذكرهم إلا بآيات الوعد وأحاديثه وينسون الوعيد. أولئك يتركون في البداية المندوبات، ثم يتركون السنن، ثم يوصلهم ذلك إلى ترك بعض الواجبات، ثم إلى ترك الأركان، ثم إلى سوء الخاتمة عند الموت، نسأل الله السلامة والعافية، فكل تقصير وترك للعبادة فهو مدعاة لأن يأخذ الإنسان نقصاً وتقصيراً من المقام الذي فوق ذلك الذي انتقص منه.

التقصير في العبادة رضا بالدون ودناءة في الهمة

التقصير في العبادة رضا بالدون ودناءة في الهمة كذلك فإن التقصير في العبادة مقتضٍ من الإنسان ألا تكون همته عالية وأن يرضى بأقل المنازل، فمن كانت همته عالية أراد أن يزداد كل يوم بل كل ساعة قرباً إلى الله، وأن يكون من المنافسين في الدرجات العلى من الجنة، وأن يكون من الذين تتجافى جنوبهم عن مضاجعهم عند النوم يتذكرون السباق، وأن الله سبحانه وتعالى قد فتح المسابقة الآن لعباده، فمن لم يخذله الله كان من المتسابقين إليه بالطاعات في هذا الوقت الذي فتحت فيه أبواب العبادة، وأذن فيه الملك الديان للمناجين بالمناجاة له، ولم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية، ولا رفع شعاباً، فهم يتسابقون في التقرب إليه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]. والذي يقصر في العبادة في الرخاء، إذا جاء وقت الشدة لم يكن من الذين تستجاب دعواتهم في ذلك الوقت؛ لأنه لم يتعرف إلى الله في الرخاء، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة). والذين يقصرون في العبادة لا يكونون أئمة ولا سادة للمؤمنين، والله سبحانه وتعالى أرشدنا إلى الدعاء بهذا الدعاء {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].

التقصير في العبادة غلظ في الطبع وجفاء

التقصير في العبادة غلظ في الطبع وجفاء والذين يقصرون في العبادة لا يمكن أن يتذوقوا طعم الخدمة الخاصة للجبار سبحانه وتعالى، ولا أن يستشعروا نعمة الانتساب إليه سبحانه وتعالى، فلذلك لابد أن يوجد فيهم من الجفاء وغلظ الطبع وسوء المعاملة وسوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى ومع رسوله ومع شرعه الشيء الكثير، فهم لا يحترمون القرآن ولا يقدرون السنة، ولا يحترمون شعائر الله ولا يعظمونها: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. ولذلك لا يحبون الناس الحب في الله، فإذا رأوا من يعبد الله سبحانه وتعالى ويحبه ويدعو إليه لا يحبونه، ولا يجدون في أنفسهم حباً له؛ لأن الجانب العاطفي في التعامل مع الله لديهم قد انخرم، وبذلك لا يعرفون الحب في الله، فالحب في الله إنما يكون من الاستقامة على المنهج ولزوم عبادته، فإذا عرفت أنك مقصر في أداء حق الله الذي يستحقه من العبادة أحببت جبريل وميكائل؛ لأنهما يعبدان الله العبادة التي يستحق، وأحببت كل عابد لله؛ لأنه يؤدي الحق الذي تحب أنت أن تؤديه وأنت عاجز عنه. وكذلك فإن الذين يقصرون في العبادة يصابون بأمراض أخرى، من أعظمها الجسارة على المعصية، فإن العابد لله سبحانه وتعالى تنهاه عبادته عن المعصية، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، والذي لا يجد هذا السور بينه وبين المعصية كان مع المعصية في لحاف واحد، يجد نفسه معها في كل أحيانه، بينما من كان في العبادة بينه وبين المعصية سور عظيم، ومن هنا فجوارحه لا تنقاد إلى المعصية وتستمر فيها حتى لو استزله الشيطان إليها، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].

التقصير في السنن خلل يتعدى إلى الفرض

التقصير في السنن خلل يتعدى إلى الفرض إذا قصر الإنسان في رواتب الصلاة فلابد أن تقع في الصلاة خدوش، وما يشكوه الناس من جمود الدموع، فإذا قرئ القرآن لا يبكون، مع أنه لو قرئ على الجبال لتفجر منها الماء، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]؛ سببه التقصير في العبادة. وما يشكوه الناس من عدم الخشوع في الصلاة سببه التقصير في النوافل، وأنتم تعرفون أن كثيراً من الناس يطمئنون في الفريضة ما لا يطمئنون في النافلة، وإذا أراد أحدهم أن يصلي النافلة نقرها نقراً ولم يبال بها، حتى في الاستقبال وفي الالتفات وفي عدم تسوية الظهر في الركوع وغير ذلك، وإذا أراد أن يؤدي الفريضة حاول إتقانها، لكن لا يمكن أن يتقن الفريضة ما دامت نافلته هكذا. فالنفل هو سياج الفرض، وكل خدش فيه سيصل إلى الفرض، ولذلك مثل العلماء للنافلة -وبالأخص الرواتب للصلوات- بأنها كلحاء العود، وإذا انتزع اللحاء يبس العود -اللحاء: القشر- والذين يقصرون في عبادة الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكونوا من أوليائه؛ لأن أولياءه هم الذين يأنسون به سبحانه وتعالى، فلا يحزنون عندما يحزن الناس، وإذا جاءت المصائب عرفوا أنها من عند الله، وأنها كانت مكتوبة قبل أن تكون، فرضوا بما قدره الله، وإذا جاء الرخاء والسراء لم يغتروا بذلك؛ لعلمهم أن ذلك كان مكتوباً وله أجل مسمى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22 - 23].

وجوب لزوم المنهج الوسطي في العبادة وهو المنهج النبوي

وجوب لزوم المنهج الوسطي في العبادة وهو المنهج النبوي فلابد من لزوم المنهج الوسطي الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط في جانب التعبد. وليعلم الإنسان أن خير العبادة عبادة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تلك العبادة متنوعة بتنوع الحال، وأنها مترتبة على الأوقات والأزمنة، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله في الصباح حاول أن تقوله في الصباح، وما كان يقوله في المساء حاول أن تقوله في المساء، وما كان يفعله إذا أوى إلى فراشه فحاول أن تفعله، وما كان يفعله في قيام الليل فحاول أن تفعله، وما كان يفعله من الرواتب، وما كان يفعله في الحضر والسفر من العبادات فحاول أن تؤديه، وبذلك تكون قد لزمت سواء الطريق، ولا تجد ما يتعب بدنك ولا ما يتعب عقلك ولا ما يتعب روحك، ولا تكون مقصراً، بل تكون من المزادين في القرب، الذين يسيرون سيراً وئيداً يؤدي إلى المقصود دون استعجال، وبكل تأنٍ وتؤدة. وهذا ما يحبه الله ورسوله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد قيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة). فإذا كان الإنسان متأنياً في عبادته يؤديها بصدق وإخلاص وبحضور بال، ويكلف منها ما يستطيع وما يطيق، ولم يكن من الذين يريدون خرق المسافات وقطع الطريق في أسرع الأوقات، الذين لا يبقون ظهراً ولا يقطعون مسافة؛ فإنه بذلك سيصل إن شاء الله تعالى إلى المقام المرضي عند الله، ولا يزال في زيادة وترق طيلة حياته، فإذا عجز عن شيء كتب له كاملاً كما كان يفعله في صحته، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى لملائكته إذا مرض العبد أو سافر: انظروا ما كان يفعله عبدي في صحته وحضره فاكتبوه له). فالله سبحانه وتعالى لا يمل حتى تملوا، وهو غني عنا وعن عبادتنا، ولا يمكن أن نتقرب إليه بما لم يشرع لنا، فالذي يمكن أن تضره ويمكن أن تنفعه يمكن أن تتقرب إليه بنفع لم يأمرك به، ويمكن أن ترفع عنه ضرراً لم يأمرك برفعه، لكن الذي لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، لا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ولا يمكن أن تتجاوز ذلك بحال من الأحوال.

وجوب التوسط في جمع المال

وجوب التوسط في جمع المال كذلك في جانب المعاملة، لابد أن نعلم أن أكثر ما يفرق القلوب في المعاملات هو ما يتعلق بالمال، فجمع المال لابد فيه من التوسط بلا إفراط ولا تفريط، فالذين يفرطون في جمعه وينفقون أوقاتهم لجمعه سيفقدون أوقاتاً ثمينة وفرصاً نادرة للعبادات، الذي يظل طيلة يومه مشتغلاً بالصفق في الأسواق، ستفوته أوقات الإجابة، سيفوته وقت النزول، سينام عن الأوقات التي يحصل فيها السباق بين العابدين المتسابقين إلى الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، سيفوته الصف الأول في كثير من الأحيان، سيفوته الرباط: (سبق المفردون)، سيفوته كثير من الخيرات.

البلايا التي يصاب بها المفرطون في أمر الدنيا

البلايا التي يصاب بها المفرطون في أمر الدنيا والذين يفرطون في جانب جمع المال يصابون ببلايا، من أعظمها: العبودية للمخلوق، فإن الإنسان مفطور على الحاجة والفقر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. ومن هنا فإذا كان الإنسان عازفاً عن مزاولة الدنيا بالكلية، لا يعمل أي عمل يدر عليه نفقته فهو عبد لغيره، فالذي ينفق عليه له عليه كل الضغوط؛ لأنه يخافه ويحبه ويمكن أن يطيعه في كثير من المواقف، ولذلك لابد في تحقيق العبودية لله من الاستغناء عن المخلوقين، وأن يجد الإنسان نفسه وليس عليه لأحد أي ضغط، فلا خوف ولا طمع يصده عن قول الحق وعن العبودية لله سبحانه وتعالى، وبذلك يستطيع الإنسان التحرر من الأغيار، وما لم يفعل الإنسان ذلك فهو تبع لغيره، ومن عيال الغير، محتاج إلى من يقوم على شئونه في كل أوقاته. كذلك مما يبتلى به المفرط في أمور الدنيا: أنه كثيراً ما تتعلق نفسه بها وقلبه بها فيبتلى بمحبتها من حيث لا يشعر، وإن كان يتصنع في الظاهر ويبدي للناس أنه لا يحبها، لكن قلبه مائل إليها، ومن هنا نشاهد اليوم أهل الكنيسة وهم يتظاهرون بالانقطاع عن الدنيا وهم أشد الناس ولوغاً فيها، بل لا تكاد تنصرم مدة يسيرة إلا وفضائحهم تعلن في الإعلام! وقد كانوا في الصدر الأول قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمعون الأموال ويكنزونها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم قصصاً من ذلك، والمنقطعون فيما يبدو للناس كثيراً ما يأتيهم الشيطان من قبل الشبهات ومن قبل الشهوات، وكثيراً ما يصابون بضعف في العقل يقتضي من الشيطان أن يستضعفهم فيوسوس لهم الوساوس، فيتخيل أحدهم المرائي في يقظته، فيرى أنه رأى كذا يقظة لا مناماً، وهي أحلام ورؤى، وهي أضعف من مرائي النوم. مرائي اليقظة التي تحصل للإنسان إذا جاع أو مرض أو أجهد نفسه بالرياضات، يرى في اليقظة مثلما يرى في المنام، كالذي يصاب بحمى الملاريا، فإنه في حال يقظته يهذي كأنه يحلم وهو يقظان غير نائم، فكذلك الذي أجهد نفسه في العبادات ولم يسلك الطريق السوي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يصاب بهذا الهذيان، فيرى أحلاماً في اليقظة فيخيل إليه أنها صدق، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل أو اللوح المحفوظ أو غير ذلك من الأمور، وكلها من أحلام اليقظة، وذلك أنه عندما ضعف ضعفاً شديداً خيل له الشيطان ذلك. وقد يكون بعضها من المرائي لكنها أضعف درجة من رؤيا النوم، فرؤيا النوم أقوى منها؛ لأنه في جسمه وعقله أقوى منه عند استضعافه في حال اليقظة. كذلك فإن الذي يبالغ في الانقطاع عن الدنيا كثيراً ما يصاب بالتفريط في حقوق الآخرين، فهو مفرط في حقوق بدنه من الرعاية الصحية والنظافة، ومفرط في رعاية أهله، ومفرط في أداء ديونه وقضاء حقوقه، كل هذه الأمور يفرط فيها والشيطان يغره بأن الذي عليه هو الصواب، وهو كلما ازداد به العمر ازداد بعداً عن المحجة والصراط المستقيم.

التقصير في جمع الدنيا ليس منهجا نبويا ولا فعله السلف

التقصير في جمع الدنيا ليس منهجاً نبوياً ولا فعله السلف وفي المقابل لابد من أن نعرف أن التقصير في جمعها هو قصور من الإنسان، فالذي ينصرف عنها بالكلية، ولا يريد أن يدبر شيئاً من أمور الدنيا، ولا أن يكتسب شيئاً: خارج عن المنهج الصحيح، ولم يسلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب وأعملها ولم يتركها، ولو كان الزهد المحمود شرعاً مقتضياً لترك الأسباب والانقطاع للعبادة والرهبانية، لعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما لم يعملوه، ووجدنا منهم التجار، ووجدنا منهم الأغنياء المنفقين في سبيل الله، ووجدنا أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على الآلاف من الأرامل واليتامى، ووجدنا أنه ادخر قوت سنة لأهل بيته، ووجدنا أنه صلى الله عليه وسلم أفاء الله عليه أرض بني النضير، فادخر بعضها لعياله، ووجدنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يغرس النخل بيده بأبي هو وأمي، وكان يحلب الماء بيده صلى الله عليه وسلم، وساعد في غراس نخل سلمان الذي كاتبه عليه أولياؤه، ورأيناه يذهب إلى الأسواق ويشتري ويمشي فيها، وهذا ما استنكره عليه المشركون، وأقره الله عليه في كتابه، ورأينا أصحابه وهم أفضل أهل الأرض بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، منهم التجار كـ أبي بكر رضي الله عنه الذي كان يعول كثيراً من الأسر وينفق عليهم من ربح تجارته، وكان رأس ماله أربعمائة درهم، فكان يبيع فيها في البز -أي: الملابس والزيت- فما ربح أنفقه على الذين ينفق عليهم. ووجدنا كذلك عبد الرحمن بن عوف وكان تاجر الله في هذه الأرض، بارك الله له في صفقاته، فهو ينفق على كثير من اليتامى والمساكين، وقد أوصى بثلث ماله لبقية أهل بدر فكان غناهم جميعاً. ووجدنا منهم الزبير بن العوام الذي كانت استثماراته في الأراضي الشاسعة والمزارع الكبيرة، وقد ترك مالاً كثيراً كان ثمنه الذي قسم بين زوجاته غنىً لهن! ومنهم أبو طلحة الأنصاري الذي كان له من المزارع الشيء الكثير، وكان يملك بيرحاء وهي أحسن مزرعة في المدينة، وكان يصلي تحت كل نخلة ركعتين. ووجدنا منهم سعد بن عبادة بن دليم وكان من كبار التجار والأغنياء الذين إذا رجعوا من صلاة الضحى ذهبوا إلى مزارعهم، وإذا ارتفع النهار ذهبوا إلى تجاراتهم، فإذا حان وقت الزوال اشتغلوا بالصلاة، فإذا رجعوا منها قاموا بحق أهليهم، وهم يوزعون أوقاتهم هذا التوزيع، ولا يفوتهم شيء من الخير. إذا عرفنا ذلك عرفنا أن المنهج المعتدل يقتضي عدم الإفراط وعدم التفريط. فالذي يظن أن الزهد في الدنيا يقتضي منه ألا يشتغل بجمع الدنيا كاذب مخالف للمنهج الصحيح، وإنما سلك طريق اليهود والنصارى الذين ابتدعوا رهبانية من عند أنفسهم. والذي يظن أن الله لا يرتضي لعباده جمع الدنيا من حلها كاذب، فإن الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعاً وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، وجعلنا خلفاء في الأرض فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، وأمرنا بإصلاحها وعدم إفسادها بعد إصلاحها، فكل هذا يقتضي منا أن نعمل وأن نصلح في هذه الأرض، لكن مع ذلك لابد أن نعلم أن الإصلاح فيها، وأن جمعها لا يقتضي أن تكون في القلوب، بل تكون في الأيدي على وفق المنهج السابق.

البلايا التي يصاب بها المبالغون في جمع الدنيا

البلايا التي يصاب بها المبالغون في جمع الدنيا والذي يبالغ في جمع المال وجمع حطام هذه الدنيا والاشتغال بها يصاب بعدد من البلايا: أولاً: أن تكبر هذه الدنيا في نفسه فتكون أكبر مبتغاه، وتكون غاية علمه، فيمتلئ بها قلبه ولو كانت يده صفراً منها، فالمشغولون في الدنيا ليسوا بالضرورة أغنياء، فكثير من الأغنياء الدنيا في أيديهم وليست في قلوبهم، وكثير من الفقراء الدنيا ليست في أيديهم ولكنها في قلوبهم! ولذلك فالمحذور شرعاً هو: تعلق القلب بها وأن يجعلها الإنسان أكبر همه ومبلغ علمه، وأن يكون عابداً لها، فخدمته وسعيه من أجلها، وهذا هو الخطر الماحق، وقد تضر بصاحبها ضرراً عظيماً فتؤدي به إلى حد التجاوز والطغيان، وقد قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27]. فالبغي والطغيان وتجاوز الحد إنما يحصل بالمبالغة في جمع الدنيا.

وجوب التوسط في الإنفاق

وجوب التوسط في الإنفاق جانب آخر من هذه الجوانب يتعلق بالمال، فهذا الدين دين وسط بين الإفراط والتفريط، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، فالذين يسرفون هم المفرطون الذين يبالغون في إنفاق المال فيضعونه في غير محله الشرعي وكأنه ملك لهم يتصرفون فيه حيث شاءوا وكيف شاءوا، والواقع أنه أمانة عندهم من الله سبحانه وتعالى استخلفهم فيها لينظر كيف يعملون. ولهذا أدب الله رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا المنهج القويم، فقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]، فلابد أن يكون الإنسان متوسطاً في الصرف، وألا يكون مسرفاً وألا يكون مقصراً، فالحد الوسط هو المنهج الصحيح وهو الاعتدال في هذا الباب، الذين يفرطون في جانب الإنفاق يسرفون فيبالغون في الإنفاق، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو في أمور الآخرة، فيتجاوزون الحد المرضي شرعاً، ففي أمور الآخرة ينفقون أكثر مما حدده الشارع ويريدون بذلك المبالغة فيرجعون إلى الحد الذي ذكرناه في الإفراط في العبادة. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أنفق جذاذ نخله جميعاً في يوم واحد، غضب عليه غضباً شديداً، وعندما سمع أن رجلاً من الأنصار -وكان عليه دين- قد دبر ستة أعبُد، فعندما توفي جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد هذا التصرف وأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وجعل له الثلث فقط. وقد كان كثيراً ما يرد التصرفات في هذا الجانب إذا كان فيها غلو ومبالغة، فقد قال لـ كعب بن مالك عندما بشره بأن الله قد تاب عليه: (يا كعب بن مالك! أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، فقلت: يا رسول الله! أمن عند الله أم من عندك؟ فقال: بل من عند الله، فقلت: يا رسول الله! إن من تمام توبتي أن أخرج من مالي كله في سبيل الله، فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك). وكذلك عندما جاء يعود سعد بن أبي وقاص في حجة الوداع وهو مريض قال: (قلت له: يا رسول الله! إني ذو مال ولا يرثني إلا بنية لي، أفأتصدق بمالي كله في سبيل الله؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثيه؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بثلثه؟ قال: فالثلث والثلث كثير -وفي رواية: كبير- إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، فقلت: يا رسول الله! أأخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليه حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك، وعسى الله أن ينفع بك أقواماً ويضر بك آخرين)، فكان سعد آخر العشرة موتاً، وورثه اثنا عشر ولداً من أولاده لصلبه. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من أولئك المبالغة في الإنفاق، وفي المقابل قد يقبل من بعض الناس ذلك؛ لعلمه بقوة إيمانه واستقامته على المنهج كـ أبي بكر، فقد خرج من ماله كله في سبيل الله وقبل ذلك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما جعل الله في قلبه من الإيمان والقناعة؛ ولأنه مكتسب عارف بأمور التجارات أيضاً؛ ولأنه -قطعاً- سيؤدي حقوق عياله ولا يمكن أن يظلمهم حقاً لهم، فلذلك قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، أما من سواه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم ولا يقبل منهم هذا النوع من المبالغات. وكذلك فإن الذي يبالغ في السرف فيما يتعلق بأمور الدنيا لابد أن يكون من المبذرين وهم إخوان الشياطين، وهذا النسب من شر الأنساب، نسأل الله السلامة والعافية. وقد بين الله سبحانه وتعالى ضرر التبذير وأثره العظيم، وبين أنه سبحانه وتعالى لا يحب المسرفين، ولذلك قال العلامة محمد مولود بن أحمد رحمه الله: والسرف السرف إن السرفا عنه نهى الله تعالى وكفى ولا يحب المسرفين كافي في كف كفك عن الإسراف فيكفي في كف كفك عن الإسراف أن الله لا يحب المسرفين، فالسرف في أمور الدنيا يقتضي من الإنسان أن تكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه وأن يحبها حباً شديداً فهو يتتبع موضاتها ويشتغل بها غاية الاشتغال، فكلما ازداد حطبها ازداد لهبها، ويزداد الإنسان ولوعاً بها ويتعلق قلبه بها حتى يؤثرها على الآخرة نسأل الله السلامة والعافية، وقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وقال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19]. كذلك في المقابل التقصير في مجال الإنفاق مقتضٍ للبخل، وأن لا يؤدي الإنسان الحقوق التي عليه، فالذي يمنع رفده ويأكل وحده ويضرب عبده شر الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من منع رفده وأكل وحده وضرب عبده). قوله: (من منع رفده) معناه: منع الماعون ولم يعط خيره للآخرين، فلم ينفعهم مما آتاه الله، فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن ننفق مما آتانا فقال: {امِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وهذا يشمل الإنفاق على النفس، والأهل، والجيران، والإنفاق في أمور الدنيا، والإنفاق في أمور الدين، وتركه من التقصير والتقتير وهما مذمومان شرعاً. فالمقترون مقصرون عن أداء الحقوق وهم متصفون بصفة البخل التي هي شر الصفات، والذي يتصف بها ويصاب بالشح لابد أن يبتلى بنقص الإيمان وتراجعه دائماً، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، فالشحيح لا يفلح أبداً، فلذلك لابد من التوسط في هذا المنهج بين المبالغة بالإنفاق وبين التقتير والتقصير.

الوسطية في الخلق

الوسطية في الخلق كذلك في جانب الخلق: من الأمور المهمة أن يعرف الإنسان أن المنهج المستقيم هو هذا الدين الوسطي الذي يقتضي من الإنسان تحسين الخلق للناس بألا يكون إمعة تابعاً، كل أموره يقضيها غيره، وألا يكون مستكبراً جواظاً لا يطيع في صغيرة ولا كبيرة، فالحد الوسط يقتضي من الإنسان أن يكون إيجابياً غير سلبي، كما قال الشاعر: لعمرك ما إن أبو مالك بواهٍ ولا بضعيف قواه ولا بألد له نازع يعادي أخاه إذا ما نهاه إذا سُدته سُدت مطواعة ومهما وكلت إليه كفاه وكما قال الآخر: إذا القوم أموا بيته فهو عامد لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً فكل الذي حملته فهو حامله فتىً قُدَّ قَدَّ السيف لا متضائل ولا رهل لباته وبآدله فهذا يقتضي من الإنسان تمام الشخصية، وألا يكون إمعة مقلداً في كل الأمر بحيث يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وبألا يكون أيضاً جافياً يتقيه الناس مخافة شره، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شر الناس من تركه الناس اتقاء شره). فلذلك لابد أن يحرص الإنسان على الاستقامة في الخلق، فلا يكون من الذين ينقادون لكل أحد فيقبلون البدع ويقبلون المنكر ويسكتون بمشاهدة المنكرات، ويظنون أن ذلك من الخلق والحياء، فهذا غلط، بل هو من الإفراط في الحياء حتى يتجاوز الإنسان الحد، وأنت ولو كنت صغيراً ضعيفاً فأنت مكلف من عند الله وجندي من جنود الله، ومن هنا فلابد أن تحرس الثغر التي تتولاه وألا يؤتي الإسلام من قبلك. فلهذا لابد أن تكون يقظاً وأن تكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر كبيراً كنت أو صغيراً غنياً كنت أو فقيراً عالماً أو جاهلاً، لابد أن تقوم بالحق الذي عليك لله، وأن ترعى الدين فيما يليك وألا يدخل من هذا الثغر الذي أنت قائم عليه، فأنت حارس في الخدمة، ولا يغرك شيطان بدعوى الحياء، فإن الحياء الذي يمنع من تغيير المنكر أو الأمر بالمعروف أو السؤال عن أمر من الدين هو الحياء الذميم المقيت شرعاً، كما قال العلامة محمد مولود رحمه الله: أما الحيا الذميم فالمانع من تغيير منكر أو السؤال عن أمر من الدين ونحو ذلك وهو الذي عد من المهالك ولذلك فإن أم سليم رضي الله عنها عندما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة إذا احتلمت فرأت ما يراه الرجل هل عليها من غسل؟ قالت: إن الله لا يستحي من الحق. وافتتحت كلامها بذلك. فلابد أن يعلم الإنسان أن الاستحياء من الحق ذميم وليس من الخلق الطيب الحميد، وأن يعلم أن محاباة الناس والسير معهم في ما هم فيه، وحضور مجالسهم ولو كان فيها ما لا يرضي الله، والإغضاء عن ذلك ليس هو من الخلق الحميد، بل الخلق الحميد يقتضي من الإنسان أن يصبر على أذى الناس فيما يتعلق بشخصه هو، لكن لابد أن يغضب لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله، فقد قالت عائشة رضي الله عنه: (ما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، وما غضب لنفسه، إنما كان يغضب لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله)، فهذا الذي يغضب فيه المؤمن: يغضب إذا انتهكت حرمات الله، أما حقوقه هو فيتغاضى عنها ويسامح فيها، لكن حقوق الله لا يقبل فيها ذلك. ومن هنا فالمبالغة في تحسين الخلق ولينه حتى لا يستطيع الإنسان أمراً بمعروف، ولا نهياً عن منكر، ولا قولاً للحق، ولا وقوفاً بموقف صواب، ويقتضي الخجل من قول الحق، ومن إنكار المنكر، كل هذا من الإفراط المذموم الذي لا خير فيه. وفي المقابل أيضاً التفريط في الخلق بأن يكون الإنسان جافياً فظاً غليظاً في كل الأمر، حتى في أمر الله إذا أمر بمعروف أتى بفظاظة وغلظة، وإذا نهى عن منكر أتى بفظاظة وغلظة، وكأنه ملك قائم على رقاب العباد، فهذا النوع ليس مرضياً عند الله أيضاً، بل هو من التفريط في الخلق. فلابد أن يكون الإنسان متأدباً بالخلق الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]. إن التفريط في الخلق يقتضي من الإنسان أن يسوء أدبه مع والديه وهما أمن الناس عليه، وأن يسوء أدبه مع جيرانه المسلمين ولهم حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وأن يسوء أدبه مع كبار السن من المسلمين، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم توقيرهم فقال: (لن تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها). ويقتضي سوء الأدب مع الملائكة الذين يشهدون على انتهاره للصغير واعتدائه على الحقوق، ويقتضي سوء الأدب مع الملك الديان سبحانه وتعالى، فلابد أن يتذكر الإنسان قدرة الله عليه، فهذا أبو مسعود البدري رضي الله عنه قال: (كنت أجلد غلاماً لي بالطريق فإذا صوت من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود! فنظرت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، قال: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار). فلذلك كان التفريط في الخلق يقتضي من الإنسان أن يكون كالبهائم التي لا خير فيها، نسأل الله السلامة والعافية. فلابد أن يحسن الإنسان خلقه وأن يهذب نفسه وأن يزكيها وأن يكون ذلك بالمنهج الصحيح وعلى وفق الخلق النبوي.

شر الجمع بين الإفراط والتفريط في جانب الخلق

شر الجمع بين الإفراط والتفريط في جانب الخلق إن كثيراً من الناس اليوم في جانب الخلق يجمعون بين الإفراط والتفريط، ففي جانب لا يستطيعون إنكار المنكر ولا تغييره ويزعمون أن ذلك للحياء، وفي جانب التفريط لا يجالسون بعض الكبار كأصهارهم مثلاً ولا يؤاكلونهم، ويظنون أن ذلك من الحياء والخلق، وهذا إفراط والأول تفريط. فكلا الأمرين مقيت شرعاً، فلو كان هذا من توقير الكبار؛ لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاكل أبا بكر وعمر وعلياً وعثمان وهم جميعاً أصهاره، وكان يجالسهم في بيوتهم، (وأتى علياً وفاطمة وهما في فراشهما فقال: على مكانكما، حين أرادا القيام إليه، فجلس بينهما فجعل ظهره في بطن فاطمة ورجليه في بطن علي، قال علي: فأحسست برد رجليه في ظهري!). فهذا من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلقه، ولا يمكن أن يرغب مؤمن عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يظن أن خلقاً أحسن من خلقه بحال من الأحوال، فالله تعالى يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فلا يمكن أن نأتي نحن بخلق من عند أنفسنا ويكون أعظم من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أو أحسن منه، هذا من المستحيل. فلذلك الذي يفعل مثل هذا النوع جمع بين الخصلتين، جمع بين الإفراط والتفريط، وهذا منتشر كثيراً، وقد علمت أن بعض البيئات عندنا هنا -مع الأسف- تجد الرجل فيها لا يصلي مع صهره في مسجد واحد، ولا يستطيع أن يليه في الصف، وهذا من الإفراط في الخلق والمبالغة فيه وهو غير مشروع، وليس له وجه من الناحية الشرعية أبداً، ولا يعوده إذا مرض ويقاطعه مقاطعة كاملة والله تعالى يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]. أين المودة والرحمة إذا كان الإنسان مقاطعاً لأهل زوجته: لا يشرب عندهم، ولا يأكل، ولا يعود لهم مريضاً، ولا يسلم عليهم، ويقاطعهم بالكلية؟! فإذاً هذا ليس من الخلق المحمود شرعاً، بل هو من الإفراط المقيت في الخلق. إن علينا أن نعلم أن هذا الدين الذي ارتضاه الله لنا يدخل في كل شئون حياتنا، وأن المنهج المستقيم فيه مانع للتطرف، والتطرف يشمل الأمرين: يشمل الإفراط والتفريط، فكلاهما طرف، والتطرف مشتق من الطرف: (فكلا طرفي قصد الأمور ذميم). واليوم يشتهر على ألسنة الإعلام إطلاق التطرف على جانب الإفراط فقط؛ وذلك أن الذين يطلقونه في الإعلام كلهم من المفرطين، فلذلك هم جميعاً متطرفون لكنهم يريدون نقل التطرف إلى الجانب الآخر فقط. والواقع أن طرفي المنهج كلاهما تطرف، إن الذي يعرف هذا المنهج المرضي عند الله سبحانه وتعالى ويعلم أنه ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يرغب بنفسه عنها، فالله تعالى يقول: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].

وجوب التوسط في معاملة النساء

وجوب التوسط في معاملة النساء فلذلك لابد أن ننزل هذا المنهج إلى أعمالنا كلها، وأن نعرض عليه صغريات أمورنا وحياتنا وواقعنا، فمن هذه الأمور التي ينبغي أن تعرض على هذا المنهج الوسطي المستقيم ما يتعلق بمعاملة النساء وخلطتهن. فهذا الجانب المنهج المستقيم فيه: أن المرأة أخت الرجل وأن بينهما من التعاون على البر والتقوى ما شرع لهما، وأن كل واحد منهما مكلف، حرم الله عليه أشياء وأوجب عليه أشياء، وحد له حدوداً لا يمكن تعديها، وأن كل واحد منهما مسئول عن رعاية هذا الدين ونصرته. وأن الإفراط بتجاوز هذا المنهج مقيت، وأن التفريط في التقصير دونه مقيت شرعاً، والناس في هذا الباب في خلطة النساء يجمعون بين الأمرين: بين الإفراط والتفريط. ففي مجال الإفراط نجد بعض الناس يزدري النساء ولا يحترمهن كبشر ولا يقدرهن هذا التقدير، ولا يشاور ولا يستفتي في أمور الدين النساء ولو كن أعلم وأعقل منه، مع أن الله أمرهن بتعليم الناس فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، وإذا أفتته امرأة فتوى لم يثق بها، فهذا إنما هو إفراط لا خير فيه وتفريط في حق المرأة نفسها. ومثل ذلك في المقابل: التفريط في حقوقهن، أقصد الإفراط بتجاوز الحد فيما يتعلق بالتعامل معهن؛ كالاختلاط المحرم والخلوة المحرمة وكلام الريبة والخضوع بالقول، وكل ذلك مما حرمه الله ومن الحدود الخارجة عن المنهج السوي المستقيم. ونجد بعض الناس في التعامل مع النساء يفرط ويبالغ، فلا يظن أنه عليه أن يرد السلام على المرأة إذا سلمت عليه، ويظن أن النساء أيضاً لا يسلمن على الرجال ولا يشمتن عاطساً، فيتكلم مع المرأة في أمور الدنيا لكن إذا عطس لا تشمته ولا يشمتها، وإذا سلم لا ترد عليه ولا يرد عليها! فترك الأمر الواجب المأمور به شرعاً، الذي هو من الحقوق الشرعية، ومن حقوق الإخوة الإسلامية، وهو يخوض في الحديث وأطرافه، بل ربما كان الحديث الذي يخوضان بما لا يحل الخوض فيه أصلاً كالخضوع بالقول وأحاديث الريبة، يتكلمان في الريبة ولا يرد أحدهما السلام على الآخر ولا يشمته إذا عطس، ولاشك أن هذا جمع بين الإفراط والتفريط. ونجد بعض الناس لا يدخل على النساء في بيت إذا أراد تدريسهن فيجعل بينه وبينهن حائلاً مثلاً، أو يأمرهن بمغادرة المسجد، أو بما يمنعهن من الذهاب إلى الدروس، أو يمنعهن من الذهاب إلى المحاضرات، وكل هذا مخالف للمنهج النبوي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وكان يدرس النساء وكن يجلسن إليه، وقد قلن له: يا رسول الله! إن إخواننا من الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فجعل لهن يوم الخميس. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل بينه وبين النساء حاجزاً، بل كن يصلين معه في المسجد فكان يقول: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولوها)، وكان يأمر الرجال ألا ينصرفوا حتى ينصرف النساء، وكان يأمر النساء ألا يرفعن أبصارهن حتى يجلس الرجال من السجود لئلا ينكشف عليهن شيء من عورات الرجال. وكن يشهدن معه الفجر متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وكن يشهدن معه صلاة العيد والاستسقاء والجمع، وفي حديث أم عطية: (كنا نؤمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليهن، ويرد عليهن السلام، ويعودهن إذا مرضن، وكان أصحابه يفعلون ذلك، وفي صحيح البخاري: أن أبا بكر قال لـ عمر بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال بنا نزور أم أيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما دخلا عليها بكت، فقالا لها: أما علمت أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، فقالت: أما إني لا أبكي لأني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء فبكيا، ثم قاما. وكان عمر رضي الله عنه يزور العجائز من الأنصار ويخدمهن، فكان يحتلب الشاة لعجوز من الأنصار، وخرج ذات ليلة يعس، فسمع عجوزاً من الأنصار تضرب وبراً وهي تقول: على محمد صلاة الأبرار صلى عليك الطيبون الأخيار قد كنت قواماً بكى بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار هل تجمعني وحبيبي الدار فجلس عمر على بابها يبكي حتى طلع الفجر. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في زقاق من أزقة المدينة فمر على باب عجوز من الأنصار فإذا هي تقرأ القرآن، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع إلى قراءتها فقرأت قول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم أتاني، نعم أتاني)، وجلس يبكي. فلذلك لابد أن نعلم أن المنهج المستقيم في خلطة النساء يقتضي هذا، فلا إفراط فيه ولا تفريط. ولا نتمكن من أن نتتبع جزئيات هذا الموضوع، لكن تكفي اللبيب الإشارة، وقد علم أن المنهج المستقيم منهج وسطي في كل الأمور صغائرها وجلائلها، وأن الإفراط في كل أمر مقيت شرعاً وأن التفريط مذموم، وأن كل فضيلة بين رذيلتين، وقد عرف ذلك بالأمثلة التي ذكرناها. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الإيمان أساس تماسك الأمة

الإيمان أساس تماسك الأمة إن ما نراه اليوم من نكبات ومصائب وذل واستضعاف لنا إنما هو من عند أنفسنا، وذلك أننا ضيعنا أسباب النصر والعز والتمكين، فابتلانا الله بضدها. فإذا أردنا أن يغير الله الحال فعلينا أن نغير ما بأنفسنا، وأن نأخذ بأسباب ذلك من تحقيق الإيمان، وتحقيق الأخوة الإيمانية، ونبذ الفرقة والخلاف؛ فإن في الجماعة قوة وعزة، وفي التفرق ضعفاً وهزيمة.

الأمر بالائتلاف والنهي عن التفرق والاختلاف

الأمر بالائتلاف والنهي عن التفرق والاختلاف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن سر اتحاد المسلمين والتئامهم وعدم فرقتهم هو إيمانهم الذي يدعوهم إلى ذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل المبدأ العقدي أساساً للعمل كله، وجعل الاتحاد والالتئام جارياً على هذا المبدأ، فقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، فالمبدأ الأول (أن أقيموا الدين) والمبدأ الثاني: (ولا تتفرقوا فيه). وقد حذر الله سبحانه وتعالى المؤمنين من الفرقة، وبين ضررها، وأمرهم بالاجتماع على طاعته، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:103 - 105]. وبين براءة النبي صلى الله عليه وسلم من المختلفين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]. وجعل الفرقة والخلاف مظهراً من مظاهر الشرك في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30 - 32]. وجعل الفرقة نوعاً من أنواع العذاب، فقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]. وحذر من الأضرار الوخيمة المترتبة عليه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46]. وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أخرجها البخاري في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).

الحقوق المترتبة على الأخوة

الحقوق المترتبة على الأخوة وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على هذا التآخي في الله من الحقوق فقال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله ولا يكذبه، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاثاً-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على السلم حرام دمه وماله وعرضه). وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بعض الحقوق التي يغفل عنها كثير من الناس فقال: (المسلم، أخو المسلم لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، ولا يكذبه) هذه الحقوق كلها منطلقة من هذا المبدأ العقدي، وهو قوامها وبه التئامها، ولا يمكن أن تتراجع هذه الحقوق إلا بنقص في المبدأ الذي هو الأصل. فإذا انتقص الإيمان حصلت القطيعة بين الناس، ولهذا قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، وأولى الأرحام بالصلة رحم الدين؛ لأنه الذي يقطع ما سواه وهو مستمر في الدنيا، مستمر يوم القيامة، فلا يقطعه في الدنيا الظلم والبغي؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10]. وهو مستمر كذلك يوم القيامة؛ لقول الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، فهذا الإخاء الديني مستمر يوم القيامة في جنات النعيم، لا يقطعه أي سبب من أسباب الدنيا، ولا ينقطع يوم القيامة عندما تنقطع الأنساب، ولذلك قال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، ومع هذا قال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85 - 86]. فالمؤمنون يحشرون وفدا، ومن المعلوم أن الوفد كلمته على لسان رجل واحد، وأنه يتعاون في سيره ويشترك في رواحله وزاده، ومهمته واحدة. أما الذين كفروا فإنهم يساقون إلى النار ورداً، نسأل الله السلامة والعافية. والورد ليس بينه أي تآلف ولا تآخ ولا تراحم ولا ترابط، بل هو يساق سوقاً كما تساق غرائب الإبل. إن هذا الإخاء له حقوق كثيرة يلزم الوفاء بها والحفاظ عليها، ومن أعظمها أن يتذكر المسلمون أنهم أمة واحدة، وذلك يقتضي منهم التناصر، وأن لا يخذل بعضهم بعضا، والتآخي مهما كانت الظروف. وقد أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوما، قلنا يا رسول الله! أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه أو تحجزه عن ظلمه، فإن ذلك نصره). إن هذه الأمة تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعة القلوب متآلفة فيما بينها، ولذلك حققت المعجزات وفتحت أصقاع البلاد، واستمرت على النهج النبوي زماناً طويلا، ثم بعد ذلك بدأ الخلال، لكن بقي قوامها وأصل ما يجمعها، فاستمرت على ذلك النهج المجتمع زماناً طويلاً مع ما حصل من الخلل في بعض الجوانب الأخرى، إلى أن وصلت إلى الزمان الذي نحن فيه، وهو زمان القطيعة المطلقة، حيث أصبح كل صقع من المسلمين يظن أهله أنهم أمة مستقلة، وأن لهم ذمة خاصة، وأنهم يمكن أن يراعوا مصالحهم مع أعدائهم ويعلنوا الحرب والسلم دون الرجوع إلى بقية الأمة! وهذا مناف لثوابت الشرع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والمسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)، وقال: (وذمة المسلمين واحدة)، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). إن الجسد ما دام متماسكاً لابد أن يحافظ على هذه الخاصية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أصيب أي إصبع من أصابعه بنكبة أو شوكة تألم لها القلب، وأحس بها الرأس والجوارح كلها. لكن عندما تتقطع الآراب والأوصال فذلك مؤذن بالزوال؛ لأنه مقتض لموت الجسد، فإذا قطع الرأس وقطعت الأعضاء كلها فذلك مؤذن بموت الجسد كله، فلا يقع الإحساس بما يأتي بعد ذلك.

بداية أدواء الأمة

بداية أدواء الأمة من هنا كانت أدواء الأمة في غايتها ومبدأها منطلقة من التقاطع والتناحر، فكلما اجتمعت هذه الأمة واتفقت على مبدأ من المبادئ وأزالت ما بينها من عمل الشيطان وعمل أوليائه وجنوده كلما استقام دينها، ولذلك فإن من أعظم وظائف هذه الأمة وأهمها الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ولا يمكن أن يتم الجهاد إلا باتفاق الكلمة؛ لأن الفرادى لا يمكن أن يقفوا في وجه الموج السائر الطاغي، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، فكما يقاتل المشركون كافة لابد أن نقاتلهم كافة، ولابد أن يهتم بذلك جميع أفراد الأمة. وهذا الجهاد وحده هو الذي ضمن الله لمن التزم به الهداية إلى نهجه القويم، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6]. إن الأمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعرف طريق الحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصوم، فما دام بين ظهرانيهم لن يضلوا {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:7]، لكن بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتاج الأمة إلى علم للهداية، وإلى إرشاد على طريق الحق، وإلى مناصب تعرف بها المحجة التي تركها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكل ذلك لا يتحقق إلا بالجهاد في سبيل الله، فإن حققت الأمة الجهاد في سبيل الله ضمن الله لها الهداية إلى طريقه المرضي عنده، وإن تركت الجهاد في سبيل الله وتخاذلت فيما بينها وتقاتلت سلط الله عليها أعداءها، وكان ذلك نقصاً في دينها وإيمانها بالله. ولذلك أخرج أبو داود في السنن وأحمد في المسند وغيرهما من حديث عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). وقد علم من منطوق الحديث أن الدين الذي يطلب الرجوع إليه حينئذ وبه ترفع الغمة عن الأمة هو الجهاد المتروك؛ لأنه قال: (وتركتم الجهاد). والدين اسم يطلق على كل ما يدان الله به، ويطلق على بعضه أيضاً، فلذلك قال: (وتركتم الجهاد)، ثم قال بعدها: (حتى ترجعوا إلى دينكم) أي: إلى ما تركتم من دينكم، وهو الجهاد في سبيل الله، فهو دين يتعبد الله به. إن وحدة هذه الأمة لا يمكن أن تقاس إلا عند حصول الأزمات والنكبات، وهذه الأزمات والنكبات قد تعهد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا تشمل الأمة كلها، فإنه صلى الله عليه وسلم (سأل الله لأمته ثلاثاً: سأل الله أن لا يأخذهم بالسنين فأجاب دعوته، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً يستأصل شأفتهم. فأجابه لذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يجبه لذلك). فلا يمكن أن يتسلط عدو واحد على الأمة كلها حتى يستحوذ على بيضتها ويزيل كيانها، فهذا مستحيل قد تعهد الله بمنعه، لكن يمتحن الله هذه الأمة بتسليط الأعداء على أطرافها، فهذه الأرض تنقص من أطرافها، فالله سبحانه وتعالى بين أن ذلك من أشراط الساعة، وبين أنه يأتي الأرض ينقصها من أطرافها، وذلك امتحان للأمة، فإذا تحرك فيها روح الإيمان ونوره عادت إلى منهجها الرباني القويم، وتمسكت بدينها وتماسكت فيما بينها، ونصرت المظلوم منها على ظالمه، ووقفت في وجه الطغيان من أي جهة كان مصدره، وحينئذ لابد أن يكتب الله لها النصر والتمكين. لكن من المؤسف أن هذا الحال المنشود المطلوب أحوج ما تكون إليه الأمة في مثل زماننا هذا عندما تكالب أعداء الله على هذه الأمة، فأتوا البلاد من أطرافها، واستضعفوا الشعوب وأذلوها، وكان ذلك بالكيد المدبر المبيت وكان أمراً قد أبرم بليل.

تمزق الأمة سبب ضعفها

تمزق الأمة سبب ضعفها فأول ما بدأت به هذه الأمة من النقص والاستضعاف أن جُعلت أمماً وكيانات متباينة، ثم بعد ذلك جعل لكل قطعة منها من يقودها على غير منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعطل طاقتها أن توجه في خدمة الأمة، فكم هي الجيوش الإسلامية؟! كم يملك المسلمون من أنواع السلاح والأموال؟! كم هي وسائل الضغط التي يملكها المسلمون؟! إن هذا من الأمور التي لا تحصى. ولو رجع إلى الناتج القومي في البلاد كلها لوجد أرفع مستوى للناس في النتاج القومي في بلاد المسلمين، ولو رجع إلى الثروات الطبيعية في الأرض لوجد أغلبها في بلاد المسلمين، فإذا نظرت إلى المعادن كالنفط والغاز والذهب والماس وغير ذلك من المعادن فغالبها وجمهورها في البلاد الإسلامية، وإذا رجعت إلى المياة الصالحة للشرب ستجد كثيراً منها في البلاد الإسلامية، وإذا رجعت إلى السهول الصالحة للزراعة ستجد جمهورها في البلاد الإسلامية، وإذا رجعت إلى الطاقات الحية والعوامل الشبابية التي تجيد مختلف التخصصات ستجد غالبها في البلاد الإسلامية، وإذا رجعت إلى الموقع الاستراتيجي في العالم تجارياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً ستجد الأمة الإسلامية في قلبه، ومع هذا هي آخر الأمم! وقد رضيت بالذل والهوان والتخلف، وما ذلك إلا بفعل ساستها وقادتها عندما تراجعوا عن مسئوليتهم ومهماتهم، وانشغلوا بالملاهي والطرب واللعب وضيعوا أمانة الله في أعناقهم، وعطلوا طاقات الأمة، وصرفوا الجيوش -التي كان من اللازم أن تصرف لنصرة دين الله- إلى تذليل شعوبهم وإهانة أبنائهم وإذلالهم، فحينئذ قبع هؤلاء على عروش الأمة، وأمسكوا بأزمتها، فتراجع أداء هذه الأمة وأصبحت في مؤخرة الأمم؛ لأن الأمم الأخرى تقاد بقيادات -على الأقل- تهتم بأمتها وتسعى للنبل فيها، وتجد مراقبة جادة فيها.

سوء أحوال قادة الأمة

سوء أحوال قادة الأمة أقول بكل مرارة وأسف: إن الذين يقودون البلاد الإسلامية أغلبهم لا يراعون إلا بعض مصالحهم الخاصة، ولو كانوا يراعون مصالح أنفسهم لأصلحوا ما بهم، ولأحسنوا علاقتهم بالله سبحانه وتعالى، ولأدوا الحق الذي عليهم. فالذين يظنون أنهم يرعون مصالحهم الخاصة كاذبون في تصورهم؛ إذ لو كانوا يرعون مصالحهم الخاصة لنأوا بأنفسهم عن نار الله وعذابه، لكنهم إنما يراعون بعض الأمور العاجلة في هذه الحياة الزائلة، ويظنون بذلك أنهم يراعون مصالحهم، وهذا غير الواقع تماماً. والجيوش المدججة التي تدربت وتربت وتعلمت، واشتريت لها أنواع الأسلحة من أموال هذه الشعوب المسكينة لا تبذل قوتها وطاقتها وسلاحها إلا في ظهور الشعوب المسكينة المتخلفة الذليلة. وحالها قريب من حال الذي يقول فيه الشاعر: أسد عليّ وفي الحروب نعامة ربداء تنفر من صفير الصافر هلا كررت على غزالة في الوغا أم كان قلبك بين جنبي طائر إن هذا الحال آن الأوان لزواله، فآن الأوان أن تراجع الأمة مسيرتها، وأن يهتم قادتها بتوحد المسلمين، وبإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، وأن يعلموا أنهم جميعاً أكلوا يوم أكل الثور الأبيض. وأن كل ما يحافظون عليه من المصالح الزائلة قد ذهب جميعاً بذهاب مصالح أي صقع من أصقاع هذه الأرض الإسلامية. ولذلك فإن الذين هم بمنأىً عن الحرب في فلسطين وفي أفغانستان وفي الشيشان وفي غيرها من الأماكن الملتهبة، وهم في أمن وأمان بحسب الظاهر، ويتصرفون في كثير من خيرات البلاد، ويملكون الأموال الطائلة قد رأوا أن أموالهم ومدخراتهم وكل ما كانوا يزمرونه من الأموال في بلاد الغرب قد أصبح نهبة لهذه الحروب، فما يقاتل به إخوانهم يحسب عليهم هم. فالحرب في أفغانستان تكلف يومياً ملياراً ونصفاً -على الأقل- من الدولارات، وهذا كله محسوب على من؟ على ممتلكات البلاد الإسلامية وعلى مدخراتها لدى أمريكا، وعلى استثماراتها في تلك البلاد. فإن الأمريكيين عقدوا من العهود مع عدد من البلدان الإسلامية ما يقتضي أن تشارك البلاد الإسلامية في تغطية نفقات الحروب التي تدخلها الولايات المتحدة الأمريكية. ففي بعض بلدان الخليج وقع العهد مكتوماً، ولكنه انتشر وعرف فيما بعد على أن الحفاظ على أمن الخليج وعلى أمن تلك الدول بذاتها يقتضي أن تشارك تلك البلدان في نفقات كل حرب تدخلها أمريكا بمبلغ كبير، ولذلك تسمع الآن تذمر اليابان من الحصة التي جعلت عليها من تمويل الحرب في أفغانستان، ولا تجد تذمراً في كثير من البلدان الخليجية التي أصبحت مدينة بعد أن كانت دائنة، وأصبحت معدودة الآن في البلاد التي بدأ التأخر والتراجع في تطورها الاقتصادي، كل ذلك بسب تلك الاتفاقيات المجحفة التي أقدم عليها أصحابها وهم لا ينظرون إلى مصالح الأمة. فالذي يوقع على مثل هذا العقد لا يمكن أن يكون ذلك الوقت مفكراً بمصالح أمته، بل إنما يفكر بمصلحة كرسيه العاجل في الدنيا فقط. وهذا الحال ليس مختصاً ببعض بلدان الخليج، بل هو أيضاً في البلدان الأخرى كلها، فبلاد المغرب العربي كل يوم تقدم على كثير من الاتفاقيات المجحفة التي فيها استغلال لخيرات هذه البلاد ونهب لها في مقابل وعود بالتمويل أو قروض ربوية، أو مقابل ما يسمونه بالتعاون الأمني الذي لا يكون إلا عصاً على رؤوس الشعوب. فالذي تقدمه أمريكا والبلدان الغربية لبلاد المغرب العربي أغلبه مجرد معلومات أمنية عن شعوبها المستضعفة الذليلة المهينة التي لا يخاف منها أن تفعل أي شيء، لكن تلك المعلومات تباع بأثمان غالية.

موت ضمير الإحساس في كثير من الشعوب

موت ضمير الإحساس في كثير من الشعوب كذلك فإن عدم شعور المسلمين شعوباً وجماعات بما يصيب إخوانهم مظهر سافر من مظهر هذا الانقطاع، إن أغلب المسلمين اليوم لا يشعرون بالحرب المقامة على المسلمين، ولا يحددون موقعهم من الإعراب، هل هم من العمد أو من الفضلات في هذه الحرب؟ وأين موقعهم منها؟ بل لا يهتمون أصلاً بحال إخوانهم الذين تجمعهم وإياهم رابطة (لا إله إلا الله)، ويتفقون معهم في المبادئ والمناهي، وما يصل إليهم لابد أن يتعداهم إلى من سواهم. إن كثيراً من الشعوب المسلمة قد مات ضميرها، فلم تعد تتحرك ولا تحس بأي شيء، وهذا الحال يذكرنا بوقت التجهيل الذي ساد قبل الاستعمار، عندما شاع الجهل في البلاد الإسلامية وأقبلت على ظلمات الجهل، فكان ذلك سبب الوهن الذي أصابها، وسبب غزو المستعمر الذي جابها، فإنما كان ذلك نتيجة جهل الشعوب بحقائقها، وانفصام عراها فيما بينها، فقد كان الناس إذ ذاك في وقت مجيء الاستعمار لا يحس أهل دولة منهم أو أتباع السلطان منهم بآلام سكان البلدان الأخرى. فعندما أراد الفرنسيون احتلال الجزائر ودخلوها بجيوشهم وقواتهم في عام ثلاثين وثمانمائة وألف من الميلاد كان (البايات) في تونس عوناً للفرنسيين، وكان السلطان عبد العزيز في المغرب عوناً للفرنسيين. وقد استفتى الأمير عبد القادر علماء المسلمين إذ ذاك فيما يفعله ملك المغرب من إمداد النصارى بالمؤن والعتاد، ومن قطعه العون عن المجاهدين ومحاصرتهم، استفتى الأمير عبد القادر علماء المسلمين في هذا الفعل فأفتى كثير منهم بأنه ولاء صريح للكفار، وعليه فيعتبر ناقضاً من نواقض الإسلام. إن ذلك الحال الذي عاشوه إذ ذاك بسبب الجهل حصل نظيره اليوم، لا بسبب الجهل فحسب، بل بسبب المؤامرة الإعلامية التي تروج بين الشعوب المسلمة، فالإعلام يبرر هذه الحروب، ويظهرها في صورة حروب مقدسة، وأنها رد لعدوان ومحاربة للإرهاب وقضاء على المتطرفين، وأن فيها خيراً لأهل الأرض، ويخدعون الشعوب المسكينة غير الواعية بهذه المبادئ الزائفة، فيتصور الناس صحتها ويطبلون وراءها ويصفقون لها، وأقلهم حالاً الذي يسكت فلا تكون له مشاركة.

وجوب استيقاظ الأمة من سباتها

وجوب استيقاظ الأمة من سباتها إن هذا الحال حال مزر بهذه الأمة، لا يليق بها بحال من الأحوال، ولا يمكن أن يستمر أبدا، فلابد أن تستيقظ الأمة من غفلتها، وأن تحس بأن كيانها مهدد، وأن مقدساتها قد داسها اليهود، وأن خيراتها قد نهبها النصارى، وأن الإعلام الماكر يروج لكل ذلك، وأن كثيراً من حكامها يواطئون أعداءها، وبقيتهم على الأقل هم في حياد بسبب السبات والغفلة، فليس لهم أية عناية بهذه الأمة ولا بمصالحها العامة، حتى يدخل عليهم في بيوتهم كحال ملوك الطوائف في الأندلس، فكان الفونسو ملك النصارى يستعين ببعض ملوك الطوائف على بعض، فاستعان بحاكم إشبيلية على حاكم طليطلة، فلما سقطت طليطلة استعان بحاكم قرطبة على حاكم إشبيلية، وهكذا بالتدريج حتى قضى عليهم بالكلية. إن هذا الواقع يعيده التاريخ ويكرره، فاليوم قد أصبح كثير من حكام المسلمين حراساً لليهود ومصالحهم، فيمنعون حدودهم من أن يدخل إليها السلاح، ويمنعون الشعوب المتحمسة التي تريد الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله من الوصول إلى ذلك، بل يمنعون كل من عبر عن رفضه لهذا الظلم السافر، وأنت تسمع عن المسيرة الضخمة التي خرجت في باريس في قلب أوربا، والمسيرة التي سبقتها في ألمانيا تنديداً وإنكاراً لما يفعله اليهود المغتصبون في فلسطين، فهل سمعت أن أحداً ضرب فيها أو أوذي بأي نوع من الأذى؟! بينما لو سمعت عن أية مسيرة في البلاد الإسلامية العربية فستجد الكسر والطعن والنهب وأنواع الأذى، لا لأي سبب غير أن هذه الشعوب لا تستحق أن تعبر عن رأيها، ولا أن تباشر أي عمل تفهم منه أو تشم منه رائحة العزة والكرامة. إن هذا النوع من التطرف هو الذي يولد التطرف، فالمسيرات السلمية التي لا تفسد البنى التحتية، ولا تكسر السيارات ولا البيوت، ولا تتعرض للمارة، ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها، وإنما تعبر عن إنكار المنكر بالوجه الذي يبلغ ويسمع هذه المسيرات مأذون بها، وهي حق للتعبير عن رفض ذلك الظلم وإنكاره، ولا يمكن أن ينكر المنكر العام الذي تقوم به الأمم بكاملها إلا إذا أنكرت الأمم بكاملها. فإنكار الأفراد لمنكر الأمم لا يؤثر، وإنما يؤثر إنكار الأمم لمنكر الأمم، فإذا كان اليهود والنصارى قد فعلوا هذا المنكر الكبير فلابد أن يعبر المسلمون -أمة- عن إنكار هذا المنكر الكبير، وهذا مما لا يتم الواجب المطلق إلا به، فمن المعلوم أن إنكار المنكر واجب، وأنه لا يتم اليوم إنكار المنكر الجماعي إلا بالاستنكار الجماعي. لكن مع ذلك نجد كثيراً من البلدان الإسلامية يقمع فيها مثل هذا النوع من التعبير والإنكار، وهم يعلمون أن تلك المسيرات والمظاهرات لن تمس الأمن ولن تخل به، ولن تتعرض للنظام، ولن تتعرض للمصالح، بل لا تخشى منها السفارات الغربية أو السفارات اليهودية أو غيرها، وليس من هدف المسيرات إزالة تلك السفارات، وإنما هدفها الإعلان عن إنكار المنكر فقط. إن هذا النوع حصل في كثير من البلدان الإسلامية مع الأسف، وكان سبباً للفوضى ولإغلاق الطرق وتكسير زجاج المنازل والسيارات، والعبث الذي لا يليق بالشعوب المسلمة، وكل هذا الأمر مخالف للشرع ولا يقره أحد، لكن من أين جاء؟ وما هي بدايته؟! إنما كان من قبل الرفض للمسيرات السلمية، فبماذا تتضرر حكومة من الحكومات الإسلامية لو قاد رئيسها مسيرة للرفض، وخرج هو وأعضاء حكومته والشعب وراءهم يقودون مسيرة لتفيد المنكر، وللإعلان عن براءتهم -على الأقل- مما يفعله اليهود في فلسطين واستنكارهم له؟! بماذا تتأثر حكومة لو أقدمت على ذلك؟! أليس هذا سيزيدها عزة ومكانة؟! أليس سيزيدها محبة في نفوس شعبها وفي نفوس الشعوب المسلمة؟! لكن المشكلة هي أن التفكير مستورد. فالحكومات تستورد التفكير، يأتيها الفكر مغلفاً من الخارج كما تستورد المواد الغذائية وغير ذلك.

واجب الحكام تجاه قضايا الأمة

واجب الحكام تجاه قضايا الأمة إن هذه الأمة لابد أن يأتي الوقت الذي تحس فيه بأنها أمة واحدة. ولابد أن يأتي الوقت الذي تتحرك فيه لإزالة ظلم المظلومين من أفرادها، وإن أولى الناس بقيادة ذلك هم حكام الأمة، فهم أولى الناس بأن يتقدموا وأن لا يخافوا، فهم الذين بأيديهم السلاح، وبأيديهم المال، وتطيعهم الجيوش، وإن ذلك -والله- لا ينقص من أعمارهم ولا من أرزقاهم ولا من مكانتهم شيئا، بل إنه يزيدها. فهل سمعت أن أحداً في التاريخ أعلن الجهاد في سبيل الله فندم على ذلك؟ لا يمكن أن يقع هذا أبداً، بل إن الله تعهد بالهداية لمن سلك هذا الطريق، أليس جديراً بحكامنا جميعاً عندما اجتمعوا في بيروت أن يعلنوا براءتهم من اليهود، وأن يقطعوا علاقتهم بهم جملة وتفصيلا، وأن يعلنوا الجهاد في سبيل لإعلاء كلمة الله، لا مثل الحروب السابقة التي كانت تحت رايات أخرى غير خالصة. أليس جديراً بهم على الأقل أن يدعموا هذا الشعب الفقير؟ وأن يمدوا إخوانهم بالمال، وأن يمدوهم بالسلاح، وأن يتكفلوا بالأيتام والأيامى والعجزة. أليسوا يشاهدون على شاشة التلفزيون الجرحى الذين تنزف دماؤهم حتى يموتوا في الشارع ولا أحد يرثي لهم؟! أليسوا يشاهدون الأسر التي تنطلق في سياراتها فتحطمها عليها الدبابات في الشوارع؟! أليسوا يشاهدون سيارة الإسعاف تستغل ويخرج طاقمها، وتستغل هي لحرب الشعب الأعزل؟! أليسوا يشاهدون إخوانهم وزملاءهم يحاصرون في بيوت ضيقة، ويرجمون بالقذائف والصواريخ؟! إن ذلك كله صحيح، لكن العجب أن لا تتحرج ضمائر هؤلاء؟! ومتى تتحرك؟! إن بيت المقدس الآن عرضة للتحطيم والهدم، واليهود قد خططوا لذلك، ولم يرد في الوحي ما يمنع حصول ذلك، ولاشك أن كثيراً من ضمائر المسلمين يحركها هدم بيت المقدس، لكن قتل امرئ واحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ظلماً عدواناً أعظم عند الله من هدم بيت المقدس. إن ما يحصل كل يوم هو أعظم من هدم بيت المقدس، ولذلك يجب على المسلمين جمعياً أن يستشعروا مسئوليتهم عن مقدسات هذه الأمة وعن شعوبها المسكينة الضعيفة، وأن يقدموا ما يجدونه لله، فهم يقرؤون قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]. فهذه الآية من قرأها ولم يقم بحقها فإنها تلعنه على لسانه، (رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه). إن الذي يقرأ آيات الجهاد، ويقرأ الأحاديث الحاضة على نصرة المسلمين، ولا يتحرك ضميره فهو ميت لم يعد به إيمان؛ لأن الإيمان نور رباني وروح من عند الله تحركه مثل هذه المشاهد، فإذا اختل شيء منه دل ذلك على إن الإنسان قد سلب منه إيمانه وفارقه، نسأل الله السلامة والعافية.

المسلمون أسرة واحدة يجب عليها التناصر

المسلمون أسرة واحدة يجب عليها التناصر إن ما كنا نقوله من النصح الموجه إلى حكام المسلمين نظيره أيضاً موجه إلى شعوب المسلمين، فإنهم جميعاً مخاطبون بهذا الخطاب، وعليهم أن يبذلوا ما يستطيعون لإخوانهم، وأقل ما يستطيعونه التوعية والإحساس بواقع إخوانهم، والشعور بذلك، فلاشك أن أي أحد لو كان والده أو أمه أو أخوه يعاني من أشد الألم ويصرخ في المستشفى لا يمكن أن يجد راحة بال ولا استقراراً وهو يسمع ذلك الصراخ من أحب الناس إليه وأقربهم إليه، أفلا نؤمن بأن الذين يصرخون الآن ويعانون هم من إخواننا؟ إننا جميعاً أسرة واحدة، وإن ما يشكوه فرد واحد من أفراد هذه الأسرة لابد أن يشكوه كل الأفراد، إن ذلك مقتضى الإيمان. إن هذا الحال الحاصل لا يمكن أن يقر عليه بوجه من الوجوه، فلذلك لابد من العناية بتقصي الأخبار والعناية بالصدق في نقلها، والعناية بتوعية المسلمين بها، والعناية بأداء حقوق هذه الأمة، وأداء حقوق أولئك المستضعفين إليهم، وأن يقوم كل إنسان بما يستطيعه، فأين الذين يريدون أن يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في الجنة كهاتين -أي: الأصبع الوسطى والسبابة-؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين). إنهم يتامى كثر ينتظرون من يؤويهم، وأيامى كثر كذلك ينتظرن من يقدم لهن أية مساعدة، وشيوخ ركع قد أذلوا وأهينوا، كل أولئك من إخواننا المؤمنين الذين نسمع صراخهم ونداءهم في كل الوسائل التي ندخرها في بيوتنا، وهم سيطالبون بين يدي الله بحقوقهم. والمؤسف أن هذا إذا تجاوز هذا المدى فسيصل إلينا أيضاً، فهو سيل جارف امتحننا بحصوله في الآفاق، وإذا لم تنجح في الامتحان فسيصل إلينا في بيوتنا، فهل لدينا عهد من الله أن لا يصيبنا مثل ما أصاب أولئك القوم؟! إن كل بلد من البلدان الإسلامية هو عرضة لأن يصيبه ما أصاب أولئك، فإذا لم يقم أهله بالحق الذي عليهم حقت عليهم كلمة الله، وتحقق عليهم ذلك الوعد الذي لا يخلف. إننا جميعاً إذا أحسسنا بمسئوليتنا فلابد أن يكون لنا أثر، فهذه الأعداد الهائلة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إذا عبرت عن رفضها لهذا الواقع، وأدت ما تستطيعه ولو بقدر ضئيل، وإذا لم يقدم المسلمون إلا عشر معشار ما يملكونه ويستطيعونه فإن ذلك كاف لإنقاذ فلسطين ومن عليها. وعلينا أن نعلم أن اليهود إنما كانوا شرذمة يسيرة قليلة قد كتب الله عليهم الذلة والهوان {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61]، ومع ذلك اجتمعت كلمتهم فاستطاعوا أن يقيموا دولتهم، وأن ينتصروا لأمجادهم، وأن يحققوا أهدافهم. ونحن -معاشر المسلمين- أهل العزة والكرامة، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى كتب العزة لنا، لكن شرط ذلك بانتهاج منهجه الذي ارتضى لنا. ونحن -كذلك- أعداد كثيرة لن نهزم عن قلة، ونحن -كذلك- أهل طاقات جبارة، ومع هذا فتلك الشرذمة القليلة المهزومة التي كتب الله عليها الذلة والصغار، وتأذن لها إلى يوم القيامة من يسومها سوء العذاب، مع ذلك تفعل فينا الأفاعيل! فإلى متى سيستمر هذا الوضع؟! إنه لابد من التعبير عن رفض هذا الحال، وأن يكون ذلك بلسان الأفعال لا بلسان المقال.

استشعار الأمة كونها جسدا واحدا بداية الطريق

استشعار الأمة كونها جسداً واحداً بداية الطريق لابد أن يكون بهذه الأمة حراك، ولابد أن تلتقي عليه من المحيط إلى المحيط، بل إلى ما وراء ذلك، فهذه الأمة ليست محصورة في البلدان الإسلامية كما يتصوره كثير من الناس، بل قد بلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار. فالمسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغون أحد عشر مليوناً. والمسلمون في فرنسا يزيدون على خمسة ملايين. والمسلمون في بريطانيا أربعة وثمانمائة ألف تقريباً. والمسلمون في ألمانيا قريب من ذلك العدد. وهؤلاء ليسوا كالشعوب المستذلة المستضعفة، بل أكثرهم مهندسون وأطباء وموظفون كبار، وكثير منهم يعملون في التخصصات النادرة وفي الأبحاث الذرية النووية وغيرها. لكن الذي ينقص هؤلاء جميعاً هو أن يستشعروا مسئوليتهم، وأن يقوموا بالحق الذي عليهم لله سبحانه وتعالى، وأن يؤدوا حق هذه الأمة، وأن يقوموا به. إن استشعار كون هذه الأمة جسداً واحدا إذا حصل فهو النقطة الأولى وهو بداية الطريق، إذا أحس الإنسان أنه لا ينتمي لدولة صغيرة ضعيفة قليلة الموارد فقيرة، وإنما ينتمي لأمة بهذه الكثافة والضخامة، لأمة ذات تاريخ عريق، ليس كتاريخ الدويلات التي تبدأ من استقلالها أو استغلالها الزائف غير الصحيح. هذه الأمة تاريخها بدأ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وما زال تاريخها يشهد البطولات، وإلى يومنا هذا ما زال المضحون من أبنائها يبذلون أنفسهم لله سبحانه وتعالى، ويجاهدون في سبيله، فشعور الإنسان بانتمائه لهذه الأمة العظيمة التي هي خير أمة أخرجت للناس هو بداية استمراره على طريق الحق وسلوكه لهذا الطريق وسعيه لأن يكون له الأثر البارز في إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه. أما ما دام الإنسان قابعاً في منطقة يسيرة قليلة، وينظر إلى نفسه أنه من أهل تلك الدولة -فقط- ولا يهمه ما وراء حدوده فهذا المسكين الذي لا يزيد إلا تحجراً، ولا يزيد إلا غفلة واستضعافاً، وسيكون بذلك ذليلاً إلى نهاية حياته، يعيش ذليلاً ويموت ذليلا، والحق ينتظره يوم القيامة. فكل ما يمكن أن يقال فيما يتعلق باتحاد هذه الأمة واجتماع كلمتها قد قيل، وواقع هذه الأمة لا يزداد إلا ثبوراً يوماً بعد يوم. ولكن الأمل بعد نعمة الله سبحانه وتعالى وفضله هو في أولئك الأفذاذ من أبناء هذه الأمة، الذين لا تحدهم حدود، ولا يحجزهم مكان، ولا تتعلق أعمالهم إلا بالجنان، وهم يتعلقون بما عند الله الواحد الأحد، ولا يخافون إلا الله عز وجل، وينطلقون في مسيرتهم لإعلاء كلمة الله، فأولئك هم جيل النصر والتمكين، وهم الجيل الذي يكتب الله له ميراث الأرض ومن عليها، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106]. وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].

إن النصر مع الصبر ولا يكون إلا بعد ابتلاء

إن النصر مع الصبر ولا يكون إلا بعد ابتلاء إن علينا أن لا ننهزم لمشاهدة هذا الذل والاستضعاف، وأن نعلم أن هذا حال من الأحوال وطور من الأطوار مرت به الأمم من قبلنا، وقد قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. إن هذا الحال من المبشرات المؤذنة باقتراب النصر، فلا يحول بيننا وبين النصر إلا أن نتجه إلى الله بقلوب سليمة، وأن نستشعر التكليف الذي جعل علينا، وأن نؤدي الحق، فمجرد بذلنا لما نستطيعه كاف في الوصول إلى الأهداف، ولذلك قال الله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، فبمجرد دخول الباب يحصل النصر من عند الله؛ لأن النصر لا تجلبه الوسائل والمعدات والأدوات، فلو كان كذلك لحصل النصر للاتحاد السوفيتي، إنما النصر من عند الله، ولا يكون إلا بذلك. ولهذا فإنما عودنا الله على النصر عند الرجوع إليه، وعند الامتثال لأوامره والاجتناب لنواهيه، وعودنا كذلك أن النصر دائماً مع الصبر، ولا يكون إلا بعد الابتلاء، وأن الذين ينصرون غالباً إنما هم فئة قليلة مستذلة ينظر إليها أهل الأرض جميعاً بنظرة ازدراء، ثم يكون لها التمكين والنصر، ولذلك أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]. فبعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه يختفون في دار الأرقم على الصفاء، نصرهم الله سبحانه وتعالى في مواطن كثيرة وأعلى كلمته وأعز دينه. والذين كانوا يحاصرون في الشِّعب ولا يجد أحدهم ما يقوم به قوته، ويربطون الحجارة على بطونهم من الجوع لم يعد أحد منهم بعد ذلك إلا والياً على مصر من الأمصار، كما قال عتبة بن غزوان رضي الله عنه: لقد رأيتنا في الشعب وما منا أحد إلا ويعصب الحجر على بطنه من الجوع، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار. إن أولئك صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفى الله لهم بعهده وحقق لهم سنته، فعندما غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم، فتحقق لهم ذلك بعد صبر يسير، كان صبرهم في الشعب ثلاث سنوات، ولكنهم ما لانوا وما ذلوا وما هانوا، واستمروا على الصمود على الحق، ولم يتراجعوا من أجل الضغوط والأذى، فحقق الله لهم المراد، وضرب لهم أمثلة كثيرة سبقت، فإن الله تعالى يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران:146 - 148]. إن أولئك الذين آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة هم الذين لم يذلوا ولم يستكينوا ولم يهونوا، بل صمدوا وصبروا واستقاموا على منهج الله، ولم يستجيبوا للضغوط ولا للأذى، بل تعدوا ذلك وتحدوه انتصروا عليه. تذكر الحال الذي كان بها بلال عندما بطح على الرمضاء ووضع على ظهره الحجر المحمى على النار، وهو يقول: أحد أحد. وكذلك حال آل ياسر إذ ذاك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بهم وهم يعذبون بالسلاسل ويجرون في الرمضاء فيقول: (صبراً -آل ياسر- فإن موعدكم الجنة). إن أولئك الذين صمدوا وصبروا هم الذين آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وأثرهم ما زال بارزاً واضحاً للأيام، فما علينا إلا أن نسلك الطريق وعلى الله البلاغ. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أركان الإسلام

أركان الإسلام لما خلق الله الناس لعبادته أرسل إليهم الرسل ليبينوا لهم كيفية العبادة التي لا يقبل الله غيرها، وقد ختم الله الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعله كافة للناس، فلا يقبل ديناً يخالف دينه، وقد جعل الله تعالى لهذا الدين أركاناً ودعائم لا يقوم الدين بدونها، وافترض على الناس القيام بحقها، وهي إما إيجابية يؤتى بها أو سلبية ينتهى عنها، وهي موجبات لدخول الجنة إن التزمت أو لدخول النار إن لم تلتزم، كما افترض الله على كل مسلم نصرة دينه والعمل على رفع رايته قدر الاستطاعة، ولو بتكثير سواد المسلمين.

عالمية الإسلام وعدم قبول غيره من الأديان منذ نزوله

عالمية الإسلام وعدم قبول غيره من الأديان منذ نزوله الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

الأديان السابقة كانت إعدادا لهذا الدين

الأديان السابقة كانت إعداداً لهذا الدين فإن الله عز وجل سمى هذا الدين الذي أرسل به هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة دين الإسلام، وختم به الديانات السابقة، وجعله الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، فكل ما سواه من الأديان بعد نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم به مردود على أصحابه لا يتقبل الله منه شيئاً. وإن الله عز وجل لم يرض للبرية إلا هذا الدين، وإنما جعل الأديان السابقة إعداداً له فقط؛ لأن البشرية خلقها الله تعالى متدرجة، فلم تصل إلى نضجها ولم تكتمل أطوار حياتها إلا في الطور الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فما زالت البشرية تتقدم في أطوار حياتها كتقدم الصبي في نماء بدنه وعقله وتطور معارفه، وهو يحتاج في كل طور إلى ملابس جديدة تتناسب مع حجمه وإلى تغذية تتناسب مع واقعه وصحته. وكذلك هذا الدين، فإن الله كان ينزل منه في كل فترة ما يتناسب مع الطور الذي تمر به البشرية ويعلم نهاية ذلك الطور، وأن ذلك الدين لا يصلح لما بعد ذلك الطور، فإذا انتهى ذلك الطور نسخ الله تلك الشريعة وأتى بشريعة جديدة تطور سابقتها أو تنسخها وتلغي أكثر أحكامها. ومن هنا فإن الشرائع السابقة تنقسم إلى قسمين: الأول: شريعة مطورة. أى: مكملة لسابقتها مبيحة لبعض ما حرمته ومحرمة لبعض ما أحلته، كشريعة عيسى مع شريعة موسى. الثاني: شريعة جديدة ناسخة لسابقتها بالكلية، كشريعة موسى مع شرائع من قبله من الرسل. وإن رسل بني إسرائيل إنما كانت شرائعهم مجددة لشريعة موسى، ولهذا قال الله وتعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]. أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها ناسخة لكل ما سبق، ولهذا قال الله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48] , وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] , فما سواه من الأديان ليس ديناً كاملاً مستقراً عند الله عز وجل وإنما هو دين آني مؤقت ذو فترة محددة لا يتعداها، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا الفترة التي بعث فيها، كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال في خطبة طويلة: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك). وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل، كما جاء ذلك مرتين في سورة المائدة، وأخبر أنه بعث في الأميين -في الجاهلية- على فترة الرسل واقتراب الساعة وجهالة الناس، فجاء بهذه الحنيفية السمحه التي هي الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، والتي لا يقبل الله من أحد وصلت إليه سواها من الدين، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار). فارتضى الله تعالى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون إماماً للبشرية، وارتضى هذا الدين الذي جاء به للبشرية بحذافيرها فهو صالح لكل زمان ومكان، ومشروط على الناس أن يأخذوا به ويتبعوه.

مقارنة الإسلام بالأيديولوجيات الفكرية والقوانين الوضعية ظلم ناشئ عن قصور في التصور

مقارنة الإسلام بالأيديولوجيات الفكرية والقوانين الوضعية ظلم ناشئ عن قصور في التصور وإن كثيراً من الناس يغلط في تصور هذا الدين وذلك لقصور نظره، فيرى جانباً واحداً منه فيقوِّم هذا الدين على أساسه، فمثلاً: تسمع كثيراً من الناس يقارن الإسلام بالأديولوجيات الفكرية، فيقارن الفكر الإسلامي أو الدين الإسلامي بالفكرة الرأسمالية والفكرة الشيوعية، ويقول: هو متوسط بين الفكرتين، فالفكرة الرأسمالية تراعي حقوق الفرد ولا تراعي حقوق الأمم، والفكرة الشيوعية تراعي حقوق الأمم ولا تراعي حقوق الأفراد، والإسلام يراعي حقوق الجميع. ولكن الواقع أن هذه النظرة قاصرة؛ لأنها ما نظرت إلا إلى جانب واحد من الإسلام، وهو المجال الفكري في العدالة الاجتماعية بين الناس فقط. وكذلك تسمع آخرين يقارنونه بالقوانين الوضعية، وهذا قصور في التصور أيضاً، فما نظروا إلا إلى الجانب المنظم لعلاقات الناس فيما بينهم. والواقع أن الإسلام أعم وأشمل من هذا، فهو نظام شامل لكل أمور الحياة، فالقانون -مثلاً- لا يهتم بأخلاق الناس، ولا يهتم بتنظيم معاملاتهم مع ربهم الذي خلقهم وسواهم، وأنت تعلم أن هذه الأمور من أهم شرائع الإسلام، وقد جاء فيها كثير من نصوصه ووضع فيها كثير من قواعده.

بيان كمال الشريعة وضمانها لتنظيم الحياة

بيان كمال الشريعة وضمانها لتنظيم الحياة

الجانب القضائي ودوره في علاج المشكلات

الجانب القضائي ودوره في علاج المشكلات ثم من هذه الجوانب التي شرعها الله تعالى في الإسلام وبينها للناس الجانب القضائي الذي يفصل المشكلات عند حصولها ويعالجها علاجاً وقائياً قبل حصولها بالصلح والتراضي وإصلاح ذات البين: وهذا الجانب أيضاً من جوانب الإسلام المهمة التي لا يستغني عنها الناس، وعندما تركوها وقصروا فيها وتركوا التحاكم إلى دين الله سبحانه وتعالى اشتهر فيهم ما ترى من الظلم والانحراف والبغي في القضاء، وقد حكم الله تعالى في كتابه بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله، وأقسم على نفي الإيمان عنه في كتابه فقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].

تشريع الحدود والتعزيرات لردع الفساد وتطهير المجتمع منه

تشريع الحدود والتعزيرات لردع الفساد وتطهير المجتمع منه ثم إن من هذا الدين ما يردع أهل الفساد إذا استشرى وحصل، وهو ما يسمى بالحدود والتعزيرات، فإنها تزجر الواقعين في هذه المعاصي وهذه القاذورات عما وقعوا فيه، وتكفر عمن تاب وأحسن فيما بعدها، وهذه الفواحش التي رتب الله تعالى عليها هذه الحدود مضرة بأهل الأرض إضراراً شاملاً كاملاً لا يختص بالمتعاطين لها أو بالقائمين عليها فقط، ومن أجل هذا جعلت حدودها رادعة فمنها ما حده القتل، ومنها ما حده الرجم بالحجارة إلى الموت، ومنها ما حده قطع اليد، ومنها ماحده الجلد، فهذه الحدود لا يقصد بها التشفي من شخص واحد، وإنما يقصد بها علاج مجتمع بكامله، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً) , وقوله: (من أن يمطروا سبتاً) معناه: من أن ينزل عليهم المطر أسبوعاً كاملاً. فهذه الحدود تردع الفساد وترده وتقوم أخلاق الناس، وترد جماح الجامح منهم وتعالج مرض المريض منهم، فهي علاج رادع لشيطان الإنسان الذي يستزله في هذه المحرمات ويوقعه في هذه الفواحش. وكذلك التعزيرات التي وكلها الله تعالى إلى اجتهاد الحكام المؤمنين القائمين بالعدل هي كذلك رادعة عن تلك الذنوب التي هي دون الأولى، فلا تصل إلى حد الحدود وإنما هي دونها وأقل منها.

تشريع الكفارات لمعالجة النفس وجبر الذنب

تشريع الكفارات لمعالجة النفس وجبر الذنب وكذلك الكفارات التي تكفر المعاصي التي يقع فيها الإنسان وتعالج ما يجده الإنسان من الانكسار في نفسه، فإن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوؤه سيئته، ومن فرط في جنب الله تعالى فأقام الله عليه الحجة وتذكر ماضيه وما فرط فيه في جنب الله، وأنه قد أسرف كثيراً فيما مضى من زمانه، وهو مقدم على الله ولا يدري حاله ولا يدري كيف يجيب إذا عرض على الباري سبحانه وتعالى: {يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} [المرسلات:35] * {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:36] سينكسر قلبه ويتأثر نفسياً تأثراً شديداً بالذنوب التي أسرف فيها على نفسه فيما مضى من عمره، لكن الله شرع له الكفارات التي تكفر هذه الذنوب وتطمس أثرها، وأهم هذه الكفارات إتباع الحسنة السيئة، وأن يعمل الإنسان من الحسنات أكثر مما عمل من السيئات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). ومن هذه الكفارات: اجتناب الكبائر؛ وما وقع فيه الإنسان بعد ذلك من الصغائر يكفره اجتناب الكبائر، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31]. وكذلك من هذه المكفرات الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والشهادة في سبيله، وكذلك التضحية في سبيله بما يستطيعه الإنسان. ومنها الكفارات المخصوصة بأمور محددة ككفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار في نهار رمضان، وكفارة اليمين، وغير ذلك من الكفارات المبينة شرعاً، فهي جوابر وزواجر تزجر الإنسان عن العود إلى ما فرط فيه في جنب الله، وتجبر له ما وقع فيه من الخطأ والتقصير، والإنسان محتاج إلى ذلك أشد الحاجة.

ميزة الإسلام عن التشريعات البشرية في الاعتقاد والعبادة

ميزة الإسلام عن التشريعات البشرية في الاعتقاد والعبادة ومن هنا جاء البون الشاسع بين الإسلام وبين ما سواه من الشرائع والتقنينات، فهو دين الله الذي ارتضاه وليس ديناً من الأرض، فليس نابعاً عن قصور في التصور، وليس ناشئاً عن أعراف نشأت في مرحلة محصورة، وليس ناشئاً كذلك عن عقول قاصرة، وإنما هو وحي من عند الحكيم الخبير الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق البشر وعلم أمورهم كلها قبل أن يخلقهم، فشرع لهم من الدين ما يصلح أحوالهم كلها، فشرع لهم من الإسلام ما ينظم علاقاتهم بربهم، وذلك جانبان: الجانب الأول منه: ما ينظم اعتقادهم، ويبين لهم ما تعتقده أفئدتهم فيما لا يمكن أن تصل إليه عقولهم: وذلك أن الله علم أن العقول التي وهبها للناس إنما هي جوارح قاصرة مثل أيديهم وأسماعهم وأبصارهم، فهي عاجزة عن إدراك هذه الأمور، فبينها لهم بالوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى. الجانب الثاني في التعامل مع الله: هو جانب العبادة التي أصلها الأدب مع الله سبحانه وتعالى وحسن الحياء منه، وأداء ما شرع من العبادات على الوجه الذي يرضيه، وقاعدتها التوقيف؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصله عباده بضر ولا نفع، وقد صرح بذلك فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: (ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. ومن هنا فلا يمكن أن يُتقرَب إليه إلا بما شرع، فلا يمكن أن يتعبد الإنسان ويقصد وجه الله تعالى بأمر لم يشرعه له ولم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت منزلاً من عند الله؛ لأن من يمكن أن تنفعه ويمكن أن تضره يمكن أن تتقرب إليه بشيء لم يأمرك به؛ لأنك تعلم أنه يوصل إليه نفعاً أو يرفع عنه ضرراً، ورب البرية جل وعلا لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، فلا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ومن هنا فإن هذا الجانب قاعدته التوقيف والقصر على ماجاء.

ميزة الإسلام في تنظيم الأخلاق والمعاملات

ميزة الإسلام في تنظيم الأخلاق والمعاملات وكذلك كان في الإسلام ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم، وهو نوعان: النوع الأول: ما يسمى بالأخلاق، وهذه الأخلاق هي التي تحافظ على وشائج الناس وروابطهم وتنميها، وتحفظ الأدب العام للناس، فإن حقوق الناس متفاوتة، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بالصحبة الأم ثم الأب، وذكر كذلك حقوق الجار، وحقوق الأقارب، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وبين صلى الله عليه وسلم حق الكبير على الصغير وحق الصغير على الكبير، وكل ذلك داخل في مجال الأخلاق. أما الجانب الثاني في التعامل فيما بين الناس فهو جانب المعاملات، وقد شرع فيها الإسلام تشريعاً واضحاً مبيناً للوجه الصحيح في التعامل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه البشرية أمة من نفس واحدة، وأراد لها أن تكون مجتمعاً مترابطاً، فقطع كل ما يؤدي إلى الخلاف والفرقة، وأزال كل ما يؤدي إلى الظلم والعسف وقطيعة الرحم، ومن هنا تقرأ في سورة الحجرات ثلاثة عشر سبباً من أسباب القطيعة حرمها الله تعالى ونفاها عن المجتمع الإسلامي: أول هذه الأسباب: التعدي على الصلاحيات، وهو المذكور في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]. السبب الثاني: عدم توقير الكبار وذوي العلم والسن وذوي الفضل، وهذا أيضاً مأخوذ من هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2]. ثم بعد هذا الكذب المأخوذ من قوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات:6]. ثم بعده عدم التبين والتثبت المأخوذ من قوله: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] , وفي القراءة السبعية الأخرى (فتثبتوا). ثم بعده الظلم، وهو المذكور في قوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]. ثم بعد ذلك السخرية، وهي المذكورة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]. ثم بعد ذلك ظن السوء، والتنابز بالألقاب، والنميمة، والغيبة. وهذه كلها هي المذكورة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]. ثم بعد هذا وضع القاعدة التي من أجلها ترابطت البشرية واتصلت عراها، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وكذلك فإن الله وهب بعضهم ما يحتاج إليه غيره، وكان قادراً على أن يقسم الأرزاق فيما بينهم فيعطي كل شخص ما يحتاج إليه فقط، لكنه جعل تحت أيدي بعض الناس ما لا يحتاجون إليه ويحتاج إليه من سواهم، وحكمة ذلك الواضحة أن يبقى المجتمع مترابطاً يحتاج بعض أفراده إلى بعض ويقوم بعض أفراده برعاية بعض، فجعل من المجتمع أغنياء وجعل منه فقراء ليقع التكامل والترابط، ولهذا قال الله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل:71] , وقال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32]. فوزع بينهم الأرزاق توزيعاً عجيباً، وشرع لهم من الشرائع ما ينظم تداول هذه الأرزاق فيما بينهم؛ لأن الإنسان إذا رأى حاجته ولم يجد وجهاً صحيحاً لأخذها وهو محتاج إليها فإن كان قوياً لابد أن يغصبها أو يتعدى عليها بالقوة، وإن كان ضعيفاً سيحتال عليها بمختلف الحيل كالسرقة والغش ونحو ذلك. ومن هنا فإن الناس لا يحتاجون إلى هذه الحيل الملتوية إلا عند فساد النظام، فلا يحتاجون إلى الرشوة إلا عند فساد النظام، ولا يحتاجون إلى الغش والخديعة في البيوع ونحو ذلك إلا عند فساد النظام وعدم أخذه بالإسلام، فهذا الفساد الذي تراه مستشرياً في التعامل بين الناس أصله الإعراض عما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلو رجع الناس إلى دين الله عز وجل وأخذوا به لما احتاج أحد أن يقدم رشوة ولم يحتج أحد لأخذها، ولم يحتج أحد كذلك لوساطة، ولم يحتج أحد لغش ولا خداع ولا تزوير في شهادة ولا تزوير في امتحان؛ لأن الحقوق مرعية محفوظة بنظام الله سبحانه وتعالى وبعدله. لكن عندما يتخذ الناس هذا النظام ظهرياً ويعدلون به ما سواه فلابد أن يتردوا في أوحال الرذيلة، ولابد أن يظلم بعضهم بعضاً، وإذا شاع فيهم الظلم فسيقع الفساد المستشري الذي تحل بسببه عقوبة الله تعالى على الناس، كما قال سبحانه وتعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].

تشريع البيوع والمعاملات المشابهة لها للحد من التغابن والظلم

تشريع البيوع والمعاملات المشابهة لها للحد من التغابن والظلم فشرع الله تعالى البيوع التي يقع بها التبادل بين الناس، فالضعيف إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، والقوي إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، ومن كان لديه مال يحتاج إليه ورأى ما يحتاج إليه عند غيره أمكنهما التبادل فيما بينهما بكل عدالة ونزاهه، وأن يعلموا أن ذلك إنما القصد منه الوصول إلى الرفاهية، والوصول إلى إشباع رغباتهم في هذه الحياة الدنيا، والتوصل إلى مرضاة الله في الدار الآخرة، وليس المقصود به حرمان قوم من هذا المعاش الذي جعله الله في الأرض، فما فيها من الأرزاق كاف لمن فيها من البشرية، لا يخلق الله من خلق فيضيعه. فالرزق الذي خلقه الله في هذه الآرض كاف لأهلها، ففيها من الخيرات وأنواع المعادن وأنواع الزراعات وأنواع الثمار والأشجار ما يكفي أهلها، وفيها من المياه ما لا ينقضي إلا بموت أهلها، ومن هنا فإنها تكفي الأحياء والأموات كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25 - 26] , فالأموات تكفتهم في بطنها، والأحياء تحملهم على ظهرها، وقد دحاها الله لذلك ووزع فيها أنواع الخيرات. ومن هنا لو استغلت هذه الخيرات استغلالاً صحيحاً لكفت البشرية وقامت بحقوقها كلها، وقد أمرنا الله تعالى باستعمالها واستغلالها والمشي في مناكبها وأن نبتغي من فضل الله تعالى في ذلك، ولو اتبعت هذه الخطا التي حددها الشارع سبحانه وتعالى لحصل العدل وارتفع العسف والظلم بين الناس، ونال كل أحد منهم حقوقه وما يستحقه في هذه الأرض. ومن هنا شرعت العقود التي تقضي على أنواع هذه الخدائع وأنواع الظلم والعسف مطلقاً، فجعل البيع بديلاً للربا، وجعل النكاح بديلاً للسفاح، وجعل الدَّيْنُ كذلك بالتي هي أحسن بديلاً للاسترقاق والظلم، ومن هنا جُعِل لكل وجه من أوجه الفساد بديل يناسب حال المجتمع ويلائمه ويسد عوزه، وهذا من حكمة الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.

الاعتزاز بالدين من منطلق المعرفة بالله

الاعتزاز بالدين من منطلق المعرفة بالله إن جوانب الإسلام ومجالات تشريعه كثيرة جداً لا يمكن أن نتعرض لها في مثل هذه العجالة، ولكننا سنصل إلى مستويين من هذه الجوانب: المستوى الأول: هو المستوى الإيجابي. والمستوى الثاني: هو المستوى السلبي. أما المستوى الإيجابي فمعناه الفرائض التي هي الدعائم والأركان التي عليها بني دين الإسلام. والمستوى السلبي هو كبائر الإثم والفواحش التي حرمها الإسلام، فإذا تصور الإنسان ما أوجبه الإسلام من الدعائم الأصول وما حرمه من الكبائر والفواحش تصور هذا الدين بكامله، وعرف أنه منتم لهذا الدين أو غير منتم له، ولا يمكن أن يحقق الإنسان انتماءه لهذا الدين واعتزازه به إلا إذا أتى بأركانه الإيجابية، واجتنب نواهيه الكبرى السلبية، ومن لم يفعل ذلك لم يذق لهذا الدين طعماً ولم يعلم أن له حلاوة. ومن هنا فإن كثيراً من الناس إنما ينتسبون إلى هذا الدين بسبب الدار والتربية فقط، لكنهم لا يذوقون عزة الإسلام ولا يشعرون بذلك، ولا يحسون بالحقوق التي يرتبها الإسلام عليهم.

التزام الأوامر واجتناب النواهي عزة بالدين

التزام الأوامر واجتناب النواهي عزة بالدين لا شك أن الإنسان عندما تثور نفسه ويغضب غضباً شديداً إذا تذكر أنه مسلم وتذكر معنى ذلك -ومعناه: الاستسلام لله تعالى في أحكامه- ستسكن نفسه ويذهب غضبه، ويعرف أنه محكوم بإطار قوي هو دين الإسلام، وهذا الإطار عليه أن يخاف أن يخرج منه في كل اللحظات. وكذلك إذا جمحت به شهوته وشيطانه إلى الوقوع في الشهوات وكان مسلماً حقاً ذائقاً لحلاوة الإيمان وجد ذلك الوازع الديني القوي في نفسه يحول بينه وبين معصية الله، فيجد جداراً قوياً يقف في وجهه ويقطع عليه مسيرة شهوته ويرده إلى الإسلام، فيتذكر هاذم اللذات الموت، ويتذكر العرض على الله سبحانه وتعالى، ويتذكر حاله وهو محمول على النعش فوق الرقاب إلى الدار الآخرة، ومن هنا لا شك أنه سيرجع ويعود من حيث بدأ، فيتوب إلى الله تعالى ويتلافى ما مضى، فيكون من الذين اتقوا، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202]. إن التزام الإنسان بهذه الأوامر واجتنابه لهذه النواهي يجعله صاحب عزة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه من أهل الله، يشعر بانتمائه إلى الله سبحانه وتعالى واتصاله به، وإن الإنسان إذا اتصل بديان السماوات والأرض الملك الجبار الذي يقبض السماوات السبع والأرضين السبع بيمينه يوم القيامة فيهزهن فيقول: (أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) إن من اتصل بهذا الملك الديان لا يمكن أن يذل ويخضع لمن سواه، وإن من عرف الله تعالى حق المعرفة لا يمكن أن يركع لمن سواه ولا أن يسجد له ولا أن يخافه لحظة عين، كيف تخاف مملوكاً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وأنت تعرف الملك الديان ديان السماوات والأرض: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]؟! لكن السبب فيما نراه من نقص الإيمان وترديه هو عدم الصلة به سبحانه وتعالى وعدم معرفته، إن كثيراً من الناس يبحث عن معرفة الله تعالى من غير الوجه الصحيح، إن معرفته إنما تكون بالتقرب إليه بما شرع، وإذا طلبت معرفته بغير ذلك طلبت معرفته بعقلك القاصر، أو طلبت معرفته بعاطفتك غير المربوطة بأوامر الله تعالى ونواهيه، وطلبت معرفته بالأمثلة الدنيوية، أو طلبت معرفته بالفلسفات الشرقية أو الغربية، وبذلك تكون قد ضللت عن سواء الصراط ولم تعرف الله تعالى. إنما تعرف الله تعالى إذا امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه ووقفت عند حدوده، وحينئذٍ لا يمكن أن تضل سواء السبيل، بل هذا هو الطريق المضمون الذي لا يضل من سلكه أبداً، وهو الحبل القويم الذي من تمسك به عصم.

الاعتزاز بالدين نابع من محبته لا من كونه تراثا

الاعتزاز بالدين نابع من محبته لا من كونه تراثاً ومن هنا فإن اعتزازك بانتمائك للإسلام لا ينبغي أن يكون نابعاً عن أنه من تراثك وتراث آبائك وأجدادك، وإنما تعتز به لأنه علاقتك بربك وصلتك بديان السماوات والأرض، إن الاعتزاز بهذا الدين لا يذوقه المعرضون عنه والمتهافتون على الدنيا، والذين يبيعون آخرتهم بأعراض دنيوية، إنهم لا يمكن أن يذوقوا حلاوة هذا الإيمان، ولا يمكن أن يذوقوا هذه العزة التي حكم الله بها لله ولرسوله وللمؤمنين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]. إن انتماءك لدين الله تعالى ينبغي أن يكون نابعاً من محبتك لهذا الدين وتضحيتك في سبيله، وإنك لن تضحي في سبيل هذا الدين إلا إذا أحببته ودخل في كيانك وجعلته مقدماً على انتماءاتك وولاءاتك المختلفة، ومن هنا فإن تصور المنافقين للدين كان تصوراً خاطئاً، فقدموا عليه انتماءاتهم وولاءاتهم واعتزازهم بأمور الدنيا فقالوا: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ} [المنافقون:8]، فرد الله عليهم بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].

الفهم الخاطئ للدين وضرره على الإنسان

الفهم الخاطئ للدين وضرره على الإنسان إن كثيراً من الناس اليوم يفهم هذا الدين فهم المنافقين، فيفهم الإسلام من الزاوية التي فهمه منها المنافقون، فلا نجده منتمياً إليه تمام الانتماء، ولا نجده يشعر بمسئوليته عنه، ولا نجده ساعياً في إعزازه وإعلائه، ولا نجده باذلاً في سبيل ظهوره على الدين كله ولو كره المشركون، وسبب ذلك نقص إيمانهم وجهالتهم بهذا الدين، وأنهم أخذوه تراثاً ولم يأخذوه تطبيقاً، ولم يأخذوه علاقة بالله، ولم يأخذوه صلة به، إذا درسوا الإسلام درسوه فقهاً مجرداً عن العمل، ومجرداً عن الوازع الديني، ومجرداً عن القناعة، ومجرداً عن التقوى التي هي تقوى القلب، وهذا خطأ في التصور.

لا يرجع الخطأ في تصور الدين إلى الفقهاء الذين جردوا الأحكام عن المواعظ

لا يرجع الخطأ في تصور الدين إلى الفقهاء الذين جردوا الأحكام عن المواعظ وكثير من الناس يظن أن هذا الخطأ راجع للفقهاء رحمهم الله الذين دونوا المسائل الفقهية مجردة عن الترغيب والترهيب، لكن هذا أيضاً خطأ في التصور، فالفقهاء إنما هم مؤلفون وضعوا مناهج لمدارس، وهذه المناهج لابد أن تتكامل، فلا يمكن أن يكون الإنسان فقيهاً إن لم يدرس ما سوى الفقه، فالفقه علم يحتاج إلى ما سواه من العلوم، والعلوم الشرعية مترابطة، فمن لم يدرس الترغيب والترهيب لا ينفعه ما يدرسه من الأحكام الفقهية المجردة، ومن لم يدرس مشاهد القيامة وأحوالها لا يمكن أن يهتم بتفاريع الفقه ورغائبه ونوافله، ولا يمكن أن يتأثر بذلك قلبياً ولا يستفيد منه. ومن هنا فإن من دعائم الإسلام التي سنذكرها: الصلاة، والصلاة بين الله تعالى حكمتها بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] , وإن كثيراً من الناس يدرسون الفروع الواردة في الصلاة واجبات وسنناً ومندوبات، ويحاولون تطبيقها ولكنها لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، والسبب في ذلك أنهم ما درسوا ترغيبها وترهيبها، وما لامست قلوبهم ولا ذاقو لها طعماً، ولا أحسوا بلذة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، ولا ذاقوا لذة المذلة بين يديه وتعفير الوجه لكبريائه وجلاله سبحانه وتعالى، وما ذاقوا كذلك رفع حوائجهم إليه كفاحاً دون ترجمان، وتعلق القلب به، ومسألته مباشرة دون المذلة لغيره؛ وهذه حلاوة لا تعدلها حلاوة، عندما تنقطع أسباب الشخص من الدنيا، ويقبل على ديان السماوات والأرض وحده، وينوط به جميع حوائجه وينصرف بقلبه بالكلية عمن سواه وينقطع عنه، ويكون حراً من كل الأغيار عبداً عبودية حقيقية لله سبحانه وتعالى سيذوق طعماً لا يمكن أن يذاق له نظير.

لتوقي الزلل في فهم الإسلام تجب دراسته بجميع جوانبه

لتوقي الزلل في فهم الإسلام تجب دراسته بجميع جوانبه ومن هنا فإن التصور الصحيح للإسلام أن يدرس بحذافيره، وأن يؤخذ بأطرافه، وألا يتخصص في تخصص واحد من تخصصاته، فمن أخذ أيضاً بالرقائق وحدها دون التطبيقات لابد أن يضل سواء السبيل؛ لأنه لا يمكن أن يعرف فرائض الله تعالى والسنن التي شرعها رسوله صلى الله عليه وسلم والنوافل والمندوبات التي أمر بها وحض عليها من تلقاء رقائقه ومن تلقاء عاطفته الجياشة وحماسه المستمر، فإنه لا يمكن أن يعرف هذا إلا من الفقه بالأحكام والتضلع في معرفة الحلال والحرام، ومن هنا كان لابد للإنسان من الجمع بين جوانب الإسلام المختلفة، وكل هذا يشمله هذا العنوان الكبير الذي هو الإسلام. وكثير من الناس إذا قرأ حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) ظن أن الإسلام محصوراً في هذه الدعائم، وهذا خطأ في تصوري، فهل تتصور أن المسجد محصور في الدعائم الأربع التي هي أركانه؟ لا يمكن أن يتصور هذا متصور، بل هذه الدعائم هي أسسه وهي أركانه وأقوى ما فيه، لكن لا يعني ذلك انحصاره فيها، بل للإسلام ذروة سنام، وله فرائض، وله أخلاق، وله تتمات وله تكميلات لا حصر لها، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ حذيفة بن اليمان عندما أوصاه في دعوته للناس: (ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره)، وهذا صريح في أن للإسلام أركاناً كبيرة وله تشريعات دون ذلك.

تعريف الإسلام لغة واصطلاحا

تعريف الإسلام لغة واصطلاحاً نحتاج إلى تعريف الإسلام في اللغة للانطلاق إلى أركانه الإيجابية والسلبية. فالإسلام في اللغة معناه: الاستسلام والمذلة والخضوع والتسليم بما يؤمر به الإنسان أو ينهى عنه. وهو في الاصطلاح يطلق إطلاقين: يطلق إطلاقاً عاماً على كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح، ويكون مرادفاً للإيمان. والإطلاق الثاني: إطلاقه على عمل الجوارح دون أن يدخل فيه الاعتقاد، وإنما يدخل فيه من عمل القلب النيات والحضور والخشوع ونحو ذلك فقط. وهذا الإطلاق الثاني هو الذي سنسير عليه على ترتيب حديث جبريل، وقد اجتمع فيه الإيمان والإسلام، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهما بما فسره به، ففسر الإسلام بأنه: أن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً. وهذه هي أركانه كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر الذي سقناه، ولا يقتضي ذلك انحصاره فيها، بل بين سبحانه وتعالى هذه الأركان للناس، فهي الحدود التي من تعداها وتجاوزها خرج من الإسلام، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جرح وحمل على الرقاب إلى بيته فأتاه رجل يذكره بالصلاة فقال: يا أمير المؤمنين! الصلاة فقال: نعم. ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. وكذلك فإن هذه الدعائم هي الأسس التي ينطلق منها الإنسان فتكون حاجزاً بين الإيمان والكفر، وتكون موجبة لما يترتب عليها من الحقوق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى).

الركن الأول للإسلام: الشهادتان

الركن الأول للإسلام: الشهادتان أول هذه الدعائم: الشهادتان. وهذا يدلنا على أهمية اللسان، فأول دعائم الإسلام متعلقة بهذه الجارحة التي جعلها الله واحدة في البدن كله، فقد تعددت العينان والأذنان والمنخران واليدان والرجلان وانفرد اللسان، ومع هذا فقد جعله الله تعالى بهذه المنزلة وبهذه المثابة، فهو ذو خطر عظيم، كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)، وهو أصل الخروج من الكفر والدخول في الإسلام، فالنطق بهاتين الشهادتين هو عنوان الإسلام، وهو الفاصل بينه وبين والكفر. فهاتان الشهادتان لهما أربع مراتب: المرتبة الأولى: أن يعلم الإنسان محتواهما. أن يعلم الإنسان علم اليقين أنه لا إله إلا الله، وأن يعلم كذلك بقلبه أن محمداً رسول الله وما يستلزمه ذلك من حقوق النبوة والرسالة، فهذه المرتبة الأولى من مراتب الشهادة الأربع، وهي: العلم بالشيء، وبها فسر قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18] , فالمقصود هنا العلم بذلك باليقين الجازم الذي لا يقبل الشك. المرتبة الثانية من مراتب الشهادة: النطق بها. والنطق بها عنوان عما في القلب، فإذا نطق بها الإنسان دون أن توافق مافي قلبه كان منافقاً، وهذا النطق هو الذي يتحاكم الناس على أساسه؛ لأن العلم الذي يسبقه خفي لا يطلع عليه إلا علام الغيوب، ونحن ما كلفنا أن نشق عن قلوب الناس، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أسامة: (هلا شققت عن قلبه؟ إنما نحن قوم نحكم بالظواهر)، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الوحي قد انقطع بالنبوة، ونحن قوم بحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، فمن أبدى لنا صفحة عنقه أخذناه). ومن هنا فإن المرتبة الأولى موكولة إلى علم الله، والمرتبة الثانية هي التي على أساسها تترتب الحقوق وتترتب التعزيرات والحدود. المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة: الالتزام بحقوقها. الالتزام بحقوق هذه الشهادة بعد النطق بها، فمن نطق بالشهادتين فلم يؤد الصلاة ولم يؤت الزكاة ولم يلتزم بدعائم الإسلام فإنه لم تكتمل شهادته بعد؛ لأن هذا هو المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة، ومن لم يؤدها فلا تتم شهادته دونها. أما المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة فهي الإلزام بمقتضاها بعد الالتزام به. الالتزام به هو أن يلتزم به الإنسان في نفسه، والإلزام بها معناه: أن يسعى لأن يلتزم الناس بها، بأن يبذل الجهد من أجل التزام الناس بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولذلك وجب على كل مؤمن أن يحب للناس أن يدخلوا في الإسلام وأن يشهدوا بشهادة الحق وأن يلتزموا بمقتضاها، وهذه المراتب الأربع لا تتم الشهادة بدونها. فمن علم مقتضى الشهادة بقلبه ثم لم ينطق بها لا تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها دون أن يلتزم حقوقها لم تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها والتزم حقوقها ولم يسع للإلزام بها لا تتم شهادته، فإذاً لابد من هذه المراتب الأربع التي هي مراتب الشهادة.

الركن الثاني للإسلام: الصلاة

الركن الثاني للإسلام: الصلاة ثم الركن الثاني والدعامة الثانية هي الصلاة. وهذه الصلاة ميزتها أنها صلة العبد بربه، وهي أوثق عراه به، فهي التي ينال بها المناجاة والقرب، وأقرب أحوال العبد من ربه وهو ساجد، لحديث: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وهي التي تفتح له فيها الخزائن، وتتقبل رغباته فيها، وتقال عثراته، ويكفر عنه بها ما عداها، وهي أول ما يبدأ به من الأعمال يوم القيامة، فإن نجت للإنسان وكملت له لم يضره ما سواها، وإن ردت عليه طويت كما يطوى الثوب الخلق ثم يضرب بها وجهه وترد عليه أعماله، نسأل الله السلامة العافية. ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (حد ما بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر). إن هذه الصلاة يجب أداؤها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى بشروطها وأركانها في أسبابها -التي هي الأوقات- على وجهها الصحيح، لكنها لا تتم بذلك، فأدنى الكمال فيها أن تأتي فيها بخشوعها، وأن تأتي فيها بسننها اللازمة، ثم بعد ذلك يأتي الكمال بما يكملها من المندوبات وهو أعلى الكمال، فإذا تم خشوعها وحضورها وسننها ومندوباتها وجاءت في وقتها وحصلت في جماعة وأداها الإنسان بكل إخلاص فيها وبكل إقبال على الله سبحانه وتعالى وتجرد له في وقتها وجعل هذا الوقت الذي خصصه للصلاة خاصاً لها لا يريد فيه أي عمل آخر فهذا هو أعلى الكمال، وهو الذي تكون الصلاة به ناهية عن الفحشاء والمنكر. ووجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر ستة أمور:

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر أنها حسنة تدعو إلى الحسنات

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر أنها حسنة تدعو إلى الحسنات الوجه الرابع من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الإنسان بصلاته يستقيل عثراته ويخفف ذنوبه، والذنب يدعو إلى الذنب، فالسيئة تدعو إلى السيئة، والحسنة تدعو إلى الحسنة، وفي كثير من الأحيان يعجل لبعض الناس جزاء سيئاتهم بالوقوع في سيئات أعظم منها، ويعجل لهم كذلك بعض ثواب حسناتهم بالتوفيق إلى حسنات أكبر منها، ومن هنا فإن الإنسان إذا خفف سيئاته فهذا مدعاة لأن يجتنب الفحشاء والمنكر؛ لأن الفحشاء والمنكر إنما يتجرأ عليها الإنسان بسبب تراكم الذنوب في قلبه حتى يظلم وتغلق مسام القلب عن الإيمان والخوف من الله سبحانه وتعالى، فتأتي الجراءة على الله سبحانه وتعالى. ويأتي من هذا المدخل أمن مكر الله عز وجل، فيقع الإنسان في الفحشاء والمنكر، أما إذا خفف الذنوب وأزال الصدأ عن القلب فحينئذ سيقبل الإنسان على ما يرضي الله سبحانه وتعالى ويعرض عما لا يرضيه، فتكون الصلاة بذلك ناهية عن الفحشاء والمنكر.

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر أنها تغسل الذنوب

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر أنها تغسل الذنوب الوجه الخامس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها بمثابه نهر على باب شخص ينغمس فيه في اليوم والليلة خمس مرات، فهل ترى يبقى من درنه شيء؟ كما قال رسول الله صلى الله عليه سلم. إن هذه الصلاة نور وضياء عظيم جداً ينور الله به قلوب عباده في الدنيا وفي الآخرة، فهي في الدنيا نور وعلامة لأهلها: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] , وهي في الآخرة علامة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فقد قيل له: بم تعرف أمتك يوم القيامة؟ فقال: (إن أمتي يردون علي الحوض غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، وكل هذا داع لأن تكون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر.

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر ما فيها من الخشوع

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر ما فيها من الخشوع الوجه السادس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الخشوع الذي فيها مقتض لأن يستحضر الإنسان عرضه على الباري سبحانه وتعالى، وأن يستحضر أن ملائكة يحضرون معه فيرفعون عنه ما كتبوه من أعماله في كل صباح ومساء، فيرتفعون إلى ربهم وهو أعلم، ومن شفقتهم ورحمتهم أنهم عندما يسألهم: كيف تركتم عبادي يقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. ومع هذا فإن كتابة الأعمال التي ترفع إلى الله سبحانه وتعالى إذا استحضرها الإنسان بصلاته لابد أن يقلع؛ لأن الإنسان إذا استحضر أن الملك يتقدم برفع عمله في الصباح فيقول: يا رب! عبدك فلان فعل الذنب الفلاني. ثم في المساء يتقدم إليه فيقول: يا رب! عبدك فلان مازال مصراً على الذنب الذي فعل في الصباح. ثم في اليوم الذي يليه يقول: يا رب! عبدك فلان مازال مصراً على هذا الذنب. وتتراكم السجلات حتى تكون مد البصر. إن الإنسان إذا لم يستحي من هذا فليفعل ما شاء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت). فهذه الأوجه كانت الصلاة منها ناهية عن الفحشاء والمنكر، ومع ذلك فهي متضمنة لذكر الله، وذكر الله أكبر كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر ما فيها من القرآن

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر ما فيها من القرآن الوجه الثاني من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن هذه الصلاة فيها القرآن، وكفى بالقرآن واعظاً، هذا القرآن كلام الله فيه أوامره ونواهيه وزواجره، وفيه وعده ووعيده، وفيه إرشاده، وفيه تهديده، وفيه ترغيبه، وفيه ترهيبه، فمن سمعه فلم يؤمن به فبأي حديث بعده يؤمن؟ من لم يستفد بالقرآن وعظاً وزجراً لا يمكن أن ينتفع بأي شيء آخر، والصلاة فيها تلاوة القرآن، فأنت تسمع هذا القرآن زاجراً فيكون زاجراً لك عن الفحشاء والمنكر، وبذلك تكون الصلاة ناهية لك عن الفحشاء والمنكر.

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر تناهي المصلين عن ذلك فيما بينهم

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر تناهي المصلين عن ذلك فيما بينهم الوجه الثالث من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن المصلين يجب عليهم أن يتناهوا عن الفحشاء والمنكر، فإذا حضرت معهم فسينهونك عما تقع فيه من المنكرات، وسيرشدونك إلى ما يقربك إلى الله تعالى من أنواع المعروف، وبهذا تزول الفروق بين الناس ويؤدي بعضهم إلى بعض الحقوق، وتتأكد الصلة وتقوى المحبة فيما بينهم.

النيات التي ينبغي استحضارها عند الذهاب إلى المسجد

النيات التي ينبغي استحضارها عند الذهاب إلى المسجد ومن هنا فإن نيات الذهاب إلى المسجد ينبغي أن تكون حاضرة في الأذهان، فهذا المسجد الذي نقصده ونكثر الخطا إليه لابد أن تكون نياتنا في قصده واضحة لأذهاننا. فالنية الأولى: الاستجابة لداعي الله عندما نسمعه ينادي: حي على الصلاة. حي على الفلاح. فنجيب داعي الله سبحانه وتعالى. النية الثانية: أداء ما افترضه الله تعالى علينا على الوجه الأكمل، حتى تكون صلاتنا حائلة بيننا وبين معصية الله تعالى مقربة لنا إلى مرضاته. النية الثالثة: ما وعدنا الله تعالى به من الأجر في الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وما جاء في الصف الأول، وغير ذلك من الأجر الكثير في قصد المساجد والمشي في ظلمات الليل إليها، كما قال رسول صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط). ثم بعد هذا نية الجهاد في سبيل الله، فقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم: (من ذهب إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً). كذلك نية تعليم من في المسجد ونية التعلم منهم، فكل ذلك مطلوب شرعاً، وإذا خرجت من المسجد ونويت أن تعلم من احتاج، فإذا رأيت مقصراً في أمر من أمور صلاته أو من أمور ديانته في المسجد خلوت به فعلمته بكل رفق وبكل لين، وسألته: هل فعل ذلك عن جهل أو عن علم؟ وسألته: لم فعلت هذا؟ فإن أجابك بعلم عرفت الوجه الذي قصده، وإن كانت المسألة خلافية لم تتعرض لها، وإن أجابك عن جهل أو استشفيت منه جهلاً بالمسألة علمته بكل لطف ورفق، فتكون بذلك من الذين يعمرون المسجد بتعليم العلم. ثم بعد هذا أن تتعلم منهم، وهذا التعلم لا يقتصر على ما تسمعه بأذنك، بل ما تشاهده بجوارحك من الليونة في أيدي المسلمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينوا في أيدي إخوانكم)، ومن استواء الصفوف، ومن الأخلاق الحسنة، ومن الابتسامة في وجه أخيك المسلم، وغير ذلك مما تتعلمه في المسجد. ثم بعد هذا نية الرباط، وهي أن تربط جوارحك في هذه الساعة عن معصية الله، فهذه الجوارح إذا خرجت إلى الشارع لابد أن تشاهد بعض ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وإذا ذهبت إلى البيت فكثيراً ما تقع أيضاً في معصية من معاصي الله، أما ساعتك التي تجلسها في المسجد بقلب سليم مقبل على الله فإن جوارحك ممسوكة عن المعصية، فأنت هنا معتكف عن معصية الله تعالى قد كبحت جماح جوارحك، فسمعك مشغول بذكر الله، ولسانك مشغول به، وبصرك مشغول عن النظر إلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى ما دمت في المسجد. كذلك من هذه النيات نية التماس البركة من المسجد، فهذه البقعة هي أحب البقاع إلى الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها)، وهذا سوق الله، وأنت جئت تريد أن تكون من المشترين في سوق الله وأن تكون من العمال لهذا السوق.

من فضائل صلاة الجماعة

من فضائل صلاة الجماعة كذلك من هذه النيات أن تنوي تكثير سواد المسلمين وإعزاز كلمة الدين، فإنه لا شيء أعظم في نفوس أعداء الله من هذه الصلاة التي يجتمع لها المسلمون، فيقفون فيها صفاً واحداً فيه غنيهم وفقيرهم، وكبيرهم وصغيرهم، وقويهم وضعيفهم، ومريضهم وصحيحهم، يستوون في الصف ويلين كل واحد منهم لأخيه ويقف إلى جنبه، ولا يتأذى بمسه له، ويتواضع له تمام التواضع، ويحس بشفقته عليه ورحمته له، ويقفون صفاً واحداً كما تصف الملائكة عند ربها. إن هذا من شعائر الإسلام التي يلزم أن نبرزها، وأن نكثر سواد المصلين، وأن نكثر سواد الحاضرين في المساجد، وأن يكون ذلك شاملاً لحضور الرجال والنساء والصبيان وغير ذلك، فكل فئات المسلمين ينبغي أن تجتمع هنا وأن تزول عنها الفوارق، وأن يقع بينها تمام الرحمة والمودة والمحبة في هذا المكان الذي منه انطلقت المحبة وانطلق الإيمان. كذلك فإن من نيات الذهاب إلى المسجد أن تنوي التماس بركته من الملائكة وصالح الإنس؛ فإن الملائكة يتعرفون على الناس على أبواب المساجد، وهم الذين تلتمس شفاعتهم، فإن الله تعالى ذكر أن حملة العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]. ومن هنا فإننا محتاجون إلى التعرف إلى الملائكة، ولا شك أن من عرف أن مسئولاً كبيراً أو وجيهاً من الوجهاء يجلس في هذا البيت ويتعرف إلى كل من فيه فإنه إذا كان ذا حوائج دنيوية سيقصد ذلك الوجيه ويتعرف إليه، وإن الملائكة وجهاء عند الله سبحانه وتعالى، وهم هنا في هذا المسجد، فتعرفنا عليهم يقتضي قرباً، فشفاعتهم ودعوتهم واستغفارهم وردهم للسلام وإجابتهم للدعاء بظهر الغيب كل ذلك نحن محتاجون إليه، فمن دعا لأخيه بظهر الغيب كان عند رأسه ملكان يقولان له: (آمين ولك بمثله). كذلك فإن حظور الصلاة في الجماعة مدعاة للتغلب على شهوات النفوس، فإن الإنسان قد لا يستجاب دعاؤه في نفسه بسبب معصية ارتكبها كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يستجب دعاؤه، أو كأكل الحرام، فمن عاش من الحرام لا يستجاب دعاؤه، فإذا احتاج إلى استجابة الدعاء ذهب إلى المسجد فاشترك مع المصلين في دعائهم، يقرءون جميعاً في صلاتهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، والله سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين يعطي قبل المسألة ويعطي بعدها، وأنت محتاج إلى ما عنده: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، ومن هنا احتجت إلى أن يستجاب دعاء الناس حتى تدخل في جملة المصلين ويستجاب دعاؤك بذلك. كذلك فإن قول المصلين: (آمين) بعد الفاتحة شعيرة من شعائر الإسلام أيضاً يحسدهم عليها اليهود، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم ما تحسدكم عليه يهود: آمين)، فهذه الكلمة عظيمة جداً في الميزان، وشهود المصلي لها عندما يقول الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] , فيحضر ذلك فيقول: (آمين)، وإذا صادفت تأمين الملائكة غفر له، وهذه الكلمة القليلة الحروف السهلة على اللسان تصادف تأمين الملائكة فيغفر للإنسان، ولهذا حسدنا اليهود عليها حسداً شديداً، وهي متاحة لنا في كل الأوقات، فبالإمكان أن تستقيل عثراتك وتغفر ذنوبك في كل ركعة بعد أن يقول الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] , وهذا فضل عظيم وأجر كبير ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر استحضار اطلاع الله على العبد

من أوجه نهي الصلاة عن المنكر استحضار اطلاع الله على العبد الأمر الأول: أن الإنسان إذا سجد لله سبحانه وتعالى وهو يعلم أنه مطلع على مافي قلبه، مطلع على قرارة نفسه، ويعلم الحامل له على هذا، وأن الله يعلم وساوس نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد فإنه سيستحيي منه ويستحيي أن يناقض نفسه بأن يكون هنا في المسجد ساعياً للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى خائفاً من ذنوبه وزلاته، فإذا خرج من المسجد بدأ يجمع الذنوب التي كان يستقيلها في المسجد، فهذا التناقض الواضح يخافه الإنسان فلذلك لا يفعله المصلون. فالمصلون حقيقة الصلاة لا يمكن أن يقعوا في هذا التناقض، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]. ويقال: إن أبا الحسن الشاذلي حين جاء إلى أهل الإسكندرية سألهم فقال: أتجزعون وتهلعون؟ قالوا: نعم. قال: أنتم إذاً لا تصلون. وكان قد سألهم أولاً فقال: أتصلون؟ قالوا: نعم. قال: أتجزعون وتهلعون؟ قالوا: نعم. قال: إذاً أنتم لا تصلون! قالوا: أفنتركها؟ والمقصود عنده التمام الأكمل وأعلى درجات الكمال في الصلاة، فأعلى درجات الكمال في الصلاة هو أن تكون هذه الصلاة على هذا الوجه الذي ذكرناه، فيعفر الإنسان جبهته لله وهو يستقيله عثراته ويتوب من سيئاته ويعاهده أن لا يعود إلى ما لا يرضيه، ويسعى بذلك أن يكون حابساً لجوارحه في المسجد عن المعصية.

أنواع التعبدات التي تشتمل عليها الصلاة

أنواع التعبدات التي تشتمل عليها الصلاة الصلاة مشتملة على ثلاثة أنواع من أنواع التعبدات:

النوع الأول: التعبدات القلبية

النوع الأول: التعبدات القلبية النوع الأول: التعبدات القلبية. وبدايتها بالنية، فالإنسان ينتفض من هذه الدنيا ويخرج منها مقبلاً على الله سبحانه وتعالى، وعلامة نبذه للدنيا أنه إذا كبر تكبيرة الإحرام نبذ الدنيا بيديه وراء ظهره، ورفع اليدين هنا رمز لنبذ الدنيا وراء ظهره والإقبال على الله سبحانه وتعالى، ولهذا يجتهد في استقبال القبلة، ويجتهد في تسوية الصف؛ لأنه قد تخلص من الدنيا وأقبل على الباري سبحانه وتعالى، ولذلك لا يمتخط ولا يتفل أمام وجهه ولا عن يمينه، بل يجعل ذلك تحت رجله أو عن يساره. ثم هذه النيات مقتضية كذلك لأن يسعى الإنسان لتنميتها؛ لأن هذه النية هي إكسير الأعمال، فهي التي تنميها بأضعاف مضاعفه أعني النيات التي ذكرناها في القدوم إلى المسجد، ونيات سواها، ونيات في أداء الصلاة نفسها بالتقرب إلى الله بما افترضه، وبمنافسة ملائكته، وباتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبالتماس موعوده، وبالخوف من عقابه؛ كل هذه النيات مطلوبه شرعاً. وإن ما يذكره بعض الناس من أن عبادة التجار كما يسمونها هي عبادة من يخاف العقوبة ويرجو الثواب إن ذلك التصور غير صحيح؛ لأن الله تعالى ذكر الأنبياء عليهم الصلاة السلام بقوله: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] , وهم أكمل الناس حالاً. وكذلك الذين رضيهم الله تعالى من عباده المؤمنين قال الله في وصفهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] , إن الخوف من الله والطمع فيه ليس نقصاً في الإيمان، بل هو من معرفته سبحانه تعالى؛ لأن من عرفه حق المعرفه عرف أنه لو اجتمع الإنس الجن في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. فمن هنا لزم أن ينوي الإنسان هذه النيات كلها في صلاته، فينوي أداء ما افترضه الله عليه، وينوي زيادة القرب منه والخشوع بين يديه والانتساب إليه، وينوي كذلك الخوف منه ورجاء موعوده والخوف من عقابه، وينوي كذلك منافسة الملائكة وأهل الخير في عبادته سبحانه وتعالى، فهو المستحق لهذه العبادة.

النوع الثالث: التعبدات الفعلية

النوع الثالث: التعبدات الفعلية النوع الثالث من أنواع العبادات في الصلاة هو الأفعال. فذكرنا النيات وهي عمل القلب، والأقوال وهي عمل اللسان، والنوع الثالث من التعبدات في الصلاة هو عمل الجوارح، وهذا أهم شيء فيه القيام والسجود، فهما طرف الصلاة، القيام طرفها الأعلى؛ لأن الإنسان ينتصب فيه، والسجود طرفها الأدنى؛ لأن الإنسان يخفض فيه أعاليه ويرفع فيه أسافله، وبذلك فهما الطرفان, وبينهما واسطتان وهما الركوع والجلوس، فهذه هي أفعال الصلاة، وهذان الطرفان اختلف فيهما أيهما أفضل: طول القيام أو كثرة السجود؟ قالت طائفة من أهل العلم: كثرة السجود أفضل؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ولأن السجود شرع دون قيام كسجود التلاوة، وسجود الزلزلة، وسجود الشكر وغير ذلك. وقالت طائفة أخرى: بل القيام أفضل؛ لأن الإنسان فيه يتلذذ بقراءة القرآن وبحقيقة المناجاة، وهو الذي يبتدئ به صلاته ويفتتحها به. إلا أننا نقول: إن الله سبحانه تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64]، فبدأ بالسجود قبل القيام، ولا شك أن دلالات القرآن معجزة، فهذا مشعر بتفضيل السجود على القيام. ومع ذلك فإن القيام عبادة فعلية فاضلة جداً، فالإنسان ينتصب لرب العالمين ويتذكر الوقوف بين يديه عندما يأتي يوم القيامة حافياً عارياً غير مختون، ينظر أيمن منه فلا يرى إلا عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا عمله، يأتي متجرداً لله سبحانه وتعالى، فينتصب ويقف بين يديه كما يقف الناس لرب العالمين يوم القيامة. وبهذا ينبغي أن يستحضر الإنسان إذا وقف في الصلاة هذا الوقوف، وبذلك ينصرف عن الانشغالات الأخرى، ولا يكثر الحركة ولا يكثر التصرفات المختلفة، فهو واقف بين يدي ديان السماوات والأرض يناجيه ويخاطبه. ثم الركوع الذي هو المرحلة التي تلي القيام، وهو أيضاً إشعار بالمذلة لديان السماوات والأرض لكبريائه وجلاله، وأدب معه. ثم بعد ذلك الجلوس، وهو استراحة الإنسان في الصلاة ليتذكر ما يناجي به في السجود. وكذلك وداع الصلاة، ففيه تسليمها الذي هو التحليل، فهذه هي الأركان الفعلية. والتحسينات الفعلية الأخرى منها الرفع أولاً، وقد ذكرنا أنه نبذ للدنيا وراء ظهره. ومنها القبض، وحكمته كذلك رباطة الجأش وإمساك القلب، ومنع اليدين من التصرف؛ لأن الأنسان إذا قبض يديه واستشعر أن يديه في عبادة لايمكن أن يكثر الحك ولا تقليب ملابسه ولا تصرفاته الأخرى، أما إذا كانت يداه في حرية كاملة فربما زلت به قدمه فأوقع به الشيطان في بعض الحركات أو الحكات أو غير ذلك. كذلك الالتفات بالسلام، فهو من فضائل الأفعال في الصلاة، فإذا التفت الإنسان عن يمينه وسلم والتفت عن شماله وسلم فإن ذلك مقتض للخروج من جلال الصلاة وإدراك منه لعظمة ما كان فيه، وتسليم على من معه من المسلمين، وسعي متجدد لأن يجدد العبادة مرة أخرى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، هذه هي الصلاة.

النوع الثاني: التعبدات القولية

النوع الثاني: التعبدات القولية أما النوع الثاني من أنواع العبادات في الصلاة فهو العبادات القولية. وهذه من أعظمها التكبير، فالتكبير يقتضي من الإنسان ألا يلتفت إلى ما سوى الله، فالذي يقول: (الله أكبر) بلسانه وبقلبه يعلم أن ما سواه لا يساوي شيئاً، وأن الإقبال عليه يقتضي منه تمام الخشوع والمذلة وتمام الخوف منه ورجائه والإعراض عما سواه. ومن هنا فإن هذه الكلمة إذا قالها العبد ملأت ما بين السماء الأرض، وهي رمز القوة في الإسلام، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جيوشه إذا ارتفعوا أن يكبروا وإذا انخفضوا في بطون الأودية أن يسبحوا، فإذا واجه الإنسان أي شيء يستعظمه ويستكبره فإن عليه أن يقول: الله أكبر. فإذا صعد جبلاً أو صعد مكاناً مرتفعاً فعظم في نفسه ينبغي أن يزيل عظمة الحادث من نفسه ويتطهر منها فيقول: الله أكبر. وإذا نظر إلى أي شيء يعجبه يقول: الله أكبر. فيتصاغر لديه ما هو فيه، وإذا كان في مكان منخفض سبح الله سبحانه وتعالى وعظمه؛ لأن هذا الانخفاض يذكره بخلاف الصفة وضدها، فالله مخالف للحوادث وهو العلي الحميد، فيذكره بذلك فيسبحه سبحانه وتعالى ويعظمه. إن التكبير ينبغي أن يكون بقلب حاضر، وأن يدرك الإنسان معناه، وأن يستشعر عظمة من يناديه إذا كبره، وأن يستشعر أن تحريم الصلاة التكبير، وأنه الآن دخل في حريم عظيم، فإنه إذا كبر دخل في مكان في حصن مغلق لا ينبغي أن يخترقه شيء، وإذا كان كذلك تحصن من الشيطان الرجيم ومن غوائله ونفخه ونفثه ووساوسه، وكذلك تجنب وساوس النفوس وأمور الدنيا، وحاول أن يتخلص من كل ذلك وأن يقبل على الله.

من التعبدات القولية في الصلاة الفاتحة

من التعبدات القولية في الصلاة الفاتحة ثم بعد هذا تأتي الفاتحة التي جعلها الله تعالى هي الصلاة فيما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: الله حمدني عبدي. فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي -وفي رواية: فوض إلي عبدي- هذا لي ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)، فجعل هذه الفاتحة هي الصلاة، قال: (قسمت الصلاة)، ولم يذكر من الصلاة إلا الفاتحة، فدل هذا على عظمة هذا القول من أقوال الصلاة. وإن أبلغ الثناء على الله سبحانه تعالى هو ما أثنى به على نفسه في افتتاح كتابه، وهو هذه الآيات العظيمات التي يبتدئها الإنسان كأنه غائب، فيأتي بلفظ الاسم الذي هو مشعر بالغيبه فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، ولم يقل: الحمد لك يارب العالمين، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، وأتى بهذين الاسمين المشتقين من هذة الصفة كذلك على وجه الغيبه، وكذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أتى بهذه الصفة أيضاً على وجه الغيبة، لكن إذا بلغ هذا المستوى من الثناء على الله وتنزيهه وحمده انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وهذا الانتقال هو الذي يسميه أهل البلاغة التفاتاً، وفيه يقول السيوطي رحمه الله تعالى: فالعبد إذ يحمد من يحق له ثم يجي بالسمة المبجلة فكلها محرك الإقبال لمالك الأمور في المآل فيوجب الإقبال والخطابا بغاية الخضوع والطلابا للعون في كل مهم يقصد وقس عليه كل ما قد يرد فلذلك يشرع للإنسان أن يقف على رأس كل آية من آيات الفاتحة، ويستلذ بهذا الحوار العظيم التي أتيحت له فيه الفرصة ليحاضر ربه سبحانه وتعالى. إننا جميعاً نغبط موسى عليه السلام أن الله جعله كليمه، وهذه منزلة عظيمة امتن الله عليه بها، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] , وأنت أيها المصلي عندما تقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] يخاطبك الله سبحانه وتعالى: (حمدني عبدي)، وإذا استحضرت هذا المكان الذي أنت فيه فإنك تنال لذة لا يعدلها شيء، تنال مقام المناجاة الحقيقية، كأن الله يخاطبك وقد وصلت إلى هذا المستوى فيجيبك ديان السماوات الأرض. ومن هنا شرع لك أن تقف على رأس كل آية لتنال لذة المناجاة، فموسى عليه السلام عندما خاطبه ربه فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] استرسل معه في الجواب ولم يقتصر على طبق السؤال للذة المناجاة، فقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] , وطبق السؤال أن يقول: (هي عصاً) فقط وينتهي الكلام، لكنه قال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] , ليتلذذ بمناجاة الله سبحانه وتعالى.

على الإنسان أن يطيل في صلاته لمناجاة ربه

على الإنسان أن يطيل في صلاته لمناجاة ربه ومن هنا فإن على الإنسان إذا أقبل على الصلاة أن يطيل النفس في الصلاة، وأن يعلم أن هذا الوقت الذي يقتطعه من وقته هو الوقت الذي أذن له الله بالمناجاة فيه، فلا تطول عليه ولا تثقل عليه فإنها لا تثقل على الخاشعين، لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطيل في الركوع والسجود، ويطيل الركعتين الأوليين ويخفف الركعتين الأخريين، ويجعل ركوعه قريباً من قيامه، وسجوده قريباً من ركوعه، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه عندما صلى وراء عمر بن عبد العزيز: (ما صليت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى. فقيل له: ماذا كان يصنع؟ فقال: كان يطيل الركوع والسجود ويخفف القيام والجلوس). وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما شكاه أهل الكوفة إلى عمر أنه لا يحسن الصلاة: (بالله الذي لا إله إلا هو لقد صليت بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: ذلك الظن بك يا سعد، فماذا كنت تصنع؟ قال: كنت أركد في الأوليين وأخف في الأخريين) (أركد) معناها: أطيل. إن كثيراً من الناس تطول عليه هذه الصلاة، وتشق عليه مشقة عظيمة، ولا يشق عليه الوقوف في الشارع وانتظار سيارات الأجرة لحاجته، فيمكث نصف ساعة أو أكثر على الشارع ينتظر السيارات، ويقضي كثيراً من أوقاته في متابعة البرامج الإذاعية أو التلفازية، ويجلس للمناقشة والكلام العادي فتمر عليه الساعات دون أن يشعر بطولها، وهو الآن يناجي ربه سبحانه وتعالى، يناجي ديان السماوات والأرض، فلماذا تطول عليه هذه المدة طولاً شديداً؟ ولماذا يضن على نفسه بهذه اللحظات التي يتطهر بها ويقبل بها على الله سبحانه وتعالى؟ إن هذا من عمل الشيطان لا محالة، وإن كثيراً من الناس لا تأتيه أشغاله وانشغالاته ولا يضيق وقته إلا إذا دخل المسجد وجاء إلى الصلاة، وإن العجيب في هذا الأمر ما شاهدناه من بعض الناس، فنحن نعلم علم اليقين أننا يجب علينا أن نؤمن بالغيب، وأن نعلم أن الشيطان يوسوس للإنسان في الصلاة، ولكن كثيراً ما يخرج هذا عن عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فنرى الإنسان العاقل اللبيب إذا دخل الصلاة فعل أفعالاً لم يكن يفعلها في غير الصلاة كأنه يتخبط من مس الشيطان، ألا تشاهد هذا؟ تراه يعبث بأظافره، ويمس بأصابعه ريقه ويمسح به بعض الأماكن من بدنه، ويتصرف تصرفات غير مضبوطه، ويكثر الحركة، بل كثيراً ما يلتفت في الصلاة، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم)، وقال: (لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه). إن ما نشاهده من حركات بعض الناس وتصرفاتهم في الصلاة يخرج وسوسة الشيطان من أن تكون من عالم الغيب إلى أن تكون من عالم الشهادة، فنحن نراها ونعلم أنه لو كان في خارج الصلاة لم يتصرف هذه التصرفات أبدا. وتشاهد أيضاً أن كثيراً من الناس يأتيه الشيطان بالوسوسة في الطهارة ولا يأتيه بالوسوسة في غيرها، فترى هذا حتى يكون من عالم الشهادة لا من عالم الغيب، تراه إذا عد النقود لا يوسوس في عدها، إذا عد ثلاثة آلاف لا يمكن أن يحسبها أربعة أو خمسة، لكن إذا عد ثلاث غسلات توهمها ثلاثاً أو خمساً وهكذا، فيأتي الوسواس في أمور العبادة وفي أمور الصلاة، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الشيطان الموسوس في الصلاة شيطان اسمه (خنزب)، وأن من وجده فإنه عليه أن يستعيذ بالله منه، وأن ينفث عن يساره ثلاثاً)، كما أخرج ذلك مسلم في الصحيح من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه. وكذلك شيطان الطهارة فهو شيطان اسمه (الولهان)، وهو يوسوس للإنسان في طهارته.

الركن الثالث للإسلام: الزكاة

الركن الثالث للإسلام: الزكاة

وعيد مانعي الزكاة

وعيد مانعي الزكاة والذين يمنعون الزكاة يتعرضون لكثير من الوعيد الشديد، فهذا الوعيد قسمان: قسم منه للأمة بكاملها، وفيه قول الرسول صلى الله عيله وسلم: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا). القسم الثاني يختص بالمانع نفسه الذي لم يزك ماله وكنزه، فهذا متوعد بالوعيد الشديد في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]. إن الفاجر والكافر ومانع الزكاة يوم القيامة ينفخه الله تعالى ويضخمه حتى يكون مقعده من النار كما بين مكة والمدينة، ويكون كل ضرس من أضراسه كجبل أحد، ويكون جنبه بهذه المثابة، فيؤخذ ماله ويؤتى به لا يفقد منه أوقية ولا خمس أواق ولا عشر أواق ولا عشرين أوقية، فيذاب ويوضع، لا يوضع منه درهم فوق درهم ولا دينار فوق دينار، حتى يكسى به جنبه ووجهه وظهره نسأل الله السلامة العافية، كلما تغير جلده أحمي مرة أخرى في نار جهنم وأعيد إليه، فلذلك يعرض جنبه ووجهه حتى يلصق به كل ماله، لا يفقد منه ديناراً ولا درهماً ولا يجعل دينار فوق دينار ولا درهم فوق درهم، نسأل الله السلامة العافية. كذلك فإن من منع زكاة متوعد بعذاب القبر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن مانع الزكاة إذا وضع في قبره أتاه شجاع أقرع في قبره، ولا يزال يلدغه ويؤذيه) , وهذا نوع من أنواع عذاب القبر، فمنع الزكاة من أسبابه. وكذلك من العقوبات المعجلة لمانع الزكاة في الدنيا بغض الناس له، فالناس جميعاً يبغضون مانع الزكاة ويبغضون البخيل، حتى البخلاء بعضهم يبغض بعضاً، ومانعوا الزكاة بعضهم يبغض بعضاً، وهذه حكمة واضحة معروفة، فهي من العقوبات الدنيوية المعجلة. إن هذه الزكاة لو أخذ بحقها الصحيح ووزعت بين الناس بالعدالة التي بينها الله سبحانه وتعالى حيث لم يكل قسمتها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، بل تولى قسمتها في كتابه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} [التوبة:60] , ولو وزعت هذا التوزيع الصحيح لما حصلت مجاعة في الأرض، ولما وجد فيها من الفقراء من لا يجد لقمة عيشه ويبيع دينه بسبب فقره، أو يقع في كثير من المناكر بسبب حاجته، فلو أديت هذه الزكاة على الوجه الصحيح لحالت دون كثير من الرذائل. فكثير من الرذائل من ورائها الفقر، ولهذا جعل الرسول صلى الله عيله وسلم الفقر قريناً للكفر في قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)، فالفقر داع لكثير من الرذائل، فيجد الإنسان فيه مذلة وطمعاً في غير الله، وخوفاً من غير الله، وكذلك يسعى في كثير من الأحيان للحصول على المال بأوجه غير صحيحة، كالسرقة والغش والخداع وغير ذلك.

من حكم الزكاة

من حكم الزكاة الركن الثالث من هذه الأركان بعد الشهادتين والصلاة هو الزكاة. هذه الزكاة حكمتها الأصلية إبداء مسئولية الأغنياء عن الفقراء فيما استخلفهم الله تعالى فيه وجعله تحت أيديهم من المال، وأن يعلموا أن المال ليس ملكاً لهم، فلم ينالوه ميراثاً عن آبائهم ولم ينالوه بحظوظهم وكد جوارحهم وأعمالهم، بل نشاهد كثيراً من الناس أقوى منهم أبداناً وأقوى عقولاً وتفكيراً وأفرغ بالاً، ويسعون لجمع هذا المال السنوات ذوات العدد فلا يصلون منه إلى طائل. ونجد كثيراً من الناس يعيش عمراً طويلاً ويسخر عمره كله لجمع المال ومع ذلك يموت فقيراً، فعلم هنا أن المال رزق الله، وأنه ليس ملكاً للإنسان وإنما هو أمانة عنده، وهو وكيل فيه ينتظر العزل في كل حين، وعزله إما بموته، وهذا العزل النهائي، فإذا مات لم يصحب من ماله إلا كفنه وحنوطه، إذاً هذا العزل الأخير. وإما أن يعزل بما دون ذلك كالفقر، والجائحة التي تجتاح ماله، والديون التي تقضي على تصرفاته وتحجر عليه، أو بوجود الأولاد الذين هم مبخلة مجبنة، فالإنسان يمكن أن يعطي ويجود مالم يكن له أولاد، أما إذا كانت له ذرية صغار فإن ذلك داع للجبن والبخل، ولهذا ضرب الله لنا هذا المثل العظيم في كتابه في قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266]، فقوله: (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ)، هذا داع لحرصه على المال وجمعه له، ومن هنا فإن من أوجه العزل أن يكون للإنسان ذرية. وكذلك من أوجه العزل الكبر، فالهرم متعب للجسم وناقص للعقل ومانع من التصرف في كثير من الأمور، فلابد أن يصل الإنسان إلى هذا الكأس الذي يشرب منه كل الناس، وينتقل إلى هذا المكان الذي ينتقلون إليه جميعاً، ومن لم يمت في قوته وشبابه يصل إلى الهرم المفند الذي يمنعه تصرفاته وملذاته. وبعد هذا أنواع أخرى من أنواع العزل، كالمرض المانع من التصرف، وكثير من الناس تشل جوارحه في حياته فيعزل بذلك عن التصرف في ماله، فيرى ماله يتصرف فيه الآخرون، ويمرض فترات من الزمن فيرى أن كثيراً من الناس لم يكونوا مؤتمنين على ماله قد اؤتمنوا عليه وسعوا فيه بما لا يرضيه، فهذه أنواع من أنواع العزل. إن الذين ولاهم الله على هذا المال جعل عليهم وفي أعناقهم أمانة عظيمة، وهي حقوق الفقراء الذين خلق الله لهم هذا المال، فالله خلق المال للناس أجمعين، وجعله تحت أيدي بعضهم ليكون مسئولاً عمن سواه، وشرفه بذلك: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32]. وكذلك من حكمة الزكاة وجود الترابط وحصول الألفة بين المجتمع، فإن الأغنياء يعطون جنس مالهم إلى الفقراء، فتؤخذ من أغنيائهم زكاة ترد على فقرائهم كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن من حكمة الزكاة أن يستشعر الإنسان أن هذا المال الذي تحت يده ليس مملوكاً له، وفيه حق لابد من إخراجه، ويستشعر حق الله تعالى فيه فيخرجه.

الركن الرابع للإسلام: صيام رمضان

الركن الرابع للإسلام: صيام رمضان ثم بعد هذا يأتي الركن الرابع وهو صيام شهر رمضان. وهذا الصيام حكم مشروعيته كثيرة متعددة، ومنها التشبه بالملائكة الكرام الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فليست لهم ساعة للأكل ولا ساعة للشرب، ولا ساعة للنوم ولا ساعة للراحة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ونحن ننافسهم ونسعى للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يتقربون به إليه. فمن هنا شرع الله لنا الصيام وأثاب عليه بالثواب الجزيل الذي يقارن عمل من مضى بل يزيد على ذلك، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مقارنة هذه الأمة والأمتين السابقتين -اليهود والنصارى- كرجل دعا من يعمل له إلى نصف النهار على قيراط واحد، فعمل اليهود إلى نصف النهار -إلى صلاة الظهر-، وهذا العمل الطويل نالوا عليه قيراطاً واحداً، ثم دعا من يعمل له من الظهر إلى العصر على قيراط، فعمل النصارى مابين الظهر والعصر واستحقوا قيراطاً واحداً، ثم دعا من يعمل له من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين فجاءت هذه الأمة، فغضب اليهود النصارى لأن الأجر قد ضوعف، فأخبرهم ربنا سبحانه وتعالى أن هذا فضله يختص به من يشاء. فهذه الأمة شرفها الله تعالى بتضعيف الحسنات وبعدم تضعيف السيئات، ومن هنا فإنه: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله)؛ لأن رمضان في الغالب ثلاثون يوماً، والستة أيام عليها تكون ستة وثلاثين يوماً، وإذا ضربتها في عشرة -لأن الحسنة بعشر أمثالها- تكون ثلاثمائة وستين يوماً، وهي عدد أيام السنة، وبذلك يكون الإنسان كأنما صام السنة بكاملها. ومن حكمة الصيام كذلك أن يحس الأغنياء بمرارة الحرمان، فُيرحَم الفقراء، ولهذا يقول الشاعر: لعمري لقد عضني الجوع عضةً فآليت أن لا أمنع الدهر جائعاً وكذلك فإن من حكم هذا الصيام أنه مخفف لشهوات النفوس كابح لها مضيق للعروق على الشيطان، فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا ضيق عليه العروق بالصيام انشغل عنه، وقد أعاننا الله في رمضان بتصفيد المردة وبفتح أبواب الجنة وإيصاد أبواب النار، وبتنزل الرحمات، وجعله شهر عبادة، وجعل فيه ليلة هي ليلة القدر خير من ألف شهر يزداد بها عمر الإنسان بثلاث وثمانين سنة وزيادة؛ لأن فائدة العمر التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وعبادته، والذي يقوم هذه الليلة في السنة يزداد عمره على الأقل بثلاث وثمانين سنة وبضعة أشهر، فيكون كأنما عاش هذه الفترة بليلة واحدة. وكذلك فيه العشر الأواخر التي هي أفضله، وقد شرع الله سبحانه وتعالى صيامه وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، ورتب على ذلك مغفرة الذنوب، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وكذلك فهو شهر الجود والبذل، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه سلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يلقاه في كل ليلة من ليالي رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).

الركن الخامس للإسلام: الحج

الركن الخامس للإسلام: الحج

من حكم الحج تعظيم شعائر الله

من حكم الحج تعظيم شعائر الله وكذلك فإن الإنسان يستحضر أن الذين يشهدون الموقف كثير منهم لن يشهده أبداً، فلا يعود عليه هذا اليوم إلا وهو تحت التراب وبين الجنادل، وأن الذين شهدوه كذلك من الماضين قد تفاوتوا هذا التفاوت العجيب، وأن هذا المكان على مر الزمان يأتي فيه الناس لتجديد هذا العهد مع الله سبحانه وتعالى. ويستحضر الإنسان شعائر الله سبحانه وتعالى وما جاء في تعظيمها، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] , ويستحضر أن الصفا والمروة من شعائر الله، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] , ويستحضر كذلك هذا البيت العتيق الذي أعتقه الله تعالى من العبادة في الدنيا فلم يعبده المشركون الذين كانوا يعبدون الحجارة، وإذا لم يجد أحد منهم ما يعبده من الحجارة جمع ربوة من تراب فحلب عليه شاة فإذا يبس لبنها اتخذه صنماً، وكان عمر بن الخطاب في الجاهلية يتخذ صنماً من تمر، فإذا جاع أكله ثم اتخذ صنماً آخر، ومع هذا فلم يعبدوا هذه الكعبة، فقد أعتقها الله تعالى وشرفها عن ذلك، فلم يعبدوا الكعبة ولم يعبدوا الحجر الأسود ولم يعبدوا مقام إبراهيم. ومن هنا يستحضر الإنسان ما جاء في حديث ابن عباس: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه أو قبله فكأنما قبل يمين الرحمن)، وكذلك ما جاء في استجابة الدعاء في الطواف وفي السعي، وما جاء في استجابة الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى وبعد رمي الجمرة الوسطى، وما جاء في استجابة الدعاء بعرفات، وما جاء في الوقوف بجمع بمزدلفة، ذلك الوقوف الذي بينه الله تعالى في كتابه وأمر به: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:198 - 199].

من حكم الحج تجديد العهد مع الله بالعبودية

من حكم الحج تجديد العهد مع الله بالعبودية كذلك من مشاهد القيامة التي يذكر بها الحج الحشر في عرفات، فإن الناس يجتمعون في هذا الوادي الذي هو بطن نعمان الذي أخرج الله فيه من آدم ذريته، كما في الحديث: (مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسحه ثانية فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون. وحينئذ دعاهم الله سبحانه وتعالى فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا). فيأتي المؤمنون لتجديد هذا العهد، فيجددون هذا العهد مع الله في كل سنة، هذا المكان الذي قلنا فيه: (بلى شهدنا) نعود إليه في هذا اليوم من كل سنة فنقول: بلى شهدنا. ولذلك فأفضل الدعاء دعاء يوم عرفه، وأفضل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) كما في الحديث، فيجدد الناس بذلك العهد وينتظرون الوعد. وقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالهن في يوم فمات دخل الجنة، ومن قالهن في ليلة فمات دخل الجنة)، هذا الدعاء العظيم الذي هو سيد الاستغفار فيه تذكر لهذا الموقف؛ فإن الإنسان يقول فيه: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك)، ويقر بذلك بالربوبية، (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، وهذا إقرار بالإلهية؛ لأنه حقق أنه لا يعبد من سواه ولا يلتمس نفعاً ولا ضراً إلا منه سبحانه وتعالى، فلذلك قال: (وأنا على عهدك)، وهذا العهد هو الذي عاهدهم عليه عندما قال: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى. (ووعدك) الوعد الذي وعد على ذلك، ووعد الله لعباده هو أن حق العباد على الله أن يدخلهم الجنة إذا آمنوا به واتبعوا أوامره واجتنبوا نواهيه، فهذا هو وعده. (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، فيجدد الإنسان هذا العهد، ويتذكر من مضى ومن أتى في القرون السابقة، وأن جميع الأنبياء قد حجوا هذا البيت من لدن إبراهيم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ذكرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مرتين، فعندما مر بفج الروحاء استقبل وادياً فسأل عن اسمه فقيل: الأبيض. فقال: (لكأني بيونس بن متى يهبط بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية)، ثم لما مر بثنية (هرشا) سأل عن اسمها فعرف بها، فقال: (لكأني بموسى بن عمران يهبط بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية على ناقة له حمراء خطامها من ليف).

من حكم الحج تذكر يوم القيامة

من حكم الحج تذكر يوم القيامة وكذلك من حكم الحج الواضحة تذكر يوم القيامة، فمشاهد يوم القيامة يشاهدها الإنسان في الحج، فيرى الناس يحشرون من مشارق الأرض ومغاربها ويجتمعون في هذه البقاع الضيقة، ويراهم يزدحمون هذا الازدحام الشديد، ويعلم أن منهم من يقبل حجه ومن يرد عليه، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن العبد إذا كان زاده من حلال وراحلته من حلال وجاء بقلب سليم فنادى: (لبيك اللهم لبيك) ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، حجك مبرور وسعيك مشكور وذنبك مغفور، زادك حلال وراحلتك حلال، وإذا كان على خلاف ذلك فنادى: (لبيك اللهم لبيك) ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، حجك غير مبرور وسعيك غير مشكور وذنبك غير مغفور. ويرد عليه عمل). ومن هنا فإن الناس في منصرفهم إلى الحج ما بين اثنين: أحدهما: من غفر له ما تقدم من ذنبه وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهو من حج فلم يرفث ولم يفسق. وثانيهما: من أتعب جسمه وأنفق ماله وأفسد وقته وعاد شراً مما كان، نسأل الله السلامة والعافية، فمن هنا يتذكر الإنسان حال الناس يوم القيامة وحشرهم.

الحج وتقوية الروابط بين المسلمين

الحج وتقوية الروابط بين المسلمين والركن الخامس والدعيمة الخامسة من هذه الدعائم هي حج بيت الله العظيم. وهذا البيت هو منطلق حضارة البشرية، فهو أول بيت وضع للناس، وقد شرع الله تعالى لعباده المؤمنين أن يقصدوه من مشارق الأرض ومغاربها ومن كل فج عميق، ورتب على ذلك الأجر الكثير، ورتب عليه صلاح أمورهم، فإن المسلمين علم الله أنهم سينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها، وقد شرع لهم الأخوة فيما بينهم، ولا يمكن أن تتأكد هذه الأخوة وتوصل هذه الروابط إلا أن يجعل لهم مؤتمر سنوي يجتمعون فيه، وقد جعل الله تعالى هذا المؤتمر السنوي الموسم، فيجتمع المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها في الحج، فيأتي فيه أغنياؤهم وفقراؤهم، وضعافهم وأقوياؤهم، وكبارهم وصغارهم، والناطقون منهم باللغات المختلفة، وذوو الألوان المختلفة، يقصدون مكان واحداً ويؤدون شعائر موحدةً ويلبسون زياً موحداً، وبذلك يحققون أخوتهم ويزيلون الفوارق بينهم. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بعض الحج فقال صلى الله عليه سلم: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين في الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)، فهذه العبادات بخصوصها معينة على إقامة ذكر الله؛ لأن الإنسان مجبول على السعي لما فيه نفع دنيوي مادي. والحج أموره تعبدية محضة لا يعرف الإنسان عللها، فلذلك إذا فعلها عن قناعة فلا يفعلها إلا تعبداً لله؛ لأن الله شرعها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه عندما قبل الحجر: (أما إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). فهنا يتجرد الإنسان من طلب التعليل، ويتجرد من التعليلات العقلية، ويعلم أنه ما يفعل هذا الفعل إلا تعبداً لله تعالى تعبداً محضاً، فلا يمكن أن يعلل رمي الجمار بهذه الحجار، ولا أن يعلل الطواف بهذه الكعبة سبعاً، ولا السعي بين الصفا والمروة، فهذه أمور لا تقبل التعليل وإنما أقيمت لذكر الله سبحانه وتعالى، فحكمتها هي إقامة ذكر الله كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الترتيب بين أركان الإسلام

الترتيب بين أركان الإسلام هذه هي الدعائم الإيجابية، ولا شك أنها مرتبة هذا الترتيب، فمن لم يبدأ بالشهادتين لا يمكن أن ينتفع بشيء من الدعائم دونها، ومن أتى بالشهادتين لا يمكن أن ينتفع بما سوى الصلاة، بل لابد أن يبدأ بالصلاة أولاً فإذا تجاوزها ولم يفعلها لا ينفعه ما سواها، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، واختلف في ترتيب الصيام والحج بناءً على اختلاف الرواية، فقد قدم الصيام في حديث جبريل، وقدم الحج في حديث ابن عمر، وحينئذ لا شك أن الترتيب في الدعائم الثلاث الأولى قطعي، فالشهادتان بهما البدء، ثم الصلاة، ثم الزكاة، أما الصيام والحج فالترتيب بينهما ظني لاختلاف الترتيب بين حديث جبريل وحديث ابن عمر. ومع الأسف نشاهد أن كثيراً من الناس يهتم ببعض هذه الدعائم ويفرط في بعض، فنجد كثيراً من الناس يسعى لاستكمال الحج وأدائه ويقصر في الصلاة، فلا نراه في المساجد، ولا نراه مقيماً للصلاة مؤدياً لها على هيئاتها، ولا نراه يسأل عن فرائضها وسننها ومندوباتها، ومع ذلك نجده في الحج متلهفاً لأدائه ويسأل عن سننه وواجباته ومندوباته. وكذلك مع الأسف فإننا نجد كثيراً من الناس يحافظ على الصيام ولكنه يقصر في الصلاة ويقصر في الزكاة، فيقفز قفزة من أركان الإسلام ويتعدى حدود الله عز وجل، والواقع أن هذه الأركان على الترتيب، فمن لم تنفعه شهادته لم يتجاوزها، ومن لم تنفعه صلاته لم بتجاوزها، ومن لم تنفعه زكاته لم يتجاوزها، ثم بعد ذلك الصيام والحج.

أركان الإسلام السلبية اجتناب المنهيات

أركان الإسلام السلبية اجتناب المنهيات أما الأركان السلبية التركية فهي كبائر الإثم والفواحش، وقد قسم الله تعالى الذنوب إلى ثلاثة أقسام: كبائر، وفواحش، ولمم.

الفرق بين الكبائر والفواحش واللمم

الفرق بين الكبائر والفواحش واللمم فالكبائر هي التي رتب الله تعالى عليها عقوبة دنيوية كالحدود والكفارات، أو رتب عليها لعناً، أو رتب عليها عذاباً أخروياً، هذا هو ضابط كبائر الإثم. وأما الفواحش فهي التي تقتضي من صاحبها رقة وازعه وجراءته على الله سبحانه وتعالى، فالذي يتجرأ على الله سبحانه وتعالى بصغيرة فإن ذلك يصيرها فاحشة؛ لأنه إذا لم تسؤه سيئته فهو ناقص الإيمان، وذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه، وذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا، كما قال ابن مسعود. ومن هنا فإن هذه الكبائر والفواحش ذات خطر عظيم على العلاقة بالله سبحانه وتعالى، فإذا تجرأ الشخص على هذه الكبائر والفواحش فقد خرق هذه العلاقة وتجرأ تجرؤاً يصعب عليه سده فيما بعد، وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر لنا مثالاً واضحاً وهو: (محجة على طرفيها سوران، وعلى أعلاها داع، وفي السورين أبواب مفتحة, وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داع يدعو إليه، والداعي الذي هو فوق المحجة يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه. فهذه المحجة هي الإسلام الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والسوران المحيطان به هما حدود الله).

أنواع حدود الله

أنواع حدود الله وحدود الله تنفسم إلى ثلاثة أقسام: حدود لا يحل تعديها، وحدود لا يحل الاقتراب منها، وحدود هي جابرة وزاجرة عما سواها. يقول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، وهذه المقصود بها الفواحش والكبائر، فهي حدود الله التي لا تقرب. ويقول تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] وهذه الأمور التي حددها والحقوق التي أباحها فهي حدود الله. القسم الثالث: الحدود التي جعلها الله جابرة وزاجرة عن الوقوع فيما لا يرضيه، فهذه ثلاثة أقسام، فهذه الأبواب المفتحة في الأسوار هي بنيات الطريق وكبائر الإثم، وأبواب جهنم هي الفواحش الكبار.

أبواب جهنم وأبواب الجنة والدعاة إليها

أبواب جهنم وأبواب الجنة والدعاة إليها

اقتراف الكبائر دخول لأبواب جهنم

اقتراف الكبائر دخول لأبواب جهنم ومن هنا فإن هذه المعاصي هي أبواب جهنم، وهي كبائر الإثم، ومن اجتنبها فإن ذلك يكون عوناً له على ترك ما سواها وتكفيراً له لصغائرها، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] , وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها السبع الموبقات فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي من الزحف، والسحر)، فهذه هي السبع الموبقات. وذكر صلى الله عليه وسلم كذلك أكبر الكبائر فقال: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر -ثلاثاً-؟ الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقول الزور. وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت!). وبيَّن صلى الله عليه وسلم عدداً آخر من الكبائر في عدد من الأحاديث عنه.

سبب جعل الكبائر كبائر

سبب جعل الكبائر كبائر سبب جعل الكبائر كبائر أن تصور الإسلام لا يتم إلا بعد تصور تحريمه لهذه الأمور. من زعم أنه مسلم ولم يعلم أن الإسلام يحرم الخمر، أو يحرم الزنى، أو يحرم الخنزير، أو يحرم القتل، أو يحرم السرقة فهذا غير مسلم؛ لأنه لم يعرف ركناً من أركان الإسلام السلبية، وهذا هو الذي يسميه الفقهاء: المعلوم من الدين بالضرورة. فالمعلوم من الدين بالضرورة معناه: الذي لا يتميز الإسلام بدونه، فهذه الشرائع التي لا يعرف الإسلام بدونها ولا يتميز من أنكرها ممن ليس حديث عهد بكفر، أما من كان حديث عهد بكفر فيتسامح معه، أو كان لم يتعلم شيئاً من الدين بأن كان من الأعراب البداة ولم يبلغه كثير من شرائع الإسلام، فهو معذور بذلك، أما من عاش في مجتمع إسلامي فإنكاره للمعلوم من الدين بالضرورة يكفره، وجهله بذلك لا يعذر به، وقد عذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه منظور بن زبان حين تزوج بـ مليكة، وكانت زوجة أبيه فلم يعلم أن الله حرمها، فسأله عمر: هل سمع سورة النساء؟ فقال: ما سمعتها. فاستحلفه خمسين يميناً ما سمع سورة النساء، ورفع عنه الحد بذلك، وذلك أن الله يقول في سورة النساء: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء:22]. وقد عذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الناس في حداثة إيمانهم، فعذر الأعرابي الذي بال في المسجد وقال: (دعوه لا تزرموه. ثم دعاه -بعد أن أمر بذنوب من ماء فأريق على بوله- فقال: إن هذه المساجد لم تُبْنَ لهذا، وإنما بنيت لذكر الله والصلاة)، ومن هنا فإن من كان حديث عهد بكفر يعذر في المعلوم من الدين بالضرورة؛ لأنه ليس معلوماً لديه، وأما من سواه ممن عاش بين المسلمين وتعلم الإسلام فلا يعذر في جهل هذه الأمور التي هي أركان الإسلام، سواءٌ أكانت إيجابية أم سلبية، فمن لم يعرف وجوب الصلاة، أو لم يعرف وجوب الزكاة أو الحج أو الصيام، أو لم يعرف حرمة الزنى، أو لم يعرف حرمة القتل، أو لم يعرف حرمة السرقة، أو لم يعرف حرمة الخنزير فهذا ليس من المسلمين إلا إذا كان حديث عهد بكفر، ومن هنا شرع أن نعلم هذه الأركان، وأن نتدارسها، وأن نعلم ما كان معلوماً من الدين بالضرورة الذي لا يعذر به.

الدعاة إلى الجنة وذكر أبوابها

الدعاة إلى الجنة وذكر أبوابها وفي المقابل فإن أبواب الجنة هي كبار الطاعات. ففي الجنة باب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، وفيها باب الصلاة، وفيها باب البر والصلة، وفيها باب الصدقة. هذه أبواب الجنة، وعليها دعاة أيضاً يدعون إليها، وهم الدعاة على أبواب الجنة، دعاة يدعون إلى الصلاة؛ منهم المؤذنون، ومنهم المعلمون، ومنهم الذين يرشدون إلى المساجد، ومنهم الذين يعمرونها، ومنهم الذين يبنونها، ومنهم الذين يفرشونها إلى آخره، فهؤلاء دعاة على أبواب الجنة، وهم الذين يرشدونا إلى امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه. هؤلاء أيضاً لهم عون من الله تعالى يعينهم به على اجتذاب قلوب عباده الذين يهديهم هذا الطريق، وفي المقابل يضع حواجز في وجوه آخرين لا يرتضي الله تعالى خدمتهم لدينه ويصدهم عنه، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف:146] , وكما قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] , وكما قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] , هؤلاء لا يرتضي الله خدمتهم، فإذا سمعوا داعي الله تشاغلوا عنه بأمور قد تكون مفيدةً لهم في الظاهر، وقد لا تكون مفيدةً أصلاً، وقد يشغلهم الشيطان عنه بغفلة أو كسل أو نحو ذلك، فلا يرتضي الله تعالى خدمتهم للدين ويضع في وجوههم العراقيل والعقبات، ويصدهم عن الصراط المستقيم، نسأل الله السلامة والعافية.

الدعاة إلى جهنم وذكر أبوابها

الدعاة إلى جهنم وذكر أبوابها في جهنم: باب للزنى يدخل منه الزناة فيعذبون فيه، نعوذ بالله! وفيها باب للمخدرات والخمور، وفيها باب للعقوق وقطع الرحم. وفيها باب لترك العبادات كالصلاة وغيرها، هذه هي أبواب جهنم، نسأل الله السلامة والعافية. وهذه الأبواب عليها دعاة يدعون إليها، كل باب من أبواب جهنم يقيض له شياطين يدعون إليه حتى من المسلمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة حين سأله: أبعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، هؤلاء الدعاة الذين يدعون إلى أبواب جهنم بعضهم يدعو إلى الزنى، وبعضهم يدعو إلى شرب الخمر، وبعضهم يدعو إلى عقوق الآباء والأمهات، وبعضهم يدعو إلى قتل النفس التي حرم الله بغير حق، وبعضهم يدعو إلى السرقة، وغير ذلك. هذه هي أبواب جهنم، ومن دعا إلى إحدى هذه الكبائر كان من الدعاة على أبواب جهنم، يدعون إليها من أجابهم إليها قذفوه فيها. والغالب أن هؤلاء معهم حيل؛ لأنهم من شياطين الإنس والجن، فمعهم حيل وشباك وشراك يستهوون بها ويستغوون الناس، ومن أجابهم إليها قذفوه فيها، نسأل الله السلامة والعافية.

بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على أركان الإسلام الإيجابية والسلبية

بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على أركان الإسلام الإيجابية والسلبية هذه الأركان بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها أساس بيعته، فكان يبايع الناس عليها، فقد بايع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، وبايع كذلك النساء البيعة التي أمره الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12] , وهذه الآية جامعة لأركان الإسلام الإيجابية والسلبية، لكنها جاءت السلبية فيها تفصيلاً وجاءت والإيجابية إجمالاً. فالسلبية قوله: {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة:12]. والإيجابية قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12]، فهي شاملة للشهادتين وأداء الصلاة وأداء الزكاة وأداء الصيام وأداء الحج وغير ذلك.

منزلة الجهاد في الإسلام

منزلة الجهاد في الإسلام ثم إن الجهاد هو ذروة سنام الإيمان، وهو معدود في أركان الإسلام لدى كثير من العلماء، وقد دل على ذلك بعض النصوص الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والمقصود بالجهاد بذل الجهد لإصلاح الدين، أن يبذل الإنسان جهده لإصلاح دين الله، ويشمل ذلك إصلاح دينه هو وإصلاح دين من تحت يده وإصلاح دين عموم الناس، فليبدأ أولاً بنفسه، ثم بمن تحت يده فيجاهد فيهم، ويشمل ذلك من يسمع ويطيع له من زوجة وأولاد وجيران، وهؤلاء كلهم هو مسئول عن ديانتهم وتحصين دينهم؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

المقاصد التي أمرنا بالحفاظ عليها أهمها الدين

المقاصد التي أمرنا بالحفاظ عليها أهمها الدين ومن هنا فإن علينا أجمعين أن نستحضر هذا الشق العظيم من تكاليفنا، وأن نعلم أن التكاليف التي اختارها الله وظيفة للأنبياء هي أشرف مما سواها، ولذلك فإن المقاصد الشرعية مبنية على ست مصالح هي أصول التشريع، وهذه المصالح لابد من مراعاتها، وهي: أولاً: الحفاظ على الدين، ثم الحفاظ على النفس، ثم الحفاظ على العقل، ثم الحفاظ على المال، ثم الحفاظ على العرض، ثم الحفاظ على النسب. فهذه الستة هي أصل المقاصد، وهي الضروريات بالنسبة للإنسان، وهذه أهمها مصلحة الدين، فإذا اقتضت مصلحة الدين إهمال الحفاظ على النفس تقدم الشخص لينال الشهادة في سبيل الله، وإذا اقتضت مصلحة الدين إهمال مصلحة المال جاء الشخص يحمل ماله في سبيل الله كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، وإذا اقتضت مصلحة الدين التجرد من العرض جاء الإنسان يقول كما قال حسان رضي الله عنه: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء وإذا اقتضت مصلحة الدين أن تهمل لها مصلحة العقل بادر الإنسان لمصلحة الدين وجعلها أعظم مما سواها، فهو يطلب الشهادة ويطلب أن تقطع أعضاؤه في سبيل الله. فمعنى ذلك أنه قد بايع الله تعالى على كل ما عنده: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] , وأن الوفاء بحق هذه البيعة مسئول عنه، فهذا عهد الله: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً} [الأحزاب:15] , هذا عهد الله علينا أجمعين رجالاً ونساءً، عهد الله علينا هو هذه البيعة التي أخذ علينا أو أكد علينا في كتابه وفي التوراة والإنجيل، ولا يمكن أن يتجاهلها أحد، فيوم القيامة إذا جيء بكل إنسان منا يحمل طائره في عنقه ويخرج له كتاب يلقاه منشوراً، ويأتي معه سائق وشهيد، وتأتي نفسه بما كسبت رهينة فإنه سيكون مسئولاً يوم القيامة عما قدم لنصرة دين الله. وحينئذ ينبغي أن يبلغ الشاهد الغائب، وأن نستحضر مسئوليتنا عن دين الله تعالى، وأن نعلم أن أنفسنا لو اعتدي عليها أو اعتدي على أموالنا أو بيوتنا فستثور ثائرتنا للدفاع عن أنفسنا أو عن أموالنا أو عن بيوتنا، من رأى قوماً يأتون وبأيديهم المعاول وهم يريدون هدم بيته لابد أن يبذل جهده في دفعهم عنه، أليس كذلك؟ بلى. فمن رأى دينه يهدم فلم يشارك في الدفاع عنه فإن معناه أنه قد خسر الدنيا والآخرة، خسر في صفقته، فبيته الذي هو من طين تافه سينتقل عنه اليوم أو غداً كان أهم عنده وأكبر في نفسه من دينه الذي هو قيمته وهو حظه عند الله تعالى في الدنيا والآخرة. إن هذا المثال واضح للجميع، لكن المشكلة أن كثيراً منا يتناساه فيستحضره في المسجد، ويستحضره في وقت الدروس وينساه في غير ذلك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على رعاية ودائعه وما أودعنا من شرائعه، وأن يجعلنا من الآخذين بها.

وجوب المشاركة في إعلاء كلمة الله

وجوب المشاركة في إعلاء كلمة الله ثم بعد هذا المشاركة في إدخال الناس في دين الله، وهي وظيفة الأنبياء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد وظيفته في قوله: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراًَ، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار)، فوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمسك بحجز الناس عن النار، وهذه الوظيفة يتجاهلها كثير من الناس، فيظن أن إسلامه هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فقط، ويتناسى أن عليه الحق في إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وإدخال الناس في دين الله، وأن مسئوليته عن هذا الوجه من الدين مثل مسئوليته عن صلاته وصيامه وزكاته وحجه؛ لأن الله خاطبنا في البداية بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن نكف أيدينا، ثم فرض علينا بعد ذلك إعلاء كلمة الله وإدخال الناس في دينه، ولهذا قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77]. ومن هنا فإن على المسلم أن يجعل من وقته ومما آتاه الله جزءاً كبيراً يخصصه لإعلاء كلمة الله ولنصرة دين الله ولإدخال الناس في دين الله، ولا يعذر أحد من المسلمين المنتمين للدين الذي يريدون أن ينالوا العزة بالدين في التقصير في هذا الوجه، لكن درجاتهم متفاوتة في خدمة الدين، فمنهم من يستطيع خدمته بيده، ومنهم من يستطيع خدمته بلسانه، ومنهم من يستطيع خدمته بماله، ومنهم من يستطيع خدمته بتفكيره، ومنهم من يستطيع خدمته فقط بتكثير سواد أهله بمجرد الكينونة معهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]. ولا يعذر أحد في التقصير في وجه يعلم أنه ساع به لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، ومن رأى أنه بإمكانه أن يشارك في إعلاء كلمة الله بوجه فقصر في ذلك كان غير معذور يوم القيامة، وكان هذا الدين بكامله خصماً له يوم القيامة، يأتي الإسلام ويخاصمه فيقول: انتسب إلي ولم يقم بحقي.

الحكمة في الدعوة [1]

الحكمة في الدعوة [1] تعتبر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى الركيزة الأولى في تثبيت دعائم الدين الإسلامي، لذا أمر الله بها الأنبياء وأتباعهم؛ إذ بدعوتهم قامت الأديان وانتشر توحيد الله في البلدان. وقد تحدث أهل العلم عن الدعوات واستقبال الناس لها على أصنافهم، وعن سبل الدعوة والحكمة فيها، سواءٌ أكانت تلك الحكمة تجاه الأشخاص أم الأوقات أم الأزمان المناسبة لها؛ فإنها ما شرعت إلا لإقامة الدين وتغيير المنكر القائم بين الناس بحكمة وروية، ووضع للأمور في مواضعها.

التذكير بالله والدعوة إليه ضرورة دينية

التذكير بالله والدعوة إليه ضرورة دينية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله عز وجل قد وصف نفسه بالدعوة، فقال سبحانه وتعالى في محكم كتابه: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221]. ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، وأخبر أن أحسن الأقوال وأرضاها عند الله سبحانه وتعالى: الدعوة إلى الله، وذلك كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وأتباعه بأن سبيلهم الدعوة إلى الله، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. وهذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، فكما يحتاج البشر إلى الماء والغذاء والهواء، فإنهم يحتاجون كذلك إلى تغذية قلوبهم، فهذه القلوب إذا لم تتغذ ماتت، وموتها أشد من موت الأبدان؛ لأنه مقتض لغفلتها وإعراضها عن الله سبحانه وتعالى، فتتردى حتى تكون كالبهائم، أو ربما زادت عن ذلك، كما قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، ولا يستغني عنها أحد، والله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، ويخاطب رسله عليهم الصلاة السلام بذلك أجمعين فيقول: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، ويخاطب عباده المؤمنين بذلك، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172])، وكل ذلك دعوة من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يستغني عنها البشر، فالإنسان يعيش في ظلمات الجاهلية في هذه الأرض، وكل ما فيها فتن تغويه وتصده عن سبيل الحق، وهو بمثابة من ادهن بالزيت، ثم رمى نفسه في التنور، ففتن الدنيا كذلك تحيط به من كل جانب، وأعراضها تتداول عليه وتتناوب، فإذا نجا من عرض لم ينج من غيره، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك: حين خط خطاً مربعاً وخط خطاً في وسطه خارجاً منه، وخط خطاً معترضاً في الوسط، وخط خطوطاً صغيرة في الطرفين، ثم قال: (هذا الإنسان، وهذا أجله، وهذا عمله، وهذه الأعراض تصيبه، وأمله أطول من أجله). ومن هنا فإن على الإنسان أن يحاول أن يعتبر ويتذكر، وأن لا يغفل عن الله سبحانه وتعالى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليعلم أنه إن غفل ساعة عن الله دعاه ذلك إلى الغفلة ساعات، وإذا قسا قلبه يوماً واحداً فليداو هذه القسوة، وإلا فسوف تتراكم فيه القسوات وستزداد، ويصعب عليه حينئذ علاج قلبه بعد ما يتمكن منه المرض. ومن هنا شرع الشارع لنا الموعظة الأسبوعية في كل جمعة، ويراد بها أن ترق القلوب وتهفوا إلى بارئها ديان السماوات والأرض، وإذا لم يستطع الإنسان أن يجري دمعتيه من خشية الله سبحانه وتعالى في الأسبوع، فإنه سيزداد ذلك صعوبة في الأسبوع الذي يليه، ثم يزداد ذلك في الأسبوع الذي يليه، ومن هنا فإن من تخلف عن صلاة الجمعة ثلاث جمع على التوالي ختم على قلبه بطابع النفاق. من أجل هذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ومن هنا كانت هذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، ولا يمكن أن يستغني عنها الناس، وإذا ظن بعض الناس أنه ربما استغنى عنها فهذا دليل على موت قلبه وأنه لم يعد يحس بما هو فيه، فقد تراكمت عليه الأمراض وتكاثرت حتى لم يعد يقدر هذه الأمراض ولا يستطيع الخلاص منها، ونسأل الله السلامة والعافية.

تذكر النبي الدائم لربه جل وعلا

تذكر النبي الدائم لربه جل وعلا إن أعرف الناس بالله عز وجل أحوجهم إلى التذكير به، فهذا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الخلق على الله عز وجل ينادي عبد الله بن مسعود فيقول: (يا عبد الله! اقرأ عليَّ القرآن فيقول: كيف أقرأه عليك وعليك أنزل؟! فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42] قال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تهملان). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس اتعاظاً بآيات الله، فكان إذا رأى المطر مقبلاً أخذه الخروج والدخول والرعب، فقيل له في ذلك فقال: (خشيت أن أكون كأصحاب هود الذين قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25])، فهذا من شدة خوفه لله وخشيته له، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أخوفكم لله وأتقاكم لله)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمن مكر الله، ويحب التذكير بالله عز وجل، فقد ثبت عنه: (أن أعرابياً جاء فوقف في المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى بيته فجاء بتبرٍ -أي: قطعة من الذهب- فقال: خذ هذا بحسن ثنائك على ربك)، فكان يحب أن يثنى على الله عز وجل.

تذكر الإنسان بآيات الله وضرورته

تذكر الإنسان بآيات الله وضرورته إن ما نشاهده في دموعنا من الجمود، وفي قلوبنا من القسوة سببه عدم انتفاعنا بالذكرى، وعدم انتفاعنا بالآيات والعبر التي نشاهدها، فآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: آيات مسطورة، وآيات منظورة، فالآيات المسطورة هي التي نسمعها ونقرؤها في كتاب الله، والآية المنظورة هي ما يمر علينا من العجائب، كهذا الفجر الذي يطلع منذراً بانقضاء عهد وباستئناف يوم جديد، وهذه الشمس التي تزول ثم تغرب ويتغير نورها بعد أن كان مشعاً شديداً، وهذا الليل الذي قال فيه مالك: (الليل خلق عظيم)، وهذه الأرواح التي تنتقل وتموت وكل يوم نرى محمولين على الرقاب لا يرجعون أبداً، ولا ندري ما حالهم أفي روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار؟ وهذه النار، وهذه الأماكن التي نعيش فيها، وهذه الأماكن التي نصلي بها قد سبقنا إليها ملايين من البشر مروا بها، وكانت أعمالهم ترتفع من هذا المكان، فلا ندري ما نخلفهم فيه هل هو خير مما كانوا يعملون أو دون ذلك؟ نسأل الله أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها. إننا نرى كثيراً من آيات الله العجيبة، وهي مرآة يجب أن نتذكر بها ونعتبر، ومن أجل هذا قال الله في محكم كتابه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. إننا نحتاج إلى أن نحيي قلوبنا، وأن نحدث صلة عميقة بالله عز وجل، وأن نجدد عهدنا به، وأن نتذاكر فيما بيننا، وأن يأمر بعضنا بعضاً وينهى بعضاً بعضاً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة غير منسوخة، بل هي محكمة دائمة، وعلينا أن نتذاكر أمثال هذا، وأن يأمر بعضنا بعضاً، وأن لا نعد هذا حديثاً معاداً، وأن لا تمله أسماعنا ولا قلوبنا، وما هو إلا خير، وهو خير ما يعرض على الآذان وخير ما يصل إلى القلوب، فينبغي أن لا نمله وأن لا ننقطع عنه.

الدعوة بالتي هي أحسن

الدعوة بالتي هي أحسن وجاء فبال في المسجد، فجعل الناس يزحزحونه ويصيحون عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه لا تزرموه، فتركوه حتى قضى بوله، ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله والصلاة). وكذلك قال للرجل الآخر الذي تكلم في الصلاة فصمته الناس وضربوا على أفخاذهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (دعاني فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فوالله ما ضربني ولا كهرني، وإنما وضع يده على منكبي فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن). وكذلك جاء رجل آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يريد أن يؤمن وهو شاب حدث، فقال: يا محمد! إني أريد أن أتبعك وأدخل في دينك، لكني أريد أن أستثني شيئاً أشترطه، قال: وما هو؟ قال: الزنا. فقال: تستثني بالزنا! فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن هذا الرجل من السفهاء، وأرادوا أن يؤدبوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه لي. فدعاه حتى اقترب منه فناجاه فقال: هل ترتضيه لأمك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لأختك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لزوجتك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لابنتك؟ قال: لا. فالنساء أمهات قوم، وزوجات قوم، وأخوات قوم، وبنات قوم. فقال: والله لقد صدقت، فنزعه الله من قلبي). هكذا تكون الدعوة بالتي هي أحسن، وهكذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين عموماً، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمره أمر لأمته- بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وأمر المؤمنين كذلك بالتي هي أحسن في مجادلة أهل الكتاب في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]، فأمرهم في مجادلة أهل الكتاب الذين هم أشد الأعداء وأعتاهم أن يجادلوهم بالتي هي أحسن، وأن لا يصدقوهم وأن لا يكذبوهم، وأن يقولوا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]، فيأتوا بالمسلمات والمتفق عليها قبل أن يذكروا مسائل الخلاف، وهذا هو أدب الدعوة، فالصحيح أن يبتدئ الإنسان بذكر المسائل المتفق عليها قبل أن يذكر المسائل الخلافية، فإذا صحت المسائل الإجماعية -وهي الأصول والأسس- فإن ما عداها يسهل تغييره وتعديله بعد ذلك.

سهولة الدعوة ويسرها

سهولة الدعوة ويسرها كنت في يوم من الأيام في بلد من بلاد الكفر، فلقيت رجلاً كان من أشد الناس عداوة لدين الله، وكان هندوسياً حاقداً على دين الإسلام، وقد أسلم وحسن إسلامه، فسألته: على يد من أسلمت؟ فقال: على يد هرة. أسلم على يد هرة! يقول: إنه خرج مع أصحاب له مسلمين، فوقف على باب المسجد ودخلوا، وجعل هو يستهزئ بمن دخل المسجد، فإذا هرة جميلة على باب المسجد، فأراد أن يمسكها ويداعبها فدخلت المسجد فاستترت، فلم يستطع أن يدخل لخوفه من المسجد، فوقف على بابه فجاءت فخرجت، فأراد أن يمسكها مرة أخرى فدخلت، وتكرر هذا الفعل منها عدة مرات، فقال: إن هذه الهرة تدعوني إلى الدخول هنا. فدخل فصادف أن وجد هداية الله هناك، وكان ذلك سبب إسلامه. وكذلك رجل آخر كان من اليهود المتعصبين الحاقدين، وكان طبيباً جراحاً عالمياً مشهوراً، وكان من أشد الناس عداوةً للإسلام والمسلمين، وكان يزعم أن المسلمين هم من أشد الناس قذارة وأقلهم نظافة، فلقيه زميل له من الأطباء المسلمين، فقال: تعال معي إلى المسجد فسأريك طريقة النظافة لدى المسلمين. فخرج به إلى مسجد كبير في لندن، فأراه الناس وهم يتوضئون، فقال: هكذا يتنظف المسلمون خمس مرات في كل يوم على الأقل. ووقف على باب المسجد وقال: انتظرني هنا فأنا سأصلي. فوقف يستمع قراءة القرآن من خارج أبواب المسجد مدوية، ولكنه كان يهزأ بها، وأراد أن يستمع إليها فوقف مقابل باب من أبواب المسجد، فلما سلم الناس خرج إليه عدد منهم، فجعلوا يتهامسون ويقفون حوله ويسألونه: لماذا جئت هنا؟ لماذا لم تصل؟ لماذا لم تدخل المسجد؟ فكثرت عليه الأسئلة، فأخبرهم بالحقيقة وقال: أنا يهودي لست مسلماً. فلما قال ذلك قالوا: سبحان الله! ما هذا النور الذي في وجهك؟! فضحك وسخر مما قالوا، فإذا الناس يبكون لأنهم رأوا نوراً يتلألأ في وجه هذا اليهودي، فتعجبوا من ذلك عجباً شديداً، وجاء صاحبه فقال: سبحان الله! ما هذا الذي أحدثته بعدي؟ إن في وجهك نوراً عجيباً. فتعجب الرجل من هذا فخرج إلى المرآة فنظر فإذا النور قد بقي منه شيء بسيط في وجهه، وإذا هو يخبو بالتدريج، فكان ذلك سبب إسلامه، فأعلن إسلامه في ذلك الموقف، وحسن إسلامه وأسلم على يديه والده وبعض أفراد أسرته. إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مباركة ميسرة سهلة، وعلنيا أن نلتزم بتيسيرها وسهولتها ولينها، فخير الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وأقربهم إليه وأعدلهم في الدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه الله أساليب الدعوة، فقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس معاملة للناس وأسهلهم، وأحسنهم خلقاً، فالذين عرفوه أقسموا أنهم ما رأوا أحسن منه خلقاً، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلت، ولا لشيء تركته لم تركت).

أقسام الناس تجاه الدعوة إلى الله

أقسام الناس تجاه الدعوة إلى الله الناس في سبيل هذه الدعوة أربعة أقسام: القسم الأول: قوم لا يتحملون سماعها ولا يطيقونها، فهي عندهم بمثابة البعبع المرعب، يخافونها خوفاً شديداً، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51]، فيعتبرون هذه بمثابة الأسد، فيهربون منه كما تهرب الحمر من الأسد إذا رأته. القسم الثاني: قوم يستطيعون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة، فلا تحملها إلى قلوبهم، وهؤلاء بين آذانهم وقلوبهم حصن حصين لا تخترقه البشرى، وهم المنافقون الذين طبع الله على قلوبهم، وفيهم يقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد:16]. القسم الثالث: قوم يُفصِّلون في الذكرى، فيقبلون سماعها من بعض الناس ويرفضونها من بعض، ينظرون إلى بعض الناس نظرة إكبار وإجلال، ولا يدرون لعله في ميزان الله سبحانه وتعالى يوم القيامة أدنى بكثير مما يتوقعون، وينظرون إلى آخرين بعين السخط، ولا يدرون لعلهم أثقل بالميزان عند الله تعالى من ملء الأرض من أمثال أولئك، وإذا كان الإنسان هكذا فعلينا أن لا نحكم أهواءنا وأن لا نزن الناس بهذا الميزان، وأن ننظر إلى الناس على أنهم عباد الله يضع فيهم ما يشاء، وأنهم بمثابة الآنية لدى ربنا سبحانه وتعالى، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وكل إناء يجعل الله فيه ما يشاء. علينا أن نحترم عباد الله جميعاً، فنحن لا ندري ببواطنهم ولا مصيرهم وخاتمتهم، فأمر ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن نكره الأفعال السيئة ونحب الأعمال الصالحة، ولكن تقويمنا للأشخاص لا ينبغي أن يكون على أساس ازدراء وتكبر وسخرية، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أنه كان في ملأ من أصحابه، فمر رجل من المسلمين، فلما أدبر، سألهم فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا رجل من عوام المسلمين، جدير إذا تكلم أن لا يستمع له وإذا خطب أن لا ينكح ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر رجل آخر فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا سيد من سادات الناس ووجوههم، جدير إذا تكلم أن يستمع له وإذا خطب أن ينكح فقال: ذلك خير من ملء الأرض من هذا). وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالرجل الضخم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، فينبغي أن لا تكون المعايير الدنيوية المادية طاغية على تقويمنا وتقديرنا، ومن هنا فعلينا أن نستمع إلى القول وأن لا ننظر إلى القائل، فالله تعالى يقول في كتابه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]، وفي المنافاة ليس لنا أن نفصل بين الناس إذا ذكروا أو تكلموا، وأن نأخذ ذكرى بعضهم وندع ذكرى بعضهم الآخر، أو نفضل بينهم على أساس ما نجده في صدورنا من معايير هذه الدنيا الفانية التي لا تزن عند الله شيئاً، وعلينا أن نستمع القول ونعتبره رسالة جاءت من ربنا إلينا، فنأخذ منه الصواب وما كان حسناً نافعاً، ونرد ما كان سيئاً قبيحاً غير مرضي عند الله سبحانه وتعالى، ونستفيد بهذا من كل أحد، وهذا هو الميزان الصحيح والمعيار السليم. القسم الرابع: قوم يستمعون الذكرى ولا يفصلون فيها، فيسمعونها من كل مذكر ويستفيدون منها، فلا يعرضون عنها بحال من الأحوال بل يعتبرونها غنيمة وهبة ربانية وهدية أهديت إليهم، فيستفيدون منها على كل حال، هؤلاء هم أهل الإيمان الذين قال الله فيهم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21]، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:9 - 12]، وقال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، فهؤلاء يستفيدون من الذكرى مطلقاً، من أي إنسان صدرت، وبأية لهجة كانت، ومن أي لون كانت، وبأي أسلوب وجهت، ويستفيدون منها وينتفعون، فرب إنسان كانت هدايته على أساس كلمة صدرت من شخص هو دونه بمنظار البشر، و (رُب حامل فقه وليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى

الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في كتابه سبع وسائل من وسائل الدعوة، واشتملت عليها آيتان من كتاب الله: الآية الأولى: آية سورة النحل، وهي قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فهذه ثلاث وسائل في هذه الآية: أولها قوله: (بالحكمة). والحكمة في اللغة: وضع الشيء في موضعه. بمعنى: وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها، والقسوة في موضعها، والكلام في موضعه، والسيف في موضعه، فهذه هي الحكمة، ولهذا يقول أبو الطيب المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى فمن هنا كان لا بد للإنسان أن يكون خبيراً بأهل زمانه حتى يضع كل شيء في موضعه، والله سبحانه وتعالى نعى على اليهود أنهم يحرفون الكلم فيضعونه في غير موضعه، وأن وضع الكلم في مواضعه هو الذي يؤثر ويفيد هنا؛ فإن الأساليب البلاغية الرنانة إذا وجهها الإنسان إلى عوام الناس نفروا منه، ولم تجد آذناً صاغية، وإذا وجهها إلى أهل البلاغة أثرت فيهم واستجذبت قلوبهم وأثرت عليهم. ومن هنا كان الخطاب العام الذي يوجه إلى الناس عموماً ينبغي أن يكون على السليقة والفطرة، وأن لا يتقعر المتكلم في وجه الناس، وأن لا يأتي بالعبارات الرصينة التي قد تضجر عدداً كبيراً من الناس، وأن لا يأتي كذلك بالعبارة السوقية التي يستهجنها علية القوم وأشرافهم، فيكون الكلام وسطاً، وخير الأمور أوساطها. ولهذا فإن من الحكمة أن يكون الإنسان عارفاً بمن يخاطبه، وعارفاً بأوضاع الناس، ومطلعاً على أولوياتهم وظروفهم، حتى لا يخاطبهم في أمر قد تعداه القطار وأصبح على الآثار، فكثيراً ما يتكلم بعض الناس في خطبته أو درسه على أمر قد أصبح معدوماً لا وجود له في حياة الناس، فيكون قد أفسد عليهم جزءاً من وقتهم الثمين وشغلهم بما لا يعنيهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). كما أنه لا فائدة من إحياء أقوال بعض الطوائف التي اندثرت، أي: الكلام في بعض الفرق التي لا توجد في بلد من البلدان، فالكلام في فِرق ما عرفها أسلافهم وما علم لها تأريخ في هذا البلد ولا وصلت إليه مما لا يعني، ومما ينبغي أن يختص به أهل الاختصاص، وأن يكون لدى طلبة العلم المتخصصين، وأن لا ينشر على عوام الناس ومسامع عمومهم، وكذلك الكلام في أمور قد عرفها الناس وتداولوها، وعرفت المواقف منها، فإن تكرارها من الأمور التافهة، وقد قضى عليها الزمان وتجاوزها القطار، وكذلك الكلام في أمور لم يستوعبها الناس ولم تبلغها عقولهم بعد، فهو من الفتنة عليهم، ولذلك أخرج البخاري -تعليقاً من صحيحه- من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تصل إليه عقولهم إلا كان فتنة عليهم). فلذلك ينبغي أن يكون الكلام على حسب السامع، وأن لا يكون على حسب المتكلم.

الحكمة في إفتاء السائلين

الحكمة في إفتاء السائلين هذه خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواعظه وإرشاداته تتأثر بحسب السائل، كأن يأتيه رجل فيسأله مع خير العلم خير الإيمان، فإذا كان قوياً بطلاً أمره بالجهاد، وإذا كان ذا والدين ضعيفين أمره ببر الوالدين، وإذا كان من الأغنياء أمره بالإنفاق، وهكذا، ولهذا تجد في الأحاديث الصحيحة كثيراً من الأحاديث التي يفهمها بعض الناس على التعارض، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الإيمان كذا) أو: (خير الإيمان كذا)، أو يسأل عن خير الإيمان فيجيب جواباً، ثم يسأل عنه فيجيب جواباً آخر، وهذا ليس من التعارض في شيء، إنما هو بحسب حال السائل، ولهذا يقول البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عمرو بن خالد قال: أخبرنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف). وفي صحيح البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور. قال: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها على أهلها وأغلاها ثمناً)، وهذا يدلنا على أن الجواب بحسب حال السائل، وهذا من الفقه في الدعوة. وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة يأتيه رجل فيقول: يا ابن عباس! هل للقاتل عمداً من توبة؟ فيقول ابن عباس: لا. وفي مجلسه ذلك يأتيه رجل آخر، فيقول: يا ابن عباس! هل للقاتل عمداً من توبة؟ فيقول: نعم. فقيل له: سبحان الله! كيف أفتيت الأول بهذا وأفتيت الثاني بهذا؟! فقال: رأيت في وجه الأول الشرر يتطاير من عينيه فعلمت أنه يريد القتل عمداً فنهيته عن ذلك، ورأيت في الثاني انكساراً وتوبة وندماً؛ فعلمت أنه قد قتل وجاء تائباً، فما أردت أن أسد باب التوبة أمامه. فهذا من فقه الدعوة، وعلى الناس أن يأخذوا به، وأن يضعوا كل شيء في موضعه.

الحكمة في نصيحة الناس

الحكمة في نصيحة الناس أول وسيلة من وسائل الدعوة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى الحكمة، فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] أن يوجه المتكلم كلامه إلى عموم الناس، وأن لا يجرح الأفراد، وأن لا يتكلم فيهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه شيء عن إنسان وقف على المنبر فقال: (ما بال أقوام يفعلون كذا)، ولم يقل: إن فلاناً قد فعل كذا. أو: يا فلان لا تفعل كذا. فهذا تشهيرٌ على المنبر أمام الناس، ولو ناده بخاصة نفسه فنهاه عن ذلك الفعل لأمكن أن لا يبلغ ذلك الناس، فوسيلة الإعلام إذ ذاك هي المنبر، فكان يقف على المنبر فيقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا)، فيكون هذا أبلغ الزجر للناس، ويستفيد منه صاحب النازلة ومن سواه، ويشيع في الناس ولا يكون فيه ما ينفر من التجريح والفضيحة، فهذا مناف للنصيحة، ولذلك قال القاضي عياض رحمه الله: النصيحة ضد الفضيحة. النصيحة أن تنصح الإنسان وأنت تريد هدايته، وتحرص عليها غاية الحرص، فتحب له ما تحب لنفسك، وهذه لا بد أن تؤثر، ولا بد أن يستجيب لها الناس. وأما الفضيحة فهي أن تشهر به أو تجابهه بالكلمات النارية والكلام الشديد، وهذا ربما يكون قاطعاً لطريقه عن الهداية وصارفاً له عن وجه الحق، فتكون أنت من المنفرين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن منكم منفرين، إن منكم منفرين)، قال راوي الحديث: (ما رأيته في موعظة أشد منه غضباً من يومئذ)، فقد اشتد غضبه غاية الغضب عندما بلغه عن بعض أصحابه شدتهم على الناس، فلذلك لابد أن يأخذ الدعاة إلى الله تعالى بهذه الحكمة، وأن لا يتشددوا في خطابهم للناس، وأن يكونوا كما وصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، فالله تعالى يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].

الحكمة في مخاطبة المدعوين

الحكمة في مخاطبة المدعوين إن هذه الحكمة مقتضية لرحمة المؤمنين والغلظة والشدة على الكافرين والمنافقين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]. أما أهل الإيمان حتى لو فسقوا وبغوا فإن المؤمن عليه أن يكون حريصاً على هدايتهم، وأن يخاطبهم باللين بالتي هي أحسن، وكذلك خطابه مع الكفار الذين يريد هدايتهم ولم تنقطع الشعرة بينه وبينهم عليه أن يخاطبهم أيضاً بأسلوب مهذب، كما قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فهذا تنبيه لموسى وهارون على أمر من أبجديات الدعوة، وهو من المخاطبة، فلا بد أن يوطد له الكلام، وأن يهيئه له، وأن يخاطبه بلين لعله يتذكر أو يخشى؛ لأنه إذا وجدت الشدة فسيقول له ما قاله عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وإذا خوطب بالتي هي أحسن فربما لان وهو ذو قسوة، وربما ضعف وهو ذو شدة؛ لأنك تصادف مكان اللين فيه، وتخاطبه من مقتله، وقد وصلت إلى قلبه، والنافذة ليست مغلقة، أما إذا خاطبته بالشدة فسيغلق الباب أمامك وستصطدم بالجدار ولن تصل إلى القلب، ومن هنا فإن العاقل إذا أراد الدخول يبحث عن النوافذ والأبواب المفتوحة، ولا يحاول اختراق الجدار، فالذي يريد الوصول إلى القلوب واختراق النفوس ينبغي أن يبحث عن النوافذ والأبواب المفتحة ويدخل منها بكل لطف ولين، وحينئذ يصل إلى مطلوبه بالتي هي أحسن، وليس معنى هذا أن يتنازل الإنسان عن دعوته وأمور دينه ليوصف بأنه هيّن لين، بل يأخذ ذلك مرحلياً فقط، ويجعله وسيلة لإبداء حرصه وحسن نيته للناس لعل الله أن يهدي به رجلاً واحداً. فمن أجل هذا تجد كثيراً ممن تعامله يومياً إذا خاطبتهم باللين وجدت فيهم ليناً، وإذا خاطبتهم بالشدة قابلوك بالمثل أو بأشد، ولذلك يحسن بك أن تأتي بلطف ولين، وأن تدخر قوتك لوقت الحاجة إليها، ولا تهمل قوتك ولا تكن من المستضعفين الأذلة، لكن ادخر هذه القوة إلى وقت الحاجة، أما قبل أن تحتاج إليها فإن إهدارها في غير موضعها ليس من الحكمة، وكثيراً ما يؤدي إلى نتائج عكسية. وإني ل أذكر أن مجموعة من الطيبين الخيرين ذهبوا إلى مسجد في عدن قد بني على قبر، وكان فيه جماعة من المصلين يصلون، فأرادوا تغيير منكر معين وهو الطواف حول هذا القبر، فهدموا المسجد على المصلين، فقتلوا عدداً من المصلين وهم في سجودهم، فكانت طامة كبرى ومصيبة عظمى، وقتل هؤلاء وشرد بهم من سواهم، وأعيد بناء المسجد بأشد مما كان، وحرس أشد مما كان محروساً به، فهذا من التصرفات الرعناء التي يتصرفها بعض الناس من غير حكمة، فرسولنا صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، وقد مكث ثلاث عشرة سنة بمكة لم يكسر صنماً واحداً، وكان على الكعبة حينها ثلاثمائة وستون صنماً، وقد كان يسكن في دار الأرقم وهي على الصفا، وعلى الصفا صنم اسمه (إساف)، وعلى المروة صنم اسمه (نائلة)، بل كان أهل الجاهلية يسمون المروة والصفا إسافاً ونائلة، كما قال أبو طالب: وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم بمفضى السيول من إساف ونائل ومع ذلك لم يكسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنماً واحداً من هذه الأصنام، حتى جاء الفتح فوقف عليها وكسرها جميعاً، وكان يقول وهو يهدمها: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وأرسل السرايا فهدم كل الأصنام في البلدان المجاورة، ولو كان هدمها في وقت الاستضعاف وقوة المشركين لبنوها من الذهب بعد أن كانت من حجارة، وما كان من طين بنوه من فضة، وهكذا أخذ بالحكمة وعلمنا ذلك، وهذه الحكمة ليست مقتصرة على لين الكلام في الخطاب للناس، بل هي تشمل كذلك تأخير بعض التصرفات عن بعض الأوقات، وتعجيل بعض التصرفات في بعض الأوقات، وتعجيل إبداء الموقف من بعض الأمور، وإخفاء الموقف من بعض الأمور، وكذلك تقتضي أن يقدم لشخص الأولويات ويؤخر ما دونها، وأن يأخذ بأخف الضررين والحرامين، كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، وكما قال تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]. ومن أنواع هذه الحكمة في الدعوة أنه إذا أراد الإنسان أن يغير سلوكاً لدى آخر لا يجابهه بأن هذا السلوك محض ضلال وابتداع وشرك ونحو ذلك، بل يتعرف عليه أولاً، ويحاول أن يحصل على ثقته وصداقته، ثم يسأله عن هذا التصرف ما دليله عليه، وما حاجته إليه، فإن بين له دليلاً مرضياً قال: الحمد لله؛ فصاحبي غير مشرك وغير مبتدع، وإنما كان مجتهداً فإن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران. ومن الحكمة في الدعوة أن لا تحتكر أنت الصواب، وتجعل الحق هو ما عندك فقط، فتكون أنت المحتكر للحق وحده ومن سواك أهل باطل، فهذه طريقة غير صحيحة، كل الناس خطاؤون وخير الخطائين التوابون، ولا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر، ومن هنا فعليك أن تنظر إلى الناس على أنهم عباد الله جميعاً كما أنك عبد من عباد الله، وأن لا تنظر إليهم على أنك رب وهم مملوكون لك، وأن لا تنظر إليهم على أنهم جميعاً أهل خطأ وأنت وحدك صاحب الصواب، بل تنظر إليهم على أنهم بشر مثلك مكلفون بنفس التكليف الذي أنت مكلف به، فقد امتن الله عليك ببعض النعم، فلا ينبغي لك أن تتجاهل تلك النعمة ولا أن تتغطى بها، ولا تقتضي منك العدول عن منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

درجات تغيير المنكر وصورها

درجات تغيير المنكر وصورها على من أراد أن يدعو إلى الله عز وجل أن تكون دعوته إلى الله موافقة لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشدة ومخاطبة الناس بما يكرهون ليستا من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من سنته ولا سيرته، ومن هنا فإن احتكار الصواب حتى مع المشركين لم يكن من منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ونحن نقرأ في سورة سبأ قول الله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] أي كلام أبلغ انصافاً من هذا؟ هذا نزل به الروح الأمين من عند الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمره الله أن يخاطب المشركين فيقول: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، فلا يمكن أن يجتمع ما عندنا وما عندكم فهما متناقضان، لكن أحدهما حق والآخر باطل. فما قال لهم: إن ما معنا هو المقطوع به أنه الحق، وما معكم هو المقطوع ببطلانه، بل قال: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، ثم تأتي آيات أخرى في مراحل لاحقة تبين أن الصواب هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الخطأ ما لدى المشركين، وترد عليهم ما لديهم مما يخالف ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لكنه في بداية دعوتهم لابد أن يخاطبوا بهذا الأسلوب اللين الهين، فإن الإنسان إذا جاء بالعنتريات وأراد أن يبدي للناس قوته ويحاول تغييرهم بالشدة لا يمكن أن يكون عمله هذا مجدياً ولا مثمراً، بل سيواجه بمثل ما قال الشاعر: جاء شقيق عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح ومن هنا فلا يفيد تصرفه شيئاً، بل ربما أدى هذا التصرف إلى تصرفات معاكسة، ومن أجل ذلك فمن أراد الإصلاح فعليه أن يأخذ بأسلوب الإصلاح، إذا رأى أمراً يمكنه إصلاحه فعليه أن يتكلم فيه بعموم، وأن لا ينزل ذلك على أفراد وأشخاص بأعيانهم. وإذا رأى منكراً لدى شخص معين فأراد أن يغيره، فليعلم أن المنكر درجات: الدرجة الأولى: محاولة نصيحته، وتغييره بيد الإنسان الذي فعله، فإذا أردت تغيير منكر بارز فأبلغ شيء في تغييره أن تغيره باليد التي فعلته، وإذا أقنعت صاحبه أن يتراجع عنه ويأتي لنفس الموقف الذي كان يتصرف فيه فيتصرف فيه على خلاف تصرفه الأول فهذا أبلغ تغيير للمنكر، وهو الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، فـ عمر بن الخطاب الذي كان أشد الناس على المسلمين، عندما أسلم لم يترك موقفاً من المواقف التي كان يميل فيها على المسلمين إلا وقف فيه ينافح عنهم ويدافع عنهم، فغير منكره بيده. وكذلك وحشي الذي قتل حمزة رضي الله عنه، عندما أسلم قال: إن كل موقف وقفته مع المشركين لا بد أن أقف في مقابله موقفاً في نصرة الله ورسوله، وإن هذه الحربة التي قتلت بها حمزة لابد أن أقتل بها أشد أعداء الله لله، فخرج بها إلى مسيلمة حتى قتله بها، فأبلغ تغيير للمنكر أن يكون بيد أصحابه. الدرجة الثانية: أن يكون بيد أقرب الناس إلى من فعله، فإذا أتيت بولد الإنسان فربيته على خلاف منهجه فجاء لتغيير منكر أبيه فهذا أبلغ شيء لطمس أثر أبيه، فإذا أتيت بأخيه فغير منكره فهذا أبلغ شيء، ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أتاه جبريل بعد معركة أحد، فأبلغه أن الحارث بن سويد بن الصامت هو الذي قتل المجذر بن زياد رضي الله عنهما، وأنه قتله غيلة في وقت المعركة، وأراد بذلك الاقتصاص؛ لأن المجذر كان قد قتل أباه في الجاهلية، وحين أخبره جبريل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف، ولم يأخذ معه أحداً من المهاجرين، بل خرج وحده، فأتاهم في دارهم، فتعجبوا من مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فقالوا: ما جاء به وحده إلا أمر فجاؤوا فقالوا: ما جاء بك يا رسول الله؟! فدعا عباد بن بشر، فقال: اضرب عنق الحارث بن سويد بن الصامت -وهو ابن عمه-. فقال الحارث: ولم يا رسول الله؟ والله ما أشركت ولا نافقت منذ أسلمت! فقال: أما إني لم أقتلك نفاقاً ولا شركاً، ولكني أقتلك بـ المجذر بن زياد، فقد أنزل الوحي أنك قتلته فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ووالله ما رآني أحد، وما جاءك ذلك إلا عن طريق الوحي، ومد عنقه فضربه ابن عمه وقتله. فلم تنتطح في أمره شاتان، ولم يستنكر هذا أحد، فالذي قتله ابن عمه. وكذلك الحال عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة بن دليم على رأس كتيبته الخضراء، وبيده لواء المهاجرين والأنصار، فركزه ببطحاء مكة وقال: اليوم ذلت قريش وخابت، فجاءت قريش يشكونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء شاعرهم ضرار بن الخطاب فوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الهدى إليك لجا حيي قريشٍ ولات حين لجاء حين ضاقت عليهم سعة الأر ض وعاداهم إله السماء والتقت حلقتا البطان على القوم ونودوا بالصيلم الصلعاء إن سعداً يريد قاصمة الظهـ ـر بأهل الحجون والبطحاء خزرجي لو يستطيع من الغيـ ـظ رمانا بالنسر والعواء وغِرُ الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السوآء إذ ينادي بذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداء فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء ثم ثابت إليه من بهم الخز رج والأوس أنجم الهيجاء لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء فانهينه فإنه أسد الأسـ ـد لدى الغالي والغ في الدماء إنه مطرق يريد لنا الأمـ ـر سكوتاً كالحية الصماء حينها نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً فأخذ منه اللواء، فتوقع الناس أن يدفعه إلى رجل من قريش، فما فعل، بل دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة، فوقف قيس في مكان أبيه وركز اللواء في نفس المكان وقال: اليوم عزت قريش وطابت. فخالف مقالة أبيه، وغير ما كان عليه أبوه دون أن يقع خلاف بين المسلمين، ودون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتزع المكرمة من الأنصار بعد أن أعطاهم إياها، فكان هذا من أساليب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوية البليغة. كذلك الأسلوب الآخر بعد هذا أن يحاول الإنسان أن يكون تغيير المنكر بيد غير متهمة فيه، وأهل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأهل الخير ملأ قليل وعددهم قليل في الناس، ولو اصطلموا وأخذوا من بين الناس لم يبق فيهم خير، كما قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم! إن تهلك هذه الطائفة لا تعبد في الأرض أبداً)، فمن الحكمة لهم أن يكون تغيير المنكر بأيد غير أيديهم، وأن يستغلوا أيد أخرى في تغيير ذلك، كما قال الشاعر: وكنا الأيمنين إذا التقينا وكان الأيسرين بنو أبينا فصالوا صولة فيمن يليهم وصلنا صولة فيمن يلينا فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأُبنا بالملوك مصفدينا وكما قال الآخر: ترد زمامه أيدي رجال عليهم قد رددنا ما يلينا فيكون التغيير حينئذٍ بأيد غير متهمة فيه، وهذا من أبلغ التغيير، ثم إذا احتاجوا إلى التغيير بأيديهم كانوا على أتم استعداد لذلك، وقد بذلوا الجهود قبل ذلك، وعملوا بالتي هي أحسن، وقد أنصفوا وأنصفهم الناس، وعلموا أنهم لم يتسرعوا ولم يبادروا مبادرة سلبية، وجاءت أفعالهم في وقتها المناسب.

صفات الداعية إلى الله

صفات الداعية إلى الله ومن مقتضيات هذه الحكمة أن يحاول الإنسان في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى أن يكون في نفسه قدوة صالحة، إن من يسمع الناس منه الألفاظ النابية لا يمكن أن يأتمنوه على الوحي، ولا أن يقتنعوا بأنه قد ائتمنه الله على وحيه، فالله لم يكن ليجعل وحيه بدار هوان، ومن رآه الناس مخالفاً لأوامر الله سبحانه وتعالى ومخالفاً لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يثقوا به، لكن إذا بدأ بنفسه واستقام، وكان قوله موافقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الناس سيثقون به، وسيبادرون إلى تنفيذ ما يأمر به، وسيجد النواصي مطيعة قابلة لما يوجهها إليه.

حب الداعية لكل عباد الله

حب الداعية لكل عباد الله إننا من منطلق عجزناً عن عبادة الله، ونحن نعلم أن الله وحده هو المستحق للعبادة، وأننا عاجزون عن عبادته حق عبادته نحب أن يعبده من سوانا، فيسرنا كثيراً أن يعبده جبريل وميكائيل وإسرافيل، ويسرنا عبادة أي عبد عابد لله سبحانه وتعالى، ونرضى ذلك، ونحب العابدين لله سبحانه وتعالى حباً شديداً؛ لأننا نعلم أننا عاجزون عن عبادته فنحب أن يعبد؛ لأنه أهل لذلك، وهذا من تمام محبتنا لله، إن من تمام محبتك لربك أن تحب أن يعبد ويشكر ويؤمن به ويوحد، وأن تحرص على زيادة أعداد المؤمنين به والموحدين له، وأن لا تحرص على الانتقاء منهم وأن تجعل المؤمنين قلة كما يفعله أهل الابتداع، يرون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا إلا ستة، ويريدون أن ينحصر الإيمان في أقل عدد من الناس، وهذا سبقهم إليه اليهود، فقد قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، والله تعالى رد عليهم هذه المقالة، فالجنة واسعة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فلا يضرك أن يكون الملايين من الناس من أهل الجنة، ولا ينبغي أن تتضايق إذا رأيت عدداً كبيراً من الطوائف أو الأمم من أهل الجنة، فإنهم لن يضيقوا عليك مقامك في الجنة إن شاء الله، وأنا كفيل بذلك، فالجنة واسعة جداً، ومن استشعر سعة الجنة فإن عليه أن يتسع صدره لإخوانه المؤمنين، وأن يعلم أن العبرة بالخواتيم، ولا يدري ما الله صانع فيها، نسأل الله أن يحسن خاتمتنا.

اختيار الداعية للمكان والزمان المناسب للدعوة

اختيار الداعية للمكان والزمان المناسب للدعوة إن هذه الحكمة مقتضية لانتقاء الأماكن والأوقات للكلام والتصرفات، فيا رب كلمة تقول لصاحبها: دعني ويا رب كلمة لو قيلت في مكان كانت مفيدة مثمرة، ولو قيلت في مكان آخر كانت سيئة قبيحة، ويا رب فِعل لو فُعل في مكان كان حسناً، ولو فُعل في غيره كان قبيحاً. ولما رأى صلى الله عليه وسلم أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه يتبختر يوم أحد بين الصفوف قال: (إنها لمشية يبغضها الله في غير هذا الموقف). وكذلك قال لـ عمر رضي الله عنه حين أراد أن ينتزع ثنيتي سهيل بن عمرو فقال: يا رسول الله! دعني أنتزع ثنيتي سهيل لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم. قال: (عسى أن يجعل له مقاماً تحمده عليه)، فكان ذلك عندما ارتد العرب عن دين الله، فوقف سهيل خطيباً في قريش بمكة فثبتهم على الدين. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حصلت قضية الإفك، وأراد المنافقون أن يفرقوا بين المهاجرين والأنصار، وقال عبد الله بن أبي: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فلم يعطهم فرصة للمناقشة، بل رحل وما زال بهم من وقت الظهيرة، ثم نزل في الليل، وقد صل بهم أربعاً وعشرين ساعة من السفر الجاد المضني، ويريد بذلك أن يشغلهم عن المناقشات الجانبية، وعن الأمور التي لا تدخل في الأولويات، فانشغلوا بذلك حتى وصلوا إلى المدينة. وكذلك ثبت في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه -وهو في حجته التي مات بعدها بقليل- أن رجالاً يقولون: إن بيعة أبي بكر كانت شتى، ولئن مات عمر لنبايعن فلاناً أو فلانا. فأراد أن يقوم في الناس خطيباً فيبين لهم سياسة الإسلام بعرفة، فأتاه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإنك هنا يغلب عليك الرعاع، ويحيطون بك من كل جانب، فيحملون قولك كل محمل، ولا يضعونه في موضعه، ولكن إذا رجعت إلى المدينة ونزلت بالدار واجتمع عليك المهاجرون والأنصار، فقل ما شئت. ففعل ذلك عمر، فهذا من تنزيل الكلم في مواضعه. وكذلك فإن من هذه الحكمة في الدعوة أن يدرك الإنسان الظروف المحيطة به، وأن لا يغامر المغامرات التي لا تجدي والتي لا تنفع، فالمغامرات التي هي غير مضمونة وغير موزونة هي من المبادرات المنهي عنها، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل حذيفة إلى الأحزاب قال له: (ولا تحدث حدثاً حتى ترجع إليّ). فلذلك ليس من الحكمة في الدعوة أن يقوم الإنسان بمغامرة ليس وراءها ما يمدها ويقتضي استمرارها، وكثيراً ما يتصرف أقوام على غير مشورة فيغامرون مغامرة ربما جاءت ببلايا فيجر الحبل أحبلا، كما قال أبو طالب: ففي فضل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا وقد شاهدنا تصرفاً يشبه هذا، فقد رأى أحدهم سائحة إيطالية فأطلق عليها رصاصة فجرح إصبعها فقط، فأخذ هو وكل من حوله، وتضرر بذلك عدد كبير من الصالحين الأتقياء، وأوذوا إيذاءً شديداً بسبب هذا التصرف الطائش. إن هذا النوع من المغامرات التي هي غير مضمونة وغير موزونة ليس من الحكمة ولا من الدعوة، إن من الحكمة في الدعوة أن يزن الإنسان أموره بميزان المصلحة، وأن لا تعجل، ويعلم أن العاقبة للمتقين، وأن الحق لابد أن يظهر، ومن هنا لا ينهزم ولا يضعف، ويزول عنه كل الخور، ويطول حينئذٍ نَفَسُه، وتقوى قوته، ويعد العدة ليوم آخر، كما قال الحارث بن هشام: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا فرسي بأشقر مزبد فعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي ففررت منهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بلقاء يوم مفسد وإذا أعد عدته واستعد للمواجهة فحينئذٍ يمكن أن يكون هو صاحب القرار، أما أن يتجرَّأ على مواجهة غير موزونة وهي محسومة في البداية وقواها غير متكافئة فهذا ليس من الحكمة في شيء، وكثيراً ما يؤدي إلى أضرار تستمر العقود من السنين، وما زالت المغامرات التي حصلت في بعض البلاد الإسلامية إلى الآن والناس في بعض أضرارها، مغامرات غير موزونة وتصرفات ليست عن روية، فيحصل بسببها كثير من الفساد المستشري.

حرص النبي في دعوة أمته

حرص النبي في دعوة أمته إن هذه الأمة لها حقوق على أفرادها، ولها أمجاد ضائعة، وأراض مغتصبة، وعدد كبير من المستضعفين المستذلين في مشارق الأرض ومغاربها، وكتاب وسنة، وتشريع قد أضيع وأهمل، وعلم وتراث لا بد أن يحمل، لها حقوق كثيرة أين نحن منها؟ إذا نظرنا إلى أنفسنا هذه النظرة لا يمكن أن نتكبر على الآخرين، بل نجد أنفسنا خداماً من خدام أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وسنجد أنفسنا أحرص شيء على هداية هذه الأمة واستقامتها، وهذا هو المطلوب، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى امتن علينا بصفات محمد صلى الله عليه وسلم التي فطره الله عليها، فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ولاحظ هذه الصفات، فإن فيها خطاباً للبشرية بكاملها، فيدخل فيه الكافر والمؤمن: (جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ) أي: ليس من الملائكة ولا من الجن، بل هو من البشر. وفي قراءة أخرى: (من أنفَسكم) بفتح الفاء، أي: من أعلاكم منزلة. الصفة الثانية: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128] أي: يشق عليه عنت البشرية، يريد للبشرية جميعاً الهداية، ولا يحب أن يكب الله أحداً على وجهه في النار، يحب الهداية لـ أبي جهل ولغيره، وعندما جاءه ملك الجبال فعرض عليه أن يضم الأخشبين على قريش قال: (لا. لعل الله أن يخرج من أصلابهم قوماً يعبدون الله لا يشركون به شيئاً)، فهذا الحرص على هداية كل الناس المؤمن والكافر، فيحرص على أن يكونوا جميعاً من أهل الجنة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ). لكن المختص بالمؤمنين هو قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فرأفته ورحمته تختص بالمؤمنين، أما حرصه على الهداية فيشمل الجميع، وهذا الحرص من المطلوب من كل مؤمن -وبالأخص الذين اختارهم الله لتكليفهم بالدعوة إليه- أن يجده في نفسه، وأن يتربى عليه، وأن يربي الناس عليه، وأن يكون حريصاً على هداية الناس وعدم تنفيرهم عن الحق، وأن يكون حريصاً على أن يهدي الله على يديه قوماً يعبدون الله لا يشركون به شيئاً.

النظر إلى المدعوين بعين الرحمة

النظر إلى المدعوين بعين الرحمة أخرج عبد الرزاق في المصنف أن رجلاً جاء إلى عطاء بن أبي رباح فقال: إنك يجتمع في مجلسك أنواع الناس -يقصد فرق الناس من الخوارج والشيعة وغيرهم-، وإني أكلمهم فيشتد عليهم، ولا أراك تفعل ذلك. فقال: إني سمعت قول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني. فكان فهم عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى من هذه الآية أن يكون الخطاب في البداهة وفي أول الأمر بالتي هي أحسن ثم إذا احتيج بعد ذلك إلى المراحل الأخرى في التغيير كان الإنسان مستعداً لها، لكن ينبغي أن تكون بالتي هي أحسن، وبكل هدوء، وأن يعلم الإنسان أن التجهم والغلظة دليل على قسوة القلب، ولهذا فإن مالك رحمه الله أخرج في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوَ قلوبكم، إن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية). وهذا الحديث خرج من مشكاة النبوة كما قال ابن القيم رحمه الله، وهو يأتي بأساليب دعوية رائعة، فيقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم؛ لأن كثرة الكلام مدعاة لقسوة القلب إذا لم تكن بالذكر، أما كثرة الذكر على اللسان فإنها مدعاة للين القلب واستقامة الجوارح، (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد) واكرهوها وغيروها، ولكن في الواقع أنتم عباد، وأنتم معهم في هذه السفينة التي ضرب بها الرسول صلى الله عليه وسلم المثل، والذنوب تخرق السفينة، وأنتم تريدون سد هذا الخرق، وتريدون علاج ما أفسده هؤلاء، وأنتم تستحضرون قول موسى عليه السلام فيما حكى الله عنه في كتابه عندما أخذته الرجفة قال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:155 - 156]، فهذا كلام العارفين بالله، كلام أنبياء الله الذين يعرفون الأدب مع الله وكيف يخاطبونه، لم تأخذهم القسوة ولا الشدة في مثل هذا الموقف، بل تبرؤوا في الإثم من أهل الإثم وردوه عليهم، ومع ذلك لم يجعلوا أنفسهم أرباباً، وهذا ما حكاه الله عن عيسى عليه السلام أيضاً في قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، وقد ثبت في حديث عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بهذه الآية) يصلي ليلة كاملة لم يقرأ من القرآن بعد الفاتحة إلا هذه الآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، وهذا من واقع حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته الذي أورثنا إياه، وعلينا جميعاً أن يكون لدينا هذا الحرص، علينا أن نهتم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نهتم بهدايتها وصلاح أمورها، وأن نهيئ أنفسنا لمسئولياتنا تجاه أمتنا، وأن نكون بذلك عند حسن ظن الأمة.

الأسئلة

الأسئلة

وجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما

وجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما Q هل المطلوب من إرضاء الوالدين مداراتهم، وهل لبر الوالدين حد أدنى أم لا حدود له؟ A أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان أن يحسن بوالديه إحساناً في عدة آيات من كتابه، وقرن ذلك بالإيمان في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، فعلى هذا يجب الإحسان إلى الوالدين، وبرهما يتناول كثيراً من أنواع الإحسان المختلفة، ولكن ما يذكره الفقهاء من وجوب طاعتهما إذا أمرا بمكروه أو بمندوب أو جائز لا يدخل في دلالة النصوص، وإنما هو رأي فقط، ومن أجل ذلك فيجب الإحسان إليهما بخفض الجناح لهما، والمذلة بين أيديهما، وطاعتهما بما أمرا به موافقاً للشرع، ومحبتهما ونصيحتهما، وأن يبذل لهما الإنسان ماله وما استطاع من خدمته ونفسه، فهذا هو برهما في حياتهما، أما بعد موتهما فيدعى إلى صلة الرحم والوفاء بالوصية، ونحو ذلك.

فضل سماع الحديث النبوي

فضل سماع الحديث النبوي Q هل يجوز للشخص سماع الحديث وهو يعرف صحيحه من سقيمه، وقد يعارض نصاً فقهياً لديه؟ A الحديث المقصود به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الهدى كله، ومن أعرض عنها أعرض عن الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فسماعه من أفضل العبادات، وتعلمه من أفضلها، وهو أسهل تعلماً من غيره، والرسول صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأصدقهم لهجة وأصوبهم صواباً، فمن لم يفهم كلامه لا يمكن أن يفهم كلام غيره.

أحكام اللقطة

أحكام اللقطة Q ما حكم اللقطة في الأمصار الكبيرة؟ وكيف تعرف؟ وما حالها بعد السنتين هل يتصدق بها عن صاحبها؟ والقول بالتصدق بها أرأي أم له أصل؟ A اللقطة التي يلتقطها الناس في الأمصار -في غير الحرمين- ينبغي أن تعرف كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اضبط متاعها وعفاصها، ثم عرفها سنة، ثم انتفع بها، فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر يطلبها فأعطه إياها)، فعلى هذا، على الإنسان أن يعرفها بمظانها، ومن مظانها -إذا كانت ذات بال أو ثقيلة- أن يعلن عنها في جريدة أو غير ذلك، ويحتسب ذلك على صاحبها، وإن كانت ليست ذات بال بأن كانت قيمتها زهيدة ضئيلة فلا تدخل في اللقطة، وليتصدق بها، وإن كانت متوسطة القيمة فله أن يعرفها في المكان الذي وجدها فيه وما حوله، وأن يكتب إعلاناً عنها أنه: من فقد شيئاً في هذا المكان فعليه أن يتصل بالرقم الفلاني. أو: من فقد شيئاً في هذا المكان فعليه أن يصل إلى فلان الفلاني في المكان الفلاني. فإن مضت السنة فله أن ينتفع بها، والأفضل له أن يتصدق بها، وإن جاء صاحبها يوماً من الدهر يطلبها فعليه أن يعطيه إياها.

طريقة تغيير قناعات الوالدين الواقعين في الشرك

طريقة تغيير قناعات الوالدين الواقعين في الشرك Q لي والدان يستغيثان بغير الله، ويكرهان الدعوة، فماذا يجب علي أن أفعله معهما؟ A عليه أن يبر والديه، وأن يحسن إليهما حتى يؤثر فيهما، وإذا أصبح مؤثراً فيهما فسيحبان ما يحبه هو، وحينئذٍ يصرف عنهما كل قبيح من الأفعال والأخلاق والعقائد وغير ذلك، وهذا ليس قولاً نقوله من غير تجربة، بل هو أمر مجرب من لدن القدم، فمن لا تؤثر فيه ولا يجد منك الحرص على شئونه وأموره ولا يحبك لا يمكن أن تؤثر فيه، لكن من يثق بك تمام الثقة، يسهل عليك تغيير منكره، ويسهل عليك التأثير عليه، وأنا أعرف رجلاً كان معنا، وكان شاباً من شباب نواكشوط، وقد توفي -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- وكان من خيرة الشباب، وأبوه رجل كبير السن وشيخ قبيلة، ولكنه كان أبر أولاده به فحصل على ثقته، فكان أبوه -إلى الآن- إذا رأى رجلاً من الذين كان يعرفهم مع ابنه قال: محمد محمود -اسم الولد- لا يصحب إلا الخيرين. وذلك لتمام ثقته بولده؛ لأنه يقول: عرفته منذُ بلغ فما رأيت منه إلا خيراً. فحصل على ثقته، فكان الوالد يغير رغباته وقناعاته امتثالاً لرغبة ولده، ويغير كل القناعات، ومستعد أن يترك كل شيء؛ لأنه يثق بولده تمام الثقة.

الأسلوب المناسب لدعوة الأقارب

الأسلوب المناسب لدعوة الأقارب Q كيف يعيش زوج مع زوجته وأهلها يدعونها إلى الباطل، ويكرهون الزوج لأنه من الدعاة، فكيف يدعوهم؟ وكيف يؤثر فيهم؟ A الأسلوب المناسب هو: أن يحصل على ثقتهم. أولاً، فلا يحاول دعوتهم قبل أن يكون محل ثقة لديهم، بل يحسن إليهم ويريهم من نفسه الحرص على التعاون معهم، فإذا أصبح محل ثقة لديهم متدخلاً في كل شئونهم دعاهم حينئذ من واقع قوة تأثير، ويؤثر عليهم إن شاء الله.

حكم زواج الأب من زوجة ابنه من الرضاعة

حكم زواج الأب من زوجة ابنه من الرضاعة Q قال تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، وقال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فكيف يجمع بين الحديث والآية خاصة إذا كان الابن من الرضاع؟ A هذه الآية لا تتعلق بالرضاعة، إنما بالمصاهرة، والله عز وجل ذكر المحرمات وهن ثلاثة أقسام: محرمات من النسب، ومحرمات من المصاهرة، ومحرمات من الرضاعة. فالمحرمات من المصاهرة منهن: حلائل الأبناء، وهن زوجات أولاد الصلب، فلا يدخل في ذلك حلائل الأولاد من غير الصلب، وقد اختلف في الابن من الرضاعة هل تحرم زوجته إذا كان قد تزوجها؟ فجمهور العلماء ذهبوا إلى ذلك، وقال آخرون: لا تدخل؛ لأن الله تعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] فاشترطوا أن يكونوا من الصلب، والحديث إنما هو في الرضاعة، فلا يدخل في هذا الباب فلا تعارض بينه وبين الآية.

حكم الجمع بين المملوكتين في الوطء

حكم الجمع بين المملوكتين في الوطء Q من المعلوم أن الجمع بين الأختين محرم، فهل ينطبق ذلك على المملوكتين؟ A نعم. ينطبق على المملوكتين، فلا يحل وطء أختين بملك يمين حتى تخرج الأولى عن ملكه، وعند المالكية لا بد أن يخرجها عن ملكه وعن ملك من تحت يديه من أولاده الصغار أيضاً، وهذه المسألة اختلف فيها الصحابة قديماً، لكن القول الذي اتفقت عليه الأمة بعد ذلك هو مذهب علي بن أبي طالب بتحريم ذلك، وقد قال عثمان رضي الله عنه حين سئل عن ذلك: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فلم يفت بهما، ولكن الأمة أجمعت بعد ذلك على تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين.

السنة في العقيقة عن الأولاد

السنة في العقيقة عن الأولاد Q هل صحيح أن سنة العقيقة تكون بشاتين للابن وشاة للبنت، وما هو أصل ذلك؟ A جاء ذلك في الحديث الصحيح أن يعق عن الذكر بشاتين أو كبشين أملحين، وعن البنت بواحدة، ولكن جاء أيضاً في الصحيح أنه عق عن الحسن والحسين بشاة واحدة عن كل واحد منهما، فلذلك لا حرج في هذا، فأقل ما يعق به شاة واحدة، ولا حرج في الزيادة ما لم يصل ذلك إلى السرف.

طاعة الوالد فيما لا يعارض الشرع

طاعة الوالد فيما لا يعارض الشرع Q إن لي والداً يأمرني أن أترك علم الحديث وتعلمه حتى يكون لدي علم بالفروع، وكذلك يطلب مني الزواج مبكراً امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، ولكن يوسوس الشيطان لي ويعرض لي كثيراً من العقبات، فما هو نصحكم لي؟ A أما ما ورد في السؤال الأول فما أمر به الوالد فهو مخالف لأمر الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بترك الدعوة وترك التعليم، فعلى الإنسان إذا تعلم شيئاً أن يعلمه، لكن عليه أيضاً أن يبر والده وأن يظهر ذلك، وأن لا يظهر مخالفته له. أما ما يتعلق بتعلم الفروع، فإذا أمر الوالد بذلك فهذا اختيار منه لولده أن يتقدم لعلم من العلوم المهمة قبل غيره، ورأي الوالد فيه بركة، ولا حرج أن يدرس بعض الفروع، ولكن عليه أن يبحث عن أدلتها مع ذلك ويدرسها معها. أما الاستفسار في السؤال الثاني فيما يتعلق في تعجيل الزواج فيحتاج إلى أن يعرف الإنسان واقع الشخص هل هو مستعد لذلك من الناحية البدنية والمادية، فإن كان كذلك فلا ينبغي له أن يؤخره، وإن لم يكن كذلك فقد قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].

حكم عضل المولى لموليته

حكم عضل المولى لموليته Q طلبت للزواج وخطبت عدة مرات ورفض والدي الموافقة على زواجي، والآن يريد أن يزوجني من ابن عمه، وأنا لا أرضى به زوجاً، فقد سبق أن تحرش بي حتى دخلت المستشفى، فأنا لا أرضى به لذلك ولا أحبه، والآن أريد أن أعرف حكم ما يريد والدي فعله بي؟ A يقول الله تعالى في كتابه: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [النساء:19]، فقد حرم الله عز وجل العضل، والعضل معناه: منع ولي المرأة من الزواج. وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). وعلى هذا فالذي حصل من الوالد غير جائز، والعضل غير جائز، ولا يجوز له أن يأتي بفاسق يزوجه موليته لقرابته منه، وعليكم أن تحاولوا معه وتقنعوه، وإذا كان هناك واسطة يتصلون بالوالد ويبينون له أن هذا غير جائز فهذا أفضل، ولتلتزم هي حياءها مع الله عز وجل، وتسأله أن يجعل لها فرجاً ومخرجاً، نسأل الله أن يجعل لها فرجاً ومخرجاً، وأن يكتب لها الخير.

دعاء

دعاء اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، اللهم! استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ولا منفرين يا أرحم الراحمين. اللهم! اهدنا واهد على أيدينا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا واهد بنا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا واهد بنا يا أرحم الراحمين، اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه يا أرحم الراحمين، اللهم! ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، يا سامع الدعوات! يا أرحم الراحمين! اللهم! اغفر لكل المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم! اقض حوائجهم أجمعين، اللهم! لا تردهم خائبين، اللهم! إنهم رفعوا إليك أيدي الضراعة فلا تردهم خائبين، اللهم! املأ قلوبهم أجمعين من الإيمان، وأبدانهم من الصحة، وجوارحهم من الطاعة، وأيديهم من الخير، اللهم! اغفر ذنوبهم، واقض ديونهم، واشف مرضاهم، وارحم موتاهم يا أرحم الراحمين، اللهم! اهد قلوبهم، واجمع ذات بينهم يا أرحم الراحمين، اللهم! اجمع شملهم، واجمع كلمتهم على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم! أصلح أولادهم ونساءهم يا أرحم الراحمين، اللهم! اغفر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واخلف علينا بخير يا أرحم الراحمين، اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا أرحم الراحمين، اللهم! يا حي! يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! الطف بالمستضعفين من المسلمين المستذلين في كل مكان، اللهم! الطف بهم يا أرحم الراحمين، اللهم! أنزل عليهم الرحمات يا أرحم الراحمين، اللهم! فرج كربهم، ونفس همهم، اللهم! اجعل العاقبة لهم يا أرحم الراحمين، اللهم! ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، واجمع كلمتهم على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم! رد كيد الكافرين وانصرنا عليهم أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الحكمة في الدعوة [2]

الحكمة في الدعوة [2] إن الأصل في الدعوة إلى الله تعالى أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وهذا الأسلوب مطلوب في حق الكافرين فضلاً عن عصاة المؤمنين، ولا يعارض هذا قتال المشركين، أو إقامة الحدود على الفاسقين، فكل له موطنه. ومن الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى التطبيق العملي لكل أمور الدين؛ إذ به تكتمل الدائرة، ويسد الفراغ بين العلم والعمل.

كيفية دعوة غير المسلمين بالحكمة

كيفية دعوة غير المسلمين بالحكمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فقد سبق أن تحدثنا عن مفهوم الدعوة إلى الله خصائصها ومميزاتها وأسسها وضوابطها وسنتحدث -بحول الله- عن بعض وسائل الدعوة إلى الله، كما في قوله تعالى في سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]، فلنأخذ من هذه الآية نبراساً نهتدي به إلى ما نقول، والله الموفق في القول والعمل. هذه الآية من أجمع ما ورد في كيفية الدعوة إلى الله وأساليبها، وقد نزلت في مكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وقد اختلف العلماء هل هي محكمة أم منسوخة بالآيات التي توجب قتال المشركين أينما ثقفوا، وقد ذهب ابن عطية في تفسيره إلى الجمع بين القولين -أي: إلى التفصيل- حيث يقول ويظهر لي أن الاقتصار على هذه الحال -أي: حال اللين والرفق في الدعوة إلى الإسلام، وألا تتعدى مع الكفرة متى احتيج إلى المخاشنة- هو منسوخ لا محالة، وأما من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفرة ورجي إيمانه بها دون قتال فهي محكمة في حقه إلى يوم القيامة، وأيضاً فهي محكمة في جهة العصاة، فهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة. ويؤكد القرطبي نفس المعنى حيث يقول: هذه الآية نزلت بمكة وقت الأمر بمهادنة قريش، وقد أمر الله رسوله أن يدعو إلى الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة، فهي محكمة في جهة العصاة الموحدين، ومنسوخة في بالقتال في حق الكافرين، وقد قيل -والكلام ما زال للقرطبي -: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. وكلام هذين الإمامين يقرر بوضوح لا لبس فيه أن الأصل في الدعوة إلى الله أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأن هذا الأسلوب مطلوب في حق الكفار، ولا يعدل عنه إلا إذا لم يجد في حقهم شيء، وأنه متعين في حق عصاة المسلمين والغادرين منهم، ويمنع الشارع العدول عنه إلا في حالات استثنائية محصورة محدودة كقتال الفئة الباغية، ففي القرآن آيات كثيرة تبيح للمؤمنين التعامل مع الكفار الذين لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم، كقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9]. وفيه أمر -أي: في القرآن- للنبي صلى الله عليه وسلم بمنح الجوار لمن استجاره من المشركين، وإسماعه كلام الله، ثم إبلاغه مأمنه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]، والبر، والقسط، والجوار، والوفاء بالعهد إلى مدته كلها أساليب دعوية فعالة لما تتركه من أثر إيجابي في نفوس المدعوين، وقد أدت في كثير من الأحيان إلى دفع أعداء الإسلام إلى اعتناق الإسلام والإيمان والدفاع عنه بعدما كانوا من ألد أعدائه، فقد نقل ابن القيم أن الذين استثناهم الله وأمر بالوفاء لهم بعهدهم قد دخلوا في الإسلام قبل أن تنقضي مدة عهدهم، وأن الذين تركوا ليسيحوا في الأرض أربعة أشهر لم يسيحوا في الأرض، وإنما أسلموا، ولا يعارض -أيها الأخ الحبيب- إعمال هذه الآية ما جاء من الأمر بقتال المشركين حيث وجدوا وترصدهم وحصارهم، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة، وهو مشروع لتحرير البشرية من العبودية للعباد، وتعبيدها لرب العباد، وإزالة كل قوة تقف في وجه ذلك وإيقافها عند حدودها، ولا يقف الإسلام عند تحدي الدفاع عن أرض الإسلام كما بين ذلك بعض المسلمين خطأ واقعين تحت تأثير دعايات أعداء الله. يقول سيد قطب رحمه الله عند قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، يقول: إنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك، فهو لا يعلنها حرب إبادة، وإنما هي حرب هداية متى أمكن ذلك. فالمشركون الأفراد الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى له يكفل لهم الإسلام في دار الإسلام الأمن، ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيرهم حتى يبلغوا مأمنهم، هذا كله وهم مشركون: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]. إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري أن يهتدي وأن يثوب، وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان، ذلك أنه في هذه الحالة أمن الإسلام حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه، فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين؛ لعل قلوبهم أن تتفتح وتتلقى وتستجيب، وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يبلغوا بلداً يأمنون فيه على أنفسهم. ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان الذي منحه الإسلام لهم في دار الإسلام، ولكن قمم الإسلام الصاعدة ما تزال تتراءى قمة بعد قمة، وهذه هي قمة من قممها، هذه الحراسة للمشرك عدو الإسلام والمسلمين ممن آذى المسلمين وفتنهم وعاداهم هذه السنين! هذه الحراسة له حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام، إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة. والذين يتحدثون عن الجهاد في الإسلام فيصمونه بأنه كان لإكراه الناس على الاعتقاد، والذين يحملونهم هذا الاتهام ممن يقفون بالدين موقف الدفاع، فيروحون يدفعون هذه التهمة بأن الإسلام لا يقاتل إلا دفاعاً عن أهله في حدوده الإقليمية! هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى أن يتطلعوا إلى تلك القمة العالية التي يمثلها هذا التوجيه الكريم. فهذا الدين إعلام لمن يعلمون، وإشارة لمن يستشيرون، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه وعاندوه، ولكنه إنما يجاهد بالسيف ليحطم القوى المادية التي تحول بين الأفراد وسماع كلام الله، وتحول بينهم وبين العلم بما أنزل الله؛ فتحول بينهم وبين الهدى، كما تحول بينهم وبين التحرر من عبادة العبيد وتربطهم برب العبيد، والتي تحول بينهم وعبادة رب العبيد وتلجئهم إلى عبادة العبيد، ومتى حطم الإسلام هذه القوى وأزال هذه العقبات فالأفراد -على عقيدتهم- آمنون في كنفه، يعلمهم ولا يرهبهم، ويجيرهم ولا يقتلهم، ثم يحرسهم ويكفلهم حتى يبلغوا مأمنهم، هذا كله وهم يرفضون منهج الله! انتهى الاستشهاد. ولزوم أحكام هذه الآية -أي: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة- والجدال بالتي هي أحسن لزوم أحكامها في حق الغافلين من المسلمين وعصاتهم -إلا في حالات استثنائية محصورة كما ذكرنا- أمر واضح بين، فقد أمر القرآن المسلمين بالاعتصام بحبل الله جميعاً واجتناب الفرقة، ونهاهم عن التنازع والافتراق فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) متفق عليه. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى أبعد من ذلك حين ينهى عن الإشارة إلى المسلم بسلاح ونحوه ولو مزاحاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يديه، فيقع في حفرة من النار) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)، وروى النسائي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل المؤمن عند الله أعظم من زوال الدنيا). وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم في خطبة حجة الوداع، وكانت من آخر خطبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ودع الناس فيها، ولقد نال المسلمين في ماضيهم من قريب وفي حاضرهم إ

التطبيق العملي للدعوة

التطبيق العملي للدعوة إن ما نذكره من مظاهر الحكمة كله يدخل في المجال النظري، أما المجال التطبيقي فيحتاج الإنسان فيه إلى تدريب وتعويد، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بمدة زمنية، فإذا أردت -يا عبد الله- أن تدعو نفسك إلى الصدق فاكتب آيات الصدق وأحاديثه في ورقة واجعلها في جيبك، وراجعها بين الفينة والأخرى، وألزم نفسك بالصدق طيلة أسبوع كامل؛ لأنك إذا قلت لها بأن تلتزم طيلة العمر فلن تستجيب لك. لكن إذا قلت لها: سأحاول الصدق مدة أسبوع فتستجيب لك، فإذا مضى أسبوع وقد استطاعت نفسك الإقلاع عن الكذب فقل لها: إنما أنت مخادعة، وأنت تستطيعين الصبر عن الكذب مدة الحياة، فقد صبرت أسبوعاً كاملاً عن الكذب. وهكذا إذا أردت الإقلاع عن الغيبة فاكتب آيات الغيبة وأحاديثها في ورقة واجعلها في جيبك، ثم راجعها بين الفينة والأخرى، ثم اجعل لنفسك أسبوعاً لا تسمع فيه غيبة ولا تشارك فيها ولا تنطق بها، فإذا نجحت في ذلك عاتب نفسك بهذا العتاب. وكذلك في التعود على الاستغناء بالله عمن سواه، فإذا أردت أن تعود نفسك ألا تسأل أحداً حاجة إلا الله فاكتب الآيات المتعلقة بذلك والأحاديث المتعلقة به، وراجعها بين الفينة والأخرى، وأدب نفسك بذلك أسبوعاً أو أسبوعين، ثم إذا نجحت فيه فقاض نفسك إلى ضميرك، وقل: قد نجحت في ذلك أسبوعاً أو أسبوعين فلم العناد؟ ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه على أن لا يسألوا أحداً شيئاً، فكانوا بعد ذلك إذا وقعت عصا أحدهم وهو راكب لم يأمر أحداً أن يناوله عصاه، بل ينزل حتى يأخذ عصاه. ولذلك أخرج البخاري في الصحيح عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعطي أقواماً خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار، وأكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان، منهم عمرو بن تغلب. قال عمرو: فقال كلمة ما أود لو أن لي بها حمر النعم). وكان عمرو لا يسأل أحد شيئاً، وكذلك حكيم بن حزام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال له بعد أن ابتسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن لم يأخذه بحقه كان كالذي يأكل ولا يشبع. قال حكيم: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً. فكان بعد ذلك لا يأخذ هدية ولا عطية من أحد)، حتى إن عمر كان يدعوه ليأخذ حظه من بيت المال فيمتنع، فيشهد عليه الشهود أنه قد أعطاه نصيبه من بيت المال فتركه، فلابد أن يتعود الإنسان على هذا تطبيقياً في نفسه. ثم كذلك في التعاون مع الأهل، فإذا أردت أن لا تغضب، وأن تمتثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك في قوله: (لا تغضب) فاكتب أحاديث الغضب واجعلها في ورقة في جيبك، وطبقها على أهلك. وإذا أردت التخلق بخلق النبي الكريم الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فابدأ بأمر يسير جداً، وهو أنه إن كان سائق أو خادم في البيت أو عامل في المكتب أو المتجر أو غير ذلك فحاول أن لا تقول له لشيء فعله: لم فعلت؟ ولا لشيء تركه: لم تركته؟ فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أنس: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلت، ولا لشيء تركته: لم تركت)، ثم إذا نجحت في هذه التجربة في نفسك فحاول أن تطبقها على الآخرين فقد أصبحت أستاذاً في الدعوة، حاول أن تطبقها على الآخرين فقد أصبح في زماننا هذا علم متطور يدعى (علم النفس الدعوي) يدرس في الكليات، يعرف به الإنسان الأسلوب المؤثر، ويختار به الأساليب التي يستجيب لها الناس، ويستطيع به تقييد التجارب النافعة من حياته هو وحياة من يخالطهم من الناس، ومن عرف هذا العلم لم يخل وقت من أوقاته من درس يستفيده، فما من أحد يلحظه إلا تعلم منه درساً إما أن يكون درساً إيجابياً وإما أن يكون سلبياً، فإن رآه فعل أمراً محموداً تعلم منه درساً إيجابياً، وإن رآه فعل أمراً مذموماً تعلم منه درساً سلبياً فبادره بالترك، ولذلك فإن أنبياء الله عليهم السلام كانوا يستفيدون هذه الدروس حتى من البهائم، فنبي الله سليمان عليه السلام استفاد من نصيحة الهدهد الذي قال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ماذا قال هذا الطائر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء)، فالدنيا كلها عليها الغبار، فائدتها أن يأكل الإنسان ما يغنيه. كذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تجري في السبي تبحث عن ولدها حتى وجدته فألصقته ببطنها وألقمته ثديها، فقال: (أترون هذه ملقية ولدها في النار؟ قالوا: لا. قال: فالله أشد رحمة بعبده المؤمن من هذه بولدها). إن هذا المقام إذا وصله الإنسان أصبح أستاذاً يمكن أن يستملي الدروس من تلقاء كل ما ينظر إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ هذا الدرس من هذه المرأة التي تجري تبحث في السبي عن ولدها. وسار ذات يوم -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- في طريقه بين المسجد والبقيع، فمر بسوق بني قينقاع، فرأى جدياً أسك ميتاً مرمياً فقال: (من يشتري مني هذا الجدي -والناس في السوق يقبلون على التبايع ويجمعون الدراهم والدنانير-؟ فقالوا: يا رسول الله! لو لم يكن ميتاً لكان عيباً أنه أسك! فقال: من يشتريه بأربعة دراهم؟ فقالوا: لا أحد يشتريه بذلك؛ إنه أسك صغير الأذنين ميت)، جيفة فلا أحد يشتريه بذلك، فجعله مثلاً للدنيا، وبين لهم حرص أهلها عليها، وأنهم إنما يتنافسون على الجدي، فهذه الأساليب المؤثرة هي التي تعلمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منه بعد ذلك. فقد مر أبو هريرة بالسوق، فإذا الناس قد انقطعوا في البيع عند مجيء البضائع، وغفلوا عن أنفسهم من شدة حرصهم على الربح، فصاح فيهم: يا أهل السوق! قد حرمتم نصيبكم من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاجتمعوا إليه حينما قال هذه الكلمة المؤثرة، فقال: قد تركت ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الآن في المسجد، فأدركوا نصيبكم منه. قالوا: من يرعى لنا تجارتنا؟ فقال: أنا أرعاها لكم حتى ترجعون. فخرج التجار يشتدون عدواً ويتسابقون إلى المسجد فدخلوا، فما رأوا إلا حلق العلم، فرجعوا فقالوا: ما رأينا إلا حلق العلم. فقال: هو ذاكم، هذا ميراث النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الراحة اليسيرة التي أقبل فيها التجار إلى المسجد وخرجوا بنية صادقة يريدون نصيبهم من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم كانت راحة لهم من الانغماس في الدنيا بالبيع والشراء، أراحهم بها أبو هريرة رضي الله عنهم وقطعهم عن ذلك الإقبال الشديد والانهماك في الدنيا. ونظير هذا قول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، فهو مقتض أن يحصل على الرحمة من أقاربه وذويه الذين يكذبونه ولا يرضون باستجابة دعوته. ومن هذه التطبيقات ما حصل لرجل من الدعاة، فقد أعد برنامجاً دعوياً لمجموعة من الشباب، فقال: سنأخذ شهرين في الجانب النظري وأربعة أشهر في الجانب التطبيقي. فطال عليهم الجانب التطبيقي، فلما أكملوا الجانب النظري قال له أحد الشباب: أما أنا فلا أحتاج إلى التطبيق فسأطبق بنفسي. فقال: أحسنت وبارك الله فيك، اذهب واستعن بالله. فخرج -وكان اليوم يوم الجمعة- فدخل مسجداً لصلاة الجمعة، فقام الخطيب على المنبر، فافتتح خطبته بحديثٍ موضوعٍ طويل، فأطاله الرجل طولاً عجيباً لم يصبر عليه الشاب، فوقف في أثناء الخطبة يصيح ويقول: أخرجوا هذا الإمام من مسجدكم؛ فهو كذاب وضاع يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)، وقال: (إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد)، و (من قال علي ما لم أقل فليلج النار)، وقال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فقال الإمام: أخرجوا هذا من هذا المسجد. فقام الناس عليه وأشبعوه ضرباً وأخرجوه من المسجد. فعاد حزيناً كئيباً إلى الشيخ فشكا إليه ما لقي من هؤلاء القوم في المسجد، وأن جوابهم لم يكن جواباً علمياً ولم يكن بالبرهان، وإنما كان بالعصا، فقال له الشيخ: اصبر يا بني عليهم أسبوعاً، فإذا كانت الجمعة القابلة فسنذهب ونطبق بعض الدروس التي سمعتها في هذا المسجد. فقبل الشاب ذلك مرغماً، فلما كان يوم الجمعة الآخر خرج الشيخ وطلابه إلى المسجد، فجاؤوا مبكرين، وأخذوا مقابل ظهر الإمام وجلسوا يذكرون الله، فصعد الإمام المنبر فبدأ خطبته بنفس الحديث الذي خطب به في المرة الماضية، وأخذ عليه الشيخ ووجد في نفسه تعصباً على هذا الحديث، فسكت الشيخ وهو يقلب رأسه كالمعجب بذلك، ولا يفعل ذلك إلا متعجباً لا معجباً به، فلما سلم الإمام تقدم الشيخ إليه، وسلم عليه تسليماً مبالغاً في احترامه، ثم وقف فأراد أن يتقدم فقدم إليه الإمام الميكرفون؛ لأنه عرف أنه سيثني عليه، فقال: أيها الناس! إن إمامكم هذا رجل مبارك، فمن أراد البركة وغفران الذنوب فلينتف شعرات من لحيته. فاجتمع عليه أهل المسجد حتى نتفوا لحيته، وما تركوه حتى سال الدم من لحيته، فاقترب إليه الشيخ فوضع يده على كتفه وقال: هل يكفيك هذا تأديباً على وضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعرف الشاب أنه ما زال محتاجاً إلى التطبيق العملي. ومما يقابل هذا أن إماماً من الأئمة جاءه شاب يحمل شهادة - أظنها شهادة في الشريعة- وهو يحفظ القرآن، ويرى أنه أحق بالإمامة من الإمام، ومعه أوراق رسمية كأنه معين من جهة حكومية ليتولى إمامة المسجد، فتقدم وأخذ أوراقه ووقف إلى جانب الإمام، ففهم الإمام قصده،

الأسئلة

الأسئلة

وقت صلاة الوتر

وقت صلاة الوتر Q هل يمكن الجمع بين الحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم في الليل وتراً)، والحديث الذي فيه: النهي عن النوم قبل الوتر، مع العلم أن من صلى الوتر قبل النوم لا يمكن أن يصليه آخر الليل للحديث السابق؟ A إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجعل آخر الصلاة في الليل وتراً، فقال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الفجر أوتر بركعة) أو: (فصل ركعة توتر لك ما سبق)، وقال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، لكنه لم يأمر الناس جميعاً بأن يجعلوا الوتر آخر الليل، بل أمر بعض أصحابه لما علم منهم ثقل النوم أن يوتروا قبل أن يناموا، ومن هؤلاء أبو هريرة رضي الله عنهم، قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: أن أوتر قبل أن أنام)، فهذه الوصية تختص بأولئك، وليست بيد كل الناس، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يوتر إلا في آخر الليل، فقد كان ينام قبل قيام الليل، وهذا هو التهجد؛ لأن التهجد معناه مجانبة الهجود، وإنما تسمى الصلاة تهجداً إذا كانت بعد نوم أو في وقت النوم، ولا تعارض بين الحديثين. فمن كان إذا نام علم أنه لم يستيقظ فلا ينم حتى يوتر، ومن كان يعلم أنه سيستيقظ وجرت العادة له بذلك فالأفضل له أن يؤخر صلاة الليل بعد أن ينام الناس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلاة الرجل في جوف الليل ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])، لذلك من علم من نفسه أنه إن نام لم ينشط للصلاة، فليوتر قبل النوم، ومن علم من نفسه أنه سيستيقظ وينشط للصلاة فليؤخر صلاته إلى جوف الليل. اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم! لك الحمد كالذي نقول، وخيراً مما نقول، ولك الحمد كالذي تقول، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلى وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس وأخذت بالنواصي ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذين أشرقت له السماوات والأرض أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، اللهم! ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، اللهم! استعملنا في طاعتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم! اجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! اسقنا من حوضه بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! بيض وجهونا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم! لا تشوه وجوهنا بنارك، اللهم! لا تشوه وجهونا بنارك، اللهم لا تشوه وجهونا بنارك، الله استرنا بسترك الجميل، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم! أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين أجمعين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ورد كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم! لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا ذا الجلال والإكرام، اللهم! انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم! ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، واجمع كلمتهم.

صفات الثوب الذي يجوز أن تخرج به المرأة

صفات الثوب الذي يجوز أن تخرج به المرأة Q قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، هل يدخل في ضمن ذلك ما ظهر من الثوب، وما صفة الثوب الذي يطلب من المرأة الخروج فيه في السفر؟ وهل هو القبيح بحيث يكون في لباسها له عدم صيانة العرض، أم الحسن الذين لم يكون لافتاً للانتباه؟ A إن قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] فيه استثناء بما يحل للمرأة إبداؤه من الزينة، وهو ما ظهر؛ لأن المرأة لا يمكن أن يحرم عليها إبداء الزينة مطلقاً وهي تحتاج إلى الخروج ومخالطة الناس في البيع والشراء وغير ذلك، فأذن الله لها في إبداء ما ظهر منها. واختلف أهل العلم ما هو؟ فقال بعضهم: هو اللباس الظاهر. وقال بعضهم: ما كان في الوجه من الكحل ونحوه، وما كان في اليدين من الخاتم ونحوه. وهذا المذهب الأخير هو الذي ذهب إليه جمهورهم، فرأوا أن ما ظهر منها هو ما كان في الوجه واليدين، وبهذا فسر هذه الآية عدد من الصحابة، وفسرها غيرهم، بأن المقصود بذلك اللباس الظاهر، فاللباس ظاهر كله من الزينة؛ لقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، فالزينة المقصود بها ما يستر العورة من اللباس، فهذا هو القول الثاني، وعلى هذا فإن الملابس التي تخرج فيها المرأة لا يحل أن يكون فيها عطر قطعاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة تعطرت فخرجت من بيتها فهي زانية)، وكذلك لا ينبغي أن تكون من لباس الزينة الذي لا يلبس إلا في الأعياد ونحو ذلك، فهذا أيضاً مدعاة للريبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خروج النساء للمسجد: (وليخرجن إذا خرجن تفلات)، أي: غير متزينات. وأما ما دون ذلك فهو من الأمور المشككة لا المتواطئة، فبالإمكان أن تكون ملابس حسنة ظاهرة لدى قوم وهي رخيصة الثمن غير حسنة لدى آخرين، ولا عبرة بما يحصل فيها التفاوت حينئذٍ من هذا الأمر، فإذا لم تكن الملابس مختصة بالزينة فالأمر فيها ميسور، أما الملابس القبيحة المزرية فلا ينبغي على من أنعم الله عليها من النساء بما تستتر به أن تتخذها للخروج؛ فإن ذلك من تواضع النفاق وهو ذميم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده)، والخروج في تلك الملابس من غير ضرورة من المذلة التي نهي عنها أهل الإسلام، ولذلك فهي من الأمور التي ينبغي التفريق بينها وبين التواضع، كما قال السيوطي رحمه الله: والمرء محتاج إلى أن يعرف فرق أمور في افتراقها خفا كالفرق بين العجز والتوكل والحب لله ومعه المنجلي إلى أن يقول: وعزة في أمر دين والعلو والاجتهاد في اتباع والغلو فعد منها التواضع والمذلة، فلا بد أن يفرق الإنسان بينهما.

أثر المجلات الحائطية في الدعوة

أثر المجلات الحائطية في الدعوة Q هل تعتبر المجلة الحائطية أسلوباً نافعاً من أساليب الدعوة في المدارس؟ A نعم. فهي أسلوب مؤثر قدر جرب نفعه، وبالأخص إذا كان إخراجها إخراجاً جيداً بالألوان وبالخطوط الجيدة.

مكانة الأطفال من الدعوة

مكانة الأطفال من الدعوة Q ما هو دور الأطفال في الدعوة؟ A الأطفال هم قادة المستقبل، وهم علماؤه ومجاهدوه، وحكامه، ووزراؤه، ومعلموه، ودعاته، وأئمته، وتجاره، فيجب عليهم أن يتزودوا في صباهم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تفقهوا قبل أن تسودوا)، وكذلك يطلب منهم أن يكونوا أسوة حسنة ومثالاً يقتدى به لزملائهم ونظرائهم، فإن من فعل ذلك منهم تيسر له الالتزام فيما بعد بلوغه، واستطاع أن يكف جوارحه عما حرم الله عليه بعد البلوغ، وكان بذلك من بداية عهده ناشئاً في طاعة الله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعمل شماله ما تنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، فهؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

أجر تعليم الأولاد للقرآن

أجر تعليم الأولاد للقرآن Q ما هو الحكم فيمن له أبناء في بلاد لا تتوافر فيها دراسة القرآن، هل حكمه الذهاب بهم إلى محضرة قرآنية، أم حضانتهم في بلدهم المذكور مع دراستهم ودراستُهم ضعيفة؟ A إن استطاع هو أن يعملهم القرآن وأن يتعلمه معهم فذلك أولى وأزكى، وإن لم يستطع ذلك وعجز عنه فليبحث لهم عمن يعلمهم، وإذا أحضر معلماً إلى القرية التي هو فيها كتب له أجر ذلك التعليم وأجر تعليم الأولاد الآخرين، وكان ذلك من التعاون على البر والتقوى.

حكم هجران الأرحام والجيران

حكم هجران الأرحام والجيران Q ما حكم صلة الجار إذا كان قريباً نسبه ولم يكن بمحرم كبنات العم والخال، وهل يجوز للشخص أن يهجر جاره القريب فوق ثلاثة أيام؟ A صلة الرحم من شعب الإيمان البارزة، وقد قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله حين خلق الرحم أمسكت بساق العرش فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطعية. فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأن أقطع من قطعك؟)، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ بالحض على صلة الرحم، وبين أن أفضل صلة الرحم صلة الرحم الكاشح الحاسد المشاكس، ولم يرد في الشرع تقييد للرحم بأن تكون محرماً، بل ذكر البخاري رحمه الله في صلة الأرحام، فقال: صلة الرحم: تشريك القرابات فيما أوتي الإنسان من أنواع الخيرات، فيدخل في ذلك الزيارة والدعاء والسؤال عن الحال والإهداء والنصيحة وغير ذلك مما ينفع، ويشمل ذلك الأجنبية وغيرها من ذوي الرحم. لكن آكد ذوي الأرحام صلة هم الذين يتوارث الإنسان معهم، فالذين ترثهم ويرثونك هم آكد ذوي الأرحام رحماً، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. وأما الجار فلا يحل هجرانه إلا على أساس معصيته؛ لما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يهجرن أحد أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذين يبدأ بالسلام)، وفي رواية: (وأفضلهما الذي يبدأ بالسلام)، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاث، ومثل ذلك هجران المرأة المرأة فوق ثلاث، فالهجران إذا كان على أساس المعصية فلتهجره وقت مقارفة المعصية؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. وأما الهجران المطلق فإنما يقصد به تأديب الإنسان المصر إذا علم أن ذلك يؤثر فيه، أما إذا علمت أن هجرانك لا يؤثر فيه ولا يرده عن باطله فلا تهجره بهجرة البدن.

حكم الاختلاط بالأجنبيات في الدراسة

حكم الاختلاط بالأجنبيات في الدراسة Q كيف يكون تعامل الطالب مع زملائه من الرجال والنساء المختلطين الذين يتسابقون فيما بينهم؟ A يجب على الإنسان أن لا يخالط الأجنبيات، فقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، وخلطة الأجنبيات أعظمها خلطة الفروج وأدناها خلطة النظر، وقد حرم الله الأمرين، فدل ذلك على تحريم ما بينهما؛ لأنه قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وهذا أقوى شيء في الخلطة، فإذ حرم هذان الحدان حرم ما بينهما كالمصافحة والاقتراب، ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم الدخول على النساء فقال: (إياكم والدخول على النساء. قالوا: والحمو يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت)، وأمر النساء أن يقمن من وراء الرجال، وأن لا يمشين وسط الطرق، والحمو قريب الزوج ووالده وقريبه. نعم، لا بد من صلة الرحم، لكن لا يحل الاختلاط والخلوة، كذلك إذا كان الإنسان بين مجموعة من المنتهكين لحرمات الله كهؤلاء فيجب عليه أمران: أولهما: أن يهجر بقلبه. وهذه الهجرة هي التي تسمى بالهجرة الشعورية، أن يهجر ما هم عليه، وأن يبغضهم على مخالفتهم للحق، وأن يهجرهم بقلبه، ثم بعد ذلك الأمر الثاني: وهو تغيير ما استطاع، فإن استطاع تذكيرهم بالله وتخويفهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر فليفعل، وإن لم يستطع ذلك فليهجرهم ما استطاع، إن استطاع الهجرة البدنية فبها ونعمت، وإن لم يستطع فليهجر الهجرة الشعورية.

حكم اشتراط النية لإزالة النجاسة

حكم اشتراط النية لإزالة النجاسة Q ما حكم زوال النجاسة عن الثياب التي توضع في المغاسل لغسلها؟ A من القواعد الشرعية المسلمة في المذاهب كلها أن التعبد في التطهير لا يحتاج إلى النية، فطهارة الخبث كلها لا تحتاج إلى النية، لأنها ليست مثل طهارة الحدث، فلا تحتاج إلى النية، فلذلك يطهر الثوب بالمطر إذا تعرض له وهو على شجرة، ويطهر إذا أخذته الريح فرمته في البحر أو نحوه، وكذلك الثياب إذا كانت متنجسة فغسلها الأجير، أما إذا علم أن الذين يمتهنون ذلك إنما يضعون الثياب في المياه المتغيرة، ولا يضعونها في الماء المطهر فتكون -الثياب- حينئذ داخلة في خلاف العلماء إذا زالت عين النجاسة بغير الماء المطلق، هل يبقى الحكم مؤثراً أو لا؟ فذهب الحنفية وبعض المالكية إلى أن حكم النجاسة يزول تبعاً للعين، وذهب الجمهور إلى أن حكم النجاسة لا يزول إلا بالمطهر، وهو الماء الطهور الذي لم يتغير فيه أحد الأوصاف الثلاثة. والمسألة محل خلاف بين أهل العلم، فلذلك يمكن أن يوسع على المسلمين بها، لكن ينبغي أن ينصح الذين يزاولون هذه المهنة بأن يضعوا الثياب في ماء مطهر، سواءٌ كان ذلك في بداية غسلها أم في نهاية الغسل.

تفسير قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه)

تفسير قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه) Q ما تفسير قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184]؟ A هذه الآية نزلت أول ما نزل الصوم، فقد كان الصوم على التخيير إن شاء الإنسان صام وإن شاء أطعم، وذلك في وقت حاجة المسلمين إلى الإطعام، ثم نسخ ذلك بالأمر الجاد بالصيام، فقد قال الله تعالى في بداية الأمر بالصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:183 - 184]. فهنا: أمرهم إذ ذاك أن يصوموا، فمن كان عاجزاً عن الصوم يجب عليه الإطعام مقابل كل يوم، وذلك في وقت الحاجة إلى الإطعام، ثم جاء الأمر الجاد بالصيام بعد قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فلم يبق عذر في الصيام، ولم يبق التخيير الذي كان، بل نسخ التخيير بوجوب الصيام على من شهد الشهر، أي: من لم يكن مسافراً أو له عذر. وقد قال بعض أهل التفسير: إن قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: على الذين لا يطيقونه. و (لا) في لسان العرب تأتي زائدة فتذكر ولا يراد بها النفي، وتحذف كذلك ويراد إثباتها، فمن إثباتها في الموضع الذي لا تقتضي فيه النفي قول الله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1]، {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1]. ومن حذفها في الموضع الذي يراد إثابتها فيه، قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: على الذين لا يطيقون الصيام لعطش أو هرم (فدية) وهي: إطعام مسكين عن كل يوم مداً، وعموماً فبأي التفسيرين أخذت فصحيح، فالتفسير الأول تكون الآية على أساسه منسوخة، والتفسير الثاني تكون الآية على أساسه محكمة.

حكم المراء والجدال في المساجد

حكم المراء والجدال في المساجد Q ما حكم من يتجادلون في المسجد قبل صلاة الجمعة محتجين بالدعوة إلى سبيل الله؟ A إذا كان ذلك في الحق وعلى أساس وبصيرة وبينة، وكان ذلك ليس مراءً في الدين وإنما هو مجادلة بالتي هي أحسن فلا حرج في ذلك في المساجد، ولهذا بنيت، وهو من العلم النافع، وإن كان ذلك بالمراء في الدين والمناورة والمكابرة التي يقصد بها الإنسان أن يعرف -كما قال علي: إنما أنت رجل يقول: اعرفوني اعرفوني، فقد عرفناك- فهذا ممنوع محرم في يوم الجمعة وفي غيره من الأيام.

السن الذي تشتهى فيه المرأة

السن الذي تشتهى فيه المرأة Q ما السن الذي تكون فيه المرأة أجنبية وتشتهى به؟ A لا عبرة بالسنوات، وإنما العبرة بجسمها هي وبحال الإنسان أيضاً. وكذلك أيضاً الطفل، لكن إذا كانت مراهقة فقطعاً أصبحت أجنبية على كل الاحتمال، وكذلك الصبي إذا أصبح مراهقاً، أي: قريباً من البلوغ. أما تعريف الريبة فهي: ميل القلب الذي يتهم الإنسان فيه بأنه يريد ما لا يحل له.

تعريف العلماني

تعريف العلماني Q ما كيفية دعوة العلمانيين بالحكمة، مع تعريف العلمانيين؟ A إن دعوة العلمانيين إنما هي بحسب مستواهم وحالهم، فالعلماني معناه: الذي يقر بالإسلام في جانب من جوانب الحياة ويرده في الجوانب الأخرى. الذي يريد من الإسلام الصلاة والعبادة، ولكن لا يريد من الإسلام الحكم، ولا التشريع، ولا الجهاد، ولا الحدود، ولا المعاملات هذا هو العلماني، يقبل الإسلام في بعض الجوانب ويرفضه في بعض الجوانب، ويقول: ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وهذا النوع من الناس إنما يُجادَل بالتي هي أحسن، فيبين له أن الجميع من عند الله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، فالذي فرض الصلاة هو الذي حرم الربا، وهو الذي أوجب الحكم بما أنزل الله، وهو الذي شرع الأحكام كلها، ولا يمكن أن يؤخذ بعض تشريعه ويرد عليه بعضه، فهو الذي قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85].

كيفية دعوة الوالدين

كيفية دعوة الوالدين Q والدي لديه نية حسنة، ولكنه يمارس بعض البدع، ولا يفهم كغيره من الشيوخ هذه الصحوة المباركة، فعندما تذكر له هذه الجماعات يطلق العبارات التي يطلقها كثير من الشيوخ، كقولهم: هذا الدين الجديد. أو: المذهب الخامس فكيف يتعامل معه، وكيف يُفَهَّم، وكيف يكف عن ذلك؟ A إن معاملة الوالدين في المجال الدعوي خاصة، ومثال هذا ما عامل به إبراهيم أباه عندما قال له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:43 - 45]، فيحاول الولد أولاً الحصول على ثقة والده، ويحاول بره حتى يكون أحب أولاده إليه، فإذا كان أحب أولاده إليه فلا شك أنه سيؤثر فيه تأثيراً بالغاً. وأعرف رجلاً والده شيخ قبيلة، وهو من رجال المجتمع، لكنه كان براً به، فكان أحب أولاده إليه، فتأثر بسلوكه وهديه ودله تأثراً بالغاً، فكان الوالد بعد ذلك إذا رأى أي شيء يفعله ولده هذا، قال: ما فعل محمد محمود هذا إلا على أساس بينة من الله ورسوله. وبعد أن مات محمد محمود رحمة الله عليه كان هذا الوالد يناصر أهل الدعوة الذين كان محمد محمود منهم، ويقول: محمد محمود لا يصحب إلا الصالحين. وقد مات هذا الوالد رحمه الله وهو من أنصار هذه الدعوة أو من أنصار هذا الدين ومن المجتهدين في الحق، وما تأثر إلا ببر ولده به، لكن ولده إنما ابتدأ بالبر والإقناع من غير أن يبدأ بالمناقشة والمجادلة، فأثر فيه تأثيراً بالغاً، نسأل الله أن يغفر له ويرحمه.

علاج الرهبة من موقف الدعوة

علاج الرهبة من موقف الدعوة Q من إذا قام في دعوة الناس آخذته رهبة، كيف يعالج ذلك؟ A هذا إنما يحصل في بداية الجانب التطبيقي من الدعوة، ويزول ذلك باعتلاء المنابر والتحدث أمام الناس، فإن لكل موقف رهبة، والإنسان في بداية أمره لابد أن يحصل له ذلك، وعثمان رضي الله عنه حين صعد المنبر أول ما بويع خليفة وضع قدميه في المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع فيه قدميه، فارتج عليه فلم يستطع الكلام بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت طويلاً ثم قال: أنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال، ولئن بقيت لتأتينكم الخطب على وجهها، وسيجعل الله بعد عسر يسراً. ونزل فكانت خطبته أبلغ خطبة، وهو أول من ارتج عليه على المنبر من هذه الأمة.

(لعن الله امرأة رفعت صوتها ولو بذكر الله) ليس بحديث

(لعن الله امرأة رفعت صوتها ولو بذكر الله) ليس بحديث Q هل الخبر: (لعن الله امرأة رفعت صوتها ولو بذكر الله) حديث؟ A ليس حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

من مقامات التعليم والإنكار

من مقامات التعليم والإنكار Q هل هذه المقامات خاصة بالإنكار، وهي مقام الابتداء، ومقام التردد، ومقام الإنكار؟ A الجواب لا. فهذه المقامات في الدعوة مطلقاً، في تغيير المنكر والتعليم وغير ذلك، فأول ما يبتدئ به الإنسان ينبغي أن يكون اللين، ثم بعد ذلك يأتي بالموعظة، ثم بعد ذلك يأتي بالحجة الدامغة.

وسائل دعوة المسلمين

وسائل دعوة المسلمين Q كيف ندعوا المسلمين، خاصة المنحرفين انحرافاً بيناً كالعلمانيين والشيوعيين؟ A هؤلاء ليسو من المسلمين، لكن دعوة المسلمين إنما هي تخويفهم بالله تعالى وتذكيرهم به، وتذكيرهم بأيام الله، وأخذه الشديد، وتذكيرهم بالموت وسرعة الانتقال من هذه الدار، فإن هذا مما ينفع المؤمنين، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، فيدعون بوسائل الدعوة السبع، وهي المذكورة في قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] هذه الوسيلة الأولى، {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، هذه الوسيلة الثانية، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108] هذه الوسيلة الثالثة، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، هذه الوسيلة الرابعة. وفي قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] هذه الوسيلة الخامسة، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] هذه السادسة، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] هذه الوسيلة السابعة، فهذه السبع الوسائل بنص كتاب الله. فالوسيلة الأولى قوله: {عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، فلا بد أن يكون الإنسان على بصيرة بما يدعو إليه، وعلى بصيرة بمن يدعوه وبأسلوب الدعوة. وقوله تعالى: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] هذه الوسيلة الثانية، فلا يمكن أن يكون الإنسان داعياً بنفسه وحده، بل لابد أن يجد من يساعده على ذلك ويعينه عليه. وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} [يوسف:108] هذه الوسيلة الثالثة، فلا بد أن يستعين الإنسان بالتوكل على الله وعبادته واللجأ إليه، فإن من وسائل الدعوة الدعاء، وإتقان العبادة، فمن لم تستطع التأثير فيه ببيانك ولسانك فأثر فيه بنور قلبك، وبدعائك، فإن لم يستجب لك فحاول التأثير فيه بالدعاء، فقلما يعجزك مع الدعاء. وقوله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] هذه الوسيلة هي التميز، فلابد أن يكون الداعية متميزاً مخالفاً للذين يدعوهم فيما يدعوهم إليه، فلا يمكن أن يدعو إلى شيء وهو يخالف فيه، فلابد أن يتميز عن المشركين.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) Q ما تفسير قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:8 - 9]؟ A قول الله تعالى: (ومن الناس) أي: من المشركين. (مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) أي: في ألوهيته، وينكر وحدانيته، ويزعم له شركاء. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: بغير برهان ولا دليل. (وَلا هُدًى) أي: لم يأته في ذلك هداية من الله سبحانه وتعالى. (وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) أي: لم يجد ذلك في القرآن ولا في غيره من الكتب السماوية. (ثَانِيَ عِطْفِهِ) وهذه جلسة المجادل، فالذي يجلس للخصام يدني عطفه، وعطفه جنبه. (ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي: بالمجادلة في الله. (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) فهذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لمن كان كذلك، وهذه الآيات التي وردت في المشركين أو المنافقين ليست خاصة بالذين وردت فيهم، بل الوعيد وارد على كل من فعل ذلك، فكل من حصل منه الفعل الذي جاء في القرآن الوعيد عليه أو في السنة فهو داخل في الوعيد، وورود العام على الخاص لا يمنع عموم الحكم.

حكم زيارة المرأة للرجل الأجنبي

حكم زيارة المرأة للرجل الأجنبي Q هل يجوز زيارة المرأة الأجنبية للرجل الأجنبي إذا كان مريضاً؟ A إن عيادة المرضى تجب على الأقربين، فإن تهاونوا بها وجبت على الصاحب، فإن تهاون بها وجبت على الجيران، فإن تهاونوا بها وجبت على المسلمين عموماً، وهي من حق المسلم على أخيه إذا مرض أن يعوده، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لكن من السنة في حال العيادة أن يخفف، وأن لا يزور في الأوقات المحرجة، وأن يدعو له بالشفاء، وأن يحمله على العزاء بأن يقول له: طهور وتكفير. أي: إن هذا تكفير لذنوبك وتطهير لك من أدرانك، وفيه خير لك. فيبين له ما يحمله على الصبر على المرض، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لكن لا يحل للمرأة أن تخلو بالمريض الأجنبي؛ لأن الخلوة بين الأجانب حرام، وكذلك لا يحل لها أن تزوره في الريبة، فإن ما يؤدي إلى الريبة لا يجوز، أما في غير الريبة فلا حرج في ذلك، وهو مطلوب من حقوق المسلمين ويثاب الإنسان عليه، وقد كانت عائشة رضي الله عنها وأمهات المؤمنين يعدن المرضى من المسلمين، وقد كانت عائشة تعود بلالاً رضي الله عنه -وهو ليس بمحرم- لها في مرضه، وكذلك كانت أم سلمة رضي الله عنها تعود شماس بن عثمان وغيره، وقد كانت امرأة من الأنصار تعود عثمان بن مظعون لما كان عندهم في البيت يعالجونه، فلما مات شهدت له بالخير، فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم الحذر من التزكية على الله.

وجوب قضاء الحامل والمرضع للصيام

وجوب قضاء الحامل والمرضع للصيام Q هل يجب على الحامل والمرضع قضاء رمضان؟ A الإرضاع والحمل ليسا سبباً للإفطار إذا لم يكن معهما مرض، فإن كان معهما مرض أو خشية مرض أو زيادة مرض أو خشية زيادة مرض أو تأخر برء فإنهما سبب مبيح للإفطار أو موجب له، بحسب ما يترتب على ذلك، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، معناه: فأفطر فعدة من أيام أخر. أي: فيجب عليه أن يقضي عدة الأيام التي أفطرها من أيام أخر. وقد ورد حديث ضعيف بأن الحامل والمرضع ليس عليهما قضاء، ورد في ذلك أثر عن ابن عباس، لكن ذلك لا يصح ولا يمكن أن تعارض به الآية، فهي نص صريح من كلام الله.

حكم صلاة الجمعة في حق النساء

حكم صلاة الجمعة في حق النساء Q هل تجب صلاة الجمعة على النساء؟ A الجمعة لا تجب على النساء، لكن إذا صلينها أجزأت عن الظهر، وقد كن يشهدنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير قول الله: (إنما يعمر مساجد الله)

تفسير قول الله: (إنما يعمر مساجد الله) Q ما تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]؟ A هنا بين الله سبحانه وتعالى أن عمارة المساجد باستغلالها في العبادة واستغلالها في طاعة الله سبحانه وتعالى لا يصدر إلا من مؤمن يريد وجه الله ويبتغي الدار الآخرة، فلذلك جاء بـ (إنما) التي هي أداة حصر، وقوله تعالى: (يعمر مساجد الله) يدخل فيه مساجد الجماعات والمصلَّيات وغيرها. وقوله: (من آمن بالله واليوم الآخر) الذي آمن بالله هو الذي يعرفه ويريد عبادته، والمؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يحتسب ويرجو الأجر فيما يعمل. وقوله تعالى: (وأقام الصلاة) لأنها هي التي تعمر بها المساجد. وقوله تعالى: (وآتى الزكاة) لأن الزكاة أخت الصلاة، ولذلك إنما يتركها المشركون، ولهذا قال الله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7]، وامتدح الذين يؤدونها فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:157 - 158]، وقبل هذه الآية يذكر الأمر بالزكاة وحدها، وهذا الموضع الوحيد في القرآن الذي ذكر فيه الأمر بالزكاة وحدها دون أن يرتبط ذلك بالصلاة: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ} [الأعراف:156 - 157]. وقوله تعالى: (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) هذا من تمام الإيمان بالله؛ لأن الإيمان به يقتضي خشيته، فهو أحق أن يخشى. (فعسى أولئك) و (عسى) من الله الوجوب، ومعناها: يقارب أولئك (أن يكونوا من المهتدين)، فإنهم يهدون لذلك، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي أنه قال: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان) لأن الله تعالى يقول: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)) [التوبة:18])؛ لكن هذا الحديث فيه ضعف، ومع ذلك فالمقصود بارتياد المساجد والمقصود بعمارتها ما كان مقصوداً به وجه الله، ولا يقصد بذلك ما قصد به الرياء والتسميع، أو ما كان عابراً للإنسان دون أن يحتسب فيه وجه الله.

إن الدعاء هو العبادة

إن الدعاء هو العبادة إن الله غني عن عباده، وهم فقراء إليه، وقد أمرهم أن يسألوه ويدعوه، وفتح لهم أبواب رحمته، وعلمهم كيف يدعونه وبما يدعونه، فما على العباد إلا أن يطرقوا أبواب رحمته، ويطلبوه من فضله.

مشروعية الدعاء وآدابه

مشروعية الدعاء وآدابه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

الدعاء عبادة

الدعاء عبادة عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى أمركم أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، فقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]. وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32]. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. وإنه سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدعاء هو العبادة).

آداب الدعاء

آداب الدعاء فاجتهدوا في الدعاء لله سبحانه وتعالى، وتأدبوا بالآداب التي شرع الله لكم في الدعاء، فإن الله سبحانه وتعالى شرع لكم في الدعاء أن يفتتح بالثناء على الله سبحانه وتعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يختم بذلك. وألا يكون بإثم، ولا بقطيعة رحم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم، ولا قطيعة رحم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله حيي كريم؛ يستحيي إذا مد العبد إليه يديه أن يردهما صفراً)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: (إن الله حيي كريم؛ لا يمل الإجابة حتى تملوا الدعاء)، فاجتهدوا في الدعاء لله سبحانه وتعالى، واعلموا أن هذا الدعاء هو تحقيق العبادة لله. والأنبياء فيه لهم مقامات: فمنهم من يدعو بالتعريض، كما حصل لأيوب عليه السلام فإنه قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، ومنهم من يصرح بالدعاء، كما كان إبراهيم عليه السلام يدعو. والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالحالين، فتارة يصرح، وتارة يعرض. وكذلك فإن من آداب الدعاء التي شرعها الله سبحانه وتعالى الإلحاح بالدعاء والضراعة بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ فإن المتضرع بين يديه لا يمكن أن يُرد. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث دعوات مستجابات أقسم عليهن: دعوة المسافر حتى يعود، ودعوة الوالد على ولده، ودعوة المظلوم)؛ فهذه الدعوات الثلاث يقسم عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهن مستجابات لا ترد. وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم كذلك أنه قال: (للصائم دعوة لا ترد)، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب).

فضل الضراعة إلى الله

فضل الضراعة إلى الله وإن الله سبحانه وتعالى يقدر ما شاء من قدره؛ ليرفع إليه عبيده أيديهم بالضراعة، وهو الحكيم الخبير؛ فكل أمره إنما هو لحكمة بالغة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولابد من الإيمان بقدره اللازم، ولابد أن يجأر إليه العباد بالضراعة في كل الأحوال، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إذا أحس العباد بالاستغناء؛ فإن الاستغناء سبب لحصول ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27]. وإن الله سبحانه وتعالى ينبه عباده على الضراعة إليه ودعائه وذكره بما يبتليهم به من أنواع البلاء، فإذا مدوا أيدي الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، حقق ما كان قدر، وإنه هو الحكيم الخبير: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. وكثيراً ما يحال بين المرء وبين الرزق وغير ذلك مما يقدره الله، حتى يجأر إلى الله ويدعوه، وقد قال الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43]. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة في الصحيحين أنه قال: (إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبَّان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم. ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لا إله إلا الله يفعل ما يريد!!). فلابد من إخلاص العبودية لله سبحانه تعالى والضراعة إليه بالدعاء وذلك سر استجابته، وإن الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وإن عطاءه غير محظور، وقد قال فيه: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، يعطي عبده قبل المسألة، ويعطيه إذا سأل، ويضاعف له بما لا تبلغه فكرته، وقد قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فهذا لا يمكن أن يدعو العباد به ولا أن يسألوه؛ لأنه لا يخطر على قلوبهم، ولا يمكن أن تراه أعينهم، ولا أن تسمع به آذانهم، لكن الله يبتدئهم بكرمه وجوده وإحسانه سبحانه وتعالى.

دعوة الغرباء مستجابة

دعوة الغرباء مستجابة وإنكم هنا متعرضون لنفحات الله سبحانه وتعالى بما خصكم به في غربتكم هذه وخلوتكم، فاجتهدوا في الدعاء لله سبحانه وتعالى، واعلموا أن ذلك من أبلغ القربات، وأشدها رجاء عند الله سبحانه وتعالى. وإن هذه الأمة محتاجة لدعائكم، فاجتهدوا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في الدعاء، واعلموا أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يدعو لأمته من يأتي منهم ومن حضر، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بلحاقكم بالسابقين، فقال تعالى في سورة الجمعة بعد الامتنان على هذه الأمة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3]، و (لما) لنفي الماضي المنقطع، وهذا وعد من الله عز وجل لكم أن تلحقوا بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إلى المقبرة يوماً فأخذ عوداً فنكت به في الأرض فقال: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله، منا أو منهم؟! قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعواناً). وقد صح في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟! قال: قوم صالحون في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)، وفي رواية: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي رواية: (الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي).

فضل الدعاء يوم الجمعة

فضل الدعاء يوم الجمعة إن الله سبحانه وتعالى أتاح لكم فرصة الدعاء، وشرعه لكم في الليل والنهار وفي كل الساعات، وبالأخص في يومكم هذا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائماً يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها)، فهذا اليوم فيه ساعة لا ترد فيها دعوة إلى الله سبحانه وتعالى، يستجيب الله فيها، ويفتح خزائن خيره لعباده، فاجتهدوا في أن تصادفوا هذه الساعة المباركة، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده يقللها، أي: أنها ساعة غير طويلة، لكن لا ترد فيها دعوة أبداً.

فضيلة الدعاء بأمور الآخرة

فضيلة الدعاء بأمور الآخرة ثم اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن من هداه الله للدعاء ينبغي أن تكون الآخرة أكبر همِّه، وأن يشتغل بما هنالك، وأن يعلم أن هذه الحياة الدنيا لا تساوي شيئاً، ولو عجل للإنسان فيها ملذاته وشهواته، وكل ما يرتجي ويبتغي، فذلك خسران له في الآخرة؛ فقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]. وإن الشيطان كثيراً ما يسعى بالإنسان إذا أصابته نكبة من نكبات الدنيا إلى أن يهتم بحاله في الدنيا، وأن يغفل عن حاله في الآخرة، فعليكم عباد الله ألا تتبعوا خطوات الشيطان، وأن تعلموا أن ما يصيبكم في هذه الحياة لا يساوي شيئاً مما ينتظر الآخرين في الدار الآخرة، وأن تعلموا أن الله سبحانه وتعالى اختاركم حين أصابكم في هذه الحياة؛ ولذلك فإنه يقول في خطابه للكافرين يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20]. وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ومن حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه كلاهما: (أنهما كانا صائمين، فقدم لهما طعام الإفطار، فلما رأياه ألواناً متنوعة بكيا حتى أبكيا من حولهما، فقال الناس لـ عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أبا المنذر؟! قال: إنا كنا أهل جاهلية وشر، فبعث الله إلينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فآمنا واتبعنا، فعادانا الناس في ذات الله، فمنا من مات ولم يتعجل شيئاً من أجره، منهم أخي مصعب بن عمير؛ قتل يوم أحد، وليس له إلا سيفه عليه، وبردة إن نحن غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإن نحن غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخِر، فماتوا ولم يتعجلوا شيئاً من أجرهم، وبقينا وراءهم، ففتحت علينا الدنيا أبوابها، فنحن نهدِ بها، فخشينا أن يقال لنا يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20]). عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى هو الكريم، اللطيف بعباده، الرحيم الذي لا تحجب عنه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، فتعرضوا لنفحاته سبحانه وتعالى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل). هي نفحات ربنا الكريم سبحانه وتعالى، فتعرضوا لها، واسألوا الله من فضله كما أمركم الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.

اليقين والصبر من جنود الله التي تحمي العبد من الشبهات والشهوات

اليقين والصبر من جنود الله التي تحمي العبد من الشبهات والشهوات الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وإخوانه. عباد الله! إن الله سبحانه وتعالى قواكم وأنعم عليكم بجندين من جنوده هما: جند اليقين، وجند الصبر، فاليقين يتغلب على الشبهات، لا يمكن أن تقف في وجهه أيَّة شبهة، فعليكم -عباد الله- أن تحققوا يقينكم بالله، وأن تعلموا أن المصير إليه، وأن القلوب كلها بين أصبعين من أصابعه، وأن السماوات السبع، والأرضين السبع في قبضة يمينه، وقد تعرف إليكم -عباد الله- بذلك فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يقبض السماوات، الأرضين السبع بيمينه يوم القيامة، فيهزهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، إنه ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وإنه تعرف إليكم بهذا، فأيقنوا عباد الله وحققوا هذا اليقين، وبه تتعرفون إلى الله في الرخاء؛ ليعرفكم في الشدة. ثم الجند الثاني: هو جند الصبر، الذي شرعه الله لكم، وجعل مثوبته معية الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]. إن هذا الصبر العظيم هو جند لا تقف في وجهه الشهوات، وهو الذي يقتضي بالإنسان الاستمرار على سلوك طريق الحق؛ فلا يستزله البطر ولا يستزله الأشر، ولا تستزله الضراء، فهو مفتون لا محالة في السراء والضراء، وقد قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، فصاحب الصبر هو هو على كل الحالات، لا يمكن أن يستزل بحال من الأحوال.

من وحد الله في الدعاء ذاق العبودية

من وحد الله في الدعاء ذاق العبودية ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الذي إذا رفع يديه لا يرفعهما إلا إلى لله، وإذا سأل لا يسأل إلا الله؛ هو الذي ذاق طعم العبودية لله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله)، فلا بد أن نتوكل على الله، وأن نسأله غاية المسألة، وتذكروا إخواني قول المكودي رحمه الله: إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصدُ وقفت بباب الله وقفة ضارع فقلت إلهي إنني لك قاصد ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقدُ بل تذكروا قول السهيلي رحمه الله: بجمال وجهك سيدي أتشفع ولباب جودك بالدعا أتضرعُ يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقعُ يا من يرجَّى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن امنن فإن الخير عندك أجمعُ ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفعُ ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن منعت فأيَّ باب أقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يُمنع حاشا لمجدك أن تقنط داعياً فالفضل أجزل والمواهب أوسع وتذكروا كذلك قول الحكيم: لا تسألن بنيَّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب فالله يغضب إن تركت سؤاله وبنيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ

افتقار العباد إلى الله

افتقار العباد إلى الله إن الله سبحانه وتعالى تعرف إليكم بهذه الصفة إذ قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]. وإنه سبحانه وتعالى شرفكم بشرف الانتساب إليه؛ فحققوا عبوديتكم له، وارفعوا إليه أيدي الضراعة، واذكروه على كل الأحوال؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، سبحانه ربنا ما أكرمه وأحلمه وأعلمه!! عباد الله! إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته، وثلث بكم معاشر المؤمنين، فقال جل من قائل كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوَّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]. {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147]. {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]. {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65 - 66]. {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. اللهم اسق عبادك وبلادك وبهيمتك، وانشر رحمتك على عبادك وأحي بلدك الميت. اللهم إن بالعباد والبلاد والخلائق والبهائم من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم أنزل لنا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض. اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وسائر بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين. عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه شكراً حقيقياً يزدكم: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، يغفر الله لنا ولكم.

كيف نعمل للإسلام

كيف نعمل للإسلام بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وقد زالت الغربة الأولى للإسلام ليحل محلها العز والظهور والتمكين، بعد جهد متواصل وعمل دءوب، تجلى في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سيرة أصحابه ومن بعدهم، ونحن اليوم نعيش غربة جديدة للإسلام، ولن تزول هذه الغربة عن الإسلام إلا بعمل متواصل وجهود متضافرة من جميع فئات المسلمين.

تشريف الله لهذه الأمة على سائر الأمم

تشريف الله لهذه الأمة على سائر الأمم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن جميع المسلمين يعلمون أن الله سبحانه وتعالى خلقهم لحكمة واضحة بينها في كتابه، وشرع لهم شرائع هذا الدين الذي هو خير شرائعه، وضمنه خير كتبه، وأرسل إليهم خير رسله، فشرفهم بذلك على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن هذه الأمة شهود عدول يوم القيامة، وإنه ما من نبي إلا يخاصم أمته في الملأ الأعلى، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. حتى إن نوحاً يخاصم أمته في الملأ الأعلى فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير! فيقول: مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً أدعوكم إلى الله. وهم ينكرون، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون لنوح أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى). إن أمة يستشهدها الله تعالى في الملأ الأعلى ويرتضيها شاهدة على عباده لا بد أن تتحقق فيها صفات العدالة المطلوبة، ولا يمكن أن يكون الشهود على الأولين والآخرين من المجروحين الفاسقين، لا يمكن أن يرتضى هذا عند الله سبحانه وتعالى الذي هو أحكم الحاكمين.

واجب هذه الأمة إزاء هذا التشريف والتكريم

واجب هذه الأمة إزاء هذا التشريف والتكريم لذلك فإن المطلوب من هذه الأمة أن تكون على الحكمة التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تحقق هذه الصفات في نفسها، ويبدأ ذلك بمراعاة الفرد نفسه لتحقق هذه الصفات فيه، فقد علمت عبد الله فالزم، فالمؤمن الذي يحقق انتماءه لمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجو أن يبعث تحت لوائه يوم القيامة، وأن ينادى باسم إمامه محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [الإسراء:71]. المؤمن الذي يرجو أن لا يدعى باسم إمام آخر غير محمد صلى الله عليه وسلم، ويرجو أن يكون من أولئك الذين يعرفون يوم القيامة بالغرة والتحجيل الذين يبيض الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يكون من الشهود على الناس لا بد أن يحقق في نفسه صفات مشروطة لذلك، ولا يمكن أن يتكل على مجرد التمني والتظني، فليس الأمر بالتمني ولا بالتظني، لا يتحقق هذا الأمر إلا بالجد والاجتهاد، فما أكثر المدعين الذين ينادون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بالفضيحة، ويحل عليهم قول الله الحق: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]. ما أكثر الذين يدعون انتماءهم لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا ولكنهم سيذادون عن حوضه يوم القيامة كما تذاد الإبلات الضلل يضربون على وجوههم، فيقول: يا رب! أمتي أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فيقول: فسحقاً فسحقاً فسحقا.

أطوار هذه الأمة في تحملها لمسئولية هذا الدين

أطوار هذه الأمة في تحملها لمسئولية هذا الدين الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن أطوار هذه الأمة وما ستتحمله من المسؤولية، فأخبر أن خير القرون هم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء إذا قرأنا شيئاً من أخبارهم وسيرهم واطلعنا على بعض النماذج منهم عرفنا كيف حققوا هذه الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف حصل لهم الشرف بها وأيقنوا وآمنوا وجاهدوا واتبعوا، ولم يغيروا ولم يبدلوا، وساروا على المحجة البيضاء غير مرتابين ولا شاكين، فوصلوا واتصلوا بحبل الحق فاستمسكوا به على بصيرة ويقين، وكانوا الزمرة الأولى، ثم جاء بعدهم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهنا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الراوي: ما أدري هل ذكر قرنين أو ثلاثة. ثم إنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمدا؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم). إن هؤلاء قد سلكوا هذا الطريق حين عرفوه والتزموا به، وبذلك فازوا، وقدموا لله سبحانه وتعالى ما أمرهم بأن يقدموه، ولم يقدموا بين يدي الله ورسوله، بل تأدبوا بالأدب الحق ففازوا بذلك ونجحوا، ولكن وراءهم أقواما قد غيروا وبدلوا، ولم يستمسكوا بالطريق الذي سلكه هؤلاء فنجوا، وإنما اتكلوا على التظني والتمني، تجد أقواماً كباراً يزعمون أنهم من المتمسكين بالسنة، ولا يرضون أن ينسبوا إلا إلى سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن حين تنظر إلى حياتهم وواقعهم، وحين تسألهم عن الفترة التي يقضونها في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله والبذل لله لا تجد شيئاً يذكر، وهنا ستعلم هل هم صادقون في دعواهم أو غير صادقين؟ إن سنة محمد صلى الله عليه وسلم واضحة، وكل شخص يعرف أنه صلى الله عليه وسلم مكث على هذه الأرض بعد بعثته ثلاثاً وعشرين سنة، وأن هذه المدة كان أكثرها في الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله وإعلاء كلمة الله، وما عدا ذلك فوقت بسيط للحياة الطبيعية المعتادة، وهي أيضاً واجبات ينوي لها نية تصيرها مثل السابقات، فالذي يدعي التمسك بسنته عليه أن يراجع سنته وسيرته، وأن يقسم وقته حتى يرى الجزء الذي خصصه في مقابل الجزء الذي خصصه الرسول صلى الله عليه وسلم لإعلاء كلمة الله.

حاجة الأمة لهذا الدين، وغنى الله رب العالمين

حاجة الأمة لهذا الدين، وغنى الله رب العالمين إننا جميعاً نعلم أن الله غني عنا، وأنه هو الغني الحميد، وأنه إنما أرسل إلينا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم امتحاناً لنا، وأنه غني عن جهادنا، وغني عما نبذله من أموال، وأخبر أنه لا يسألنا أموالنا فقال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، ولكنه يحضنا على أن نقدم خيراً لأنفسنا، وحينئذ فإنه سيحفظه لنا حتى نناله في وقت الحاجة إليه، (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، الظالم إنما يظلم نفسه، والمطيع المتقي إنما يقدم ذلك لنفسه، فالله غني عن كل ذلك، والله سبحانه وتعالى حين أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين لم يجعله بدار هوان، ولم ينزله إلى هذه الأرض ليتخذ ظهريا، وإنما أنزله وتعهد بأن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، وأن لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخله هذا الدين، وأن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، تعهد بذلك الله سبحانه وتعالى وهو الذي لا يخلف الميعاد، فقطار الدين منطلق، والالتحاق بركبه مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وما علينا إلا أن نبادر ونسارع، فالله سبحانه وتعالى شرع لنا هذه المسابقة والمسارعة، فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134]، إن الملتحق بهذا الركب إنما يقدم لنفسه، وإنما يتشرف هو، ولن يشرف هذا الدين ولن يزيده شيئا، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر).

العمل للإسلام لا يكون إلا بقناعة وإرادة قوية

العمل للإسلام لا يكون إلا بقناعة وإرادة قوية المؤمن حين يسأل: كيف أعمل للإسلام؟ بعد قناعته بهذا الدين وإيمانه به وشهادته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإيمانه باليوم الآخر والبعث بعد الموت فإن عليه أن يوجه هذا السؤال إلى نفسه، وحينئذ سيرى أن الله لم يدعه في مظنة ولا مهلكة، بل أرسل إليه رسولاً خاتماً للرسل، وأتاه بشريعة واضحة، وبين له معالمها لأقواله وأفعاله وتقريراته، ولم يكلف إلا بما يطيق، ولن يسأل إلا عما قامت عليه الحجة فيه، وكل ما لم يبلغه فإنه لم تقم عليه الحجة به، فإنه لن يُسأل إلا عما كان معلوماً من الدين بالضرورة لا يعذر أحد بجهله. لهذا فإن من انتمى إلى هذا الدين فأول واجب عليه أن يحقق انتماءه له، وأن يعلم أن هذا الانتماء قناعة، وأن القناعة أيا كانت مقتضية للعمل، فالذي يقتنع بأن عليه أن يكون عالماً ولكن لا يذهب إلى العلماء ولا إلى الكتب، وإنما يستقر في دويرة أهله، أو يذهب إلى الأسواق، أو إلى محلات بعيدة عن العلم لم يعمل من أجل قناعته، وبذلك لا تتحقق قناعته أبدا، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في السنة لـ ابن أبي عاصم - أنه قال: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم)، فلا يمكن أن تتحقق هذه الأمنية حينئذ، وكذلك الذي يقتنع بأن عليه أن يكون من التجار الكبار ومن الأغنياء المشار إليهم عليه أن يبكر بكور الطير إلى الأسواق، فيصفق فيها كما يصفق الناس، فإن نام في وقت الصبيحة واستقر في بيته ولم يعمل من أجل قناعته فإن قناعته لاغية، وإن من اقتنع بأنه قد جاء إلى هذه الدنيا لحكمة واضحة، وقامت عليه حجة بالغة، وأنه سيموت ويخرج من هذه الدنيا ويتركها وراء ظهره، وسيبعث من قبره، وسيوقف بين يدي الباري سبحانه وتعالى، ويسأل قبل ذلك في قبره فيقال: من ربك وما دينك وما كنت تقول في هذا الرجل عليه أن يحقق وأن يعمل من أجل قناعته هذه حتى تكون قناعة واقعية، فما أكثر المتمنين الذين يتمنون على الله الأماني، ويزعمون أنهم من الذين ستكون لهم الغرفات يوم القيامة، ما أكثر الذين لا يرضون إلا بالفردوس الأعلى من الجنة، ولا يرضون إلا بمجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكن حين ننظر إلى الذين يقدمون من أجل ذلك أعمالاً جساما ويخلصون في ذلك لله نجدهم قلة قليلة من هؤلاء. فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن المشركين وعن اليهود أنهم يودون أن يعطوا يوم القيامة براءة من النار، وأن يؤتوا صحفا منشرة، وأن يدخلوا الفردوس الأعلى من الجنة، ولكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم هذه الأمنية وأخبر أنها كاذبة. والمشكلة أن كثيرا من المؤمنين يسلكون طريق اليهود والمشركين في ذلك، فيتمنون على الله الأماني ولا يقدمون شيئا، تجد المؤمن الذي أنعم الله عليه بالإيمان، وتربى في بيت مؤمن بين أبوين مؤمنين، وتعلم من دين الله أو أمكنه أن يتعلم على الأقل، وأنعم الله عليه بتمام جوارحه وقوة بدنه وتمام عقله وتفكيره، وكان في مجتمع فيه من يقتدى به وفيه من يستفاد منه، وتجده يبلغ الثلاثين من عمره أو الأربعين لم تبق له حجة على الله، ولم يقدم شيئا يذكر لدين الله، تمضي هذه السنون هباءً منثورا، ويا ليتها كانت هباءً منثورا، بل تكون حجة على أصحابها، وهي حجة لله عليهم، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]. فيا ليت هذه السنوات التي مضت تمضي بما فيها من خيرٍ وشر، وتذهب بكل ما فيها، ويكون الشخص كأنما ولد من جديد، لكن المشكلة أنها تنقضي أيامها وتبقى تبعاتها، ولذلك كان كثير من السلف يقولون في دعائهم: اللهم إنا نعوذ بك من ذنوبٍ ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها. تنقطع اللذات وتبقى التبعات، ويمضي العمر على هذا والشخص يؤمل زيادةً في العمر {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، فحينئذٍ تنقطع الآمال، ويندم الشخص على ما فرط في جنب الله حين لا ينفع الندم. فأنت -يا عبد الله! - في هذه الدنيا قد مكن لك فيها، وفتح لك كثير من المجالات، وأنعم الله عليك بكثير ٍمن النعم، وعلمت الخير أو أمكنك تعلمه، فلماذا لا تستفيد من كل هذه المجالات؟! إلى متى وأنت تغدو وتؤمل غيباً لا يتمناه إلا العاجزون؟! كثير من الذين يحبون نصرة الدين ويسعون لإعلاء كلمة الله يقولون نحن نرجو الوقت الذي ينزل فيه المسيح عيسى بن مريم فنجاهد معه، أو يخرج جيش المهدي ونجاهد معهم!! وما هذا الأمل الطويل الذي يوصلك بأزمانٍ قد لا تصلها أنت ولا ذريتك من بعدك؟! إنك لم تكلف بأن تنتظر هؤلاء، إنما كلفت بأن تنجي نفسك من عذاب الله، وأن تقدم شيئاً لدين الله، ولن تكلف إلا بما تطيقه وتستطيعه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. إن العمل لهذا الدين ليس مثل الأعمال الدنيوية التي يمكن أن يقدم فيها الشخص منافع لبعض الناس أو يرفع عنهم أضراراً دون أن يستشيرهم؛ لأنه يعلم أنهم بحاجةٍ إلى هذه المنافع وفي خشية من هذه المضار، فالله سبحانه وتعالى يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، لا يمكن أن تقدم نفعاً لله تعالى ولا أن ترفع عنه ضررا، إنما تنفع نفسك أو تضرها (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).

واقعنا اليوم في زمن الغربة

واقعنا اليوم في زمن الغربة نحن اليوم في زمان الغربة، وفي زمان ضعف الدين وتراجعه، ولم يأتنا هذا من جهالةٍ، بل أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق بذلك، وأخبرنا أن هذا الزمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وأخبرنا بهذه الفتن التي تموج كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا. وأخبرنا أن هذه الأزمان تكثر فيها الفتن وتنتشر، ويكثر فيها الهرج، ويرفع فيها العلم ويكثر الجهل، كل ذلك أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكنه أخبرنا عن الاستمساك فيها وما ينجي منها، فأخبرنا أن النجاة بهذا الحبل المتين المستقيم الذي هو حبل الله، من استمسك به عصم، ألا وهو القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. وهذه السنة المبينة للقرآن التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين بها القرآن أتم بيان، فمن استمسك بهما عصم، ومن تركهما قصم الله ظهره، وانهوى على وجهه في النار، لذلك فإن الذي يتوقف عن العمل لنصرة الدين رجاء هذه الآمال الكاذبة مغرور ويخشى عليه من الخذلان، يخشى عليه من الخذلان حين يطيل الأمل ويتبعه، وتُمنيه النفس الأماني فينقاد لها، ويأتيه الشيطان كي يدعوه إلى بنيات الطريق ويقول له: وتكونوا من بعدها قوماً صالحين. حينئذٍ يغتر بأعماله التي يقوم بها، وينسى ما كلف به، وينسى ما أسلف وما فرط فيه من جنب الله فيما مضى من عمره، فيا ليت هؤلاء انتبهوا قبل أن يقعوا في الهاوية، وقبل أن توصد عليهم النار الحامية، يا ليت هؤلاء انتبهوا وأدركوا أن بقية العمر ما لها ثمن، ولذلك يقول الحكماء: إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره. كل شخصٍ منا يعلم أن ما مضى من عمره قد ضيع، وأن بقيته لا يدرى متى تنقضي، فعمر ضيع أوله جدير بأن يحفظ آخره، فعلى الشخص حينئذٍ أن يحقق عهده مع الله الذي أخذه عليه، وأن يبدأ بنفسه ويحاول الإنطلاق بما أتاه الله من قوة، ويعلم أن الحرب القائمة سنة كونية وذات تاريخ طويل مستمر، فمنذ بعث أول رسولٍ إلى أهل الأرض وهذه الحرب قائمة بين الحق والباطل، يكون للباطل فيها بعض الصولات ولكنه يضمحل في النهاية، ويورث الله الأرض عباده المؤمنين المتقين، وبعدها تأتي صولة أخرى للباطل ثم يضمحل، وهكذا دواليك. إن الحرب قائمة على ساقها، ونازعة بأشدها، ونحن نشهدها في مختلف مجالات الحياة، نشهدها في مجال الاعتقاد، وفي مجال العمل، وفي مجال الاقتصاد، وفي مجال السياسة، وفي مجال الثقافة، وفي غير ذلك من المجالات، وفي بناء البيوت والمجال الاجتماعي الحرب شعواء على دين الله، وقبل ذلك نُبِذَ فيها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في كثير ٍمن المجتمعات الإسلامية -إلا من عصم الله- وراء الظهور، وفي مجال الثقافة والعلم أصبح الناس يرجعون إلى مراجع مخالفةٍ لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويقدمونها على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

الحرب على الإسلام في مجال التحاكم والتشريع

الحرب على الإسلام في مجال التحاكم والتشريع وفي مجال التشريع والتحاكم يرجع الناس إلى قوانين هي من وضع أقوامٍ لو نظر إلى مصالحهم الدنيوية وكيف يتصرفون فيها لرأيت أنهم من أسفه الناس، ومع ذلك يوكل إليهم التشريع للأمم، كل واحدٍ منهم لا يحسن القيام على نفسه، ولا على ما أودعه الله وما جعل تحت يده من أهله وأولاده وماله، ومع ذلك يأتي بقوانين يضعها لتطبق على عباد الله في أرض الله، إن هؤلاء السفهاء الذين يشرعون للناس أحكاماً غير شرع الله سبحانه وتعالى إنما يتلقون ذلك من قبل شياطينهم {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، وإنهم بذلك حين شرعوا هذه القوانين ونصبوها في الأرض ودعوا الناس إليها بل أجبروهم على التحاكم إليها وترك كتاب الله ظهرياً وراء ظهورهم سيكون عليهم إثمهم وإثم من لحقهم واتبعهم على ذلك المنهج. إن جهالة المسلمين اليوم بكثيرٍ من شرع الله سبحانه وتعالى، وأن يعيش الكبير منهم عمره كاملاً ويموت، بل قد تموت الأجيال المتلاحقة، فتجد أربعة أجيال وخمسة من المسلمين في قطرٍ واحد، وهذه الأجيال الخمسة لم يشهد الواحد منها حداً مقاماً على الأرض، ولم يشهد التحاكم الواقعي إلى دين الله تعالى في حياته، خمسة أجيال متلاحقة!! إن هؤلاء حين انصرفوا عن منهج الله ستكون عليهم آثام هذه الأجيال بكاملها، وهذه الآثام ليست تابعةً لدول، فهذه المؤسسات التي يسميها الناس الدول أو الشركات أو المجالس أو الإدارات لا تبعث يوم القيامة، إنما يبعث الأفراد، والمسئولية يوم القيامة فردية، في الدنيا يقال: فلان من قتله؟ فيقال: قتلته الدولة الفلانية. أو يقال: المال الفلاني من أخذه؟ فيقال: أخذته الدولة أو المؤسسة الفلانية، أو المحكمة الفلانية. لكن يوم القيامة المسئولية محددة، وفلان هو المسئول عن هذا بعينه، لا يبعث يوم القيامة أحد رئيساً ولا وزيراً ولا حاكماً ولا قاضياً، يبعثون يوم القيامة عباداً سواسية، كل شخصٍ منهم يتحمل أوزاره على عنقه، وهو المسئول عنها وعن كل من عمل بها. فلا تظن أن هذه المؤسسات التي تشاهدها باقية أو أنها دائمة، وانظر إلى القبور تخبرك بالحق الذي لا غبار عليه ولا مرية فيه، وانظر إلى القبور التي يستوي فيها الحاكمون والمحكومون، يأتي الدود والرمل على كل ما هنالك، فيذهب كل ذلك للملة والتراب والمهلة، وهو بعد ذلك سيبعث ويسأل عن أعماله. وترى كثيراً من الذين كانوا صناديد في هذه الأرض وأذلوا الناس في مشارق الأرض ومغاربها بسلطانهم وقد أصبحوا لا تدرى جثثهم في أي مكان من الأرض استقرت، وتجد الفقراء المساكين يمشون على قبورهم وهم لا يشعرون، أين الجبابرة الذين أخرجوا إبراهيم من كوثا؟! وأين نمرود الذي رمى به في النار؟ وأين الفراعنة الأقوياء؟ وأين القياصرة والكياسرة؟ كل هؤلاء إذا سألت عن قبورهم لا تجد من يخبرك عنها، وتجد أن كثيراً منهم حين عاد إلى الأرض التي منها بدأ أصبحت ذراته في هذا التراب يمشي عليها الفقراء والمعبّدون الخادمون، وأصبحت رفاتهم مزارع للفقراء، ما هي إلا مدة يسيرة تعود فيها الأمور وتحول كما كانت، ولكن بني الإنسان يغترون بهذه المدة اليسيرة، فحين يجلس شخص على كرسيٍ ما يتوقع أنه دائم على ذلك وأنه لا يتحرك، حينئذ يطغى ويبغي ويفعل ما سولت له نفسه، كما أخبر الله تعالى عن اليهود بذلك: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} [الإسراء:7]، لكن هذا منقطع زائل، ويبقى بعده الحجة لله على عباده، والمسائلة بين يديه والعرض عليه، فحينئذٍ إما إلى جنةٍ وإما إلى نار.

ضعف المسلمين لا يجوز أن يولد الهزيمة في العمل للإسلام

ضعف المسلمين لا يجوز أن يولد الهزيمة في العمل للإسلام إن كثيراً من الناس حين يطرح هذا السؤال -وهو: كيف نعمل للإسلام- ينطلق من نظرة عجلى ضيقة فيقول: نحن اليوم في أمة الإسلام ونراها وهي أضعف الأمم وأذلها، وأبعدها عن النهج الصحيح، حتى في أمور الدنيا تكون في مؤخرة الركب دائماً، ولا يوزن لها أي ميزان، وقد انتشر فيها من أنواع المخالفات والمعاصي ما لا يمكن عده فضلاً عن إصلاحه، وتأتي الهزيمة من هذا الوجه! فيقول الشخص كيف أعمل وأنا في هذا السيل الجارف؟! فيجد نفسه مضطراً بأن يسير في اتجاه السير، وبذلك يخسر نفسه؛ لأنه ليس مثل أولئك الهالكين الذين لم يرفعوا رؤوسهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فأولئك قد حددوا طريقهم وساروا فيها عن قناعةٍ، وهم الذين اتخذوا القرار بأن يضلوا سواء السبيل، ولكن هذا المسكين قد انجرف في السيول الجارفة دون أن يتخذ قراراً بذلك، بل هو تابع سيكون مستضعفاً في الدنيا مستضعفاً في الآخرة، ولذلك في خصومتهم مع الذين استكبروا يوم القيامة نجد هؤلاء المستضعفين يشكونهم إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31]. ولكن ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا، فهؤلاء الذين ساروا مع هذا السيل في اتجاهه قد خسروا أنفسهم وقامت عليهم الحجة بقناعتهم، فلذلك غووا وضلوا عن سواء السبيل، فلم ينالوا حظاً في الدنيا ولا حظاً في الآخرة.

العمل للإسلام مسئولية جميع المسلمين

العمل للإسلام مسئولية جميع المسلمين نجد كثيراً من الناس يقول: إن مسئولية إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه مسئولية شاقة ينبغي أن يتحملها الرؤساء والقادة والعلماء فقط، وأما من عداهم من الناس فما عليهم إلا السمع والطاعة وهز الرؤوس إلى الأمام لكل من قام. وهم رعاع وهمج يرعون كما ترعى البهائم، وهذا معناه أنهم يعلمون أنه لا خير فيهم؛ إذ لو كان فيهم خير لعلموا أن هذا لا يمكن أن يقدموه حجةً بين يدي الله سبحانه وتعالى في العرض عليه، ولعلموا بأن مسئوليتهم لا تقف عند هذا الحد، وأن المسئولية شاملة عامة، فليس الغزو لدين الله تعالى والتخريب فيه خاصاً بالمجال السياسي أو العلمي فقط حتى يُعدل فيه باللائمة على السياسة والقادة أو على العلماء، بل الفساد سائد وسائر في جميع المجالات، وأنت -يا عبد الله- آلة من الآلات فحاول أن تُستغل في خير، حاول أن يكون لك جزء بسيط من الإصلاح، ولا تحتقر ذلك الجزء؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:120 - 121].

كيف نستطيع أن نعمل الكثير للإسلام

كيف نستطيع أن نعمل الكثير للإسلام إنك حين تصلح نفسك وتجعل منها نموذجاً صالحاً ملتزماً بشرع الله تعالى مسارعاً إلى الخير محققاً لزومية اتباع رسول صلى الله عليه وسلم تكون قد انتصرت على نفسك، وكان ذلك إرشاداً لمن سواك، وضرب مثلٍ لهم ليقتفوا أثرك، وحين تعجز عن هذا فلا تعجز عن أن تكف الشر وأن تقتصر على أن لا تكون آلةً تستغل في الشر، فما أكثر الذين يستغلون من حيث لا يشعرون، ما أكثر الذين يقادون بأزمتهم إلى الشر من حيث لا يشعرون فيستغلون في معصية الله سبحانه وتعالى، تستغل أوقاتهم بالمعصية ويسخرون لها، وتستغل أموالهم في المعصية وتؤخذ منهم لذلك، أو يؤدونها طائعةً بها أنفسهم. ولو أن رئيساً أو جباراً من أهل الأرض أخبر قوماً أنه سيزورهم، فهل ترى أن تجارهم وأغنيائهم سيبخلون فيما يقدمون في ضيافته من المال؟ سيقدمون له كثيراً من الأموال التي لو عرضت عليه من قبل لما رضي بإفساد هذا المال الكثير في هذه اللحظات القليلة؛ لأن إفساده سيعود بالضرر عليه هو، لكن لو أنهم سمعوا قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] فهل ترى أنهم سيقدمون العشر فقط من هذه المبالغ التي يقدمونها في سبيل وجهاء الدنيا وطواغيتها؟ إنه مع الأسف قلّ من ينظر هذه النظرة، وقل من يوجه هذا السؤال إلى نفسه، ولذلك ليس هذا فقط مختصاً بالجانب المالي، بل حين ننظر إلى الوقت ونجد أن عمر الإنسان في الواقع إنما هو أربع وعشرون ساعة فتقسيمه لها إذا راجع نفسه وحاسبها وهو على فراشه حين ينام، وسأل نفسه: كم أنفقتُ من هذه الأربع والعشرين ساعة في مرضات الله سيجد أن ذلك قليل جداً، وأنه كان بالإمكان أن يكون كل ما أنفق في سبيل الله، فإن ذهب يلتمس درهماً للمعاش فلو أخلص النية لله لكان ذلك في سبيل الله؛ حيث أدى حقاً واجباً عليه من نفقةٍ أهلٍ أو قضاء دينٍ أو خدمةٍ أياً كانت، فلو أخلص في ذلك لله لكان إنفاقاً في سبيل الله، وإن جلس وقتاً مع صديقٍ له أو أخ في الله فلو نوى لذلك وقصد به الخير وجعله من التزاور في ذات الله لكان ذلك في سبيل الله، ولكن المشكلة أن الناس سفهاء في الأوقات رغم رشدهم في الأموال، الأوقات تمضي دون حساب، والأموال تحاسب بالدوانق. كذلك فإن الشخص عندما يقوم على تربية أهل بيته، ويجد نفسه مسئولاً عن زوجةٍ وأولادٍ وإخوةٍ صغارٍ وجيرانٍ، وقد يكون له أثر في بعض الأحيان حتى على قبيلةٍ بكاملها، فيجد أنه كان بالإمكان أن يصلح، وأن يعلم أن هؤلاء رعية له، وهم خصومه يوم القيامة، وعليه أن يربيهم أحسن تربية، وأن يدعوهم إلى الالتزام بمنهج الله سبحانه وتعالى، وأن يحببه إليهم، وأن يسعى على الأقل أن لا يتخذوه سبيلاً إلى المخالفة والمعصية، وما أزال أذكر رجلاً من التجار الذين نحسبهم -والله حسيبهم- من أهل الخير والصلاح، ففي سنة ستٍ وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد قام أولاده مع نهضة الجهل والشيوعية التي سادت في بعض ولاياتنا الداخلية، ولكن هذا الرجل الغيور دعا أولاده فقال: اخلعوا الملابس التي تلبسونها والنعال التي تتخذونها وكل ما لديكم، فهو من مالي وكسبي، وأنا الذي بذلت فيه عرق جبيني، ولا يمكن أن يحاسبني الله عليه وأنتم تتصرفون فيه في معصية الله. فكان هذا الموقف شجاعاً، ومع ذلك لم ينقصه شيئاً في المجتمع ولا عند الناس، وكان في مرضات الله سبحانه وتعالى، ولذلك هدى الله به بعض أولاده للخير، وما زالت فيهم لمسة تربيته إلى وقتنا هذا. إننا بحاجةٍ إلى أن تكون لدينا هذه الجراءة، فالذي يعاهد الله سبحانه وتعالى على أن يكون جندياً من الجنود لا بد أن يعلم أن الجندية لا بد أن تمر بكثير ٍمن التدريب، فهل تظنُّ أن شخصاً يمكن أن يكون عقيداً دون أن يمر بكثيرٍ من التدريبات، وأن يكون خادماً لكثير ٍمن الجنود والضباط؟! لا يمكن أن يتم هذا، فلذلك لا بد قبل هذا أن يبذل كثيراً من المجاهدة وأن يمر بكثير ٍمن المراحل، ونحن نعلم أن أول الفكرة آخر العمل، فالذي يفكر في نصرة دين الله وهو في بيته أول فكرةٍ تدور في خلده وخاطره هو أن يرجع الناس جميعاً إلى دين الله أفواجاً، وأن يقيموا خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطبقوا القرآن ويتحاكموا إليه ويلغوا كل القوانين ويدوسوها بأقدامهم، وأن يعلوا راية الجهاد في سبيل الله وتنطلق تحتها الصائفة والشاتية، ولكن هذا هو غاية لا بد قبلها من كثيرٍ من الوسائل والخطوات التي تأتي بالتدريج، فقد لا تعيش أنت إلى ذلك الزمان، ولكن اجعل ما بقي من عمرك في سبيل الله، حاول أن يكون عمرك أنت إعداداً لأجيالٍ من أولادك وأولاد غيرك يسلكون هذا الطريق لعلهم يصلون إلى هناك وإلى ما ترغب فيه، حاول أن تكون مصلحاً إصلاحاً بسيطاً جداً في أسرةٍ خاصة، فهذا البيت من بيوت المسلمين حاول أن تجنبه الآثام والمعاصي الكبار كبائر الإثم والفواحش، حاول أن يكون هذا البيت يتلى فيه كتاب الله، وحاول أن يقام فيه دين الله، وأن يكون فيه الآمر واحداً ويكون البقية مأمورين، وأن يحاولوا الالتزام بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه، حاول أن يتقيدوا بالأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكونوا جميعاً من ذوي النفوس الشفافة المقبلة على الخير التي ليست لديها عبيّة الجاهلية ولا دعاويها ولا تفاخرها بالآباء، وحاول أن تخرج لنا أهل بيتٍ يمكن أن يخرج من أصلابهم قوم يحققون هذه الأمنية التي تتمناها، إذا تجاوزت هذا وكنت سيداً مطاعاً أو كان مشاراً إليك بالبنان فاجعل من بيوت قبيلتك أو بيوت المجتمع التي تؤثر فيه بيوتاً مثل بيتك، فأصلح هذه البيوت حتى تكون نموذجاً في هذا المجتمع، فكيفما تكونوا يولَّ عليكم، فإذا وجدنا من كل أربعين بيتٍ بيتاً واحداً يشع منه نور القرآن، ويستمسك أهله بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويلتزمون في العقائد والعبادات والأخلاق والآداب بسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه سيرفع بهم البلاء عن الأمة. إن ما نجده ونعيشه من هذه الأخطار والابتعاد عن هذا الشرع هو بلاء أصبنا به بسبب ذنوبنا، وإننا إذا أقلعنا عن هذه الذنوب وعدنا فسيرفع الله عنا هذا الوباء، ولذلك قال أحد الدعاة المشاهير: أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم يقمها الله في بلادكم. فإذا بدأ الشخص بنفسه وبيته، ولم يسر مع الهالكين الغاوين، وحاول أن يكبح نفسه وأن يلتزم بالحق وأن يعض عليه بالنواجذ، وأن لا يتصرف تصرفاً إلا وهو يعد الجواب عنه بين يدي الله تعالى، وحاول أن يكون مصلحاً لكل من له عليه أمر أو يمكن أن يؤثر فيه فإن المجتمع سيصلح بكامله، ويرفع عنه هذا العقاب الذي قد ساده، إذا وجدنا من يربي أولاده على أن يكونوا من حملة كتاب الله في صباهم، ومن المحبين لسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ومن الراغبين في السؤال عما يجهلون من الدين، ومن الذين يتحلون بالأخلاق الإسلامية الحميدة، ومن الذين يحبون هذه المساجد التي يشع منها هذا النور وتنطلق منها هذه الدعوة فإننا نكون حينئذٍ قد تحقق لدينا كسب كبير، وعملنا للإسلام عملاً جاداً، وبهذا تخرج الحشود من المسلمين وكل شخص منها عاقد العزم على أن يأتينا بأفرادٍ، فإذا مات لم نخسر مكانه في المسجد، فننظر إلى مكانه في الصف الأول أو في صفٍ من الصفوف فنجد من يخلفه فيه من ولده، سواءٌ أكان ولداً طينياً أم ولداً دينياً، فالطيني ولده لصلبه، والديني من أثر فيه ودعاه إلى الحق، وهداه بما تحمله من الهداية وبما آتاه الله تعالى من العلم، وبذلك يزداد العدد ويكثر السواد، وتحصل الهيبة المطلوبة في نصرة الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يأمر المسلمين أن يُخرجوا إلى صلاة العيد العواتقَ والحيَّضَ ورباتِ الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين ويشهدن دعوة المؤمنين كان بهذا يرشد إلى أهمية اجتماع المسلمين واحتشادهم في حشدٍ عظيم يغيظ أعداء الله ويحقق نصرة دين الله تعالى ويعلي كلمته.

رغبة أكثر المسلمين اليوم في تطبيق شرع الله

رغبة أكثر المسلمين اليوم في تطبيق شرع الله وبذلك يعلم في هذه العصور المتأخرة التي ركن الناس فيها إلى جمع الأصوات، وتحاكموا فيها إلى الحكم الديمقراطي، يعلم أن رغبة المسلمين وكثرتهم الكاثرة إنما هي في دين الله، وأن من أراد أن يحصل على أصواتهم ويصل إلى رغباتهم فليحقق دين الله سبحانه وتعالى وليطبقه عليهم، وأنهم لا يرضون قانوناً سواه، وأنهم ينبذون ذلك ويخالفونه، ولا يمنعهم من الإعلان بذلك أي مانع، فلا يمنعهم من إظهار الحق حياء ولا عجز ولا مسكنة، فهم الذين أعزهم الله بالإيمان، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولا يمنعهم خوف، فهم الذين يعلمون قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، ولا يمنعهم طمع، فهم الذين يقرأون قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28]، فلذلك على من يريد سيادة المسلمين أو يريد جمع أصواتهم أن يطبق عليهم شرع الله سبحانه وتعالى، وأن يعز دين الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن كل ما سوى ذلك لن يجد مساحةً في قلوب المسلمين المخلصة المؤمنة المنيبة التي تتذكر الموت وتتذكر أنها مهما داهنت ومهما استكانت ومهما انصرفت عن الحق فإن ذلك لا يمكن أن يكون جواباً بين يدي الله سبحانه وتعالى، تعلم أن الموتة واحدة وأنها مفروضة على كل بني آدم. كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمول يعلمون أنهم جميعاً صائرون إلى الموت، وأن موتتهم واحدة، وبذلك لا يهمهم ولا يحزنهم شيء من مصائب هذه الدنيا، ولا يزنون لذلك أي ميزان في مقابل سخط الله، فهم يعلمون أنهم لو عذبوا طيلة أعمارهم في هذه الدنيا ثم كان بعد ذلك الجنة فإنهم لم يخسروا شيئاً، ولو تنعموا طيلة أعمارهم في هذه الدنيا بأعلى ما فيها من أنواع النعيم ثم كانت بعد ذلك النار فإنهم لم يربحوا شيئا، ولذلك قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لا خير بخيرٍ بعده النار، ولا شر بشرٍ بعده الجنة). إن المؤمنين إذا حققوا هذا في أنفسهم فقد انطلقوا على الطريق الصحيح وساروا عليه، فمن عاش منهم عاش عزيزاً، ومن مات منهم مات على الحق وهو سائر في مرضات الله سبحانه وتعالى وعلى منهج رسوله صلى الله عليه وسلم، أما من لم يحقق انتمائه ولا ولاءه، بل قال: إنه مع السائرين. وينظر إلى الكثرة الكاثرة ويغتر بأهل الدنيا وما هم فيه، فإن حضر الصلاة في المسجد وسمع إعلاناً عن كلمةٍ أو درسٍ قال أستمع وأحضر. ولكنه لا يريد أن ينطلق بشيءٍ إلى بيته مما هنالك، فيفسد وقته في غير طائل، وتقوم عليه الحجة ببعض ما يسمع، وينطلق إلى بيته ولم يأخذ معه شيئاً لا في يده ولا في قلبه، إن هؤلاء إنما هم من الغثاء الذي يعلو على سطح الماء ثم يزول، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17]. إن على المؤمن أن يحقق قول الله سبحانه وتعالى: {فَبَشِّر عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]، وليعلم أن سعيه في تعليم الناس ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان عاجزاً عن تعليمه أو تعلمه كأن يكون شيخاً كبيراً فانياً قد ولى شبابه وانقطعت قريحته، أو كان مشتغلاً بتجارته ولا يستطيع أن يعلم ولا أن يتعلم فإن عليه أن يعين متعلماً، وبذلك يكتب له مثل ثوابه، ويكون قد عمل للإسلام، وإن كان لا يستطيع أن يجاهد في سبيل الله بيده، ولا يستطيع أن يكون تحت بارقة السيوف في الصفوف الأمامية وأن يحل أزرار قميصه لاستقبال الرصاص ويقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] إن لم يستطع ذلك وحالت بينه وبين ذلك نفسه الضعيفة أو شيطانه فإن عليه أن يجاهد بماله وأن يبذله في سبيل الله، فإن كان لا يستطيع هذه ولا تلك فإن عليه أن يجاهد بلسانه وهو سلاح الضعفاء، عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإذا رأى خيراً حاول أن يعد من أهله وأن يكون بذلك مناصراً للحق ساعٍ فيه مهما كان.

الإيجابية والسلبية في حياة المؤمن

الإيجابية والسلبية في حياة المؤمن من غير المقبول أن يكون المؤمن سلبياً لا أثر له في هذه الحياة، يخرج منها كما دخلها، فإذا حمل على الرقاب إلى قبره لا يتذكر الناس أن شخصاً كان يقف في الصف يصلي معهم في المسجد ويكثر سواد المسلمين، ولا يتذكرون أنه كان يقول كلمة الحق يقصد بها وجه الله سبحانه وتعالى، ولا يتذكرون أنه كان من الذين ينكئون أعداء الله تعالى بما يملكون، ولعلك تتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو مريض فقال: (اللهم! اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة)، وكثير من المرضى اليوم لا يتذكر الذين يعرفونهم أنهم سينكئون عدواً لله أو يمشون إلى صلاة، بل هم غثاء كغثاء السيل، إن عاشوا فليس عيشهم لدين الله، وإن ماتوا فلم ينتقص أهل دين الله بشيء، ما أكثر هؤلاء وما أقل أولئك الذين يقال فيهم ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في سعد بن أبي وقاص. إن على المؤمن أن يجعل من حياته منهاجاً وبرنامجاً واضحاً ينكأ فيه أعداء الله، ويوالي فيه أولياء الله، ويمشي فيه إلى الصلاة، ويحقق فيه جهاده لنفسه وصبره ومصابرته على الحق، ويتحقق فيه بالأخلاق الحميدة والآداب النبيلة، فإذا مات مات على الطريق الصحيح، وإن عاش فإن الله يكتب له العزة على ذلك، وأما من لم يرفع بهذا رأساً ولم يسر عليه فسواءٌ عاش أو مات فإنه كما قال القائل: فستة رهطٍ به خمسة وخمسة رهطٍ به أربعة إن على المؤمن أن يكون إيجابياً في حياته، وأن يكون مؤثراً فيها، وأن ينظر إلى الذين يحتذي بهم فيحاول أن يسد مسدهم لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى أقوامٍ يقومون بالحق ولا تأخذهم في الله لومة لائم، أو يجاهدون في سبيل الله، أو ينصحون الناس ويدعونهم إلى الخير، أو يؤمونهم أو يعلمونهم الخير، ويعلم أن حياتهم غير دائمة، وأنهم قد أدوا ما عليهم، فيحاول أن يلتحق بهم وأن يسد مسد أحدهم لهذه الأمة، حتى لا يبقى مكانه فراغاً لو اخترم من بين صفوف هذه الأمة، يشعر بأن حياته هذه التي لا يدري متى طولها إلا الله سبحانه وتعالى أشرف أحوالها أن تكون كحياة الغلام الذي قال للملك حين أراد قتله وبذل في ذلك كل ما يستطيعه فلم ينجح قال: إذا أردت قتلي فاجمع الناس في صعيدٍ واحد، ثم انصبني غرضاً، وأخرج سهماً من كنانتك واجعله في قوسك وقل: (بسم الله رب الغلام) وارمني به فحينئذٍ سأموت. ففعل الملك ذلك وجمع الناس في صعيدٍ واحد وقال: (بسم الله رب الغلام) ورماه، فمات الغلام، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام. فكان موت هذا الغلام فتحاً لدين الله. نحن جميعاً نعلم أننا سنموت، لكن هل يكون موتنا فتحاً لدين الله؟ وهل تكون حياتنا كذلك؟ ونحن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فهل نحقق هذا في أنفسنا، أو نكون من الذين تلعنهم هذه الآية حين يقرؤونها؟ وهل حققنا في أنفسنا أن حياتنا ويقظتنا ومنامنا وقيامنا ودعاءنا وخطواتنا وأموالنا وكل أمورنا حتى الموت في سبيل الله؟ إننا نقرأ سورة يس في قصة الرجل الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، فبعد أن دخل الجنة أراد أن يكون داعياً بعد الموت، كان داعياً في حال الحياة ولكنه لم يرض بذلك بل قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، ليكون داعياً بعد الموت، وقص الله عنه ذلك وجعله يتلى في كتاب الله إلى أن يرفعه الله، فنحن جميعاً نشهد لهذا الرجل حين نقرأ كلام ربنا أنه كان داعيةً في حياته ثم كان داعيةً بعد موته حين قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27] لا يريد بهذا أن يذكر في الدنيا فهو قد قدم إلى ما قدّم ورأى مصيره الحتمي، وعلم أن الدنيا لا تساوي شيئاً، وقد أقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو ل (موضع سوط أحدكم في الجنة خير له من الدنيا وما فيها)، وهو قد دخل الجنة، لكنه يريد بهذا الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وليلتزم الناس بمنهجه، وليعلموا أنه لو قتل على هذا المنهج فإنه لن يذوق من مرارة الموت إلا قدر القرصة كما يقرص الشخص، وأنه بذلك يرفع عنه كل الأذى، وأنه قد انطلق إلى مرضات الله. إننا جميعاً مطالبون بأن نحقق من حياتنا حياةً لله سبحانه وتعالى، ومن موتنا موتاً لله سبحانه وتعالى، كل شخصٍ منا إذا فكر في الموت ووعظه الواعظون بالموت تذكر أنه ربما مات على سرير المرض في أحد المستشفيات، أو مات على فراشه في بيته، أو مات في حادث سيارةٍ أو غير ذلك من الموتات المألوفة لدينا، ولكنَّ قلةً منا هم الذين يفكرون في أن تكون موتهم لله سبحانه وتعالى، ولا يريدون أن يموتوا على فرشهم كما يموت العير، وبذلك يحققون قول خالد بن الوليد رضي الله عنه: (لا وألت نفس الجبان، إنه لم يبق من جسمي مغرس إبرةٍ إلا وفيه ضربة بسيفٍ أو طعنة برمحٍ أو رشقة بنبلٍ، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير). إن التعرض للمهالك لا يقرب الأجل، فالأجل مكتوب ولكنه يزيد في الأجر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى ببارقة السيوف) أي: شاهداً. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل أحدٍ ينقطع عمله بموته إلا الشهيد في سبيل الله، فإنه يجرى عليه عمله كاملاً كما كان يفعله في حياته لا ينقطع عنه، وبذلك يكون الشهيد أطول الناس عمراً، فـ حمزة بن عبد المطلب -مثلاً- وإخوانه الذين قتلوا يوم أحدٍ قد قال فيهم المنافقون: إن هؤلاء قد خسروا أنفسهم وبادروا إلى القتل وماتوا، وكان الأولى بهم أن يدخلوا في الحصون ويغلقوها عليهم، وبذلك ينجون من القتل. لكن أعمار المنافقين قد انقطعت وباتوا في حصونهم، فخرجوا إلى المقابر، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:156 - 158]، لكن هؤلاء الذين قتلوا يوم أحدٍ ما زالت أعمارهم إلى وقتنا هذا، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:169 - 170] كل أولئك الذين ماتوا في غير الشهادة قد انقطعت أعمالهم وختم عليها، وهؤلاء الذين ماتوا بالشهادة استمرت أعمالهم وليس فيها رياء ولا سمعة، ولا يمكن أن ينقص الشيطان منها شيئا، من كان منهم يقوم الليل ويصوم النهار ما زال عمله كذلك، يكتب له في الصباح نية الصيام، ويكتب له في المساء فرحة الإفطار، ويكتب له في الليل قيام الليل دون أن يتأثر ذلك برياءٍ ولا بسمعةٍ، ودون أن ينتقص الشيطان منه شيئا، وكذلك من مات مرابطاً في سبيل الله، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (يأمن الفتان)، وأن (رباط ليلةٍ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شرفه الله بكل ما شرفه به يتمنى أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا فيقاتل ثم يقتل ثم يحيا فيقاتل فيقتل، فيقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سريةٍ تغزوا في سبيل الله، ولقد وددت لو أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل)، وهو رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وجعل منزلته أعظم من كل المنازل عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يتمنى هذا. إننا -ونحن نعلم هذا وندين الله به ونحققه- لا يطلب منا ما لا نطيقه وما لا نستطيعه، فالأمر سهل بسيط بين أيدينا، وهو أن يبدأُ المرء بإصلاح نفسه بتعلم ما أمره الله بتعلمه، ويجاهد نفسه على العمل بذلك، ويجاهد نفسه على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويجاهد نفسه على الصبر على الأذى في سبيل ذلك، وإذا كان عاجزاً عن جهاد الكافرين والمنافقين بيده جاهدهم بلسانه وماله، وأيضاً أبغضهم بقلبه، فيحقق المطلوب منه، وتكون له حجة وعهد عند الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا من الأمور البسيطة التي لا يمكن أن يعتذر الشخص بعجزه عنها، فأنت عندما تخطو خطواتك إلى المسجد فتجلس فيه لتتعلم علماً فقد جاهدت في سبيل الله إذا نويت ذلك، ولهذا أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه قال: (من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ورجع غانما)، وكذلك الأعمال التي تقوم بها في حياتك، ففي كثيرٍ من الأحيان يكون نصفها من الأعمال الصالحات الباقيات، ولكن عليك أن تنوي لها الخير وأن تخلص فيها النية لله، فتحاول أن تكون مخلصاً في تصرفاتك حتى في ثنايا العمل، فقد يجلس الشخص مجلساً لم يصلح نيته قبله، ولكنه حين يتذكر في أثنائه نيته ويراجعها يكتب له بقية مجلسه ولا يفوته، وبذلك لا يخسر كل شيء. إن من سار في بداية خطواته إلى المسجد أو إلى العلم أو إلى تكثير سواد المسلمين أو حضور درسٍ أو محاضرة أو بيانٍ إن نوى ذلك كانت الحصى تشهد له، ولا يرفع خطوةً إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة

الصبر في الابتلاء والمحن

الصبر في الابتلاء والمحن إن المحن والبلايا من سنن الله في خلقه، فمن وقعت له محنة فليرض بمقدور الله، وليصبر على ما أصابه، فإن عقبى الصابرين حميدة، ولا شك أن الصبر يتحقق بأمور يتعلمها المرء ويتذكرها، وقد أرشد إليها القرآن والسنة، فعلى المسلم تعلمها والتحلي بها.

منزلة الصبر بين صفات أهل الإيمان

منزلة الصبر بين صفات أهل الإيمان بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، تبرأت من حولي وقوتي واعتصمت بحول الله وقوته. موضوع هذا الدرس: الصبر في الابتلاء والمحن. إن الله سبحانه وتعالى سلط على المؤمنين بعض البلايا والمحن، وآتاهم معها جنداً عظيماً من جنوده، هو الصبر، وقواهم به عليها، وهذا الصبر مزية عظيمة ومنزلة رفيعة، فلذلك بين الله سبحانه وتعالى درجة أهله في كتابه فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. وقد جعله الله بوتقة لكل الصفات المرضية والقيم الرفيعة، فبعدما ذكر صفات المؤمنين من عباد الرحمن الذين يستحقون رضوانه، قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، وكذلك في مجادلة أهل النار قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111]، فجعل كل ما قاموا به داخلاً في بوتقة الصبر. والصبر ذو منزلة عظيمة بين صفات المؤمنين، ولذلك يعده أهل السلوك مقاماً من مقامات اليقين، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن من جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، لأن اليقين به يقضى على الشبهات، والصبر به يقضى على الشهوات، ودليل هذا من القرآن قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، حين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين. وقد رتب الله عليه الأجر العظيم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي به عند المصائب، فقد أرسلت إليه ابنته تدعوه لشهود ولدها، وهو يقعقع -أي: نفسه تقعقع في حال الموت- فأرسل إليها قال: فلتصبر ولتحتسب، فعزمت عليه أن يحضر فأتى صلى الله عليه وسلم ووضع الصبي في حجره حتى فاضت نفسه. وكذلك: (أتى امرأة أخرى وهي عند قبر تبكي، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، فقيل لها: إنه رسول الله، فندمت وأتته في بيته فلم تلق عنده حاجباً ولا بواباً، فقالت: يا رسول الله إني تائبة ووالله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى). فالصبر الذي يثاب عليه صاحبه هذا الثواب العظيم هو ما كان عند الصدمة الأولى، أي: عند أول إحساس الإنسان بالابتلاء، أما إذا انهار في البداية وجزع ثم عاوده الصبر بعد ذلك، فما من مصيبة تحل بالإنسان إلا سيسلوها وينساها مهما كان ذلك؛ ولهذا فعلى الإنسان أن يعلم أن الدنيا كلها زائلة، وأن كل ما فيها سيذهب، وإذا أعجب الإنسان أي شيء فيها فليعلم أنه بعد مدة يسيرة سيجده في القمامات، فكل ما يتنافس فيه الناس من متاع هذه الدنيا الفاني فلن تمضي فترة يسيرة إلا وتراه مرمياً في القمامة. فعلى هذا على الإنسان إذا أصيب بشيء من أحوالها أن يعلم أنها زائلة، وأن كل ما فيها عرض سيال، وحال سريع الزوال، وبقاء الحال من المحال.

التحذير من الجزع والخوف

التحذير من الجزع والخوف على الإنسان أن يعلم أن الجزع قبيح ووصف ذميم، وهو من الخور والضعف، ولا يرد شيئاً من قدر الله سبحانه وتعالى، وإنما يزيد الشامتين شماتة، ويزيد الأعداء تمكناً من الإنسان، ولن يحقق له أي هدف من أهدافه، ولن يوصله إلى أي مستوى من المستويات التي يطلبها؛ ولهذا كان أهل الجاهلية يتجلدون لأعدائهم، حتى قال أحدهم: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع فالجزع لا خير فيه؛ لأنه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في قدره وملكه، وكل ما في هذه الدنيا يتصرف فيه الباري سبحانه وتعالى تصرف المالك في ملكه، فإذا أخذ شيئاً منه فهو الذي منحه من قبل، وهو الذي أخذه بعد ذلك، ولهذا قال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]. فقوله: (قالوا إنا لله)، أي: نحن مملوكون له فتصرفه فينا تصرف المالك في ملكه، وهو نافذ ماض لا اعتراض لنا عليه. (وإنا إليه راجعون) أي: نحن أيضاً سنعود إليه سبحانه وتعالى، وسيجازينا بحسب أعمالنا، ومن هنا كان الصبر مما يرجى ثوابه عند الله سبحانه وتعالى، وقد أعد لمن صبر وقال ذلك عند المصيبة هذا الجزاء العظيم الذي قال فيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نعم العلاوة ونعم الرفدان) فالعلاوة هي قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، والرفدان {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]؛ فعليهم صلوات وبركات ورحمة منه سبحانه وتعالى، وهم المهتدون بشهادة الله تعالى لهم بذلك. وأيضاً فإن الجزع مدعاة لسخط الله سبحانه وتعالى ومقته، إذ هو اعتراض عليه في ملكه، وقد روي أن الإمام سليمان بن مهران الأعمش كانت له زوجة هو بها معجب، فماتت فجأة، فحزن عليها حزناً شديداً، واحتجب عن الناس ولم يخرج لتدريس من يدرسون العلم، فبينما هو على ذلك جاءت امرأة فاستأذنت عليه، فلم يأذن لها، فقالت: إنها لن تبرح الباب حتى يخاطبها، وإنها في ضرورة وأمر ماس لا بد من إجابة الشيخ فيه. فلما رأى إلحاحها وإصرارها دنا من الباب، فسلم فخاطبته فقالت: إن لي أختاً كانت أعارتني علقاً ثميناً وتمتعت به مدة من الزمن، ثم بعد هذا أرادت أن أعيده إليها، وأنا لا أصبر عنه ولا أقبل ذلك، فقال: أنت ظالمة! كيف تحسن إليك هذه المدة الطويلة بهذا العلق الثمين، وتنتفعين به هذه المدة، ثم بعد ذلك تطلبه وهي مالكته فتمتنعين من إرجاعه إليها؟ فقالت: أيها الشيخ! إن الله سبحانه وتعالى كان قد أسدى إليك أهلك وهي ملك له وليست ملكاً لك، ثم أخذها واستردها فما هي إلا وديعة، فكأن الشيخ سري عنه ما به، فدعا لها وانصرفت. وهذا المعنى أخذته من قول لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه: وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع وكذلك فإن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما لما توفي العباس حزن عليه فأتاه الناس للعزاء، وكان منهم رجل من الأعراب فخاطبه بهذين البيتين البليغين فقال: اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الراس خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس فكان ذلك سبب صبره وثباته. وكذلك فقد كتب أحد العلماء إلى نظير له في العلم ابتلي بمصيبة، فأراد تثبيته فيها فكتب إليه: إنا معزوك لا أنّا على ثقة من البقاء ولكن سنة الدين فما المعزى بباق بعد ميته ولا المعزي وإن عاشا إلى حين فكان ذلك بليغاً في الرثاء والعزاء. وكذلك فإن مما يحمل الإنسان على التجمل: تذكره أنه هو أيضاً سائر في هذا الطريق، فمدة بقائه في الدنيا محدودة ولم يأتها لينال فيها كل مبتغاه، فإنما ذلك في الجنة، فهذه الدنيا لا يمكن أن تأتي على وفق المراد المطلوب. ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فليس شيء من النعيم المقيم الدائم الخالد إلا في الجنة.

أنواع الصبر

أنواع الصبر والصبر ثلاثة أقسام هي:

الصبر على قضاء الله وقدره

الصبر على قضاء الله وقدره القسم الثالث من أقسام الصبر: الصبر على قضاء الله وقدره، وهو الصبر عند الابتلاء.

الصبر عن المعصية

الصبر عن المعصية أولاً: الصبر عن معصية الله: بأن يصبر الإنسان نفسه عن المعصية، فيلجمها بلجام التقوى، ويمنعها أن تقع في المعصية أو أن تحبها، أو أن تتعلق بها من أي وجه، وذلك مقتضٍ منه لكراهيته لكل ما كرهه الله له، وهذا النوع من الصبر ثلاثة أقسام: الأول: يصبر القلب بأن لا يحبها وأن لا يتعلق بها، وأن لا يجلس في مجالسها، وأن لا يجالس أهلها وأن لا يأنس بهم، فذلك كله يرجع إلى القلب والعاطفة. الثاني الصبر عما يتعلق بمباشرتها وممارستها، فلا يقربها ويقوي وازعه الديني الذي يمنعه من مزاولتها ومواقعتها. الثالث من الصبر عن المعصية: سرعة الإقلاع إذا استزله الشيطان إليها، والرجوع والتوبة: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202]. والإنسان مطالب بتقوية الوزاع الديني الذي يمنعه من الوقوع في المعصية، بأن يعظ نفسه ويذكرها ويحاسبها، وقد روي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أن رجلاً أتاه فقال له: إن نفسي لا تطاوعني في ترك المعصية فعظني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاذهب إلى مكان لا يراك فيه فاعصه، قال: كيف أختفي منه وهو يعلم السر وأخفى، لا تحجب عنه سماء سماءً ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره. فقال: كيف تبارزه بالمعصية وهو يراك وأنت تعلم قدرته عليك؟ فقال: زدني رحمك الله. فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من كل نعمة أنعم بها عليك وردها عليه ثم اعصه. قال: كيف أرد عليه نعمته وأنا من نعمته: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]؟ قال: كيف تأكل خيره وتستعين به على معصيته، إنه اللؤم؟ قال: زدني يرحمك الله. قال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه وسمائه واعصه. قال: إلى أين أخرج من أرضه وسمائه؟ قال: كيف تعصيه في بيته وتحت سلطانه وإمرته وأنت ضيف عنده، إن ذلك غاية ما يمكن من اللؤم؟ فلهذا لا بد أن يعظ الإنسان نفسه ويزجرها حتى يقوي وازعه الذي هو برهان الله في قلبه، فيمنعه من الوقوع في المعصية.

الصبر على الطاعة

الصبر على الطاعة القسم الثاني من أقسام الصبر: هو الصبر على طاعة الله: وهو يقتضي من الإنسان الصدق إذا قرأ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162 - 163] فلا بد أن يجتهد الإنسان في أن يصبر نفسه على طاعة الله، فقد قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. والصبر على طاعة الله ثلاثة أقسام: الأول: الصبر على طاعة الله قبلها بالاستعداد لها والعزيمة عليها. الثاني: الصبر عليها في أثنائها بالحضور فيها والخشوع، وأدائها كما شرعها الله. الثالث: الصبر عليها بعدها بعدم إبطالها باللواحق المبطلة كالمن والأذى والرياء والسمعة، وغير ذلك مما يبطل العمل، نسأل الله السلامة والعافية.

وسائل تحقيق الصبر

وسائل تحقيق الصبر ويتحقق هذا الصبر بوسائل كثيرة نعد منها ما يلي:

معرفة أن الصبر من المروءة

معرفة أن الصبر من المروءة عاشراً: تذكر أن الثبات والصبر من المروءة: فليتذكر الإنسان أن الثبات والصبر من أعظم خصال المروءة، وأن عليه أن يتحلى بهما لتمام مروءته، ولهذا فإن معاوية رضي الله عنه قال: (والله ما منعني من الفرار يوم صفين إلا أبيات لـ عمر بن الإطنابة، وهي قوله: أبت لي عفتي وأبى إبائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشئت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات وأحمي بعد عن عرض صريح). فإذا كان الإنسان يعلم أن ثباته وصبره هو من المروءة ومن الخصال الحميدة، فذلك مدعاة لأن يصبر ويصمد ويثبت، وهنا أذكر أبيات جعفر بن عتبة الكلابي فإنه يقول: هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق عجبت لمسراها وأنى تخلصت إليّ وباب السجن دوني مغلق ألمت فحيت ثم قامت فودعت فلما تولت كادت النفس تزهق فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم لشيء ولا أني من الموت أفرق ولا أن نفسي يزدهيها وعيدهم ولا أنني بالمشي بالقيد أخرق ولكن اعترتني من هواك صبابة كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق

تذكر العاقبة الحسنة

تذكر العاقبة الحسنة الحادي عشر من أسباب الثبات والصبر: تذكر العاقبة الحسنة: فإن الذين صبروا وثبتوا سيكونون أبطالاً، وسيخلدهم التاريخ ويدخلون من بابه الواسع، ويُعجب بهم أعداؤهم قبل أصدقائهم، وبذلك سيحققون أكبر المكاسب وأغلاها لدى الناس، ومن المعروف أن كل إنسان لا يزال يتذكر للصابرين الثابتين مقامهم، وهو يرى أنهم من أمثال الجبال الصامدة أو هم أعظم من الجبال، فذلك الإعجاب لا يمكن أن يقع إلا على أساس اتصاف الإنسان بصفة عظيمة تستحق الإشادة والتقدير، وهذه الصفة هي صبره وثباته مع كل ما يصيبه من أنواع الضغوط التي يتعرض لها.

تذكر قرب الفرج

تذكر قرب الفرج ثامناً: تذكر قرب الفرج: فالفرج إنما يأتي مع الشدة، والنصر إنما يكون مع الصبر كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول في كتابه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]، وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، وقال: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. فليتذكر الإنسان قرب الفرج، وأن الهم والمحنة إنما هي بأمر الله، وتقريبها وتصريفها وتغييرها بيده {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ما بين طرفة عين وانتباهتها يقلب الأمر من حال إلى حال ولذلك فإن أبا عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة، وأحد النحويين المشهورين كان من القراء الذين اختارهم الحجاج، في العراق عند تنقيطه للمصحف وضبطه له وتحزيبه وتعشيره، فكان يقرأ على الحجاج فقرأ في سورة البقرة قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249]، والحجاج يقرأ بقراءة أهل الحجاز وهي (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غَرْفَةً بِيَدِهِ) فأنكر عليه الحجاج فقال: هكذا سمعت، وحدثه أن روايته هكذا، وقال: لتأتين بشاهد من العربية على أن (فعلة) تأتي بمعنى المرة خلال شهر أو لأجعلنك نكالاً، فخرج أبو عمرو في الأعراب في الصحراء يتلمس الشاهد على ذلك حتى لم يبق من الشهر إلا يوم واحد خرج مهموماً مغموماً، فإذا راكب يتغنى وينشد أبياتاً سمعها أبو عمرو فإذا فيها الشاهد، وإذا هو يقول: قد يموت الجبان في آخر الصـ ـف وينجو مقارع الأبطال ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال وهذا الشاهد في قوله: ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال فالفُرجة والفَرجة معناهما واحد وهما للمرة كالغُرفة والغَرفة، ففرح بذلك أبو عمرو فرحاً شديداً، فلما استقبله الراكب قال: ما وراءك من الخبر. قال: مات الحجاج فإذا هو فرح آخر. فقال: ما أدري بأيهما أفرح أبموت الحجاج أم بوجود الشاهد! فالفرج قريب جداً.

تذكر أن البشر لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا

تذكر أن البشر لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً تاسعاً: أن يتذكر الإنسان أن الناس لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم حياة ولا موتاً ولا نشوراً: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، وأنهم إنما تسلطوا عليه بتسليط الله تعالى لهم، ولولا تسليط الله لما استطاعوا الوصول إلى شيء من ذلك، وأن النمل إذا سلطه الله كان كالأسود، وإذا لم تسلط الأسود فلا ضرر يخشى منها: ما للورى بدفاع جندك طاقة نمل مسلطة ضراغم عثَّرَ فإذا تذكر الإنسان هذا الحال هان عليه ما يلقاه من المخلوقين، ولم يغتر بأي وعد منهم، ولم يحزن لأي وعيد، فهو يعلم أن قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن، وأن أرواحهم في قبضة يده متى ما شاء أخذها، وأنهم لا يمكن أن يصلوا إليه بشيء إلا بشيء قد كتب عليه من قبل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). فليتذكر الإنسان أن الذين يخاف من بطشهم ونكالهم هم عرضة للموت في كل حين، وعرضة لزوال الأمر، وعرضة لتغير القلوب والآراء، وليتذكر أن قلوبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن متى شاء غير آراءهم وغير اتجاهاتهم، وكل ذلك قريب جداً، ومن هنا فلن يغتر بوعدهم، ولن يحزن لوعيدهم.

التماس المنحة في المحنة

التماس المنحة في المحنة سابعاً: التماس المنحة في المحنة: فإن لله سبحانه وتعالى حكماً بليغة، وكثيراً ما تتحول المحنة إلى منحة، وذلك من لطف الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول أحد العلماء: لا تكره المكروه عند حلوله إن الحوادث لم تزل متباينه كم نعمة لا تستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنه فكثيراً هي المحن والبلايا التي تئول إلى منحة، ولولاها لما تحقق للإنسان مراده، فهذا يوسف عليه السلام أراد الله أن يجعله ملكاً على مصر، ولو جاء بجيش عرمرم إلى مصر لقاتله ملوكها ولم يستطع أن يتملك على أهلها، ولكن أتى به عبداً وسلط عليه أقرب الأقربين ليرموه في الجب، وقديماً يقول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند ومع ذلك فيؤتى به في صورة عبد ويباع بثمن بخس دراهم معدودة، ويسجن بعد ذلك مدة طويلة ليكون بهذا ملكاً، ولهذا عرف العلامة المختار بن بونه رحمه الله اللطف بقوله: واللطف إبراز الأمور جاء في صور أضداد كما ليوسف صيره رقاً لكي ينالا ملكاً وعزاً ربه تعالى وكثيراً ما تأتي تلك المنح الربانية لملتمسها في داخل المحنة، فحصار الشعب الذي فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أصحابه وبني هاشم وبني المطلب بمكة ودام ثلاث سنين ظاهره محنة ولكن باطنه منحة، فقد اختار الله لهم محضناً تربوياً يتربون فيه على قيم الإيمان ويعتزلهم فيه أهل الجاهلية، ويجدون به هجرة داخل بلادهم، وانقطاعاً عن كل مظاهر الجاهلية وفسادها حتى يحققوا قيم الإيمان من الإيثار والإخاء، والتعاون على البر والتقوى، والنصيحة لله ورسوله، والصبر والجلد في الحق، ولم يكونوا لينالوا هذه المدرسة لولا أن فرض عليهم هذا الحصار الجائر، فذلك من منحة الله سبحانه وتعالى. وكل من أصيب ببلاء وهو من المؤمنين فهو عرضة لرحمة الله، فالله سبحانه وتعالى قد وسعت رحمته كل شيء. وأحق الناس بالرحمة الضعفاء، ولذلك قال عيسى بن مريم فيما أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية)، فأهل البلاء يستحقون الرحمة، ومن هنا من ابتلي فصبر فقد تعرض لنفحات الله سبحانه وتعالى ومنحه.

تذكر سنن المرسلين والسلف الصالح

تذكر سنن المرسلين والسلف الصالح سادساً: تذكر سنن المرسلين وأتباعهم: فإذا تذكر الإنسان أن أنبياء الله وهم أكرم الخلق على الله، وأعلاهم قدراً ومكانة، قد ابتلوا بأنواع البلايا والمحن فصبروا وصمدوا؛ تذكر أنه ما هو إلا حلقة صغيرة من سلسلة طويلة فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ومن على آثارهم من المتقين والمخلصين في كل زمان ومكان، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات السلسلة فستصيب السلسلة كلها، ومن هنا فهو يرحب بتلك النكبات لأنها أصابت من هو خير منه، وهي نكبات مباركة، فيلتمس فيها البركة لأنها قد أصابت أنبياء الله المباركين، وقراءة الإنسان لسيرهم وقصصهم الواردة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبلغ ما يعين على الثبات. وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: حكايات الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده. ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، وذلك في خواتم سورة هود بعد أن قص الله فيها قصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة إبراهيم وقصة لوط وقصة شعيب وقصة موسى وهارون، فكل ما أصابهم من قبل يثبت فؤاد المؤمن، لعلمه بأنهم أكرم على الله منه وخير منه، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن لا يصيبهم ذلك البلاء، ولو كان عدم إصابة البلاء خيراً لاختار الله ذلك لأنبيائه، ولكنه علم أن البلاء خير لهم فاختاره لهم، ومن هنا فإذا أصابك شيء مما أصاب الأنبياء فاستقبله بما استقبله الأنبياء. وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم (أنه كان يقسم غنيمة يوماً فدخل عليه رجل أشعث أغبر، ثائر الرأس مشمر الثياب غائر العينين فقال: اعدل يا رسول الله، إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إن لم يعدل رسول الله، ثم ابتسم وقال: رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فتذكر أذى بني إسرائيل لموسى وهم يعلمون أنه رسول الله، وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:5]. وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله أخي يوسف! لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته)، فيوسف عليه السلام مكث في السجن ما مكث، ثم أتاه الداعي من الملك يدعوه للخروج إليه فقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]، ولم يستعجل في الخروج من السجن حتى تظهر براءته، وحتى تقر النسوة بما سمعن من امرأة العزيز، فكان ذلك من الثبات وعدم الاستعجال، وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم في قوله هنا: (رحم الله أخي يوسف لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته). وكذلك تذكر حال أتباع المرسلين في كل زمان، وما ثبتهم الله به من الصبر في المحن والبلايا، وبالأخص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين حققوا أروع الأمثلة، فهذا خبيب رضي الله عنه عندما صلبته قريش وهو حي على الخشب قال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع وهكذا أتباعهم من بعدهم والقرون الفاضلة من هذه الأمة، وقد برز فيها من النماذج من الصابرين الشيء الكثير، ومن هذه النماذج الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فقد صبر على المحنة والبلاء ثماني عشرة سنة وهو صامد ثابت تحت السياط وفي الأغلال والحديد يعذب ليقول كلمة واحدة فلم يقلها، وصبر على مبدئه وثبت عليه حتى فرج الله تلك الغمة وأزالها عن الأمة، وقد ذكر أنه مما أعانه على الثبات في فتنة محنة خلق القرآن أن شيخاً كبيراً من أهل العراق أتاه وهو في الحديد يساق إلى السياط فقال له: يا أحمد أنت اليوم رأس في أهل الإسلام فاتق الله فيهم؛ فإنك إن أجبت أجاب من وراءك، فكان ذلك من وسائل ثباته، وتذكر الإنسان لمسئوليته عمن يأتي بعده معين له على هذا الثبات. ولذلك فإن المودودي رحمه الله عندما أطلق الرصاص وهو قائم يخطب فقال له الناس: اجلس؛ قال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟ إذاً: من الأمور المهمة التي ينبغي أن يتذكرها الإنسان في حال البلاء: أن يتذكر: إذا جلست أنا فمن يقوم؟

تبرؤ العبد من حوله وقوته

تبرؤ العبد من حوله وقوته رابعاً: البراءة من الحول والقوة إلى الله والتوكل عليه سبحانه وتعالى وحده: فلا بد لمن أصيب بالبلاء أن يبرأ من حوله وقوته إلى الله سبحانه وتعالى وأن يعلم أنه لا يثبت إلا بتثبيت الله له، ولا يصبر إلا بتثبيت الله له، وأنه لا حول له على دفع ما نزل به من قدر الله، ولا قوة به على مغالبة أقدار الله، فلا بد أن يستسلم إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يعرف أن الأمر كله إليه ومن عنده، ومن هنا فعليه أن يحسن التوكل على الله سبحانه وتعالى وحده، وهذا ما حصل في أنبياء الله. فهذا نوح عليه السلام عندما تمالأ عليه أهل الأرض جميعاً قال لهم: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71]. وهذا هود عليه السلام عندما اجتمع رأي قومه على التخلص منه قال لهم: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. وهذا إبراهيم عندما رماه قومه في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل، وقال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174].

معرفة الابتلاء

معرفة الابتلاء خامساً: المعرفة بالابتلاء والاستعداد له: فمما يعين على الصبر عند البلاء والثبات فيه أن يعرف الإنسان سنة الله بالابتلاء، فهي سنة ماضية وحكمة بالغة، فالله تعالى يقول في كتابه: {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]. وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. والاستعداد للبلاء بأن يعلم الإنسان أنه يسلك طريق المكاره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وفي رواية: (حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات). وصح عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل لما خلق الجنة زينها ثم أرسل جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فلما خلق النار وجعل فيها من الرجز والعذاب أرسل جبريل فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحجبت بالمكاره، فأرسل جبريل فأطاف بها فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ثم أمر بالنار فحفت بالشهوات، فأرسل جبريل فأطاف بها فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد). فالسائر في هذا الطريق يعلم أنه سيمتحن بكثير من المحن والبلايا، فلا بد أن يستعد لها بتهيئة نفسه لذلك، وقد قال أحد الحكماء: يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعـ ـه لما كان في نفسه مثلا وذو الجهل يأمن أيامه وينسى مصارع من قد خلا فإن دهمته صروف الزمان ببعض مصائبه أعولا فلا فائدة من العويل، بل لا بد من الاستعداد للابتلاء، وأن يعلم الإنسان تقلب أحوال الدنيا وعدم استقرارها، ويستعد لذلك، وبالأخص إذا علم حكمة الله في الابتلاء، وأن من حكمة الله أن يرفع به أقواماً درجات إذا صبروا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كانت تكفيراً من ذنبه حتى الشوكة يشاكها)، وقال: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل الأمثل)،وبين أنه لا يزال البلاء بالعبد حتى يفد على الله وليس معه ذنب.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر أولاً: تقوية الإيمان بالقدر، بأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف بما هو كائن، وليتذكر أنه وهو جنين في بطن أمه كتب معه رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وكل ما يصيبه قد كتب ولا تغيير في ذلك. ومن قوي إيمانه ثبته الله سبحانه وتعالى عند الابتلاء والمحن، لقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، وتقوية الإيمان سبب للثبات والأمن كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ولا شك أن من كان أقوى إيماناً كان أثبت عند المحن والبلاء. ولننظر إلى سحرة فرعون الذين كانوا قبل إيمانهم أشد الناس عداوة لله ولرسله، وأبعدهم عن مقامات أهل الإيمان، ولكنهم أخلصوا لله في تلك اللحظة، فتعرضوا لمحنة فنجحوا وثبتوا وصبروا، فقذف الله في قلوبهم من الإيمان والعلم الشيء الكثير جداً، ولذلك حين ضغط عليهم فرعون وهددهم بأنه سيقتلهم ويصلبهم في جذوع النخل، وسيهينهم بأنواع الإهانة: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72]، فعرفوا أن الله هو الذي فطرهم فآمنوا به، وحققوا ذلك وأقسموا به تأكيداً. فانظر إلى الحال الذي وصلوا إليه من الإيمان الآن، بعد أن كانوا يقولون قريباً: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، فقد كانوا يقسمون قبل ثوان بعزة فرعون، وهم الآن يقولون: {وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، فعرفوا أن ملك فرعون وما يهدد به كله من أمور هذه الدنيا الفانية الزائلة التي لا تدوم، ومن هنا فهم راغبون فيما في الآخرة من الأمور الدائمة الخالدة التي لا انقطاع فيها، لهذا قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:72 - 73]. فقد عرفوا الله بصفاته فعرفوا أنه هو الذي يغفر الذنب ويقبل التوب عن عباده: {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، ووصفوه بصفات الكمال والجلال: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75] وهاتان الجملتان هما خلاصة علم الأولين والآخرين، فعلم الأولين والآخرين يدور على هاتين النقطتين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:74 - 76]. فغاية ما يصل إليه المخلوق من العلم أن يؤمن بالله سبحانه وتعالى وبشرعه وثوابه لمن أحسن وعقوبته لمن أساء، وأن يؤمن بالمصير إليه وبجنته وناره، فذلك خلاصة علم الأولين والآخرين: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75] قذف الله كل هذا العلم في قلوبهم في هذه اللحظات عندما ثبتوا وآمنوا، وهذا ما لا يتوصل إليه الدارسون والباحثون في السنوات العديدة.

تقوى الله سبحانه وتعالى

تقوى الله سبحانه وتعالى ثانياً: التقوى: فاتقاء الله سبحانه وتعالى سبب للثبات والصبر، فقد قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:90] في قصة يوسف، فبين أن التقوى والصبر من المتلازمات. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فدل ذلك على أن من اتقى سيعلمه الله ما يحتاج إليه، ومن ذلك ما يحتاج إليه من الحجج المثبتة، وما يحتاج إليه من الصبر أيضاً.

اللجوء إلى الله

اللجوء إلى الله ثالثاً: الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى: فهو من أبلغ ما يثبت الله به قلوب المؤمنين، ومن أبلغ ما يزيد في الصبر، فالدعاء يرد القدر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يرد القدر إلا الدعاء وهو يصطرع في السماء مع البلاء). وأيضاً فإن الدعاء هو مخ العبادة أو هو العبادة، واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى لا يرد صاحبه، وبالأخص في حال الاضطرار والمحنة والبلاء، فالله يقول في كتابه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62].

الصبر على المغريات كالصبر على البلاء

الصبر على المغريات كالصبر على البلاء ومثل هذا: الصبر أمام الإغراءات المختلفة، فما نذكره من الصبر أمام البلاء والمحن مثله الصبر أمام الإغراءات المختلفة في أمور الدنيا، فوسائله هي هذه الوسائل أيضاً، وأن يتذكر الإنسان أنه يعجب كثيراً بأولئك الذين يصمدون ويصبرون أمام الإغراءات ولا ينجذبون وراءها، وأنهم هم الأبطال الذين يثني الناس عليهم ويخلدهم التاريخ، فذلك مقتضى منه أن يقتدي بهم ويسير في ركابهم. وهذا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان حين أراد غزو العراق لقتال مصعب بن الزبير رضي الله عنهما بكت أم أولاده، وحزنت لذلك وأرادت أن يؤمر رجلاً على الجيش وأن يبقى هو في الشام في مأمن من هذه الغزوة فقال: قاتل الله كثير بن عبد الرحمن لكأنه ينظر إلينا الآن حين قال: إذا ما أراد الغزو لم تثن همه حصان عليها نوم در يزينها نهته فلما لم تر النهي عاقه بكت فبكى مما شجاها قطينها وكذلك عندما كان في حرب ابن الأشعث أهدى إليه أحد امرأته جارية فكلمها، فأعجب بثقافتها وذكائها وبشكلها وأدبها فباتت عنده فكف نفسه عنها وقال: والله ما يمنعني إلا أبيات لأحد العرب، فلو اقتربت منك لكنت ألأم العرب، والأبيات هي قول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار فقال: فلو اقتربت منك لكنت ألأم العرب، وهو يتذكر هذه الأبيات. ولا شك أن الصمود أمام المغريات هو مثل الصبر في الابتلاء والمحن، لأن الابتلاء يكون بالخير وبالشر، كما قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]. فيحتاج الإنسان إلى تذكر هذه الوسائل ومعرفة عاقبة الصبر ليقتضي ذلك منه الاستمرار على منهج الحق وما يعي، وأن يعلم أنه إذا انهار فلن يتحقق له شيء، وإنما يهدم كل شيء كان قد أحرزه من قبل، وجزعه مذلة له وخنوع أمام الآخرين، والموت في حال العزة خير من الجزع والحياة الذميمة، ولهذا قال أبو تمام في مرثيته لـ محمد بن حميد كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم ترق ماءها عذر توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السَفَرُ السفْرُ وما كان إلا زاد من قل ماله وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر فهذا البيت عجيب جداً: فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر فأغرز في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر فعلى الإنسان أن يعلم العاقبة والنتيجة المترتبة على الصبر في الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا جميل حميد، وصبره لن ينقص شيئاً من أجله ولا من عمله ولا من مكانته ولا من رزقه، ومقامه في الآخرة سيرتفع ويزداد عند الناس كذلك بذكره وإعلاء منزلته، وقديماً قال الشاعر: أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر فلا بد أن يتذكر الإنسان نفاذ القدر واستمراره، وأن يعلم أن علياً رضي الله عنه حين سئل عن الشجاعة ماهي؟ قال: صبر ساعة. فإذا كان الإنسان يستطيع الصبر ساعة على البلاء فعاقبة ذلك محمودة جداً، ومكانه رفيع، والإنسان لن ينال ذلك المقام الرفيع حتى يجتاز قنطرة الصبر على المحن والبلايا، ولهذا قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] * {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:139 - 148]. ويكفي من ذلك محبة الله سبحانه وتعالى للصابرين، وعلى الإنسان أن يعلم أن الموتة التي كتب الله عليه واحدة، وستناله مهما كانت حاله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]. هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب وقديماً قال الشاعر: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبتنا على دينه وأن يلزمنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة، وأن ينصرنا على أعدائه وأعدائنا، وأن يجعلنا قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يغنينا بأجر الشكر على النعمة عن أجر الصبر على النقمة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] تبرأت من حولي وقوتي واعتصمت بحول الله وقوته.

معرفة الله

معرفة الله لقد اهتم العلماء بالعلم حتى ألفوا فيه منظومات يسهل حفظها وفهم مضمونها، والشيخ هنا يشرح بعض أبيات من منظومة في العقائد، بين فيها معرفة الله من جهة وجوبها وطريقة تحصيلها.

الغاية والهدف من دراسة علم العقائد

الغاية والهدف من دراسة علم العقائد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فقد من الله علينا بإكمال شرح نظم الشيخ المتعلق بالعقائد، وقد ترك الشيخ حفظه الله تعالى التفصيل في بعض المسائل اعتماداً على تفصيل ذكره في نظمه لجامع خليل، فإن أصل الكتاب كان نظماً لمختصر خليل في الفقه المالكي، وكذلك نظم في آخره الجامع لـ خليل نفسه. هذا الجامع كتاب يجمع العقائد والآداب والأخلاق الشرعية، وكثيراً من الأحكام المتعلقة بالسلوك عموماً، قد نظمه الشيخ في حوالي خمسمائة بيت، والمبحث العقدي منه بين أيدينا اليوم، وهو أبيات قليلة تضيف بعض التفصيلات لما سبق، ومع هذا فقد تقيد الشيخ في أغلبها بترتيب خليل، فليست العهدة الكاملة فيما يذكر هنا على الشيخ بل العهدة مشتركة، فمنها ما هو على خليل بن إسحاق المالكي مؤلف المختصر للتوضيح وغيرهما. يقول الشيخ حفظه الله: فيلزم القاصد نهج الجنه لكي تسير النفس مطمئنه أن يمعن النظر في الدلائل ويستدل لوجود الفاعل بفعله ليحصل اليقين له أن له رباً كريماً عدّله بين في هذه الأبيات فائدة دراسة هذا العلم، فكل عمل لا يعرف الإنسان هدفه لا يمكن أن يقومه. ومن هنا فدراستنا لأي علم من العلوم لابد أن نحدد لها هدفاً حتى نستطيع تقييمها ومدى استفادتنا منها، وهل وصلنا إلى النتيجة المرضية المطلوبة أو لم نستفد ولم نصل إلى تلك النتيجة؟ فهدف دراسة علم العقائد هو معرفة الله سبحانه وتعالى وحصول اليقين في قلب المؤمن، أي: زيادة إيمانه وثباته واستقراره، وهذا اليقين الذي يحتاج إليه الإنسان في كل أموره تطلب زيادته في المجال العقدي أكثر من زيادته في غيره، ومنطلقه من البحث على الدلائل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، هذا مبدأ اليقين كله. فمبدأ اليقين أن يبحث الإنسان عن الدليل في كل أمر حتى لا ينطلق من مجرد الخلط والجهل وحتى يكون على بصيرة من أمره في كل ما يعتقد أو يقول. ومن هنا قال: (فيلزم القاصد نهج الجنه)، أي: يجب على السالك طريق الجنة، أي: المؤمن الذي يريد رضوان الله سبحانه وتعالى وجنته. (لكي تسير النفس مطمئنه) معناه: لكي يختم له بحسنى فتكون نفسه وقت الممات من النفوس التي تخاطب فيقال لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:27 - 29]. (لكي تسير النفس) معناه: تخرج من هذه الدنيا -وهي سائرة لا محالة، (مطمئنة) أي: لتكون كذلك، والنفوس ثلاثة أقسام: الأول: النفس المطمئنة، وهي التي حصل لها اليقين واستقر فيها الإيمان وثبت. الثاني: النفس اللوامة، وهي التي آمنت ولكنها لم يكتمل فيها اليقين بعد. الثالث: النفس الأمارة بالسوء، وهي التي تنتاب صاحبها الشكوك والأوهام، وكل هذه النفوس للمؤمن، وللكافر تقسيمات أخرى.

الحث على طلب المراتب السامية

الحث على طلب المراتب السامية ويجب على الإنسان أن يطلب أعلى المراتب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة)، ونهى أن يسأل بوجه الله الكريم إلا الفردوس الأعلى من الجنة، فلا ينبغي للمسلم أن يرضى بالدون، بل معرفة الله تعالى تقتضي من الإنسان أن يكون ذا همة عالية تسمو به إلى المراتب العلية فيتعلق بما عند الله سبحانه وتعالى، ويتدرج في درجات الإيمان، ويحاول زيادة الاطمئنان كلما تقدم به العمر إلى أن يكون خير عمره آخره، فحينئذٍ يبلغ المستوى المطلوب، ويقدم على الله سبحانه وتعالى وهو عنه راضٍ، وهذا هو الهدف المطلوب من التعرف عليه. فنحن محتاجون إلى أن نعرف ربنا لنحبه ونتعلق به ونطلب ما عنده، ونثبت إيماننا وطمأنينتنا ويقيننا، ولهذا فإن إبراهيم عليه السلام الذي وصل إلى مقام الخلد، قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، وهذا امتحان امتحنه الله به، (أولم تؤمن)، فهو قد طلب وقد حدد هدفه في مطلبه، لكن الله امتحنه فقال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260]، وهو يعلم أنه قد آمن، فنجح إبراهيم في هذا الامتحان كغيره من الامتحانات، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]، ولهذا استحق الإمامة، قال: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، ولذلك يقول العلماء: إذا جمع المرء بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، لقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].

مواطن الحاجة إلى اليقين

مواطن الحاجة إلى اليقين والمرء أحوج ما يكون إلى اليقين في حالين:

الموطن الأول: حالة الفتنة

الموطن الأول: حالة الفتنة الحال الأول: حال الفتنة والشبهة، فعندما يأتي ليل الفتن وسيلها الجارف يحتاج المؤمن إلى ما يثبته، وهو هذا اليقين الذي يجعله لا ينجرف وراء الفتن ولا يذهب وراء كل ناعق، ويمسك بالمحجة البيضاء لا يميل عنها يميناً ولا شمالاً ولا يسلك بنيات الطريق ولا أبواباً مفتحة. وهذا الحال يذكرنا بحالنا اليوم، فالفتن تزداد في آخر الزمان، وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الفتن فقال: (يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، فكم شاهدنا من الناس من نرى بحسب الظاهر -والسرائر علمها إلى الله- أنه يبيع دينه بعرض من الدنيا. هذا من هذه الفتن التي حذرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلذلك يجب على المسلم أن يستمسك باليقين، فإذا عرض عليه بيع دينه بأي ثمن تذكر أن هذا الدين هو هو، وأن بيعه له خسارة في الدنيا والآخرة، وأنه إن لم يسلك طريق إبراهيم فقد سفه نفسه كما شهد الله وهو عليم بذلك: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]. ومن هنا فعليه أن يثبت وأن يعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن ما كتب له لابد أن يناله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وليتذكر هذا عند كل الصدمات والأزمات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى. فإذا جاءت أية نازلة وأية فتنة فإن أهل الإيمان يثبتون ويراجعون أنفسهم ويتذكرون أول ما يتذكرون اللجوء إلى الله والعلاقة به، ومن هنا لا يستفزون بهذه الفتنة فينجون منها: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

الموطن الثاني: وقت الموت

الموطن الثاني: وقت الموت الحال الثاني الذي يحتاج فيه إلى اليقين: هو وقت الإدبار عن هذه الدنيا والإقبال على الآخرة، عندما تخور الجوارح وتضعف، فذلك مدعاة لضعف العقل والتصور، والإنسان في ذلك الوقت محتاج إلى ما يثبته وهو أحوج أحواله إلى اللطف، ولذلك قال خليل رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه هذا: (ونسألك اللطف والإعانة في جميع الأحوال وحال حلول الإنسان في رمسه. فحال الانقطاع عن الدنيا والإقبال على الآخرة يحتاج فيه الإنسان إلى اليقين والثبات، ولذلك قال أحد سلفنا الصالح: أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني هذا وقت الثبات. فما يدل لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين فالثبات على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تبديله وتحريفه بأي شيء يحتاج إليه الإنسان في وقت ضعفه وكبره وعجزه وانقطاعه عن الدنيا وإقباله على الآخرة. أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

أمور يتحصل بها اليقين

أمور يتحصل بها اليقين فلذلك قال: (لكي تسير النفس مطمئنه) ماذا يلزمه؟ أن يمعن النظر في الدلائل، وإنما يحصل اليقين بأمرين: الأمر الأول: نظري. والأمر الثاني: عملي. فالأمر النظري: هو استعمال الدلائل؛ ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]. والأمر العملي هو زيادة التقرب إلى الله تعالى لتأتي مواهبه التي وعد بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]. فالإنسان محتاج إلى هذين الأمرين، ولذلك فالعلم كله ينقسم إلى علمين: - علم مكتسب، وهو: العلم الصادر عن طريق الدلائل. - وعلم لدني، أي: موهوب من عند الله سبحانه وتعالى، وهذا نتيجة العمل، فيوازي الإنسان بين هذين الجانبين، ويزيد علمه بالعمل فيتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، ويكثر من النوافل فيفتح الله له فتوحاً نافعة. وكذلك يزيد علمه بالاستطلاع والدلائل ويهتم بهذا الجانب النظري أيضاً فلا يتكل على أحد الجانبين وحده بل يسير في خطين متوازيين لابد من اجتماعهما؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول يشمل الاعتقاد، وعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فلابد من إمعان النظر في الدلائل. والدلائل جمع دليل، والدليل في اللغة يطلق على المرشد، ومنه قول الشاعر: إذا حل دين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل سيصبح فقيع أكتم الريش واقعاً بقال قلا أو من وراء دبيل فقوله: (واستعن بدليل)، أي: بمرشد في المتاهات والمسافات الشاسعة. ويطلق كذلك على الأمارة، ومنه قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45 - 46]، أي: جعلنا الشمس عليه علامة، فإذا وجدت الشمس وجد الظل وإذا غربت عدم الظل. وهو في الاصطلاح: ما يثبت الشيء، وللأصوليين والمناطقة اصطلاحات في تعريف الدليل، فالأصوليون يقولون: الدليل هو ما يحصل بصحيح النظر فيه العلم بمطلوب الخبر، وبعضهم يقول: ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، والفرق بين التعريفين: أن التعريف الأول يقتضي أن الدليل هو ما أدى إلى القطع فقط، وغيرها لا تسمى دلائل وإنما تسمى أمارات، وهذا اصطلاح لبعض المتكلمين، فتقيد به بعض الأصوليين. والقول الثاني أرجح وهو: أن الدليل هو ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري سواء كان ذلك باليقين أو بالظن. وقولنا: (ما يؤدي)، أي: بعد الأخذ به، فالدليل سابق على المدلول، فإذا كنت تريد معرفة حكم شرعي، فاعلم أن الآية قد نزلت، وأن الله سبحانه وتعالى قد أمر بهذا، فأمر الله المنزل من عنده هو الدليل، وهو سابق على المدلول وهو معرفتك أنت بالحكم الذي طلب منك. فمثلاً: وجوب الوضوء مطلوب خبري، والمطلوب معناه: ما يتعلق به الطلب، وهو الذي يكون قبل الاستدلال دعوى ووقت الاستدلال مطلوباً وبعد الاستدلال نتيجة؛ لأنه نتيجة الدليل، فله ثلاثة أحوال: قبل الاستدلال. ووقت الاستدلال. وبعد الاستدلال. فهذا هو الذي يسمى مطلوباً، وهو إما أن يكون إنشائياً وإما أن يكون خبرياً، فالإنشائي تنطلق فيه من نفسك ولا تحتاج فيه إلى غيرك؛ لأنه إيقاع توقعه مثل: بعت واشتريت وأعتقت. والخبري المنسوب إلى الخبر، والخبر هو ما يقبل الصدق والكذب لذاته، أي: يمكن أن يكون صادقاً ويمكن أن يكون كاذباً لذاته بخلاف الإنشاء، فهو لا يقبل الصدق والكذب لذاته ولا يسمى خبراً، لكن إن كان الخبر لا يقبل الصدق والكذب لكن لا لذاته بل للمتكلم به ككلام الله تعالى، والخبر من رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يقبل التكذيب أبداً بل هو صدق قطعاً؛ لكن عدم قبوله للكذب ليس راجعاً إلى ذات الخبر وإنما هو راجع إلى المتكلم به، وهكذا.

أقسام الدلائل

أقسام الدلائل والدلائل تنقسم إلى قسمين: - دلائل نقلية. - ودلائل عقلية. والدلائل العقلية مقدمة على الدلائل النقلية من ناحية التصور؛ لأن الإنسان قبل أن يصدق بالنقل لابد أن يعتمد على قناعة عقلية به، فمن لم يصدق بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته لا يمكن أن يقتنع بالقرآن أو بالحديث، لكن إذا اقتنع عقلياً بالمعجزة وبصدق النبي صلى الله عليه وسلم يكون الدليل النقلي حينئذٍ مجبراً له، ومن هنا فالدليل العقلي مقدم على الدليل النقلي في التصور؛ لأنه لا يمكن أن ينطلق الإنسان من مجرد النقل دون أن يعتمد على عقل في إثبات أصل النقل؛ لأن النقل مبني على العقل. والدلائل النقلية تشمل التفكر بالآيات المسطورة والأحاديث المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن أقوال الراسخين في العلم والمتفقهين فيه الذين كلامهم نور على نور يشرح ويبين مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم. والدلائل العقلية هي: التفكر في آيات الله المنظورة كالنفس، والسماء والأرض وما بينهما، هذه آيات الله المنظورة: {وَفِي أَنفُسِكُمْ} [الذاريات:21]، فأول ما يتفكر فيه الإنسان أن يتبصر في نفسه، ثم في السماوات والأرض وما بينهما: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:105 - 106]. ويروى أنه قيل لأعرابي: بما عرفت ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟! فاستفاد هذا الأعرابي من الآيات المنظورة فهداه ذلك إلى القناعة بالآيات المذكورة، ولهذا قال: (أن يمعن النظر في الدلائل).

إمعان النظر في الدلائل

إمعان النظر في الدلائل والنظر المقصود به: التفكر في المعقولات، فالنظر هو إعمال النفس، وإعمال النفس ينقسم إلى قسمين: إما أن تعمل في الحسيات التي يدركها البصر أو السمع أو الذوق أو الشم أو اللمس، وهذا يسمى تخيلاً، أو أن يتعلق بالمعنويات وهي المعقولات التي يتعلق بها العقل ولا تتعلق بها الحواس، وهذا الذي يسمى فكراً، فهذا الفرق بين التفكر والتخيل، فالتخيل يقع في المحسوسات والتفكر في المعقولات.

أقسام النظر في الدلائل

أقسام النظر في الدلائل والنظر ينقسم إلى قسمين إلى: - نظر صحيح. - ونظر فاسد. فالنظر الصحيح هو ما تعلق بالشيء من جهة الاستدلال به، فإذا نظرت، وكنت تريد عملاً بخشبة، وتريد أن تعمل بها سريراً مثلاً، فمن أي وجه تنظر؟ هل تنظر في قدمها وبقائها أو في ملكها أو نحو ذلك؟ هذا النظر فاسد؛ لأنه في غير الوجه الذي ينفع، لكن إنما تنظر في ليونتها وقسوتها، وخشونتها وملوستها، واستقامتها واعوجاجها، وصلابتها وضعفها، لأن هذه هي الجهة التي تنفعك منها. كذلك النظر لا يكون صحيحاً إلا إذا كان في الوجه الذي يؤدي إلى المقصود، فإن كان النظر في وجه لا يؤدي إلى المقصود كان نظراً فاسداً، وإعمال النظر يتفاوت الناس فيه بقدر ما آتاهم الله من الملكات والفهم، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، فكل إنسان مخاطب على مقتضى عقله لا على مقتضى عقول الآخرين، وما أداه إليه عقله فقد قامت الحجة به عليه، ولهذا قال: (أن يعمل النظر)، أي: نظره هو. و (أل) هنا نابت عن الضمير فـ (أل) تخلف الضمير كثيراً، ومن ذلك: حكايته صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع: (زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب)، معناه: مسه مس أرنب وريحه ريح زرنب، ولذلك جاز الإخبار بالمس عن الزوج، والخبر لابد أن يكون فيه رابط يربطه المبتدأ، ولو كانت (أل) هنا ليست في معنى الضمير لكان الخبر منفصلاً عن المبتدأ تماماً. ما علاقة المبتدأ بالخبر في قولها: (زوجي المس مس أرنب). لو لم تكن أل هنا بمعنى الضمير لكان الخبر منفصلاً عن المبتدأ. فكذلك هنا (أن يمعن النظر في الدلائل) معناه: أن يمعن نظره الذي آتاه الله، ولا يجب عليه إعمال نظر الآخرين ولا تتبعهم فيما يتطرقون إليه من أنواع النظر، فكل يخاطب على قدر ما آتاه الله.

أقسام الفاعل من ناحية التقسيم العقلي

أقسام الفاعل من ناحية التقسيم العقلي قوله (ويستدل لوجود الفاعل)، فأول ما يتعلق به النظر: أن يستدل لوجود الفاعل، أي: لوجود الله سبحانه وتعالى، وكنى عنه هنا بالفاعل؛ لأنه هو الفاعل بالاختيار، والفاعل، أي: الذي يحدث فعلاً. والفاعل من ناحية التقسيم العقلي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - الفاعل بالاختيار، وهو: الذي لا يتوقف فعله على وجود شرط ولا على انتفاء مانع، وهذا هو الله سبحانه وتعالى وحده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فلا يتوقف فعله على الشروط ولا على انتفاء الموانع، يحدث الشيء دون سببه، ويمكن أن ينبت النبات دون مطر، يمكن أن يخلق إنساناً من غير أب ولا أم وأن يخلقه من غير أب، وأن يخلقه من غير أم وهكذا، إذاً: فعله لا يتوقف على الشروط ولا على انتفاء الموانع. - النوع الثاني من أنواع الفاعل: الفاعل بالطبع، وهو الذي يتوقف فعله على الشروط وانتفاء الموانع، وذلك مثل فعل الإنسان في حركته وسكونه، ففعله يتعلق بالأسباب، فكل سبب يؤدي إلى شيء آخر وراءه كتحريك مقود السيارة الذي تمسكه بيدك وذلك يحرك شيئاً آخر، وذلك يحرك شيئاً آخر حتى تتحرك السيارة بكاملها، أو الضغط على البنزين فإنك لا تصبه مباشرة في مكان المناسب ولكنك تضغط على الذي يليك وذلك يضخ في مكان آخر وهكذا حتى يصل الزيت إلى مكان النار. فأفعالك إذاً مرتبطة بحصول الشروط وانتفاء الموانع، ومثل هذا الإحراق في النار شرطه الاتصال، فمثلاً: النار ما لم يلامسها الشيء لا تحرقه، وإذا كانت النار هناك وأنت هنا لا تحرقك قطعاً؛ لأن الشرط قد انتفى، وكذلك مقيد بعدم حصول الموانع، إذا كانت المادة نفسها غير قابلة للاحتراق فوضعت على النار فإنها لا تحترق، أو عزلت بعازل حراري فلا تحترق. إذاً: الفاعل بالطبع مشروط بحصول الشروط وانتفاء الموانع. - النوع الثالث: الفاعل للعلة، وهو الذي لا يتوقف فعله على الشروط ولا على انتفاء الموانع ولا على الاختيار، وإنما يرتبط فعله بفعل آخر كحركة الخاتم لحركة الأصبع، والخاتم في الأصبع كلما تحرك الأصبع لابد أن يتحرك الخاتم عقلاً، ولا يمكن أن يتصور العقل أن الأصبع يتحرك ولا يتحرك الخاتم، لكن الخاتم ما له اختيار الحركة، ولا تتوقف حركته هنا على شرط ولا على انتفاء مانع؛ لأنها تابعة لغيرها بالكلية. فالاستدلال لوجود الله سبحانه وتعالى سابق على الاستدلال بغير ذلك من صفاته وعلى الاستدلال للنبوة، وعلى الاستدلال لصدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك سابق على الاستدلال على جزئيات ما جاء به من الشرع كالطهارة والصلاة والصيام وكترك المحرمات وغير ذلك، فكل هذه الأمور متدرجة.

طرق المعرفة

طرق المعرفة بماذا يستدل لوجود فعال؟ طرق المعرفة ثلاثة هي: - العيان وهو: المشاهدة. - أو المثال وهو: النظير، أي: أن تقيسه على نظيره. - والآثار، وهذا القسم الثالث. والله سبحانه وتعالى يستحيل أن تعرفه في هذه الدنيا عن طريق العيان لقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]. ويستحيل في حقه كذلك المثال؛ لأنه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فلا يمكن أن يقاس على أي شيء، وكل ما سواه فهو مغاير له مخالف له، فلم يبق إلا معرفته بفعله وآثاره. يقول أحد العلماء وهو محمد الفالو المتالي رحمه الله: وطرق المعرفة الكبار عيان او مثال او آثار فأول منعه الجبار إذ قال لا تدركه الأبصار والثاني أيضاً منعه بالنقل لأنه ليس له من مثل لم يبق بعد ذا سوى آثار قدرته في العالم السيار ترى آثار قدرته في هذا العالم المتحرك كله، وهذا دليل على وجوده. قوله: (ليحصل اليقين له)، هذا هو المقصد وهو الهدف وهو أصل كل شيء، فإذا حصل اليقين بقذف قذفه الله في قلب العبد لم يحتج بعد هذا إلى النظر في الدلائل، لكن قبل أن يحصل له اليقين لابد أن يبحث في الدلائل، وهذا اليقين منحة ربانية ثمينة يهبها الله تعالى لمن يشاء، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]، وهذه الآية تضمنت نوعين من أنواع الناس: النوع الأول: الذين يجتبيهم الله تعالى ويختارهم فيقذف في قلوبهم اليقين والهداية ولا يستطيعون الممانعة، وتنقاد نفوسهم لذلك طائعة مطمئنة. والنوع الثاني: الذين يجاهدون ويكابدون ويستمرون في العمل ثم يتقبل الله منهم ويهديهم، ولهذا قال: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى:13]، هؤلاء لا تتوقف هدايتهم إلا على مشيئة الله: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]، من أناب وتاب وعمل الصالحات يهديه الله تعالى، فهذان صنفان من أصناف عباده. وقسمة ذلك تابعة لقدره سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتدخل فيها الناس، ولا يمكن أن يعترض عليه أحد من خلقه بأي شيء؛ لأنه فعال لما يريد: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فلا يقال (لم؟) في حق الله سبحانه وتعالى، فالسؤال في مثل هذا مرفوع عنه، ولذلك فقد يخرج من البطن الواحد مسلم وكافر. بل قد يكون الأخوان الشقيقان أحدهما هو أول من يأخذ كتابه بيمينه والآخر هو أول من يأخذ كتابه بشماله، فـ أبو سلمة بن عبد الأسد وأخوه الأسود بن عبد الأسد شقيقان، الأسود قتل يوم بدر كافراً، وروي أنه أول من يأخذ كتابه بشماله، وأبو سلمة أسلم قديماً بمكة وأوذي في الله وهاجر الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة ومات في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أنه أول من يأخذ كتابه بيمينه وهما أخوان شقيقان، فلله الحكمة يفعل ما يشاء ويختار. والمقصود من قوله: (بفعله)، أي: بأفعاله كلها، وهذا من إضافة المفرد إلى الضمير وإضافة المفرد إلى الضمير تقتضي عمومه كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50]، فالمقصود هنا العموم لا خال واحد، ولا عم واحد، وكذلك قول الشاعر: بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب فلا يقصد جلداً واحداً؛ لأن الحيوانات الحسراء، أي: التي ماتت من الجوع والجهد والضنك، لا يمكن أن يكون لها جلد واحد، بل كل بهيمة لها جلد مستقل (فأما عظامها فبيض وأما جلدها -أي: جلودها- فصليب)، الصليب هنا فعيل يوصف به المفرد والجمع والمثنى وغير ذلك، ومنه: خبير بنو لهب فلا تك ملغياً مقالة لهبي إذا الطير مرت وأيضاً: يعادين من قد بدا شيبه وهن صديق لمن لم يشب وكذلك قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، ففعيل يوصف به المفرد والمثنى والجمع.

أقسام أفعال الخالق سبحانه وتعالى

أقسام أفعال الخالق سبحانه وتعالى وأفعال الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: - أفعال مباشرة: كخلق السماوات والأرض. - أفعال تمر بالأسباب فيسبب تلك الأسباب التي يتوقف عليها غيرها، كخلق الإنسان، فهو يمر بالأسباب التي بينها بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14]، وكالصحة والمرض، والغنى والفقر وغير ذلك، فهذه لها أسباب، وهذه الأسباب تنقسم إلى قسمين إلى: أسباب كونية. وأسباب شرعية. فالأسباب الكونية: كالتغذية للنماء، والعلاج للبرء، ونحو ذلك. والأسباب الشرعية: كالصدقة للغنى ولطول العمر، ولرفع البلاء، وكالدعاء وصلة الرحم، فهذه أسباب شرعية لا يمكن أن تقاس بالمعايير الدنيوية. بفعله ليحصل اليقين له أن له رباً كريماً عدله فالدلائل ستوصله إلى معرفة صفاته، وهذا هو القدر الممكن من التعرف إليه، وإنما تعرفه بأفعاله وصفاته وأسمائه، فإذا عرفت ربك بأفعاله وصفاته وأسمائه اقتضى منك ذلك عبادته حق عبادته وتمجيده، وإجلاله وتعظيمه والأدب معه، والعمل بما شرع لك، والرغبة فيما عنده والتوكل والاعتماد عليه في كل الأمور، وأن تستحي منه في تصرفاتك، فهذا مقتضى معرفته، وإلا لم تحصل لك محبة الله، ولا خوفه، ولا رجاءه، ولا شكره، ولا هيبته، ولا الحياء منه، ولا أية صفة من هذه الصفات. ومن هنا فالذين يقرءون العقائد دون أن يتدبروا أهدافها تكون في حقهم قسوة للقلوب، وطلاسم وألغازاً، أو نصوصاً تحفظ دون أن يفهم ما وراءها، ودون أن يتأثر بها باطن الإنسان، وهذا مخالف للمقصد والهدف. قوله: (ليحصل اليقين له أن له رباً) هذا أول ذلك، فمن صفاته: الربوبية، والربوبية هو التوصيل إلى الكمال شيئاً فشيئاً، وهي الملك والقهر والجبروت، وقد سبق ما يتعلق بذلك من توحيد. ثم قال: (كريماً)، وهذا شروع في عد بعض صفاته الأخرى، فمنها صفة الكرم، وهي تشمل أمرين: الأمر الأول: الكمال في الذات، ومعناه: أنه متصف بكل وصف الكمال، وهذا معنى الكرم. المعنى الثاني: التفضل والجود، وهذا أيضاً داخل في معنى الكرم ويسمى فضلاً أيضاً. وقوله: (عدّله)، إذا عرف الإنسان ربه عرف نفسه، وعرف أنه هو الذي لم يكن موجوداً ثم وجد، وأنه هو الضعيف المحتاج الفقير، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]، فلا تعرف هذا إلا بإعمال الدلائل. وهنا قراءتان في هذه الآية: (عدّلك) أو (عدَلك) ومعناهما واحد. أي: سواك وركب أعضاءك وجعلها متقابلة، فطول اليدين متساوٍ وطول الرجلين متساوٍ ولو حصل نقص أو ميل في إحداهما لحصل الاختلال بالكلية. وكذلك (عدلَك)، أي: جعلك معتدلاً في هيئتك فاليمين مناظرة للشمال، وهكذا في بواطنك وظواهرك، وهذا كله من آيات الله العجيبة، والبراهين الدالة على إحكام صنعته، وكمال قدرته وعلمه وإرادته، لذلك قال: (أن له رباً كريماً عدله) أو عدّله، ويمكن في البيت التضعيف والتخفيف تبعاً للقراءتين في السورة الكريمة.

الأسئلة

الأسئلة

الكلام الذي يقبل الصدق والكذب

الكلام الذي يقبل الصدق والكذب Q أريد أن تذكر أمثلة على الكلام الذي يقبل الصدق والكذب. A ذكرنا أن الكلام قد يقبل الصدق والكذب لذاته، ولكنه لأمر خارج عن ذاته لا يقبل الصدق والكذب، والسؤال هنا عن أمثلة لذلك. فمن أمثلته: كلام الله، فكلام الله صدق كله، لكن لو جاء ما فيه من الخبر ولم يكن الذي تكلم به هو الله لكان قابلاً للتكذيب، لكن بعد أن تكلم الله به اقتضى العقل والنقل والفطرة تصديقه وعدم تكذيبه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]. ثانياً: كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن المعجزات اقتضت من العقول أن تؤمن بصدقه، وكذلك الوحي فالخبر بتصديقه من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه أمينه على وحيه يقتضي صدقه في كل ما أخبر به، فلو لم يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الذي هو خبر، لكان العقل يبيح أن يكون صدقاً وأن يكون كذباً، لكن بعد أن تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق مجالاً إلا لتصديقه عقلاً ونقلاً وفطرةً أيضاً. القسم الثالث: ما صدقه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فما صدقه الله مثل قوله تعالى في تصديقه لملكة سبأ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34]، فهذا الكلام كان قابلاً للصدق والكذب قبل أن يصدقه الله، لكن بعد أن صدقه الله لم يعد قابلاً لذلك. أو صدقه رسوله صلى الله عليه وسلم كحديث أبي هريرة حين أتاه الشيطان فأخبره أن آية الكرسي من قرأها في ليلة لم يقربه شيطان وكان عليه من الله حافظ، فهذا الكلام قبل أن يصدقه النبي صلى الله عليه وسلم كان قابلاً للصدق والكذب، لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب)، فوجب صدقه. القسم الرابع: ما تواتر نقله، فالمتواتر يحصل اليقين بصدقه؛ لأن العدد الكبير الذين لا يجمعهم هدف ولا مكان ولا سن إذا أخبروا عن مشاهد محسوس قد رأوه أو سمعوا من مثلهم يستحيل تواطؤهم على الكذب في العادة، فيحصل اليقين بصدق ذلك، لكن هذا التواتر خارج عن الخبر، فأنت حصل لديك اليقين بوجود البيت الأبيض الأمريكي وإن كنت لم تشاهده، لكن لا تستطيع إنكاره اليوم، فأنت موقن بوجوده، وحصل لك اليقين بوجوده وهو خبر لا لأن الله تكلم به، ولا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم به، ولا لأنه جاء تصديق ذلك بالوحي، لكن بالتواتر، فقد تواتر عندك فلا تستطيع تكذيب ذلك، لكن الخبر قبل أن يتواتر كان قابلاً للصدق والكذب. والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه. والحمد لله رب العالمين.

أقسام النفس الكافرة

أقسام النفس الكافرة Q ما هي أقسام النفس الكافرة؟ A النفس الكافرة تنقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام إلى: - نفس ميتة. - ونفس مريضة. - ونفس على الفطرة. النفس الميتة هو الكافر الذي قد طبع على قلبه ولا يمكن أن يهتدي، وسبقت له سابقة الشقاوة، نسأل الله السلامة والعافية، أي: لو رأى كل آية لا يمكن أن يؤمن. والنوع الثاني: النفس المريضة، وهو الكافر الذي قد رين على قلبه، فيمكن أن يكون من المؤلفة قلوبهم ويعطى على الإسلام. والقسم الثالث الذي هو على الفطرة، وهو من وجد آباءه يقولون شيئاً فقاله، ولكن إذا سمع الحق استجاب له إذا هداه الله لذلك.

أول واجب على الإنسان

أول واجب على الإنسان Q ما هو أول واجب على الإنسان؟ A ذكرنا أنه يجب عليه النظر، لكن لم يتعلق كلامنا: هل هو أول ما يجب عليه أو دون ذلك؟ وهذا محل خلاف طويل بين أهل العلم في أول واجب على المكلف، وهذا الخلاف نظراً لما طرحه السيوطي رحمه الله فقال: أول واجب على المكلف معرفة الله وقيل الفكر في دليله وقيل الأول النظر وقيل قصده إليه المعتبر وهذه كلها أقوال لأهل العلم لكن مفادها واحد. المهم أن أول الأمر هو الإيمان، وهذا الإيمان يترتب على مراحل قبله لا يحصل اليقين إلا بالدخول فيه، كذلك فإن الإيمان لا يتم إلا بعد حصول القناعة بأن الإيمان ليس شيئاً يأتي في لحظة واحدة أو طرفة عين أو بمجرد النطق، بما أنه شعب كثيرة، فهو أول واجب لكنه مع هذا متفاوت متدرج. ولهذا قالت طائفة: (أول واجب على المكلف معرفة الله)، وهذا لا شك أنه أعظم واجب، لكن هل هو أول ما يوجه إليك الخطاب به؟ هذا هدف، والهدف لابد قبله من وسائل. (وقيل: التفكر في دليله)، أي: قالت طائفة من أهل العلم: أول واجب على المكلف هو التفكر في دليل وجود الله؛ لأنه هو الذي يقود إلى الإيمان والإيمان يقود إلى اليقين. (وقيل: الأول النظر)، أي: وقالت طائفة: بل الفكر مرحلة متقدمة يسبقها النظر، فهو أول واجب، هذا على القول بتجزئة التفكير، ويدل لهذا آيات سورة الطور، قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:29 - 34]، إلى آخر الآيات. قد سبق بيان مراتبها في درس ماض، وبيان أن كل دليل من هذه ينبني عليه ما بعده، بإعجاز عجيب جداً. (وقيل: قصده إليه معتبر)، هذا هو القول الرابع: أن مجرد نية التفكر هو أول واجب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، فلو حصل التفكر دون نية له لم يكن واجباً. هذه الأقوال مردها إلى شيء واحد، ونحن لم نخض في هذه؛ لأن الشيخ ما تعرض لها هنا، وهي مسألة كلامية في الواقع لا يمكن حسمها بسهولة؛ لأن كل قول عليه أدلة، والأقوال كلها في معناها متقاربة. وبالنسبة لمن يقول: هذا الكلام مصطلحات ما عرفها السلف، يقال له أيضاً: حتى كلمة (مصطلح) التي ينطقها ما عرفها السلف، وحتى كلمة (السلف ما عرفوها)، كل هذه مصطلحات، والكلام لابد فيه من هذا وهو سنة الله الكونية في الكون كله. وبالنسبة للواجبات لاشك أن الله سبحانه وتعالى فرض فرائض وأوجب واجبات، ولاشك أن هذه متدرجة متفاوتة، ولاشك أن دخولك في الإيمان ونطقك بالشهادتين موجب عليك حقوقاً، وهذه الحقوق متدرجة مترتبة، لكننا في الصلاة نعرف أول واجب منها، على الخلاف فيه أيضاً، فما هو أول واجب منها؟ أول واجب منها تكبيرة الإحرام، وهذا القول قال به بعض أهل العلم لكن أنكر عليه بأنه يجب القيام قبلها؛ لأن التكبيرة لابد أن تكون بعد القيام، والنية مصاحبة لها؛ لأن النية مع نفس التكبير، وقالت طائفة أخرى: الواجب غير تكبيرة الإحرام، وهو الطهارة، والطهارة ما هي الواجبة منها؟ هل هي الوضوء؟ فأول واجب منها: غسل الوجه، وقالت طائفة: بل الاستنجاء والاستجمار واجب سابق عليه، وهكذا. إذاً: الأقوال مثل هذه وترتيبها مثل ترتيبنا نحن للفقه، وما عرفه السلف، ولا عرفوا أن باب الطهارة قبل باب المواقيت، وأن باب المواقيت قبل باب فرائض الصلاة، وأن باب فرائض الصلاة قبل استقبال القبلة وهكذا هذه ما عرفها السلف، لكن لا نستغني نحن عن هذا، ومن أنكر هذا الترتيب فيما يتعلق بأول واجب على المكلف ينبغي أن ينكر أيضاً الترتيب بين أبواب الطهارة والصلاة والجنائز والزكاة والحج والصوم؛ لأن مجرد أن السلف ما عرفوا هذه ليس حجة، وارجع أنت إلى حياتهم وكن في عصرهم واترك عنك حتى ما توصل إليه العلم الحديث وما توصلت إليه الدنيا السائرة كلها، وارجع إلى هناك فانظر هل تحتاج إلى مثل هذا أو لا؟ لكن الاختراع وليد الحاجة، والزمن مستمر متقدم وقطاره منطلق، وكل عصر يحتاج أهله إلى كثير من الأمور لا يحتاج إليها من سبقه. وبالنسبة لترتيب الواجبات وكذلك ترتيب العلوم، هو من الوسائل المتخصصة التي تبقى لأهل الاختصاص وإنما يبحثها طلاب العلم وأهله فقط، أما بالنسبة لمن يدعى إلى الإسلام فلا يقال له أولاً: لابد أن تنوي الدخول في الإسلام، ولابد أن تنوي الاغتسال، ولابد أن تنوي الصلاة، بل نجعله يصلي أولاً في البداية حتى لو كانت الصلاة باطلة في حق غيره، ولذلك يتجاوز عن الشخص الحديث عهد بالإسلام حتى في مسائل العقائد. ولما تزوج منظور بن زبان بن سنان بزوجة أبيه مليكة في خلافة عمر، ورفع الأمر إلى عمر سأله: هل قرأت عليك سورة النساء؟ فقال: لا. فحلفه خمسين يميناً ما سمع سورة النساء، وفيها قول الله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22]، ثم رفع عنه الحد بذلك، ولذلك فحديث العهد بالكفر يعفى عنه في بعض الأمور فقط، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم)، ولذلك فإن منظور بن زبان بن سنان يقول: ألا لا أبالي اليوم ما صنع الدهر إذا منعت مني مليكة والخمر

أولية الله وحدوث الخلق

أولية الله وحدوث الخلق الله تعالى هو خالق الخلق من عدم، وقد كان الله ولا شيء سواه، فله الأولية المطلقة التي لم تسبق بعدم، كما أن له الأسماء الحسنى التي أصلها ومرجعها لفظ الجلالة، وله الصفات العلا المنزهة عن كل نقص وتشبيه.

معنى العقائد

معنى العقائد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. يقول الشيخ حفظه الله تعالى: (العقائد). والعقائد جمع عقيدة، وهي ما يعتقده الإنسان، أي يجزم به جزماً لا يقبل الشك، والمقصود به أن هذه الأمور المذكورة هنا أكثرها أمور نصية جاءت في القرآن أو في السنة، فمن عرف أنها نصية وجب عليه الإيمان بصدقها وصحتها، ومن لم يعرف ذلك ولم يسمعها فهو غير مطالب إلا بالأصول الستة التي هي أركان الإيمان، فلا يطالب الإنسان بمعرفتها تفصيلاً إلا إذا سمع الوحي الذي نزل فيها، ومن هنا فإن كثيراً من الصفات التي تسمعونها هنا إنما جاءت في أحاديث آحاد ولم يعلّمها الرسول صلى الله عليه وسلم لكل الأمة. وكذلك بعض العقائد التي هي معروفة لدينا اليوم كانت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفها إلا قلائل. فمثلاً: عذاب القبر من هذه العقائد التي يجب الإيمان بها، لكنه قد ثبت في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها على قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تعلم عذاب القبر، حتى جاءت امرأة من اليهود فاستعاذت من عذاب القبر فأنكرت عليها عائشة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرها أن عذاب القبر حق. ولم يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عامة الناس بعذاب القبر إلا في خطبته عندما كسفت الشمس عند موت إبراهيم، وهذا أمر متأخر جداً، ففي حديث أسماء في الصحيحين أنه ذكر في خطبته عند كسوف الشمس عذاب القبر، وفتنة القبر، فقال: (إنكم تفتنون في قبوركم مثل -أو قريباً من- فتنة المسيح الدجال -لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقال للرجل: ما ربك، وما دينك، وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والمبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد -ثلاثاً- جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، وأما المنافق أو المرتاب -لا يدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها). وفي رواية في الصحيحين: (ويضربانه بين قرنيه) وفي رواية: (ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن). فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا عامة الناس، وهذا فيه إثبات لفتنة القبر ولعذاب القبر؛ ومن فتنة القبر ذكر السؤال والامتحان، وفي عذاب القبر ذكر هذه الضربة التي يصيح منها صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن، وهي من عذاب القبر. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من أصحابه: (إن الله يضحك إلى المصلي في جوف الليل فقال رجل: أويضحك ربنا عز وجل؟ قال: نعم. فقال: لا يعدم عبد من رب يضحك خيراً)، فدل هذا على أن بعضهم لم يكونوا يعرفون أن صفة الضحك ثابتة لله سبحانه وتعالى، ونظير هذا كثير في الأحاديث الصحيحة.

الكلام على لفظ الجلالة

الكلام على لفظ الجلالة ابتدأ الشيخ هذه العقائد بذكر اسم الله عز وجل الذي يدل على ذاته وجميع صفاته وهو الله، وهذا الاسم يدل على الذات وجميع الصفات.

اشتقاق لفظ الجلالة

اشتقاق لفظ الجلالة وقد اختلف فيه هل هو من العربية أو من غيرها: فقالت طائفة من أهل العلم: ليس من العربية، بل هو اسم لله سبحانه وتعالى بكل اللغات، ولكن هذا لا يناسب؛ لأنه عرف في كثير من اللغات إطلاق اسم على الله غير هذا الاسم، ولا يعرف كثير من أصحاب اللغات هذا الاسم، لكن يمكن أن يقصر على اللغات السامية مثلاً، فهو معروف بالعبرية والعربية وغيرها من اللغات السامية. وعلى أنه من العربية اختلف فيه: هل هو مشتق أو مرتجل: فقالت طائفة من أهل العلم: هو مرتجل لأن صورته ليست على صورة الأسماء المشتقة؛ لأن الأسماء المشتقة إما مصدر أو اسم فاعل أو اسم مفعول، أو صفة مشبهه أو أفعل تفضيل أو وزن مبالغة، وليس هذا الاسم شيئاً من ذلك. لكن قالت طائفة: هو إله عرّف بأل. وهذا غلط من ناحية التصريف؛ لأن إلهاً إذا عرف بأل قيل فيه الإله ولم يقل فيه الله، لكن قيل: حذفت الهمزة لصعوبتها في النطق، ولا شك أن الهمزة يقع التكلف في النطق بها، ولهذا من العرب من يبدلها هاءً، كما في قول الشاعر: ألا يا سنا برق على قلل الحمى لهنك من برق علي كريم ولذلك يقول الناظم رحمه الله: والهمز في النطق به تكلف فسهلوه تارة وحذفوا وأبدلوه حرف مد محضا ونقلوه للسكون فهذا يدلنا على صعوبة النطق بالهمزة، ولذلك إذا حذفت الهمزة فيقال: (الله) لأن (أل) ستدغم بلام إله فيكون الله. وعلى كل فإن كان مشتقاً فإما أن يشتق من (لاه) بمعنى احتجب لأنه لا تدركه الأبصار، وفي هذا يقول الشاعر: لاهت فما عرفت يوماً بخارجة يا ليتها برزت حتى عرفناها لاهت: أي احتجبت، أو أن يكون بمعنى أن (الله) ارتفع، ومنه قيل للشمس (إلهة) قال الشاعر: تروحنا من الدهناء عصراً وأعجلنا الإلاهة أن تغيبا وقيل من (أله) إليه، بمعنى لجأ إليه، لأنه الملجوء إليه في كل الأمور، ومن هذا قول الشاعر: ألهت إليكم في أمور تهمني فألفيتكم فيها كراماً أماجدا وقيل: هو من أُله إلهة كعبد عبادة وزناً ومعنى، ولكن الراجح أن هذه الكلمة ليست من أصل العربية، وإنما هي مشتقة من الإله.

لفظ الجلالة من أعظم أسماء الله

لفظ الجلالة من أعظم أسماء الله وعلى كل فإنه لم يرد في القرآن من أسماء الله الحسنى المستعملة استعمال الأسماء إلا الله أو الرحمن فقط، وبالنسبة لبقية الأسماء فإنما جاءت مستعملة في القرآن استعمال الصفات، وكذلك في السنة. فمثلاً جاء هذا الاسم فاعلاً بقول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51] وجاء مبتدأً: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]. وكذلك جاء في محل نصب عن المفعولية في قوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]. وكذلك الرحمن استعمل استعمال الأسماء في قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وفي قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ولم يرد استعمال غير هذين الاسمين استعمال الأسماء في القرآن كله ولا في السنة. فدل هذا على أن هذين الاسمين من أعظم أسماء الله سبحانه وتعالى، ولهذا أتى بهذا الاسم مبتدأ هنا وأخبر عنه بكل ما يأتي من الصفات فقال: (الله حق). و (حق) بمعنى موجود ثابت، ويعبر عنها في الكلام بالموجود، لكن لم ترد النصوص بإطلاق (الموجود) على الله، وإنما أطلق الفعل: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] لكن لم يرد لفظ (الموجود) في النصوص مطلقاً على الله سبحانه وتعالى، فلذلك اختار هذا الألفاظ الواردة في النصوص.

ذكر أسماء الله الحسنى

ذكر أسماء الله الحسنى قال الناظم: (الله حق) والله تعالى يقول: {وأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] وقد عد الحق في الأسماء التسعة والتسعين، كما في حديث أبي هريرة في الترمذي وابن خزيمة والمستدرك. (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت -وفي رواية المغيث- الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب -وفي رواية: القريب- المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين - وفي رواية: المبين- الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور).

معنى الحق في أسماء الله

معنى الحق في أسماء الله قوله: (حق) المقصود بها ما يشمل أمرين: فالحق يطلق على الصدق الثابت المقابل للكذب، فيقال: حق قوله، بمعنى صدق، ويقال: حق الأمر، بمعنى استقر، وكلاهما مقصود بالمعنى، فالحق يطلق على خلاف الكذب وهذا إنما هو في الأخبار، ولكن المقصود أن الأخبار الواردة عن الله تعالى وفي وصفه حق. ويطلق على المستقر، والمقصود بذلك وجوده وعدم تغيره فلا تعروه الحوادث والآفات، ولا تحل به السنة ولا النوم، فهو حي قيوم دائم على ما عليه كان قبل أن يخلق الخلق. ومن المناسب أن يذكر هذا الوصف خبراً عن لفظ الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أيضاً يتضمن كثيراً من صفاته سبحانه، فيتضمن القومية والدوام والبقاء والملك والجبروت وغير ذلك من الصفات.

الكلام على أولية الله تعالى

الكلام على أولية الله تعالى

تقسيم الزمان إلى وهمي وحقيقي

تقسيم الزمان إلى وهمي وحقيقي قوله: (أول): أتى بهذه الصفة وهي الأولية، ومعناها: نفي العدم السابق للوجود، ولا يقصد بها أنه أول شيء سيسترسل وراءه ما بعده، فالمقصود أنه لم يمض زمان إلا وهو موجود فيه. والمقصود (بالزمان) هنا ما كان حقيقياً وما كان وهمياً، فالزمان ينقسم إلى قسمين: إلى زمان حقيقي وهو منذ خلق الله السماوات والأرض إلى أن ينتهي الزمان. والقسم الثاني: الزمان الوهمي والمقصود به ما نتصوره نحن زماناً وليس زماناً، وهذا ما قبل خلق العالم فإنه يسمى أزلاً والأزل أزمنة متوهمة لا يطلق عليها زمان في الواقع؛ لأن الزمان هو اسم للوحدات المعروفة بالليل والنهار، وما كان قبل خلق السماوات والأرض ليس فيه ليل ولا نهار فلا يوصف بالزمان، لكن يسمى بالأزل. ومن هنا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الأحاديث الواردة في أول الخلق لا تعارض بينها، فإنه جاء في الحديث: (أول ما خلق الله القلم) وكذلك ما جاء في أن العرش سبق ذلك: (وكان عرشه على الماء)، فيقول: القلم والعرش والماء كل ذلك كان قبل الزمان، والأولية إنما تتصور بالزمان فيما له وحدات، فتكون هذه الدقيقة قبل الدقيقة الأخرى وتلك قبل التي تليها وهكذا. وهذا الموضوع سنفصله إن شاء الله تعالى عند الكلام في قدم العالم لأن بعض الناس يتهمه بأنه يرى قدم العالم؛ لأنه لم يفهم كلامه في هذا المجال.

أولية الله ليس لها ابتداء

أولية الله ليس لها ابتداء وهذه الأولية ليس لها ابتداء كما قال ابن أبي زيد رحمه الله: (ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انتهاء)، وهذه من الأمور التي لا يدركها العقل دون وحي، فالعقل نظراً لأن نطاقه الوجود الضيق الذي سبقه عدم ويلحقه عدم، لا يمكن أن يسلم صاحبه إلا إذا سلم للوحي، والإنسان لا يتصور إلا الشيء الذي يكون في المكان لأنه هو كذلك. ومن هنا قال الغزالي: إن العقل بمثابة المائع إذا صب في شيء أخذ شكله، أي: أخذ شكل الشيء الذي يصب فيه، فالعقل صب في الإنسان، والإنسان حادث وسيعدم فلم يستوعب العقل إلا ما كان كذلك. ومن هنا فتصورات الإنسان ناشئة عن تشبيهه بنفسه وبما يعرفه من هذه الكائنات، ومن هنا جاءت فكرة التشبيه وفكرة التعطيل، وكلها ناشئة عن أن عقل الإنسان لا يتصور إلا ما كان كالإنسان مما يسبق وجوده عدم وسيلحق وجوده عدم، وهكذا، وما سبق وجوده لا يمكن أن يدركه عقله، وما بعد عدمه أيضاً لا يمكن أن يدركه عقله، ومن هنا لا يتجاوز العقل حدوده وعليه أن يسلم بالوحي، وإذا تجاوزنا نطاق العقل وأخذنا بالوحي، فالوحي يغطي ما وراء ذلك من المساحات التي وراء العقل.

الكلام على لفظ القديم

الكلام على لفظ القديم ويقابل صفة الأولية عند المتكلمين (القديم) فيطلقون على الأول القديم، والقديم لم تأتِ في القرآن ولا في السنة صفة لله سبحانه وتعالى، وإنما جاء الأول لقول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]. فأما القديم فإنها من إطلاقات المتكلمين، وهي تطلق على غير الجديد؛ لقول الله تعالى {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، فالمقصود به: الذي قد التوى واعوج من قدم مدته. (فالأول) صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى واسم من أسمائه، وإطلاقها لا محذور فيه لأنها جاءت في القرآن، وفي السنة: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء)، أما القديم فلم تأتِ، والذين يطلقونها من أئمة هذه الأمة وعلمائها إنما يطلقونها من باب المجاراة؛ لأنها أصبحت مصطلحاً، ولذلك تجدونها في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ولا يقصد بذلك إثبات صفة لم ترد في النصوص، وإنما يقصد المجاراة، لأن الناس إذا تكلموا في الأولية عبروا عنها بالابتداء، وذكروا معها القدم.

كان الله ولا شيء معه

كان الله ولا شيء معه وشرح الأولية بقوله: (كان ولم يكن سواه)، وهذا لفظ حديث: (كان الله ولا شيء معه)، فالمقصود بذلك سبقه للزمان وأنه لم يمض زمان وهو غير موجود فيه، ولم يسبق عليه عدم قط، فمن أجل هذا قال: (كان ولم يكن سواه)، ومعناه أنه سبق مخلوقاته كلها، فقد كان الله ولا شيء معه، ثم بعد ذلك خلق الخلق، ولم يزل يخلق ما شاء. (ولم يكن سواه): جملة حالية مقرونة بالواو، أي: والحال أنه لم يكن سواه، والمقصود بسواه: كل المخلوقات، ولا يدخل في ذلك صفات الله لأنها ليست من خلقه، فإذا قلنا: (كان) اشتمل ذلك على ذاته وصفاته كل ذلك كان موجوداً، فلم يستفد من الخلق صفة الخالق، فهو الخالق ولا خلق، وهو الرازق ولا رزق ولا مرزوق، وهو العالم ولا معلوم، فكل هذه الصفات كان متصفاً بها قبل أن يخلق خلقه، ولم يتجدد عليه أي شيء، لكن تجددت الأفعال فقط وسيرد مثل ذلك.

الكلام على إنشاء الخلق

الكلام على إنشاء الخلق (ثم من بعد العدم أنشأ خلقه): بعد أن كان الكون كله معدوماً أنشأه الله سبحانه وتعالى، والمقصود بالإنشاء الخلق على غير مثال سابق، ويسمى إبداعاً أيضاً ويسمى فطراً: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] معناه: الذي فطرهن والذي فطرها، ومعناه خلقها على غير مثال سابق، ولم يسبق ذلك أي مثال يحتذى، وهذا الغاية في الإبداع والإعجاز. وهذا الإنشاء هو النشأة الأولى التي هي من أدلة النشأة الآخرة، كما جاء ذلك في كثير من الآيات في القرآن، فالنشأة الأولى إنشاء الخلق من عدم، والنشأة الآخرة إعادته بعد أن عدم. فالإنسان مثلاً كان معدوماً فخلقه الله وأنشأه ثم يموت ويفنى ويبلى فيعيده الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، وهي من أدلة البعث، فالله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه عدداً من أدلة البعث منها النشأة السابقة، فمثلاً قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:77 - 78]، أي: نسي النشأة السابقة {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]. كذلك قال تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:50 - 51]. وفي سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:58 - 62]. فالنشأة الأولى هي دليل النشأة الآخرة. والإنشاء يقتضي خلقاً من غير مادته، فيقال: أنشأ فلان في سيره؛ لأنه أحدث المشي من غير مادة سابقة، ويقال: أنشأ قصيدة. أي: قالها من دون أن ينشدها. ويقال: هذا الشعر إما منشد وإما منشأ، فالإنشاد معناه: أن تقرأ شعراً قد قاله من سواك، والإنشاء: أن تقول ما لم تسبق إليه.

مخالفة الفلاسفة في حدوث الكون

مخالفة الفلاسفة في حدوث الكون قال: (أنشأ خلقه)، وهذا لا يخالف فيه إلا الفلاسفة؛ فإنهم يرون أن الهيولي كانت موجودة قبل نشأة الخلق، والهيولي يطلقونها على مادة الكون، فيرون أن الكون من مادة كانت موجودة قديماً فأخرج الله منها هذا العالم كله، ومن هنا يرون قدم العالم، وقد كفروا بذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه خلقه، ولا يمكن أن يخلق ما كان موجوداً لأن تحصيل الحاصل محال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]. وهؤلاء الذين يزعمون الهيولي أخذوا ببعض الشبه في فهمهم من القرآن، منها قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فيقولون: كانت مادة السماء الدخان، وكذلك قالوا: كان عرشه على الماء، فهذا دليل على أن الماء سابق، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]. لكن الإجابة عن هذه الشبهات بأن الله سبحانه وتعالى يقلب مخلوقاته فيخلق الشيء على صورة أولاً ثم ينقله لناحية أخرى، وهذا أبلغ في الإعجاز، فيخرج الشيء من ضده كما يخرج النار من الشجر الأخضر، وكما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. فكذلك هذه السماء القوية كانت من قبل خلقها أولاً دخاناً فقط، ثم جعل هذا الدخان على ضد هيئته تماماً، وهذا من تمام قدرته ومن تمام إبداعه للكون، ولا يقتضي هذا أن الدخان قديم بل قد أحدثه الله وأنشأه ثم خلق منه السماء. كذلك قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، فإن هذا لا يقتضي إلا سبق العرش والماء لخلق السماوات والأرض فقط، لكن لا يقتضي أن ذلك من غير سبق بعدم، بل هو مسبوق بالعدم؛ لقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فيدخل في ذلك العرش والماء.

كلام ابن تيمية على قدم العالم

كلام ابن تيمية على قدم العالم وأما ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته (رسالة الكرسي) فإنه ذكر فيها ما ظاهره أنه يوافق الفلاسفة في ذلك، لكن الذي يبدو لي أن مقصوده أن الأزل إنما هو أزمنة متوهمة فقط، ومن هنا فيقول: إن ما كان قبل خلق السماوات والأرض من المخلوقات ليس بعضه سابقاً بعضاً بمعنى السبق الذي نفهمه نحن؛ لأننا نفهم السبق بمعنى أن هذه الدقيقة قبل هذه وهذه الساعة قبل هذه، وهذا الليل قبل هذا النهار مثلاً، لكن قبل خلق السماوات والأرض لا زمان، فيكون الترتيب إنما هو حسب إرادة الله ومشيئته لا لذات الكون ولا لذات الأشياء أنفسها. وقد أبعد النجعة في الاستدلال حتى ذكر كثيراً من الأمور، منها مثلاً: قضية جاذبية الأرض؛ فإن الأجرام إذا اقتربت من الأرض تأثرت بجاذبيتها فتستقيم في سيرها، وكلما ابتعدت عنها نقصت هذه الجاذبية فأصبح التوازن مختلاً. لكن هذا ليس دليلاً على المراد ولا له به علاقة. فلذلك كان اللازم أن لا يتعمق الشيخ رحمه الله في هذا المجال، وهو من الأمور التي ينبغي الاقتصار فيها على الوحي وعدم تعدي العقل مجاله، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وما من أحد إلا وله أغلاط.

تكاثر الخلق

تكاثر الخلق (أنشأ خلقه): المقصود بالخلق المخلوقات وهو مصدر يطلق على المفعول، والمصدر كثيراً ما يطلق على المفعول، والعكس أيضاً صحيح فيطلق المفعول ويراد به المصدر. والمقصود بذلك ما خلق من المخلوقات على حسب ترتيبها في الوجود، فإن الله يخلق شيئاً ثم يخلق لذلك الشيء عدة أشياء، كالإنسان خلقه من نفس واحدة وأخرج منه هذا البشر الكثير، وهكذا كثير من الكائنات يجعلها في بداية الشيء واحداً ثم يكثره ويخرج منه الأضعاف المضاعفة. وهذا فيه من الحكم الشيء الكثير إذا فهمه الإنسان، فيكون الشيء في الأصل واحداً ثم يتولد عنه ما لا حصر له، فكذلك الحسنات في تضعيفها، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]. فإذا فهمنا هذا في المحسوسات فهمناه في المعقولات، وفهمناه في الأجر وفهمناه في أمور الآخرة، وفهمنا أن الإنسان الواحد إذ كان قد أخرج الله منه خلقاً وكان أباً لقبيلة، فلا يستغرب أيضاً تضخيم جسمه يوم القيامة، فكل الناس من أهل الجنة سيكونون على صورة آدم، وطوله ستون ذراعاً في السماء، وسبعة أذرع بالعرض. وكذلك فإن الكفار سيضخمون يوم القيامة، فمجلس الكافر في النار كما بين مكة والمدينة، وضرس الكافر في النار كجبل أحد، ويمدد الله بطونهم ووجوههم وبالأخص الذين يمنعون الزكاة، فقد جاء فيهم أن الله يوسع بطونهم وظهورهم ووجوههم حتى لا يقع دينار على دينار ولا درهم على درهم؛ لأنها يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.

تمثل الملائكة بالآدميين

تمثل الملائكة بالآدميين ومن هنا يفهم أيضاً تمثل الملائكة في صورة البشر، فإن الملائكة أجسامهم كبيرة جداً كجبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، ومع ذلك يأتي في سورة دحية الكلبي فيجلس في مكان ضيق بين الناس، ويجلس معهم كأنه رجل لا يزيد عليهم في قامته ولا في عرضه. وقد اختلف العلماء في هيئة ذلك فقالت طائفة: إنه لما عرفنا التكثير في خلق الله عرفنا التقليل فيه، فكما يكثر الخلق يقلله أيضاً، كما قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] والزيادة في مقابلها النقص، فينقص من الخلق ما يشاء. وقالت طائفة: بل يعدم ما زاد على تلك الصورة ويخرج جبريل في تلك الصورة، ثم يعيد الله إليه أجنحة أخرى بخلق جديد. وقالت طائفة: بل تنسلخ روحه من بدنه فتأتي الروح في تلك الصورة فقط. وقالت طائفة: بل إنما يمثل ذلك للعيان فيراه الناس، والواقع أنه جبريل على صورته الحقيقية، لكن الله جعل هذا في أعيننا على هذه الهيئة، وهذا أقرب الأقوال للصواب. فهو مثل تمثيل الجنة والنار لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عرض حائط المسجد يوم الكسوف؛ فإنه عندما خطب الناس قال: (ما من شيء لم أكن أريته إلا أريته في مقامي هذا حتى الجنة والنار). وذكر أن الجنة والنار مثلتا له في عرض الحائط، وتقدم إلى الجنة حين مثلت له وتأخر عن النار حين مثلت له، وذكر أنه أراد أن يأخذ لهم عنقوداً واحداً من العنب، ولو أخذه لعاش منه الناس حتى تقوم الساعة، ولكن الله لم يقدر ذلك، بل جعل هذا مختصاً بالجنة، فنعيم الجنة لا يفنى ولا يبلى.

يخلق الله ما يشاء ويختار

يخلق الله ما يشاء ويختار (أنشأ خلقه اختياراً): هذا إثبات صفة أخرى لله سبحانه وتعالى وهي صفة الاختيار وعدم الإكراه، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، وليجزم أحدكم المسألة فإنه لا مكره له). فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ومن المناسب جداً ذكر الاختيار بعد ذكر الخلق؛ لأن الله عطفه عليه بقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] فلذلك قال هنا: (أنشأ خلقه اختياراً). واختياراً. معناه: اصطفاء للهيئات والصور، فالله سبحانه وتعالى بالإمكان أن يخلق أي شيء من الخلق على أية صورة شاء، كما قال تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] ولحكمته اختار لكل صورة ما يناسبها. وقد بحث العلماء هنا في مسألة، وهي ما ذكره الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين حيث قال: (ليس بالإمكان أبدع مما كان)، فعندما عرضت هذه المسألة في كتابه على علماء المغاربة في دولة علي بن يسر المكاشفي في بداية القرن السادس الهجري، أمر بتحريق الكتاب على الزيت وتحريق كتب الغزالي كلها؛ لأن العلماء حكموا بأن هذا ضلال. لكن التصور هنا متباين، فـ الغزالي رحمه الله يرى أن الله سبحانه وتعالى عندما أثبتنا أنه لا يمكن أن يخلق على أساس الغرض وإنما يخلق على أساس الحكمة، فإن حكمته مقتضية لأن يكون كل شيء أبدعه على أحسن ما يمكن في علمه هو، فكل إنسان الآن خلق على صورة معينة فهي الأفضل له. قد يتصور أحدكم أنه الآن كان بالإمكان أن يكون أطول من هذا أو أحسن من هذا الشكل؛ لكن ذلك شراً له، وأفضل شيء له وأتمه هو ما خلقه الله عليه. وحتى وإن كان معيباً أو ناقص الخلقة أو مبتلىً بمرض أياً كان فإنه الأفضل له، لأنه في المقابل كان سيقابل ذلك قدر من أقدار الله التي لا نعرفها، وقد تكون في الدنيا وقد تكون في الآخرة. أقول ما سمعتم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه.

آداب طلب العلم

آداب طلب العلم تخصصات العلوم الإسلامية التي اشتغل بها العلماء كثيرة، ومن تعلمها، فوصل إلى حد متوسط من إدراكها، واستطاع تدريس كل واحد من هذه العلوم فهو (العالم)، ومن تخصص في بعضها لم يستحق هذا اللقب، وإنما يستحق أن يدرج في حملة العلم والمتخصصين في بعض جوانبه دون بعض. وعلى طلاب العلم أن يعطوا هذا العلم حقه من الاهتمام والعناية، وأن يحرصوا على آدابه ووسائله وشروطه، وأن يستشعروا فضله ومزيته.

العلم والآداب

العلم والآداب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه لطلب العلم، وبعد: العناصر التي سأتحدث عنها في هذا الدرس هي: العنصر الأول: فضل العلم وأهله. العنصر الثاني: أجر طلب العلم وتعليمه. العنصر الثالث: الكتب العلمية وفضلها. العنصرالرابع: شروط طلب العلم. العنصر الخامس: وسائل تحصيل العلم. العنصر السادس: أنواع العلوم.

فضل العلم وأهله

فضل العلم وأهله العنصر الأول: فضل العلم وأهله: إن الله سبحانه وتعالى قد رفع قدر العلماء فأنزلهم أعظم منزلة حين استشهدهم على أعظم شهادة -بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته- فقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]. وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كتابه فقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]. ولم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. وقد نوَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المكانة للعلم وأهله في عدد كبير من الأحاديث منها: ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). ومنها ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). ومنها ما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلاّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه). وأخرج البخاري كذلك في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشبًا، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به). وأخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالمًا أو متعلمًا). وقال: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء)، وفي الحديث: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم). وهذه المنزلة العالية إنما استحقها حملة العلم لأنهم ورثة الأنبياء، فقد صح عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر). وقد أخرج البخاري تعليقًا ووصله ابن أبي عاصم في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلّم، وإنما الحلم بالتحلّم). هذه المنزلة التي هي بهذه المكانة ما نالها هؤلاء إلاّ بأن الله سبحانه وتعالى قد اختارهم لائتمانهم على وحيه؛ فالوحي من عند الله ولم يكن ليجعله بدار هوان، ولن يودعه المفلسين، وإنما يختار له أهل العدالة؛ ولذلك أخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين). وهؤلاء هم ورثة الأنبياء، وهم عدول كل خلف، هم شهود الله تعالى على الناس، وهم قادتهم الذين أمر الله بالرجوع إليهم عند الخلاف، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، ولم يقل: لعلموه جميعًا، وإنما أحال العلم على هؤلاء. وأحال عليهم -كذلك- عند الجهل فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. وقد جاء في فضل حملة القرآن بالخصوص أحاديث كثيرة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته من خلقه). وحملة القرآن هم حملة حروفه وحدوده ومعانيه، وليسوا حملة الحروف فقط.

أجر طلب العلم وتعليمه

أجر طلب العلم وتعليمه العنصر الثاني: أجر طلب العلم وتعليمه: ورد في هذا الكثير من النصوص، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الاشتغال به عبادة، وأنه كالجهاد في سبيل الله، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أجر المشتغل بالتعليم، وما له من المنزلة، وأنه يكتب له أجور من عمل بذلك إلى يوم القيامة، فقد صح عنه أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا). وقال: (بلغوا عني ولو آية). وقال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب). وقال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه). وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بطلبة العلم، فقال: (سيفد عليكم رجال يلتمسون هذا العلم، فاستوصوا بهم خيرًا) فأولئك الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خيرًا يدل على عظم ما هم مشتغلون به، ومزيته في هذا الدين؛ ولذلك أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه كان يقول: (من غدا أو راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرًا، أو ليعلمه، ثم رجع إلى بيته؛ كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا). وقد سئل مالك عن المقرب للقتل الذي لم يبقَ من عمره إلاّ ساعة: في أية طاعة يصرفها؟ قال: (علم يتعلمه). فقيل: يا أبا عبد الله! إنه لا يعمل به! فقال: (تعلمه أفضل من العمل به). وقال الشافعي رحمه الله: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة). وقد نظم ذلك السيوطي رحمه الله فقال: والعلم خير من صلاة نافلة فقد غدا الله برزق كافله قال أهل العلم: بالعلم فُضِّل السلف على الخلف؛ لأن كل عالم ورَّث علمه وتركه لمن وراءه فقد استمرت حياته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية). فجعل هذا العلم الذي ينتفع به من عمل ابن آدم الذي لا ينقطع، ومن كسبه المستمر. ومن هنا فكل منتفع بعلم عالم من الماضين يكتب له أجره وأجر من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة؛ وبهذا يعلم فضل السلف على الخلف، كما قال جدي محمد علي رحمه الله: وكل أجر حاصلٍ للشهدا أو غيرهم كالعلماء والزُّهَدَا حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا مع مزيد عدد ليس يحدُّ وليس يحصي عده إلاّ الأحد إذ كل مهتدٍ وعاملٍ إلى يوم الجزاء شيخه قد حصلا له من الأجر كأجر العاملِ ومثل ذا من ناقص أو كامل وشيخ شيخه له مثلاه وأربع لثالث تلاه وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عالي المرتبة ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف إذاً: أجر تعليم العلم عظيم؛ لأن المعلم إنما يبلغ عن الله تعالى، وينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالات ربه، ولأن المفتي كذلك يوقع عن رب العالمين. وهذه المنزلة العظيمة لا شك أن خطرها عظيم، فكذلك أجرها يكون بهذه المنزلة.

الكتب العلمية وفضلها

الكتب العلمية وفضلها

كتابة الحديث

كتابة الحديث أما العنصر الثالث: ما يتعلق بالكتب العلمية وفضلها. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى أن يكتب عنه غير القرآن فقال: (لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) وكان ذلك خشية أن يجعل في القرآن ما ليس منه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل النصارى حين أدرجوا كلام المسيح بن مريم وكلام الحواريين في الأناجيل. وبعد هذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه فقد أذن لـ عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب ما يسمع منه، وأذن لـ أبي هريرة -كذلك- في كتابة الصادقة، وهي صحيفة كانت عنده، كتبها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمرو يسمي صحفه أيضًا بالصادقة، وقال: (لولا الصادقة والوهط والوفيط ما حرصت على شيء من هذه الدنيا) والوهط والوفيط: أرضان لـ عمرو بن العاص وقفهما على الفقراء وجعل نظارتهما إلى ابنه عبد الله، وهما بجنوب الطائف، والصادقة التي كتب فيها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العلم. وكذلك فإن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (اكتبوا لـ أبي شاه) وهو رجل من أهل اليمن، حضر حجة الوداع فسمع خطبة النبي صلى لله عليه وسلم وتعليمه للناس فلم يحفظ ذلك، فسأله أن يأمر أصحابه أن يكتبوا له، فأمرهم أن يكتبوا له. ومن معجزات النبي صلى لله عليه وسلم أن أصحابه لما نهاهم عن الكتابة عوضهم الله بالحفظ العجيب فكان أحدهم يسمع الخطبة بطولها فيحفظها كما هي، ويحفظ الحديث الطويل بألفاظه دون أن يحرف شيئًا من ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعينهم على الحفظ بالتَّرَسُل في الكلام، وقد كان لا يهذُّ الكلام هذًّا، وإنما قوله الفصل، فلو أراد إنسان أن يعد كلماته لفعل، وكان أيضًا في خطبه يرفع صوته، فقد كانت خطبه تسمع من البلاط، والبلاط خمسمائة متر من المسجد. وفي الحديث: (كان إذا خطب علا صوته، واحمرت عيناه، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم) وذلك أبلغ لاستقرار ذلك في النفس. ومثل هذا في تغييره للمنكر ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها بين مكة والمدينة فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح أقدامنا، وجعلت أعقابنا تلوح؛ فنادى بأعلى صوته مرتين أو ثلاثًا: (ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار)، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب من النار) ورفع بها صوته. وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها يوم مات سعد بن أبي وقاص دخل عليها أخوها عبد الرحمن يتوضأ في حجرتها فقالت: يا عبد الرحمن! أسبغ الوضوء فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للأعقاب من النار). فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام حتى يفهم عنه كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا، وإذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتفهم) أي: لتحفظ. وكان أصحابه يراجعون بعض محفوظاتهم عليه كما ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء النوم، وأن يجعل آخر كلامه قبل أن ينام هذا الدعاء وهو: (اللهم! أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) قال البراء: فأعدت عليه فقلت: وبرسولك الذي أرسلت. فقال: (لا. وبنبيك الذي أرسلت).

تاريخ تدوين الحديث

تاريخ تدوين الحديث أول ما بدأ تدوين الحديث أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أمر بذلك عندما زالت العلة التي من أجلها كان النهي، فقد دونت المصاحف، وكثر حملة القرآن، وأمن أن يخلط بغيره؛ فأمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة وكتابتها، وتجرد لذلك عدد من الرجال منهم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وكان من أحفظ هذه الأمة، وكان لا يرى كتابة الحديث في البداية، ولكنه اقتنع أخيرًا بكتابته، ويقال: إنه لم يقتنع بكتابته في أيام عمر بن عبد العزيز وإنما اقتنع في أيام هشام بن عبد الملك؛ وذلك أن هشامًا دعاه فجلس معه على فراشه، وجعل رجالاً من وراء الستر، وأمرهم أن يكتبوا كل حديث يحدثه به الزهري، فقال له هشام: إني أريد أن تحدثني بأربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادك فيها، فأمسك بيده فحدثه بأربعمائة حديث يعدها، وكتبها أولئك الرجال، فتركه سنة ثم دعاه إلى مجلسه وخلا به، فقال: أريد أن تعيد علي ما حدثتني به العام الماضي فإني قد نسيته، وأمر رجالاً أن يكتبوا أيضًا من وراء الستر، فحدثه بالأحاديث كما هي بترتيبها، ولم يقدم واحدًا ولم يؤخره ولم يغير منها شيئًا، فقارن أمير المؤمنين هشام بين ما كتبه الرجال في العام الماضي وما كتبه هذا العام فلم يجد أي فرق، فعرض ذلك على الزهري، ومن هنا اقتنع الزهري بكتابة الحديث. بدأ تدوين وكتابة الكتب من ذلك العصر، ولكن إنما ألفت بأسماء وتصانيف وبوبت في أيام أتباع التابعين، واختلف في أول من ألف، لكن اشتهر في كل مدينة بعض المؤلفين، ففي مكة عبد الملك بن جريج، وفي المدينة مالك بن أنس، وفي العراق هشيم الواسطي، وعبد الملك بن صبيح، ويزيد بن هارون، وسفيان الثوري وأضرابهم، واشتهر بالشام الأوزاعي، وبمصر الليث بن سعد. هؤلاء أوائل من ألفوا، ولم يصل إلينا من مؤلفاتهم إلاّ موطأ مالك.

أهمية الكتابة للعلم

أهمية الكتابة للعلم الكتب أصبحت شرطًا في العلم ومرجعًا له؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك: العلم صيد والكتابة قيده فلا يمكن أن يحصل على العلم إلاّ بذلك. وقال ابن المبارك أيضًا: أيها الطالب علمًا ائت حماد بن زيدِ فاطلبن العلم منه ثمّ قيّدهُ بقيدِ لا كثور وكجهم وكعمرو بن عبيد وقد كان خلفاء هذه الأمة ووزراؤها وقادتها يبالغون في الاهتمام بالكتب، وتشجيع أهلها على تأليفها، واشتهر عمل الوراقين في هذه الأمة، وأصبحت الكتب داخلة في كيان هذه الأمة، وأمرًا من حياتها لا يستغنى عنه أبدًا، ولولا ما قيض الله لهذه الأمة من المؤلفين الجهابذة الذين جمعوا العلم في الكتب لضاع علم هذه الأمة، وقد أثنى كثير من الناس على الكتب بسبب أنها حفظت هذا العلم حتى إن أحد الفقهاء يقول: لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا فإن قلت أموات فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا

شروط العلم

شروط العلم العنصر الرابع: شروط تحصيل العلم؛ فقد ذكر أهل العلم لتحصيل العلم سبعة شروط هي:

الغربة والرحلة

الغربة والرحلة الشرط الأول: الغربة والرحلة. فما دام الإنسان بين أهله وذويه مشغولاً بهموم دنياه، فقلما يصفو ذهنه، أو يخلص له وقت لطلب العلم، فإذا رحل واغترب وجد وقتًا للطلب؛ ولذلك يقول أحد العلماء: سأطلب علمًا أو أموت ببلدة يقلّ بها سكب الدموع على قبرِي وموسى كليم الله لم ينل العلم الذي طلبه حتى قال: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]. والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه الوحي حتى (حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء يتحنث فيه وهو التعبد- الليالي ذوات العدد). وقد كان كثير من أهل العلم يؤثر الغربة والرحلة في طلب العلم على ما سوى ذلك. وقد اشتهرت الرحلة من أيام الصحابة إلى زماننا هذا: فقد رحل أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، ورحل عبد الله بن أنيس من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد. ثم اشتهرت رحلات التابعين بعد هذا وأتباعهم. فهذا أمير المؤمنين في الحديث الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري دخل مدن الدنيا وقراها التي يذكر فيها الحديث على رجليه، وكان قد عمي وهو طفل في الرابعة من عمره فكف بصره، وكانت أمه امرأة صالحة؛ فكانت تتصدق وتجتهد في الدعاء -والناس نيام- أن يرد الله على ولدها بصره، فرد الله عليه بصره، واستيقظ من نومه فإذا هو مبصر، فقالت له: (إن الله رد عليك بصرك لتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخدمه) فنذر نفسه للاشتغال بهذا الحديث وحفظه، وقيظه الله لذلك، وقد رحل إلى الأمصار كلها في طلب الحديث، حتى إنه خرج من خراسان يقصد اليمن ليدرك عبد الرزاق بن همام الصنعاني، فلما وصل مكة قيل له: إن عبد الرزاق قد مات، فكر راجعًا إلى البصرة، فلما أتاها قيل: إن عبد الرزاق حي باليمن، فكر راجعًا إلى مكة، حتى لقي من شهد جنازة عبد الرزاق، وكل ذلك على رجليه! وكذلك أحمد بن حنبل ورفيقه يحيى بن معين ورفيقهما إسحاق بن راهويه، خاضوا مشارق الأرض ومغاربها في طلب الحديث وجمعه. وكذلك المكي بن إبراهيم -وهو شيخ البخاري - قال: (كتبت بإصبعيّ هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أنه كان يحتاج إليّ لزدت). والبخاري رحمه الله قد اختار صحيحه من سبعمائة ألف حديث يحفظها. وقد ذُكر عن أحمد بن حنبل أنه كان يحفظ ألف ألف حديث بالمكرر. وكذلك روي هذا عن أبي زرعة الرازي فقد كان يحفظ ألف ألف حديث. وأهل العلم قديمًا يقولون: الأهل والجهل ساكنان في بلدٍ فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني

التواضع

التواضع الشرط الثاني: التواضع لمن يأخذ الإنسان عنه. فإن طالب العلم لابد أن يتواضع، والتواضع من صفات الكرماء: وإن كريم الأصل كالغصن كلما تزايد من خير تواضع وانحنى وقد أثنى الله به على خيرة خلقه فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد). والذي أحرز العلم لا يمكن أن ينيله ولا أن يعطيه لمن لا يتواضع له؛ لأنه ما ناله إلا بشق الأنفس والتعب الشديد ولهذا قال أحد العلماء: ما ابيضّ وجه باكتساب كريمةٍ حتى يسوِّدَه شحوب المطلبِ ولذلك لا يمكن أن ينيله لمن لا يحترمه ويقدره، ولهذا فإن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، فقال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ) بصيغة الاستفهام، ولم يقل: سأتبعك بصيغة القرار، وقال: (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي) فجعل نفسه طالبًا، وقال: (مِمَّا عُلِّمْتَ) أي: بعض ما علمت، ولم يقل: كل ما عندك، فكان ذلك غاية في التواضع، وهذا التواضع يقتضي الإقبال الكامل على العالم ليأخذ عنه الإنسان علمه، فهذا جبريل عليه السلام لما جاء يعلمنا ديننا جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه؛ وكل ذلك لتمام الإقبال عليه، ليعلمنا أن على المتعلم أن يقبل بكل ذاته على المعلم، حتى يكون مستوعبًا لكل ما يقول، وهذا ما أرشد إليه كثير من أهل العلم، فقد قال أحد العلماء في نصيحته لولده: لـ (معي) الهمام اللوذعي الألمعي سِرْ واجمعن علومه في مجمعِ وكن الوعاء لما يفوه به (معي) لا تفلتنك كلمة من في (معي) (معي): لقب أحد العلماء في بلادنا. حتى الكلمة الواحدة. ولهذا قال سحنون لولده عندما أراد السفر إلى المشرق: (يا بنيّ! تقدم مصر وفيها ابن القاسم وأصحاب مالك، وتقدم المدينة وفيها أصحاب مالك؛ فإذا وجدت كلمة خرجت من دماغ مالك ليس عند أبيك أصلها فاعلم أن أباك قد قصر في الطلب).

الورع

الورع الشرط الثالث: الورع. والورع: اتقاء الشبهات بعد اتقاء المكروهات والمحرمات. وذلك أن العلم نور، ونور الله لا يمكن أن يوضع في المكان الموحش الخرِب، وإنما يختار للسراج الزجاج المضيء اللامع فيوضع فيه، ولهذا قال الشافعي: شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي فأرشَدَني إلى ترك المعاصي وأخبَرني بأنَّ العلمَ نورٌ ونور اللهِ لا يُهدى لعاصي وروي عنه أنه قال: لما أتيت مالكًا جلست في طرف الحلقة فلما انفضت دعاني فقال: (يا بنيّ! إني أرى أن الله قد قذف في قلبك شيئًا من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية). وقال ابن عباس: (للمعصية وحشة في النفس، وظلمة في الوجه، وانكماش في القلب) وكل ذلك من آثار المعصية. ولذلك لا يمكن أن ينبسط صاحبها مع العلم، وأن يدرك جزئياته.

الجوع

الجوع الشرط الرابع: الجوع؛ فمن كان مشغولاً بالمآكل والمشارب لا يمكن أن يحرز ما ترفع إليه الرءوس من العلم، فإنهم يقولون: البِطنة تذهب الفِطنة. والشافعي يقول: (ما رأيت سمينًا عاقلاً إلاّ محمد بن الحسن الشيباني). والجوع مدعاة لصفاء القريحة، ولعدم الاشتغال عن العلم كذلك.

المخاطرة في طلب العلم

المخاطرة في طلب العلم الشرط الخامس: المخاطرة في طلبه، فلا ينال الإنسان هذا العلم حتى يخاطر في طلبه، ولذلك فإن موسى عليه السلام ما نال مطلوبه من العلم حتى ركب البحر في سفينة مخروقة.

مخالفة الهوى ومعصيته

مخالفة الهوى ومعصيته الشرط السادس: مخالفة الهوى ومعصيته، قد رتب الله على ذلك الفوز بالجنة {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. والمتبع لهواه لا يمكن أن يستغل وقته في طلب العلم؛ لانشغاله باتباع الهوى، وطلب العلم شاق على النفوس، فلذلك يدعو الهوى إلى النوم وإلى الكسل وإلى خلطة الناس، وهذه الأمور لا يُنال معها العلم، فمن كان نوّامًا أو كسولاً أو مخالطًا للناس فلا يمكن أن ينال من العلم الحظ الوافر، ولهذا قال أحد الشعراء: قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصَبِرَا لا يدركُ العلم بطَّالٌ ولا كَسِلٌ ولا ملولٌ ولا من يألف البَشَرَا (مسائل سحنون) أي: المدونة.

العمل بالعلم

العمل بالعلم الشرط السابع: الاتباع له والعمل به. فإن العلم ينادي العمل، فإن أجابه وإلا ارتحل، والعلم كالشجرة والعمل كالثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمر لها. ولذلك قال جدي محمد علي رحمه الله: العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحريٌ أن يذهبا والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها وهذه الشروط السبعة نظمها ابن هلال بقوله: له تَغَرَّبْ وتواضعْ واتَّرِعْ وَجُعْ وَهُنْ وَاعْصِ هَواك واتَّبِعْ

وسائل الحصول على العلم

وسائل الحصول على العلم العنصر الخامس: وسائل الحصول على العلم، وهي سبعة كذلك:

الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الطلب

الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الطلب الوسيلة الأولى: الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الطلب، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، ويقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:282]، فإذا اتقى الإنسان ربه وأخلص له جعل الله له فرقانًا يميز به بين الحق والباطل، وهذا الفرقان هو بداية الحصول على العلم. والإخلاص لله سبحانه وتعالى يزيد بركة الوقت والعمر، وهذا ما يحتاج إليه الطالب للعلم، وهو كذلك يزيد بركة العلم؛ فليس العلم عن كثرة الرواية، إنما العلم ما أدى إلى خشية الله.

الذكاء

الذكاء الوسيلة الثانية: الذكاء، فإن كثيرًا من المسائل لا يمكن أن يفهمها الأغبياء، بل اشتغالهم بها من العبث، والاشتغال بما لا يطاق، فإنما يشتغل بالطلب من كان أهلاً له، كما قال أبو العلاء المعري: أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا وقديمًا قال أحد الفقهاء: تصدر للتدريس كل مهوّسِ بليد تسمى بالفقيه المدرسِ فحُقَّ لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلسِ لقد هزلت حتى بدا من هزالها كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ فمن لم يتأهل لذلك بذكائه فلا يمكن أن يزاحم أهل العلم عليه. والذكاء قسمان: 1 - موهوب. 2 - مكتسب. فالموهوب منه: ما فطر الله الناس عليه، وقد جعلهم متفاوتين في الذكاء والإدراك. والمكتسب منه: ما يحصل بالدعاء والعبادة، وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا استغلقت عليه مسألة وصعب عليه فهمها أقبل على الله بالدعاء، فيجتهد ويقول: (يا مفهم سليمان! فهمني، ويا معلم داود! علمني) ويجتهد بذلك حتى تفتح له المسألة. والأذكياء من الطلبة هم الذين يستحقون ما يوقف على طلاب العلم وما يخصص لهم من بيت المال، وقد قال جدي محمد علي رحمه الله: من واجب الإسلام جمع مالِ تقضى به حقوق بيت المالِ إن لم يكن كحامل علومِ فرض الكفاية من الموسومِ بحسن إدراك مع السريرة والطيب في سجية والسيرة ومن خلا من هذه الأوصافِ منعه لفقد الاتصافِ بل طلب العلم بتلك المرتبة خالٍ من المصلحة المجتلبة بل هو من تكليف ما لم يطقِ وعبث في فعله والمنطقِ وكل ذين حجروه حجرا فكيف يأخذ عليه أجرا ذكره الموَّاق في الإيداعِ فانظر تجده (يوم يدع الداعي)

علو الهمة

علو الهمة الوسيلة الثالثة: علو الهمة، فمن كانت همته متدنية اشتغل بما اشتغل به أبناء الدنيا من الحرص على جمعها والحصول على ملذاتها، ولم يكن ليتجرد لطلب العلم وللزوم المشاق، فإنما يصل إلى المشاق من كان من ذوي الهمم العالية، كما وصفت الخنساء أخاها صخر بن عمرو بن الشريد السلمي: أعينيَّ جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا رفيع العماد طويل النجا د ساد عشيرته أمردا إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه اليدا فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم غدا مصعدا يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا وإن ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى وكما قال زياد بن حمل في وصف أحد أصدقائه: إلى المكارم يبنيها ويعمرها حتى ينال أمورًا دونها قحمُ فمن كانت همته عالية يتجشم الأمور حتى ينال أمورًا لا ينالها إلا المقتحمون. وهذه الهمة العالية هي التي ميزت ابن عباس رضي الله عنهما، فقد روي عنه أنه قال: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في العاشرة من عمري، فذهبت إلى لدة لي من الأنصار فقلت: إن الله قد قبض نبيه صلى الله عليه وسلم وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعلنا نسد لهذه الأمة يومًا مسدًا تحتاج إليه، فقال: ومتى يحتاج إلينا؟ دعنا نلعب، فذهبت وتركته). وما هي إلا سنوات يسيرة حتى أصبح ابن عباس عضوًا في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وأصبح عمر يجلسه بين كبار أهل بدر، ويسميه: (فتى الكهول) و (ترجمان القرآن) ولذلك يقول فيه أحد الشعراء: بلغت لعشرٍ مضت من سنيِّـ ـكَ ما يبلغ السّيد الأشيب فهمُّك فيها جسام الأمور وهمُّ لداتك أن يلعبوا ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه: إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ بمنتظماتٍ لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع لذي إربةٍ في القول جدًا ولا هزلا والهمة العالية هي التي تقتضي من الإنسان أن يحرص على معالي الأمور وعلى الازدياد من العلم. وتكميل المطاف فيه.

الحفظ

الحفظ الوسيلة الرابعة: الحفظ؛ فإن العلم لا يناله إلا من حفظه، ولذلك كانوا يقولون: ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ ما العلم إلا ما حواه الصدرُ القمطر: وعاء الكتب، وما حواه ليس بعلم، إنما العلم ما حواه الصدر؛ ولهذا قال الشافعي رحمه الله: علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوقِ إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوقِ ويقول ابن حزم رحمه الله: فإن يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري

الوقت

الوقت الوسيلة الخامسة: الوقت، فيحتاج في تحصيل العلم إلى وقت، ولا يمكن أن يحصله المستعجلون، فلا ينال هذا العلم إلا بأن يعطيه الإنسان وقتًا جزيلاً من وقته، ولا يرضى بهوامش الوقت كما قال ابن عيينة: (إن العلم لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك). ولذلك فإن الذين طلبوه قد تجردوا له، فوفروا له كثيرًا من الوقت، ليس لهم شغل إلا طلب هذا العلم والحرص عليه، يواصلون فيه الليل بالنهار, والنهار بالليل، ولذلك يقول جدي محمد علي رحمه الله في وصف طلبة العلم: وأقصاص طلاب العلوم أمامهم موقرة من هيبة وجلالِ وأكثر طلاب المدارس همه بيان حرام أو بيان حلالِ يظلون لا يألون حتى كأنهم وليس بهم داء مراض سُلالِ وعمارها من كل ضنء كريمة كريم خلال من كريم خِلالِ أَغَرّ كمصباح الظلام بل انه كمثل تَلال العارض الْمُتَلالِ يقيمون فرض الخمس عند ندائها نداء للاعمى أو نداء بلالِ (يظلون لا يألون) أي: ليس لهم أية راحة، يجتهدون طيلة الوقت. (وليس بهم داء مراض سُلال) أي: كأنهم مصابون بالسل الرئوي، وليس بهم داء. ويقول أيضًا: لي جيرة كنجوم الصحو غُرَّانُ شمٌّ طهارى ثيابًا أينما كانوا من كل قطر تواخي بينهم كرمًا هماتهم وأروم القوم شُذَّانُ يزدان بالعلم أهل العلم كلهم والعلم من جيرتي يسمو ويزدانُ لا أستلذ مقامًا بينهم فرقًا من الفراق ولا آسى إذا بانوا

الشيخ

الشيخ الوسيلة السادسة: الشيخ؛ فيحتاج المتعلم إلى شيخ ناصح يعلمه ويرشده وينتخب له، ويتعلم من أدبه وسلوكه، وأثر العلم عليه قبل أن يتعلم من علمه، كما قالت العالية أم مالك رحمه الله: (اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل أن تتعلم من علمه)، وقديمًا قال أبو حيان رحمه الله: يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلومِ وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت ذهن الفهيمِ إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيمِ وتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضل من توما الحكيمِ وأهل الحديث يجرحون الراوي بسرقة الحديث، أي: بتحديثه من غير سماع من الشيخ، فإذا كان يأخذ من الكتاب فإنه مجروح بذلك لديهم.

الزميل المرافق

الزميل المرافق الوسيلة السابعة: الزميل المرافق الذي يعين الإنسان على الطلب، ويزيل عنه النكد، ويساعده في الفهم والحفظ، وينافسه في الازدياد من هذا العلم، وهذا الزميل يستفيد منه الإنسان أكثر مما يستفيد من الشيخ نفسه؛ لكثرة الملازمة والمنافسة، ولذلك يقول أحد العلماء: وليس كل فتى يدري حقيقة ذا إن التناوة تطفي ذهن كل فتى والتناوة: عدم المذاكرة مع الزميل والقرين، بل طالب العلم عرضة للنكد والتأثر بغربته وعزلته، ولا يزيل ذلك عنه إلا معاشرته للأصدقاء الأوفياء والأذكياء الذين يحرص على منافستهم، والزميل المقارن للإنسان الذي ينافسه في الطلب معين له على الحفظ وعلى الاستمرار، ولذلك فإن الإمام سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله بحث عن زميل في قوة ذهنه وعلو همته فلم يجده، فاشترى تيسًا فربطه عنده، وكان يقرأ عليه العلم ويقول: أفهمت؟! فاشتهر تيس الأعمش بالذكر بين الناس لذلك. ويتدرب الإنسان مع زميله على التدريس، والبحث والمناظرة، وكل ذلك يحتاج إليه الطالب في تحصيل العلم.

أنواع العلوم

أنواع العلوم ينقسم العلم إلى قسمين: - علوم دنيوية. - علوم دينية.

العلوم الدنيوية

العلوم الدنيوية القسم الأول: العلوم الدنيوية هي ما ينفع في تحصيل درهم المعاش، وهي داخلة في تحقيق الاستخلاف في الأرض؛ ولهذا فهي -من هذا الوجه- فرض كفاية على المسلمين، وهي مثل العلوم الطبيعية التي يحتاج إليها الناس، وكذلك ما يحتاجون إليه من العلوم البحتة.

العلوم الدينية

العلوم الدينية القسم الثاني: العلوم الدينية، وهي أهم، وهي التي ترجع إلى الدين وحفظه والعناية به، وهي التي ورد فيها الفضل السابق، وإنما تذكر الأخرى معها تبعًا لها، وتنال من فضلها بنية صاحبها إن أخلص، وهذه تنقسم إلى قسمين: مقاصد ووسائل أو مبادئ ومتمات. ويمكن تقسيمها -أيضًا- إلى سلالات، فمثلاً في علوم القرآن نجعل القرآن -مثلاً- قسمًا مستقلاً من أقسام العلوم الدينية، وفي هذا القسم خمسة علوم هي: 1 - علم التجويد: الذي هو أداء القرآن والنطق به، بصفات الحروف ومخارجها، وكيفية النطق بها. 2 - القراءات: اختلاف الأحرف، وما اختلف فيه القراء. 3 - التفسير: بيان معاني القرآن وما يستنبط منه. 4 - الرسم والضبط: كتابة المصحف التي كتبها الصحابة, والضبط الذي ضبطه به التابعون، من النقط والشكل. 5 - علوم القرآن: وهو يشمل أسباب النزول، والمكي والمدني، والمحكم منه والمتشابه، وإعجازه بأوجه الإعجاز المختلفة، وتاريخ المصاحف وكتابتها، وتراجم الرواة والقراء. إذًا: هذه خمسة علوم، بعدها مجموعة أخرى هي الحديث، ويدخل فيه ستة علوم هي: 1 - علم المصطلح: مصطلحات أهل الحديث. 2 - علم متون الحديث، وهو علم الحديث رواية. 3 - علم شروح الحديث، وهو: ما يستنبط من الحديث وما يستخرج منه من العلم، وذلك في شروح الحديث المعروفة. 4 - علم الرجال وعلم الجرح والتعديل، ويدخل فيه الطبقات -أيضًا- لنقلة الحديث. 5 - العلل: بيان علل الحديث وبيان الفرق بين الصحيح والضعيف. 6 - علم التخريج ودراسة الأسانيد، ببيان من أخرج الحديث ومواضعه منه، ودراسة الأسانيد حتى يحكم على الحديث. ثم السلالة الأخرى: علوم الفقه، وهي عشرة: 1 - علم الفقه المذهبي في المذاهب، ومذاهب أهل السنة المشتهرة أربعة هي: المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي، ويمكن أن يضاف إليها -أيضًا- المذهب الظاهري، أما المذاهب المندثرة لأهل السنة فهي كثيرة، وهذه المذاهب لابد من دراستها من كتبها المتخصصة فيها، وأخذها من الكتب التي تقارن لا يفي بها، ويكثر فيها الغلط. 2 - علم الفقه المقارن، وهو: مقارنة هذه المذاهب بما يسمى بالخلاف العالي والخلافيات ونحو ذلك. 3 - علم القضاء، وهو علم مستقل ألف فيه كثير من التآليف المستقلة، في أدب القاضي والبينات والإقرار والشهادات ونحو ذلك. 4 - علم فقه النوازل، وما يتعلق به كالفتاوي، وقد ألف في كثير من الكتب. 5 - علم الفرائض، وهو: ما يتعلق بالتركات وقسمتها. 6 - علم الآداب الشرعية، وقد ألف فيه عدد من الكتب. 7 - علم أصول الفقه. 8 - علم تخريج الفروع على الأصول، وهو الذي تعرف به فائدة أصول الفقه. 9 - علم القواعد الفقهية والأشباه والنظائر والفروق. 10 - علم تاريخ التشريع وبيان نشأة المذاهب وتدوينها. ثم سلالة العلوم العقلية، وهي سلالة مستقلة، ومنها علم التوحيد، ويبحث عن حقوق الله سبحانه وتعالى، وشرح الإيمان وأركانه وما يتعلق به، ويشمل ذلك مشاهد القيامة وغير ذلك. ثم علم الكلام وهو المسائل النظرية في العقائد، والمناظرات فيها، وذكر الفرق والأقوال، ويمكن أن يقسم هذا إلى قسمين: 1 - علم الكلام النظري. 2 - علم الفرق والمقالات وهو علم مستقل أيضًا. ثم علم الجدل وهو يشمل قسمين: 1 - الجدل الفقهي. 2 - الجدل العقدي. ثم علم المنطق، وعلم آداب البحث والمناظرة، وآداب الخلاف، وأسباب الخلاف. وعلم السير، وهي سلالة مستقلة، وتبحث في السير وما يتعلق بها مثل: 1 - علم المغازي والفتوح والأمصار. 2 - علم الشمائل النبوية. 3 - علم التاريخ الإسلامي. 4 - علم الأنساب العرب والعجب. علوم اللغة: وهي سلالة مستقلة وهي كثيرة منها: 1 - علم المفردات اللغوية. 2 - علم النحو. 3 - علم الصرف. 4 - علم البلاغة. 5 - علم الاشتقاق. 6 - علم الشعر. 7 - علم العروض والقوافي. 8 - علم الإنشاء. 9 - علم الأدب. 10 - علم الهجاء والخط وأنواع الخطوط. 11 - علم الحساب الفلكي. 12 - علم الحساب الرقمي. فهذه أهم تخصصات العلوم الإسلامية التي اشتغل بها العلماء، ومن جمعها جميعًا فوصل إلى حد متوسط من إدراكها، واستطاع تدريس كل واحد من هذه العلوم؛ فهو العالم، ومن تخصص في بعضها لم يستحق هذا اللقب -العالم- وإنما يستحق أن يدرج في حملة العلم والمتخصصين في بعض جوانبه دون بعض. وجمع هذه العلوم سهل، والجامعون لها في تاريخ الأمة كثير، ولكن اليوم بسبب غزو الحضارة الغربية ركن الناس إلى التخصص في جوانب هذه العلوم؛ فاقتضى ذلك أن يقل المهتمون بجمعها كلها، وأن يندروا، وذلك من رفع العلم الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه -في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله، حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فاستفتوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا). فمن رفع هذا العلم إقبال الناس على التخصصات وترك الإحاطة بها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والإخلاص في القول والعمل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الدعاء والتوسل والاستغاثة

الدعاء والتوسل والاستغاثة أمر الله عباده أن يدعوه ووعدهم بالإجابة، وعلمهم الأسباب التي تجعل دعاءهم مستجاباً، ومنها التوسل إليه بأسمائه وصفاته وبالأعمال الصالحة ودعاء الصالحين، ولكن أدخل الناس في ذلك أموراً في التوسل بالأشخاص ونحو ذلك مما فيه خلاف، وأولى للمسلم اجتنابه لأنه قد يكون وسيلة إلى الشرك.

ذكر معنى الربوبية

ذكر معنى الربوبية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الشيخ حفظه الله تعالى: (وبالربوبية وحدوه فهو الذي تعنو له الوجوه)

تعريف الربوبية عند العرب

تعريف الربوبية عند العرب هذا شروع في ذكر توحيد الربوبية، وهو على التقسيم الذي ذكرناه يُعَدُّ القسم الثالث من أقسام التوحيد، والمقصود به: إثبات الربوبية لله تعالى ونفيها عن كل ما عداه. والربوبية: مصدر صناعي من رَبَّ الشيء يَرُبُّهُ إذا كان مهيمناً عليه مسيطراً. والعرب تشتق من هذه المادة أربعة أفعال، فيقال: رَبَّهُ يَرُبُّهُ إذا استولى عليه، ومنه قول صفوان بن أمية يوم حنين: فلأن يربّني رجل من قريش خير من أن يربّني رجل من هوازن. ويقال: رباهُ يربِّيه لنفس المعنى؛ لكنها تشير إلى إيصاله إلى كماله بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومنه قول الشاعر: وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام ويقال: رببه يرببه لنفس المعنى أيضاً، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: بيضاً مرازبة غلباً أساورة أسداً ترببن في الغيضات أشبالاً ويقال: ربته يربته. بإبدال إحدى الباءين تاءً مثناة، وهو الفعل الرابع، ومنه قول الشاعر: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهلي بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي ومزقن عني حين تم بها عقلي (حيث ربتني أهلي) بمعنى: رباني أهلي.

تعريف الربوبية في الاصطلاح

تعريف الربوبية في الاصطلاح والربوبية في الاصطلاح معناها: الخلق والتدبير، فنسبة الربوبية إلى الله معناها: نسبة كل الخلق إليه وتدبير ذلك الخلق، فلا خالق لشيء سواه، ولا مدبر له، ولا مالك له غيره، فلهذا قال: (وبالربوبية وحّدوه)؛ فهذا يقتضي إثبات الربوبية له، ونفي الربوبية عن كل ما سواه. ويطلق الرب على المهيمن والمسيطر مطلقاً في اللغة وفي الاصطلاح، ومنه يقال: رب البيت، وكذلك يطلق على الشهيد الذي يحفظ ولا يفوته شيء، ومنه قول الحارث بن حلزة اليشكري: وهو الرب والشهيد عليهم أي: الحافظ الذي يحفظ عليهم أعمالهم ولا يفوته شيء منها, وكل هذا من صفات الربوبية؛ لأن الربوبية تقتضي عدداً من الصفات منها: القِدم والبقاء والقيومية والتدبير والملك والجبروت والعظمة، وكذلك تقتضي الربوبية من الصفات السالبة المنفية: الوحدانية والغنى المطلق والمخالفة للحوادث، وأنه لا تأخذ سنة ولا نوم، فكل هذا تقتضيه الربوبية.

العلاقة بين توحيد الربوبية وغيره من أنواع التوحيد

العلاقة بين توحيد الربوبية وغيره من أنواع التوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى بأنواع توحيده الثلاثة مترابطة بعضها يكمل بعضاً، فالربوبية من لوازمها توحيد العبودية الذي سبق، وكذلك توحيد الأسماء والصفات الذي سبق؛ لأن الربوبية تستلزم هذه المعاني التي ذكرناها، فلا يمكن أن يكون رباً لما سواه إلا إذا كان قديما باقياً موجوداً متصفاً بالصفات التي ذكرناها. (بالربوبية وحدوه) أي: أثبتوها له وانفوها عما سواه، فهذا يجمع بين النفي والإثبات. (فهو الذي تعنو له الوجوه) معناه: فهو وحده الذي تعنو له الوجوه، أي: يحشر الناس إليه يوم القيامة، فهو وحده الذي يقبض السماوات والأرضين بيمينه ويهزُّهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، وهذا هو غاية الربوبية، إذ غايتها إذعان الناس جميعاً إليه يوم القيامة بحيث لا يخالف أمره أي أحد، ولا يستطيع أحد أن يتأخر ولا أن يغيب ولا أن يعتذر بأي عذر من الأعذار، وهو سبحانه قبض السماوات والأرضين بيمينه وهزهن؛ فلذلك قال هنا: (فهو الذي تعنو له الوجوه). ولذلك حين ذكر الله سبحانه وتعالى مشاهد القيامة قال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]، وهذا يقتضي مذلة الوجوه لوجهه الكريم، ففي الدنيا إنما تذل له وجوه عباده الموحدين، فهم الذين يسجدون له، وأما يوم القيامة فتعنو له جميع الوجوه وتذل، فكل وجه يذل لوجه الله سبحانه وتعالى. وهذا دليل على تمام ربوبيته، لكنه كذلك مثبت لأمر آخر، ومشهد من مشاهد القيامة، وهو أن تعنو جميع الوجوه لله سبحانه وتعالى، وهو المذكور في قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]، وقد رتب الشيخ ذلك على الربوبية بقوله: (فهو الذي تعنو له الوجوه). والوجوه جمع وجه، وهو ما يقابلك ممن واجهته، فيشمل ذلك وجوه الخلائق كلها بهائمها والجمادات والأموات، ولهذا تقول: هذا وجه الجبل، وهذا وجه الكتاب، وهذا وجه فلان. فالمقصود به ما يواجهك أياً كان؛ ولذلك فهذا يشمل وجوه الكائنات الحية والجمادات وغيرها، فكل تلك الوجوه تعنو له.

الكلام على اتخاذ الوسطاء في الدعاء

الكلام على اتخاذ الوسطاء في الدعاء ثم ذكر مسألة تتعلق بتوحيد العبادة فقال: [لا تجعلوا إذا دعوتم وسطا بينكم وبينه فهو خطأ] فهذا نهي عن نوع من أنواع الشرك، وهو شرك الدعوة، فالشرك في الدعاء هو أن يدعو الإنسان أو يستغيث بغير الله سبحانه وتعالى، وهذا شرك قد سبق ذكره، لكن بعض الناس يزعم أنه لا يدعو أولئك لأنفسهم، وإنما يتقرب بهم إلى الله سبحانه وتعالى فيتوجه بهم إليه، وهذا يشمل أمرين:

حكم الاستغاثة بالمخلوق

حكم الاستغاثة بالمخلوق الأمر الأول: وهو الاستغاثة بالمخلوق: وذلك كدعاء الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء أو غير ذلك، فهذا قطعاً شرك صريح لقول الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، ومثله قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، ومثله قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36] وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:1 - 4]. فرد على هؤلاء، وجعل شركهم مثل شرك النصارى الذين يزعمون له ولداً؛ لأن هؤلاء يزعمون أنهم يتوسطون إليه بأولئك الذين يدعونهم.

التوسل بالأشخاص

التوسل بالأشخاص أما النوع الثاني: فهو التوسل: والتوسل بالأشخاص بذكرهم في الدعاء معناه التوسط بهم إلى الله، كأن يقول الإنسان: أتوجه إليك بفلان أو بعمل فلان -مثلاً- فهذا لا خلاف في تحريمه، وأنه من الكبائر، وأنه إذا قصد به إضفاء صفة من صفات التأثير عليه يكون شركاً أيضاً. وإذا لم يقصد به إضفاء صفة إليه وإنما هو لضعف علاقة الإنسان بالله، ولضعف ثقته بإيمانه، فهو أيضاً نقص في الإيمان ونقص حتى في العقل؛ ولذلك لم يختلف في تحريم التوسل بالأشخاص إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده، فقد سبق أنه اختلف في جواز التوسل بشخصه صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف فقهي ذكرنا أن الراجح فيه هو المنع، وأن الحديث الوارد في ذلك وإن صححه كثير من أهل الحديث إلا أن الراجح أنه لا يصح، أعني حديث الضرير، وذكرنا علله الأربع فيما سبق، فلذلك قال: (لا تجعلوا إذا دعوتم)، أي: إذا سألتموه، (وسطا). قوله: (وسطا) جمع وسيط، والوسيط هو الذي يشفع، فهذا يشمل أمرين: يشمل تحريم دعاء من دونه، وهذا شرك قطعاً، وهو شرك الدعوة، ويشمل كذلك تحريم التوسط والتوجه إليه بخلقه، فإنه لم يشرع ذلك ولم يعلمنا إياه، وهذا وإن كان يمكن ألا يصل إلى درجة الشرك -كما ذكرنا- لكنه نقص في الإيمان، ونقص في ثقة الإنسان وعلاقته بالله، ونقص في عقله أيضاً. ومن يجعل بينه وبين الله واسطة ليشفع له ألا يعلم أن هذا الشافع محتاج إلى أن يتقرب إلى الله بالعمل بنفسه، فكيف يتقرب غيره بعمله؟! ولهذا رد الله تعالى هذا بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]، فهم أنفسهم يبتغون إلى الله سبحانه وتعالى الوسيلة، ويتقربون إليه فكيف يتقرب بهم. قوله: (وسطا بينكم وبينه) أي: في الدعاء. قوله: (فهو خطأ) أي: فهو إثم، والخطأ والخطء كلاهما اسم للإثم، والله سبحانه وتعالى يطلق الخطأ والخطء على الإثم مطلقاً حتى الشامل للشرك، فالشرك إحدى الكبائر، والخطأ بمعنى الذنب وهو يشمل الكبائر والصغائر. والمقصود أنه قد يكون شركاً أكبر، كما إذا كان دعاء لمخلوق واستغاثة به، وقد يكون دون ذلك -أي: شركاً دون شرك- مثل التوسل به. والضمير هنا في قوله: (فهو خطا) يعود على الجعل المفهوم من الجملة السابقة، فإن قوله: (لا تجعلوا) يُفهم منها المصدر الذي هو الجعل، فلذلك قال: (فهو) أي: جعل وسيط من دونه، بينكم وبينه خطأ.

الكلام على حديث الضرير في التوسل

الكلام على حديث الضرير في التوسل وحديث الضرير الذي يستدل به مجيزو التوسل فيه علل: وأول هذه العلل: أن شعبة يرويه عن أبي جعفر غير منسوب وغير مسمى وإنما ذكر بكنيته، وأبو جعفر هذا قال الترمذي: (وليس الخطمي، فـ أبو جعفر الخطمي ثقة مدني معروف، ولكن أبو جعفر هذا لا يدرى من هو، والذين صححوا الحديث اعتمدوا على أن أبا جعفر هذا هو الخطمي. العلة الثانية: أن النسائي أخرج هذا الحديث من وجه آخر في السنن فقال فيه: عن أبي جعفر عن عمارة بن زيد بن ثابت، بدل عمارة بن خزيمة بن ثابت، وهذه العلة ما وجدت من نبه عليها من الذين تكلموا على هذا الحديث، وقد بحثت عن عمارة بن زيد بن ثابت هذا فما وجدت له ذكراً في كتب الرجال، إلا ذكراً لا يبشر بخير، وهو أن مالكاً ذكر في موطئه أن فتية من العطار تعاطوا الخمر في أيام مروان حين كان أميراً على المدينة لـ معاوية فقتلوا أحدهم بالسكاكين، فكتب مروان إلى معاوية فيهم فأمره أن يقتاد منهم، ولم يسم مالك القتيل لكن ابن حزم ذكر هذا الأثر في المحلى فسمى القتيل عمارة بن زيد بن ثابت، فقد قتل في معاقرة الخمر، قتله أصحابه فلا يصلح للاحتجاج به. وعلى هذا فإن إسناد الحديث فيه اختلاف على الراوي أبي جعفر هذا، هل شيخه فيه عمارة بن زيد بن ثابت أو عمارة بن خزيمة بن ثابت؟ عمارة بن خزيمة بن ثابت لا إشكال فيه؛ لأنه ثقة من التابعين، وعمارة بن زيد بن ثابت هو الذي ذكرناه، ولا نعرف له ترجمة ولا ذكراً إلا في هذه الواقعة. والعلة الثالثة: أن فيه أن عثمان احتجب عنه، وما عرف عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه احتجب، بل كان يأذن لكل من طرق إلا في أوقات الانشغال، وكان -كما في الصحيحين- يعلم الناس الوضوء على أبواب المسجد قبل الصلوات، وكان يصلي بالناس الصلوات الخمس وغيرها، وكما في الموطأ كان يأتي المسجد آخر الليل فيجلس في مؤخرة المسجد يعلم الناس القرآن، ومن هذا حاله كيف يكون محتجباً عن الناس وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي من أمر أمتي شيئاً فاحتجب عنهم احتجب الله عنه يوم القيامة)، فلا يمكن أن يحتجب عن ذوي الحاجات من المسلمين. العلة الرابعة: أن في هذا الحديث: (اللهم شفعني فيه وشفعه في)، كيف تشفع في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقد فسرها العلماء بأن معنى: (اللهم شفعني فيه): اللهم تقبل دعائي له بالإجابة، (وشفعه في) معناها: تقبل دعاءه لي بالشفاء، وهذا يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فيكون التوسل بدعائه لا بشخصه، فيخرج الحديث عن محل الخلاف أصلاً. فهذه أربع علل، ومع هذا فقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية ولكنه أجاب عنه بإجابات لا تقوى على رده؛ لأنه لم يتكلم عنه من ناحية الصناعة الحديثية، فضعف رده عليه، وقال: عن الإمام أحمد في هذا روايتان إحداهما بجواز التوسل بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخرى بعدمه، والأخرى هي الموافقة لقول الجمهور كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية.

التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم

التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم وعموماً فإن المسألة مسألة خلاف فقهي، ولكن الأحوط فيها والأقرب للحق أن لا يفعل الإنسان هذا وإن كان السلف قد اختلفوا فيه، وليجتنبه بالكلية. وقد تركه الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يتوسلون بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته كما ثبت في كثير من الأحاديث، كما في حديث أنس وغيره أن أعرابياً أتاه وهو على المنبر فقال: (يا رسول الله! هلكت المواشي وتقطعت السبل فادع الله لنا، فرفع يديه ودعا، فظهرت سحابة صغيرة من قبل سلع، فأبرقت وأرعدت ثم أمطرت أسبوعاً، فجاء ذلك الرجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: يا رسول الله! هلكت البهائم وانقطعت السبل فادع الله أن يصرفه عنا، أو فاستصح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم على الجبال والآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)، فانجابت تلك السحابة حتى رأوا الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان أبو طالب حياً لسره هذا)، ويقصد بذلك قول أبي طالب في مدحه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل تلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل والمقصود بـ (يستسقى الغمام بوجهه): بدعائه وتوجهه إلى الله في ذلك، لا بشخصه. وعندما جاء عام الرمادة في خلافة عمر رضي الله عنه، وصلى عمر بالناس الاستسقاء توسل بـ العباس بن عبد المطلب فتقدم فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لتسقينا، وإذ قبضته إليك فإنا نتوسل إليك بعم نبينا، يا عباس قم فادع، فتقدم العباس فدعا وقال: اللهم إنه لم تنزل مصيبة إلا بذنب ولم ترفع إلا بتوبة، ودعا دعاءه البليغ المشهور، فرفع الله عنهم ما كانوا فيه. فهذا دليل من فعل هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، حيث لم يتوسل عمر برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته بشخصه؛ لأنه لو كان التوسل بشخصه فإن جاهه لم يتأثر بموته صلى الله عليه وسلم ولم ينقص جاهه عند الله بعد أن مات، ولم تنقص كرامته على الله، بل ما زالت كرامته كما كانت، لكن إنما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته، وأما بعد موته فإنما يتوسلون بدعاء الأحياء الذين يتضرعون إلى الله؛ لأن المقصود بالدعاء أصلاً الضراعة إلى الله وإبداء الذلة والمسكنة بين يديه، وهذا إنما يمكن من الأحياء. هذا ما يتعلق بقوله: [واجتنبوا الشرك الجلي والخفي ولو بما فيه اختلاف السلف] فما فيه اختلاف السلف يشمل ثلاثة أمور من أنواع الشرك: فما يتعلق بشرك العبادة، ذكرنا أن بعضهم كان يدبر بعض الأمور فيلهى عن الصلاة، وأن بعضهم قال: طلبنا الإيمان أن يكون لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، ونحو ذلك. وما يتعلق بشرك الدعوة ذكرنا فيه قضية التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم. وما يتعلق بالشرك في التشريع طبعاً ليس لهم فيه اختلاف، وما يتعلق بشرك الطاعة قد يحصل من بعضهم شيء من هذا، ولكنه يرفعه ما عرف عنه من إيمان وضراعة إلى الله سبحانه وتعالى وتقرب إليه، فلا يمكن الاستدلال بحال بعض أولئك.

ذكر التوسل المشروع

ذكر التوسل المشروع أما التوسل الجائز فإننا ينبغي أن نعلم أن التوسل إلى الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: توسل واجب. وتوسل جائز. فالتوسل الواجب هو التقرب إلى الله بالعبادة، دليل وجوبه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، والوسيلة في اللغة تطلق على الحاجة، ومنه قول الشاعر: إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي ويطلق على المحبة والعلاقة، ومنه قول الشاعر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل الوسائل جمع وسيلة، والوسيلة في الآية المقصود بها ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من صالح الأعمال، فهذا التوسل الواجب الذي بينه الله سبحانه وتعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) وقد قال قبله: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه). النوع الثاني: التوسل الجائز: وهو التوسل في الدعاء، فالدعاء لا يجب منه أصلاً إلا قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، في الفاتحة، ولكنه من تمام العبودية لله، وهو مخ العبادة، أو هو العبادة أصلاً.

ذكر آداب الدعاء

ذكر آداب الدعاء أما التوسل الجائز فإننا ينبغي أن نعلم أن التوسل إلى الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: توسل واجب. وتوسل جائز. فالتوسل الواجب هو التقرب إلى الله بالعبادة، دليل وجوبه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، والوسيلة في اللغة تطلق على الحاجة، ومنه قول الشاعر: إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي ويطلق على المحبة والعلاقة، ومنه قول الشاعر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل الوسائل جمع وسيلة، والوسيلة في الآية المقصود بها ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من صالح الأعمال، فهذا التوسل الواجب الذي بينه الله سبحانه وتعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) وقد قال قبله: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه). النوع الثاني: التوسل الجائز: وهو التوسل في الدعاء، فالدعاء لا يجب منه أصلاً إلا قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، في الفاتحة، ولكنه من تمام العبودية لله، وهو مخ العبادة، أو هو العبادة أصلاً.

من أسباب استجابة الدعاء

من أسباب استجابة الدعاء إذا أراد الإنسان أن يستجاب له فإن لذلك وسائل كثيرة من أعظمها أن يكون دعاؤه ذلك بغير إثم ولا قطيعة رحم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم ولا قطيعة رحم). الثاني: أن يكون ذلك إثر عبادة يتقرب بها إلى الله، فإن الدعاء في إثر العبادة مستجاب؛ لأنه قد قدم شيئاً بين يدي نجواه، كما إذا قدم صدقة بين يدي نجواه فإنه يستجاب له بعد ذلك. ومن ذلك الدعاء في أدبار الصلوات، ويشمل هذا الفرائض والنوافل فلا فرق، بل أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى الدعاء في أدبار الفرائض، وكذلك دعاه صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولم معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) وهذا دعاء المقصود به: أعطنا ولا تمنعنا، وأرشد معاذاً أن يدعو بهذا الدعاء: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، في أدبار الصلوات، والمقصود بأدبارها ما كان بعد السلام والانتهاء من الفريضة؛ لأنه ذكر التسبيح في أدبار الصلاة ولا فرق، وفي أدبار الصلاة تشمل الأمرين. وكذلك دعا صلى الله عليه وسلم بعد أن رمى الجمرة الأولى، ودعا بعد أن رمى الجمرة الثانية، فهذا دعاء بعد نهاية العمل، وقد أخبر أن الليلة الأخيرة من ليالي رمضان يغفر فيها للمؤمنين الصائمين القائمين، وقيل له: (أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن الأجرة عند تمام العمل)، وكذلك الدعاء ينبغي أن يكون بعد تمام العمل دائماً.

مشروعية رفع اليدين في الدعاء

مشروعية رفع اليدين في الدعاء وسواء رفع الإنسان يديه في الدعاء أو لا، فرفع اليدين يرشد له قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحي إذا مد العبد إليه يديه أن يردهما صفراً)، وقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بعد أن رمى الجمرة ودعا، وكذلك رفع يديه في المزدلفة وفي عرفات، وكان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه في بعض الأدعية، وفعل ذلك في دعاء الاستسقاء على المنبر. وقد دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قنوت الفجر فرفع يديه حتى تجاوز بهما رأسه يدعو على أهل الكتاب. وأما قنوت الوتر فلم أجد فيه دليلاً على الرفع، فلم أجد فيه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحيحاً ولا حسناً ولا ضعيفاً، ولم أجد فيه أثراً صحيحاً عن أحد من أصحابه وإنما وجدت فيه أثراً ضعيفاً عن ابن مسعود، وفيه آثار عن بعض التابعين وأتباعهم لكنها ليست دليلاً. وقد دأب الناس على رفع أيديهم فيه من أيام ابن عيينة إلى زماننا هذا، سئل أحمد بن حنبل عن دليله فقال: رأيت ابن عيينة يفعله، وهذا ليس دليلاً لكن يستأنس به لرفع اليدين في الوتر.

الثناء على الله والصلاة على رسوله في الدعاء

الثناء على الله والصلاة على رسوله في الدعاء وكذلك من أسباب استجابة الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، واستحسن بعض العلماء أن تكون قبله وبعده؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء وهو مستجاب قطعاً، والله سبحانه وتعالى كريم فإذا استجاب لك بعض دعواتك فستكون الأخرى مستجابة تبعاً لها. وكذلك أن يكون بعد الثناء على الله وحده وتبجيله، فالله سبحانه وتعالى أرشدنا إلى ذلك بالفاتحة فبدأ فيها بحمد الله والثناء عليه ثم ختمها بالدعاء، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل إذا أراد أن يدعو. ومن أسباب استجابة الدعاء أن يكون الإنسان خاشعاً وقت دعائه، وأن يتعلق قلبه بالله سبحانه وتعالى وحده. ومن أسباب استجابة الدعاء أن يكون في حال المناجاة كالدعاء في السجود ونحوه، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر استجابته لبعض الأنبياء في صلواتهم، فذكر استجابته لزكريا وهو قائم يصلي في المحراب، {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:38 - 39].

وسائل استجابة الدعاء

وسائل استجابة الدعاء وهناك ثلاثة من أسباب استجابة الدعاء اشتهرت بالوسائل: السبب الأول: أن يتوسل الإنسان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، فالتوسل بهذا بين يدي الدعاء مظنة الاستجابة، لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وفي الحديث أن رجلاً من الأنصار قال: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت ديان السماوات والأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سأل هذا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب). وكذلك أقر عائشة على الدعاء بالأسماء الحسنى، وثبت عنه قوله: (إن لله اسماً هو اسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)، فهذا يقتضي التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا عموماً. السبب الثاني: التوسل إلى الله بصالح الأعمال، ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان موافقاً لما شرعه الله وكان الإنسان مخلصاً فيه لله سبحانه وتعالى، فإذا كان كذلك فإنه بالإمكان أن يتوسل به إلى الله ولو كان يسيراً فيستجيب الله دعاءه، ودليل ذلك قول الله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا} [آل عمران:16]، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أصحاب الرقيم أن الثلاثة توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، قالوا: إنه لا ينجيكم إلا أن تتوسلوا إلى الله بصالح أعمالكم. السبب الثالث: هي التوسل إلى الله بدعاء المؤمنين، والله سبحانه وتعالى جعل الشفاعة وسيلة، لكنه لا يستجيب إلا إذا أذن بالشفاعة، فالملائكة يشفعون ويدعون للمؤمنين، ولكنهم لا يدعون إلا لمن أذن لهم الله بالشفاعة فيه؛ لأنه قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]. وقد ذكر آيتين في دعاء الملائكة إحداهما في سورة الشورى وهي قوله: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، والأخرى في سورة المؤمن، وهي قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر:7 - 9]، فالآية الأولى فيها الإطلاق: (لمن في الأرض)، والآية الثانية فسرت ذلك الإطلاق بأن المقصود به أهل الإيمان والتقوى والالتزام لأنه قال: (للذين تابوا واتبعوا سبيلك). وكذلك الاستشفاع بدعاء الرسل في حياتهم، وقد ذكرناه في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بدعائي وصلاتي)، وقد أمره الله بالدعاء للمؤمنين في قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه أمر عمر بن الخطاب إذا أتاهم أويس القرني أن يسألوه أن يستغفر لهم، فهذا دليل على مشروعية التماس الدعاء من كل عبد مؤمن تظن به خيراً. وقد سأل عمر أويساً القرني أن يستغفر له، وقد كان يستقبل أمداد اليمن، وكان إذا أتاه أحد من أهل اليمن سأله عن أويس ما حاله فيذكرون تقشفه وزهده، حتى قدم عليه في أمداد اليمن، فقال: أنت أويس بن عبد الله؟ قال: نعم. قال: القرني؟ قال: نعم. قال: لك أم أنت بها بر؟ قال: نعم. قال: كان بك وضح فشفاه الله إلا موضع أصبع؟ قال: نعم. قال: قد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسألك أن تستغفر لنا. وكان خيره إلى أي اتجاه يريد أن يذهب فاختار العراق، فقال: أوصي عليك أمير الجيش؟ قال: لا، دعني أسير في غمار الناس. فكان لا يريد أن يكون له ذكر، لكنه اشتهر في العراق والتمس الناس منه الدعاء، وأكثروا عليه، فسار في سرية فلم يرجع ولم يعرف الناس أين ذهب، وقد لقب بسيد التابعين. وكل من رجي منه الخير فإنه يلتمس منه الدعاء. فقد كان عدد من التابعين يلتمسون الدعاء من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكان الناس في زمان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا ولد لأحد منهم مولود أتاه به فيدعو له، كما ثبت أن ابن عباس أتاه بولده علي حين ولد له فدعا له علي وسماه علياً، فكان أبا خلفاء بني العباس. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذه السنة من قبل، كان إذا أتي بمولود حنكه ودعا له، وكذلك كان ابن عمر رضي الله عنه إذا ودعه من يريد السفر دعا له بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعهم به: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك)، وكذلك كان يقول: (زودك الله التقوى وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما توجهت).

أهمية الدعاء

أهمية الدعاء وقد كان دأب سلف الأمة الصالح في مختلف العصور والقرون، أنهم كانوا يلتمسون الدعاء ممن يظنون بهم الخير والصلاح، ويوصون المسافرين والحجاج والعمار على الدعاء، ويوصون الخارجين للجهاد في سبيل الله أو المرابطين في الثغور بالدعاء. وهذا يقتضي أن يهتم الناس بالدعاء وأن يعلموا مكانته الشرعية، فضعفاء الناس يظنون أنهم لا دور لهم في الأمة ولا مشاركة لهم في الجهاد في سبيل الله، ومع ذلك إنما ينصر المسلمون بهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما تنصرون بضعفائكم)، فهؤلاء الضعفاء ينبغي أن تعظم وتفخم مكانتهم حتى لا يغفلوا عنها. ومع الأسف أن الأمة اليوم كلها ضعفاء وسلاحها هو الدعاء، وعليها أن لا تتركه بحال من الأحوال وأن تجتهد فيه لله سبحانه وتعالى، ولعلها تنصر بدعاء المستضعفين منها، ولذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن دعاء هؤلاء يرفع به البلاء، فقال: (لولا صبيان رضع، ومشايخ ركع، وبهائم رتع؛ لصب عليكم العذاب صباً)، هذه هي أهم الوسائل، وهذه الثلاث متفق عليها والدلالة عليها من النصوص من القرآن والسنة واضحة، ولا خلاف فيها بين أهل العلم إلا الخلافات التي لا تعتبر ولا يعتد بها. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستعجال في الدعاء، فقال: (يستجاب لأحدكم ما لم يتعجل يقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي)، فعلى الإنسان أن يجتهد في الدعاء وأن يتقرب بذلك لله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أنه لا يضيع، فإما أن يستجاب له عاجلاً، وإما أن يدخر له ذلك عند الله سبحانه وتعالى، وإما أن يرفع به عنه البلاء، فالدعاء يصطرع مع البلاء في السماء ولا يرد القدر إلا الدعاء، وهذه مزيته، فهذا الدعاء من قدر الله، ويرد كثيراً من أقدار الله سبحانه وتعالى الواردة. كثير من الناس لا يظن أنه يستغفر استغفاراً فيرفع به عنه سرطان أو بلاء عظيم جداً، أو يرفع به عن الأمة بكاملها ضرر لاحق، سواء كان ضرراً في الدين أو ضرراً في الدنيا، فمثلاً: اللوثات الدينية التي تحصل في المجتمعات من الانحلال الخلقي أو الانحراف العقدي أو نحو ذلك، هي أوبئة وأمراض تنزل من السماء فتصيب الأمم لكنها ترفع بهذا الدعاء. وكذلك فإنه سبب من الأسباب التي لا ترد، فكثير من الناس ييأس إذا نفذت عليه أسباب الدنيا في الرزق أو في الدعوة أو في العلم وينقطع، ويظن أن الأمر قد أغلق أمامه وأن الطريق قد سد عليه، لكنه ينسى هذا الجانب المهم من سلاحه. وقد شاهدت أن بعض الناس يجتهد في محاولة هداية بعض الأشخاص والأخذ بزمامهم إلى الخير، فيعمل معهم جميع أنواع الحيل فلا يستجيبون لها، فإذا انقطعت أسبابه قيل له: بقي أمامك نصف الطريق وهو أن تجتهد لهم في الدعاء لعل الله يهديهم على يديك، فما جربت هذه إلا هدي بها ذلك الإنسان. كثير من الناس يظن أنه إذا بذل الأسباب فما نجحت انتهى الأمر، وينسى هذا الجانب الآخر حتى مع أولاده، ومع المدعوين الذين يريد هدايتهم، ومع جيرانه وغيرهم.

الأسئلة

الأسئلة

شرك الطاعة

شرك الطاعة Q يكثر شرك الطاعة في مجتمعنا، فهل كل أحواله تخرج من الملة؟ A لا، إن بعض أحواله لا تخرج من الملة، فطاعة المخلوق في معصية الخالق إذا لم يعتقد للمخلوق نفعاً ولا ضراً وإنما اعتقد أنه لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الخالق، ولكنه ضعف أمامه فأصبح يتقرب إليه بمعصية الله تعالى، فهذا لا يخرج من الملة، لكن صاحبه يكون فاسقاً ويكون كفره كفراً أصغر.

بطلان العمل بالشرك الخفي

بطلان العمل بالشرك الخفي Q الشرك الخفي هل يبطل العمل ولو كان بعد سنوات من زمن الطاعة؟ A الرياء اختلف فيه هل يبطل العمل أم لا: فقالت طائفة من أهل العلم: يبطل العمل مطلقاً، فيبطل أجره ويبطل العمل نفسه. وقالت طائفة أخرى: بل يبطل الأجر دون العمل، فيسقط عنه التكليف بالعمل ولكنه لا يثاب عليه. لكن الإبطال متفق عليه بالجملة، يقول أحد العلماء: هل الرياء مبطل للعمل وأجره حتى كأن لم يحصل أو مبطل للأجر دون العمل فحج من راءى به لم يبطل محل خلاف على هذين القولين.

كفارة الشرك الخفي

كفارة الشرك الخفي Q هل في الشرك الخفي كفارة، فهو كثير في هذه الأمة؟ A نعم كفارته الإخلاص فيحاول الإنسان الإخلاص فيما بقي من عمره فإن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره، ولذلك فإن العبرة بالخواتيم، فمهما أسرف الإنسان فيما مضى فإنه إذا أحسن فيما بقي من عمره سيكون مكفراً لكل ما سبق، يقول أحد العلماء: بقية العمر عندي ما لها ثمن ولو غدا غير محبوب من الزمن يستدرك المرء فيه كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن (اتبع السيئة الحسنة تمحها).

قوة الأمم السابقة بالنسبة لما بعدها

قوة الأمم السابقة بالنسبة لما بعدها Q هل كانت الأمم السابقة مثل قوم نوح وصالح وهود يعتبرون أقوى من الأمم التي بعدهم إلى قيام الساعة؟ A لا، هذا ليس مطرداً على التسلسل، فالله سبحانه وتعالى أخبر عن عاد أنه زادهم بسطة على قوم نوح كقوله: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف:69]، فقد تكون الأمة اللاحقة أقوى من الأمة السابقة، وهذا باعتبار حالهم وحال من تحت يدهم من الناس، مثلاً: قوة عاد إنما هي باعتبار تجبرهم على الناس وضعف الناس في زمانهم، فلم يبق أحد على وجه الأرض يستطيع معالجتهم ولا الوقوف في وجههم، فأهلكهم الله بالريح وسخرها عليهم ثمانية أيام حسوماً. وكذلك فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولم يستطع أحد منهم أن يستنكر ذلك، ولم يرض بسلطان الأرض فقط حتى أمر هامان أن يبني له صرحاً ليصعد إلى السماء، فهذا باعتبار زمانهم وحال الناس في ذاك. وكذلك اليوم، فالأمم الكافرة الموجودة اليوم وإن كانت لها من وسائل التكنولوجيا والتقدم ما ليس لدى أولئك، لكن هذا مشترك موجود لدى غيرهم بخلاف السابقين، فأمريكا اليوم مثلاً يمكن أن تعارضها الصين، ويمكن أن تعارضها غيرها، فهزمتها فيتنام وهزمها المجاهدون في الصومال، وهزمها إلى حد كبير المكسيكيون حين كانت الحروب بينهم سجلاً في جنوب أمريكا.

حكم الطواف بالقبور

حكم الطواف بالقبور Q الطائفون بالقبور مثلما يفعله كثير من الناس، هل يعتبرون مشركين أو أن عملهم فقط شرك؟ A الطواف بالقبور والتمسح بها سيأتي إن شاء قريباً في درس لاحق، وسنبين أنه ليس درجة واحدة، فمنه ما هو شرك ومنه ما ليس كذلك، لكن الجميع يدخل في المحرمات المنهي عنها.

معنى قولهم: (كفر دون كفر)

معنى قولهم: (كفر دون كفر) Q ما تفسير قول بعض العلماء: (كفر دون كفر)؟ وهل ترك الصلاة مع الجماعة من كذلك؟ A الكفر ينقسم إلى: كفر أكبر مخرج من الملة. وإلى كفر أصغر وهو كفر دون كفر، والمقصود أنه يسمى كفراً تنفيراً منه، وهو الفسق الشديد، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وفي قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فهذا كفر دون كفر ولا يقصد به الكفر المخرج من الملة. واختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (بين المرء والشرك والكفر ترك الصلاة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). فقالت طائفة: المقصود بذلك كفر دون كفر، وهذا مذهب الجمهور. وقالت طائفة أخرى: بل المقصود به الكفر المخرج من الملة، ومحل هذا في ترك الصلاة مطلقاً والامتناع عن أدائها، أما تركها في الجماعة ولكنه يصليها في بيته وحده ونحو ذلك فلم يقل أحد بكفر من فعل هذا، لكن اختلف في فسقه ونحو ذلك، فالذين أوجبوا الصلاة في الجماعة وهم قلة رأوا أنه إذا فعلها في بيته فقد فسق، والجمهور يرون أنه لا يعتبر ذلك واجباً لكنه سنة مؤكدة، ومن تركها في المسجد فقد حرم نفسه خيراً كثيراً وتعرض لسوء الخاتمة نسأل الله السلامة والعافية، لقول ابن مسعود فيما أخرج عنه مسلم وغيره: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بها).

ترك العمل خوفا من الرياء

ترك العمل خوفاً من الرياء Q ألا ترى أننا لو تحدثنا عن الشرك الخفي قد يؤدي ذلك إلى أن البعض قد يترك بعض الأعمال الظاهرة كالدعوة إلى الله بحجة أنه يخشى الوقوع في هذا الشرك؟ A من تركها فقد جمع الخطتين: الترك والشرك؛ لأنه أشرك أيضاً في الترك، أي: اتبع هواه وخوفه في مقابل ما أمره الله به، ومن عمل ولكنه أشرك شركاً خفياً فعلى الأقل أنه نجا من إحدى الخصلتين ووقع في الأخرى. وقد نص أهل العلم في الذين يتعاقرون الخمر أنه يجب أن ينكر بعضهم على بعض وأن ينهاه؛ لأن لا يجمع بين الخصلتين؛ لأنه إذا لم ينهه فقد ترك واجباً، وإذا شرب الخمر فقد فعل محرماً، فجمع بين ترك الواجب وفعل المحرم. ولهذا فقد نص العلماء في قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، على أن المقصود بقوله: (إذا اهتديتم) إذا أديتم الواجبات وتركتم المحرمات، فيدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة، فلا يكون الإنسان مهتدياً وهو لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن المنكر، ولذلك يرد على من استدل بهذه الآية على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بذلك. بل بين ذلك أبو بكر رضي الله عنه في قوله: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه).

الحكمة من استغفار أويس لسيدنا عمر

الحكمة من استغفار أويس لسيدنا عمر Q ما الحكمة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يطلب من أويس أن يستغفر له، مع أن عمر خير من ملء الأرض من أمثال أويس؟ A هذا من التنويه ببعض رجال هذه الأمة، ومن البيان أن المزية لا تقتضي التفضيل، فهذه الأمة جاءت فيها أحاديث متعددة، جاء فيها أحاديث: (مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره)، وجاء تفضيل سلفها في قوله: (خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم). وجاء في مقابل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعواناً)، فهذه مزية، وهي لا تعني التفضيل. بل أفضل الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلهم الخلفاء الراشدون، ثم بقية العشرة، وأهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، فهذا التفضيل المعروف، لكن من دونهم فيهم خير كثير أيضاً، وربما يكون لبعضهم مزايا ليست لبعض الصحابة، فبعض الصحابة غير مستجاب الدعاء في كل شيء وبعضهم مستجاب الدعاء في كل شيء بحيث لا يدعو إلا استجيب له في الحال مثل سعد بن أبي وقاص وليس أفضل من علي وعثمان، وهما قد لا يستجاب لهما في بعض دعواتهما، فالمزية لا تقبل التفضيل. وكذلك أويس القرني بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم مزيته، وبعث بذلك الأمل والمنافسة في أمته، ولهذا اختلف العلماء في تفسير قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)، فقالت طائفة: المقصود بزمان الصحابة فقط، وهذا رأي الحافظ ابن حجر وغيره؛ لأن زمان أبي بكر خير من زمان من بعده، ثم زمان عمر، ثم زمان عثمان، ثم زمان علي، ثم كل زمان يكون الذي بعده شراً منه إلى أن انتهى عصر الصحابة، فجاء بعدهم عمر بن عبد العزيز فكان زمانه خيراً من زمان الذين سبقوه من أمراء بني أمية. وقالت طائفة: المقصود بذلك في بعض جوانب هذه الأمة في العلم والإيمان ونحو ذلك على الجملة، فالزمان الأول زمان النبي صلى عليه وسلم ما عرف فيه كثير من الفواحش التي ظهرت فيما بعد، وكذلك زمان الخلفاء الراشدين ما عرف أن أحدهم ارتد عن الإسلام في زمن الخلفاء الراشدين وأقيم عليه حد الردة إلا شخص أو شخصان في العراق قتلهم ابن مسعود، وكذلك ظهور البدع ونحو هذا، وهذه لا تزال تكثر حتى في أيام عمر بن عبد العزيز، وفي أيام من دونه من الخلفاء. فعلى هذا يكون المقصود أن الزمان السابق نفسه له فضله، والزمان اللاحق شر منه باعتبار فضل الزمن نفسه لا بفضل أهله، ولا باعتبار ما يحصل فيه من العافية أو الخير أو انتشار الإسلام أو انحساره، فالعبرة بنفس الزمان، فالقرن الأول أفضل من القرن الثاني، والقرن الثاني أفضل من القرن الثالث، وهكذا. لكن العبرة بالقرن نفسه أو بالسنة نفسها. وقيل: المقصود البركة، فالزمان الأول كانت الأعمار مباركاً فيها بركة عجيبة جداً، بحيث يقطع الرجل الأشواط على أرجله من مسافات شاسعة في الفترات القليلة التي لو قسناها اليوم بعملنا لوجدنا فرقاً شاسعاً، وهذا سيأتي ما هو شر منه في آخر الزمان فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة من سرعتها، إلا في أيام الدجال فاليوم الأول كسنة، واليوم الذي يليه كشهر، واليوم الذي يليه كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم.

الإيمان بالرسل

الإيمان بالرسل لما خلق الله البشر لم يتركهم عبثاً ولا أهملهم سدى، بل أرسل إليهم رسله ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، وللأنبياء خصائص وصفات يجب أن تتوفر فيهم؛ تشريفاً من الله، وصيانة للرسالة، وإقامة للحجة.

الرسالة اجتباء لا اكتساب

الرسالة اجتباء لا اكتساب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال الشيخ حفظه الله: [والرسل حق والنبي العربي خاتمهم أعلاهم في الرتب] يريد بهذا بيان ركن آخر من أركان الإيمان وهو الإيمان برسل الله. والرسل جمع رسول، وهو من أوحي إليه بشرع وأمره بتبليغه، والرسول يختاره الله سبحانه وتعالى من الملائكة أو من الناس، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، لكن الرسل من الملائكة هم رسل إلى الرسل من البشر، وهذا نوع من أنواع الوحي، وقد سبق ذكر أنواع الوحي. والرسل من الملائكة كذلك يبلغون بعض الملائكة، ولهذا ذكر الله سبحان وتعالى أن الملائكة يسألون بعد أن يفزع عن قلوبهم إذا سمعوا كلام الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]. والرسالة لا تكون إلا على أساس اختيار رباني ولا يمكن أن تكتسب بأي وسيلة من الوسائل، وقد بين الله سبحانه ذلك في كتابه، فقال: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقال في موضع آخر: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، وقال في موضع آخر: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]. وفي سورة الأنعام بين عدم اكتساب الرسالة في قوله: {فإِنِ استَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] فبين أن هذا لا يمكن. وآدم عليه السلام هو أول الرسل من البشر، ودليل ذلك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أرسل إليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة)، فهذا دليل على أن آدم قد أرسل إليه. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه خطابه لآدم على صورة المحاورة وهي لا تكون إلا للرسل، وكذلك ذكره بالاجتباء في قوله: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] والاجتباء في القرآن للرسل وحدهم.

ترتيب الرسل فضلا وزمنا

ترتيب الرسل فضلاً وزمناً ونوح هو أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد ذكر في القرآن من أولي العزم الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]، فهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وهم أفضلهم.

عدد الرسل وأسماؤهم

عدد الرسل وأسماؤهم ولم يسم الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أسماء رسله لا من الملائكة ولا من الناس، ولم يحصرهم في عدد محدد، بل قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، وقال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]. وكل هذا يقتضي أنه لم يبين أعدادهم ولم يذكر أسماءهم للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في بعض الآثار: التي لا تثبت بيان عددهم، فقد جاء في بعضها أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، ولكن هذا لا يصح، وقد سمي في القرآن من أنبياء الله سبحانه وتعالى واحد وعشرون، ثمانية عشر منهم في سياق واحد في سورة الأنعام، وذكر ثلاثة عشر أيضاً في سياق واحد في سورة النساء، وهؤلاء الذين ذكرت أسماؤهم اختلف في تفصيلها، فمن الناس من يرى أن بعض الأسماء متداخلة؛ لأن بعض الأنبياء يذكر بأسماء متعددة في القرآن مثل يونس فقد سمي (ذا النون) في الآية الأخرى. وكذلك بعض هؤلاء من أنبياء بني إسرائيل الذين اختلف ذكرهم في كتب بني إسرائيل فسموهم بهذه الأسماء كاليسع وذي الكفل، فإن اليسع يزعم أهل الكتاب أنه يوشع بن نون الذي هو فتى موسى، وقد صح عن ابن عباس أن فتى موسى هو يوشع بن نون الذي ذكر في سورة الكهف. (وذو الكفل) في كتب بني إسرائيل أنه ابن سليمان بن داود عليهم السلام.

إبراهيم أبو الأنبياء والرسل

إبراهيم أبو الأنبياء والرسل إبراهيم عليه السلام كان في ذريته أكثر أنبياء الله ورسله، وقد ذكر العلماء لذلك حكماً: منها: أنه صفت الخلة له فاجتباه الله خليلاً ولم يبق في قلبه مكان لمحبة من سواه، فعوضه الله بأن جعل في ذريته قادة البشر. ومنها: أن الله امتحنه بذبح ولده حين أمر بذلك في النوم فاستجاب لرؤياه، ففداه الله بذبح عظيم، ومع ذلك فقد جعل الله النبوة والرسالة في ذريته كما أخبر بذلك في كتابه، حيث رزقه الله إسماعيل وإسحاق، وأخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب. فكل من بعدهما من الرسل والأنبياء فهو من ذريتهما، لأن الله أخبر بذلك في نص كتابه، والذرية تشمل أولاد البنات، ولذلك كان عيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم من قبل أمه فقط؛ لأن الله خلقه من غير أب. والأنبياء الذين ليسوا من ذرية إبراهيم عليه السلام هم ممن سبقه وقليل ممن عاصره، فممن عاصره لوط عليه السلام، وقد أخبر الله أنه آمن له، وعند أهل النسب أنه ابن أخيه.

ذكر من ليس من ذرية إبراهيم من الأنبياء

ذكر من ليس من ذرية إبراهيم من الأنبياء أما نوح فليس من ذرية إبراهيم؛ لأنه جده وهو أبو البشر بعده، وقد أخبر الله أنه جعل ذريته هم الباقين، وأما قول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83] فإنها تصريحٌ بأنه من ذريته، وقيل معناه: من السالكين طريقه في النبوة والرسالة، والتضحية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وكذلك إدريس عليه السلام فليس من ذرية إبراهيم والراجح أنه جده أيضاً؛ لأن إدريس يسمى في كتب أهل الكتاب: (أخنوخ) وأخنوخ جد إبراهيم كما حسب في نسبه في كتب أهل الكتاب، وفي بعض الآثار عن بعض الصحابة، كـ ابن عباس، وأبي بن كعب وغيرهما، ولذلك يعدون نسب إبراهيم عليه السلام أنه: إبراهيم بن آزر بن ناحور بن فالغ بن عابر أو عيبر بن شالخ بن سام بن نوح بن لمك أو لامك بن مهلائيل بن اليارد بن الأخنوخ بن يانوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام، وعلى هذا يكون إدريس جداً لنوح، لكن قد صرح في نوح بأنه أول الرسل إلى أهل الأرض. وإدريس رسول قطعاً، فلهذا اختلف في إدريس المذكور في القرآن، الذي رفعه الله مكاناً علياً، هل هو إدريس الأول أو هو إدريسٌ آخر. وإدريس من الذين شرفهم الله من رسله بأن لقيهم رسولنا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فقد لقيه في السماء الرابعة، وقد صح أنه لقي آدم في السماء الدنيا وعيسى ويحيى في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في السماء الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، وفي هذا يقول شيخي رحمه الله: آدم فابن الخالتين يوسف إدريس هارون فموسى الأعرف ثم الخليل هكذا ترتيب أولاء ليلة سرى الحبيب صلى الله عليه وسلم. وممن ليس من ذرية إبراهيم من الرسل أيضاً: هود وصالح وهما من رُسل العرب، فقد بعث هود إلى عادٍ وكانوا يقطنون جزيرة العرب، وهم أهل الأحقاف الذين يسمى موضعهم اليوم بالربع الخالي؛ لأن الله سلط عليه ريحاً عقيماً: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7]. وكذلك صالح فإنه أرسل إلى ثمود وهم الذين جاءوا بعد عاد، وظاهر سياق القرآن أن عاداً كانوا بعد قوم نوح مباشرةً، وأن ثمود كانوا بعد عاد كما صرح بذلك الترتيب في سورة الأعراف، وعلى هذا فهم قبل إبراهيم عليه السلام. ويذكر أهل النسب أن الأنبياء المسمين في القرآن والسنة الذين ليسوا من ذرية إبراهيم ثمانية، فيعدون آدم وابنه شيثاً الذي ورد في بعض الأحاديث ذكره، ونوحاً وإدريس ولوطاً وهوداً، وكذلك يذكرون يونس بن متى الذي هو من أهل نينوى من المشرق، فيقولون: هؤلاء الثمانية ليسوا من ذرية إبراهيم ومن عداهم فهم من ذريته، ولذلك كان يلقب بشجرة الأنبياء؛ لأن الله جعل في ذريته النبوة والكتاب.

صفات الأنبياء

صفات الأنبياء

اشتراط العصمة للأنبياء

اشتراط العصمة للأنبياء وهؤلاء الرسل مختلفٌ فيما يشترط لهم، فقد اتفق العلماء على أن العصمة صفةٌ من صفات الرسل ويجب اعتقادها في حقهم، ولكن اختلفوا في تحديد العصمة، فحددها بعضهم بمنع الخطأ من الكفر والكبائر قبل الرسالة ومنع الخطأ مطلقاً بعد الرسالة. وحدد آخرون بأن المقصود بها: منع الخطأ بعد الرسالة فقط، وأما قبل الرسالة فلا مانع من الشرك والكفر والكبائر. وذهب جمهور أهل السنة إلى أن المقصود: العصمة من الوقوع في الخطأ في التبليغ عن الله، والعصمة من الإقرار على الخطأ فيما عدا ذلك، ففيما يبلغونه عن الله سبحانه وتعالى يجب لهم العصمة قطعاً؛ لأنهم لا يمكن أن يكون تبليغهم ما بلغوه عن الله خطأً وغلطاً، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، فلابد أن يكون ما بلغوه عن الله صدقاً. وعدم القول بعصمتهم في ذلك يقتضي نسبة الكذب لله سبحانه وتعالى؛ لأن مصدق الكاذب كاذبٌ والله تعالى قد صدقهم بالمعجزات، فلو جاز في حقهم الوقوع في الكذب في التبليغ عن الله سبحانه وتعالى لكان هو قد صدقهم في كذبهم. فبعض العلماء يقسم هذه الصفة إلى قسمين فيفرق بين الصدق والعصمة، فيعد صفات الرسل يقول: منها الصدق والعصمة والأمانة والتبليغ والرفعة، فيعُد الصفات أكثر وينوعها. والمقصود بالصدق، الصدق في الأقوال والصدق في التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وفيما بلغوه عنه، ولا شك أن الحاجة داعية إلى عصمتهم بعد رسالتهم من الوقوع فيما لا يرضيه؛ لأن ذلك يقتضي تناقضاً، فنحن مأمورون باتباعهم فيما عملوه؛ لأن أعمالهم تشريع ما لم يرد الدليل بخصوصها بهم، وإذا كنا منهيين عنها مأمورين بها فهذا تناقض مستحيل شرعاً، فوجب أن يعصموا من الوقوع في الخطأ. والخطأ هنا مختلف فيه، فقيل: هو الشرك والكبائر، وقيل: يشمل الصغائر أيضاً، ويشكل على القول الأخير دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، وقد كان يستغفر في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة، وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2]، وقد اختلف المفسرون في معنى هذه الآية، فقالت طائفة منهم: المقصود بذلك المغفرة السابقة على اجتبائه، حيث إنه ولد مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولله أن يفعل ذلك. وقالت طائفة: بل المقصود أنه يقع في الصغائر والأمور التي هي في حقه ذنوباً، لكن إذا قيس بها غيره كانت في بعض الأحيان طاعات؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد لامه الله سبحانه وتعالى في كتابه على بعض الأمور؛ وذلك دليل على صحة وقوع الاجتهاد منه، وأنه متعبد بالاجتهاد قبل نزول الوحي إليه، ولا يعارض ذلك إرجاؤه للبت في بعض الأمور انتظاراً للوحي كقصة الإفك التي انتظر فيها الوحي، وكقصة الثلاثة الذين خلفوا فقد أرجأ أمرهم خمسين ليلةً انتظاراً للوحي، وكإجابة اليهود حين سألوه عن الروح، وغير ذلك من الأسئلة التي يرجئ الجواب عنها حتى ينزل إليه الوحي. وقد اجتهد في أمور لامه الله فيها، فمنها ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، وكذلك قوله تعالى في قصة أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، وكذلك قوله تعالى في قصة الإيلاء: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1 - 1]، وكذلك في قصة ابن أم مكتوم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، وكذلك في قصة زيد بن حارثة بن شراحيل وزينب بنت جحش بن ذئاب أنزل الله سبحانه وتعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] ونحو هذا. فهذا عتاب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قُرن بالمغفرة والعفو، بل بدئ بالعفو في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، وعلى هذا فالأمور التي اجتهد فيها وليست مما أمر بتبليغه يمكن أن يقع منه الخطأ فيها، لكن لا يُقر على ذلك الخطأ ولابد أن يبين له ما أخطأ فيه، هذا معنى الصدق والعصمة.

اشتراط الأمانة في الأنبياء

اشتراط الأمانة في الأنبياء أما الأمانة فالمقصود بها: حفظ جوارحهم الظاهرة والباطنة من التعدي على ما اؤتمنوا عليه من وحي الله سبحانه وتعالى سواء كان تبليغاً أو كتماناً، فقد يؤمرون بتبليغ شيء مثل الرسائل التي أمروا بتبليغها: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقد يأمرون بكتمان شيءٍ مما يدخل في الإخبار عن المستقبل والغيوب، وقد يكون فتنةً على الناس. وكذلك التبليغ فهو صفةٌ من صفاتهم وإن كان من الصفات الداخلة في الأمانة؛ لأن من الأمانة أن تبلغ الرسالة، والتبليغ الذي يجب على الرسل هو أن يبلغوا عن الله سبحانه وتعالى ما تقوم به الحجة، فلو لم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم حكماً إلا إلى شخص واحد، لكنه ظن به أنه يمكن أن يبلغه لغيره أو أنه سيبلغه لغيره، فذلك كافٍ في تبليغه، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في تبليغ بعض رسالات ربه على الأفراد، ككتبه التي أرسلها إلى الملوك بواسطة رسل من الأفراد كـ عبد الله بن حذافة بن قيس إلى هرقل وكـ دحية الكلبي إلى عظيم مصر، وكـ عمرو بن العاص إلى ابني الجلندا وهكذا. ونحو هذا ما رواه عنه الآحاد مما حدثهم به، فإنهم بلغوه ونُقل إلى الأمة، ولهذا فإن ما يبلغه عن الله سبحانه وتعالى من الرسالة محفوظ كحفظ القرآن. والذين يستشكلون ضياع كثير من كتب السنة وفواتها، وأنها معدومة اليوم أو نادرة أو غير مروية، يرد على استشكالهم أنها ليس فيها ما تحتاج إليه الأمة؛ لأن ما تحتاج إليه الأمة من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون قد بلغها، ولذلك تكفي دواوين الإسلام المشهورة وما ليس مروياً فيها مما يعتمد عليه كثير من الناس، هو من تتبع الشواذ ومن التكلف المنهي عنه، فلهذا يفرح الواحد اليوم من طلبة العلم عندما يجد صحيفة منسوبة إلى عصرٍ مضى فيها بعض الأحاديث غير المشهورة وغير الموجودة، أو يؤخذ منها بعض الأحكام الشاذة النادرة، ومثل هذا من اتباع المتشابهات الذي وصف الله به الذين في قلوبهم زيغ. فالذي تحتاجه الأمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظه الله عليها ولم يكن ليضيعها، ولهذا فإن محمد بن سعيد المصلوب وهو من مشاهير الذين وضعوا الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه الخليفة ليقتله، قال: لئن صلبتموني فلقد تركت فيكم أربعة آلاف حديث مكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أحل فيها الحرام وأحرم فيها الحلال، فقال له الخليفة: أين أنت من عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك ينقران عنها حتى يخرجانها، فدعاهما فسألهما عن هذا الرجل هل يعرفانه؟ فقالا: نعم. قد حدث عن فلان بالحديث الفلاني وكان كاذباً في ذلك، حتى عدا أربعة آلاف حديث يتتبعانها، ولذلك يقول أهل الحديث: لو هم الرجل بالصين ذات ليلة أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لأصبح الناس في بغداد يقولون: فلان كذاب وضّاع، ولذلك لما قيل لـ يحيى بن سعيد القطان: قد كثرت الموضوعات، قال: يعيش لها الجهابذة.

صفة الرفعة في الأنبياء

صفة الرفعة في الأنبياء وأما صفة الرفعة التي تجب للرسل فهي أنهم يرسلون من نسب قومهم، وقد أخبر بذلك هرقل أبا سفيان في حديث ابن عباس في الصحيحين: (كذلك الرسل ترسل في نسب قومهم) والحكمة من ذلك: حتى لا يكون اختيارهم في الطبقات الدنيا من المجتمع فتنةً على الناس. وكذلك ما يتعلق بأبدانهم وصورهم فيجب أن لا يكون فيهم مُنفر، فيستحيل في حقهم كل مُنفرٍ سواء كان من العيوب الخلقية، أو من الأمراض أو نقص العقل، أو العته أو غير ذلك، فهذا من المستحيل في حقهم ولا يمكن أن يقع.

صفات لا تشترط في الأنبياء

صفات لا تشترط في الأنبياء وأما ما يتتبعه بعض المتكلمين من الصفات كما يذكر بعضهم أنه يستحيل في حق الرسل السواد ونحو ذلك؛ فهذا لا دليل عليه ولا يمكن اعتباره؛ لأن السواد ليس وصفاً منفراً، بل كثير من البشرية يتصفون بذلك، فاختلاف ألوانهم إنما هو من حكمة الله سبحانه وتعالى الراجعة إلى اختلاف البيئات والمعاش ونحو ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22]، فقد ذكر اختلاف الألسنة والألوان مع خلق السماوات والأرض مما يدل على تأثير البيئة في الألسنة والألوان، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه. وكذلك امتن علينا معشر هذه الأمة بأن أرسل إلينا النبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا، فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128]، ففي بعض القراءات: (من أنفَسِكُم) أي: من أعزكم نسباً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث الاصطفاء وقال: (إن الله اصطفى من ذرية إبراهيم كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار). فهذا حديث الاصطفاء فيه اختيار ربانيٌ من عند الله سبحانه وتعالى، اصطفى فيه رسوله صلى الله عليه وسلم مثل اصطفائه للرسل الآخرين كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:33 - 34]، وهذا الاصطفاء لا ينافي الكفر ولا ينافي دخول النار؛ لأنه إنما يصطفى الإنسان من بني جنسه وبني جلدته وأهل زمانه، فلهذا يمكن أن يكون فيهم من هو من الكفار، وقريش مصطفون على من سواهم من القبائل ومع ذلك فيهم الكفرة وفيهم أهل النار. والذين قرءوا حديث الاصطفاء وأخذوا منه أن أجداد النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً من أهل الجنة أخطئوا في الفهم؛ لأن الاصطفاء ليس لأجداده فقط بل لقريش كلها، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (قريش قادة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة) ولهذا فإن استدلالهم أيضاً بتحريم أذاه وأن الله قد لعن الذين يؤذونه، وأن ذكر أجداده أو آبائه بالكفر أذىً له لا دليل فيه؛ لأنه ليس من أذاه، ولو كان من أذاه لما قاله، وقد صح في صحيح مسلم أنه قال: (إن أبي وأباك في النار). ومعنى الإيمان بالرسل، هذه المراتب المتعددة: أولاً: الإيمان بأن الله بعث إلى البشر رسلاً منهم لهدايتهم وإقامة الحجة عليهم للبشارة والنذارة. ثانياً: الإيمان بالذين سموا منهم تفصيلاً. ثالثاً: الإيمان باتصافهم بالصفات السابقة. رابعاً: الإيمان بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتمهم وأن رسالته ناسخة لجميع شرائعهم، والإيمان به بخصوصه مقتضٍ أيضاً لتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وأن لا يُعبد الله سبحانه وتعالى إلا بما شرع بعد أن بعث، وما يتعلق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم بخصوصه أطول من هذا، فهذا ما يتعلق بالرسل عموماً.

الصفات المختلف فيها في حق الرسل

الصفات المختلف فيها في حق الرسل من الصفات المختلف فيها في حق الرسل الذكورة: فقد قال كثير من أهل العلم: إنها شرط في الرسالة. وقال آخرون: بعدم اشتراطها، والذين يرون عدم اشتراطها يرون نبوة مريم ابنة عمران وحواء عليهما السلام، وقد جاء في كلامنا السابق فيما يتعلق بالوحي الوحي إلى أم موسى ونحو ذلك. دليل الذين يرون نبوة هؤلاء: أن الله سمى مريم في القرآن ثلاثين مرة، ولم تُذكر فيه انثى باسم صريح سواها، وأن الله ذكر أنه أرسل إليها الملك فكلمها برسالة من عند الله، وكذلك حواء فقد جاء الخطاب لها ولآدم في القرآن بضمير المثنى، وهذا يقتضي أن يكون الخطاب إليهما معاً مثل رسالة موسى وهارون. وكذلك اختلف في بعض الذين ذكروا في القرآن من غير الرسل كـ لقمان مثلاً وذي القرنين والخضر، فـ لقمان وذو القرنين ذكرا في القرآن بأسمائهما، والخضر إنما ذكرت قصته ولم يذكر باسمه، لكن الله أثنى عليه بأن جعله عبداً من عباده وأنه علمه من العلم ما لم يعلمه موسى، فاختلف في هؤلاء الثلاثة هل هم رسل أو أنبياء غير رسل؟ أو أنهم من عباد الله الصالحين فقط؟

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول وكذلك اختلف في الفرق بين النبي والرسول، ونحن إذا بينا هذا الفرق فسنذكر الفرق اللغوي أولاً ثم نعدل إلى الفرق الاصطلاحي. فرسولٌ: فعولٌ من الرسالة، ويطلق على الرسالة نفسها وعلى مبلغها، فهو في الأصل للرسالة نفسها؛ لقول الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلى وما أرسلتهم برسولِ أي: وما أرسلتهم برسالتي، ثم أُطلق على حامل الرسالة الذي يؤديها فسمي رسولاً. وأما النبي: فهو فعيلٌ، فيمكن أن تكون بمعنى فاعلٍ ويمكن أن تكون بمعنى مفعولٍ، ويمكن أن تشتق من النبأ ويمكن أن تشتق من النبوة، فإذا كانت من النبأ فهو الخبر، فالنبي فعيلٌ من النبأ لأنه منبئ عن الله إذا كان فعيلاً بمعنى فاعلٍ، أو لأنه منبأ من الله، أي: مخبر منه إذا كان فعيل بمعنى مفعول، هذا إذا كان من النبأ. أما إذا كان من النبوة وهي الارتفاع، فهو لأن الله أعلى منزلته بالنبوة. أما في الاصطلاح: فإن كثيراً من العلماء يعرفون الرسول بأنه الذي أوحي إليه شرعٌ وأمر بتبليغه، وعرفوا النبي: بأنه الذي أوحي إليه شرعٌ وأمر بالتعبد به ولم يؤمر بتبليغه، وعلى هذا فكل رسولٍ نبي وليس كل نبي رسولا. وقالت طائفة أخرى من أهل العلم: بل الرسول هو الذي أوحي إليه شرعٌ وأمر بتبليغه، والنبي هو الذي أوحي إليه باتباع وتجديد شرع من قبله، فيكون النبي مجدداً والرسول هو الذي أنزلت عليه الرسالة بكاملها. ولكن يُجاب عن هذا بأن الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم، والنبي صلى الله عليه وسلم أتته شريعة جديدة. ولكن قد يُجاب عن هذا أيضاً بأن يقال: إن الملة لا يقصد بها الشريعة، وإنما يقصد بها ما يتعلق بالجانب الخُلقي والروحي فقط، وقد تبع النبي صلى الله عليه وسلم ملة إبراهيم في هذا الجانب، فلذلك لم يدع على قومه واتصف بالحلم معهم، مع أنه ذكر دعاء غير إبراهيم من أولي العزم من الرسل في القرآن على قومهم وما أصاب قومهم، إلا عيسى عليه السلام وحده، لكن دعاء نوح ودعاء موسى على قومهما معروف، قال موسى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]، وقال نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، وأما إبراهيم فلم يدعُ على قومه مع ما آذوه به من الأذى، بل قال: (حسبي الله ونعم الوكيل) فقط، ووعد أباه بأن يستغفر له. وعموماً فإن الرسل فيهم مجددون يجددون شرع من قبلهم، فإسماعيل وإسحاق لا يمكن أن تكون شريعتاهما غير شريعة إبراهيم إذ لم يشهر ذلك ولم يعرف، بل هما مجددان لشريعة إبراهيم، وكذلك أنبياء بني إسرائيل فإن بعضهم يجدد شريعة من سبقه، وفي بعض الأحيان يباح له بعض ما حرم من قبله كعيسى عليه السلام فإنه مجدد لشريعة موسى، لكنه يحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم، كما أخبر الله بذلك في كتابه: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]. والله سبحانه وتعالى يقول في وصف الأنبياء: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] فكل نبيٍ منهم له شرعة وله منهاجٌ، لكن لا منافاة بين أن يكون بعضهم مع بعض في شرعةٍ واحدة، ولذلك فسر ابن عباس: (شرعةً ومنهاجاً)، قال: سبيلاً وسنة، فـ (سبيلاً) تفسيرٌ لـ (منهاجاً) و (سنة) تفسير لـ (شرعة). ومن الرسل من يأتي لمكافحة داء ظهر في البشرية ومعصية كبيرةٍ اشتهرت فيها، كما كان لوط عليه السلام مجدداً لشرع من قبله في تحريم اللواط ومنعه، وكذلك شعيب عليه السلام في منع تطفيف المكاييل والموازين، ولذلك فالذي يذكر من نذارتهم في القرآن متعلق بهذه الأمور فقط.

لا يكون الرسل إلا من الملائكة أو البشر

لا يكون الرسل إلا من الملائكة أو البشر الرسل كما ذكرنا لا يكونون إلا من الملائكة أو من البشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وأما غير ذلك من الأصناف فيمكن أن تشملهم رسالة رسل البشر أو رسل الملائكة، فالجن مثلاً شملتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليهما السلام، ولذلك ذكروا هذا في القرآن حين أرسل الله النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى الله، وقد أتاه جن نصيبين ببطن نخلة فخرج إليهم وليس معه إلا ابن مسعود، وحدث ابن مسعود بما رأى وبما سمع، وأنزل الله ذكرهم في سورة الأحقاف وبين أنهم قالوا: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] فكأنهم لم يعلموا بشريعة عيسى عليه السلام. ويذكر بعض أهل التفسير أن ذلك ربما رجع إلى تعويذ أم مريم لها وذريتها من الشيطان، وقد قص الله علينا ذلك في كتابه: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، فلم يتعبد إنسان لتبليغ الرسالة إليهم على هذا. وقد تبع النبي صلى الله عليه وسلم عدد منهم وأسلموا، وكانوا سبباً في إسلام من سواهم، فبعض الإنس أسلم عن طريق الجن، ومنهم سواد بن قارب رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان كاهناً في الجاهلية، فأسلم رئيه من الجن فدعاه إلى الإسلام فأسلم بذلك، قال: أتاني رئيي بين نومٍ وهجعةٍ ولم يك فيما قد بلوت بكاذبٍ ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك رسول من لؤي بن غالب إلى أن يقول: وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ سواك بمغنٍ عن سواد بن قارب وكذلك رجل آخر اسمه خنافر كان له رئي من الجن اسمه ساصر فأسلم ساصر للنبي صلى الله عليه وسلم فدعا خنافراً فأسلم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وفي ذلك يقول أبياته المشهورة: ألم تر أن الله عاد بفضله فأنقذ من نفح الزخيخ خنافرا وكشف لي عن جحمتي عماهما وأوضح لي نهجاً من الحق داثرا وكان مضلي من هديت برشده فلله مغوٍ عاد بالرشد آمرا ومثل هذا راشد بن عبد ربه سيد بني سليم الذي كان يدعى في الجاهلية غاوي بن عبد العزى، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه واسم أبيه وسماه راشد بن عبد ربه، فقد أسلم حين أتاه رجل من الجن يركب نعامة فدعاه إلى الإسلام، فأسلم برسول صلى الله عليه وسلم وأتى بقومه، ومثل هذا حصل لعدد منهم كـ العباس بن مرداس رضي الله عنه. وكذلك من أهل اليمن عدد من الناس أسلموا على أيدي الجن. ومع هذا فإن للجن بعض الأحكام المختصة بهم، فلا يمكن أن يستوي الجن والإنس في الشرائع التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يتحملون كثيراً مما يتحمله الإنس، ولهم أيضاً من الطاقات في مجالات أخرى ما ليس للإنس، فلهم أحكام، وقد نُص في القرآن على تعذيب من مات منهم كافراً، ولم ينص في القرآن على دخول مسلميهم الجنة إلا بالعموم، لكن جاءت النصوص على أن كل من اهتدى مطلقاً فهو إلى الجنة كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، فهذا يشمل الإنس والجن. وعلى هذا فلا يجب عليهم جهاد الكفرة الإنس قطعاً، لكن اختلف هل يجب عليهم جهاد كفرة الجن أم لا؟ فقالت طائفة من أهل العلم: إن الجهاد ذروة سنام الإيمان، والخطاب به في القرآن عام يشمل الإنس والجن.

الإيمان بالوحي والملائكة

الإيمان بالوحي والملائكة من أركان الإيمان الإيمان بالكتب والإيمان بالملائكة والإيمان بالرسل، فلا يصح إيمان مؤمن إلا بها، لكن الواجب هو الإيمان تفصيلاً بما ورد تفصيله في القرآن والسنة، وما لم يرد تفصيله فإننا نؤمن به إجمالاً.

الإيمان بالوحي

الإيمان بالوحي قال الشيخ حفظه الله: [والوحي حق ليس قولاً يختلق والكتب حق والملائكة حق] ذكر أن مما يجب الإيمان به الوحي.

تعريف الوحي

تعريف الوحي والوحي في اللغة يطلق على السرعة وعلى الإلهام وعلى الكتابة، فله ثلاث معان، يقال: وحى وأوحى بمعنى: كتب، وبمعنى: أسرع، وبمعنى: أذهب، ومثلها وخى -بالخاء- وكذلك توخى، ترد أيضاً بهذا المعنى. ومنه قول الشاعر: فلما رأى أن النجاة تعذرت رأى أن ذا الكربين لا يتعذر توخى بها مجرى سهيل ودونه من الشام أجبال تطول وتقصر وورود الوحي بمعنى الإلهام كثير في القرآن، كقول الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] فالمقصود بذلك إلهامها. ولذلك يطلق الوحي على ما يراه الرائي في النوم، فهو إلهام لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51]، أي: إلا رؤيا نوم، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذا هو الوحي الاصطلاحي وهو المرتبة الثالثة. والوحي في الاصطلاح: تنزيل الله سبحانه وتعالى ما شاء من كلامه على من شاء من خلقه، وقد سبق أن الكلام الذي يوحى به هو الكلام التشريعي لا الكلام الكوني، فالكلمات الكونية يخاطب بها كل خلقه، لكنها لا تسمى وحياً، فهو يكلم كل مخلوق من خلقه بكن فيكون، وهذه ليست وحياً؛ لأنه يخاطبك أنت بها، ولا تتحرك حركة ولا تسكن سكوناً إلا بخطاب الله، وهذه هي الكلمات الكونية. أما الكلمات التشريعية فهي التي يوحي بها إلى ما شاء من خلقه، وهم الذين اختارهم لذلك: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]. وهو وحي الله سبحانه وتعالى إلى عباده، يجب الإيمان به، ويجب الإيمان أنه اختار من عباده خلقاً للوحي وأنه أوحى إليهم.

مراتب الإيمان بالوحي وصوره

مراتب الإيمان بالوحي وصوره والإيمان بالوحي مراتب: أولاً: الإيمان بوجوده؛ لأنه حق. ثانياً: الإيمان بما حصل منه تفصيلاً من الكتب المنزلة. ثالثاً: الإيمان بأنه من عند الله سبحانه وتعالى وحده. رابعاً: الإيمان بأنه غير مكتسب وإنما هو اختيار رباني. فمن أقر بوجود الوحي وأقر بأنه من عند الله، وأقر الموجود منه لكنه جوز اكتسابه فهو كافر، مثل بعض الفلاسفة الذين يجوزون اكتساب النبوة، فالنبوة ليست مكتسبة وإنما هي اختيار رباني يختار الله لها من شاء من عباده. ولهذا الوحي صور كثيرة أوصلها العلماء إلى ثلاث عشرة صورة، وأصلها الثلاث المذكورة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51] والمقصود بذلك رؤيا النوم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (منامات الأنبياء وحي) والمقصود بذلك أحلامهم. ولهذا فإن منامات الناس عموماً فيها نسبة من ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءًا من أجزاء النبوة) لأنها إلهام رباني يلهم الله به الإنسان أمراً. القسم الثاني: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]، مثل كلامه لموسى عليه السلام، ومثل تكليمه للملائكة، فإنهم يسمعون كلامه من وراء حجاب، ولذلك إذا تكلم سبحانه وتعالى أخذت قلوبهم، ثم إذا كمل كلامه فزع عن قلوبهم: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]. وكذلك فإنه يكلم الناس أجمعين يوم القيامة، فأهل الإيمان يكلمهم كلام الرحمة: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، وفي حال الحساب كذلك: (ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان). وأهل الكفر لا يكلمهم كلام رحمة، ولذلك قال: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77] لكنه يكلمهم كلام عذاب، فيخاطبهم بالتقريع، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. القسم الثالث: هو قوله: {أَوْ يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وفي القراءة الأخرى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذا الرسول من الملائكة، والوحي عن طريق الملك هو أكثرها. وهذا أيضاً أنواع: فمنه ما يكون على وجه التمثيل فيتمثل الملك رجلاً فيكلمه، ويأتي هذا على صور كثيرة، منها ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين كان يأتيه جبريل في صورة دحية الكلبي، وقد يأتيه وهو لا يعرفه كحديث جبريل في سؤالاته، وقد يأتيه ملكان فيسأل أحدهما الآخر عن شيء مثل حديث السحر، ومثل حديث: (اضربوا له مثلاً) ومثل حديث الصعود به إلى السماء وما رأى من المعذبين من أصحاب الذنوب، وغير ذلك من الأحاديث، فهذه كلها أنواع من أنواع الوحي. وقد يكون أشد من ذلك مثل صلصلة الجرس، أخرج البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي عنه ما يقول، وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، قالت عائشة: ولقد رأيته يفصم عنه في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقا). ومن أنواع الوحي الكتابة: فإن الله سبحانه وتعالى يكتب صحفاً وألواحاً لبعض أنبيائه، فقد كتب التوراة بيمينه لموسى في الألواح، وكذلك أنزل الصحف على إبراهيم وموسى، وكذلك الإنجيل والزبور كلاهما نزل في صحف، فهذا نوع من أنواع الوحي.

العلم بالوحي علم قطعي

العلم بالوحي علم قطعي كل هذه الأنواع يجمعها جامع وهو أن العلم الحاصل بها علم قطعي لا يمكن أن يشكك فيه صاحبه، فكل من أوحي إليه لا يستطيع أن يجادل نفسه هل هذا صدق أو غير صدق، ويحصل له اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك، وهو أشد من يقينك بالمرئيات والمسموعات، وأنه يصل إلى بشاشة القلوب، والمسموعات والمرئيات يمكن أن تشكك فيها؛ لأن البصر يتفاوت والسمع يتفاوت، فلذلك كان الوحي أبلغ وسائل العلم. قوله: (والوحي حق)، يجب الإيمان بأن ما أوحاه الله لا يمكن أن يكون إلا حقاً لأنه يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] ويقول: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]. والوحي قول الله فلذلك لابد أن يكون حقاً، فلهذا قال: (والوحي حق ليس قولاً يختلق)، وهذه مبالغة في تفسير كونه حقاً، وهو مأخوذ من القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111]، فلا يمكن أن يختلقه أي واحد. ولهذا قال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47]، فلا يستطيع أحد أن يدافع عنه حينئذٍ. قوله: (ليس قولاً يختلق)، الاختلاق بمعنى الكذب ومنه قول الله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7] واشتقاقه مما يتكلف الإنسان خلقه، والإنسان لا يَخلُق لكنه يَختلِق، بمعنى يزعم فعل شيء غير صحيح، وهذا الذي يسمى بالاختلاق، والمختلَق هو الكلام المكذوب على صاحبه.

الإيمان بالكتب

الإيمان بالكتب

معنى الإيمان بالكتب

معنى الإيمان بالكتب قوله: (والكتب حق والملائكة حق): الكتب: جمع كتاب، والكتاب في الأصل فعال اسم آلة من كتب الشعر بمعنى خاطه، ولما كانت الأوراق التي يكتب بها العلم تصير هكذا سمي الذي يجتمع فيه عدد من الأوراق وتخاط كتاباً، ثم انتقل هذا إلى الحرفة نفسها، فكان رسم الحروف يسمى كتابة، ويسمى خطاً، ولذلك يطلق على الصحفة الواحدة (كتاب)، ولذلك قال الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام حكاية عن ملكة سبأ: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:29 - 30]، (كتاب كريم) ليس معناه أنه كثير من الأوراق المخيطة بل هو هذا اللفظ فقط: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31]، فهذا كتاب. ولهذا فإن ما يكتبه الإنسان إلى غيره من الرسائل يسمى كتباً يقال: أرسل فلاناً كتاباً، وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى هرقل وكتاباً إلى كسرى، وكتاباً إلى النجاشي، وكتاباً إلى صاحب دومة الجندل وهو أكيدر دومة وكتاباً إلى ابني جلندا وكتاباً إلى المنذر بن ساوى صاحب البحرين؛ هذه كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الله، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح مسلم. فالمقصود بذلك ورقة واحدة فيها الخطاب الذي يوجهه إليهم، وقد عرفنا أن هذا قد انتقل عدة انتقالات، فالأصل الخياط وهي كناية عن الأوراق التي تخاط، ثم انتقل ذلك إلى الورقة الواحدة التي كتب فيها فسميت كتاباً، ولهذا يقول العرب: (كتب الأحباب أحباب الكتب) أي: الكتب التي تأتيك من أحبتك هي أحب الكتب إليك. يقول الشاعر: إذا الإخوان فاتهم التلاقي فما صلة بأنفع من كتاب أي: أن يكتب بعضهم إلى بعض. والكتب اصطلاحاً: المقصود بها كتب الله، أي وحيه الذي أنزل على عباده سواء جاءت من عند الله مكتوبة كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها، أو جاءت منزلة على قلب الرسول الذي يوحى إليه كالقرآن، فالقرآن لم يأت من عند الله مكتوباً، بل لم يكتب كتابة جامعة له في مكان واحد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان جمعه في أيام أبي بكر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد كان يكتب في حياته لكن في صحف متفرقة وفي ألواح وفي جلود وغير ذلك. فلهذا قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49]، فهو الذي في الصدور. وجاء في الحديث: (إن أناجيل أمتي في صدورها)، وكذلك في حديث عياض بن حمار المجاشعي في صحيح مسلم: (إن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وإني أنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان) فقوله: (لا يغسله الماء)، أي: ليس مثل الكتب التي تكتب على الألواح فتغسل، إنما هو مكتوب في الصدور، ولهذا قال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49].

الإيمان بالكتب المنزلة جملة وتفصيلا

الإيمان بالكتب المنزلة جملة وتفصيلاً والكتب المنزلة يجب الإيمان إجمالاً أنها من كلام الله ووحيه، ويجب الإيمان تفصيلاً بما سمي منها، والكتب الأربعة المسماة هي: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، ومعها صحف إبراهيم التي ذكرت دون أن تسمى، قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:36 - 37]، {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]. فهذه الصحف هي الكتب. ونحن لا نعلم عدد الكتب، وما كان ينبغي لنا ذلك، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن ما لا يصلح منها وإنما يكون التشريع الذي فيه صالحاً لمدة زمنية محددة، قد جعله الله تعالى ينسى واستودعه خلقه واستحفظهم إياه، كما قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44]. أما هذا القرآن الذي يصلح لكل ما بعده من الأزمنة فإنه بقي محفوظاً في الصدور، وقد حفظه الله وتولى حفظه بنفسه، ولم يكل حفظه إلى عباده، فقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].

مراتب الإيمان بالكتب

مراتب الإيمان بالكتب لهذا قال: (والكتب حق)، الإيمان بكتب الله ركن من أركان الإيمان، وهذا الإيمان كما ذكرناه ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: هي الإيمان بكتب الله إجمالاً. المرتبة الثانية: هي الإيمان بالكتب التي جاء ذكرها. المرتبة الثالثة: هي التصديق بكل ما جاء فيها من الأخبار، وبأن هذا القرآن مهيمن عليها وناسخ لجميعها، وبأن كل ما فيه فهو حق، وبأن كل ما أخبر به فهو صدق، وكل ما شُرع فيه فهو شرع الله، ويجب أن يعتقد الإنسان أن الكتاب كما أنزل، وأن الدين كما شرع، فيؤمن بذلك.

الإيمان بالملائكة

الإيمان بالملائكة قوله: (والملائكة حق): كذلك من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة، والملائكة جمع ملك بالفتح، وأصل الكلمة: (مألك) والمألك والمألكة الرسالة، ويقال فيه: المألَك والمألَكة والمألُك والمألُكة. ومنه قول عدي بن زيد: أبلغ النعمان عني مألكاً أنني قد طال حبسي وانتظاري لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري والمألكة والمألك والمألكة والمألُك كلها من معنى الرسالة، ثم انتقلت من ذلك إلى الدلالة على حامل الرسالة، فالذي يحمل الرسالة يسمى مألكاً ومألُكاً، وسمي عباد الله المكرمون الذين يبلغون رسالاته إلى أنبيائه بالملائكة اشتقاقاً من ذلك. وليس كلهم يبلغون هذه الرسائل، ولا كلهم مبلغين عن الله، بل منهم ملائكة السماوات وملائكة الأرضين الأخرى، وهم من أكثر جنود الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ولذلك عد العلماء أن مع الإنسان واحداً وعشرين ملكاً، منهم المعقبات التي مع الجوارح {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الرعد:11]، ومنهم صاحب اليمين وصاحب الشمال اللذان يكتبان الحسنات والسيئات، ومنهم قرينه من الملائكة. ويتعلق به عدد سواهم مثل ملك الموت: (والملائكة الذين وجوههم كالشمس باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم)، يعني: أحضروا أنفسكم. ومنهم ملكا السؤال اللذان يأتيانه في قبره. فإذا جمع هؤلاء وصل العدد إلى واحد وعشرين ملكاً لكل إنسان. وهؤلاء منهم المثبتون ومنهم الكروبيون ومنهم أنواع أخرى، والمقربون أعلاهم منزلة. ويجب الإيمان بالملائكة إجمالاً، ويجب الإيمان تفصيلاً بمن سمي منهم، كجبريل وميكائيل وفيهما لغات كثيرة، فجبرائيل فيه تسعة وعشرون لغة. وكذلك ميكائيل فيه لغات متعددة، وكذلك مالك خازن النار، وكذلك إسرافيل الذي جاء ذكره في الأحاديث الصحيحة، وكذلك صاحب اليمين وصاحب الشمال اللذان يكتبان عمل الإنسان، فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:9 - 12]. المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالملائكة: الإيمان بأنهم جميعاً عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، حتى لو كان الفعل الذي أمروا به بالنسبة للبشر معصية، فإنه بالنسبة لهم طاعة إذا أمروا به، مثل السجود لآدم، ومثل تعليم الناس السحر بالنسبة لهاروت وماروت، فالسحر نفسه كفر بالنسبة للبشر، لكنهم تعبدهم الله بأن يعلموهم، وهذا محنة للبشر مثلما امتحنهم بنزول الأوبئة والأمراض. وهؤلاء الملائكة وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ووصفهم بأوصاف أخرى مثل قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، وكذلك قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6] والمرة القوة، فهذا يقتضي تمام قوتهم وقوة خلقهم. وكذلك قول الله تعالى في وصفهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف بعضهم بعض ذلك، مثل قوله في جبريل: (إن له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب)، وكذلك جاء عنه في حديث حملة العرش -وإن كان الحديث قد تكلم فيه- أنهم مثل الأوعال بين شحمة أذن أحدهم وظلفه خمسمائة عام، وهذه المسافة كالمسافة ما بين كل سماء وسماء، وما بين السماء والأرض. فهذا معنى قوله: (والملائكة حق).

الاختلاف في نبوة أم موسى ومريم

الاختلاف في نبوة أم موسى ومريم وقوله: (والرسل حق): من أركان الإيمان الإيمان برسل الله. وقد اختلف في تكليم الله تعالى لـ أم موسى وكذلك كلامه لـ مريم عليها السلام؛ هل كان وحياً أم لا؛ بمعنى هل كانت نبية أم لا؟ فقال طائفة من أهل العلم: كل من ورد ذكره في ذلك فهو نبي مثل مريم وأم موسى وحواء وغيرهن. والذي يبدو أن الوحي إلى أم موسى إنما كان وحياً بمعنى الإلهام، مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] وإن كان فيه ما يقتضي التثبيت؛ لأن الإلهام قد يكون من الخواطر الربانية فيقتضي ذلك تثبيت الإنسان وتقويته، لأن كثيراً من الناس يضحي تضحيات جسمية هي قطعاً من إلهام الله وإيحائه، فتكون وحياً فعلاً، لكنها ليست بمعنى الوحي الذي يختص الله به رسله، إنما هي مثبتات تشبه ما يراه النائم في النوم أو مثل اللمة الملكية. وقد اختلف أهل السنة في هؤلاء النسوة هل هن من رسل الله وأنبيائه أم لا؟ والخلاف قوي في مريم عليها السلام، فإنه لم تذكر امرأة في القرآن باسمها الصريح إلا مريم، وقد جاء ذكرها في القرآن ثلاثين مرة. وكذلك حواء عليها السلام، فكثير من أهل السنة يرى أنها كانت من الأنبياء، وهذا الخلاف موجود فيهن، وقد ذكر السيوطي بعض من اختلف في نبوتهم في الكوكب الساطع، فقال: واختلفت في خضر أهل النقول قيل نبي أو ولي أو رسول لقمان ذي القرنين حوا مريم والوقف في الجميع رأي المعظم فلا شك أن مريم خاطبها الملك وأنه أخبرها بأنه من عند الله. وهنا يعلم أنه لا خلاف بأن الله خاطب هؤلاء وأنه شرفهن، وأنهن كملن، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير وكمل من النساء أربع)، لكن الخلاف: هل ذلك نبوة أم لا؟

الغيب النسبي

الغيب النسبي قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه كان فيمن قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فـ عمر بن الخطاب)، فلاشك أن في هذه الأمة عدداً من المحدثين الذين يطلعهم الله تعالى على بعض الأمور التي ليست غيباً بالنسبة لهم لكنها غيب بالنسبة لمن سواهم، لكن هذا ليس من النبوة قطعاً. كثير من الناس يزعم أن كل من أخبر عن مغيب فإنه قد حاول الاطلاع على الغيب، وهذا خطأ لأن الله يكشف لبعض عباده بعض المغيبات فلا تكون غيباً بالنسبة إليهم وإنما تكون من عالم الشهادة، كما حصل لـ عمر مع سارية. وهذا النوع من الغيب يمثل له بالجزار قبل أن يفتح بطن الشاة، فما في بطنها غيب بالنسبة إليه، لكنه إذا فتحه واطلع عليه زال ذلك فلم يكن غيباً بالنسبة إليه، ومثل الغائب عنك، فإن من في بيتك الآن يرى ما لا تراه، فما في بيتك غيب بالنسبة إليك وشهادة بالنسبة للحاضر عندهم، فالغيب غيبان: غيب عن كل الناس، وهذا لا يطلع عليه أحد مثل ما يقع في غد، ومنه مفاتيح الغيب الخمسة. وغيب عن بعض الناس شهادة لبعضهم، مثل: ما يراه الطبيب بالتشخيص، فهذا بالنسبة لك أنت غيب وأنت واقف بجنبه، لكنه ليس غيباً بالنسبة إليه؛ لأنه يراه بالمرصد والمنظار ونحو ذلك. وكذلك المحدثون الذين أطلعهم الله على بعض هذه الأمور، فهي شهادة بالنسبة إليهم غيب بالنسبة إلى من سواهم، ولا يرفض هذا قاعدة الغيب.

مواقف القيامة وأشراط الساعة

مواقف القيامة وأشراط الساعة اليوم الآخر هو اليوم الذي يجتمع فيه جميع الخلق، وتنكشف فيه الحقائق، ويجازى كل مخلوق بما يستحق، وقد جعل الله له علامات يعرف قرب وقوعه بها، فما على المسلم إلا الإيمان به والعمل له.

معنى اليوم الآخر

معنى اليوم الآخر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الشيخ حفظه الله تعالى: [واليوم الاخر وما قد اشتمل عليه من حشر وعرض لعمل حق كذا الوزن وما به التحق والنار حق وكذا الجنة حق] من أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، واليوم في الدنيا هو الوحدة الزمنية المعروفة، وأطلق على الآخرة باعتبار اتصاله وعدم انقطاعه، فكأنه يوم واحد وإن كان قدره آلاف السنين: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، وكذلك في وصف من نوقش حساب خمسين ألف سنة باختلاف أحوال الناس فيه، فمن نوقش الحساب فيه كان كخمسين ألف سنة في حقه، ومن لم يناقش الحساب فيه كان كألف سنة على الأقل مما تعدون، فأطلق عليه اليوم بهذا الاعتبار، وهو الآخر؛ لأنه إليه تنتهي الدنيا، ولأنه لا نهاية له فكان آخراً، وكل ما لا نهاية له يعتبر آخراً من جنسه.

القيامة الصغرى وعذاب القبر

القيامة الصغرى وعذاب القبر والقيامة قيامتان: قيامة صغرى. وقيامة كبرى. فالقيامة الصغرى تختلف باختلاف الأفراد، فهي الموت والانتقال إلى الدار الآخرة، وهذه القيامة الصغرى ينقطع بها عمل الإنسان، ويختم على عمله إلا ما استثني من الأمور التي تجري عليه في قبره، كالمرابط في سبيل الله فإنه لا يختم على عمله، وكمن له علم ينتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له، فهذه من الأمور التي لا يختم عليها، لكن ما سواها من العمل يختم عليه، فيكون الإنسان في قبره سجيناً رهين ذنوبه ينتظر الخلاص، والخلاص هو من القيامة الكبرى. وهذه القيامة الصغرى عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فإنه كان إذا أتاه قوم من الأعراب فسألوه متى تقوم الساعة؟ نظر إلى أصغرهم فقال: لا يموت هذا حتى تقوم الساعة)، والمقصود بذلك قيامتهم هم، فكل شخص منهم سيلقى ربه في تلك الفترة، وبذلك تقوم قيامته، وإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته.

فوائد تذكر القيامة الصغرى

فوائد تذكر القيامة الصغرى والقيامة الصغرى يجب على الإنسان أن يفكر فيها وأن لا يغفل عنها، والغفلة عنها علامة على سوء الخاتمة نسأل الله السلامة والعافية. ومن تذكرها رزق أربعاً، ومن غفل عنها حرم هذه الأربع. فأول هذه الأربع التي يرزقها من تذكر الموت: العون على الطاعات والنشاط إليها، فإنه يعلم أنه سيموت ولا يدري متى يموت، فيبادر لأن يكتسب ما استطاع من الخير في هذه الدنيا. ثانياً: قصر الأمل فإن من ذكر الموت قصر أمله ولم يغره الشيطان بالأماني. ثالثاً: أن من ذكر الموت فإن كان في ضيق وسعه عليه، وإن كان في سعة ضيقها، (فما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه، وما ذكره في سعة إلا ضيقها)، كما في الحديث الصحيح. فإن كان في حزن وأسى فذكر الموت فإنه سيخرج بذلك من حزنه لعلمه أن حزنه وأساه منقطع. وكذلك إن كان في فرح وطرب فذكر الموت فإن ذلك سيزول عنه؛ لأن الموت هو هادم اللذات. رابعاً: أنه يقتضي من الإنسان الإقلاع عن الذنب، فكل من غلبته نفسه أو هواه في الإصرار على ذنب من الذنوب فليتذكر الموت، فإذا تذكره استطاع الإقلاع عن ذلك الذنب، مهما كان ذلك الذنب ومهما بلغ من شدة تأثيره عليه.

القبر أول منازل الآخرة

القبر أول منازل الآخرة والموت ليس بفناء محض، لكنه انتقال من حال إلى حال وخروج من دار إلى دار، وبه ينتقل الإنسان من هذه الدار إلى الدار الآخرة، وأول منازلها القبر، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده. فلحظة واحدة في القبر يتبين للإنسان فيها كثير مما لم يكن يخطر له على بال، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فهو أعظم من كل ما قبله، وكل ضيق يدخله الإنسان في هذه الدنيا فالقبر أضيق وأشد منه. وأعظم منه كل ما بعده؛ لأنه أول منزلة من منازل الآخرة، فيهون إذا تذكر ما بعده، وقد جاء في الأثر (ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما، ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة). فالليلة التي يبيت فيها الإنسان مع الموتى ولم يبت معهم قبلها ليلة عظيمة جداً، تنكشف له فيها كثير من الأمور التي لم تكن تحصل له، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها موحشة، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم). وأول ما يلقاه الإنسان في قبره ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، فهي أول مشهد بعد نزع الروح؛ وهناك مشهد قبله، وهو إتيان ملك الموت لينتزع الروح، وسيراه الإنسان عياناً، وفي حال النزع يأتيه الفتان إن لم يكن ممنوعاً من ذلك. فمن الناس من يمنع الفتان كالمرابط في سبيل الله، ومن قتل شهيداً في سبيل الله، وأما من سواهم فيأتيه الفتان فيقول له: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، ويريه صورة أبويه وغير ذلك مما يفتنه، فمن ثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا فسيختم بخير، ولهذا قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].

صفة الموت

صفة الموت يرى الإنسان ملك الموت ويخاطبه عياناً، فإن كانت نفسه طيبة يناديها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]. فتتهوع نفسه من بدنه كما يتهوع الماء من في السقاء، فيتلقاها ملك الموت بلطف، وينتزعها برفق، ولا تمكث في يده طرفة عين، بل يسلمها إلى ملائكة آخرين جالسين مد البصر {بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93]، وهؤلاء وصفهم في الحديث أن وجوههم كالشموع. وإن كانت النفس خبيثة دعاها وأوعدها بما ستخرج إليه من العذاب الأليم نسأل الله السلامة والعافية، فتتفرق النفس بالجسد فينتزعها منه كما ينزع السفود من الصوف المبلول بشدة، وهذه الشدة ليست ما يشاهده الناس من أعراض شدة الموت على المحتضرين، فأعراض شدة الموت التي يراها الناس هي من قوة البدن فقط، وليست هي الشدة الباطنية التي يحس بها المتوفى. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الموت شدة عظيمة، وكان يقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ويدخل يده في الماء ويمسح بها وجهه صلى الله عليه وسلم، فقد اشتد عليه الموت وذلك لقوة بدنه، فهو يوعك كما يوعك الرجلان، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل الأمثل. فالأمور التي نتحدث عنها هنا أمور باطنية لا يطلع عليها الناس، وإنما يحسها المتوفى في نفسه، ولذلك فإن عبد الله بن عمرو بن العاص سأل أباه فقال: يا أبتي! إنك كنت تتمنى أن تجد رجلاً عاقلاً وقد أدركه الموت فيصف لك الموت، وهأنت ذا رجل عاقل قد أدركك الموت فصف لنا ما أنت فيه؟ فقال: كأن غصن شوك يجر داخل عظامي، فيخرج من كل عظم من عظامي، وكأن السماء وضعت على الأرض وجعلت بينهما، وكأني أتنفس من سم إبرة.

مآل أرواح المؤمنين وأرواح الفجار

مآل أرواح المؤمنين وأرواح الفجار ويكون بعد ذلك أن الملائكة مادي أيديهم، فإن كانت النفس مؤمنة رحبوا بها، وجعلوها في كفن من أكفان الجنة وصعدوا بها، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة فيؤذن لها حتى تخر ساجدة تحت العرش ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت فتكون في فناء القبر حتى تبعث. وفي الحديث الآخر (أن أرواح السعداء في حواصل طير خضر في الجنة). والجمع بين الحديثين أن ذلك في حال وهذا في حال، فالرجوع إلى فناء القبر للسؤال، ثم بعد ذلك تصعد الأرواح فتكون في حواصل الطير إلا إن كان أصحابها أحياء في قبورهم فتكون مع أجسادهم، لكنها معية تختلف عن المعية في الحياة الدنيا، فالحياة البرزخية تختلف عن هذه الحياة. وضمة القبر تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، واختلف في الحمائل المذكورة في الحديث فقيل: هي الشواكل وما يجتمع من الشحم على الكلى في البطن. وقيل هي: العروق التي تتصل بالأعضاء التناسلية. وهذه الضمة إعداد لاستقبال كلام الملائكة، كما ضم جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً حتى يستطيع السماع منه.

سؤال منكر ونكير

سؤال منكر ونكير ثم المشهد الذي بعد هذا هو مجيء ملائكة السؤال، وهما منكر ونكير، ويأتيان في صورة مروعة، ويجلسان الميت على ركبتيه فيقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثا، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعناه، فيقولان له: صدقت وبررت، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونورا. وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، فيضربانه بمرزبة معهما من حديد لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن، ثم بعد هذا المشهد عذاب القبر! وهو المشهد الذي بعد السؤال. والمعذبون في القبور أنواع: منهم أهل الكفر، وهؤلاء يعذبون في قبورهم بالعطش وغير ذلك من أنواع الأذى والإهانات، ويرون مواقعهم في النار، نسأل الله السلامة والعافية. ثم بعد هذا عذاب الفساق في قبورهم، وهذا العذاب منه ما يكون على ذنب محدد؛ كما يكون على المشي بالنميمة وعدم اتقاء البول، فهذان الأمران يعذب عليهما في القبر، فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين جديدين فقال: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول)، وفي الحديث الآخر: (تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه). فعذاب القبر سبب من أسباب مغفرة الذنوب ومكفر من مكفراتها، فيعذب الإنسان في قبره العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فإذا بعث يوم القيامة كان قد أخذ ما يستحقه من العقاب ونال بذلك الجنة، نسأل الله أن يغنينا عن ذلك بعفوه ورحمته.

مشاهد يوم القيامة

مشاهد يوم القيامة ثم بعد هذا القيامة الكبرى، وهي يوم يقوم الناس لرب العالمين، وقد وصفها الله وسماها في كتابه بأوصاف مروعة مفزعة، فمنها: الحاقة والواقعة والقارعة والآزفة، وغير ذلك من الأسماء المروعة، وكل هذا يدل على فظاعة الأمر وشناعته. ولا يدرى متى تقوم لأنها لا تأتي إلا بغتة: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187]، ولا يعلم أحد وقت قيامها إلا الله سبحانه وتعالى، في خمس لا يعلمهن إلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].

النفخ في الصور

النفخ في الصور وأول مشاهدها النفخ في الصور، عندما يأذن الله تعالى للملك فينفخ، والملك الآن قد أخذ الصور بفمه، وأصغى ليتاً ورفع ليتاً ينتظر الإذن له، فإذا أذن له نفخ، فإذا نفخ صعق كل الأحياء وماتوا جميعاً من فزع هذه النفخة، وهذه نفخة الفزع، وتسمى أيضاً نفخة الصعق؛ لأن الناس يصعقون بها جميعاً. وقيل: هما نفختان نفخة، أولى للفزع، ونفخة ثانية للصعق، ولكن الراجح أن النفخ إنما يتم مرتين فقط: النفخة الأولى التي يموتون بها، والنفخة الثانية التي يحيون بها ويجتمعون؛ لأن هذا الذي ذكر في القرآن في سورة الزمر، وأما تسميتها بالفزع في سورة النمل فلا يقتضي اختلافاً مع ما ذكر، فقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]، مثل قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87].

تغير الكون والأجرام السماوية

تغير الكون والأجرام السماوية ثم بعد ذلك تشقق السماء وتكون واهية، وينطلق الملائكة ويجتمعون، وتشققها يسمع له صوت مروع مرعب، وتطوى كما يطوى الكتاب، ثم بعد هذا تدحى الأرض وتبسط، حتى لا يبقى فيها شيء مستور، وذلك في الزلزلة العظمى، عندما يتجلى الباري سبحانه وتعالى للأرض، فيدحوها فتتزلزل الزلزلة العظمى، فتلفظ كل ما فيها، وتخرج كل كنوزها، وتبسط حتى لا يبقى فيها مكان مرتفع ولا مكان منخفض. {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5]، وحين تدحى الأرض وتبسط تكون الجبال كالصوف فتذهب في الرياح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:104 - 107] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] فالجبال والشجر والأودية والبحار تزول وتبدل الأرض غير الأرض، وتشقق كما تشققت السماء، ويخرج الناس منها ينادَون: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويجتمعون في الساهرة وهي الأرض البديلة، وهي رقعة دائرية كالكرسفة البيضاء، لم يعص الله عليها قط، يحشر عليها الأولون والآخرون، من لدن آدم إلى نهاية الدنيا، وهذه الرقعة يحيط بها البصر بقدر الله وحوله أجل شأنه.

الإتيان بجهنم تقاد

الإتيان بجهنم تقاد ثم بعد ذلك يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بالساهرة من كل جانب، وتكور الشمس وتدنو من الناس قدر الميل، ويقفون وقوفاً طويلاً وقد حشروا حفاة عراة غرلاً، يزدحمون في ذلك المكان، ويعرقون حتى يذهب عرقهم في الأرض أميالاً، ويرتفع العرق فوق الساهرة، فمن الناس من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه إلجاماً، يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم.

العرض الأكبر على الله

العرض الأكبر على الله ثم بعد هذا يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام، ويأذن في الشفاعة، وقد سبق ذكر مشهد الشفاعة: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] فيأتي العرض الأكبر. يعرضون على الله تعالى لا تخفى منهم خافية، ويعطون صحائفهم، فمن معطى صحيفته بيمينه، ومن معطى صحيفته بشماله من وراء ظهره، فالذي يعطى صحيفته بيمينه تلقاء وجهه يفرح فرحاً عجيباً شديداً، والذي يعطى صحيفته بشماله من وراء ظهره يسود وجهه حتى يكون كالفحم، وتبيض وجوه أهل الإيمان وأهل السنة، وتسود وجوه أهل الكفر وأهل البدعة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60] قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة، وذلك لأن أهل البدعة كذبوا على الله فشرعوا ما لم يأذن به الله ولهذا قال: {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60]. وفي هذا الوقت يبدأ جزاء الحقوق بين الناس حتى لا يبقى من الحقوق إلا حقوق الله وحده، فما من أحد سيطالب أحداً بأية مظلمة إلا سينالها في هذا الوقت، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ويؤتى الإنسان بماله الذي لم يكن يخرج زكاته، فما من صاحب إبل لم يكن يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر يوم القيامة ليس فيها عرجاء ولا عفصاء، ولا يفقد منها كبيرة ولا صغيرة، كلما مر عليه آخرها عاد عليه أولها تطؤه بأخفافها وتنهشه بأسنانها، كذلك صاحب البقر أو الغنم. وكذلك أصحاب الذهب والفضة، فإنها يحمى عليها في نار جهنم، ثم تجذب أشداقهم بالمجاذيب حتى تتسع، فلا يوضع دينار فوق دينار، ولا درهم فوق درهم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35].

المرور على الصراط

المرور على الصراط ثم بعد ذلك يأتي مشهد الظلام الشديد الذي لا يرى فيه شيء، ولا يبقى إلا من أنار الله وجهه وبيضه، ويرزق الله تعالى المؤمنين نوراً، فيسألون الله أن يتم لهم نورهم، فيلتمس أهل الكفر نورهم، ويسألونهم أن ينتظروهم حتى يقتبسوا منهم نوراً، ولكنه يضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ثم بعد هذا ينصب الصراط على متن جهنم، وهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم. وينادي الله تعالى آدم: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذلك: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]. ثم بعد هذا يؤذن لأهل الجنة بدخولها بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق، ويلقون فيها سلاماً، فيسلم عليهم الملائكة وقت دخولهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] ثم يسلم عليهم أرحم الراحمين فيقول: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] وبينما هم في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوقهم، فينظرون فإذا الله سبحانه وتعالى قد تجلى لهم، فينظرون إليه لا يضامون في رؤيته، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه.

ذبح الموت بين الجنة والنار

ذبح الموت بين الجنة والنار ومن تلك المشاهد أنه يؤتى بالموت في صورة كبش أقرن، فيعرض على أهل النار فيقال: أعرفتموه؟! فيقولون: نعم هو الموت، فيشمئزون منه، ثم يعرض على أهل الجنة فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم هو الموت، ويشمئزون منه. فيرجع على مرقد أو مكان مرتفع بين الجنة والنار فيذبح فينادي منادٍ: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. كل هذه المشاهد مما جاء في الآيات وصحت بها الأحاديث، وقد تضمنها قوله: (واليوم الآخر وما قد اشتمل عليه حق). اليوم الآخر مبتدأ، وخبره حق، أي: يجب الإيمان به، فما جاء من ذلك تفصيلاً في النصوص الصحيحة وجب الإيمان به تفصيلاً، لكن لا يجب معرفة جزئياته وأفراده، ولا يحل التعلق بكيفياته، لأن هذا مما لا يدركه العقل، ولا تصل إليه أوهام الناس.

أنواع العرض على الله

أنواع العرض على الله قوله: (وما قد اشتمل عليه من حشر) وهو حشر الناس لرب العالمين، (وعرض لعمل): كذلك العرض على الله سبحانه وتعالى {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. وهذا العرض أنواع: منه العرض العام للناس حين يعرض الله سبحانه وتعالى عن الكفرة فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ويقبل على المؤمنين، فيأتيهم في صورته فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في صورة أخرى فيعرفونه، فيقول: ما الآية بينكم وبين ربكم؟ فيقولون: يكشف لنا عن ساقه، فيكشف لهم عن ساق فيخرون له سجداً، ويحاول المنافقون السجود فلا يستطيعون ذلك: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]. ويخلو الله تعالى بكل عبد من عباده المؤمنين فيقول: أي عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا ربي! وكنت قد نسيته. فيقول: لكنني لم أنسه. وهذا المشهد هو الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14].

نصب الموازين

نصب الموازين قال: (حق كذا الوزن وما به التحقق) كذلك من مشاهد القيامة أن يؤتى بالموازين القسط فيوضع الميزان، وقد اختلف هل هو مفرد أم جمع، لأن الآية جاء فيها: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، والموازين جمع ميزان، فقيل سمي بذلك لضخامته ولأنه في اللحظة الواحدة توزن فيه أعمال الخلائق، وهذا لا تدرك كيفيته، لكنه كفتان ولسان، هذا اللسان اختلف فيه هل هو لسان يتكلم به، أو هو لسان كلسان الميزان الذي يكون بين الكفتين فيعرف به ميلهما واعتدالهما. وعموماً فإن بعض الناس تثقل موازينهم، وبعض الناس تخف موازينهم، أي: موازين الحسنات، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103] نسأل الله السلامة والعافية. وهذا الوزن تجسد له الأعمال أو توزن فيه الصحائف، وهي بحسب قيمتها عند الله سبحانه وتعالى لا بحسب ثقلها المادي المعتبر؛ ولذلك فإنه يؤتى بالعبد يوم القيامة ويؤتى بصحائف سيئاته قد سدت الأفق ويؤتى برقعة قدر الظفر كتب فيها (لا إله إلا الله) فيقول: يا رب وما تغني هذه عن الصحائف، فيقول: إنك لا تظلم شيئاً. فيؤمر بالصحائف فتوضع في كفة السيئات، ويؤمر بلا إله إلا الله فتوضع في كفة الحسنات، فترجح بها لا إله إلا الله فتطيش الصحائف وتتطاير وترجح بها لا إله إلا الله إذا قبلت. ورجحان الأعمال يوم القيامة بحسب قبولها عند الله، ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يجزم فيها بشيء بل يبقى بين الخوف والرجاء؛ لأنه قد يتقبل منه وقد لا يتقبل، ولذلك قال ابن المبارك: لئن علمت أن الله قبل مني حسنة واحدة لأيقنت بدخول الجنة. فينبغي للإنسان أن يحرص على أن يسأل الله قبول العمل، كما كان الأنبياء يفعلون، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]. قوله: (وما به التحق)، أي: ما التحق بالوزن من إعطاء الكتب بالأيمان وبالشمائل من وراء الظهور ونحو ذلك.

وجوب الإيمان بالجنة والنار

وجوب الإيمان بالجنة والنار قوله: (والنار حق وكذا الجنة حق)، أي: مما يجب الإيمان به مما يتعلق بيوم القيامة الجنة والنار، وهما مخلوقتان اليوم، ومبقيتان لا تفنيان أبداً.

أبواب الجنة والنار

أبواب الجنة والنار فالجنة درجات متفاوته، وهي جنان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أم حارثة: (أوجنة هي؟ إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها تحت عرش الرحمن)، وكذلك النار دركات نسأل الله السلامة والعافية، ولها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، والجنة لها ثمانية أبواب. وأبواب الجنة موزعة بحسب الأعمال الصالحة، فمنها باب الجهاد وباب الصلاة وباب الصدقة، وباب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وحين حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث قال له أبو بكر: (يا رسول الله! ما على من دعي من جميع هذه الأبواب من بأس؟ فقال: نعم، وإني لأرجو أن تكون منهم) فـ أبو بكر لم يرض أن يدعى من باب واحد أو بابين أو ثلاثة، بل كانت همته عالية، فما رضي إلا أن يدعى من جميع أبواب الجنة. وكذلك أبواب النار هي الأعمال السيئة، كالشرك والقتل وعقوق الأمهات والزنا وشرب الخمر وغير ذلك من الفواحش، ولهذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في آخر هذه الأمة دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فأبواب جهنم هي كبائر الإثم والفواحش، وهناك قوم يدعون إلى هذه ويروجون لها ويسعون لانتشارها بين الناس، فمن أجابهم إليها أدخلوه من هذا الباب، وهذه الأبواب مفتحة وعليها ستور، وعليها مناد يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه، فلذلك تستدرج من دخلها، نسأل الله السلامة والعافية. يجب الإيمان بالجنة والنار؛ لأنه من المعلوم بالدين بالضرورة بخلاف كثير من المشاهد الأخرى من مشاهد القيامة، فلا يقبل من أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينكر وجود الجنة أو وجود النار، أو يجهل ذلك، فهذا مما لا يمكن جهله من الدين، لكن لا يجب الإيمان بتفاصيل ما فيهما ولا عدد أبوابههما، ولا درجات ذلك، إنما يجب ذلك على أهل فروض الكفايات فقط.

وصف الجنة والنار

وصف الجنة والنار والجنة هي الدار التي أعدها الله للنعيم، وجعلها مستقر رحمته، وأعدها لجزاء أوليائه، والنار هي الدار التي أعدها الله لعذاب أعدائه وجعلها محل سخطه وبلائه، فالنار محل سخط الله، والجنة محل رضوان الله ورحمته، وكلتاهما متسعة جداً، فالجنة عرضها السماوات والأرض، والنار كذلك، فمقعد الكافر منها كما بين المدينة ومكة، وضرس الكافر فيها كجبل أحد، وأقدامهم بالكبول السوداء كالجبال السود، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلى المؤمن الذي يريد تزكية نفسه وتربيتها، أن يستكشف ما جاء من النصوص في شأن الجنة والنار ووصفهما؛ لأن ذلك يقتضي منه الإقبال على الله سبحانه وتعالى والسعي لدخول الجنة والهرب من النار، فمن لا يعرف الشيء لا يقدره حق قدره؛ ولهذا كان الخطباء من قديم الزمان يعتنون بوصف الجنة والنار، وبما جاء فيهما وبجمع الأحاديث والآيات بذلك، وألف كثير من العلماء في هذا. فالذي يعرف وصف الجنة وما فيها لا يمكن أن تستزله شهوات الدنيا وملذاتها الفانية؛ لأنه يعلم أنها مقابلة لتلك، مضادة لها، والذي يعلم ما في النار من أصناف العذاب لا يستطيع الجراءة على الله تعالى ومحادته؛ ولذلك ما رأيت كالجنة نام طالبها ولا كالنار نام هاربها. وأبلغ وصف للجنة هو قول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، فلا تصل العقول إلى وصف ما فيها، ولا يمكن أن تبلغ ذلك الألسنة، ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وكل ما فيها مما جاء وصفه في الأحاديث، يأتي بأشياء لا تخطر على قلوب الناس وعقولهم، مع أنه ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، لكن إذا نظرت إلى وصفها في القرآن أو في السنة: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15]. وكذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة في وصف الحور العين، وفي وصف بناء الجنة وفرشها وما فيها، وأنواع الثمرات التي فيها، وأن اللذة التي يلتذها الإنسان فيها تبقى دائماً لا تنقطع، حتى لو أردفت بآلاف الملذات، فنفس اللذة تبقى، وهذا من أعجب ما فيها. كذلك أوصاف النار المزعة، ومن أبلغها قول الله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:12 - 14]، وكذلك قول الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذاب} [النساء:56]، فإن الوحدات الزمنية التي نعرفها اليوم لا يمكن أن يقاس بها ما هنالك، ففي كل وحدة من وحدات الزمن الأخروي تتغير جلودهم ويكسون جلوداً جديدة، ولذلك فإن الذين مكثوا فيها مدة يسيرة وأخرجوا منها يلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا، ولو أن قطرة واحدة من زقومها قطرت في بحار الأرض لخبثت كل ما في الدنيا وبشعته من نتن رائحتها.

دخول الجنة برحمة الله لا بالأعمال

دخول الجنة برحمة الله لا بالأعمال وأما الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حين لقي إبراهيم في السماء السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، قال له: أبلغ أمتك أن الجنة إنما هي قيعان وغراسها التكبير والتسبيح والتهليل)، فليس على حقيقته، وما يفهمه الناس منه من أنها مجرد قيعان، والإنسان يغرس فيها بعمله فقط، وكلما ازداد عملاً ازداد ما ينبت له في الجنة غلط، لأن الجنة لا يدخلها الإنسان بجزاء عمله، بل لا يدخلها إلا بعفو الله وفضله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحداً منكم لن يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). والمقصود بذلك أن الجنة لا يمكن أن يقاومها شيء من عمل الإنسان، فعمل الإنسان نعم ينعم الله بها عليه ويوفقه لها، وهذه النعم لا يمكن أن يقابلها بشكر؛ ولذلك روي أن عابداً من بني إسرائيل عاش زمناً طويلاً يعبد الله تعالى، فجيء به بعد موته فقال الله تعالى لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة بعفوي وفضلي، فقال: يا رب بعملي، فعاد حتى قالها ثلاثاً، فقال الله لملائكته: زنوا نعمتي على عبدى وعمله، فأخذوا نعمة واحدة وهي نعمة البصر، فوزنوها بعمله فإذا هو لو عاش خمسين ألف سنة في عبادته لما بلغت مقابل نعمة البصر، ولم يأخذوا نعمة الإيمان ولا نعمة الخلق أصلاً، وغيرها من النعم، فقال: يا رب أدخلني الجنة برحمتك وعفوك، فأدخله برحمته وعفوه. لكن حديث إبراهيم هذا يدل على الحث على الزيادة من الأعمال وأن درجة الإنسان في الجنة بقدر عمله، ولذلك يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)، فزيادة الأعمال تزيد الدرجات في الجنة وتزيد الإنسان قرباً ورؤية لله سبحانه وتعالى. فالنار والجنة باقيتان خالدتان لا ينقطع شيء مما فيهما، ولا يزول شيء مما فيهما البتة، وما ذكر عن بعض العلماء أن النار سيأتي يوم تفنى فيه، فهذا لا يوافق عليه، بل هو مخالف لكثير من الآيات والأحاديث الدالة على خلودها وبقائها. وأما قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:106 - 108] فالمقصود بقوله: (إلا ما شاء ربك) التبرك والتمدح، فهذا ثناء على الله سبحانه وتعالى وأنه يخرج من النار أقواماً بعد أن دخلوها بمعاصيهم، فيخرجون منها بإيمانهم كما سبق ذلك في الشفاعة، لكن الجنة من دخلها لا يخرج منها أبداً. والنار كذلك لا تفنى، بل قد ذكر الله تعالى استمرار عذابها وتخليد عذابها نسأل الله السلامة والعافية.

أدلة وجوب الإيمان بعذاب القبر

أدلة وجوب الإيمان بعذاب القبر هنا أضفت بيتاً ذكرت فيه بعض الأمور المتعلقة بيوم القيامة. مما يجب الإيمان به أيضاً وجاءت به النصوص ولم يذكره الشيخ هنا وإن كان أجمله فيما سبق وذكره في الخاتمة، فقلت: [حق عذاب القبر والأشراط والبعث بعد الموت والصراط] أي أن عذاب القبر مما يجب الإيمان به؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلنه للناس على المنبر وتواتر عنه ذكره، (وقد كانت عائشة رضي الله عنها لا تعلم به حتى أتاها عجوزان من اليهود، فلما قامتا استعاذتا بالله من عذاب القبر، قالت عائشة: فأنكرت عليهما ولم أنعم أن أصدقهما، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: نعم أعوذ بالله من عذاب القبر)، فبين لها أن عذاب القبر حاصل. وقد اختلف فيه هل هو يشمل المؤمنين من العصاة والكفار، أو هو مختص بالمرتابين والمرتدين، لأن ظاهر حديث أسماء في سؤال الملكين، في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالكسوف، أن المنافق والمرتاب هو الذي يجيب الملائكة بهاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ويضربانه بمرزبة. لكن الجواب عن هذا أنه لا ترابط بين فتنة القبر وبين عذاب القبر، فعذاب القبر يحصل حتى من دون فتنة، ومذهب جمهور العلماء أن الذين ماتوا على الكفر لا يسألون في قبورهم، وإنما يعذبون فيها، ولهذا ففتنة القبر مختلف فيها هل هي من خصائص هذه الأمة؛ لأن الذي يسأل عنه في القبر هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يرد مثل ذلك في الأمم السابقة، ولذلك قالت طائفة: هي من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وأما عذاب القبر فإنه في الأمم السابقة، ولهذا قال الله تعالى في عذاب آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، أي في قبورهم، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، وكذلك قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21]، فالعذاب الأدنى هو عذاب القبر والعذاب الأكبر هو عذاب النار، نسأل الله السلامة والعافية. وقد ثبت تعذيب أصحاب القليب الذين قتلوا يوم بدر على الكفر في قبورهم، وكذلك تعذيب اليهود الذين ذبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني قريظة، فقد صح أنه كان ليلة في ملأ من أصحابه فسمعوا أصواتاً مروعة، فقال: (تلك يهود تعذب في قبورها)، وقد خرج ابن عمر في سفر بين مكة والمدينة، فمر ببدر وحده في السفر ذات ليلة، فخرج إليه رجل من قبره فقال: يا عبد الله اسقني، فتبعه ملك فجره بعنف وقال يا عبد الله لا تسقه، فأصيب ابن عمر بحمى شديدة، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوحدة في السفر بعد ذلك. وعذاب القبر لا شك أنه متفاوت، فالذين يمنعون الزكاة يعذبون بشجاع أقرع في قبورهم، ومن الناس من يعذب بالحيات والتنانين، ومنهم من يعذب بنتن الرائحة، ومنهم من يعذب بالعطش وغير ذلك. وهذا العذاب من أغرب ما فيه أنه في القبر الواحد تختلط عظام من هو في غاية النعيم ومن هو في غاية العذاب، فلا هذا يصل إليه شيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس بشيء من عذاب هذا.

ذكر الأشراط الكبرى الساعة

ذكر الأشراط الكبرى الساعة كذلك مما يجب الإيمان به مما يتعلق بيوم القيامة الأشراط، والأشراط جمع شرط، والشرط العلامة، والمقصود بذلك علامات الساعة، وهي تنقسم إلى قسمين على الراجح، وبعض العلماء يقسمها إلى ثلاثة أقسام: علامات صغرى وعلامات كبرى وعلامات وسطى.

طلوع الشمس من مغربها وفتنة الدجال

طلوع الشمس من مغربها وفتنة الدجال فالعلامات الكبرى هي التي تقترب من الساعة جداً، ومن أعظمها طلوع الشمس من مغربها، حيث تخرج من باب التوبة فيغلق، وذلك بعد ثلاث ليال لا يؤذن لها بالطلوع، ثم تطلع من مغربها، وكذلك خروج الدجال الذي هو أعظم فتنة في الدنيا، فما بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال، وهو يخرج بين الشام والعراق، فيعيث يميناً وشمالاً ويمكث في هذه الأرض أربعين يوماً يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، ومعه فتنة عظيمة، فيمر على أهل البلد فيصدقونه وهم مفلسون مقحطون فيأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ويمر على القرية الخاوية فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. ويمر على أهل البلد فيكذبونه فيأمر السماء فتمسك ويأمر الأرض فتقحط، فتروح عليهم مواشيهم، لا تغض بلبن، وكذلك فإنه يقاتله الناس فيهزم كثيراً منهم ويتغلب عليهم، ولا يدخل مكة ولا المدينة، فعلى أنقابها ملائكة تحرسها، وتنزل مسالحه -أي جنوده- بالسباخ التي حول المدينة، ويصعد هو على جبل من جبالها، فيرى المسجد فيقول ذلك القصر الأبيض قصر محمد. ثم يخرج إليه رجل من خير أهل الأرض، ويقول له: والله إنك للمسيح الدجال الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذبحه ويقسمه نصفين، فيمشي بينهما ثم يناديه، فيقوم فيقول: والله ما ازددت فيك إلا يقيناً، فيريد أن يذبحه فيجعل الله ما بين ذقنه وترقوته نحاساً فلا يسلط عليه. والدجال كثرت فيه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يذكره في كل خطبة، وقد ورد في بعض الأحاديث أن من علامات خروجه أن يغفل الأئمة عن ذكره على المنابر، إذا نسي الأئمة ذكره على المنابر فهذا دليل على اقتراب خروجه، وهو موجود اليوم محبوس في جزيرة في البحر، وقد مر به تميم الداري في الحديث الذي أخرجه مسلم في الصحيح، وهذا الحديث له ميزة عند المحدثين، وهو الحديث الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحابي من أصحابه، ولا يوجد رواية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحابي إلا هذا الحديث. ويقتله المسيح عيسى بن مريم، ونزول المسيح شرط آخر من أشراط الساعة الكبرى، فإن المسيح قد رفعه الله إليه حين أراد اليهود قتله وصلبه، وسينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق في وقت صلاة الفجر وهو بين ملكين، وكأنما خرج من باب ديماس إذا طأطأ رأسه سال منه جمان وإذا رفعه تحدر، فيدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، وإمامكم منكم، فيقول: يا نبي الله تقدم فصل، فيقول: ما أقيمت لي، ويصلي مأموماًَ، ولا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا مات في حينه، ونفسه يبلغ قدر ما يبلغ بصره. ويقاتل المسيح الدجال ويدركه بباب لد فيقتله، وقد قيل في هيئة قتله له أنه يذوب كما يذوب الملح في الماء إذا رآه. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم المسيح الدجال بوصفين عظيمين لم يصفه بهما أحد من الأنبياء السابقين: الوصف الأول: أنه مكتوب بين عينيه (ك ف ر)، أي: كفر أو كافر، يراها أهل الإيمان. الوصف الثاني: أن كلتا عينيه عوراء، بمعنى معيبة، فاليمنى عوراء كأنها عنبة طافية، أي خارجة من محلها، ولكنها ترى، فهي قبيحة لكنها ترى، واليسرى كأنها عنبة طافئة، أي مشقوقة داخلة في محلها ولا ترى، وهذا الفرق بين: (كأنها عنبة طافئة)، وبين: (كأنها عنبة طافية)، فالطافية التي تطفو فوق الماء، وهذا إذا صار العنب فاسداً، وتغير لونه فإنه إذا وضع في الماء ارتفع فوقه، والأخرى كأنها عنبة طافئة أي قد انطفأت وخرقت وذهب ضوءها.

خروج الدابة ورفع القرآن والخسوف المتزامنة من العلامات الكبرى

خروج الدابة ورفع القرآن والخسوف المتزامنة من العلامات الكبرى وكذلك من هذه الأشراط الدابة التي تخرج من مكة، من صدع خلف الصفا، فتمر بشعب أجياد فتدخل على الناس من أشد المسجدين حرمة، لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، {تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]. وكذلك من هذه الأشراط الكبرى، رفع القرآن فيسرى عليه من المصاحف والقلوب ويمحى، {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء:86]. وكذلك من هذه الأشراط الكبرى نار تخرج من عدن تسوق الناس إلى جهة الشام تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا. كذلك من هذه الأشراط الكبرى، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب في وقت واحد.

خروج يأجوج ومأجوج وخروج المهدي من العلامات الكبرى

خروج يأجوج ومأجوج وخروج المهدي من العلامات الكبرى وكذلك من هذه الأشراط الكبرى بعد نزول المسيح عيسى بن مريم وقتله للدجال خروج يأجوج ومأجوج، وهم خلق من خلق الله، فيهم كثرة عجيبة، وبطش وأذى يحصرون أهل الإيمان ولا قبل لأحد بقتالهم، فيجأرون إلى الله تعالى فيرسل عليهم دوداً يهلكهم، لكن تمتلئ الأرض بجيفهم ونتنهم وزهومتهم، فيضجون إلى الله من ذلك فيرسل سيلاً يذهب بجثثهم وينقي الأرض بعدهم، ثم توضع في الأرض بركة عظيمة جداً. وكذلك من هذه الأشراط، الدخان الذي يعم الأرض، فيظن الناس أن حريقاً هائلاً قد وقع، وإنما هو شرط من أشراط الساعة، وعلامة من علاماتها. وكذلك من هذه الأشراط خروج المهدي من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، يوافق اسمه اسمه واسم أبيه اسم أبيه، يخرج عند موت خليفة يصلحه الله في ليلة، فيدعوه الناس للبيعة في المدينة فيفر منهم إلى مكة فيتبعونه فيبايعونه بين الركن والمقام، ويملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً، ويحكم بالناس سبع سنين. والظاهر أنه قبل قيام المهدي ستكون خلافة إسلامية طويلة الله أعلم بمدتها، لكنها على الأقل مثل الخلافة السابقة، لأنه شبهها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث حذيفة الذي أخرجه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضَّاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) ثم سكت، وفي حديث المهدي: (أن خروجه عند موت خليفة)، وكذلك في حديث نزول عيسى: (أنه ينزل وإمامكم منكم)، هذه هي العلامات الكبرى.

ذكر العلامات الصغرى للساعة

ذكر العلامات الصغرى للساعة أما العلامات الصغرى، فمنها: (أن تلد الأمة ربتها)، وفي رواية: (أن تلد الأمة ربها)، وفي رواية: (أن تلد الأمة بعلها)، كل هذه روايات صحيحة. والمقصود بها: كثرة العقوق؛ وكذلك اتخاذ أمهات الأولاد وانتشار ذلك، وكذلك تفكك الروابط الاجتماعية المؤلفة بين الناس. ومنها: (أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، أو: (أن يكونوا سادة الناس)، كل ذلك من الروايات الصحيحة. وكذلك رفع الأمانة، وأن يوسد الأمر إلى غير أهله، وكذلك رفع العلم، وأن يكثر الجهل. وكذلك أن يكثر النساء، ويقلّ الرجال حتى يكون خمسون امرأة للرجل الواحد، وكذلك من هذه العلامات تقارب الزمان: (حتى تكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السَّعفة). وكذلك بسط الدنيا، وفتح أبوابها على الناس؛ وأن يحسر الفرات عن كنز من ذهب، يقتتل الناس عليه قتالاً شديداً؛ وكذلك النار التي تخرج من المدينة فتضيء لها أعناق الإبل ببُصرى، وقد خرجت؛ ففي القرن السابع الهجري ثار بركان المدينة الذي من الحرة الشرقية. وكذلك الفتن التي حصلت في هذه الأمة وتحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك فتوحات البلدان، وكذلك قوله لـ حذيفة في تبوك: (لئن طالت بك حياة لترين ما هاهنا قد ملئ جناناً)، وذلك قوله: (إن جزيرة العرب ستعود أنهاراً ومروجاً)، وغير هذا من الأشراط الصغرى التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعض الناس يعد أشراطاً وسطى، مثل: النار التي تخرج من المدينة، والجيش الذي يخسف بأوله وآخره، فهم يعدون هذه من الوسطى، لا من الأشراط الكبرى ولا الصغرى، ومنها: فتح رومية وخراب المدينة، وفتح بيت المقدس في آخر الزمان، لكن يبدو أن هذه الأخيرة متسلسلة تأتي مع الأشراط الكبرى؛ لأنه جاء في الحديث أن يكون ما بين فتح رومية وقرب الدجال أقل في شهرين، وخراب المدينة إنما يكون بتركها: (لتتركن المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي، حتى يأتي ذئب أبيض فيدخل المسجد لا يرده أحد، حتى يغدو على المنبر، فيبول عليه)، وإنما يكون ذلك -في ظاهر الحديث- فيما يقتضي موتاً ولا يفسد بناءً، ونحن نفهم اليوم نظير هذا من القنابل التي لا تهدم البيوت، ولكنها تقتل كالغازات السامة وغير ذلك؛ لأنه: إذا كان آخر يدخلها راعيان من مزينة ينعقان بغنميهما، حتى إذا بلغا ثنية الوداع انكبا على وجوههما.

وجوب الإيمان بالبعث وذكر بعض أدلته

وجوب الإيمان بالبعث وذكر بعض أدلته ومما يجب الإيمان به البعث بعد الموت، وقد جاء فيه سبعمائة وسبع وستون آية من القرآن، وذكر الله سبحانه وتعالى كثيراً من أدلته العجيبة في كتابه، ومنها ما في خواتيم سورة يس، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77]، فهذا إخراج الشيء من ضده، فهذا الإنسان القوي المتماسك، خلق من هذه النطفة التي هي أمشاج مستقذرة: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77]. {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، هذا البعث بعد الموت: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، هذا الدليل الثاني، وهو الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، كما جاء أيضاً في سورة الواقعة. وقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79]، هذا الاستدلال بعلم الله تعالى الذي لا يفوته شيء، فهو قادر على إعادة الذرات، وما هو أقل منها على هيئاتها {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79]. ثم استدل بتمام قدرته، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:80]، وهذا خلق الشيء من ضده تماماً: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80]. وقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [يس:81] في هذه الآية الاستدلال بالخلق الأكبر على الخلق الأصغر: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81]، (بلى) هذا قسم أيضاً، وهو نوع آخر من أدلة البعث، يقسم الله عليه؛ لقوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53]، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] معناه: لتبعثن. وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81]؛ كذلك إثبات صفات التأثير لله سبحانه وتعالى، دليل من أدلة البعث بعد الموت؛ لأنه أخبر عن ذلك، وهو قادر عليه متى شاء فعله. وقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فيها أن من تمام قدرته أنه يفعل ما يشاء، ولا يصيبه لغوب ولا تعب، ولا تأخذه سنة ولا نوم، بل (إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون) ولا يمكن أن يتأخر ولا أن يتقدم؛ لهذا قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:82 - 83]، ختم هذه الآيات بالبعث لقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83]. وهذا البعث بعد الموت للبشر قطعاً، وللجن أيضاً؛ لأن الله أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرائع فهم مجزيون عليها لا محالة، والبعث كذلك للبهائم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وقت الجزاء الأخروي: (حتى يقتص للشاة الجمَّاء من الشاة القرناء)، ولكن اختلف في البهائم بعد ذلك ما مصيرها، فقيل: تعود كما كانت تراباً، والأرض كلها تكون خبزة يتكفؤها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته نزلاً لأهل الجنة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه حدثهم بذلك، فدخل عليه حبر من اليهود فقال: (بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، أما علمت أن الأرض تكون يوم القيامة خبزة يتكفؤها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته، نزلاً لأهل الجنة، فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتسم)، عجب من تصديق الحبر له، هذا حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين، فقال: (أتدرون ما إدامها؟ إدامها بالام ونون، فقيل: ما هذا؟ فقال: ثور وسمك -أي: ثور وحوت- يشبع من زيادة كبده سبعون ألفاً)، زيادة الكبد فقط يشبع منها سبعون ألفاً، وهذا تفسير: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وفي تفسير آخر: أن ذلك في الدنيا، حيث يجعل الله العاقبة للمتقين، ويمكن لهم في الأرض دائماً، ويهلك عدوه. كذلك مما يجب الإيمان به الصراط، الذي هو الجسر الذي ينصب على متن جهنم: والرب لا يعجزه إمشاؤهم عليه إذ لم يعيه إنشاؤهم أي: فكما أنشأهم لا يعجزه إمشاؤهم على الصراط، وقد ذكرنا تفاوت مرور الناس وعبورهم عليه.

مراتب القدر

مراتب القدر [والكتب للأشياء في الذكر سبق من قبل أن تخلق فهو المنطلق] أي: أن كل ما هو كائن، فقد سبقت كتابته في علم الله، وهذه مرتبة من مراتب القدر وقد ذكرناها، والقدر أربع مراتب: المرتبة الأولى: علم الله السابق بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً. والثانية: كتابة كل ذلك في أم الكتاب من صحفه التي عنده، وهذا هو المقصود هنا في قول الناظم: (والكتب للأشياء في الذكر سبق)، فيكتبها الله سبحانه وتعالى، كما في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، وكذلك قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، وهذا الكتاب المبين هو الذي يكتب الله فيه؛ ولذلك قال: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. والكتب للأشياء كلها ما هو كائن منها، وما أمدُ حياته وتعميره، وما يطرأ عليه من العوارض والآفات وغير ذلك، كل ذلك مكتوب عنده: (رفعت الأقلام وجفت الصحف). قوله: (من قبل أن تخلق)، أي: تلك الكتابة سابقة على الخلق طبعاً، (فهو المنطلق)، أي: ذلك الكتاب هو المنطلق الذي لا يخالفه شيء ولا يتم شيء إلا على وفقه، فلا يحصل حركة ولا سكون ولا غير ذلك، إلا على وفق الكتاب السابق، فمنه تنطلق الخلائق كلها، قال الشيخ حفظه الله: وكل ذا في الذكر جا أو في الخبر والآن أبتدئ نظم المختصر قوله: (كل ذا) أي: كل ما ذكرناه من عقائد أهل السنة والجماعة في هذا النظم، (في الذكر) أي: في القرآن (جاء) صريحاً (أو في الخبر) أي: الأحاديث الصحيحة، كما سبق بيانه، فليس من ذلك شيء من اجتهادات الناس ولا من أقوالهم، ولا من عقائد الفرق الضالة، ولا من اجتهادات الذين يتكلفون ويتعنَّون؛ بل كله إما صريح في القرآن، وإما صحيح في السنة؛ ولهذا قال: (وكل ذا في الذكر جا) أي: في القرآن، أو (في الخبر) أي: في الحديث. (والآن أبتدئ نظم المختصر) أي: أن هذا مقدمة لنظمه، الذي ينظم فيه مختصر خليل، وقد أضاف عليه كثيراً مما ليس فيه. نسأل الله أن يختم بالصالحات أعمالنا، وأن يختم بالحسنات آجالنا، وأن يجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

عقوق الأمهات

عقوق الأمهات Q أيهما أعظم عقوق الأب أم عقوق الأم؟ A بالنسبة لعقوق الأمهات ورد التحذير منه بالخصوص في أحاديث كثيرة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح: (إن ربكم حرم عليكم: وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وعند عدِّه للكبائر ذكر عقوق الأمهات، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر حقوق الوالدين عموماً، في قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، وفي قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وفي قوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8] إلخ. فمن باب ذكر عقوق الأمهات بالخصوص، لا شك أنه أشنع من عقوق الآباء، لكن الجميع سيئ؛ نسأل الله السلامة والعافية. وعاقو الوالدين هم من الذين جاء فيهم الوعيد أنهم لا يدخلون الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والذي يمشي بالنميمة، والمنان -الذي يمنّ على الناس-).

النار التي تضيء لها أعناق الإبل ببصرى

النار التي تضيء لها أعناق الإبل ببصرى Q وماذا عن النار التي تضيء لها أعناق الإبل ببصرى؟! A صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن ناراً تخرج من المدينة تضيء لها أعناق الإبل بِبُصرى)، وقد حصل ذلك، فخرج بركان هائل جدّاً من الحرة الشرقية، وكان يسيل كالوادي إلى جهة الشمال، حتى رأى الناس أعناق الإبل تضيء ببصرى، ومكث هذا الحريق ستة أشهر، وذلك في (سنة 654هـ)، قبل سقوط بغداد بقليل.

الملاحم والفتن التي تقع آخر الزمان

الملاحم والفتن التي تقع آخر الزمان Q نرجو منكم الكلام على خروج المهدي وما يقع في آخر الزمان من الفتن والملاحم، وكيف نوفق بين خروج المهدي إثر خليفة يقتل، وأنه يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً؟ A بالنسبة لذكر الجور عند خروج المهدي، قال: (أن يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً)، ولكن لا يقتضي ذلك أن تكون في نفس الوقت قد ملئت جوراً. ويناسب ملؤها جوراً عند موت خليفة؛ لأنه إذا مات ولم يقم مقامه أحد فسد النظام، وكثر الظلم، فلا ينافي ذلك أن يكون الخليفة عادلاً، ثم يقع الجور بعد موته، وإذا حصل خليفة، فلا تقتضي خلافته أن يكون حاكماً على الأرض كلها، فقوله: (أن يملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً)، لا يقصد بها كل الأرض، وإنما يقصد بها الأرض التي هو عليها.

أسماء أبواب الجنة

أسماء أبواب الجنة Q هل ورد ذكر بقية أبواب الجنة بالاسم؟ A ما يتعلق بأبواب الجنة لم يرد بالتفصيل في أسمائها إلا ما ذكر منها فقط، ولكن يقاس عليها غيرها، فعظام الأعمال الصالحة وجسام أعمال الخير، هي أبواب الجنة، وكذلك كبائر الإثم والفواحش هي أبواب النار، ولا يمنع أن يسمى الباب الواحد بعدة من الأعمال، مثل باب واحد من أبواب النار.

آليات قتال الدجال

آليات قتال الدجال Q هل ورد تحديد آلية قتل المسيح الدجال ومركوبه ونحو ذلك؟ A وأما ما يتعلق بالمسيح الدجال وقتاله فلم ترد نصوص في تحديد آلية القتال إذ ذاك، وحتى آليات السفر والاتصال، بل جاء أن دابته لا يعرف قبلها من دبرها، وأنها سريعة في مشيها جداً تقطع المسافات الشاسعة في الوقت اليسير، ولو ورد شيء في تفاصيل أنواع الأسلحة وذكر فيها أسماء السيوف أو نحو ذلك، فيكون ذلك من باب التقريب حيث يذكر للناس بما يفهمون، ولا يمكن أن يحدثوا بما لا يفهمون إذ ذاك، لكن لا ينافي هذا أن يكون ذلك تعبيراً عن أسلحة أخرى، هذه أمور لا يبحث فيها تفصيلاً، وهي من الكيفيات المجهولة، ولكن لا يقال: إن المسيح الدجال ما زال متأخراً؛ لأن الأسلحة موجودة، وأن ما سيقاتل به نوع آخر، بل من الآيات ما يشعر أن هذا الزمان سيتقلب عما كانوا عليه، واقرأ قول الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] أي: اعتُبرت كرة، أو اعتبرها الناس كذلك، أو اكتشف الأمر. وقد أخذ من هذا بعض المفسرين أنه إذا اطلع على بعض نواميس الكون ككروية الأرض، ونحو هذا، فيدخل ذلك في هذا. {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2] أي: تساقطت. وقد حصل كثير من هذا، ووصل إلى بعض المجرات، وعرف حتى بعض الكواكب وتفاصيل ما فيه. وقول الله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3]، واليوم تسير الجبال! وتزاح من أمكنتها، ويبنى في أماكنها، وكذلك: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] جمعها والتلهي بذلك، وهذا قد أصبح موجوداً اليوم في حدائق الحيوانات وغيرها! وكذلك تعطيل العشار: فلا تركب؛ فقد جاء في الحديث أنها تعطل فلا تركب، وهذا الواقع اليوم، فلم تعد تركب لقطع المسافات، لكن عموماً لا يقتضي هذا أن نبحث في الكيفيات والهيئات، لكن الآيات والأحاديث التي ترشد إلى بعض هذا لا تقتضي بعد خروج المسيح الدجال، وليس للإنسان أن يطيل الأمل، وأن يذكر أن الدنيا ما زالت منها بقية بسبب أنه يفهم من بعض النصوص تعطيل بعض ما يراه من الواقع، بل أمْر الله تعالى إذا شاء كان في لمح البصر؛ ولذلك فنحن نشاهد في أعمارنا أشياء كانت مستغربة جداً، قبل سنوات قليلة، فمن الذي يتصور مثل هاتف (الجوال)! وأحداث كثيرة تحصل في السنة الواحدة، وما كانت في الأزمنة الماضية تحصل خلال عقد كامل من الزمن، ونحن قد شاهدنا هذا في زماننا. ومن تقارب الزمان: تيسر الاتصالات والنقل وغير ذلك.

قتال اليهود آخر الزمان

قتال اليهود آخر الزمان Q ماذا عن قتال المسلمين لليهود هل هو قبل الدجال أو بعده؟ A أما عن قتال المسلمين لليهود فسيكون بالشام عندما يكون الشام مهاجَر المسلمين، سيكون فيه خِيرة أهل الأرض يجتمعون فيه في مهاجر أبيهم إبراهيم ويقاتلون اليهود، والله أعلم هل سيكون ذلك بعد خروج المسيح الدجال -وهذا الذي يشهد له بعض الأحاديث- أو قبله؟! لكن القتال الذي يقضى فيه على اليهود جاء فيه: (حتى لا يبقى منهم أحد، حتى يقول الشجر والمدر: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله)، يبدو أنه لن يكون إلا بعد قتل عيسى للمسيح الدجال. وسيكون المسلمون شرقي نهر الأردن، واليهود غربيه كالحال اليوم، واللد الذي سيقتل فيه المسيح بن مريم المسيح الدجال، سمي به اليوم مطار تل أبيب، فهو في رملة اللد ويسمى اليوم مطار اللد. وكذلك فإن شجر (الغرقد) قد بدأ اليهود زراعته وتعميمه في أكثر بلدان العالم؛ لأنهم يزعمون أن الناس إذا ظهر المسيح يدعوهم فيكثر اليهود، فأصبحوا يزرعونه في كل مكان من العالم؛ وكذلك سيكون فتح بيت المقدس عند خراب المدينة، فيبدو أنهم سيكونون سبباً في خراب المدينة ثم يفتح بيت المقدس، وإذا قضي على اليهود فسيكتمل الفتح حتى تفتح رومية، على ظاهر الأحاديث. وأما كون رومية تفتح، فيخرج الدجال بعد ذلك بشهرين، فيبدو أنه فتح غير الفتح النهائي الأخير الذي تؤخذ فيه كنوزها، وقد جاءت أحاديث في هيئات فتحها، فبعض الأحاديث يذكر فيها القسطنطينية، وبعضها يذكر فيها رومية، لكن كل واحدة منهما تسمى باسم الأخرى، فالقسطنطينية تطلق على مدينة (هرقل) التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تفتح أولاً وهي: إستانبول، وعلى روما فإنها تسمى القسطنطينية أيضاً وتسمى رومية، أي: لا تعارض بين هذه الأحاديث؛ لأنه قد ملكها ملك يسمى القسطنطين قديماً، وسميت باسمه.

هدم الكعبة آخر الزمان

هدم الكعبة آخر الزمان Q ماذا عن هدم الكعبة آخر الزمان؟ A أما ما يتعلق بهدم الكعبة المشرفة؛ وكذلك خروج الرجل الذي اسمه (جهجاه) يسوق الناس بعصاه؛ وكذلك غنائم كلب ونحو ذلك فكلها متعلقة بتلك الفتن والملاحم التي تكون في آخر الزمان، فهي فتن وملاحم عظيمة جداً، ويبدو أن أكثرها ما بين الشام والعراق، والحجاز، فهي في هذه المنطقة بالخصوص، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في الصحيح: (يوشك أن لا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قيل: من أين ذاك، قال من قبل الروم يمنعونه قفيزه ودرهمه فلا يجبى إليه قفيز ولا درهم)، حصار يضرب على المسلمين في العراق، فلا يجبى إليهم قفيز ولا درهم. والقفيز: مكيال، ويمكن أن يعبر عنه اليوم بنحو البرميل أو غير ذلك، وكذلك الفتن التي تطلع من قبل العراق، ومنها: أن الفرات سيحسر عن كنز من ذهب، والفرات اليوم بدأ يحسر؛ لأن مياهه بدأت تصرف في تركيا وغيرها. وكذلك هدم الكعبة وأن الأحباش هم الذين يهدمونها ولا يدرى هل سيأتون من الحبشة، أم من قبل جدة؟ لأن ظاهر الحديث أنهم يأتون من قبل جدة ويدخلونها، فيرمون حجارتها في البحر، ولا يدرى لعلهم مملوكون لأحد الملوك يدخلون في جيشه، كما هو ظاهر السياق، ويأخذون كنز الكعبة أي: ذهبها، ولا يدرى هل هذا الكنز هو باب الكعبة أم ميزابها، أم فيها كنز مجهول، الله أعلم، لكنهم يأخذون كنزاً من الكعبة، والأحاديث في هذا كثيرة، لكنها في كثير منها لا تكون صريحة الدلالة، وهذا مما يقتضيه الحال، مثل قول الله تعالى في الامتنان على عباده: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، وكل الأحاديث والآيات الواردة في الفتن هي من قبيل المتشابه، الذي يجب أنه يقال فيه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، ولا يبحث في تأويله وهيئاته وكيفياته، إلا ما فهم الإنسان ورأى مما تحقق، فيزول عنه التشابه بالتدريج شيئاً فشيئاً، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الفتن التي شاهدناها ورأيناها، وذكر للصحابة فتناً دونها باب سيكسر، وهو قتل عمر بن الخطاب، فإذا قتل عمر فتحت أبواب الفتن كما قال حذيفة، وبداية ذلك: قتل عثمان رضي الله عنه، وعندما قتل رفع السيف ولم يغمد حتى قتل ثلاثون ألفاً، ثم بعد ذلك قتل الحسين رضي الله عنه وعندما قتل رفع سيف ولم يغمد حتى قتل سبعون ألفاً، وهكذا الفتن الأخرى، مثل: فتن المال وانتشاره، وفتن الملك وغير ذلك، كلها قد شاهدها الصحابة رضوان الله عليهم.

دنو الشمس من الخلائق قدر ميل

دنو الشمس من الخلائق قدر ميل Q الميل الوارد في حديث دنو الشمس من الخلائق، هل هو ميل المكحلة أم ميل المسافة؟ A بالنسبة لدنو الشمس قدر ميل، قال راوي هذا الحديث رضي الله عنه: فما أدري هل هو ميل المسافة أو ميل المكحلة، والذي يبدو أن المراد هو ميل المسافة؛ لأن ميل المكحلة يقتضي أن يكون الناس على درجة واحدة، والناس متفاوتون في الطول والقصر، ومتفاوتون في إلجام العرق.

التكفير في مسألة خلق القرآن

التكفير في مسألة خلق القرآن Q نأمل أن تتعرض للخلاف في مسألة خلق القرآن، وهل هو كفر دون كفر، أم هو كفر أكبر، كما ذهب إلى ذلك بعض السلف؟ A إن قضية التكفير والحكم على شخص أو جماعة بالكفر ليست من مسائل الاعتقاد، وإنما هي في مسائل الفقه والأحكام. والإيمان ضده الكفر، فما كان ركناً من أركان الإيمان وأنكره شخص فإنه يكفر بذلك. وينقض الإيمان دون ذلك أشياء تُسمى نواقض الإيمان؛ وكذلك تُبطل الأعمال أشياء دون هذا. ومسألة خلق القرآن بالخصوص، قد ذكرنا من قبل أنه يجب على المسلم أن يعتقد أن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق، وقد ذكرنا أدلة ذلك، ولكن قد قالت طائفة من هذه الأمة -وهم المعتزلة- بأن القرآن مخلوق، وشاعت شبهتهم، وانتشرت حتى أخذ بها بعض أئمة المسلمين وقادتهم الذين بايعهم الناس، واختلفت مواقف الناس إذ ذاك: فمن السلف في ذلك الزمان من أعلن تكفير كل من قال بخلق القرآن، وأنه كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة؛ ولكنه لا يطبق ذلك على الأفراد، ولا يستطيع أن يصفهم بهذا الوصف، وذكروا في استدلالهم على ذلك أن القرآن من الله، ولا شيء من الله مخلوق. وهم لا يقصدون بقولهم (من الله) أنه جزء منه سبحانه وتعالى بل هو منزه عن ذلك، وإنما يقصدون أنه كلامه. وهذا من الاستدلال باللوازم؛ لأن النصوص لم يرد فيها ما يصح مما يقتضي التكفير، بل جاء في ذلك حديثان، وكلاهما موضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر)، فالأحاديث الواردة في ذلك موضوعة. وقالت طائفة أخرى منهم: بأنه يجلد ويحبس، وأنه قد ابتدع وقال قولاً عظيماً لم يأتِ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما يخالف دلالات النصوص؛ لكن التكفير أمر صعب؛ لأنه قد جاء ثمانية أحاديث صحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المسلم لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما)، وكقوله: (فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة. وبعض العلماء حمل قول الذين قالوا: (هو كفر مخرج من الملة)، على أن المقصود به التشنيع والتنفير منه؛ ليكون ذلك رادعاً للناس عن الابتداع، وإذا سمعوا من العلماء من يقول: (هذا كفر)، استشنعوه وفروا منه، وعلى هذا حمل الخطابي رحمه الله قول القائلين بالتكفير به، وحكاه عنه ابن تيمية رحمه الله تعالى. وذكر عن أبي نصر الصيفي قولين للسلف الصالح في التكفير به. لكن تبقى مسألة أخرى وهي: أن المعين -أي: من قال بخلق القرآن بخصوصه، أو قال قولاً كفراً، أو فعل فعلاً كفراً- لا يكفر إلا إذا توافرت فيه شروط التكفير، وقد ذكرنا هذه الشروط من قبل؛ ولذلك كان الإمام أحمد يقول: لو لم يكن لي إلا دعوة صالحة واحدة لجعلتها للخليفة، وكان يصلي خلف المعتصم ويدعو له، ويقول له: (يا أمير المؤمنين)، ولم يستبح الخروج عليه، ولو كان يرى أن من قال بخلق القرآن يكفر بذلك لكفَّره، واستباح الخروج عليه، ولم يدعُ له؛ لأن الله تعالى يقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]. وقد نشر هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي: (11/ 487) وذكر مائة صفحة في الكلام على هذه المسألة، وتعرض لها في مواضع أخرى في كتابه: (الرسائل الماردينية)، فذكر أنه يصلى خلف هؤلاء إلا من كان منهم داعية لذلك، واعتمد في هذا على الرواية المشهورة عند الحنابلة، وهي التي اختارها ابن قدامة، أما المعتزلة والجهمية فلا يكفر منهم إلا من كان داعية لبدعته معلناً بها، بل في اختيار ابن قدامة في رسالته المشهورة: أنه لا يكفر داعيتهم إذا كان مجتهداً في طلب الحق، وعلم منه أنه غير صاحب هوىً، فلا يكفر بذلك. وقد ذكر هذا القول كثير من أئمة الحنابلة مذهباً لهم، وهو المذهب عند المالكية والحنفية، وكذلك الشافعي رحمه الله؛ فإنه عندما ناظر حفص الفرد في مسألة القرآن، فقال: لقد كفرت بالله العظيم، قال أصحابه: لم يكفره؛ إذ لو كفره لسعى في قتله، والذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا مذهب الشافعي؛ وذلك أن الشافعي رحمه الله ذكر في الأم كلاماً على الشهادة، قال: لقد كان الناس يختلفون -يقصد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباعهم- فما كان أحد منهم يُكفر أحداً ولا يُبدعه ولا يفسقه؛ ولهذا أقبل شهادة جميع أصحاب المقالات إلا الخطابية؛ فإنهم يستبيحون الكذب لنصرة من وافقهم في نحلتهم، فلا يرد شهادة أحد من أصحاب المقالات.

الفرق التي كفرها أئمة السلف

الفرق التي كفرها أئمة السلف السؤال الآخر: ما الفِرق التي كفرها السلف؟ A ليس للسلف مذهب واحد، حتى يقال: كفروا الفرقة الفلانية ولم يكفروا الفرقة الفلانية؛ لكن يقال: إن عدداً من الأئمة كفَّروا بعض الفرق، وبعضهم بالغ فقال: من لم يكفرهم فهو كافر أيضاً، وإنما يقصدون بذلك التشنيع؛ لكن لا يمكن أن يطلق التكفير على فرقة بكاملها؛ بل يقال: هذا القول كفر؛ ولكن من قال به قد يختل فيه شرط، أو يتصف بمانع يمنعه من أن يكفر بالخصوص، والأقوال التي نص العلماء على أنها كفر كثيرة، وهي منصوصة في المذاهب، وقد حاول القاضي عياض حصرها في كتاب (الشفاء)، فذكر ما يُكفَّر به من الأقوال، فهذه الأقوال إذا قال بها فردٌ من فرقة واقتنع بها واعتقدها، وقامت عليه الحجة، وانتفت عنه الموانع، كفر لذاته، وإلا فلا يقال -مثلاً- الإمامية كفار بالإطلاق، بل يقال: من اعتقد منهم بالقول الفلاني، وقامت عليه الحجة وتوافرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع كفر، لكن يقال: هذا القول كفر في حد ذاته، ومن هنا: فالفرق لا يمكن أن تكفر جملة؛ لأن فيهم من هو جاهل، وفيهم من هو معذور، وفيهم من لم تقم عليه الحجة. وبالنسبة للنصيرية فليسوا من فرق الإسلام؛ لأن أصل عقيدتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس خاتم الأنبياء، وليس هو رسول آخر الزمان، فمن كان كذلك ليس من أهل هذه الملة أصلاً؛ وكذلك من لا يعتقد صلاة إلى القبلة، أو لا يؤمن بالصلوات الخمس، كالدروز، فهؤلاء ليسوا من فرق هذه الأمة أصلاً، ولا يعدون من الفرق الإسلامية.

مصطلحات في التوحيد

مصطلحات في التوحيد Q ما تفسير هذه المصطلحات: توحيد القصد، توحيد الطلب، توحيد المعرفة، ومن أول من استعملها من العلماء؟ A توحيد القصد: المقصود به توحيد العبادة في الدعاء، والذبح والصلاة ونحو ذلك، فهذا هو المسمى بتوحيد القصد، أي: التوجه لقصد التقرب إلى الله. وهو يطلق على توحيد العبادة، وتوحيد الألوهية أيضاً. وأما توحيد الطلب: فهو بمعنى توحيد القصد، فتوحيد القصد بمعنى العبادة، وتوحيد الطلب بمعنى الدعاء. وأما توحيد المعرفة والإثبات فيشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأنه توحيد معرفة الله سبحانه وتعالى بما وصف وسمى به نفسه، وهذا توحيد إثبات لما أثبته لنفسه، ونفي لما نفاه عن نفسه. أما أول من استعمل هذه المصطلحات: فهذه المصطلحات ذكرها عدد من علماء القرن الرابع، ومنهم: الأشعري، والصابوني، وآخرون بعدهما؛ لكن أول من ذكرها -حسب ما أعلم- الصابوني في رسالته لأهل نيسابور، وقد تبعهم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن أبي العز وغيرهما.

المنارة البيضاء التي ينزل عندها المسيح

المنارة البيضاء التي ينزل عندها المسيح Q هل المنارة البيضاء شرقي دمشق موجودة الآن؟ A يوجد في مسجد بني أمية منارة بيضاء، وهي المنارة الشرقية من مناراتهم، ويمكن أن تكون المقصودة في الحديث.

خروج الدابة ثلاث خرجات

خروج الدابة ثلاث خرجات Q هل ثبت أن الدابة تخرج ثلاث خرجات متباعدة؟ A إن هذا جاء فيه عدد من الأحاديث، وقد مال إليه ابن كثير، والمحب الطبري، وغيرهما، ولكن الذي صح هو خروجها المذكور في القرآن والأحاديث الصحيحة، وقد صح أن خروجها يكون من شعب أجياد.

المقدمات الضرورية لعلم العقائد

المقدمات الضرورية لعلم العقائد قبل الشروع في أي علم ينبغي أن يعرف الطالب مقدماته العشر التي بمعرفتها يسهل التعلم، وهذه المبادئ العشرة اهتم أهل العلم ببيانها وشرحها لطلاب العلم، ومن أهم ذلك مقدمات علم العقائد.

معرفة حد علم العقائد

معرفة حد علم العقائد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قبل الشروع في كل علم ينبغي أن يطلع الإنسان على عشر مقدمات يحتاج إليها في تصور ذلك العلم الذي يريد الإقدام على تعلمه، وهذه المقدمات العشر هي التي نظمها المقري بقوله: من رام فناً فليقدم أولاً علماً بحده وموضوع تلا وواضع، ونسبة وما استمد منه، وفضله، وحكم يعتمد واسم وما أفاد والمسائل فتلك عشر للمنى وسائل وبعضهم فيها على البعض اقتصر ومن يكن يدري جميعها انتصر

تصور علم العقائد مبني على أساس عبودية المكلف

تصور علم العقائد مبني على أساس عبودية المكلف فأولها: الحد: والمقصود به تعريف هذا العلم، وشرح ماهيته، ونحن لا نريد أن نسلك طريق المناطقة الذين يتقيدون في الحدود بتعريفات مدققة مختصرة يرد عليها كثير من الاعتراضات، ثم يجاب عن تلك الاعتراضات، فالطريقة العلمية تقتضي منا أن نتصور العلم الذي نريد البحث فيه أولاً قبل الشروع فيه، وتصوره يبدأ ببنائه التأسيسي. وبناء هذا العلم التأسيسي هو أن الله سبحانه وتعالى حين خلق الإنسان خلقه لعبادته، فعلى أساس ذلك يقوم، فقيمة كل شيء إنما هي بحسب هدفه، والإنسان خلق من أجل العبادة، فتقويمه على أساس ما قام به من هذه العبادة في حياته، مثل هذا الجهاز الذي صنع من أجل التسجيل، فقيمته هي صفاء تسجيله وقوته وإفادته لهذا، فلو كان لا يسجل فلا فائدة فيه وليس له قيمة، وإذا كان يسجل تسجيلاً ناقصاً فقيمته ناقصة، أما إذا صفا تسجيله وصلح فقيمته كاملة، وكذلك الإنسان بحسب هذا. وقد جعل الله الإنسان بين عنصرين: العنصر الأول: عنصر أسمى منه وأعلى وهو العنصر الملكي، والعنصر الثاني: عنصر أدنى منه وأحط وهو الحيوان البهيمي. فشرف الله الملائكة بأن كلفهم بالتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، وجعل الحيوان البهيمي غير ممتحن بالتكاليف، ولكنه مبتلى بالشهوات، وجعل الإنسان بين بين، فهو مكلف بالتكاليف، وممتحن بالشهوات، فإن اتبع الشهوات ولم يؤد التكاليف التحق بالحيوان البهيمي، بل كان أدنى منه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، وإن لم يتبع الشهوات، وأدى التكاليف التحق بالصنف الأسمى منه فكان كالملائكة: (لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات).

عناصر جسم الإنسان وانبناء الدين على ما يناسبها

عناصر جسم الإنسان وانبناء الدين على ما يناسبها ما هي العناصر التي هيأها الله تعالى في الإنسان؟ الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر هي: العنصر الأول: البدن: الذي هو مادي مما في هذه الأرض. العنصر الثاني: الروح: التي هي نفخة من أمر الله مجهولة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]. العنصر الثالث: العقل الذي شرف الله به الإنسان على غيره من الحيوانات. فهذه العناصر الثلاثة على أساسها شرع الله الدين، فجعله ثلاثة عناصر: الإيمان لمصلحة العقل. والإسلام لمصلحة البدن. والإحسان لمصلحة الروح. وذلك أن كل شيء حي يحتاج إلى تغذية، وهذه العناصر الثلاثة حية، فالعقل تغذيته بالفكر والعلم، والبدن تغذيته بما يرعى صحته ويوفر له غذاءه وزيادة نموه، والروح تغذيتها بما يهذبها ويمنعها من الأخلاق الذميمة، ويطهرها من الشوائب الخسيسة، ويحليها بالأوصاف الحميدة، فلذلك جاءت عناصر الدين ملتئمة مع هذه العناصر، فمثلاً: جاء الإيمان لمصلحة العقل، فإنه يضع له حدوداً يبين له فيها ما يحتاج إلى معرفته، وينير له الطريق في أمور لا يمكن أن يصل إليها، ويحجزه عن التخبط في أمور هو محتاج إلى البحث فيها.

التسليم بقصور العقل منطلق إلى الإيمان

التسليم بقصور العقل منطلق إلى الإيمان المنطلق الأول للإيمان هو التسليم بأن العقل قاصر، فلا يمكن له أن يحيط بكل شيء، والإنسان محتاج إلى الوحي في كل أموره، وذلك أن طريق المعرفة التي يحتاج إليها الإنسان يريد بها اكتشاف نجدين: نجد الضرر ونجد المنفعة، يريد أن يعرف ما ينفعه وما يضره. ومنفعة الإنسان نوعان: نوع دنيوي ونوع أخروي، فالنوع الأخروي محجوب عن العقل نهائياً لا يمكن أن يصل إليه، فلا يمكن أن يكتشف الإنسان منفعة أخروية أو مضرة أخروية؛ لأن كل أمور الآخرة محجوبة عنه لا يعرفها إلا عن طريق الوحي. وكذلك المنافع الدنيوية والمضار الدنيوية يصعب على الإنسان تحديدها بعقله؛ لأن الإنسان قد يتوقع شيئاً من المصلحة والمنفعة، ثم ينقلب عنه ويراه مضرة سافرة، وسمي القلب قلباً لتقلبه. ومما تعرف به ربك نقض العزائم، حيث تعزم اليوم على أمر وبعد سنة تجد رأيك قد تغير عنه تماماً، وتجد أمراً كنت تعزم على أدائه، وتحرص عليه فإذا بك قد زهدت فيه وتركته بالكلية. وكذلك قد يتوقع الإنسان في شيء مصلحة فيما يعود عليه بالضرر من حيث لا يشعر، فكثير من المآكل والمشارب التي يحبها الإنسان ويرغب فيها تعود عليه بالضرر، فمن أجل هذا عرف أن المنافع والمضار الدنيوية أيضاً لا يمكن أن يحيط بها العقل، فهي محتاجة إلى تحديدها بالوحي. والإنسان بحاجة إلى هذا الوحي حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة، فتكون منطلقاً سليماً للعقل؛ لأن العقل جارحة من جوارح الإنسان، فللإنسان عين أقرب شيء إليها الجفن، وإذا أطبق عليها جفنه لا يرى العروق الحمراء التي فيها، ولا يرى الألوان التي فيها لقربها، وكذلك إذا وقف في مكان معتدل فإن لبصره حدوداً لا يتعداها، وذلك أنه مسبوق بالعدم وسيلحقه العدم أيضاً، فهو حلقة من الوجود في دائرة كبيرة من العدم، ومن أجل هذا لا يمكن أن يدرك إلا شيئاً محصوراً، وكذلك سمعه، وكذلك عقله، فالعقل له مبادئ منها ينطلق إلى المشاهدات والحسيات والمسلمات. كثير من الأمور التي تربى عليها الإنسان في صغره لا يناقش عقله فيها، مثل: العادات، لا يسأل الإنسان عقله: لماذا ألبس هذا النوع من اللباس؟ لماذا أجلس هذا النوع من الجلوس؟ لماذا أعمل هذا النوع من الأعمال؟ لأن هذه أمور فطر عليها، وتربى عليها من بداية خلقته، لكن ما تجدد لديه هو الذي يتعب العقل بكثرة مناقشته، لأنه شيء جديد عليه. المسلمات الأولية يسلم بها العقل، ويقتنع بها قناعة مطلقة، وهذه القناعة لا تقبل المناقشة، ويجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التسليم بها بالكلية، وكذلك ينبغي له في المجالات التي لا يصل إليها العقل، وهي كل المجالات المتمحضة للوحي؛ ينبغي أن ينطلق الإنسان فيها من التسليم المطلق، فما عجز العقل عن تصوره فهذا لنقص عقله لا لنقص الوحي، ولا لقصور فيه، فهو أمر مسلم ثابت لا يقبل النقاش، والعقل إما أن يفهمه فهذا فضل من الله وهبة منه، وإما أن لا يفهمه فالنقص في العقل لا في الوحي. وإذا انطلق الإنسان من التسليم بهذا فإن العقل قد استنار واستفاد، وعرف حقيقة الإيمان وأشربه، ولهذا علامات تدل عليه، فمن علامات إشراب العقل البشري للإيمان: محبته لله سبحانه وتعالى، واتصاله به، وكذلك رضاه بقضائه وقدره، وكذلك توكله عليه واعتماده عليه في كل أموره، وكذلك مسارعته للتوسل إليه بالأعمال الصالحة، وكذلك الدعاء واللجأ إلى الله عندما يدرك الإنسان ضعفه وأنه لا حول له ولا قوة إلا بلله، وكذلك خوفه من الله سبحانه وتعالى ورجاؤه لما عنده، فهذا دليل على أن الإيمان قد خالط بشاشة قلبه، وأنه انطلق من باب التسليم، حيث لم يعتمد على الأسباب الظاهرية ولم يناقش عقله في الأمور الباطنية.

تعلق الإسلام بمصلحة البدن والإحسان بمصلحة الروح

تعلق الإسلام بمصلحة البدن والإحسان بمصلحة الروح والبدن مصلحته في الإسلام؛ لأن الإسلام يتعلق بالجوارح الظاهرة، فهذا البدن هو الذي يمثل كيان الإنسان في هذه الدنيا، وهو محتاج إلى تغذية، ومحتاج إلى منافع مختلفة، وهذه المنافع تشملها دائرتان: دائرة الحلال، ودائرة الحرام. ولا يمكن أن يعرف الإنسان دائرة الحلال من دائرة الحرام إلا بالإسلام الذي هو التشريع؛ ولهذا فإن الإسلام يحدد العلاقات، فهو النظام الذي يحدد للإنسان، العلاقة بالله كيف تبدأ من ناحية العبادات، والعلاقة بالناس كيف تبدأ من ناحية الأخلاق والمعاملات، ويبين علاج ما يقع من المشكلات مثل الأقضية والحدود والتعزيرات، فهذه الأمور هي التي يتعلق بها الإسلام ويشبع رغبة الإنسان فيها، ويحقق له مصالح بدنه بهذا التشريع. والروح ليست من هذا العالم الذي نعيش فيه، فهي غريبة عن عناصر الأرض؛ وغربتها تقتضي وحشة ونفوراً، وتقتضي تقلباً وانزعاجاً من كثير من الأمور، فتحتاج إلى ما يثبتها، وتثبيتها هو بالإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يحسن الإنسان تعامله مع الله ويحسن تعامله مع الناس، ويعرف حالته هو ومستواه وما يرتاح له، ومن هنا يستقيم توازنه ويعتدل، فلا يغلب أي جانب من الجوانب، فمن غلب أي جانب من الجوانب فليس بمستقيم، حتى من غلب جانب العبادات فلم يراع حقوق بدنه ولا حقوق أهله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فهذا التصرف دليل على عدم الاعتدال وعدم التوازن. وكذلك مختلف المجالات الأخرى كاتباع الشهوات، فالذي ليس له شهوة أصلاً ولا ميل إلى أي شيء يعد مريضاً، والذي تزداد شهوته لأي شيء حتى ولو للعلم حتى تتعدى إطارها الحقيقي يعد مريضاً أيضاً؛ لأنه غير معتدل، وهذه الشهوة طبيعة في الإنسان يحتاج إلى أن يزنها بميزان، وهذا الميزان هو الإحسان، (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). من هنا عرف أن الدين كله شرع لمصلحة ابن آدم، والله سبحانه وتعالى لا مصلحة له فيه، ولا يمكن أن يصل إليه بنو آدم جميعاً بمضرة ولا بنفع، وإنما هي أعمالهم يكتبها لهم ثم يوفيهم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. والذي نريد البحث فيه هو مجال الإيمان بحقوقه، ومنطلق البحث في هذا المجال هو معرفة مسائله التي تدرس فيه، وقد علم أن الذي يدرس فيه هو التصور العقلي حيال الحياة والآخرة، وحيال التعامل مع الله والتعامل مع الناس، وأصل ذلك من الناحية العقلية. فهذه المسائل التي تجتمع في هذا العلم تسمى علم الإيمان أو علم الاعتقاد، وهذا التصور تصور فضفاض يصعب ضبطه، ولكنك إذا نظرت إلى أي شيء له مجال يتعلق بالعقل فاعلم أنه داخل في مجالات الاعتقاد.

أصول الاعتقاد وإحاطتها بالجوانب المتعلقة بالعقل

أصول الاعتقاد وإحاطتها بالجوانب المتعلقة بالعقل

الإيمان بالله

الإيمان بالله أصول الاعتقاد هي هذه الأمور الستة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في أركان الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فهي محيطة بأهم الجوانب التي يتعلق بها العقل. والإيمان بالله مقتض للجوانب اللاحقة كلها؛ لأن المنطلق في التعامل كله هو تعاملك مع ربك الذي خلقك فسواك، فلا أحد أمنّ عليك منه، وإذا لم تحسن العلاقة معه فلن يرضى عنك أحد، ولن يثق أحد بأنك ستحسن العلاقة به، إذا أسأت العلاقة مع ربك الذي فطرك وسواك وأنعم عليك بأنواع النعم.

الإيمان بالملائكة

الإيمان بالملائكة ومن أصول الإيمان بملائكة الله، والعقل معتاد تصور كثير من الأمور التي تأتي بها الأرواح وتتصل بها، والعقل يحتاج إلى تحديد موقف منها: هل هي مجرد خرافة أو هي شيء واقعي؟ والذي ينبغي أن يرتبط به العقل ما يفيد الإنسان منها، وهذه الجنود الربانية المجهولة بالنسبة لنا كثيرة جداً لا نحصرها بالملائكة، بل يقول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، لكن الذي يعنينا في مجال الإيمان والاعتقاد مما ينفع عقولنا هو الإيمان بالملائكة؛ لأننا إذا آمنا بالملائكة فسنحاول التنافس معهم؛ لأنهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ولأنهم العنصر الذي هو أسمى منا، ونحاول الالتحاق به، فالإيمان بهم مهم جداً لنا من هذا الجانب. وهم قريبون منا، فهم المكلفون بحركاتنا وسكناتنا، ويكتبون علينا كل أمورنا: {إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].

الإيمان بالكتب

الإيمان بالكتب ومن أصول الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة: والعقل تغذيته بالثقافة والعلم، وأهم العلم ما ينزله الله على عباده من الوحي؛ لأن العلم كله من عند الله وهو قسمان: علم وحي، وعلم إلهام. فعلم الوحي شرفه الله بأن لم يدع فيه مجالاً للاختلافات، وإنما أنزله منضبطاً، وحفظه حتى أوصله إلينا، وجعل حظوظنا فيه متفاوتة بحسب أفهامنا، فمنا من يفهم منه الكثير، ومنا من يفهم القليل، وأما الإلهام فإن الله سبحانه وتعالى جعله قابلاً للاختلاف؛ لأن مجالات العقل مختلفة، يفتح الله على هذا في مجال معين، ويفتح على هذا ما يكمل به ذلك، ويفتح لهذا حتى منتصف الطريق ثم يكمل من سواه، ومن هنا تتشعب الإلهامات، لكن الجميع من عند الله ما كان منه وحياً وما كان إلهاماً، العلم كله لله، والبشر ما لهم شيء من العلم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وقوله: (أوتيتم): يعني أنه ليس من تلقاء أنفسكم، إنما هو هبة من عند الله يمنحها لمن يشاء. الإيمان بالكتب المنزلة يقتضي من الإنسان أن ينخل هذه العلوم لمعرفة ما هو مفيد منها وما ليس كذلك، وما هو غير قابل للنقاش من العلوم، وهو الثوابت التي نزلت بالوحي، وما هو راجع إلى الضوابط والخطوط العريضة التي بينت لنا في الوحي، إذاً: هذا الإيمان بالكتب المنزلة.

الإيمان بالرسل

الإيمان بالرسل ومن أصول الإيمان: الإيمان برسل الله: وذلك في مجال التعامل بين الناس، والناس منهم المحرومون ومنهم المنعم عليهم، وأفضل المنعم عليهم هم الرسل الذين أنعم عليهم بولايته المطلقة، فلم يجعل للشيطان عليهم أي سبيل، ولا له عليهم أي جهة يمكن أن يدخل عليهم منها، فعصمهم الله من الشيطان، هؤلاء هم أشرف البشر، وانتفاعنا بالإيمان بهم مثل انتفاعنا بالإيمان بالملائكة؛ لأننا نريد الاقتداء بهم والاتصال بهم، ومعرفة أن ما سلكوه هو طريق الحق الذي يعصم من الشيطان. وما سواه طرق غير مأمونة يمكن أن يكون فيها صواب ويمكن أن يكون فيها خطأ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر). إذاً: الإيمان بهم مهم جداً لعقولنا حتى تتشبث بشيء واضح في الطريق، ومن هنا فإن سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل ركعة من صلاتنا فيها أمر عجيب في مجال الإيمان بالرسل، حيث قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. قال: (اهدنا الصراط المستقيم) ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؛ لأنه لو قال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لكان هذا يقتضي أن يعرف الحق بالرجال، والقاعدة الشرعية: أن الرجال يعرفون بالحق، وأن الحق لا يعرف بالرجال، فلما قال: (اهدنا الصراط المستقيم) صار الصراط غير مضاف إلى أحد، وإنما هو الصراط المستقيم المرضي عند الله، ثم عرفه بعد ذلك بسلوك الرسل له؛ لأنهم الأمارات والعلامات البارزة؛ لأنهم ليس للشيطان عليهم سبيل، وإذا سلكوا هذا الطريق عرفنا أنه طريق الحق، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، على وجه البدلية: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر ومن أصول الإيمان الإيمان باليوم الآخر: وما أحوج الإنسان إلى هذا في مجال عقله، فالعقل يبحث كما ذكرنا بين هذين النجدين: نجد المنفعة ونجد المضرة، فإذا اقتصر في بحثه على حياته الدنيا فقط، ولم يعمل إلا لمدة حياته، كان العقل ذا مجال ضيق، ولم يستفد أحد من أحد؛ لأن كل إنسان لا يدري متى يموت، فيفكر فقط لساعته التي هو فيها، ولا يفكر للمستقبل، ومن هنا تتعطل مصالح الناس، إذ لو كان الإنسان لا يبني إلا على قدر حاجته في لحظته، ولا يزرع إلا على قدر حاجته في لحظته تلك، ولا ينتج إلا على قدر حاجته في لحظته تلك؛ لتوقفت المصالح كلها، لكن بإيمان الإنسان بالمستقبل، وإيمانه باليوم الآخر، وبالعرض على الله سبحانه وتعالى، وبأن الناس جميعاً من مضى منهم ومن يأتي سيحشرون إلى ديان السماوات والأرض، ويوقفون على أعمالهم، وأن كل شيء مكتوب، وأن منهم شقياً وسعيداً: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:106 - 108]. وتذكر الإنسان أنه حينئذ إما أن يكون من هؤلاء وإما أن يكون من هؤلاء: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، إما إلى جنة وإما إلى نار، وبأن مصلحته الحقيقية هي مصلحته الأخروية، وبأن وقايته الحقيقية هي وقايته من عذاب يوم القيامة، فأية مصيبة أصابته في الدنيا إذا كان بعدها نعيم الجنة فإنها لا أثر لها ولا ضرر، وأي نعيم وجده في هذه الدنيا إذا كان بعده عذاب الآخرة في النار فلا نفع فيه أبداً، فلا خير في نعيم بعده النار، ولا شر في بعده الجنة؛ إيمانه بهذا مقتضٍ منه للاستمرار في عمله حتى في الدنيا، حتى للمصالح الدنيوية، فالإيمان باليوم الآخر نافع حتى في الإنتاج الدنيوي، فضلاً عن الإنتاج الأخروي الذي هو العبادة التي هي قيمة الإنسان.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر ومن أصول الإيمان: الإيمان بقدر الله خيره وشره: فإن الإنسان مفطور على الجبن والبخل والخوف والخور، لكن إذا علم أن كل شيء مكتوب قبل أن يحصل: (وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)، فإنه سيتشجع، ويعرف أن موتته واحدة ومكتوبة: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]. ومن هنا لا يمنعه الجبن من الإقدام، ويعرف أن ما لم يكتب له لا يمكن أن يناله، وما كتب عليه لا يمكن أن يدفعه بوجه من الوجوه، ويعرف أن رزقه محدد مكتوب وهو في بطن أمه، وأنه لن يزداد شيئاً ولن ينتقص من شيء، ويعرف أن الثقلين الإنس والجن كلهم مسيرون وفق قدر مكتوب، ليس لأحد منهم أي تصرف إلا وفق هذه الخطة المرسومة، لا يستطيع أحد أن ينفع ولا أن يضر إلا وفق ما كتب له، ومن هنا يكون الاتصال بالله سبحانه وتعالى وحده، فلا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا إليه، ولا تعلق إلا به، ولا دعاء إلا له، ولا يمكن أن يحول أي جهد بشري دون تطبيق ما أمر به، ولا أن يوقع أي خوف ولا أي طمع فيما نهى عنه؛ لأن الله وحده هو الذي يملك النفع والضر والحياة والموت والنشور، ولا يملك ذلك أحد سواه. هذه فائدة الإيمان بالقدر.

من ثمرات الإيمان ومصالحه

من ثمرات الإيمان ومصالحه واضح جداً أن الإيمان لمصلحة العقل، وأن هذه هي مجالات العقل الكبرى التي ينطلق منها، فهذه المجالات الكبرى التي ينطلق منها العقل فيها كثير من التفصيلات، وكثير من الجوانب المتعددة، فهذه الجوانب في أخذ الديانة المنزلة من عند الله تعالى لم تمحض وحدها، ومن حكمة الله وسنته ألا يفصل هذه العلوم ويجعل كل علم منها كتاباً مستقلاً أو لوحاً مستقلاً؛ لأن ذلك يقتضي عدم التكامل في العامل البشري، لو أنزل علينا هذا القرآن فيه سورة متخصصة في الإيمان، وسورة متخصصة في العبادة، وسورة متخصصة في البيوع، وسورة متخصصة في الأنكحة، ليس فيها سوى ذلك؛ لكان كثير من الناس ناقص التوازن، الذي قرأ سورة الإيمان فقط ستكون عباداته باطلة، ومعاملاته باطلة، ولن يستطيع الإنسان حينئذ الإحاطة بالجميع، وهذا هو حالنا اليوم إذ يندر جداً أن يحيط الإنسان بالقرآن بحروفه وحدوده، فلابد من إشكالات تواجهه، وتبقى كثير من الأمور لا يستوعبها. من هنا كان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن تكون الآية الواحدة من القرآن جامعة لكل هذه المجالات، وألا يتمحض فيها علم من العلوم، فلا يمكن أن يقال: إن السورة الفلانية متخصصة في العلم الفلاني؛ في الفقه أو في الأصول أو في أي علم من العلوم، وهذا وجه من أوجه الإعجاز في هذا القرآن الكريم، فليس هو كتاب تخصصات، وإنما هو كتاب مستوعب لمختلف التخصصات، في كل آية منه تجد كل هذه الأمور، حتى الأوامر والنواهي تكون مرتبطة بالوعد والوعيد المرتبط بالإيمان، المرتبط بمشاهد القيامة، المرتبط بخطاب العواطف، المرتبط بخطاب العقل، فيكون الإنسان مخاطباً مشدوداً لكل الجوانب في آية واحدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، كم استوعبت هذه الآية من العلوم؟ (كتب عليكم الصيام): هذا تكليف رباني، وتحديد الصيام الذي هو من العبادات. (كما كتب على الذين من قبلكم): إرجاع وربط بالماضي والتاريخ البشري. (لعلكم تتقون) هذا فيه مخاطبة الإيمان والعاطفة في الإنسان، وتنبيهه إلى أنه إذا استطاع أن يمنع نفسه مما أحل الله له فإنه يستطيع أن يمنعها مما حرم الله عليه، وبهذا يتعود على التقوى، وفيه تنبيه له على التربية وأهميتها في حياته، وأنه بالتدرج يمكن أن يصل إلى أعلى المستويات، كل هذا ارتبط في آية واحدة، واجتمع فيها كل هذه الأمور بالإضافة إلى ما سواه من العلوم التي لا حصر لها. لكننا في غمرة حياتنا احتجنا إلى أن نفصل هذه العلوم فصلاً لا يقتضي أن يكون كل واحد منها على حدته علماً مستقلاً متكامل الجوانب لا يحتاج إلى ما سواه، وإنما لضرورة تفاوت انشغالات الناس، وتفاوت أذهانهم، يبين لهم العلم الذي هم أحوج إليه ليشتغلوا به، ولا ينبغي أن يتمحض الإنسان في تخصص واحد من هذه التخصصات، فإذا كنا نقرأ الآن درساً في الإيمان، فليس معناه أن نعطل دروسنا الأخرى، وأن نترك الاستفادة من كل الكتب الأخرى أو المجالات المختلفة، بل لابد من التكامل، وألا نغفل عن الجميع. وبهذا نكون قد عرفنا حد العلم.

موضوع علم العقائد

موضوع علم العقائد المقدمة الثانية: الموضوع، (وموضوع كل علم) معناه: ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، (ما يبحث فيه) أي: في هذا العلم. (عن عوارضه) أي: عوارض ذلك الشيء الذي هو الموضوع. (الذاتية) أي: الراجعة إلى ذاته، وذلك أن هذا العلم الذي سندرسه -إن شاء الله تعالى- يبحث فيه عما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وعن أركان الإيمان وتفصيلات تتعلق بها، وعن تعريف الإيمان وجزئياته المختلفة. هذا هو موضوع هذا العلم الذي سندرسه.

واضع علم العقائد وذكر بعض المؤلفين ومصنفاتهم

واضع علم العقائد وذكر بعض المؤلفين ومصنفاتهم

واضع علم الاعتقاد

واضع علم الاعتقاد واضع هذا العلم معناه: الذي نقله وفصله، ولا يقصد به الذي أنتجه وأبدعه؛ لأننا ذكرنا أن هذه العلوم جاءت من عند الله في القرآن، فالله سبحانه وتعالى هو الذي علمنا إياها، لكن من فصله وأخرجه عن غيره من العلوم؟ اختلف فيه، فقالت طائفة: هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي مولاهم المتوفى سنة مائة وخمسين من الهجرة، وهو إمام أدرك عدداً من الصحابة، لكنه لم يرو عنهم رواية صحيحة، فقد رأى أنس بن مالك، ورأى عدداً آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك يوصف بأنه تابعي، ويقولون: إنه ألف كتاباً سماه الفقه الأكبر، وخصصه بمباحث الإيمان ومباحث العقيدة، لكن لا تصح نسبة هذا الكتاب إليه؛ لأنه لم يثبت بالأسانيد المتصلة إليه، ولا يظن أنه من تأليف تلك الطبقة، ولا من تأليف ذلك الزمان، فالتأليف تتضح عليه لمسات العصر الذي برزت فيه، وأقدم كتاب لدى المسلمين اليوم من التأليف هو مؤلف مالك الموطأ، وقد رواه عنه تسعمائة من الذين اشتهروا بالعلم والرئاسة في زمانهم، ولم يزل مسلسلاً بالأسانيد إلى وقتنا هذا، ولا يعرف كتاب أقدم منه اليوم لدى المسلمين. القول الثاني في واضع علم التوحيد: أنه أبو الحسن الأشعري وهو علي بن إسماعيل الأشعري وهو من ذرية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري من أهل اليمن، وهو رجل عاش في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وتوفي في أواسط القرن الرابع سنة ثلاثمائة وثلاثة وعشرون تقريباً، واشتهر بأنه واضع هذا العلم؛ لأنه جمع مذاهب الفرق المختلفة في مجالات العقيدة في كتاب له سماه (مقالات الإسلاميين)، وهذا الكتاب مطبوع ومتداول ومروي عن أبي الحسن بالأسانيد، وإن كان هو لم يبدع فيه شيئاً جديداً؛ لأنه ذكر أن مذهبه هو ما كان عليه أئمة الحديث، ومذهب السلف، وبين مذهب السلف في كتابه، وفصل فيه وشرحه، ولم يخالفه في شيء، فالكتاب لا يميز له مذهباً بخصوصه. لكن له كتب أخرى ألفها منها: كتاب اللمعة في الاعتقاد، وهو كتاب مطبوع، وكذلك: رسالة النفس، وهو كتاب مطبوع، وكذلك: كتاب الإبانة عن أصول الديانة، وهو مطبوع كذلك، وله كتب كثيرة أخرى غير مطبوعة، أشار لبعضها في بعض كتبه، وسبب القول بأنه واضع هذا العلم كثرة مؤلفاته فيه، وانشغاله به، وإلا فإن الذين ألفوا في هذا العلم من معاصريه عدد لا يستهان بهم. والذي يبدو أن هذا القول غير صحيح أيضاً، فإن الأشعري لم يكن السابق في التأليف في هذا العلم، بل سبقه عدد من الناس، لكن الذين سبقوه من المحدثين مثلاً لا يعتنون بجوانب هذا العلم المختلفة، ولا يفصلونه عن علم الحديث.

ذكر بعض الكتب المصنفة في الإيمان والاعتقاد

ذكر بعض الكتب المصنفة في الإيمان والاعتقاد ألف السلف بعض الكتب التي سموها بالإيمان مثل كتاب الإيمان لـ أبي بكر بن أبي شيبة، وكتاب الإيمان لـ ابن أبي عاصم، وكتاب الإيمان لـ أبي خيثمة زهير بن حرب، شيخ الإمام مسلم بن الحجاج، وكذلك كتاب السنة للحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي شيخ البخاري وتلميذ الشافعي، وكذلك كتاب السنة لـ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وكذلك كتاب السنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل الشيباني وهو معاصر للأشعري، وكذلك كتاب السنة لـ أبي بكر الخلال وهو من أصحاب الإمام أحمد كذلك. وكذلك بعض المحدثين الذين جاءوا بعد الأشعري مثل ابن مندة الذي ألف كتاب الإيمان وهو كتاب حافل، ومثل أبي بكر بن خزيمة إمام الأئمة الذي ألف كتاب التوحيد وهو كتاب مهم في بابه، فهؤلاء لم يؤلفوا هذه الكتب على طريقة التخصص، وإنما ألفوها على طريقة المحدثين، فيذكرون أسانيدهم ببعض الآثار وبعض الأقوال المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين أو من دونهم من السلف. وأما الذين ألفوا كتباً متخصصة في الردود على بعض الطوائف فإن كتبهم أيضاً لم تستوعب جميع هذه الجوانب، ومن هؤلاء البخاري رحمه الله، وهو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، فقد ألف كتاباً سماه: خلق أفعال العباد والرد على الجهمية، وكذلك الدارمي ألف كتاب الرد على الجهمية، وكذلك الإمام أحمد ألف كتاب الرد على الجهمية، وكذلك يحيى بن معين فقد كتب ورقات في الرد على الجهمية، لكن هذه الردود لا يقصد بها تناول جوانب الاعتقاد المختلفة، وإنما ترد بعض الشبهات التي أثارتها بعض الطوائف الإسلامية وبالأخص طائفة المعتزلة في مختلف تشعباتها وآرائها. ثم بعد هؤلاء جاء من وضع أصولاً جامعة مانعة في الاعتقاد كالإمام أبي جعفر أحمد بن سلامة الأزدي المشهور بـ الطحاوي الحنفي، وهو ابن أخت إبراهيم المزني تلميذ الشافعي، وقد ألف كتاباً في الاعتقاد سماه: عقيدة الأئمة، ويقصد بالأئمة أبا حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني، وأبا يوسف وهي عقيدة الطحاوي الموجودة بين أيدينا اليوم في ورقات صغيرة، لكن تلقتها الأمة بالقبول فكثرت شروحها. ثم جاء بعده الإمام أبو بكر البيهقي وألف كتاباً سماه: الاعتقاد، لكنه سار فيه على طريقة الأشعري في مذهبه الأوسط في كثير من أموره، ولا يمكن أن يعتبر البيهقي واضعاً لعلم العقيدة أو علم الاعتقاد؛ لأنه قد سبقه الأشعري وتبعه في كتابه هذا، وحتى في كتابه الذي ألفه على طريقة المحدثين وهو كتاب الأسماء والصفات، فإنه أول فيه بعض الأحاديث على طريقة الأشعري. كذلك من الذين ألفوا كتباً مستقلة في هذا الباب: الإمام الدارقطني، وقد ألف كتاب الصفات، وهو كتاب صغير، وكتاب القدر، وهو كتاب صغير كذلك، وكتاب الرؤية، لكن هذه الكتب كلها تعالج جانباً واحداً من جوانب الاعتقاد، ولا تلم بجميع جوانبه. وقد سبق التأليف في القدر، فقد كتب مالك رسالة في القدر لكنها لم ترو بالأسانيد. وألف عبد الله بن وهب صاحب مالك كتاباً في القدر وهو موجود ومطبوع، لكنه يتعلق بجانب واحد، وألفه على طريقة المحدثين بذكر الأسانيد، ولا يذكر القواعد العقلية التي تميز هذا العلم وتجعله مستقلاً عن علم الحديث.

أشهر المؤلفين في علم العقائد

أشهر المؤلفين في علم العقائد فمن هنا يصعب علينا أن نعين شخصاً واحداً بأنه واضع هذا العلم بالكلية، لكن رجالاته الذين اشتهروا فيه، وأبرزوا هذا العلم ونشروه: أبو الحسن الأشعري والطحاوي والبيهقي وأبو نعيم الأصفهاني صاحب حلية الأولياء، وكذلك يحيى بن مندة أبو القاسم، وكذلك الإمام أبو بكر بن خزيمة. ثم جاء بعد هؤلاء أئمة توالوا على التصنيف في الاعتقاد، ومنهم أبو بكر الباقلاني وهو من أشهرهم وأكثرهم اهتماماً بهذا الجانب وأقواهم حجة في المجال العقدي، وقد نشأت مدرسة كبيرة بعد الباقلاني من تلامذته مثل أبي إسحاق الإسفرائيني ومثل أبي إسحاق الشيرازي ومثل أبي المعالي الجويني ومثل القاضي الحسين الشافعي. وبعد هؤلاء جاء أبو حامد الغزالي المتوفى سنة خمسمائة وخمسة، ثم بعده الرازي المتوفى سنة ستمائة وستة، ثم بعده عدد كبير من الأئمة إلى أن نصل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ومعاصريه أمثال علي بن عبد الكافي السبكي والإمام الذهبي محمد بن عثمان، وكذا أبو بكر شمس الدين بن القيم فإنه يعد في عداد المبدعين في هذا المجال المؤلفين فيه، فهؤلاء أهم المشاهير الذين ألفوا في مجال الاعتقاد. ويمكن أن نعد منهم أيضاً بعض المحدثين الذين أفردوا كتباً في هذا المجال، ومن هؤلاء الآجري الذي ألف كتاب الشريعة، وكذلك ابن البناء الحنبلي الذي اختصر كتاب الشريعة في كتابه المختار، وكذلك اللالكائي الذي ألف كتاب شرح أصول الاعتقاد، وكذلك القاضي أبو يعلى الحنبلي الذي ذكر في طبقات الحنابلة تفاصيل مذهب أحمد في كثير من الأمور العقدية، وكذلك عبد العزيز الكناني الذي تصدى للجهمية وحاول الرد على كثير من شبهاتهم، وإن كان لم يتطرق لجوانب الاعتقاد الأخرى، فكتابه الحيدة ذكر فيه مناظرته مع بشر المريسي فقط.

نسبة علم العقائد واستمداده

نسبة علم العقائد واستمداده إن نسبة هذا العلم إلى سائر العلوم هي نسبة العموم والخصوص الوجهي؛ لأنه يشترك مع هذه العلوم في المنبع والمأخذ، فكل العلوم الشرعية مأخذها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتطويرها باجتهادات أهل العلم الراسخين فيه، فالمأخذ، واحد فتشترك في بعض الجوانب فيما بينها، فمثلاً كثير من صفات الله سبحانه وتعالى ستبحث هنا في المجال العقدي، لكنها تبحث أيضاً في مجال الحديث؛ لأنها رويت بأسانيد سيبحث في صحة تلك الأسانيد وضعفها، فإذاً هذه مما يشترك فيه علم الحديث مع علم الاعتقاد. كذلك بعض الصفات يبحث فيها أيضاً في التفسير؛ لأنها جاءت في القرآن، فيشترك مع علم التفسير من هذا الوجه. كذلك مع العلوم اللغوية، فالعلوم اللغوية هي التي يبحث فيها في دلالات النصوص من القرآن والسنة، وهذه النصوص دلالاتها ترجع إلى أمرين: دلالات الألفاظ من حيث وضعها، أي: ما تدل عليه وضعاً، وهذا البحث فيه لغوي محض، ثم دلالاتها من حيث الاستنباط: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وهذه دلالة جانبية غير الدلالة الوضعية الأصلية، فتشترك العلوم اللغوية مع العلوم الشرعية من هذا الوجه. فإذاً لا يمكن أن يستقل هذا العلم عن غيره من العلوم؛ لأن نسبته إلى غيره من العلوم نسبة العموم والخصوص الوجهي، فيشتركان في شيء وينفرد كل واحد في شيء يختص به، وهذا معنى هذه النسبة. أما مستمد هذا العلم فهو الوحي بنوعيه القرآن والسنة، وقضايا العقول التي تنبني على ما ذكر في الوحي، هذا مستمده الذي يرجع فيه إليه، يمكن أن يضاف إلى هذا أن ترتيب حججه يرجع فيه أيضاً إلى علم الجدل وعلم المنطق للحاجة إليهما في ترتيب الحجج، فهما قالب ومعيار يوزن فيه كل شيء، فيمكن أن يستغلا في أي علم من العلوم، فإذا أردنا إثبات أي شيء عن طريق العقل فإننا لابد أن نرجع إلى القواعد المنطقية، وإذا أردنا المناقشة في أي شيء لبيان صوابه أو خطئه لابد أن نرجع إلى علم الجدل. إذاً هذا مستمده.

فضل العلم

فضل العلم إن هذا العلم من أفضل العلوم الشرعية؛ لأن فضل كل علم إنما هو بحسب فائدته، وهذا العلم به يزداد إيمان الإنسان وتزداد محبته لله سبحانه وتعالى إذا سلك به الطريق الصحيح. أما إذا لم يسلك به الطريق الصحيح كما حصل في أيام الذهبي رحمه الله، مما حمله على أن يقول عن علم التوحيد: إن مدارسته تؤدي إلى القسوة وعدم الخشية؛ لأنه أصبح عبارة عن مناقشات ومطاحنات وتعصبات بين الفرق، ولم يعد يبحث فيه عن أصله الذي هو ما يدل على الاتصال بالله سبحانه وتعالى، ويلزم الإنسان خشيته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فمن لا يعرف الله لا يخشاه، وفائدة معرفتك لصفات الله محبتك له، فأنت تعرف أنه المتصف بصفات الكمال، وأنه الذي لديه ما ينفعك ولديه ما يضرك، وهو وحده القادر عليك، ومن أجل هذا تحبه وترغب فيما عنده وتتصل به. فإذا لم تنظر هذا المنظار في هذا العلم فلم تستغله استغلالاً صحيحاً، وحينئذ يؤدي إلى نتائج عكسية، وذلك إذا جعل مجرد مطاحنات واختلافات وأمور عقلية بحتة، فيؤدي إلى القسوة ويؤدي إلى التصلف وسوء الخلق، أما إذا أخذ بمأخذه الأصلي وهو البحث عما يزيد حبك لله وعلاقتك به وخشيتك له، فإنه يزيد رقة ويزيد خشوعاً وخشية لله سبحانه وتعالى، وهذا المطلوب فيه، فهو من هذه الناحية من أفضل ما يشتغل به من العلوم لكننا سنذكر في ذلك تفصيلاً، فدرجاته متفاوتة من ناحية الفضل كغيره من العلوم.

حكم تعلم علم العقائد

حكم تعلم علم العقائد إن الحكم الشرعي لهذا العلم ينقسم إلى قسمين باعتبار المدروس فيه: القسم الأول: ما يجب على الأعيان: وهو ما يحقق به الإنسان إيمانه بأركان الإيمان الستة، وهذا القدر واجب على كل مسلم، فلا يدخل الإنسان الإسلام حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة، ويجب ذلك على وجه الإجمال ولا يجب على وجه التفصيل، لا يجب أن تعرف كل مسائل القدر كالطيرة والتمائم والفأل ونحو ذلك، فهذه من تفصيلات القدر، إنما يجب عليك الإيمان بالقدر خيره وشره. القسم الثاني: الواجب الكفائي: والواجب الكفائي ما يجب على الأمة جميعاً تعلمه من هذا العلم، وهو بقية المسائل التفصيلية، فهذا العلم بكل دقائقه وبكل ما يحدث فيه فرض كفاية على الأمة يجب عليها تعلمه، سواء منه ما طرأ وتجدد وما كان معروفاً في عهد السلف. فالذي يطرأ منه ويتجدد يتوقف على ظهور الشبهات التي تحصل في اعتقاد الناس، ويجب رد هذه الشبهات ومعرفة الصواب منها من الخطأ، وكل أمر تجدد لابد أن ينطلق الناس منه من هذا المنطلق، وأن يعرفوا حكم الله فيه، ويجب على الأمة أن يكون فيها من يستطيع معرفة الصواب فيه من الخطأ، فإن لم تفعل الأمة أثمت بعمومها، وإن قام بذلك من يكفي سقط الإثم عن البقية، وهكذا فروض الكفاية كلها. وفرض الكفاية عند القيام به فإنه يكون نافلة من النوافل، من قام به يزداد أجره ويزداد ثوابه، ولكنه لا يكون قائماً بالفرض نفسه، لكن قال العلماء: ينبغي أن ينوي نية فرض الكفاية ليحصل له الثواب ولو كان قام به الغير، وذلك حتى يحصل له ثواب فرض الكفاية، فمثلاً نحن الآن نتعلم هذا العلم مع أنه يوجد كثير من المتخصصين فيه، ولا يجب علينا بأعياننا، لكن ينبغي أن ننوي نية فرض كفاية ليحصل لنا أجر الواجب، ولا نقتصر على نية الندب فقط. ومن هنا فإن قضية استحضار النية في دراسة أي علم من العلوم مقتضٍ بأن يستمر الإنسان فيه وألا ينهزم أمامه؛ لأن العلوم فيها كثير من المشقة وكثير من المسائل الصعبة جداً، وإذا دخل إليها الإنسان يريد ترويحاً عن نفسه ويريد إشباع رغبة لديه فقط، فإنه إذا صدم بأول مسألة تراجع وقال: لا أستمر في هذا الطريق، لكن إذا لم تكن نيته مجرد الاكتشاف والبحث، وإنما جاء بنية التقرب إلى الله والعبادة بحفظ هذه العلوم على الأمة، وسد مسد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذه النية تقتضي منه الصمود والصبر حتى لو عانى ألف مشكلة، فيستمر على هذا الطريق صامداً عليه صابراً.

فائدة تعلم علم العقائد

فائدة تعلم علم العقائد إن فائدة هذا العلم تحصيل محبة الله سبحانه وتعالى بمعرفة صفاته، وتحصيل محبة رسله بمعرفة ما يجب لهم وما يتصفون به، وزيادة الإيمان بتفصيل مسائل هذا العلم مثل مسائل القدر وغيرها، ورد الشبهات التي تثار في اعتقاد المسلمين، سواءً كانت من قبل المسلمين أو من قبل أعدائهم، فهذه الشبهات من إيحاء الشيطان، يلقيها فتكون وحياً يوحيه إلى أوليائه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]، فيحتاج إلى من يرد هذا، إذ لو لم ترد لوجدت أنصاراً وأعواناً، وسمعت من يصيخ لها ويستقبلها، فحينئذ تشيع فلا يميز الناس بين الحق والباطل وتنتشر بنيات الطريق وينصرف الناس عن طريق الهداية. ومن هنا احتيج إلى معرفة هذه الشبهات والرد عليها وأن يتقوى ساعد الإنسان لكل شبهات محتملة؛ لأننا لا يمكن أن نحصر الشبهات الواردة في الاعتقاد فيما سندرسه هنا، وإنما نريد بدراستنا لهذه الأمثلة أن تتقوى سواعدنا وأذهاننا في المستقبل لأي شبهة جديدة، فإذا جاءت أية شبهة كنا لها بالمرصاد، وعرفنا كيف تزال هذه الشبهة، وكيف نتمسك بالدليل، وكيف نتمسك بالصواب الذي لا محيد عنه، وكيف نميزه ونزيل الإشكال فيه حتى لا يلتبس بغيره. فإذاً هذه فائدة هذا العلم.

تسمية علم العقائد

تسمية علم العقائد إن الناس يتفاوتون في تسمية هذا العلم: فمنهم من سماه بالتوحيد، وهذا من تسمية الشيء باسم بعضه، مثل تسمية الإنسان بالرقبة، فيقال: تحرير رقبة، ولا يقصد بها الرقبة وحدها بل الإنسان بكامله، وكذلك في الحيوان تقول: رأس من الغنم، رأس من البقر، ولا يقصد به الرأس وحده إنما يقصد به كامل البدن. والتوحيد هو رأس ما يدرس في هذا العلم؛ لأنه الإيمان بالله وهو الركن الأول من أركان الإيمان الستة، فتوحيد الله سبحانه وتعالى هو أحد هذه الأركان الستة وهو أهمها وأولها، فسمي هذا العلم بكامله باسم جزئه. التسمية الثانية: تسميته بعلم الاعتقاد، وهذه التسمية وإن كانت أشمل من سابقتها؛ لأنها تشمل ما يجب اعتقاده في حق الله وفي حق الرسل وفي حق الملائكة، وكذلك تفصيلات القدر واليوم الآخر والكتب المنزلة وغير ذلك، إلا أنها لا تتناول إلا القطعيات فقط، فإن الاعتقاد إنما يشمل ما هو قطعي، لأنه لا ينبغي أن يكون فيه شك، ويمكن أن تكون المسألة من الاعتقاد ومشكوك فيها أن الصواب كذا أو الصواب كذا، فيكون فيها خلاف، وعليه فإن مسائل هذا العلم ليست كلها قطعية، بل فيها كثير من الظنيات وفيها كثير من المسائل الخلافية التي سنتحير فيها ونتوقف، ومرجع ذلك إما إلى صحة دليل وعدم صحته أو تعارض أدلة، أو أن الأمر لم يرد فيه نص أصلاً وأحيل الاجتهاد فيه إلى العقول، وهذه المسائل تبع للمسائل القطعية الثوابت، فالمسائل القطعية هي التي حسمها الوحي، والمسائل الظنية هي التي لم يحسمها الوحي، فالمسائل القطعية هي الاعتقاد ويجب على كل المسلمين أن يتفقوا فيها وأن يعتقدوا هذا المعتقد ولا يحل المخالفة فيه. المسائل الأخرى التي هي ظنون وعليها أدلة لكل من الجانبين، ولا يمكن الحسم فيها؛ هذه ليست من الاعتقاد، إنما هي أمور فيها خلافات مثل مسائل الفقه. ففروع الأصول هي فروع علم الاعتقاد وهي كثيرة جداً، وسيتبين لنا أن كثيراً من المسائل التي ندرسها في هذا العلم ليست من الاعتقاد لأنها محل خلاف، وهذه من أمثلتها قضية التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مسألة فيها خلاف وليس فيها حسم قاطع، فلذلك هي من المسائل التي هي ظنية فقط، ولذلك كان الأولى ألا تدخل في الاعتقاد، ولا يقال من المسائل العقدية؛ لأنها مسألة فقهية وهكذا. والتوسل به صلى الله عليه وسلم يشمل التوسل به بعد موته أو في حياته، والخلاف في التوسل بشخصه وليس بدعائه، فالتوسل بشخصه في حياته وبعد موته كله محل خلاف؛ لأن التوسل به في حياته إنما هو توسل بدعائه، لكن التوسل به في حياته في غيبته مثلاً توسل بشخصه، وهو مثل التوسل به بعد موته؛ لأنه هو حي في قبره حياة برزخية، ولا يمكن أن يدعو هذا الدعاء، والمسألة سنذكر إن شاء الله بعض تفصيلاتها، وهي طويلة لأنها تدخل فيها تقريباً ست مسائل، وكل مسألة منها يمكن أن نذكر فيها خلافاً ونذكر فيها أدلة. إذاً تسميته بعلم الاعتقاد عليها هذا المأخذ. ويسميه بعض الناس أيضاً بعلم الكلام: والمقصود بذلك العلم المتعلق بكلام الله، وذلك أن مسألة كلام الله من أوليات المسائل التي حصل فيها الخلاف بين هذه الأمة، واشتهر فيها تفرق الفرق، فمن أجل ذلك كثرت الكتب المؤلفة فيها، وكثرت الفرق المختلفة على أساسها، فسمي هذا العلم باسمها، وهي تسمية للشيء باسم بعضه أيضاً، فالكلام صفة واحدة من صفات الله سبحانه وتعالى التي تدخل كلها في قسم واحد من أقسام التوحيد؛ لأن الأسماء والصفات قسم من أقسام التوحيد التي سنذكرها، وهذه صفة واحدة من الصفات، فسمي بها العلم كاملاً. كذلك من تسميات هذا العلم تسميته: بعلم الأصول، سواءً كانت بالإطلاق أو بالإضافة فيقال: أصول الدين ويقال: (الأصول) مطلقة، فهذه التسمية في الأصل للمعتزلة، وهم أول من فعلها؛ لأن لديهم أصولاً يمتحنون الناس على أساسها، وهي أصولهم المعروفة التي هي: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه مسائلهم التي هي أصولهم، سموها بالأصول وسموا هذا العلم باسمه، لكن تبعهم كثير من المتكلمين في هذه التسمية وسموا هذا العلم أيضاً علم أصول الدين، ويقابلون به علم أصول الفقه، جعلوا الدين منقسماً إلى أصول وفروع، فالفروع هي أعمال البدن الظاهرة، والأصول هي أعمال القلب، وذلك أن أعمال البدن مبنية على أعمال القلب؛ لأن الدافع من وراء أي عمل هو دافع عقدي، وكل عمل ليس من ورائه دافع عقدي يقتضيه فإنه مبني على غير أساس، فالصلاة إذا لم تكن عن قناعة بصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا فائدة فيها؛ لأنها مبنية على غير أساس، فأساس كل الأعمال التمييز بين الحلال والحرام، فتكون العبادة والمعاملة على أساس الاعتقاد، فإذا اختل هذا الأصل فإنه على شفا جرف هار حتى لو أحسن في الأعمال الأخرى وجاءت محكمة مائة بالمائة؛ لأنها ليس لها أصل، فمن أجل ذلك سموه بأصول الدين. هذه هي أهم تسميات هذا العلم.

مسائل علم العقائد

مسائل علم العقائد مسائل العلم هي التي تذكر فيه تفصيلاً، وقد ألف فيها كثير من الكتب، وهذا النظم الذي لدينا حاول صاحبه ذكر بعض المسائل المتعلقة بهذا العلم، وأحالها على النصوص الشرعية، على حسب ما جاء في الآيات والأحاديث، ولم يقسمها على تقسيم أصولها التي هي هذه الأركان الستة.

الأسئلة

الأسئلة

هل الطحاوي واضع علم العقيدة؟

هل الطحاوي واضع علم العقيدة؟ Q لماذا لا يقال: إن الطحاوي هو واضع هذا العلم؛ لأن الذين سبقوه إنما ركزوا على جزئيات مخصوصة، وهو قد جمع أكثر جزئيات العلم في عقيدته؟ A إن الطحاوي إنما ذكر عقيدة الأئمة فقط، وكثير من المسائل الأخرى التي حصل الخلاف فيها في الأمة لم يتعرض لها، وكثير من المسائل العقدية التي ضلت فيها فرق وكثرت تشعباتها لم يتعرض لها في الكتاب، وإنما أراد أن يفصل اعتقاد الأئمة عن عقائد الفرق، فلم يتعرض لكثير من المسائل التي هي مدروسة في زمانه ومعروفة ومألوفة. كثير من المسائل اشتهرت في زمانه أضرب عنها صفحاً مثل: المسألة اللفظية، وهذه حصل الخلاف فيها حتى بين كثير من أئمة أهل السنة من أئمة أهل الحديث، كما أنه ذكر بعض الأمور التي ليست من الاعتقاد، مثل المسح على الخفين لذلك إنما يقتضي تميز مذهب الأئمة عن مذهب الشيعة فقط.

اختلاف العلماء في واضع علم الكلام

اختلاف العلماء في واضع علم الكلام Q هل يتفق أهل مذهب على من وضع علم الكلام؟ A بالنسبة لهذه الأقوال التي ذكرناها في الخلاف في واضع هذا العلم، لا تختص بمذهب من المذاهب المختلفة، فلا يتعصب مذهب من المذاهب للوضع إلا ما جاء عن الحنفية فيقولون: واضعه أبو حنيفة، لكن لا يتفق الشافعية على أن واضعه أبو الحسن الأشعري وإن كان شافعياً، بل إن بعض الشافعية ينكر أنه الواضع الحقيقي لهذا العلم؛ لأن الشافعي نفسه له كلام كثير في هذا العلم، وله مناظرات ومناقشات مع حفص الفرد ومع غيره، وكذلك المالكية لا يقولون إن واضعه الباقلاني مثلاً وإن كان مالكياً، لكن لـ مالك كلام في هذا الباب ولـ ابن وهب ولعدد من الأئمة وكذلك الحنابلة. فلا يتفق أهل مذهب من المذاهب على أن واضع هذا العلم هو فلان الفلاني، ومن هنا فإن كثيراً من المعتزلة حاولوا الإلمام ببعض جوانب هذا العلم قبل عدد من الذين ذكرناهم، فمثلاً النظام من المعتزلة ذكر بعض جوانب هذا العلم وجمعها، وكذلك أبو الهذيل العلاف وعدد من أئمة المعتزلة الكبار جمعوا في هذا العلم أشياء، لكن كثيراً منهم لم يؤلف مثل عمرو بن عبيد فإنه وإن كان ناقش في أكثر مسائل العقيدة وتخصص فيها لكن لم يكتب آراءه، إنما رويت عنه ونقلت، وحتى كان من تلامذته المنصور أمير المؤمنين فقد كان يزكيه ويقول: كلكم يطلب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد وبعد هذا اشتهر من المؤلفين منهم في هذا المجال: أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم والقاضي عبد الجبار، والقاضي أبو الحسين البصري من الأصوليين الذين اشتهروا في هذا العلم أيضاً وجمعوا فيه.

الفرق بين الإيمان بالملائكة والإيمان بالجن

الفرق بين الإيمان بالملائكة والإيمان بالجن Q لماذا كان الإيمان بالملائكة ركناً من أركان الإيمان ولم يكن الإيمان بالجن كذلك؟ A ذكرنا أن أهم شيء ينفع العقل البشري فيما يتعلق بجنود الله سبحانه وتعالى الغيبية، هو الإيمان بالملائكة، ولهذا كان الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان، لكن مع هذا نؤمن بالجن ووجودهم، ولكن فائدة ذلك للعقل محدودة، ولهذا لم يكن الإيمان بهم ركناً من أركان الإيمان وإنما كان جزئية من الإيمان بالكتب المنزلة؛ لأنه ثبت نزوله في الكتب المنزلة، لكن لو كان لنا في الجن مثل حسن لكان الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان. فتبين أنه يجب الإيمان بالجن لكن ليس ركناً من أركان الإيمان، لأنه ليس لنا فيهم مثل حسن ولا أسوة حسنة، ولا نستفيد كثيراً من الإيمان بهم، لكن إيماننا بالملائكة كيف يؤثر علينا عقلياً وعاطفياً؟ وكيف يقتضي محبتنا لله سبحانه وتعالى، ومنافستنا في عبادته؟ واضح جداً أن الإيمان بالملائكة مفيد لنا، وأن الإيمان بالجن فائدته محدودة.

دخول الإيمان بالجن في الإيمان بالكتب المنزلة

دخول الإيمان بالجن في الإيمان بالكتب المنزلة Q هل الإيمان بالجن يدخل في الإيمان بالقرآن؟ A نعم الإيمان بالجن يدخل في الإيمان بالكتاب؛ لكنه لم يكن ركناً مستقلاً لنقص أهميته للعقل، وبالنسبة لمن أنكر وجود الجن فإنه يكفر لكن كفرانه بإنكاره لبعض ما جاء في الكتب المنزلة، لكن ليس لركن من أركان الإيمان المستقل، وهذا طبعاً لا يكفر قبل إقامة الحجة عليه، فإنه إذا كان يجهل أن الجن ورد لهم ذكر في القرآن فأنكر وجودهم لا يكفر؛ لأنه لا يجب تعلم آيات الجن من القرآن، لكن من بلغه أن هذا في القرآن فأنكره تكذيباً للقرآن فإنه كافر بركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالكتب المنزلة. لكن من جهل ذلك وما عرف أن القرآن فيه ذكر للجن، فأنكر وجودهم لا يكفر.

فائدة الإيمان باليوم الآخر

فائدة الإيمان باليوم الآخر Q ما فائدة الإيمان باليوم الآخر؟ A ذكرنا أن الإيمان باليوم الآخر مفيد لنا في حياتنا الدنيا وفي حياتنا الأخرى، فحياتنا الأخرى كلها مرتبطة بالإيمان باليوم الآخر؛ لأن من آمن بأنه سيحشر ويبعث سيعمل لئلا يكون من الأشقياء ولئلا يكون من أصحاب النار، لكن فوائده في الدنيا منها: استمراره في العمل الدنيوي ليبقي ذكراً حسناً وفائدة بعده؛ لأن اليوم الآخر عندنا يبدأ من الموت: (إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته)، والإنسان إذا علق كل أعماله على موته هو لا يدري متى يموت؛ فكل لحظة يمكن أن يموت فيها، فلو كان لا يعمل إلا لحياته الدنيا فقط، ولا يشعر بشيء في المستقبل لما أتى بالمشاريع النافعة التي تستمر مئات السنوات أو آلاف السنوات، ولا ألف كتاباً ولا بنى مبنىً ولا أجرى نهراً ولا زرع زراعة ولا أقام أي مشروع تستفيد منه البشرية في المستقبل. لكن نظراً لأنه يؤمن بأن حياته ليست مقتصرة على هذه الحياة الدنيا، وأن هذه الحياة الدنيا إنما تمثل جزءاً بسيطاً من حياته وهي وقت الامتحان فقط، أما الحياة الحقيقية فهي الحياة الأخروية؛ فمن هنا تعمل لذلك وتريد الاستمرار للجنس البشري وتريد -نظراً لمحبتك لله- أن يعبده الناس، حتى إذا عجزت أنت عن عبادته تحب أن يعبده جبريل وميكائيل، وتحب أن يعبده أقوام آخرون لم ترهم.

تداخل عناصر الدين وترابطها في تغذية الروح والبدن

تداخل عناصر الدين وترابطها في تغذية الروح والبدن Q عناصر الدين الثلاثة يلاحظ أن كلاً منها يفيد الروح والبدن، وأنتم خصصتم فائدتها، فكيف ذلك؟ A ما يلاحظ من الارتباط أو التداخل بين هذه العناصر من أن الإيمان فإنه قد يفيد الروح أيضاً وقد يفيد البدن، والإسلام كذلك يفيد الروح ويفيد البدن، والإحسان يفيد الروح ويفيد البدن والعقل. فيجاب عن هذا: بأن هذا التداخل نظراً لترابطها ولأنها عناصر لشيء واحد وهو الدين، والعناصر لا يمكن إفراد كل واحد منها وحده؛ فلا ينفع الإيمان دون الإسلام، ولا ينفع الإسلام دون الإيمان، ولا ينفع واحد منهما دون الإحسان فلابد من جمع الجميع حتى يقع التوازن، وتوجد نقاط معينة لالتقاء هذه الجوانب يصعب تحديدها جداً، مثل الروح مع البدن، هل تستطيع أن تفصل روحك عن بدنك؟ وهل تستطيع أن تفصل عقلك عن بدنك وروحك؟ هذه مشتبكة، لكن أنت تفهم أن عناصرك الأساسية هي هذه الثلاثة، وتفهم أن عناصر الدين الأساسية هي هذه الثلاثة، لكن هناك مناطق تتداخل فيها، ويصعب عليك تحديدها بالضبط ولا تحتاج إلى ذلك، والعلم حاجتك إليه عقلية، فما ليس منه مفيداً نافعاً لك ولا يترتب عليه عمل لا ينبغي أن تشغل به وقتك، وما كان نافعاً لك مفيداً هو الذي تركز عليه، فالعلم الذي يترتب عليه العمل أهم من غيره؛ لأن غيره مجرد ترف في العلم.

اعتقاد عدم فناء النار من الأمور الظنية في علم التوحيد

اعتقاد عدم فناء النار من الأمور الظنية في علم التوحيد Q هل اعتقاد عدم فناء النار من الأمور القطعية في الاعتقاد؟ A بالنسبة للجنة لم يقل أحد من المسلمين بفنائها، لكن النار فيها خلاف، وهذا الخلاف يقتضي ألا تكون من الأمور القطعية، بل هي من الأمور الظنية في هذا العلم، وسنذكر ذلك إن شاء الله في موضعه.

توحيد العبودية

توحيد العبودية لقد أرسل الله الرسل يدعون إلى إفراد الله بالعبادة، وينهون عما يخل بذلك أو يؤدي إلى نقيضه من الشرك كتعبيد الأسماء لغير الله، والتبرك الممنوع، كما نهوا عن التمسح بالقبور والنذر لغير الله أو الذبح للأموات وغير ذلك.

وجوب إفراد الله بالعبادة

وجوب إفراد الله بالعبادة قال: [فأفردوه جل بالعباده لا تشركوا في نوعها عباده] الفاء هنا للترتيب على ما سبق، ومعناه: إذا اجتنبتم الشرك فأفردوا الله، أي: وحدوه بالعبادة، وهذا هو الذي يسميه أهل السلوك بالتخلي قبل التحلي. فالتخلي يقتضي التخلص من الشرك. والتحلي يقتضي التحلي والاتصاف بالتوحيد. فيجمع الإنسان بين النفي والإثبات فينفي الشرك أولاً ثم يثبت التوحيد ثانياً، وهذان الأمران تضمنتهما كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فـ (لا إله) نفي، و (إلا الله) إثبات، فلذلك بدأ أولاً بنفي الشرك ثم رتب عليه إثبات التوحيد في قوله: (فأفردوه جل بالعبادة)، هذا معنى التوحيد. فكثير من الناس يجهل معنى توحيد؛ لأن (وحد) تأتي في اللغة بمعنى: جعل الشيء واحداً، وأنت لا تستطيع الجعل فالجعل مستحيل في هذا الباب. وكثير من الناس يظن أن (فعَّل) هنا تدل على الاختصار مثل: سبَّح ونحو ذلك، أي: قال أحد أحد، فليس (وحد) بمعنى: قال أحد أحد، بل المقصود بالتوحيد هو الإفراد، وحده بمعنى: أفرده بالعبادة، أو: أفرد التوجه إليه بالعبادة. قوله: (جلّ) هذا ثناء عليه. (بالعبادة) أي: بجنسها الذي يشمل الأقوال والأفعال وأنواع العبادات والقربات، فيشمل ذلك الفرائض والسنن والمندوبات، ويدخل فيه كل ما يتقرب به إليه سبحانه وتعالى. ما معنى إفراده بالعبادة؟ المعنى: ألا يشرك العباد في جنس ما يسمى عبادة، بحال من الأحوال، فمن جنس العبادة مثلاً الصلاة والدعاء والذكر ونحو ذلك، فهذه لا يشرك فيها أحد مع الله سبحانه وتعالى بوجه من الوجوه. وأما شكر الناس فقد جاء فيه: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، وجاء الأمر بالشكر للوالدين في قول الله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، فليس ذلك من الإشراك في جنس العبادة باختلاف النوعين، فالشكر لله سبحانه بصرف ما أنعم به عليه في طاعته، والشكر للوالدين أو لمن أحسن إليك بالدعاء له وبمدحه بما يستحق ومجازاته عليه. فإذاً هناك فرق بين شكر الله وشكر عباده، فشكر الله هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به في طاعته، وشكر العبد هو فعل ينبئ عن تعظيمه بسبب كونه منعماً أو بسبب كونه متفضلاً. وكذلك ما جاء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصاري حين سأله: كم أجعل لك من صلاتي؟ فالمقصود ما يجعل له من دعائه؛ لأن هذا الأنصاري كان يدعو لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع نفسه لمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكثر من الدعاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا جعل دعاءه له كله يُكفى ما أهمه. فاتضح من هذا أن المقصود بما يجعل له من دعائه ليس دعاء شخص، إنما هو أن يصلي عليه، فلو اقتصر في الدعاء على الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقط ولم يدع بغير ذلك فإنه يحصل له ثواب الداعين، ويستجاب له في قضاء حوائجه الأخرى، ويكفى كل ما أهمه.

النهي عن تعبيد الأسماء لغير الله

النهي عن تعبيد الأسماء لغير الله قوله: (لا تشركوا في نوعها عبادة)، يعني: عبادة الله سبحانه وتعالى، فلا تشركوا في نوع ما يسمى عبادة، فيدخل في هذا النذر والذبح ونحوهما، فلا يجوز النذر للمخلوق بل هو شرك بالله سبحانه وتعالى، وكذلك التعبيد بالأسماء، وكذلك الذبح ولهذا قال: [فلا تسموا ولداً عبد علي أو تنذروا لصالح أو لولي] أي: فلا تسموا ولداً عبد علي أو عبد فلان من الناس؛ لأن هذا تعبيد فلا يجوز إلا لله سبحانه وتعالى، فلا يطلق ذلك في التسمية، لكن إذا كان مملوكاً له يجوز أن تقول: أتاني عبد فلان فسألني عن كذا. وهنا يأتي التفريق بين ما يرد في الكلام على الحقيقة وما يرد على المجاز، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقول أحدكم عبدي أو أمتي بل يقول فتاي وفتاتي)، فالنهي هنا من باب الأدب، فلا ينبغي للإنسان أن ينطق بذلك؛ لأن فيه كسراً لخواطر الذين يخاطبهم بذلك. وإذا أراد الإنسان أن ينسب إلى غيره عبداً أو أمة فلا حرج أن يقول: هذا عبد فلان، أو أمة فلان، أو جارية فلان مثلاً، ولكن المحذور هو التسمية بذلك، وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أسماء الجاهلية التي فيها تعبيد لغير الله، حتى من مات على الكفر قد يغيره إكراماً لولده، فقد كان رجل من بني سليم يسمى غاوي بن عبد العزى فلما أسلم وحسن إسلامه أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغيير اسمه واسم أبيه، فسماه راشد بن عبد ربه. فتغيير اسم أبيه هنا لا ينفع أباه بشيء ولكنه تكريم له هو، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغير اسم عبد المطلب، ولا عبد العزى، من أجداده صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم والدته آمنة بنت وهب أمها برة بنت عبد العزى بن قصي، فلم يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه. وحتى بعض أعمامه فإن أسماءهم كانت من أسماء الجاهلية، ولكنهم اشتهروا بكناهم كـ أبي طالب مثلاً، واسمه عبد الكعبة، مع أن الكعبة لم تكن تعبد في الجاهلية وقد خصها الله بهذا، لكن المقصود بذلك أنه سادنها وخادمها، وأبو لهب اسمه عبد العزى، ولكن اشتهرت كنيته فغطت على اسمه. قوله: (فلا تسموا ولداً عبد علي)، معناه أنه لا يجوز لوالد مولود أن يسميه بالتعبيد لغير الله، ولا يجوز لغيره إذا سماه هو بذلك أن يطلقه عليه، والتخلص من ذلك إما بتغيير اسمه بالكلية، أو إذا كان منسوباً لصالح أو لنبي فيجعل ذلك على تقدير مضاف، فإذا سمي عبد الرسول أو عبد النبي أو عبد علي، فإنه يقال: عبد رب النبي، وعبد رب الرسول، وعبد رب علي، وعبد رب الحسين، وهكذا. وهذه إنما اشتهرت في الشيعة فهم الذين يسمون هذه الأسماء، وتندر في أهل السنة، وإنما تقع في الفئات المخالطة للتشيع التي يقع فيها التعبيد لغير الله، ولا يقصدون بذلك حقيقة الأمر؛ إذ لو قصدوا ذلك لأشركوا، وإنما يقصدون به تشريف هؤلاء الذين يضاف إليهم الأولاد وينسبون إليهم.

من الشرك النذر لغير الله

من الشرك النذر لغير الله قوله: (أو تنذروا لصالح أو لولي): كذلك من الشرك النذر لغير الله سبحانه وتعالى، والنذر في الأصل عبادة يلتزمها الإنسان تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، وقد شرعها الله تعالى لعباده فقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]. وقد نهي عن أنواع من النذر، منها: النذر المعلق، وهو أن يعلق الإنسان نذراً على قضاء حاجة من حوائجه، كبرئه من سقم، أو قدوم مريض، أو أن يولد له ولد أو نحو ذلك، فيكره أن ينذر نذراً معلقاً على أمر، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه لا يردُّ من قدر الله شيئاً وإنما ينتزع الله به من يد البخيل، وما كتبه الله سيقع، فالذي ينذر النذر المعلق حكم على نفسه بأنه بخيل في تعامله مع الله، نسأل الله السلامة والعافية. كذلك النذر المكرر، كنذر صوم الإثنين أو الخميس أو نحو ذلك، فهذا النذر يكره لأنه قد يشق على الإنسان وقد يأتي وقت لا يستطيع أداءه فيه. وأيضاً: فإنه يشبه صورة التعبد بإيجاب شيء لم يوجبه الله، وهذا من أمر الجاهلية، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] وفي قراءة أخرى: (إنما النسي زيادة في الكفر) {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة:37]، فهذا النسيء كان أهل الجاهلية ينسئون الشهور، فيجعلون الشهر الحلال حراماً، والحرام حلالاً، فإذا أرادوا الحرب في الأشهر الحُرم أخروها إلى الأشهر الحل، فيشرعون ما لم يأذن به الله، فيكون هذا تشريعاً لما لم يأذن به الله، وهذا ما يفخرون به، حيث يقول شاعرهم: ونحن الناسئون على معدٍّ شهور الحل نجعلها حراماًً فرد الله تعالى هذا النسيء، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من الهجرة: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)، ففي العام التاسع كانت الحجة في شهر محرم بدلاً من ذي القعدة. وفي العام العاشر حج النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحج حتى استدار الزمان ورجع النسيء وأبطل، وهذا هو سبب عدم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع، وتوليته لـ أبي بكر على الحج في ذلك العام، فإن الحج لم يكن في وقته، وإلا لو كان في وقته لحج النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع. حتى في العام الثامن لم يحج مع أنه اعتمر في شهر ذي القعدة من العام الثامن بعد فتحه لمكة عندما رجع من الطائف، فإنه اعتمر من (الجعرانة) ولم يحج في تلك السنة، ولم يؤمر أميراً على الحج إلا عتاب بن أسيد الذي أمره على مكة، فأقام عتاب الحج للناس، وهي أول حجة في الإسلام، ثم في العام التاسع حج أبو بكر بالناس، ثم أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ علي بن أبي طالب ليبلغ سورة البراءة، فإنها أنزلت عليه بعد ذهاب أبي بكر وقال: (لا ينبغي أن يبلغها عني إلا رجل من أهل بيتي)، ثم في العام العاشر حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع. أما النذر للمخلوق للتقرب إليه، فإنما يحصل من اعتقاد أنه ينفع أو يضر، وهذا قد سبق أنه من أنواع الشرك؛ فلذلك لا يمكن أن يكون هذا مقبولاً شرعاً، ولو فعله الإنسان ووقع فيه لم يلزمه شيء. والفرق بين الصالح والولي: أن الصالح من صلحت المعاملة بينه وبين الله، وبينه وبين الناس على قدر الإمكان. والولي هو من اتخذه الله ولياً من أوليائه ولم يجعله عدواً من أعدائه. فبينهما عموم وخصوص، وقد اشتهرت هاتان الكلمتان على ألسنة العوام، يقولون: فلان صالح وفلان ولي؛ ولذلك صرح الشيخ بهما معاً ليرد هذه الأفكار الشائعة في عوام الناس.

الكلام على التبرك الجائز والممنوع

الكلام على التبرك الجائز والممنوع قال: [ولا تمسوا قبراً أو تَمَسَّحوا ولا تطوفوا حوله أو تذبحوا] ذكرنا أن النوع الرابع من أنواع الشرك الأكبر المخرج من الملة هو شرك الطاعة، وأنه يحصل عن طريق الغلو في الأشخاص، ويظن الإنسان أنهم يملكون له نفعاً وضراً، وهذا يحصل في الأحياء ويحصل في الأموات، فالأموات يظن الناس بهم النفع فيتقربون إليهم، وينسون أنهم لم يستطيعوا رفع الموت عن أنفسهم ولا المرض، وقد ماتوا وأكل عظامهم التراب، فكيف يملكون لغيرهم نفعاً أو ضراً؟! وهذا التمسح كان من عمل الجاهلية مثل الذبح على القبور، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ألا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، فأزال هذه البناءات التي كانت تبنى على القبور، ويُتمسح عليها، ويُذبح عليها ويُنحر، فرد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطله.

جواز التبرك بشخصه صلى الله عليه وسلم وأجزائه

جواز التبرك بشخصه صلى الله عليه وسلم وأجزائه فلهذا لا تمس القبور لقصد التبرك بتربتها أو لقصد التقرب إلى أصحابها؛ لأن ذلك من جنس العبادة، وقد سبق أن العبادة لا بد أن تصرف كلها لله، وإن كان التبرك في نفسه ليس عبادة؛ ولهذا جاز التبرك برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان التبرك عبادة لما جاز بمخلوق. والتبرك بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور الجائزة التي ينتفع بها في مجال الدنيا، ولكنه لا ينفع في مجال الآخرة، وهنا الفرق: فإن التبرك إنما ينفع في مجال الدنيا؛ لأن البركة معناها النماء الدنيوي، فيمكن أن يحصل عن طريق البركة شفاء مرض أو نحو ذلك، لكن لا يمكن أن تغفر به الذنوب، أو أن يدخل به الإنسان الجنة مثلاً، فهي نافعة في المجال الدنيوي فقط. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبركون به، فكانوا يتبركون بوضوئه وبريقه ومخاطه وبكل شيء مسه، حتى شربت بركة أم أيمن بول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرب عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما دمه صلى الله عليه وسلم فقال له: (ويل للناس منك، وويل لك من الناس)، معناه أنه سيكون شجاعاً، وسيكون بشربه للدم أيضاً محل عداوة؛ فسيعاديه الناس كما عادوا الأنبياء، فالأنبياء هم أشد الناس بلاءً، وقد حصل ذلك. وقد كانوا يتبركون بكل شيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن عروة بن مسعود حينما رجع إلى قريش من الحديبية وصف حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا معشر قريش! لقد وفدت على كسرى في ملكه، وعلى قيصر في ملكه، وعلى النجاشي في ملكه، فما رأيت أحداً منهم يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، فوالله ما امتخط إلا وقع مخاطه في يد أحدهم فدلك به وجهه ورأسه، ولا توضأ إلا كادوا يقتتلون على وضوئه، ولا تكلم إلا أنصتوا حتى كأن على رءوسهم الطير. وكذلك فإن من التبرك به صلى الله عليه وسلم تبركهم بوضع يده في الماء كما حصل في عدة غزوات، فإنهم عطشوا في غزوة فلم يبق معهم إلا ماء قليل في ركوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوا إليه ذلك، فأمر بقدح، وأمر أن يصب الماء فيه، وجعل يده فيه، فجعل الماء يفور من بين أصابعه، والناس يستقون حتى ملئوا ما معهم من الآنية والظروف، فشربوا، وسقوا نواضحهم ودوابهم، وهذا الماء هو أفضل ماء على وجه الأرض إذ ذاك؛ لأن خير المياه الماء الذي نبع من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول أحد الفقهاء: وأفضل المياه ماء قد نبعْ بين أصابع النبي المتبعْ يليه زمزم فماء الكوثرِ فنيل مصر ثم باقي الأنهُرِ

تبركهم بجسده وشعره صلى الله عليه وسلم ومسحه

تبركهم بجسده وشعره صلى الله عليه وسلم ومسحه وكذلك فإنهم كانوا يتبركون بمس جسده صلى الله عليه وسلم كما فعل سواد بن غزية رضي الله عنه، فإنه: (كان في الصف في حال المعركة، فتقدم قليلاً، فغمزه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحجن كان في يده، وكان أمام الصف يسوي الصفوف، فقال: أوجعتني يا رسول الله فأقدني -أعطني القود- فكشف له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خصره، فالتزمه، فقيل له في ذلك فقال: إني الآن مقبل على الموت، فأردت أن يكون آخر عهدي بالدنيا أن أمس جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكذلك بمسح يده، فإنه صلى الله عليه وسلم حين سالت عين قتادة إذ رماه المشركون بسهم فأصاب عينه، فوقعت على خده، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أحدَّ عينيه. وكذلك فإنه مسح على عاتق معاذ بن عمرو بن الجموح حين ضربه عكرمة بن أبي جهل بالسيف، فعاد عاتقه إلى مكانه والتأم. ومثل هذا مسحه على صبي أقرع من ولدان الأنصار، فنبت شعره ولم يشب بعد ذلك. فهذا من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك التبرك ببعض ما بقي من شعره وأظافره بعد موته، ففي صحيح البخاري: أن أم سلمة رضي الله عنها كان لها جلجل من فضة فيه شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الناس إذا مرض مريض أرسل إليها بقدح من ماء فخضت فيه الجلجل فيشربه فيبرأ. وكذلك كان لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أظافره، فأمر أن تجعل داخل عينيه في حنوطه يتقي النار بها، ولا يقصد اتقاء النار الأخروية بذلك، إنما يقصد اتقاءها بمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي التي تتقى بها النار، وبركة النبي صلى الله عليه وسلم يتقى بها الضرر الدنيوي والبرزخي ونحو ذلك. وكذلك كان لـ خالد بن الوليد شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فكان يجعلها في مغفره؛ يتقي بها السيوف.

التبرك بآثار يده صلى الله عليه وسلم وثيابه

التبرك بآثار يده صلى الله عليه وسلم وثيابه وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها كان لها جراب قد أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فأنفقت منه فترة طويلة حتى كان في خلافة عمر، فكالته لتعرف كم فيه، فزالت عنه تلك البركة. وكان لـ أبي هريرة جراب -أي: كنيف صغير- أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فكان فيه شعير، فكان ينفق منه ويأكل، وإذا نال تمراً أو شعيراً جعله فيه، فأخذ يوم قتل عثمان، فرثاه بقوله: للناس همٌّ ولي في اليوم همان فقد الكنيف وفقد الشيخ عثمان وكذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يتمسك بما آتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفرط فيه، فقد أملى عليه ورقة كتبها فجعلها في قراب سيفه، وقد أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف المشهور بذي الفقار، فبقي عنده وعند ذريته حتى وصل إلى خلفاء بني العباس فاشتروه، وهو الآن موجود في خزائن الخلافة العثمانية. وكان الخلفاء قديماً يتداولون خرقة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بقيت، واختلف في تاريخها لأنها لم يتداولها الخلفاء الراشدون وإنما أخرجها معاوية للناس، فاختلف الناس، فقيل: إنها كانت لـ أبي الجهم فأهداها إلى معاوية، ولا شك أن أبا الجهم أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب الذي صلى فيه فشغله علمه في الصلاة، فإن كانت من هذا الثوب فقد أهداها أبو الجهم لـ معاوية. وقيل: إنما كانت من بردة كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير فاشتراها معاوية من أولاده، فكانت عند معاوية، ثم تداولها الخلفاء بعده، واستمرت لديهم زماناً طويلاً، ولم يبق منها إلا خرقة قليلة وصلت إلى خلفاء بني عثمان (العثمانيين). ويزعم الناس أنها ما زال منها قطعة إلى الآن، والله أعلم. وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها كان لها جراب قد أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فأنفقت منه فترة طويلة حتى كان في خلافة عمر، فكالته لتعرف كم فيه، فزالت عنه تلك البركة. وكان لـ أبي هريرة جراب -أي: كنيف صغير، أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده- فكان فيه شعير، فكان ينفق منه ويأكل، وإذا نال تمراً أو شعيراً جعله فيه، فأخذ يوم قتل عثمان، فرثاه بقوله: للناس همٌّ ولي في اليوم همان فقد الكنيف وفقد الشيخ عثمان وكذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يتمسك بما آتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفرط فيه، فقد أملى عليه ورقة كتبها فجعلها في قراب سيفه، وقد أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف المشهور بذي الفقار، فبقي عنده وعند ذريته حتى وصل إلى خلفاء بني العباس فاشتروه، وهو الآن موجود في خزائن الخلافة العثمانية إلى الآن. وكان الخلفاء قديماً يتداولون خرقة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بقيت، واختلف في تاريخها لأنها لم يتداولها الخلفاء الراشدون وإنما أخرجها معاوية للناس، فاختلف الناس، فقيل: إنها كانت لـ أبي الجهم فأهداها إلى معاوية، ولا شك أن أبا الجهم أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب الذي صلى فيه فشغله علمه في الصلاة، فإن كانت من هذا الثوب فقد أهداها أبو الجهم لـ معاوية. وقيل: إنما كانت من بردة كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير فاشتراها معاوية من أولاده، فكانت عند معاوية، ثم تداولها الخلفاء بعده، واستمرت لديهم زماناً طويلاً، ولم يبق منها إلا خرقة قليلة وصلت إلى خلفاء بني عثمان (العثمانيين). ويزعم الناس أنها ما زال منها قطعة إلى الآن، والله أعلم. وكذلك فإن عائشة رضي الله عنها كان لها جراب قد أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فأنفقت منه فترة طويلة حتى كان في خلافة عمر، فكالته لتعرف كم فيه، فزالت عنه تلك البركة. وكان لـ أبي هريرة جراب -أي: كنيف صغير، أدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يده- فكان فيه شعير، فكان ينفق منه ويأكل، وإذا نال تمراً أو شعيراً جعله فيه، فأخذ يوم قتل عثمان، فرثاه بقوله: للناس همٌّ ولي في اليوم همان فقد الكنيف وفقد الشيخ عثمان وكذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يتمسك بما آتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفرط فيه، فقد أملى عليه ورقة كتبها فجعلها في قراب سيفه، وقد أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف المشهور بذي الفقار، فبقي عنده وعند ذريته حتى وصل إلى خلفاء بني العباس فاشتروه، وهو الآن موجود في خزائن الخلافة العثمانية إلى الآن. وكان الخلفاء قديماً يتداولون خرقة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بقيت، واختلف في تاريخها لأنها لم يتداولها الخلفاء الراشدون وإنما أخرجها معاوية للناس، فاختلف الناس، فقيل: إنها كانت لـ أبي الجهم فأهداها إلى معاوية، ولا شك أن أبا الجهم أهدى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب الذي صلى فيه فشغله علمه في الصلاة، فإن كانت من هذا الثوب فقد أهداها أبو الجهم لـ معاوية. وقيل: إنما كانت من بردة كساها رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير فاشتراها معاوية من أولاده، فكانت عند معاوية، ثم تداولها الخلفاء بعده، واستمرت لديهم زماناً طويلاً، ولم يبق منها إلا خرقة قليلة وصلت إلى خلفاء بني عثمان (العثمانيين). ويزعم الناس أنها ما زال منها قطعة إلى الآن، والله أعلم.

التبرك بماء المطر وبالكعبة

التبرك بماء المطر وبالكعبة هذا التبرك بشخص النبي صلى الله عليه وسلم لا غبار عليه ولا إشكال فيه، ولا يختلف فيه اثنان من هذه الأمة، ومثله التبرك بماء المطر المنزل من السماء، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف له عن كتفيه ورأسه، ففيه بركة لقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق:9]. وهذه البركة يمكن أن تكون شفاء من بعض الأمراض، ويمكن أن تكون أيضاً نافعة للأمراض الجلدية كما يذكر بعض المجربين لذلك، وزعم بعض أهل العلم أنها نافعة للشيب أيضاً، فكانوا يتعرضون برءوسهم للمطر للبركة التي فيه؛ لأن الله وصفه بالبركة. وكذلك البيت الحرام، فإن الله سبحانه وتعالى يقول فيه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]، ففيه بركة لا يمكن أن تنكر لإثبات الله لها في كتابه، وهذه البركة في الحجر دون خلاف؛ ولذلك قبَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم واستلمه، وفي الركن اليماني دون خلاف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسحه بيده. واختلف في بقية الأركان هل تمسح أم لا؟ فذهب بعض الصحابة إلى أنها لا تمسح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمسحها، وذهب آخرون إلى أنه ليس شيء من الكعبة مهجوراً، فتمسح جميعاً، وحين بنى ابن الزبير الكعبة على قواعد إبراهيم اتفق هو وعدد من الصحابة على مسح الأركان الأربعة؛ لأنهم فهموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ترك مسح الركنين الشاميين لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، فهما في داخل الكعبة. واليوم قد أعيدا إلى ما كانا عليه فهما في داخل الكعبة، ومع ذلك فالبيت مبارك في جميع أجزائه، ولا حرج في التبرك به من غير غلو، مع اعتقاد أنه لا ينفع ولا يضر لذاته كما قال عمر بن الخطاب في الحجر الأسود.

حكم التبرك بغير ما ورد النص فيه

حكم التبرك بغير ما ورد النص فيه أما سوى ما ذكر فإن البركة قد توجد، لكن لا يقطع بوجودها إلا بما جاء الوحي بأنها فيه، فالله سبحانه وتعالى ذكر بركة الماء المنزل من السماء، وذكر بركة البيت الحرام، وعرفنا بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ما سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأشخاص لم يرد فيهم النص؛ فلذلك لم يتبرك بهم، وهذا في الأعم الأغلب. ولا ينكر أنه حصل في بعض الحكايات لبعض الصحابة بعض التبرك، لكنه لم يشتهر ولم ينتشر بينهم مثل انتشار تبركهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالأخص بأهل بيته، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث جعفر بن محمد عن أبيه أنه دخل على جابر بن عبد الله، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فعرفه بنفسه فقال: يا ابن أخي! ادنُ مني. فأدناه، فحل زره الأعلى، ثم حل زره الأسفل، ثم وضع يده بين ثدييه. وما فعل هذا جابر بحفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبركاً به، ولأنه يقصد بذلك إدناءه ومحبته لحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولآل بيته، وليس في ذلك غلو ولا اعتقاد أنه ينفعه أو يضره، بل جابر أفضل من محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم أجمعين. ومن فقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه أنه حين ذكر في (كتاب التوحيد)، التبرك المذموم، ذكر التبرك بالأشجار والأحجار ولم يذكر التبرك بالأشخاص؛ لأنه يفصل فيه، فلم يذكره أصلاً، وإنما ذكره الشُّرَّاح وبالغوا فيه لكن الشيخ ما ذكره. أما التبرك بالأحجار والأشجار والقبور ونحو ذلك، فهذا التماس للبركة في غير ما هي فيه، ومن ذلك قبور الصالحين والشهداء والصحابة، حتى الأنبياء فإن أجسادهم مستورة، والتربة التي يتبرك بها الناس ليست بأجسادهم المباركة، ولم تتحلل أجسادهم إلى التراب أصلاً؛ لأن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فلذلك لا يتبرك بشيء من ذلك.

وقوع البركة في شيء لا تقتضي تعالجا به

وقوع البركة في شيء لا تقتضي تعالجاً به وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ثابت بن قيس بن شماس: (تربة أرضنا، بريقة بعضنا، شفاء سقيمنا، بإذن ربنا)، فلا يقصد به التبرك بأصل التربة، ولهذا ذكر العلماء أن هذا الحديث من أحاديث الطب النبوي، فإن كل قوم يكون علاج ما ينبت بأجسادهم من الأمراض الجلدية موجوداً في تربتهم التي تربو عليها، والبيئة التي عاشوا فيها، فيمكن أن يكون من هذا الباب. ولو قصد به تربة بعينها فيها بركة لكان هذا معروفاً بالوحي فقط، ولا يقاس عليه غيره. وقد تأتي البركة في الأمر فلا تقتضي تعالجاً به ولا انتفاعاً به، وإنما تقتضي كثرة خيره ونمائه، مثل البركة في أرض الشام، حيث قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، فالمقصود بالبركة حوله: كثرة الثمار والزروع ونحو ذلك، ولا يقصد بها أن تلتمس البركات في أرض الشام بالتعالج بها ونحو ذلك.

حكم التبرك بالقبور مسا أو مسحا

حكم التبرك بالقبور مساً أو مسحاً قوله: (ولا تمسوا قبراً): جاء النهي عن الجلوس والمشي عليها؛ وذلك لأنه إزراء بأصحابها وازدراء لهم، وهي حبس عليهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور فاختلف العلماء في معناه، فقيل: المقصود النهي عن الجلوس عليها للحاجة، أي جلسة قضاء الحاجة فقط، وأما مجرد الجلوس عليها فليس النهي وارداً فيه، ولكن عموماً التربة التي دفن فيها الإنسان هي وقف عليه، فلا ينبغي الجلوس عليها، ولا المرور من فوقها أي: المشي عليها. وكذلك الصلاة عليها، والصلاة إليها، فكل ذلك منهي عنه، والنهي عن الصلاة بالخصوص لأمور متعددة: الأمر الأول: سد ذريعة الشرك؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح اتخذوا قبره وثناً، وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وسأل ربه ألا يتخذ الناس قبره وثناً. وكذلك أن المقابر فيها تحللات لأجزاء الموتى، وجثث الموتى فيها خلاف: هل هي طاهرة أو نجسة، حتى المسلمون منهم. فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الميت نجس مطلقاً سواء كان مسلماً أو غير مسلم، ورأوا أن الحياة علة للطهارة، فالشاة ما دامت حية فهي طاهرة، وإذا ماتت فإنها تنجس. ورأى آخرون أن أجزاء الكفار نجس، وأن الأجزاء الداخلية من المسلمين نجس لمباشرتها للأنجاس كالدم والعذرة ونحو ذلك، وأن الأجزاء الظاهرة من أموات المسلمين طاهرة، ولذلك تغسل، ولو كانت نجسة لما غسلت؛ لأن النجس لا يتطهر، والذين يرون أنها نجس يقولون: الغسل تعبُّدٌ لا تطهير. والخلاف فيها مذهبي بين المذاهب لا يمكن أن نحسم نحن فيه، ولكن أقرب ذلك أن يقال: المؤمن طاهر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة (المؤمن لا ينجس)، ومع ذلك فهذا الحديث يمكن أن يحمل على النجاسة الحسية والنجاسة المعنوية، مثلما جاء ذلك في قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] فقد اختلف فيه: هل النجاسة حسية أو معنوية. قوله: (أو تمسَّحوا) كذلك التمسح، وهو أشد من مجرد المس، فالتمسح على القبور لالتماس بركة أصحابها أشد من مجرد مسها، و (تمسحوا) حذفت منها التاء الثانية، فهي بحذف إحدى التاءين، وأصلها: أو تتمسحوا، وهذا كثير في اللغة والقرآن والسنة.

حكم الطواف حول القبور

حكم الطواف حول القبور قوله: (ولا تطوفوا حوله أو تذبحوا): كذلك الطواف حول القبور يعتبر من الغلو فيها، والمقصود بالطواف حولها: ما كان طقساً يشبه عبادة، كأن يطوف الإنسان بها بقصد أمر يطلبه، أو لدعاء صاحب القبر أو نحو ذلك. وأما التطواف عليها بمعنى المرور حولها للاتعاظ بها، وتذكر أن هذا الذي قد مات، وسفا عليه السافي، وأقصاه أهله، وانقطعت أخباره؛ قد كان يوماً من الأيام يحب الناسُ قربه ويتقربون إليه، وهو الآن قدم إلى ما قدم، وأصبح جدثاً تسفي عليه السوافي لا يسأله أحد شيئاً، ولا يسأل عن خبر، ولا يصل خبر عنه؛ فغير مراد هنا. والتطواف بالقبور لقصد عبادة أهلها شرك أكبر مخرج من الملة، وكذلك تشريع الطواف بها، كمن شرع ذلك أو اعتقده فجعله مثل الطواف بالكعبة. وأما اتخاذ ذلك عادة لغير عبادة ولا تشريع فهو محرم، ولكنه لا يصل إلى درجة الشرك، وأما المرور عليها للموعظة فهو من فضائل الأعمال الجائزة، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يدور حولها؛ سداً لذريعة التشبه بالطواف.

حكم الذبح للقبر

حكم الذبح للقبر قوله: (أو تذبحوا): كذلك لا تذبحوا على القبور أو حولها، فالذبح عليها أو حولها من أعمال الجاهلية، فقد كانوا يذبحون وينحرون على القبور وينضحونها بالدماء، ويظنون أن تلك الدماء هي حظ الأموات من الذبائح، فيظنون أن الدم يصل إليهم في قبورهم، وقد كان أهل الجاهلية يبالغون في هذا، فينحرون ويتركون ما نحروه عند القبر لا يتعرضون له، وقد ذكرنا قول زياد بن الأعجم: إن السماحة والمروءة ضمنا قبراً بمرو على الطريق الواضح فإذا مررت بقبره فانحر به كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح فهذا على عادة الجاهلية وعملهم، والذبح لغير الله سبحانه وتعالى ملعون من فعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في بطاقة علي بن أبي طالب التي أخرجها من قراب سيفه، ورواها عنه وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه؛ فإن فيها لعن من ذبح لغير الله. واختلف في المذبوح لغير الله وبالأخص عند القبور ونحوها، فقال جمهور العلماء: هو جيفة ميتة لا يحل أكله؛ لأن فيه إهلالاً لغير الله؛ والله تعالى حرم ما أهل به لغيره: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3]. وعن أحمد فيه روايتان، إحداهما بإجازته (بإباحته)، والأخرى بتحريمه. والقول بإجازته لا يقصد به إطلاق ذلك، وإنما يقصد أن من عادة الناس أن يذبحوا ذلك فيفعلونه تقليداً لا شركاً، فمن فعل ذلك تقليداً وذكر اسم الله عليه فلا تكون ذبيحته محرمة ولا يكون مما أهل به لغير الله. ومثل هذا التقرب إلى القبور والمشاهد بالأموال غير الذبائح، كوضع النقود عندها أو وضع الملابس أو نحو ذلك، فهذا مثل الذبح سواء بسواء، فيكون صاحبه ملعوناً، وهو من عمل الجاهلية، نسأل الله السلامة والعافية.

دراسة علم العقائد

دراسة علم العقائد من أعظم المتون في مذهب مالك رحمه الله مختصر خليل بن إسحاق، وقد نظمه أحد العلماء نظماً بديعاً جعل أوله في علم العقائد السلفية مما رجع إليه الإمام الأشعري رحمه الله، وبين يديك شرح مقدمة النظم.

فضل علم التوحيد

فضل علم التوحيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد: فقد سبق أن قلنا: إن علم التوحيد هو من أفضل العلوم ولم نقل هو أفضل العلوم، مع أن كثيراً من الذين ألفوا فيه يقولون: هو أفضل العلوم كما قال المقري: وأفضل العلوم بالإطلاق علم به معرفة الخلاق لكن يجاب عن هذا: بأن هذا العلم ليس وحده هو الذي به معرفة الخلاق، بل علم التفسير كذلك، وعلم القراءات كذلك، وعلم الحديث كذلك، فمعرفة الخلاق لا تكون إلا بهذه العلوم مجتمعة، كما ذكرنا سابقاً في قضية القرآن وتناوله لكل هذه العلوم، فلذلك لا نجزم بأنه أفضل العلوم على الإطلاق؛ لأن هذه العلوم تكليفياً في مرتبة واحدة، ما يجب منها عيناً يجب في الجميع وما يجب كفاية يجب في الجميع، ويصعب علينا أن نضع مسطرة لها بحسب التفاوت في الفضل، بل نقول: هو من أفضل العلوم، ويكفينا هذا، حتى لا نجازف ونقول على الله بغير علم، فمعرفة الله ليست فقط بهذا العلم، بل تدخل في التفسير، وفي القراءات، وفي الحديث، وفي شرح الحديث، وفي كثير من العلوم الأخرى التي سنذكرها.

نشأة علم التوحيد وتطوره

نشأة علم التوحيد وتطوره

علم التوحيد في عصر الصحابة

علم التوحيد في عصر الصحابة بالنسبة لتاريخ هذا العلم ونشأته وتطوره، أقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم جاءهم هذا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة، فأخذوا ذلك بتربيتهم؛ لأن المقصود بالعلم -كما ذكرنا- هو التوصيل إلى حصول الإيمان وخشية الله، وهم حصلوا على ذلك بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم. فكثير منهم لم يكن من العلماء الكبار، ولم يستوعب كثيراً من المسائل العلمية، لكن مقصود العلم حصل لهم، وهو تحصيل خشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقد حصل أقل الصحابة مستوى في العلم على مستوىً من الخشية أكبر من مستوى من وراءهم من العلماء بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم له. فإذاً حصلوا على فائدة العلم، وتجاوزوا كثيراً من المراحل، وقطعوا كثيراً من المسافات في فترة وجيزة، فقد مكث عتاب بن أسيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً فقط، وهو في الرابعة عشرة من عمره. كم مكث معه ابن عباس؟ كم مكث معه أسامة بن زيد؟ كم مكثت معه عائشة؟ سنوات محصورة يقطعون فيها مراحل عجيبة لا تقطع إلا في الأعمار الطويلة جداً. مالك بن الحويرث كم مكث معه هو وأصحابه؟ فترة وجيزة جداً قطعوا خلالها مراحل عجيبة.

استغناء الصحابة عن تعلم التوحيد رواية ودراية برؤية النبي وسماعه

استغناء الصحابة عن تعلم التوحيد رواية ودراية برؤية النبي وسماعه وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، يقول أحد العلماء في معجزاته: نور به عن تهج صحبه غني وغير أصحابه مما وحى وهجا (نور به عن تهج صحبه غني): أصحابه استغنوا عن التهجي والقراءة والكتابة، (وغير أصحابه مما وحى وهجا) أي: مما كتب وقرأ، فنحن اشتغلنا بالقراءة والكتابة لأننا محتاجون إلى ذلك، ولكن النور الذي كان فيه هو أغناهم عن هذا. ومن هنا فإن أتباع الصحابة أيضاً لم تكن حاجتهم إلى تفصيل هذه العلوم مثل حاجة أتباع التابعين، وبدأت الحاجة من عصر أتباع التابعين، فهو وليد الحاجة، ولا يقال: إن هذا العلم لم يكن موجوداً في عصر الصحابة ولم يهتموا به، بل كان موجوداً، لكن كان في ثنايا القرآن وفي ثنايا السنة مثل غيره من العلوم الأخرى، كذلك الفقه وكذلك الأصول وكذلك الحديث دراية وكذلك التفسير، كلها كانت مجتمعة مع الكتاب والسنة، وقد بينا من قبل أن الوحي يبحث فيه من جهتين: جهة الورود وجهة الدلالة. وكل العلوم الشرعية راجعة إلى هذين البحثين: بحث الوحي من جهة الرواية وبحث الوحي من جهة الدراية، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً. أما جهة الرواية فلسماعهم من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فهو الصادق المصدوق، ولسماع بعضهم من بعض وهم جميعاً عدول؛ لأن الله تعالى عدلهم في كتابه فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96]، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فأثبت لهم الرضا، وإذا ثبت لهم الرضا انتفى عنهم الفسق؛ لأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين. وإذا انتفى عنهم الفسق ثبت لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، فإما أن يكونوا عدولاً وإما أن يكونوا فساقاً، ولا يمكن أن يثبت لهم العدالة والفسق في وقت واحد، ولا يمكن أن يرتفعا عنهم في وقت واحد، إذا ارتفع عنهم الفسق وجبت لهم العدالة، فلما ثبت لهم الرضا، الذي لا يكون عن القوم الفاسقين ثبتت كذلك لهم العدالة، فإذاً هم عدول، فهذا المجال مجال الرواية. أما مجال الدراية فلم يحتاجوا إلى البحث فيه كثيراً؛ لأن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته، وإزالة الشبهة وطرد الشيطان بمجرد وجوده كافٍ لتجاوزهم كل العقبات، فقد يشك الإنسان كثيراً من الشكوك، وتأتيه كثير من الوساوس والأوهام، وبمجرد أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب عنه الشيطان فيزول عنه كل ذلك. فنحن اليوم مشكلتنا هذا الصراع الشديد المستعصي مع الشيطان، فيأتينا بالشبهات ويأتينا بالشهوات ونغرق في هذه الأمور، لكن هم بطرد الرسول صلى الله عليه وسلم للشيطان تنتفي عنهم هذه الأمور كلها وتزول، بعلاجه بكلمة واحدة أو بنظرة واحدة. كذلك فإنهم عاشوا في البيئة التي نزل فيها الوحي، فحضروا نزول الآيات، وحضروا ورود الأحاديث، وفهموا لغة العرب على وجه السليقة، لأنها كانت لغتهم، ولم تختلط الحضارات بعد، ولم تتغير الدلالات، فلم يحتاجوا إلى البحث في مجال الدراية.

علم التوحيد في عصور التابعين ومن بعدهم

علم التوحيد في عصور التابعين ومن بعدهم جاء بعدهم أتباعهم وهم التابعون فلم يحتاجوا كذلك حاجة ماسة إلى البحث في الجهتين: أما جهة الرواية فلسماعهم من الصحابة المعدلين بتعديل الله، وأما جهة الدراية؛ فلأن الأوضاع لم تختلف ولم تتغير كذلك، فاللغة لم تتغير دلالات مفرداتها، وأوضاع الناس لم تختلف، والحضارات لم تختلف، وبقي فقط نقص هذه الأمة بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أفضل جيل يمكن أن يوجد بعده هم الجيل الذين رباهم، فاستفادوا من هذا الجيل، وحتى ارتسم ذلك فيهم وتشكل، كما ذكرنا أن ابن مسعود رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحكي هديه ودله، وربى ابن مسعود علقمة فكان يحكي هديه ودله، وربى علقمة إبراهيم النخعي فكان يحكي هديه ودله، وربى إبراهيم منصور بن المعتمر فكان يحكي هديه ودله، وربى منصور سفيان الثوري فكان يحكي هديه ودله، وربى سفيان وكيعاً فكان يحكي هديه ودله، وربى وكيع أحمد بن حنبل فكان يحكي هديه ودله، وربى أحمد بن حنبل أبا داود فكان يحكي هديه ودله، كل واحد ينقل صورة مما رأى فيكون مثالاً للآخر تماماً. ويقول الشيخ محمد سالم حفظه الله في ذلك: ربى ابن مسعود مقيم الملة فكان يحكي هديه ودله وكان علقمة لابن أم عبد كهذا للنبي الأمي وكان إبراهيم يحكي علقمة واه له من نسب ما أكرمه وكان منصور لإبراهيم كذاك يحكي هديه القويم وكان سفيان بلا قصور مشبهاً بشيخه منصور وهكذا أيضاً وكيع كان مشبهاً بشيخه سفيان وكان أحمد لدى الجميع مشبهاً بشيخه وكيع كذا أبو داود عند مشبه بأحمد بن حنبل فهذه التربية الموروثة التي تتسلسل، فيكون الإنسان إذا أدركته كأنما رأيت صحابياً بالتسلسل، لذلك يقول أحد العلماء عندنا في مرثية الشيخ رحمه الله: يمثل من هدي الصحابة صورة ويا حبذا هدي الصحابة مغنما كما تعكس المرآة وجهاً أمامها ويحكي الصدى الصوت الفخيم المرخما إذاً الحاجة إنما جاءت في عصر أتباع التابعين، فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً، جهة الرواية وجهة الدراية، ومن هنا بدأ نخل العلوم وتفصيلها على ما ذكرنا.

تسمية علم العقيدة

تسمية علم العقيدة بالنسبة لهذه الأسماء التي ذكرناها لهذا العلم كلها اصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح، والمهم من الاسم ما يميز المسمى ويعرف به، سواءً كانت تسمية له باسم يدل عليه أو تسمية له باسم لا معنى له؛ لأن الأعلام مسلوبة الدلالة، فلذلك لا اعتراض عليها في الجملة، وبما أنه لم يرد له اسم في الوحي، فإننا نبحث عن الأكمل في التسمية فقط. أما تسميته بالإيمان فلم يرد أن أحداً سماه بالإيمان، والذين ألفوا كتباً في الإيمان إنما ذكروا فيها الأعمال الداخلة في مسمى الإيمان الذي هو الدين، ولم يخصصوا ذلك بهذا العلم.

الاستدلال بخبر الآحاد في علم العقيدة

الاستدلال بخبر الآحاد في علم العقيدة بالنسبة للاستدلال بخبر الآحاد في هذا العلم: فقد ذكرنا أن مستمده من الكتاب والسنة مطلقاً، والكتاب ليس فيه أخبار آحاد إلا شواذ الآيات، ولا يعرف في الشاذ من القراءات في القرآن ما يفيد بعض صفات الله، أو ما يفيد شيئاً من تفصيلات هذا العلم، إنما فيها ما يفيد في مجال الأحكام. وأما في الحديث فإن الراجح أن أخبار الآحاد إذا صحت يستدل بها في هذا العلم، لكن لا يستدل بها في القطعيات إلا إذا وصلت إلى درجة القطع، وقد ذكرنا أن هذا العلم منه قطعيات ومنه ظنيات، فإذا كانت أخبار الآحاد ظنية فإنها يستدل بها في ظنيات هذا العلم، وما كان قطعياً منها مثل ما احتف بالقرائن فإنه يستدل به في القطعيات، فأخبار الآحاد الراجح أنها إذا احتفت بالقرائن أفادت العلم القطعي، هذا الذي نص عليه أحمد بن حنبل وذكره من دونه. وبعض المحدثين يرى أن أخبار الآحاد إذا صحت صناعة أفادت العلم القطعي، وهذا يقوله كثير من المحدثين لكن لا معنى له، حتى إن العراقي رحمه الله ذكر الرد على هذا في ألفيته في الحديث حيث قال: وبالصحيح والضعيف قصدوا في ظاهر لا القطع والمعتمد إمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصح مطلقاً وقد خاض به قوم إلى آخر ما قال. كذلك من المتكلمين من رأى أن أخبار الآحاد لا تفيد القطع مطلقاً، وعلى هذا رد الاستدلال بها في القطعيات مطلقاً، لكن هذا القول فيه شطط وغلو، ولهذا فإن معنى القطع: القناعة التي تجدها أنت في نفسك، ولاشك أن أهل السنة إذا بلغهم الحديث من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر وصلوا إلى قناعة عقلية به، وهذه القناعة هي المطلوبة. فلذلك ما اختف بالقرائن يقتضي القطع، فإذا كان الحديث متفقاً عليه أخرجه البخاري في الصحيح ومسلم في الصحيح، فأهل السنة الذين ليسوا غالين فيها ولا جافين عنها فيكفيهم هذا، بحيث يصلون إلى قناعة عقلية بأن هذا صحيح، وهذا هو المطلوب وإن كانت القناعة متفاوتة. ونحن نعرف أن أهل الغلو يمكن أن يقولوا: هذا الحديث أخرجه البخاري في الصحيح لكنه غير صحيح، أو أخرجه مسلم في الصحيح لكنه غير صحيح، لكن هذا غلو في السنة. عامة المسلمين وعامة أهل السنة إذا كان الشيء في الصحيحين، وجدوا أنفسهم مسلمين به، وكذلك في الإسناد، مثلما قال العراقي: (وبالصحيح والضعيف قصدوا في ظاهر) فظاهره الصحة، أو ظاهره الضعف؟ لا القطع والمعتمد. إمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصح مطلقاً وقد خاض به قوم فقيل مالك عن نافع بما رواه الناسك مولاه واختر حيث عنه يسند الشافعي قلت وعنه أحمد

شرح البسملة الواردة في أول المنظومة

شرح البسملة الواردة في أول المنظومة بسم الله الرحمن الرحيم. يقول الشيخ حفظه الله: [بالبدء باسم الله في التقديم والوصف بالرحمن والرحيم] ابتدأ البسملة فذكرها كاملة في هذا البيت، وذكر متعلق الباء في باسم الله وهو (البدء) ومعناه: أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم، ومتعلق الباء محذوف أصلاً؛ لأن بسم الله الرحمن الرحيم جار ومجرور، والجار والمجرور لا يمثل جملة وإنما يتعلق بشيء محذوف، وهذا المحذوف إما أن يكون اسماً وإما أن يكون فعلاً، فيمكن أن تقول: ابتدائي بسم الله الرحمن الرحيم، فتكون الجملة اسمية، ويمكن أن تقول: أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم فتكون الجملة فعلية، والفرق بينهما فرق بلاغي؛ لأن الجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار، والجملة الفعلية تفيد التجدد والحدوث، ومقام الإنسان هو الذي يحدد ذلك. (بالبدء باسم الله في التقديم) معناه: في بداية هذا النظم وفي مقدمته، (والوصف بالرحمن والرحيم) معناه: الوصف لاسم الله بالرحمن والرحيم، وهذا تمام البسملة. و (قال) هي التي نصب بها قوله: بالبدء؛ لأن (بالبدء) هو محكي قوله، قال: (بالبدء باسم الله) أي: قال بادئاً باسم الله.

نسب مؤلف المنظومة

نسب مؤلف المنظومة [قال محمد بسالم شفع نجل محمد بعال قد تبع الهاشمي والمنتمي بالأس إلى المبارك الذي للخمس] (محمد بسالم شفع) هذا اسمه هو، وهو اسم مركب، فاسمه الحقيقي محمد وشفع بسالم معناه: أضيف إليه سالم وركب معه، (شفع) معناه: أضيف إليه ذلك فكان به شفعاً بعد أن كان وتراً. (نجل) معناه: ابن، (محمد بعال قد تبع) اسم أبيه أيضاً مركب وهو محمد عال، هكذا ينطق: عال! ولكن أصل التسمية: محمد علي، فـ (عال) وصف من علا يعلو فهو عال، وهذا الشيخ اسمه محمد عال، هكذا ينطقه العوام، فهو نطقه كما يعرف به ويشتهر، وهذا اللفظ صحيح في العربية، فالعالي معناه: المرتفع، وهو من الأسماء المنقوصة حذفت منها الياء إلى عالٍ بالتنوين مثل قاضٍ وداعٍ. (قد تبع) أي: بذلك. الهاشمي: هذا نسبه، وهو إلى بني هاشم، وهو من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب. (والمنتمي بالأس إلى المبارك). المنتمي معناها: المنتسب، بالأس معناها: بالنسب والأصل إلى المبارك وهو جده الأعلى وهو أبو قبيلته واسمه المبارك، قال: [ثم إلى يعقوب منها ينتمي بالله ربي أعتزي وأحتمي] (الذي للخمس ثم إلى يعقوب منها ينتمي) (الذي ينتمي) معناه: ينتسب بالحلف والمعاشرة والخئولة (للخمس) أي: إلى القبائل الخمس، وهي خمس قبائل كونت تحالفاً على نصرة دين الله، وحاولت إقامة دولة إسلامية ولكنها فشلت بعد حرب طويلة الأمد، فاشتهرت تلك الحرب التي أريد بها إقامة دين الله وإقامة دولة الإسلام وإقامة الجهاد في سبيل الله، وحاربها البرتغاليون والأسبانيون والفرنسيون، وأدى ذلك إلى اسقاط هذه الدولة بعد اثني عشر أميراً مبايعاً فيها، واشتهرت هذه القبائل باسم الخمس، وإحدى هذه القبائل هي بنو يعقوب، وهم من ذرية جعفر بن أبي طالب. (إلى يعقوب منها ينتمي) معناه: ينتسب. (بالله ربي أعتزي وأحتمي) يقول: إن هذا الانتساب لمجرد التعريف وليس للاعتزاء بعزاء الجاهلية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا). فليس للفخر بالنسب ولا لعبية الجاهلية وإنما هو لمجرد التعريف، ولذلك قال: (بالله ربي أعتزي وأحتمي) أي: فلا أتعزز ولا أحتمي إلا بالله عز وجل وحده، فلا عبرة بنسب ولا حسب إنما المعيار هو تقوى الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

شرح الحمدلة

شرح الحمدلة قال: [أحمده جل كما ابتداني بنعم ما لي بها يدان] أثنى على الله سبحانه وتعالى وحمده وبين أن هذا الحمد ينقسم إلى قسمين: حمد لكونه يستحق الحمد وهذا قوله: أحمده جل، وحمد ثان في مقابل نعمته. والحمد كله ينقسم إلى هذين القسمين: حمد مستحق لأن الله يستحق الحمد في ذاته، وحمد في جزاء نعمته؛ ففي مقابل النعمة يستحق حمداً آخر، فلذلك قال: (كما ابتداني)، معناه: قبل أن أسأله وقبل أن أدعوه أنعم علي بنعم (ما لي بها يدان) معناه: لا أستطيع أن أصل إليها بعملي ولا بغيره، فالنعم لا يمكن أن يقابلها الإنسان بشكر ولا بعمل؛ لأن شكره وعمله نعمة أخرى، فلذلك لا يمكن أن يقابل الإنسان نعمة الله تعالى بأي شيء، فكلمة واحدة من ذكر الله نعمة عظيمة لا يزنها شيء وهكذا. (كما ابتداني) معناه: ابتدأه بالنعم قبل أن يسأله، فالله عز وجل يعطي قبل المسألة ويعطي إذا سئل، فما أعطاه قبل المسألة ابتدأ الإنسان به من معروفه، وهذا اللفظ قاله ابن أبي زيد في مقدمة الرسالة فقال: (وابتدأهم بنعمته) والشيخ أراد بذلك أن يجعل الإنسان الذي يدرس كتاباً من كتب العلم يرتبط ذهنه بالكتب الأخرى، كل كتاب يجد منه كلمة أو مصطلحاً فيتذكر ذلك. (ما لي بها يدان) أي: ليس لي بها طاقة، ويقال: ما لفلان يدان بكذا وما له يد بكذا معناه: ليس له قدرة عليه.

معنى الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام

معنى الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام [ثم أصلي وأسلم على محمد وآله ومن تلا] (ثم) أي: بعد حمد الله تعالى، وذكر (ثم) التي هي للعطف بانفصال؛ لأنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا ما شاء الله وفلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم ما شاء فلان)، وعندما قال الخطيب: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، أنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بئس خطيب القوم أنت)، فبين له أنه لابد من الفصل، فلهذا قال: ثم بعد حمدي لله وثنائي عليه بما هو أهله أصلي وأسلم، أي: أسأل الله أن يصلي وأن يسلم. وصلاة المخلوق إنما هي مسألة الله أن يصلي؛ لأن الصلاة هي رحمة الله المقرونة بالتبجيل، وهذه لا تستطيع أنت أن تنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما تستطيع أن تسأل الله أن ينزلها عليه، فالله قد استجاب ذلك. والصلاة هي الدعاء المجزوم بإجابته، ومعنى ما يذكره العلماء من أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عمل متقبل قطعاً، المقصود بذلك أنه دعاء مستجاب قطعاً؛ لأن الله أخبر عن نفسه بأنه يصلي عليه، قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. (وأسلم على محمد) وسماه بهذا الاسم الذي سماه به عبد المطلب فقيل له في ذلك فقال: رجوت أن يحمده الأولون والآخرون، فحقق الله رجاءه. وهذا الاسم فيه كثير من المزايا العظيمة فهو دليل على كثرة حمده على كل لسان فإنه يحمده الأولون والآخرون في المحشر في مقام الشفاعة الكبرى، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يكيد له، فإن قريشاً حين أرادوا أن يذموه ذموا مذمماً، وهو محمد وليس مذمماً.

معنى الآل في قوله: (وآله ومن تلا)

معنى الآل في قوله: (وآله ومن تلا) (وآله) معناه: الذين يئولون إليه ويرجعون إليه، وهم في الدعاء أتباعه مطلقاً ويدخل في ذلك المتقدم والمتأخر، فهم جميعاً من آله، فكل أتباعه من آله في مقام الدعاء، ولهذا قال عبد المطلب: فانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك معناه: المضافون إليك وليس الذين يعبدونك، (آل الصليب) معناه: أتباع الصليب، وآل النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إطلاقها بحسب المقام، فإذا قصد بها تحريم الصدقة والأحكام المختصة بالآل فهم المؤمنون من بني هاشم وقال الشافعي وأحمد: والمؤمنون من بني المطلب أيضاً ومواليهم يدخلون معهم. وإذا قصد بها الثناء المخصوص فهم أهل العباءة الذين أنزل الله فيهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين رضي الله عنهم. (ومن تلا) معناه: ومن تبعهم إلى يوم الدين، ولم يصرح بلفظ الصحابة؛ لأنه لم يرد في الأحاديث التي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الصلاة ذكر الصحابة، إنما جاء فيها التصريح بآله فقط، وذكر الناس لأصحابه بعد ذلك إنما هو زيادة وإلا فإن آله يدخل فيهم أصحابه، فيدخلون في ذلك في مقام الدعاء. أما ذكر أصحابه في الصلاة عليه فلم يكن معروفاً في الصدر الأول وإنما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة الصلاة الإبراهيمية وفيها ذكر آله ولم يرد فيها ذكر أصحابه.

معنى (أما بعد)

معنى (أما بعد) قال: [وبعد فالعبد الفقير نظما نظماً بفقه مالك يجلو الظما] (وبعد فالعبد الفقير نظما) كلمة: (بعد) أصل وضعها: (أما بعد) وهي التي تسمى فصل الخطاب، ويقصد بها التخلص من المقدمات إلى ما يريد الإنسان بيانه، وتوضع في الخطب وفي الكتب وفي مقدماتها، وهي من العناية بالكلام، فمن ذكرها فهذا عناية بكلامه وتنسيق له وترتيب، فلذلك يقول الشاعر: لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت أما بعد أني خطيبها فهي تدل على العناية بالكلام، واختصرها الناس فصاروا يقولون: وبعد، اختصاراً معناه: وبعد ما ذكر.

المعاني التي يطلق العبد فيها

المعاني التي يطلق العبد فيها (فالعبد الفقير): ويقصد نفسه بذلك. والعبد: تطلق على أربعة أمور: تطلق على عبد الخلق، ومعناه: المخلوق لله سبحانه وتعالى، فكل الناس عباد لله لأنه خلقهم أجمعين، ولهذا قال: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، معناه: خلقهم كذلك. والثاني: عبد الملك، فالمملوك أياً كان يسمى عبداً لأنه رقيق لسيده ومالكه. والثالث: عبد النعمة، معناه: المنعم عليه فهو عبد للنعمة التي في عنقه. الرابع: عبد المحبة، وهذا الأخير فيه يقول الشاعر: يا عمرو ناد عبد زهراء يعلمه السامع والرائي لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي ويقصد بذلك المحبة، وهذه الأقسام الأربعة كل إنسان مسلم ينبغي أن تكون متحققة في تعامله مع الله، فهو عبده بالخلق؛ لأنه خلقه، وهو عبده بالملك؛ لأنه يملكه، وهو عبده بالنعمة؛ لأنه أنعم عليه بنعمة الإيمان وما دونها من النعم، وهو عبده بالمحبة، فينبغي أن يحبه حباً لا يحب به شيئاً آخر: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، فتتحقق العبودية بهذه الأمور الأربعة. (الفقير) أصل الفقير الذي بدت فقرات ظهره، ووزنها: فعيل، ولما كان من لا يملك مالاً لا يحسن التغذية فتضعف أعضاؤه وتظهر فقراته سمي من لا يملك -حتى لو كان سميناً- فقيراً، والمقصود بذلك الفقر إلى الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. (نظما) معناه: جمع. (نظماً) معناه: كلاماً موزوناً. (بفقه مالك يجلو الظما): أراد فيه أن يزيل العطش في فقه مالك، ولا يريد فيه التوسع أكثر من ذلك، فهذا تواضع وإلا فقد جمع فيه مائة ألف وعشرين ألف مسألة في فقه مالك.

معنى قوله: (مما خليل قد وعى في المختصر)

معنى قوله: (مما خليل قد وعى في المختصر) رام به: رام بهذا النظم وطلب به (نعش ذماء المحتضر). نعش إنعاشاً وتقوية، ذماء: بقية الروح، والمحتضر: الذي قد أشرف على الموت. قوله: (مما خليل قد وعى في المختصر) معناه: مما جمع خليل في مختصره في الفقه المالكي، وهذا المختصر جمع فيه خليل فأوعى، ولذلك قال ابن القيم: لم تزل ألطاف الله بالمالكية حتى أخرج لهم غلاماً جمع لهم مذهبهم في كراريس يتأبطها الرجل ويخرج، يقصد بذلك خليلاً، أي: جمع المذهب كله في أوراق يتأبطها الرجل ويخرج. فهذا معنى قوله: (مما خليل قد وعى في المختصر) وهو هنا يبين أن ما ذكر في المختصر أصبح محتضراً لقلة العناية به؛ ولأن الناس قد ابتعدوا عما كانوا عليه من قبل من العناية بهذا المختصر وحفظه وتداركه، فقد وضع عليه القبول وشرح ثلاثمائة وثمانين شرحاً، وطبع منها عدد كبير، وأصبح المرجع في الفتوى في مذهب مالك، وحتى في غيره فإنه مرجع نابليون في القانون الذي وضعه، وهو القانون الفرنسي، عندما قامت الثورة الفرنسية فقد صرح في مقدمة قانون نابليون أن من مراجعه مختصر خليل في الفقه المالكي.

معنى قوله: وليدع بالتسهيل والتكميل لفقه متن سيدي خليل

معنى قوله: وليدع بالتسهيل والتكميل لفقه متن سيدي خليل قال: [وليدع بالتسهيل والتكميل لفقه متن سيدي خليل] (وليدع) معناه: هذا الكتاب وهذا النظم بـ (التسهيل والتكميل). (بالتسهيل): هذا اسمه، والتسهيل معناه: التليين، والتكميل معناه: الإضافات. (لفقه متن سيدي خليل) فـ خليل شهرته سيدي خليل، واسمه خليل بن إسحاق بن موسى الجندي المصري الذي توفي سنة سبعمائة وثمانية وعشرين للهجرة، وقد كان من الأئمة في زمانه في مختلف العلوم، وله في الفقه اليد الطولى، وكذلك في الحديث وفي الأصول، وله مؤلفات كثيرة غير المختصر، لكن أشهر مؤلفاته هذا المختصر الذي وضع الله له القبول. وسماه التسهيل: لأنه سهله وشرح كثيراً من مسائله ورد كثيراً من إشكالاته. والتكميل: لأنه أضاف عليه كثيراً من المسائل التي ليست فيه. ومتن خليل هو هذا المختصر، وهذه التسمية مأخوذة من كتاب ابن مالك الذي سماه: تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، فالتسهيل في النحو من أهم كتب النحو عموماً، ولذلك قال فيه أبو حيان: ألا إن تسهيل الفوائد في النحو كتاب جليل كل فائدة يحوي فما الكتب إلا أنجم هو شمسها سناهن يمحى عنده أيما محو ابن مالك سماه: تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، والشيخ أخذ الفقرتين: تسهيل وتكميل فسمى بهما هذا الكتاب.

مشروعية الاستعانة بالله في كل عمل

مشروعية الاستعانة بالله في كل عمل قال: [وأسأل الله تعالى النفعا لكل من فيه سعى والرفعا] من المناسب في خطبة أي كتاب وفي آخر أية خطبة الدعاء، فالخطب ينبغي أن تكون فيها رقة، والرقة لا تكون إلا بالضراعة إلى الله والتوجه إليه، ومن ذلك الدعاء فهو من أبلغ أحوال العبد عندما يبدي الضراعة والهوان بين يدي خالقه العزيز الجبار المتكبر، فهنا تتضح حاجة المخلوق إلى خالقه وفقره إليه وتواضعه بين يديه، وتذلله إليه، فلذلك يبدي الضراعة بالسؤال، والمسألة مذلة، فهو يتذلل إلى الله بالمسألة. (وأسأل الله تعالى النفع لكل من فيه سعى) معناه: أن ينفع كل من سعى فيه سواء كان ذلك بدراسة أو علم أو تعلم، أو شرح أو نشر أو طبع أو غير ذلك. (والرفع): معناه أن يرفعه الله بعد أن ينفعه بهذا الكتاب، لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وهذا الرفع بين الله أنه للمؤمنين ولأولي العلم، والشيخ أراد بذلك أن يبين أن من درسه وأحاط بمسائله فإنه عرف الإيمان ومسائله، ويكون بذلك من أهل العلم فيرفع الله منزلته في الدنيا والآخرة؛ لأنه قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، ولهذا قال: (والرفع).

دراسة أهل السنة والجماعة لمسائل العقيدة

دراسة أهل السنة والجماعة لمسائل العقيدة قال: [والحفظ والتوفيق في القصود وقبل أن أشرع في المقصود أذكر جملة من العقائد على طريق السلف الأماجد] قوله: (والحفظ والتوفيق في القصود): يسأل الله له الحفظ أيضاً، ومعناه: أن يحفظه من غوائل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والعداء من الآخرين مطلقاً.

معنى التوفيق

معنى التوفيق (والتوفيق في القصود) معناه: أن يوفقه الله في القصود، وهي جمع قصد، ومعناه: في أي شيء يقصده. والتوفيق معناه: أن يهيئ له أسباب ما يرضيه سبحانه وتعالى، وما يوافق ما أراده من عبده، وهذا التوفيق أن يكون هوى الإنسان تبعاً لما طلب منه شرعاً، فإذا كان الإنسان لا يرغب فيما حرم الله عليه ويرغب فيما أوجب عليه فهو موفق.

طريقة الشيخ في نظم العقيدة

طريقة الشيخ في نظم العقيدة (وقبل أن أشرع في المقصود): معناه قبل أن يبدأ في الفقه وهو المقصود الكبير من هذا النظم الطويل. (أذكر جملة) معناه مسائل، ولا يقصد بذلك التوسع، ولا استقصاء المسائل العقدية، وإنما يذكر مسائل، ولذلك سماها جملة. والعقائد: جمع عقيدة وهي ما يعقد الإنسان قلبه عليه فيدين الله تعالى به ويجزم بصحته. وقوله: (على طريق السلف الأماجد) أي: على مذهب السلف، والمقصود بهم أتباع التابعين، فإذا أطلق السلف إنما يقصد به رجال العقيدة أتباع التابعين، ولا يقصد به الصحابة ولا التابعين كما يتوهمه كثير من الناس. فكثير من الناس يقول: مذهب السلف معناه مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وهذا غلط؛ لأن هؤلاء ما تكلموا في أكثر هذه المسائل التي سنعرض لها هنا، إنما تكلم فيها أتباع التابعين، فهم المقصودون بإطلاق السلف. والأماجد جمع ماجد، وهذا ثناء عليهم وهم يستحقون الثناء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في الذين جاءوا من بعدهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وقد قال مالك رحمه الله: إن من يلعن السلف أو يتكلم فيهم ليس من أهل الفيء ولا يستحق شيئاً منه.

ذكر المتفق عليه وترك الخلاف

ذكر المتفق عليه وترك الخلاف قال: [ولست ذاكراً سوى المتفق عليه من قبل نشوء الفرق] أي: أنه لن يتعرض لأقوال الفرق والمذاهب المختلفة، وإنما سيقتصر على المذهب الحق الصواب الذي دليله واضح، ولن يتكلم على المذاهب الأخرى، وحتى الردود عليها لا يشتغل بها في هذا النظم. ولذلك قال: ولست ذاكراً سوى المتفق عليه من قبل نشوء الفرق لأن هذه الأمور التي فيها نصوص قرآنية ونصوص من الحديث متفق عليها قبل أن تنشأ الفرق، فالفرق نشأت بعد ذلك، فهذه العقائد كانت موجودة لأنها نصوص قرآنية ونصوص من الوحي والسنة، وفهم الصحابة لها هو على حسب ما كان معروفاً في زمانهم، ومن هنا فإنه حفظه الله يقول فيما يتعلق بظاهر النصوص: [الظاهر الذي عليه نطقي موهم تشبيه لرب الخلق هو الذي أهل اللسان فهموا إذ نزل الوحي به عليهم فلا أبو بكر لخير الرسل يقول أشكل عليّ اشرحه لي ولا أبو جهل يقول اختلفا أثبت ما من التماثل نفى] فالذي فهمه أولئك الذين نزل عليهم الوحي سواء من كان منهم مسلماً أو من كان كافراً هو ظاهر النص الذي يترك عليه، وما لم يفهموه منه وجاء بالفلسفة واللزومات فهذا ليس ظاهر النص.

عقيدة السلف التي رجع إليها الأشعري

عقيدة السلف التي رجع إليها الأشعري قال: [مما إليه الأشعري قد رجع متبعاً أحمد نعم المتبع] هذه المسائل التي يذكرها هنا ذكرها أبو الحسن الأشعري وقد رجع إليها، وهو إمام من أئمة أهل السنة المشاهير، وبالأخص أن جمهور الأمة من بعد ظهوره إلى زمانه هذا ينتسبون إليه، فينتسب إليه الملايين في مختلف بلدان العالم منذ اشتهر في القرن الرابع الهجري إلى هذا الزمان، فهذه عشرة قرون ينتسب إليه فيها جمهور أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد، ويقصدون بذلك مخالفتهم للمعتزلة؛ لأنه هو عدو المعتزلة الأول، وهو أول من استطاع أن يرد مسائلهم. (مما إليه الأشعري قد رجع): والأشعري قد رجع عن مذهب المعتزلة ورجع عن المذهب الأشعري الذي تحول إليه إلى مذهب أحمد وقد صرح بذلك، فصرح بأن طريقته في النصوص طريقة أحمد بن حنبل. (متبعاً أحمد) هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الربعي، من بني ربيعة من بني شيبان من بني بكر بن وائل بن ربيعة، وهو إمام أهل السنة في زمانه وأحد الأئمة الأربعة المتبوعين. (نعم المتبع): أثنى على أحمد بأنه نعم المتبع، وقد وفق الأشعري حين اتبعه بذلك، لأنه مرضي عنه، فلا يختلف اثنان من أهل السنة في ذلك. قال: [لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى زعماً ولم يسر على ما رسما] يقول: إن ما ذكره هنا موافق لما كان عليه أحمد بن حنبل وما رجع إليه الأشعري متبعاً أحمد في ذلك، (لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى) أي: أنه لا يأتي بما يقوله المنتسبون إلى الأشعرية أو المنتسبون إلى أحمد ممن لم يسر على طريقتهما، فكثير من أتباع الأشعرية أحدثوا كثيراً من المسائل التي لم يقل بها الأشعري، وكثير من أتباع أحمد أحدثوا كثيراً من المسائل التي لم يقل بها أحمد، فهو تجنب أقوال المحدثين من الطائفتين وأتى بلب المسألة. لذلك قال: (لا من يقول من لذا) ويقصد به الأشعرية. (أو ذا): ويقصد به أتباع أحمد بن حنبل. (انتمى): معناها: انتسب. (زعماً): أي: في زعمه. (ولم يسر على ما رسما)؛ لأنه خالفهما فأتى بأشياء لم يقولا بها. ثم بدأ في العقيدة بعد هذه المقدمة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

شهادة أن محمدا رسول الله

شهادة أن محمداً رسول الله الرسل حق، وأفضلهم خاتمهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي اختاره الله من العرب وخصه على من قبله بخصائص وميزات، وجعل دينه خير الأديان، ولذلك ينبغي على المسلم أن يتعرف على جوانب من حياة هذا النبي ونسبه وميزاته وما يتعلق بذلك.

وجوب اتباع محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق

وجوب اتباع محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الشيخ حفظه الله: والرسل حق والنبي العربي خاتمهم أعلاهم في الرتب

التكذيب بمحمد تكذيب بجميع الرسل

التكذيب بمحمد تكذيب بجميع الرسل بعد أن ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام ووجوب الإيمان بهم على سبيل الإجمال، ذكر التعويل على شهادة أن محمداً رسول الله، وهي الشهادة الثانية من الشهادتين، وهما ركنا الاعتقاد: فالركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله، وكل ما سبق من التفصيلات داخل في هذه الشهادة. والركن الثاني: شهادة أن محمداً رسول الله. وإنما بدأنا قبل الكلام في هذه الشهادة بالكلام على الرسل لدخول تصديق الرسل في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كذب رسولاً واحداً فقد كذب كل الرسل، ومن صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صدق بكل الرسل؛ لأنه خاتمهم، ومصدق لما بين يديه كما وصفه الله بذلك. ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر تكذيب قوم لنبيهم ينسب إليهم تكذيب جميع الرسل، كما في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160] وهكذا، فكلما ذكر نبياً كذبه قومه، يذكر أنهم كذبوا جميع المرسلين، وذلك أن مقصد الرسالة في الأصل واحد، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد)، وهذا تفسير قول الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].

ميزة محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء

ميزة محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء لكن شهادة أن محمداً رسول الله تقتضي تميزه عن غيره من الرسل، فلذلك ذكرها هنا، فالإيمان به مشروط على من سبقه ومن لحقه، فمن أتى قبله قد أخذ عليهم العهد بالإيمان به، لقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:81 - 82]. فإذاً: كل من سبق قد أخذ عليهم العهد بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، ونصرته إذا بعث، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ورقة من التوراة في يد عمر: (مه يا ابن الخطاب! فلو أن موسى بن عمران حي ما وسعه إلا اتباعي)، وفي حديث آخر أخرجه أحمد في المسند، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن موسى وعيسى شهدا مبعثي لما كان لهما إلا أن يتبعاني)؛ ولذلك فإن عيسى عليه السلام إذا نزل حكماً عدلاً في آخر الزمان، سيكون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم والعاملين بالملة والشريعة.

قيام الحجة على من سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم

قيام الحجة على من سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم إن من لحقه لا يقبل منه الإيمان قطعاً حتى ولو آمن بجميع الرسل ما لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار). واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي)، فكثير من الذين يسمعون الحديث من الذين يهتمون بالمجال الفكري يقولون: تقوم الحجة بمجرد أن يسمع الإنسان باسم محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته وبالدين الذي جاء به، حتى لو سمع به مشوهاً، مثل أكثر المعاصرين من أهل الكتاب والكفرة، فإنهم لم يسمعوا به إلا مثل ما سمعوا بـ بوذا مثلاً. وذهب آخرون إلى أن المقصود بالسماع السماع غير المشوه، فهو الذي تقوم به الحجة، ومعناه أن يعلموا أنه رسول، وأنه رسول آخر الزمان الذي تنسخ ملته كل ما سبق. وهذا يؤخذ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه؛ ففي حديث جبير بن مطعم الذي ختم به مالك الموطأ: (لي خمسة أسماء، فأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، وأنا العاقب)، فهذا يقتضي أن من لم يسمع به على وصفه، ولم تبلغه دعوته كما هي لا تقوم عليه الحجة بمجرد السماع، ولكن دلالة هذا دلالة بعيدة، في مقابل التصريح بالسماع في الحديث السابق. وعموماً يترتب على هذه المسألة كثير من الفروع: منها: لعن من مات من الكفرة ولم تبلغه الدعوة كما هي. ومنها: استباحة دمائهم وأموالهم في حياتهم إذا سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تبلغهم الدعوة كما هي، كالكفرة في زماننا هذا، فكثير منهم لم تبلغهم الدعوة كما هي، فهل تستباح دماؤهم وأموالهم بمجرد هذا البلاغ والسماع الذي حصل أو لا؟ وأما تكفيرهم فلا شك ولا اختلاف فيه بين الناس، فهم كفار قطعاً، حتى لو سمعوا بهذه الشريعة سماعاً مشوهاً كما ذكرنا، ومن تساهل فلم يصفهم به على اعتبار أنهم بمثابة من لم تبلغه الدعوة، فقد تساهل تساهلاً زائداً؛ لأن الذي يستدلون به ويأخذون به هو بعض المفهومات من الآيات، وكلها من مفهومات المخالفة، مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [البينة:6]، فـ (من) هنا يزعم بعض الناس أنها تبعيضية، وأنه ليس كل أهل الكتاب ولا المشركين كفرة. ولكن هذا الوجه أبعد ما يكون عن الصواب، فـ (من) بيانية للذين كفروا، وبيانهم أنهم ينقسمون إلى قسمين: إما أن يكونوا أهل كتاب وإما أن يكونوا مشركين.

عروبة النبي صلى الله عليه وسلم

عروبة النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ختم الله به رسالات الرسل، وجعله من هذا الجيل المعروف بالعرب، فلذلك وصفه بالعربي.

أقسام العرب

أقسام العرب والعرب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: إلى عرب بائدة، أي: قد انتهت ولم يبق لها بقية، وهؤلاء منهم طسم وجديس ووبار وجرهم. فجرهم هم الذين تعرب فيهم إسماعيل عليه السلام، ولكنهم بادوا ولم تبق لهم بقية حين جاروا في الحرم فأهلكهم الله؛ ولذلك يقول أحدهم وهو عمرو بن مضاض الجرهمي: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر ومن ذلك طسم وجديس فقد اقتتلا حتى تفانيا، وكذلك وبار، فقد هلكت ولم تبق لها بقية. القسم الثاني: العرب العاربة: وهم ذرية قحطان، وقد نسب النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي في السنن إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان عشر قبائل، وهي: حمير والأزد ومذجح وأنمار والأشعريين، وكندة، وهذه القبائل الست من أهل اليمن، ثم القبائل الأربع الباقية هي: لخم وجذام وعاملة وغسان، فهذه أربع قبائل تشاءمت، أي: خرجت إلى شمال الجزيرة العربية. فهذه القبائل العشر من ذرية قحطان قطعاً، وقحطان اختلف فيه هل هو هود عليه السلام أو ابنه؟ فجمهور النسابين يعدونه ابن هود، ولذلك قال أبو الطيب المتنبي: إلى الثمر الحلو الذي طيء له فروع وقحطان بن هود له أصل إلى سيد لو بشر الله أمة بغير نبيٍ بشرتنا به الرسل ويدخل في عداد القحطانيين على الراجح قبائل قضاعة كلها، وإن كانوا سكنوا في العدنانيين واستوطنوا بلادهم؛ ولذلك انتحل لهم النسابون نسباً بـ عدنان لا يصح، وهو أن قضاعة من ذرية معد؛ لكن الراجح أن قضاعة هو ابن مالك بن حمير، فهم من حمير على كثرة أعدادهم، فمنهم بنو كلب بن غمرة الذين منهم زيد بن حارثة ودحية الكلبي، وهي قبائل ذات عدد، منهم: بنو عذرة، الذين اشتهروا بالعشق قديماً في الجاهلية، وكذلك بنو طيء. أما القسم الثالث: فهو العرب المستعربة، وهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهؤلاء هم الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى كونهم (مستعربة) أنهم لم يكونوا ناطقين بالعربية ثم تعلموها بسكناهم في العرب.

اختيار الله لقريش

اختيار الله لقريش فالعرب من ذرية إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام، بعث في البداية في أرض الفينيقيين بالعراق، ثم هاجر إلى الشام ولم يكن يتكلم بالعربية، وأتى بولده إسماعيل بأمر الله سبحانه وتعالى إلى مكة، وأول من جاوره بمكة العمالقة، ثم لما طغوا في الحرم أخرجهم منه مضاض الجرهمي، وساكن إسماعيل الجرهميين وصاهر فيهم، وهم أجداد أولاده، ثم أهلكهم الله وتغلب بعدهم على الحرم ذرية إسماعيل من معد بن عدنان، ثم بعدهم تغلبت خزاعة، حتى أخرجهم قصي بن كلاب، ومن ذلك التاريخ تغلبت قريش على مكة، وهؤلاء عداد نسبهم كله مرجعه إلى معد بن عدنان على الراجح، وقيل: كان مع معد أخ له اسم عك، وهو جد قبائل تنسب إلى عدنان، من ذرية عك بن عدنان، وليسوا من معد بن عدنان. وأشهر أولاد معد نزار بن معد وكان له أربعة أولاد: هم مضر وربيعة وإياد وأنمار ومن هؤلاء انتشرت قبائل عدنان. ومن هذه القبائل قبائل مضر، ومنها: قريش، وهي أعظم قبائل مضر بالاختيار الرباني، لأنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله اختار من ذرية إبراهيم كنانة، وفي رواية: (من ذرية إسماعيل الكنانة، واختار من ذرية كنانة قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر). وهذا الاختيار الرباني يترتب عليه عدة أحكام: منها: أنه لا يسترق سبيهم في الجاهلية ولا في الإسلام، ومنها: أنه لا يقتل أسيرهم صبراً بعد غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل قرشي بعد اليوم صبراً). ومنها: اختصاصهم بالإمامة العظمى، وليس ذلك تبعاً لعصبية العرب عليهم؛ بل عصبية فارس وعصبية الروم أعظم من عصبية العرب، وأولئك أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلموا فهو مرسل للبشر كلهم، فالعبرة بالاختيار والاصطفاء الرباني فقط، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فذلك الاختيار الرباني هو الذي شرفهم الله فيه للإمامة وشرفهم لما هو أعظم منها، وأن بعث منهم محمداً صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال ابن الرومي: قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منه شيبان تسمو الرجال بآباءٍ وآونة تسمو الرجال بأبناء وتزدان وكم أبٍ قد علا بابن ذرا شرف كما علا برسول الله عدنان

نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان

نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان وقد نسب النبي صلى الله عليه وسلم نفسه إلى عدنان، ولم يثبت عنه ما فوق ذلك، فقد ثبت عنه أنه قال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان). وتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح عند هذا الحد، ومع ذلك جاء في عدد من الأحاديث الأخرى وعدد من الآثار التي صحت عن عدد من الصحابة كـ ابن عباس وحكيم بن حزام، وغيرهم من الصحابة النسابين: أن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن نبت -أو نابت- بن حمل بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر بن ناحور بن عابر بن فالغ بن أرفخشد بن متوشلخ بن سام بن نوح بن لامك بن مهلائيل بن اليارد بن أخنوخ بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم. وقد اختلف النسابون في ضبط بعض هذه الأسماء كاليارد، فقد جاء فيه: يرد فقط، وكذلك الهميسع والهميساع، كذلك قينان وقينن، كذلك لامك ولمك، وهذه اختلافات في ضبط الأسماء لأنها من لغات مختلفة، فينطق بها أهل كل لغة على ما يوافق نطقهم اللغوي. وهذا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه، وأما نسبه في العرب قد عرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم، أكثرهن من العرب، ولم تبق قبيلة من العرب إلا وله فيها خئولة ما عدا بني تغلب وحدها. وقد اشتهرت خئولته في الأنصار وفي بني سليم لأنه صرح بذلك، ففي الأنصار سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في سليم، فهو ابن العواتك من سليم، وعواتكه هن: أم هاشم، وأم عبد مناف بن زهرة، وأم عبد مناف بن قصي، فهن ثلاث، وهن عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، وعاتكة بنت مرة بن هلال، وعاتكة بنت هلال، الصغرى وعمتها وعمة عمتها أيضاً على هذا الترتيب، وهذا الذي قال فيه البدوي رحمه الله في الأنساب: عواتك النبي أم وهب وأم هاشم وأم الندب عبد مناف وذه الأخيره عمة عمة الاولى الصغيره وهن بالترتيب ذا لذي الرجال الأوقص بن مرة بن هلال وقد صح في صحيح البخاري أن وفد كندة حين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! أنت ابن آكل المرار ونحن بنوه، فقال: إنا بنو النضر بن كنانة لا ننتسب إلى غيره). هو وإن كان من ناحية الخئولة له خئولة في كندة، لكنه لم يرد أن يتفاخر مع الناس بالأنساب الدنيوية، فمفاخر كندة إنما هي بالملك والغنى ونحو ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم اختار الله له ما هو خير من ذلك.

الحكمة من عروبة النبي صلى الله عليه وسلم

الحكمة من عروبة النبي صلى الله عليه وسلم واختلف في اشتقاق لفظ العرب، فقيل: من أعرب الكلام إذا أبانه، لفصاحتهم. وقيل: من تعرب إذا سكن البادية؛ لأنهم الأمة التي لم تكن لها حضارة مستقرة قديماً. وقيل: من أعرب الشيء بمعنى حسنه، لحسن صورهم ووجوههم، فهم من أحسن الأمم خلقة. وقد شرفهم الله بنسبة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، لكنه لم يرسل إليهم خاصة، بل أرسل إلى الناس كافة. ومن الحكم في اختيار أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل من العرب أن لغة العرب من أطيب اللغات وأكثرها بياناً ووضوحاً؛ فلذلك اختير أن تكون لغة هذه الرسالة التي يراد عمومها وشمولها، فلو كان القرآن باللغة الإنجليزية أو باللغة الفرنسية، أو بأي لغة أخرى غير العربية فإنه سيتعداه تطورات في اللغة؛ ولذلك لو عرض شعر الشعراء الإنجليز قبل مائة سنة على الناس اليوم لوجدوا أكثر الكلمات التي فيه لم تعد مستعملة، وكثير من الكلمات التي استعملت فيه قد تغيرت دلالتها، وجاءت في معنى آخر، ولو أخذت شعر امرئ القيس الذي كان قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة سنة وعرضته على صبيان العرب لفهموا مفرداته، كقوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وهذا الركود يقتضي استمرار دلالات الألفاظ ووضوحها على مدى الزمان، ولا يوجد في لغة من لغات العالم مثل هذا الركود إلا اللغات المتخلفة جداً مثل لغة الصين، التي ليس لها إعراب ولا تركيب، وإنما الكلام فيها كله مفردات، فجميع كلامهم مفردات فقط؛ ولذلك حروفها أكثر من ثلاثة آلاف حرف، بينما حروف العربية تسعة وعشرون حرفاً فقط.

ذكر رسل العرب قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

ذكر رسل العرب قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وليس النبي صلى الله عليه وسلم الرسول العربي الوحيد للعرب، بل كان فيهم رسل آخرون، فمن رسل العرب هود وصالح، وقد أرسلا في جزيرة العرب، أحدهما في شمالها، والآخر في جنوبها، فهود أرسل في الربع الخالي في أرض الأحقاف، وصالح أرسل في شمالها في الحجر. وكذلك في العرب أنبياء آخرون على الراجح، وقد سمي منهم: حنظلة الذي يقال إنه رسول أصحاب الرس، ويزعم الناس أنه دفن في بير في صنعاء، وأنها عند مسجد صنعاء الكبير، وهذا المسجد إنما بني بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن مكانه معروفاً قديماً حتى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى فيروز بن باذان أن يبني لأهل صنعاء مسجداً، وأن يجعل قبلته بين نقم وعيبان، وأن يجعله بين الصخرة وبستان باذان، ففعل ذلك فيروز، وبنى المسجد وجعل فيه الأسطوانتين المشهورتين إحداهما تسمى بالمسمورة والأخرى تسمى بالمنقورة، وصلى فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كـ علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل وغيرهم من كبار الصحابة، وقد شهد توسيعات بعد ذلك، كتوسيعات عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب حين ولاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن. ويزعم الناس أن حنظلة هذا دفن في مكان معروف في هذا المسجد، لكن لا يثبت مدفن أحد من الأنبياء مع عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك منهم خالد بن سنان العبسي، فقد جاء في حديثٍ (أن ابنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم وسألها عن أبيها فذكرت بعض حكمه، فقال: ذلك نبي ضيعه قومه).

الرسول الخاتم وما شرفه الله وميزه على من قبله

الرسول الخاتم وما شرفه الله وميزه على من قبله

ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم

ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم لكن إذا أطلق النبي العربي اختص ذلك بالنبي العربي صلى الله عليه وسلم لمنزلته وجلالة قدره. قال: (والنبي العربي خاتمهم)، أي: خاتم الرسل، فختمهم الله به، وحكمة ختم الرسل أن الله سبحانه وتعالى اختار للبشرية ديناً واحداً هو دين الإسلام؛ ولكنه علم أن هذه البشرية ستمر بكثير من المراحل في أطوار حياتها، كما في دعوة نوح: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14]، فتمر البشرية بكثير من الأطوار: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19]. ومن هنا فلو أنزل إليها الدين وأمرت به في الأطوار والأطباق الأولى في حياتها في الأرض، لكان فيه الكثير من العناء، فلو فرضت هذه الشريعة التي لدينا اليوم على أولاد آدم لحصل كثير من العناء مثل تحريم نكاح الأخوات، والبشر إذ ذاك أسرة واحدة هي ذرية آدم فقط وهكذا. فكانت الشرائع ينزل منها في كل زمن ما يصلح لذلك الزمن، وفي علم الله أنه لا يصلح للتطبيق المستمر، حتى إذا أتمت البشرية أطوار حياتها وبلغت نضجها أرسل إليها الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الذي كانت كل الأديان إعداداً له كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فختم الديانات بهذا الدين، وأتمه وارتضاه للبشر كلهم؛ ولذلك خاطب البشر بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. ومع ذلك فما يجد من الظروف راعاه الله سبحانه وتعالى في التشريع؛ ولذلك قال بعد ختم الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، بيَّن الحلال والحرام لكن مع ذلك بعد إكماله للدين قال: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ)، أي: في جوع ونحوه مما يقتضي ضيق الحال: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) غير منتهك له: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ومثل هذا قوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، ومن هنا جعل القواعد العامة والأسس الواقعة كفيلة بالتطور المستمر، فلا يمكن أن يتحجر التشريع ولا أن يقف عند حدّ معين، بل سيواكب مسيرة البشرية كلها، لعموم هذه القواعد وشمولها، ولله تعالى حكمة في كل جزئية منها. وختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم من المعلوم بالدين بالضرورة، فكل من ادعى النبوة بعده فإنه يكفر بذلك ويستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وفي قراءة أخرى: (وخاتِم النبيين) ومعناهما واحد؛ لأن الخاتَم والخاتِم معناهما: المكمل.

علو مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم على الرسل قبله

علو مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم على الرسل قبله قال: (والنبي العربي خاتِمهم أعلاهم في الرتب)، أي: أعلاهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى، وذلك لسيادته عليهم أجمعين، فإنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وقد صلوا جميعاً خلفه ليلة الإسراء، وهو الشافع لهم أجمعين يوم القيامة، فيدخل في شفاعته الأولون والآخرون؛ ولذلك فإن عبد المطلب حين سماه محمداً، قيل له: أتسمي ولدك باسم لا يعتاد في آبائك ولا في قبيلتك فقال: رجوت أن يحمده الأولون والآخرون، فحقق الله رجاءه بالشفاعة الكبرى التي يحمده فيها الأولون والآخرون، فآدم ومن دونه يدخلون كلهم في شفاعته. وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، وكذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم عندما قال له رجل: (يا خير خلق الله، فقال: ذلك إبراهيم)، فإن للعلماء محامل لذلك، فقد حملوا قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، على أنه لا ينبغي التفضيل المقتضي للإزراء، بل الرسل أجمعون يجب توقيرهم واحترامهم، وعدم الإزراء بأحد منهم ولا بمنزلته، فالإزراء بمنزلة أي واحد منهم كفر؛ ولهذا لا يحل أن يوصف أحدهم بوصف مستبشع ولا بما يقتضي نزول منزلته أو نقص درجته، وليس المقصود النهي عن ذكر فضله صلى الله عليه وسلم؛ لكن إذا ذكر فضل الرسل ثم ذكر فضل النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا نهي فيه. وكذلك قوله للرجل الذي قال له: (يا خير خلق الله، فقال: ذلك إبراهيم)، فإن هذا كان قبل أن يطلعه الله على اختياره للخلة، فقد أخبره الله أنه اختار إبراهيم خليلا: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]؛ لكن إنما علمه هو باختياره صلى الله عليه وسلم للخلة بعد هذا، ودليل ذلك إخباره به، فقد أخبر أن الله أطلعه على أنه اتخذه خليلا، وقال: (لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله). والخلّة أعلى منزلة في البشر؛ لأنها تقتضي أن لا يبقى في قلب الإنسان مكان للمحبة إلا محبة الله، فلا يكون الإنسان خليلاً لله حتى لا يبقى في قلبه أي مكان لمحبة أي شيء غير الله؛ ولذلك اختص الله بها إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم. ولذلك قال الشيخ هنا: (أعلاهم في الرتب)، وذكر أفعال التفضيل المقتضية للاشتراك؛ لأن أفعال التفضيل لا تفاضل إلا بين مشتركين في الوصف، فكل الرسل عليهم الصلاة والسلام عالي الرتبة؛ لكن أعلاهم رتبة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا أخذ الله عليهم العهد أجمعين أن يؤمنوا به.

تميز معجزة النبي صلى الله عليه وسلم على معجزات الأنبياء

تميز معجزة النبي صلى الله عليه وسلم على معجزات الأنبياء ثم قال: [وكلهم أوتي إذ جا بالبشر ما مثله عليه آمن البشر] وهو هنا ينظم الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح: (ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة). قال: [وكلهم أوتي إذ جا بالبشر ما مثله عليه آمن البشر وإنما كان الذي الأواه أوتيه وحياً إليه الله أوحاه فهو أكثر الجماعه متبعا يوم تقوم الساعه كما رجا. ] أي: كما رجا صلى الله عليه وسلم، وهذا كله نظم لهذا الحديث، فقوله: (وكلهم أوتي إذ جا بالبشر)، أي: كل الرسل آتاه الله حين جاء (بالبشر) أي: مبشرات، والمقصود بذلك دعوته التي تشمل المبشرات والمنذرات، فكل الرسل بشير ونذير. والبشر جمع بشرى، والمقصود بها تبشيرهم بالدين الذي أتوا به من عند الله. (ما مثله عليه آمن البشر)، أي: أوتي من المعجزات ما لو رآه البشر لآمنوا به، فمعجزاتهم باهرة، فكل معجزة لو جمع لها البشر فرأوها لقامت عليهم الحجة، والدين الذين أتى به كل رسول منهم يصلح للوقت الذي هو فيه؛ ولهذا كانت معجزاتهم، مادية تقوم بها الحجة على عصر فقط، وهو العصر الذي رئيت فيه أو تواترت، ثم إذا انقطع التواتر زال الإعجاز منها، فمثلاً ناقة صالح، لا شك أن من رآها أو نقلت إليه تواتراً تقوم عليه الحجة بها؛ لكننا نحن اليوم لو لم ترد في القرآن لما صدقنا بها؛ لأننا ما رأيناها ولا نقلت إلينا أخبارها تواتراً. لذلك فالمعجزات المادية إنما تكون مع الرسالات المؤقتة، وأما معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فنظراًَ لبقاء رسالته، كانت هذا القرآن الباقي الخالد، الذي تقوم به الحجة على الناس أجمعين؛ ولهذا قال: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، فمعجزته هذا الوحي، وإن كانت له معجزات كثيرة؛ لكن تلك المعجزات لا تقوم بها الحجة على كل الناس، والذي تقوم به الحجة على كل من بلغ هو هذا القرآن، وهو المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقوله: (ما مثله عليه آمن البشر)، أي: ما تقوم الحجة بمثله على الناس أجمعين، و (البشر): هذا الجنس الآدمي. وإنما كان الذي الأواه أوتيه وحياً إليه الله أوحاه. معناه: إنما كانت معجزته الكبرى التي آتاه الله وحياً أوحاه الله إليه، وهو هذا القرآن، والأواه معناه: كثير التوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله به على إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] منيب. والمقصود: بالوحي الموحى؛ لأن المصدر يطلق على الحدث ويطلق على ما تعلق به الحدث، فالحدث هو ظاهرة الوحي نفسها، فهو نزول الوحي إليه، وهو القرآن الموحى، فالقرآن يسمى وحياً بمعنى موحى؛ لأنه أوحي إليه. وقوله: فهو أكثر الجماعة متبعاً يوم تقوم الساعة أي: فبسبب كون معجزته هذا الوحي فهو أكثر جماعة الرسل عليهم الصلاة والسلام أتباعاً يوم تقوم الساعة. قوله: (كما رجا)؛ هذا الذي ترجاه بقوله: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ذلك: (فإنه حين عرضت عليه الأمم، رأى النبي وحده، والنبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والثلاثة، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه القبيلة، ثم رأى سواداً قد ملأ الأفق قال: فأقول: هذه أمتي؟ فيقال: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فرأى أمته أضعاف ذلك)، وهذا التزايد علو في المنزلة؛ لأنه يزداد أجره بعدد أتباعه، فكل فرد من الأفراد آمن به، فإن كل عبادة يعبدها وكل ذكر يذكره يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجره على التتابع الذي لا ينقطع إلا بقيام الساعة. ولذلك فإن أمته كانت مدتها أطول المدد.

شهادة أمة محمد على غيرها من الأمم

شهادة أمة محمد على غيرها من الأمم ومن حكم ختم الأمم بهذه الأمة أن هذه الأمة هي شهود الله على الأمم يوم القيامة، والشهادة من شرطها العلم، لقول الله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81]، ولقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، وفي حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي في السنن بإسناد ضعيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع). وعلى هذا فلا يشهد الإنسان إلا على ما علم، ومع ذلك فهذه الأمة شهود الله على الناس، فلو كانت هذه الأمة سابقة لوقتها، لما جاز لها أن تشهد على من يأتي بعدها من الأمم؛ لأن ما يأتي بعدها سيكون مجهول الخبر، فتقدمتها الأمم حتى تشهد عليها؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وما من نبي إلا يخاصمه قومه يوم القيامة فيقولون: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة:19]، فيقال: ومن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، حتى أن نوحاً يخاصمه قومه فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال: ومن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيستشهدهم نوح فيقولون: بلى قد مكثت فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيشهدون له. ولا عبرة بكثيرة الانتساب إلى الديانات المحرفة، فملة عيسى وأتباع عيسى انتهت تبعيتهم لعيسى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن عيسى بريء منهم بعد أن أخذ عليهم العهد إذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعوه؛ وكذلك أتباع موسى فبمجرد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى أتباعه؛ لأنه أخذ عليهم العهد أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فكل من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ليسوا من أتباع عيسى ولا من أتباع موسى؛ بل هم من أتباع الشيطان، فقد غيروا العهد الذي أخذ عليهم أجمعين. ومن هنا فلا تغتر بكثرة الذين يزعمون أنهم نصارى اليوم، ويزعمون أن أكثر الأديان انتشاراً في العالم الدين النصراني، فهذا ليس دين عيسى الذي جاء به، بل دين عيسى الذي جاء به مقتض لاتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، وترك ما كان معهم بالكلية.

الأسئلة

الأسئلة

عدم اختيار النبي صلى الله عليه وسلم من العرب العاربة

عدم اختيار النبي صلى الله عليه وسلم من العرب العاربة Q لماذا كان النبي من العرب المستعربة لا من العاربة؟ A أما كون النبي صلى الله عليه وسلم من العرب المستعربة وليس من العرب العاربة، فهذا يقتضي زيادة شرف، فإن العرب المستعربة أشرف وأفضل عند الله تعالى وعند الناس، حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن قبائل عدنان كانت لها المنزلة العظمى في جزيرة العرب، فلا يفخر عليها أحد من العرب العاربة، بل كانوا يتنافسون في التقرب إليهم.

إباحة ذبائح أهل الكتاب ونسائهم مع أن دينهم غير مقبول

إباحة ذبائح أهل الكتاب ونسائهم مع أن دينهم غير مقبول Q إذا كان دين اليهود والنصارى باطلاً، فلماذا أبيحت نساؤهم وذبائحهم؟ A بالنسبة لإباحة نساء أهل الكتاب وذبائحهم وتسميتهم أهل كتاب ودينهم لا يقبل عند الله تعالى، فهذا ليس تشريفاً لهم، وإنما هو تشريف لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن تشريف الله للمسلمين أنه أباح لهم ذبائح أهل الكتاب ونساءهم، ووسع عليهم وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقد كان أهل الكتاب يزعمون أن لهم شفوفاً على المشركين حتى أنزلت سورة البينة، فجاء فيها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]، فقال أبو بكر: استوت أكتافهم ورب الكعبة، فليس لهم أي شفوف على المشركين، فهم جميعاً شر البرية عند الله، وهم جميعاً إلى النار. لكن إنما أبيحت ذبائحهم وأحل نساؤهم تشريفاً للمسلمين، لا تشريفاً لهم، هم ما لهم أي مزية في ذلك، بالنسبة لتشريف المسلمين بإباحة هؤلاء؛ لأنه على الأقل يجمعهم وإياهم بعض الأخلاقيات، ولهم مرجع يرجعون إليه وهو مرجع الدين، فلهذا أبيح للمسلمين نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، وأما المشركون الآخرون فليس لهم مرجع، بل إنهم يغيرون دينهم متى شاءوا، وحتى نساؤهم لم يكن مؤتمنات في أي شيء، لأنه لا يحبسهن أي شيء؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: [كانت نساء الجاهلية على قسمين: من لا ترد يد لامس ومن لها خدن]، وفي حديث علي بن أبي طالب: أنه كان النكاح في الجاهلية على قسمين أيضاً، وهذا كله يقتضي عدم الوفاء، وعدم العفة والحصانة، وهذه القيم توجد في أهل الكتاب نظراً لما معهم من القيم الباقية من دياناتهم المحرفة. ونحن لا ننكر بعض الميزات المختصة بأهل الكتاب من الأحكام مثل ما ذكرنا، ومثل أن الله جعل الذين آمنوا بعيسى من أهل الكتاب أقوى من جميع الكفرة، فهذه ميزة ضمنها الله لعيسى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، فسيبقون أقوى من اليهود وأكثر منهم أعداداً وأكثر منهم قوّة دنيوية. ومن هنا فقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، يوجد خلاف للمفسرين في معنى قوله: (اتبعوك)، فمنهم من قال: المقصود بذلك الحواريون وأتباع عيسى عليه السلام الذين سلكوا ملته قبل التحريف والتغيير، وهم من جاء قبل أن يغير بطرس النصرانية، فهؤلاء ضمن الله لهم هذه المكانة، و: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ليس ضماناً لبقائهم إلى يوم القيامة، بل النهايات كلها إلى يوم القيامة. ومنهم من قال: المقصود بذلك كل من انتسب إليه حتى لو كان الاتباع مجرد انتساب، وليس المقصود أن يتبع ملته، وعلى هذا يدخل فيه من عاصرنا ومن يأتي بعدنا من النصارى الذين يزعمون الانتساب إلى عيسى عليه السلام. وبعض الميزات الأخرى التي اختصوا بها في الأحكام مثل ما يختص بدعوتهم، فدعوتهم ليست كدعوة أهل الشرك، بل تختلف عنها في بعض الأصول كما في قول الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]، وكذلك إخبارهم بإيماننا برسلهم ونحو هذا، فدعوتنا أهل الكتاب متميزة عن دعوة ما سواهم. ومما امتازوا به أن من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه يؤتى أجره مرتين، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: العبد إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فعلمها وأدبها فأحسن تعليمها وأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي)، أي: كان على ملته قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما بلغته الدعوة آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يؤتى أجره مرتين. فهذه ميزة لكنها بعد الإسلام، وهذه الميزة أيضاً هي نفسها المذكورة في قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، فالمقصود بهم الذين آمنوا من النصارى، وليس المقصود النصارى على كفرهم؛ ولذلك قال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [المائدة:83 - 85] فهؤلاء هم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عدد كبير من النصارى في الدين، وأخبر أن اليهود قوم بهت؛ ولذلك قال: (لو آمن بي من اليهود عشرة وفي رواية: عشرون، لآمنوا كلهم)، فلم يؤمن به من اليهود في زمانه -مع أنه عاشرهم وعاش بينهم- عشرون شخصاً، بل الصحابة الذين هم من أصل اليهود قلة جداً، ولهم مزية وفضل عظيم جداً، وأكثرهم مشهود له بالجنة مثل عبد الله بن سلام ومخيريق؛ لأنهما خرجا من هذا الشعب المتعصب المصاب بالحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان تصديقهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به واتباعهم له مزية عظيمة جداً، يضاعف لهم بها الأجر. أما النصارى فقد أسلم منهم عدد كبير ودخلوا بعد ذلك في دين الله حين فتحت بلادهم. وقد اختلف في مزية اليهود والنصارى من العرب: هل لهم مزية على اليهود والنصارى من غير العرب، فذهب قوم إلى دخولهم في المزية؛ لأن اصطفاء الله لهذا الجنس من الناس يقتضي اختياراً لهم، وعلى هذا يترتب بعض الأحكام، منها: أن عمر رضي الله عنه لم يفرض عليهم الجزية كما فرضها على غيرهم، بل صالحهم على أن يدفعوا الزكاة كما يدفعها المسلمون، وكان ذلك سبباً لإسلام كثير منهم. وهذه الميزة لم يجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل فرض على نصارى نجران الجزية، وهي أربعة دراهم على كل حالم وأربعة آلاف حلة في السنة لكن لم يجعلها على أفرادهم إنما جعلها عليهم جميعاً، فكانت الجزية بمثابة الصلح، لأن الجزية تترتب على كل محتلم، والرسول صلى الله عليه وسلم جعل عليهم أربعة آلاف حلة ولم يحصهم عدداً، وكذلك يهود اليمن، وكذلك يهود خيبر بعد الهزيمة، فإنه أقر معهم التعامل على أن يأخذوا نصف ثمار خيبر، وأن يردوا عليهم نصفها، على أن تؤخذ منهم الجزية، ثم أخرجهم عمر. أما الذين هم من العرب فقد أقرهم عمر ولم يخرجهم من جزيرة العرب، فقد أقر نصارى نجران، ويهود اليمن، وبني تغلب، فلم يخرجهم من جزيرة العرب مع أنهم أهل دين، وأخرج اليهود والنصارى الذين هم من غير العرب. وعموماً هذه المسألة محل خلاف، ويترتب على هذا الخلاف أحكام فيما يتعلق بأخذ الجزية منهم ومعاملتهم معاملة مختصة.

مسمى أهل الكتاب

مسمى أهل الكتاب Q هل يطلق مسمى أهل الكتاب على غير اليهود والنصارى؟ A مسمى أهل الكتاب، إنما يطلق على اليهود والنصارى، وأطلق في سورة المائدة على فئة ثالثة هي فئة الصابئين، وقد اختلف في الصابئين، فذهب بعض الناس إلى أنهم صابئة أهل العراق وأهل حروراء، وهؤلاء طائفة من النصارى قد حرفوا ملتهم مثل السامرية من اليهود. وقالت طائفة أخرى: بل هم أتباع يحيى بن زكريا عليهما السلام. ولكن الراجح أن يحيى لم يكن له أتباع يختصون به، بل كان مجدداً لملل الأنبياء من قبله ومعاصراً لعيسى عليه السلام، ومصدقاً به كما أخبر الله بذلك في وعده لزكريا عليه السلام: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران:39]، فهو مصدق بعيسى بن مريم. وذهب آخرون إلى أن الصابئين هم أتباع إبراهيم عليه السلام، وقد أثبت الله في كتابه أن إبراهيم اتبعه قومه؛ ولذلك قال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68]، فقوله: (الذين اتبعوه) يقتضي جمعاً، وهو لم يؤمن به من قومه إلا لوط وسارة، لذلك قال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وعلى هذا فقد اتبعه قومه، ولا ندري أين استقروا، ولكن أرجح الأقوال في تفسير الصابئين أن الذين أطلق عليهم هذا الاسم في القرآن هم من أتباع ملة إبراهيم، وقد بقي في ذريته بعض ملته، كما بقي في ذرية إسماعيل من ملته الحج وعقد النكاح وغسل الجنابة، والضيافة، وخصال الفطرة. وعموماً فالصابئة الموجودون اليوم في العراق الراجح فيهم أنهم ليسوا أهل كتاب أصلاً وإن سموا أنفسهم صابئة؛ ولذلك فإن ملتهم أو ما يسلكونه من الطقوس يشبه إلى حد كبير ديانة البوذيين، ويزعم بعض الناس أن أحد فلاسفة المسلمين هو الذي سماهم صابئة؛ كما سيأتي. ومذهب الجمهور أن الجزية لا تؤخذ إلا من اليهود والنصارى فقط، لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وذهب مالك إلى جواز أخذها من الكفرة جميعاً، وقال: إن الأصل في إباحة أخذ الجزية من الكافر أنه سيكون من رعايا الدولة الإسلامية، وأن الشعوب بكاملها إذا أذعنت لا يمكن أن تعرض على السيف، فليس لها حل إلا أن أخذ الجزية؛ ولذلك رأى أن الشعوب إذا دعيت فلم تستجب إلى الإسلام، ولكن قبلت الدخول تحت حكمه فإنها تؤخذ منها الجزية بغض النظر عن ديانتها، هذا مذهب مالك. لكن مذهب الجمهور أن الجزية تختص بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس لحديث عبد الرحمن بن عوف: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم ولا محلي نسائهم)، وفي رواية: (ولا ناكحي نسائهم)، ولم يبق من سنة أهل الكتاب إلا أخذ الجزية منهم. ويقال: إن المأمون أراد أن يعرض هؤلاء القوم وهم بالعراق على السيف أو يسلموا؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب ولم يرد أن يأخذ جزيتهم، فشكوا إلى أحد فلاسفة المسلمين، فقال: ادعوا أنكم الصابئة، فادعوا ذلك، فلما أراد المأمون محاكمتهم جاء هذا الفيلسوف فجادل عنهم، وقال: إن أهل الكتاب لا ينحصرون في اليهود والنصارى فقط، بل الصابئون كذلك بنص القرآن -وقرأ عليه الآيات الواردة في ذلك- وهؤلاء هم الصابئون فتركهم، ومن ذلك الوقت سموا أنفسهم بالصابئين. ويترتب على الخلاف السابق قضية أخرى، هي قضية استباحة دماء الكفار دون دعوة، فمذهب الجمهور: أنه لا يحل استباحة دمائهم وأموالهم إلا بعد دعوتهم، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: يجوز أن تهاجم الكافر فتقتله ولو لم تنذره، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، فيقول: الذي يقعد في المرصد لن ينادي من يترصده ويقول: يا فلان أسلم أو أقتلك، لأنه إنما اختفى يريد أن يقتله. ولعل مذهب الجمهور في هذا أولى؛ لأن سبب النزول يقيد، وبالأخص انتهاء الأشهر الأربعة التي أعطى الله تعالى مهلة للمشركين بعد منعهم من دخول المسجد الحرام بسورة براءة في العام التاسع من الهجرة. وعلى كل ينبغي عدم التسرع في الحكم في مسألة السماع وقيام الحجة، فإنه مما لا خلاف فيه بين الأمة أن بلوغ الدعوة شرط من شروط وجوب الأحكام. وبلوغ الدعوة لا يكون إلا عن طريق المسلمين، أما بلوغها عن طريق وسائل الإعلام المشوهة، فقد لا يتحقق به بلوغ الدعوة تماماً.

كيد الأعداء لهذه الأمة

كيد الأعداء لهذه الأمة إن الكفر لم يزل يحارب الإسلام في كل مجال، ويحاول مسخ هوية المسلمين بكل ما يقدر عليه، ومن ذلك مهاجمة القيم والأخلاق، وفرض السياسات الغربية والعادات الجاهلية على المسلمين، وإن دين الله محفوظ، لكن يجب على المسلمين العمل لنصرته، وسبيل ذلك هو الاهتمام بعلوم الدين والمحافظة على لغته وتعاليمه، وصيانتها من غزو الكفار.

مشروع العولمة ومهاجمته للإسلام

مشروع العولمة ومهاجمته للإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

العولمة وفرض اللباس الغربي على المسلمين

العولمة وفرض اللباس الغربي على المسلمين إن من الخطوات التي تدخل في إطار العولمة ما يتعلق بالقيم الأخلاقية والالتزام العادي؛ فإن الملابس مما تتميز به الشعوب، وكل شعب له ملابس تميزه، وهذه الملابس لها ضوابط شرعية، فلباس الرجل تعتريه أحكام الشرع كما قال محمد مولود رحمه الله: ثم لباس الشرع تعتريه الـ أحكام حتمٌ منه ما يقيه إلى أن يقول: لباس موسرٍ لباس معسرٍ شُحٌ وضده ثوب السري على الدني خيلا والضد مهانةٌ والمستجاد القصد والعلما يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي وحسنه يندب للمصلي وللمؤذن وذات البعل فإذا جاءت الخطوة اللاحقة من العولمة فسيفرض لباس الغربيين على الناس، وقد سبقت تجربة هنا في هذا البلد، حيث فرضت الملابس الغربية فيما يتعلق بالعمل المكتبي كله، وقد فرضت من قديم هذه الملابس على الجيوش في العالم كله، فالجيوش والشرط وغيرهم فرض عليهم اللباس الغربي من زمان، وسيأتي هذا تباعاً، حتى أن النساء سيفرض عليهن الزي الغربي من الملابس، وسيكون ذلك متدرجاً، فسيأتي في البداية بالدعاية في برامج مصورة وأشرطة للفيديو، ثم يؤتى بجس النبضِ بالمباشرة في الحفلات الخليعة الماجنة، ثم بعد ذلك فرضاً، وتكون هذه القيم مما يعاقب عليه، وقديماً كنا ندرس في القانون أن من خصائص القاعدة القانونية أنها مُلزمة؛ وأن قواعد القانون الدولي العام غير ملزمة، وبهذا فليست قواعد قانونيةً في الواقع لأنها غير ملزمة. لكنه بعد حرب الخليج الثانية، أصبحت قواعد القانون الدولي ملزمة، لأن أية دولة خالفت هذه القواعد سيفرض عليها الحصار، أو تضرب كالحال الآن في ليبيا وفي السودان وفي العراق وبعض الدول الإسلامية الأخرى، فباكستان الآن تهدد بهذا الحصار، وبذلك ستفرض القيم بالقوة، وهذا الأمر إذا لم تحس به الأمة ولم تستعد له، فسيأتي بالتدريج: كالموت مستعجلاً يأتي على مهلِ يأتي بالتدريج والتقسيط حتى يترسخ، وحينئذٍ من وقف في وجهه كان كمن يضرب في حديد بارد. أما إذا انتشر الوعي بين الناس فعرفوا أن الهجوم الذي يشن على اللغة العربية ليس على وسيلة للتفاهم، أو على لغة من لغات العالم فقط، وإنما هو هجوم على الإسلام في قيمه وعقيدته ووحيه المنزل، وأخلاقه، وكل ما فيه، وأن الهجوم الذي يشن على التعليم ليس هجوماً على المؤسسات التعليمية أو تغييراً أو رُقياً في هذا المجال فقط، بل هو هجومٌ شرسٌ على الإسلام لاقتلاعه من جذوره، وأن الهجوم الذي يشن في الإعلام إنما يقصد به الوصول إلى من لا تصل إليه مؤسسات التعليم من الناس حتى يشارك في بناء عقليته وتصوره، ومن هنا فإن الإعلام لا يخرج فيه من الأخبار غالباً والتحاليل إلا ما كان مضللاً مبنياً على كذب ومجازفة متعمدة. ولذلك فالتشويه الحاصل اليوم للمسلمين في كل مكان مبناه على أن وسائل الإعلام المؤثرة إنما يمتلكها أعداء الدين وأعداء الحق، وهم يخرجون فيها ما شاءوا، ومن هنا فلا يتوقع من هؤلاء أن يخرجوا دعايةً للإسلام ولا إنصافاً له، بل هم أعداؤه ويريدون القضاء عليه، ويودون ذلك، والقرآن صريح في هذا: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]. فهم لا يرضون منكم إلا الكفر {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، ومن هنا لا يرضون أبداً عن أي إنسان إلا إذا تبع ملتهم، لكنهم يرضون منه بالتدريج خطوة خطوة، وهذه سياستهم. كذلك الهجوم على ما يتعلق بالقيم، فنحن نشاهد في كثير من البلدان الإسلامية اليوم قوانين تفرض على النساء إذا درسن في المؤسسات التعليمية أن يمتنعن من ارتداء الحجاب أو ستر رءوسهن، وهذا موجود في البلدان الإسلامية المجاورة، وهو مفروض بقوة النظام ولكنه خطوة واحدة من خطوات هذا الغزو في مجال القيم.

العولمة وفرض الديمقراطية لصالح الغرب

العولمة وفرض الديمقراطية لصالح الغرب ومثل هذا في المجال الاقتصادي ومثله في المجال السياسي في فرض الديمقراطية وفرض الكلام في حقوق الإنسان وغيرها، فهذه إنما هي على مكيال الغرب، فالديمقراطية إذا أدّت إلى وصول الفاسدين المرضين للغرب فهي ديمقراطية صحيحة شفافة مقبولة، وإذا أدّت إلى خلاف ذلك فهي منبوذة، ومعناها أن الشعب لم يصل إلى الوعي الكافي، ولابد من انقلاب عسكري يغير ذلك. وكذلك في حقوق الإنسان في فلسطين، فإن المقصود بالإنسان فيها هو اليهودي فقط. وحقوق الإنسان في كل بلد من البلدان التي فيها أقليات غير مسلمة، المقصود بها الإنسان غير المسلم فقط، فحقوق الإنسان في مصر يقصد بها حقوق الأقباط فقط، حقوق الإنسان في السودان يقصد بها حقوق الجنوبيين فقط، وهكذا فهذه الدعايات البراقة الخلابة التي يخدع بها الناس لها مفاهيم عند الغربيين، وإن الشعوب غير واعيةٍ لهذه الدلالات، وغير واعيةٍ لهذه المصطلحات المقصودة، ومن هنا ينخدعون بهذه الدعايات وتؤثر فيهم. إن المؤتمرات التي تقام لترسيخ (الفرانكفونية) والإنفاق الكبير الذي يبذل فيها، لم يأت من فضاء، ولم يقصد به مجرد التقاءٍ أو تحاورٍ بين الشمال والجنوب كما يسمون ذلك الحوار، وإنما يقصد بها التحاور بين الجانب القوي والجانب الضعيف، وهذا الحوار بين جانبين أحدهما قويٌ (100%) والآخر ضعيف (100%)، ولن يكون فيه عدل أبداً بل سيكون الجانب الضعيف هو المهضوم وهو المهزوم، وهو الذي تفرض عليه قيم الجانب الآخر، ومن هنا فإذا لم يعم الوعي في الشعوب الإسلامية، فستأتي هذه الخطوات متسارعة. وقد شاهدنا في السنوات الأخيرة تسارعها، فعندما أصبح القطب العالمي واحداً، وأصبح النظام العالمي الجديد ليس له من يقف في وجهه، أصبحت هذه الخطوات سريعةً جداً، فيأتيك قرار بفرض الديمقراطية من غير مطالبة، ثم يأتيك قرار آخر بتغيير التعليم، ثم يأتيك قرار آخر بتغيير القيم، ثم يأتيك قرار آخر بترسيخ الربا، ثم يأتيك قرار آخر قاضٍ على الصناعات والإنتاج كمنظمة (الجات) وغيرها، وهكذا تتسارع الخطوات في ظل غياب الوعي في الشعوب.

توظيف الغرب لحقوق الإنسان لصالح الكفر

توظيف الغرب لحقوق الإنسان لصالح الكفر أما إذا حصل الوعي فبالإمكان أن تمتنع هذه الشعوب عن الانجراف والمسارعة والهرولة إلى اليهود والنصارى، فالذين يسارعون إلى اليهود والتطبيع معهم يظنون أنهم بذلك سيكسبون شهرةً عالميةً وأموالاً طائلة، أو على الأقل ستجدول ديونهم، ويقضى عليها، ولكن الواقع خلاف ذلك، فاليهود أنفسهم كل ميزانيتهم مستوردة من الخارج، ودولتهم دولة فقيرة مازالت تُدعم إلى اليوم من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن غيرها من البلدان الأوروبية، وهم يسعون كذلك للتعويض من البلدان الغربية في كل سنة، فيفتعلون قضايا ويرفعونها عند المحاكم لينالوا مالاً، ففي العام الماضي أخذوا تعويضاً كبيراً من الألمان عن المحرقة اليهودية، وهذا العام أخذوا تعويضاً كبيرا من الهولنديين، والعام القادم سيأخذونه من دولة أخرى وهكذا. فإذا كانوا أصحاب هلع وطمع، ولم يكن لديهم ما يكفيهم لتوسعهم في مشروعهم الحضاري وكانوا دولةً تعيشُ على حساب الدول، فكيف يطمع فيها من أغناه الله عنها، وبالأخص إذا عرف أنهم أهل المكر والدهاء من قديم العهد، فقد شهد الله عليهم بذلك في كتابه، وشهد عليهم بالكذب وأكل السحت وأكل الربا، وأنواع الفجور، وتحريف الكلم عن مواضعه، وبالأخص أن عداوتهم لهذه الأمة هي أعظم العداوات: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فعداوتهم لهذه الأمة هي أشد العداوات، حتى حاولوا التخلص من شخص النبي صلى الله عليه وسلم برمي الحجر عليه، عندما أمروا عمرو بن جحاش أن يصعد فوق الدار، وأن يرمي الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الظل، وحاولوا وضع السم له في غزوة خيبر، وحاولوا كذلك التخلص من القرآن، وسحر النبي صلى الله عليه وسلم على يد لبيد بن الأعصم وبناته. هذه مؤامراتهم على شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ثم مؤامراتهم بعد ذلك على الأمة لا حصر لها ولا نهاية، ومن هنا فلا يرجى منهم خير، ولا يمكن أن يطمع طامعٌ في خيرٍ يأتيه من قبل اليهود الذين شهد الله عليهم بهذه الشهادات المخزية، التي أخزاهم بها وبين بها حقيقتهم، وبين بها عوارهم وما هم فيه من أنواع المذلة والمهانة {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112]. فماكان هكذا فكيف يريد الإنسان التعزز به؟!

بيان ضلال اليهود والنصارى وأن العلم عند المسلمين

بيان ضلال اليهود والنصارى وأن العلم عند المسلمين إن المؤمن ينبغي أن يتذكر قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، ولا يمكن أن يطلب العزة لدى اليهود الأذلاء الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، وكذلك النصارى الضالين الذين لا علم لهم، كيف يطلب منهم العلم وقد شهد الله عليهم بذلك في كتابه، بل إن من ضل من علماءنا كان كاليهود، وجهالنا من ضل منهم كان كالنصارى، فاليهود هم المغضوب عليهم، والنصارى هم الضالون، فاليهود أضلهم الله على علمٍ، والنصارى ضلوا عن جهل، إن قوماً شهد الله عليهم بالجهل لا يمكن أن يطلب منهم العلم. والذي يقول نحن نصلح التعليم لنحتذي بالنصارى ونريد منهم العلم، أول ردٍ عليه أن يقال: النصارى ليس لديهم علم، وقد حكم الله عليهم بذلك، وشهد عليهم به في كتابه، فكيف تطلب العلم من غير موضعه؟ إن هذا انتكاس في المفاهيم، وعدم وعي وإدراك للواقع، وهو من كيد هؤلاء الكائدين الماكرين، فيجب على الأمة أن تنتبه له، وأن لا تقبله بحال من الأحوال، ويجب على المسلمين أن يتعلموا لغة القرآن، وأن يهتموا بها وأن يعلموا أولادهم هذه اللغة، وأن يحافظوا عليها، وأن يعلموا أن المدارس النظامية التي هي من وضع الغربيين، لا يمكن أن تخرج العلماء، مادامت من وضع الغربيين. هل رأيتم عالماً قط خريج جامعة لم يدرس في غيرها؟! لا يمكن أن يتم هذا، فلذلك لابد أن يعتني الناس بتعليم اللغة العربية، وأن يدرسوا أولادهم هذه اللغة، وقد أدركنا أسلافنا قبل سنوات، في بداية هذا الجفاف والناس ما زالوا يدرسون أولادهم ديوان الستة الجاهليين، والمعلقات السبع، وكان كل ناشئٍ بلغ عشرين سنة وهو لا يحفظ ألفية ابن مالك يعتبر ذلك سُبةً عليه، ومهانةً ومذلة بين الناس، واليوم شُغل الناس عن ذلك فأصبحت ترى الذين يراد منهم أن يكونوا قادة الأمة في المستقبل وحراس الدين، وهم لا يهتمون بشيء من هذا، ولا تعلق لهم بهذه اللغة ولا يعرفون شيئاً عنها، وهم بهذا يخادعون أنفسهم ويهملون ما فُرض عليهم، ونحن نعلم أن المكانة العالية التي تبوأها علماؤنا وقادتنا وخلفاؤنا عبر التاريخ إنما كانت في الأساس بهذا العلم.

اعتناء المسلمين بعلم اللغة وذكر نماذج من ذلك

اعتناء المسلمين بعلم اللغة وذكر نماذج من ذلك لاحظوا كلام الخلفاء الراشدين وقارنوه بكلام من دونهم، فستجدون مستواهم اللغوي وعنايتهم بهذه اللغة:

ذكر نماذج من كلام علي رضي الله عنه

ذكر نماذج من كلام علي رضي الله عنه كتب علي رضي الله عنه إلى أحد عماله: غرك عزك فصار قصار ذلك ذُلّك، فاخش فاحش فعلك فعلّك تهدا بهذا كل كلمة تشبه الأخرى التي قبلها في الخط، وليس لديهم نقاط إذ ذاك، فقوله: (غرك عزك) تتشابهان في كتابتهما (فصار قصار) متشابهتان أيضاً (ذلك ذُلّك) كذلك، (فاخش فاحش) (فعلك فعلّك) (تهدا بهذا) كل كلمتين تشبه إحداهما الأخرى، وكذلك قال لكاتبه: ألصق روانفك بالجبوب، وخذ المزبر بأباخسك، واجعل جحمتيك إلى قيهلي، حتى لا أنبس نبسةً إلا أوعيتها في حماطة جلجلانك! وقد سئل مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي عن تفسير هذا الكلام فقال: ألصق معناها: ألزق، وروانفك: عضرتك، والجبوب: الصلة، وخذ المسطر: خذ المزبر، بأباخسك: بشناترك، واجعل جحمتيك: اجعل حندورتيك، إلى قيهلي: إلى أثعباني، حتى لا أنبس نبسةً: حتى لا أنغي نغية، إلا أودعتها: إلا أوعيتها، في حماطة جلجلانك: في لمظة رباطك. ففسرها بما يشبهها من كلام العرب، ونحن نعلم أن كثيراً من الناس اليوم تتعلق نفوسهم بأن يكونوا كأسلافهم الصالحين، وأن يدركوا بعض ما أدركوه، فكثير من الذين اشتهروا في بلادنا هذه بالعلم، إنما كان تبريزهم فيه على أساس فهمهم في الكتاب والسنة لإحاطتهم باللغة، ولهذا فإن هذه البلاد يجب أن تبقى قلعةً للغة العربية، وأن يحافظ أهلها على ذلك، ولهذا فمن المعروف في العالم كله، بأن أهل هذه البلاد هم أهل العربية على وجه السليقة، وإذا زال ذلك وانمحى فليس لهم شيء يذكرون به غير هذا، فالشيخ محمد المامي رحمه الله يقول: فكانت في جزيرتها حجازاً ونحن لها معداً آخرينا لا بد أن تبقوا معداً آخرين وأن تبقى هذه البلاد حجازاً كما كانت.

ذكر رسالة المجيدري إلى أمه

ذكر رسالة المجيدري إلى أمه ومن المشاهير المبرزين من أهل هذه البلاد المجيدري المشهور وهو محمد بن حبيب الله بن الفاضل اليعقوبي، وحين أتى المغرب وهو في الخامسة عشرة من عمره لم يجد من يستطيع مناظرته في العلم، وذلك لتبريزه في اللغة وإحاطته بمفرداتها، فلا يمكن أن يأتوا بنصٍ إلا وله فيه فهمٌ وله عليه شواهد، وبذلك استطاع أن يخطف الأضواء ولم يجد من يستطيع مناظرته، وقد وجد تاجر كتبٍ في طريقه إلى هذه البلاد فأرسل معه رسالةً إلى أمه، هي عبارة عن سلهام وزربية وعبد وتسعين درهماً، وكتب له كتاباً فيه: (سلامٌ بزيادة لام ماءٍ إلى لامه وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين). فأخذ صاحب الكتب هذا الكتاب فقرأه فلم يجد فيه ذكراً للرسالة التي معه، فأراد أن يأخذ الرسالة، وأن يأتي بالكتاب إلى المرأة، فأتى العجوز بالكتاب فقالت: هات الزربية والسلهام، والعبد والتسعين، فقال: من أين أخذتها؟ فقالت: لام ماءٍ هاءٌ لأنه يجمع على (أمواه) ويصغر على (مويه)، والهاء إذا أضيفت إلى لام سلامٍ كان سلهاماً. وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، تقول: راجعت ذهني في أبيات الشعر المبدوءة بترديت فوجدت قول غيلان: ترديت من أعلام نورٍكأنها زرابي وانهلت عليك الرواعدُ فإذاً: (كأن) خبرها هنا (زرابيُ) واحدتها (زربية). وأما (إياك نعبد وإياك نستعين) فلم أفهمها، فعرفت أنها مصحفة، فقرأتها بدون نقاط فإذا هي: أتاك بعبدٍ وأتاك بتسعين! ففهمت الكلام كما هو.

ذكر أنموذج للاعتناء بعلوم اللغة

ذكر أنموذج للاعتناء بعلوم اللغة ونظير هذا جرى لعدد كثير منهم، فـ الحسن بن زين القنامي رحمه الله الذي ألف توشيح اللامية، وسبب تأليفه لهذا الكتاب أنه خرج في رفقةٍ إلى بلاد بوتة، وكان أهلها يعتنون بعلم اللغة إذ ذاك وكانوا من المبرزين فيها من عهد قيام دولة (السوكوتو) أو قبلها، فلما أتى هو ورفقته هذه البلدة، سألوهم هل هم من طلاب العلم؟ فقالوا: نعم. فقالوا: فماذا تقرءون؟ قالوا: نقرأ الألفية، فسألوهم: ما وزن أرعوا؟ فلم يعرفوا وزنها، فقطع الحسن طريقه ورجع لدراسة الصرف، والتمكن فيه، حتى أضاف إلى اللامية قوله عند قول ابن مالك رحمه الله: وافعل لذا ألفٍ في الحشو رابعةٍ أو عارياً وكذاك بيخ اعتدل قال: والعيب واللون معناه به انعزل وعن مداه ارعوا كاحووا وخارجةٌ وارقدّ وازور عن معناته انفصل ومن ذلك ما حصل للعلامة البدوي رحمه الله عندما أتى قوم وهو في رفقتهم فسألوه عن أم آمنة بنت وهب فلم يعرفها، فقطع طريقه ورجع لطلب العلم، حتى نظم عمود النسب، وسماها فيه برة بنت عبد العزى، ولذلك فالحفاظ على اللغة العربية كان مسئوليةً مشتركة في أهل هذه البلاد، فكثير مما حصل من المناظرات والهجاء في هذه البلاد كان انتصاراً للغة العربية، ألا ترون أن التهاجي الذي حصل بين عدد كبير من الشعراء في هذه البلاد كان بسبب الانتصار للغة العربية فقط؟ ليس على أي أساس آخر، ومن ذلك ما حصل بين الشيخين المبرزين في اللغة الشيخ سيدي محمد بن شيخ سدية والشيخ محمد بن أم حمدي رحمهما الله فقد كان بسبب الانتصار للغة العربية. وكذلك ما حصل بين الشيخين المبرزين في اللغة العربية أبي مدين بن الشيخ أحمد دو والشيخ محمد بن أحمدي فقد كان أيضاً بسبب الانتصار للعربية، وكثير من التنافر الذي يحصل بين العلماء كان بسبب الانتصار لهذه اللغة.

ذكر نماذج لاعتناء نساء المغرب العربي بالعلوم

ذكر نماذج لاعتناء نساء المغرب العربي بالعلوم وكان للنساء كذلك المشاركة الواضحة في هذا الباب، فعندما قال محمد مولود بن أحمد رحمه الله: حنانك ذا الحنان لمن يروم شفاء حيث تطلع النجوم إلى أن يقول فيها: إذا ابتسمت بعيد النوم وهنا وقد خلفت مباسم من ينوم يلوح البرق ثم يبوح مسكٌ فحسبك ما تشم وما تشيم فقال: (ينوم)، قال له أحد العلماء المعاصرين له، وهو العلامة عبد الودود بن عبد الله إن (نام) مضارعها (ينام) فلم يجد شاهداً يشهد لقوله، لكنه اقتنع بأنه موافق للسليقة وأن ما قاله لابد أن يكون لغة بعض العرب، وكانت أخت زوجته مغتربة في أرضٍ بعيدة، فكانت ذات يومٍ تطالع كتاب معجم الشعراء الأدباء للمرزباني فقرأت فيه قول الشاعر: أكابد من تماضر برح همٍ وذو التهيام عزك أن ينومَ فإذا هو شاهدٌ في عين المسألة فأرسلت به راكباً حتى أتاهم به. وكذلك فإن ابنة هذا الرجل وهي سكينة رحمها الله، أتاها ضيوف في عام من الأعوام التي كانت تمر بأهل هذه البلاد من القحط والجدب، فقدمت لهم رسل نوقٍ لديها، فأنشد الضيف رفيقه قول ابن مالك رحمه الله في النعت: ونعتوا بجملة منكراً فأعطيت ما أعطيته خبرا وامنع هنا إيقاع ذات الطلب فالجملة الطلبية لا ينعت بها، وإذا نعت بها فإن ذلك على تقدير قولٍ مضمرٍ وشاهد ذلك قول الراجز: بتنا بحسان ومعزاه تئط من لبن لها وسمن وأقط حتى إذا جنَّ الظلام واختلط جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذيب قط فلم يذكر الشاهد وإنما ذكر قول ابن مالك: وامنع هنا إيقاع ذات الطلب ففهمت أنهم يقصدون الشاهد على هذه القاعدة، فقالت: كلا والله ما مسه ماءٌ ولكنه رسل نوقٍ ليس لها مرعى إلا ماء ضبة، فعرف الرجل أنها فهمت المسألة قبل أن يفهمها رفيقه. ونظير هذا ما حصل لزوجة العلامة محمد فال بن بابا بن أحمد بيبا رحمها الله، فإن رجلاً من الطلاب كتب لها بعد قدوم محمد فال من سفر كان سافره: لا يرفع المريد للأشياخ من حاجاته إلا الذي منها بطن ورفعه الظاهر نزر ومتى عاقب فعلاً فكثيراً ثبتا فأرسلت إليه بكحل وكان هذا جواب البيتين، لأنه هو يريد مسألة الكحل في ألفية ابن مالك وهي: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، وهذه المسألة هي التي يقول فيها ابن مالك في أفعال التفضيل: ورفعه الظاهر نزر ومتى عاقب فعلاً فكثيراً ثبتا كلن ترى في الناس من رفيق أولى به الفضل من الصديقِ ففهمت هذا بهذا اللغز، ونظير هذا كثير جداً، مما يقتضي منا المحافظة على مثل هذه القيم، وهذا التراث العريق الذي نحن بحاجة إليه، والأمة بحاجة كذلك إلى من يقوم بحفظ تراثها ونشره بين الناس. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

مسائل الإيمان

مسائل الإيمان من المسائل التي يتكلم فيها العلماء مسألة الإيمان، ومذهب السلف أنه قول واعتقاد وعمل، وأن العمل جزء من الإيمان، وقد خالف في العمل بعض السلف، وقد بين الشيخ مرتبة هذا الخلاف وما يترتب عليه.

تعريف الإيمان لغة واصطلاحا

تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً قال الناظم: [ذلك والإيمان كل قد شمل عقداً بقلب مع قول وعمل بنية في سنة وبالعمل زيادة ونقصاً المثل احتمل] قوله: (ذلك)، أي: اعرف ذلك، وهذا يسمى الاقتضاب، فبدأ الكلام على توحيد الله سبحانه وتعالى وهو الركن الأول من أركان الإيمان؛ لأن أركان الإيمان ستة هي: الإيمان بالله. والإيمان بملائكته. والإيمان بكتبه. والإيمان برسله. والإيمان باليوم الآخر. والإيمان بالقدر خيره وشره. وقد سبق الكلام على القدر عرضاً في ذكر صفات الله سبحانه وتعالى، وكل ما سوى ذلك فهو داخل في الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فلهذا اقتضب هنا فقال: (ذلك) ومعناه: اعرف ذلك، وهذا مشهور في لسان العرب وهو دليل على بلاغة صاحبه، ويأتي بلفظ (هذا) أو (ذلك) وقد كثر في القرآن، ومنه قول الله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، (ذلك) معناه: اعرف ذلك، أو: اعرفوا ذلك، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4]. وقد يكون بلفظ (هذا)؛ لأنه اسم إشارة معناه: اعرف هذا، وإذا قلت: (ذلك) فهو اسم إشارة للبعيد، معناه: اعرف ما سبق المشرف التعظيم؛ لأن اللام بعد (ذا) تأتي للبعد إذا كانت مع الكاف، وهذا البعد المقصود به التعظيم، وإذا كان بلفظ (هذا) بالإشارة للقرب فالمقصود به: هذا الذي سبق، وهذا هو الذي يعنينا هنا، ومنه قول أبي الطيب المتنبي: هذا وإن مقام القول ذا سعة فإن وجدت لساناً قائلاً فقل

اختلاف معنى الإيمان باختلاف حرف التعدية

اختلاف معنى الإيمان باختلاف حرف التعدية وبدأ في المسألة الأخرى وهي تحديد الإيمان وتعريفه: والإيمان في اللغة: مصدر آمن، تطلق معداة باللام ومعداة بالباء، فالمعداة باللام معناها التصديق فيقال: (آمن له) بمعنى: صدقه فيما يقول، ومنه قول الله تعالى في قصة إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، أي: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين. وترد أيضاً معداة باللام بمعنى التسليم، فيقال: (آمن له) بمعنى سلمه أو حفظ غيبه فلم يتكلم في عرضه ولم يلمه في غيبته، ومنه قول الله تعالى في سورة التوبة: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]، (يؤمن للمؤمنين) معناه: يأمنونه بظهر الغيب فلا يعتدي عليهم ويسلمهم. ولذلك تلاحظون أنه فرق بين التعدية بالباء والتعدية باللام، قال: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين). وأما قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، فإن اللام هنا ليست هي اللام التي كنا نذكرها في تعدية (آمن)، وليس المقصود بذلك أن لوطاً صدقه أو أنه سلمه بظهر الغيب، وإنما المقصود بذلك أن لوطاً آمن وكان ذلك له، أي: في ميزان حسنات إبراهيم، أو: اتباعاً له، فآمن اتباعاً له لوط، فمفعول آمن هنا محذوف معناه: فآمن بالله لوط له، أي لإبراهيم، والمعنى: اتباعاً له. وأما (آمن) المعداة بالباء فإنها تقتضي زيادة على التصديق وهو التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك، والذي يقتضي عملاً، ولهذا لا يحل أن تعدى (آمن) بالباء إلا على ما هو ركن من أركان الإيمان، فتقول: آمن فلان بالله أو آمن بالرسول أو آمن بالكتاب أو آمن باليوم الآخر أو آمن بالملائكة أو آمن بالقدر، لكن لا يحل أن تقول: آمن بفلان من الناس، بمعنى: صدقه، ولا أن تقول: آمن بالمذهب الفلاني؛ لأن هذا وإن كان تصديقاً لكنه لا يقتضي الجزم، لكن يجوز أن تقول: آمن للمذهب الفلاني، أو آمن للخبر الفلاني، أو آمن لفلان، بمعنى: صدقه، لكن تعديتها بالباء تقتضي التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، فلذلك تقصر على ما يجب الإيمان به مطلقاً.

معنى الإيمان في كلام الشرع

معنى الإيمان في كلام الشرع والإيمان جاء في الشرع على إطلاقين: الإطلاق الأول: على الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دين الإيمان ودين الإسلام، وحينئذٍ يترادف الإيمان والإسلام في التسمية، فهذا الدين اسمه الإسلام واسمه الإيمان أيضاً، فيدخل في ذلك شعبه كلها، وهي كما في الحديث: (الإيمان بضع وستون شعبة) وهذا لفظ البخاري، وفي صحيح مسلم: (بضع وسبعون شعبة)، وقد ذكر منها أن أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لا إله إلا الله. فالمقصود: أن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتقادات والأقوال والأعمال والأخلاق والقيم، داخل في مسمى الإيمان بإطلاقه العام، وهذا الإطلاق هو الذي تجدونه في بعض النصوص الشرعية التي لا يذكر فيها الإسلام معه، مثل حديث وفد عبد قيس، فإنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)، وعلمهم الإيمان بالله وحده، وهو أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وأن يقيموا الصلوات الخمس، وأن يؤدوا خمس المغنم، فهذا كله من الأعمال، وهو مسمى الإسلام أيضاً. أما الإطلاق الثاني للإيمان: فهو على جزء الاعتقاد من هذا الدين، أي: على الجانب العقدي من هذا الدين، وهو الذي يسمى إيماناً بالمعنى الخاص، وقد جاء ذلك في قول الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وجاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وجاء كذلك في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً وترك رجلاً، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان فإني والله لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلماً؟ فسكت، ثم غلبني ما أعرف منه فقلت: يا رسول الله، والله إني لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلماً؟ ثم سكت، ثم عدت فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثل مقالتي، ثم قال: يا سعد إني لأعطي أقواماً خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار). فهذا الحديث فيه تفريق بين الإيمان والإسلام، وكذلك في حديث جبريل السابق، وكذلك في آية سورة الحجرات، والمقصود بذلك أن الجانب العقدي من الإيمان يسمى إيماناً من باب تسمية الشيء باسم بعضه، مثل تسمية الإنسان الذي يُعتَق رقبة، والرقبة إنما هي جزؤه، ومثلما تقول: لدي خمسون رأساً من الغنم أو خمسون رأساً من الإبل، فهذا من تسمية الشيء باسم بعضه.

ذكر اختلاف السلف في مسمى الإيمان وأدلتهم

ذكر اختلاف السلف في مسمى الإيمان وأدلتهم ونظراً لاختلاف هذين المدلولين من ناحية العموم والخصوص كثر الخوض فيهما من لدن التابعين إلى زماننا هذا، فقد اختلف الناس في تحديد مسمى الإيمان من لدن عصر التابعين إلى وقتنا، فذهب جمهور التابعين وأتباعهم إلى أن الإيمان بالإطلاق الأول يدخل في مسماه كل الأعمال. وذهب حماد بن أبي سليمان وعدد معهم من أئمة التابعين من أهل العراق، وتبعهم على ذلك كثير من أتباع التابعين مثل أبي حنيفة وأتباعه؛ إلى أن المقصود به عمل القلب فقط. وهذا الخلاف، وإن كان قد اشتهر وانتشر وكثر الكلام فيه إلا أن الذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكرا أنه خلاف لفظي؛ لأن الجميع لا يختلفون في أن من صدق بقلبه ولم يتبع ذلك أي عمل أنه لا يتقبل منه، ولا يختلفون كذلك في أن من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان سيخرج من النار يوم القيامة، ولا يختلفون كذلك في أن هذه الأعمال شرطها الإيمان، فمن لم يكن مؤمناً بقلبه لا يتقبل الله منه أي عمل ولا ينفعه ذلك في شيء، فالخلاف إذاً خلاف لفظي. لكن بعض الناس توهم أن الذين قالوا بالإطلاق الأخص للإيمان يقصدون بذلك مذهب المرجئة، فالمرجئة قوم بالغوا في ردة الفعل على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، فكانوا يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهؤلاء لم يقصدوا هذا المعنى ولا أرادوه وإنما أرادوا تفسير النصوص الشرعية، وفسروا الإيمان بمعناه الخاص الذي تدل عليه آية الحجرات، ويدل عليه حديث جبريل، ويدل عليه حديث سعد بن أبي وقاص. والآخرون أخذوا بالجانب الآخر، أعني بالإطلاق الأول العام الذي يدل عليه عدد كبير من الأحاديث مثل حديث عبد القيس، ومثل حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، ومثل حديث: (دعه فإن الحياء من الإيمان)، ومثل حديث: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً)، ومثل حديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً)، وحديث: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)؛ كل هذا يقتضي أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان. ومع هذا فقد أخطأ بعض المتأخرين حين صنف أولئك الأئمة من التابعين وأتباعهم بأنهم مرجئة الفقهاء، وهذا الاسم خطأ في حد ذاته؛ لأن فيه جراءة على هؤلاء الأئمة من السلف الذين هم أبعد شيء عن الإرجاء، فلا ينبغي أن يوصفوا بشيء لم يقولوه، والذي قالوه إنما هو تفسير للنصوص باعتبار الاستدلال الذي ذكرناه، ويعتمدون في ذلك على نصوص صريحة صحيحة مثل آية الحجرات، وحديث سعد بن أبي وقاص، وحديث جبريل.

الكلام على زيادة الإيمان ونقصه

الكلام على زيادة الإيمان ونقصه وقد تفرع عن هذه المسألة مسائل منها: مسألة زيادة الإيمان ونقصه.

أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصه

أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصه ومسألة زيادة الإيمان ونقصه، قد اختلف فيها أيضاً على ثلاثة أقوال: فذهب جمهور السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، واستدلوا على ذلك بعدد من الآيات التي فيها ذكر زيادة الإيمان مثل قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]، وكذلك قول الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وكذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فهذا يقتضي زيادة الإيمان، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن الإيمان يخلق ويجد في القلوب. المذهب الثاني: ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة الذين ذكرناهم من أهل العراق مثل: حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما، حيث قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمقصود عندهم القناعة القلبية؛ لأن من لم يصل إلى درجة اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك لا يسمى مؤمناً؛ لأننا عرفنا الإيمان في القلب بأنه التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، فعلى هذا من لم يكتمل هذا الجزم في يقينه وفي قلبه لم يؤمن بعد؛ لأن من شك أقل شك فهو غير مؤمن. المذهب الثالث: ما روي عن مالك رحمه الله رواية لا أدري مدى صحتها، ولكنها مذكورة في بعض كتب العقائد، أنه قال مرة: إن الإيمان يزيد ولكنه لا ينقص، أو امتنع عن القول بنقصه، واستدل على ذلك بحرفية النصوص؛ لأن النصوص جاء فيها ذكر الزيادة ولم يرد في نص واحد منها ذكر النقص، فقال: أقف عند النص في مسمى الإيمان ولا أتعداه. وكان رحمه الله يعجبه التقيد بالنصوص في المجال العقدي، لما ذكرناه من أن قاعدة العقائد التسليم بالنص وعدم مجاوزته، ولم يرد في أي نص لا من كتاب ولا من سنة ذكر النقص، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان يجد ويخلق)، فقوله: (يخلق) يدل على النقص. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن،)، ونحو ذلك؛ فهذا لا يقتضي نقصه فقط بل يقتضي مفارقته لصاحبه، وقد اختلف في المقصود به فقيل: الوازع الناشئ عن الإيمان الذي يمنع الإنسان من اقتراف المعصية سماه النبي صلى الله عليه وسلم هنا إيماناً، وهذا يفارق صاحبه وقت المعصية قطعاً. وقالت طائفة أخرى: بل المقصود نور الإيمان؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فنور الإيمان يفارق الإنسان وقت مقارفته للمعصية، فسمي ذلك مفارقة للإيمان كله. وقيل: إن النفي مجازي لا حقيقي؛ لأن المقصود أن هذا الإنسان لو كان يؤمن بأن الله ينظر إليه وهو الذي حرم عليه هذا لما فعله واقترفه؛ لأنه لو نهاه ذو سطوة وقوة عن أمر وكان قائماً عليه بالسيف لم يمكن ليفعله بين يديه وهو يخافه؛ لكن هذا من نقص العقل لا من نقص القناعة؛ لأنه قد يكون أحمق، فيقع فيما نهي عنه وهو يعلم أن العقوبة ستحل به، فيكون هذا نقصاً في عقله لا نقصاً في قناعته. وعموماً فهذه الأقوال الثلاثة ينبغي أن تكون أيضاً على الخلاف السابق، وأن يكون المقصود أن الإيمان بمعنى فعل القلب، ولا خلاف بأنه لا يزيد ولا ينقص على هذا؛ لأن من كان شاكاً لم يتم جزمه بعد لا يعتبر مؤمناً، وإذا قصد به الإطلاق العام فلا شك أنه يزيد وينقص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وهذا يقتضي كمال الإيمان، وقد ذكر أن له ذروة سنام، وأن له شعباً من استكملها استكمل الإيمان. فإذاًَ: الخلاف لا ينبغي أن يعود خلافاً جوهرياً أيضاً.

اختلاف القائلين بزيادة الإيمان في معنى ذلك

اختلاف القائلين بزيادة الإيمان في معنى ذلك لكن المشكلة أن القائلين بزيادة الإيمان اختلفوا في المقصود بزيادة الإيمان التي تتعلق بالزيادة والنقص: فقالت طائفة: الزيادة والنقص إنما يقعان في نور القلب تبعاً للعمل، فمن كثرت طاعاته ازداد نور الإيمان في قلبه، ومن كثرت معاصيه انتقص نور الإيمان في قلبه، وعلى هذا فالزيادة والنقص على قدر زيادة العمل ونقصه، فالعمل الصالح يزيد الإيمان بزيادته وينقص بنقصه، والعمل الفاسد يزيد الإيمان بنقصه وينقص بزيادته. ودليل هذا أنه ذكرت معه الأعمال، كما في حديث شعب الإيمان، وكحديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً)، (ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً)؛ فدل هذا على أن زيادة الإيمان تتعلق بالعمل نفسه. القول الثاني: أن المقصود بزيادة الإيمان زيادة أجزاء ما يؤمن به الإنسان، فالإنسان في بداية معرفته بالله لا يعرف كثيراً من التفاصيل فيؤمن بأشياء قليلة، وكلما ازدادت معرفته بالله ازداد إيمانه، بمعنى: ازدادت أجزاء ما يؤمن به على ما كانت قبل ذلك، ولذلك فإن قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]، لأنهم كانوا يؤمنون بالسور التي سبقت، وقد زاد ذلك بهذه السورة فآمنوا بها أيضاً، فازداد عدد ما يؤمنون به، وعلى هذا فإنها تزيد جزئيات ما يؤمنون به. وأهل الإيمان كلما تعلموا شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ازداد إيمانهم بذلك؛ لأنهم يؤمنون بتصديقه بهذه المسألة بعينها، كما قال أبو بكر: (إن كان قالها فقد صدق)، ولهذا إذا سمعت أي خبر يتعلق باليوم الآخر وعرفت صحته فقد ازداد إيمانك بتلك الجزئية؛ لأنك كنت تؤمن من قبل لكن كان إيمانك بالتفصيل فيما يتعلق باليوم الآخر يتعلق بما تعرفه فقط ولا يتعلق بما تجهل إلا إجمالاً، وقد عرفت بعض تلك الجزئيات فزاد إيمانك؛ لأنه زادت أفراد ما تؤمن به. القول الثالث: أن المقصود بزيادة الإيمان قوته وتمكنه من القلب، وسمي ذلك زيادة مجازاً، والإيمان هو الإيمان، لكن بعض الناس يكون هذا الإيمان راسخاً فيه يباشر بشاشة قلبه ويتأثر به تأثراً بالغاً ويبقى معه دائماً، فيتصف بصفات الإيمان ومقتضياته من الأمانة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، ومن تمام خلقه لقوله: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) وغير ذلك، فيكون الإيمان صفة راسخة في النفس. والمقصود بنقصه أن يكون هذا الإيمان لم يرسخ بعد في النفس، فلم يؤثر تأثيراً بالغاً، فهو صبغة الله، ولا شك أن صبغة البياض مثلاً يتفاوت فيها المصبوغ، فمن المصبوغات ما يثبت فيه اللون ولا يسقط عنه ولا يغسله الماء، ومن المصبوغات ما يسقط لونه الماء أو ينقصه، فكذلك الناس يتفاوتون في الإيمان بحسب الصبغة، ولهذا عرف الله تعالى هذا الدين بأنه الصبغة بقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]، بعد ذكره للإيمان به. وهذه الأقوال الثلاثة يمكن الجمع بينها جميعاً فيكون كل هذا مقصوداً بزيادة الإيمان ونقصه.

اشتراط الإخلاص في الإيمان

اشتراط الإخلاص في الإيمان ذكر الشيخ أطراف هذه المسألة فقال: (والإيمان كله)، والكل يشمل جزئيات متعددة، وهذا يدل على أنه ذو جزئيات سواء تعلق الأمر بفعل الجوارح لتفاوت الناس به، كما قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، أو تعلق الأمر بعمل القلب؛ لأن الناس متفاوتون فيه بحسب ما يعلمونه تفصيلاً، وبحسب تمكن الإيمان منهم ورسوخه في نفوسهم، فلهذا قال (كل)، وكل (كلٍّ) لابد أن تعلم جزئياته، فلذلك ذكر الجزئيات بقوله: (قد شمل عقداً)، ومعناه: اعتقاداً بقلب، أي: بمكان الاعتقاد من النفس. قوله: (مع قول)، وهو النطق بالشهادتين وبذكر الله سبحانه وتعالى، والإقرار بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به. قوله: (وعمل) وهو أعمال الجوارح الأخرى، مثل أركان الإسلام الخمسة. قوله: (بنية)، معناه: لا يتم هذا الإيمان إلا بنية، أي: بقصد لذلك، فمن أقر باعتقاد قلبه مع قول ومع عمل لكنه لم ينو بذلك التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وتصديق ما أرسل به رسله، فإنه لن ينفعه إيمانه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، والإيمان من الأعمال، وهذا محل بحث: فقد ذكر بعض أهل العلم أن عمل القلب لا يحتاج إلى النية وإلا لاقتضى ذلك دوراً؛ لأن النية نفسها عمل قلب، ولا يمكن أن تكون النية محتاجة إلى نية، وإلا لاحتاجت تلك النية إلى نية ولاحتاجت تلك الأخرى إلى نية فيقع التسلسل، وهذا ممنوع. لكن يجاب عن هذا بأن المقصود بنية الإيمان الإخلاص، والإخلاص شرط لكل عمل، فإذاً الإخلاص فيه لله هو المقصود بالنية هنا، وهذا معنى قوله: (بنية)، أي: بإخلاص.

اشتراط المتابعة في أعمال الإيمان

اشتراط المتابعة في أعمال الإيمان قوله: (في سنة)، معناه: بموافقة لما شرع الله؛ لأن الإيمان عمل صالح والعمل الصالح له ركنان: أحدهما: الإخلاص. والثاني: المتابعة والموافقة لشرع الله. والمقصود بالسنة طريقة الأنبياء، والسنة في اللغة تطلق على الصبيب من كل شيء ومنه قول غيلان ذي الرمة: تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب وتطلق على الطريق في الجبل فيقال: في هذا الجبل سنة تصل إلى كذا، معناه: طريق. وتطلق على الطريقة المعنوية في الخير كانت أو في الشر، ومن إطلاقها على الخير قول الله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء:77]، ومن إطلاقها على الشر {سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]، وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران:137]، أي: المكذبين. وأما في الاصطلاح: فيختلف إطلاق السنة باختلاف العلم الذي تطلق فيه، فهي عند المحدثين ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو وصف خلقي أو خلقي سواءً صلح ذلك دليلاً لحكم شرعي أو لم يصلح، فهي موافقة للحديث على هذا، وقيل: الحديث أخص منها؛ لأن الحديث في الأصل يطلق على الأقوال دون الأفعال والتقريرات، والسنة تشمل كل ذلك. وهي عند الفقهاء: صفة الفعل الشرعي المأمور به أمراً غير جازم، فالفعل الشرعي المأمور به إما أن يؤمر به أمراً جازماً فهو الواجب، وصفته الوجوب، وإما أن يؤمر به أمراً غير جازم فهذا يسمى سنة، وفي ذلك تفصيلات تذكر في الأصول، وهي التفريق بين السنة والندب والتطوع والمستحب. وأما في علم العقائد فالمقصود بالسنة: ما يخالف البدعة، ولهذا جاءت مخالفة للبدعة ومعارضة لها في مثل قول حسان رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنة للناس تتبع يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا سجية تلك منهم غير محدثة إن الخلائق فاعلم شرها البدع ولذلك كان مالك رحمه الله يقول: فخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع والسنة هنا المقصود بها ما يخالف البدعة، فالشيخ هنا ينظم رحمه الله كلام ابن أبي زيد في الرسالة، فإنه ذكر أن الإيمان لا يتم إلا باعتقاد، ولا يتم الاعتقاد إلا بقول، ولا يتم القول إلا بعمل، ولا ينفع اعتقاد وقول وعمل إلا بنية، ولا ينفع الاعتقاد والقول والعمل بالنية إلا بمتابعة السنة، والمقصود بذلك السنة عند أهل العقائد لا السنة عند من سواهم. قوله: (وبالعمل زيادة ونقصاً المثل احتمل)، يقول: إن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وقوله: (المثل احتمل)، أي: الإيمان يحتمل الزيادة والنقص، فبزيادة العمل يزداد الإيمان وبنقصه ينقص، وهذا اختيار من الشيخ للمذهب الأوسط من المذاهب الثلاثة التي ذكرناها في الكلام على زيادة الإيمان ونقصه.

الأسئلة

الأسئلة

تفاوت الناس في الإيمان بقدر ما يقوم بقلوبهم

تفاوت الناس في الإيمان بقدر ما يقوم بقلوبهم Q ما معنى قول حنظلة: (نافق حنظلة)، وما علاقته بالإيمان وزيادته؟ A بالنسبة لحديث حنظلة رضي الله عنه أنه خرج يبكي فلقيه أبو بكر فسأله: (ما يبكيك؟ فقال: نافق حنظلة. فقال: ولم؟ قال: إنا إذا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكرنا الجنة والنار، فإذا خرجنا من عنده وعاشرنا أهلنا لم نستشعر ذلك)، الحديث في صحيح مسلم، وهذا الحديث وإن كان يشعر بأن مقام التذكر والتأثر يتفاوت إلا أنه هنا يتعلق بالإحسان لا بالإيمان من ناحية المصطلح العقائدي. فقد ذكرناه أن الدين ثلاثة عناصر: الإيمان. والإسلام. والإحسان. فحديث حنظلة هنا يتعلق بالإحسان، لأنه فيما يتعلق بإيثار الآخرة على الأولى والانشغال بها، وتعلق القلب بالله وبما عنده، والخوف منه ورجائه، فهو فيما يتعلق بالرجاء والخوف والاتصال بالله، لا فيما يتعلق بالإيمان من حيث الجانب العقدي. كذلك ما ورد في الآثار من نسبة زيادة الإيمان لبعض الناس مع أن أعمالهم ليست أكثر من أعمال من سواهم، لكن إخلاصهم وأعمالهم الباطنة قد تكون أكثر، والعمل هنا يشمل الجميع. وأيضاً: فقد تطلق زيادة الإيمان على الإطلاق الأول الذي لا خلاف فيه، وهو إطلاق الإيمان على كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المقصود بذلك الاجتباء. فإن الله سبحانه وتعالى قسم أهل الإيمان إلى قسمين: القسم الأول: الذين اجتباهم، وهؤلاء ملأ الله قلوبهم من الإيمان دون أن ينشغلوا ودون أن يتعبوا أنفسهم بالمجاهدة. والقسم الثاني: الذين هداهم، وهؤلاء هم الذين أتعبوا أنفسهم بالمجاهدة وبمحاولة زيادة القناعة وزيادة الطمأنينة في القلب. وذكر الله سبحانه وتعالى القسمين في قوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]، فالاجتباء لم يشرطه إلا بمشيئته، والهداية اشترطها بالإنابة، والإنابة من عمل المكلف وفعله، وبهذا يتبين الفرق بين الأمرين. وهذا المعنى قد أخذه الصوفية حين فرقوا بين الجانبين، فذكروا أن الواصلين لله سبحانه وتعالى بمعرفة الله ينقسمون إلى قسمين: أهل اجتباء، وأهل هداية. فأهل الاجتباء سموهم بالمجذوبين، وأهل الهداية سموهم بالسالكين، ولذلك يقولون: المجذوب لا يُسلِّك، والسالك يمكن أن يُسلِّك. المقصود هنا: أن من ملأ الله قلبه بقناعة الإيمان دون أن يتعب نفسه بالعمل ودون أن يتعب نفسه بالتعلم والمجاهدة لا يستطيع أن يربي غيره؛ لأنه ما عرف المفاوز ولا عرف كثيراً من العلل والمشكلات التي تمر بها النفوس. أما السالك الذي تعب بالمجاهدة والصبر، فصبر عن معصية الله وصبر على طاعته، وعانى مزالق النفوس وعرف أوقات الضعف وأوقات الإقبال على الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يستطيع أن يُسلِّك، بمعنى: يستطيع أن يربي. وهذا الكلام وإن كان في الأصل مصطلحاً من مصطلحاتهم لكنه مقبول شرعاً؛ لأنك تعرف الآن أن بعض الناس أذكياء بفطرتهم، يمكن أن يقرأ أحدهم الكتاب فيستوعبه بالمرة الواحدة لكنه لا يستطيع شرحه، أما من درس الكتاب وشرح له وفهمه، فإنه يستطيع أن يشرحه وأن يبين كثيراً من الأمور التي لا يمكن أن يعرفها الأول بمجرد القريحة. فإذاً: هذا فرق بين الأمرين، فهو مثل الفرق بين طريقتي الجذب والسلوك. وعلى هذا فأولئك الإخوان الذين جاءت فيهم بعض القصص والحكايات وبعض الآثار الصحيحة، واتصفوا بزيادة منسوب الإيمان ومستواه، لعلهم من الذين اجتباهم الله ولم يتعبوا أنفسهم بالمجاهدة والعمل، ولهذا جاء في حديث أبي موسى الأشعري في صحيح البخاري: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أسلم وأقاتل، أم أقاتل ثم أسلم؟ فقال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً)، فهذا أصبح من أعلى الصحابة منزلة؛ لأنه أصبح من الشهداء مع النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا يقال فيما يتعلق بالذين ماتوا قبل أن ينزل كثير من القرآن، فإن خديجة بنت خويلد توفيت ولم تصل الصلوات المفروضة، ولم تصم؛ لأن رمضان ما فرض بعد، ولم تحج حجاً واجباً؛ لأن الحج ما فرض إلا بعد موتها، ولم تزك؛ لأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، ومع ذلك فهي من أكمل الناس إيماناً، وكثير من التفصيلات لم تتعلمها قط. وكذلك صاحب عبد الله بن عمرو الذي قال له: (إني لاحيت أبي فأريد المبيت عندك إلخ)، فليس عنده كثير صلاة ولا كثير صيام ولا ذكر، لكنه كان لا يجد في قلبه ضغينة على مسلم، فبهذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

معنى أن المؤمن لابد أن يخرج من النار

معنى أن المؤمن لابد أن يخرج من النار Q يذكر أهل العلم أن النجاة الأخروية مشروطة بالإيمان، فهل ينفع ذلك بدون عمل؟ A بالنسبة لما يذكره أهل العلم من أن النجاة الأخروية مشروطة بالإيمان، فهذا لا خلاف فيه بين الناس؛ لأن من لم يؤمن فإنه لو عمل أمثال الجبال من الأعمال الصالحة فإنها لا تنفعه، لقول الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، ولقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]. فالمقصود أن من كان مؤمناً فإنه سيخرج من النار إذا مكث فيها قدر ما ينقيه؛ لأن الله سيقول: (وأخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان). وأما من كان كافراً بالله وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه إلى النار قطعاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي، إلا كبه الله على وجهه في النار)، فمن مات على الكفر سيدخل النار خالداً مخلداً لا يخرج منها أبداً، ومن مات وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان فصاعداً فإنه لابد أن يخرج من النار حتى لو دخلها، وهذا المقصود بأن الإيمان شرط النجاة. وكذلك حديث القبضة الربانية التي يقبضها الله سبحانه وتعالى من أهل النار فيدخلها الجنة، فإنه يحمل على من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ لأن من ليس كذلك لا يدخل الجنة، ويمكن أن يحمل على الذين لم يكلفوا أصلاً، ولعلهم ممن دخل بسوق آدم، لأن آدم سيخرج بعث النار بأمر الله تعالى له من أرض المحشر، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فتكون القبضة من هؤلاء، ولذلك جاء في حديث الشفاعة: (انتهت شفاعة الشافعين وبقيت شفاعة أرحم الراحمين)، فالله سبحانه وتعالى يشفع لمن لم يشفع له ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فهذه شفاعة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى عندما تنقضي الشفاعات الأخرى.

التوفيق بين غضب الله الشديد في المحشر وادخاره للرحمة إلى يوم القيامة

التوفيق بين غضب الله الشديد في المحشر وادخاره للرحمة إلى يوم القيامة Q جاء في حديث الشفاعة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)، أين هو من رحمته حيث ادخر تسعاً وتسعين رحمة، وأنزل في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها إلخ؟ A تلك الرحمات التسع والتسعين مدخرة لعباده المؤمنين في الجنة فقط، وأما أهل المحشر فإن رحمتهم إنما هي من رحمة أهل الدنيا؛ لأنهم يرحمون بمحمد صلى الله عليه وسلم بشفاعته، وهو رحمة مهداة إلى أهل الدنيا، فهي من الرحمة الواحدة.

فتور المؤمن في مقامات اليقين

فتور المؤمن في مقامات اليقين Q الخوف والإشفاق والخشية من مراتب الإيمان، والإنسان قد تضعف عنده هذه الأمور أحياناً، فما السبب، وهل يكون ذلك من ضعف الإيمان؟ A بالنسبة للإشفاق والخوف والخشية كلها مراتب متقاربة من مراتب الإحسان، وكلها من مقامات اليقين ومن أقسام الإحسان، وليست من مراتب الإيمان. وبالنسبة للفتور الذي يصاب به أهل الإيمان في بعض الأحيان فإنه ينشأ عن أمور متعددة، منها: أولاً: المطاعم والمشارب، فهذه كثيراً ما تؤثر في إيمان صاحبها، فكم من شربة يشربها الإنسان أو لقمة يلتقمها تعطله عن طاعة عظيمة، وقد تكون هي مباحة في حد ذاتها لكنها غير مباركة، لم يبارك الله فيها، فتقعد بصاحبها عن بعض الأعمال. ولذلك فالبركة شيء في المطاعم والمشارب نفسها، فمثل ما نقدر نحن اليوم الفيتامينات والبروتينات في التغذية فكذلك البركات مثلها تماماً، لكننا لا نستطيع قياسها ولا نستطيع اكتشافها مثلما نكتشف البروتينات والفيتامينات. ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في موانع استجابة الدعاء الأكل من الحرام، قال: (إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟). كذلك من أسباب هذا الفتور الاندفاع الشديد؛ لأنه يقتضي من الإنسان حصول المشقة في بدنه فتكون نفسه قد سبقت بدنه، فتبذل نفسه ما لا يستطيع البدن تحمله فتخونه قواه، وهذا ما نبه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) وفي قوله: (فأوغلوا فيه برفق). وكذلك أخرج البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر، قال: حدثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدينُ إلا غلبه) وفي رواية: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا قاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). السبب الثالث من أسباب هذا الفتور: استعجال النتائج: فكثير من الناس يعلق آمالاً بحصول نتائج معينة، وهذه النتائج ليست بنات الأسباب، فالنتائج من قدر الله والأسباب من قدر الله، لكن لا يحل التوكل على الأسباب والاعتماد عليها، بل هو شرك، ولا يحل تركها، بل هو معصية، فعلى الإنسان أن يباشر الأسباب وهو يعلم أن النتائج إلى الله إن شاء أداها وإن شاء لم يؤدها، وعلى هذا فإن من تعلق قلبه بتلك النتائج كثيراً ما يمتحنه الله بتأخرها. وفي القاعدة الفقهية المعروفة: من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فكثيراً ما يعاقب بحرمان ذلك، ومن هنا يصاب بإحباط فيقتضي ذلك فتوراً منه. ومن أسباب الفتور: عدم وجود المنافسة، فالنفوس مبنية على الملل، وإذا شعر الإنسان بالمنافسة ازداد تضحية، فإذا لم يشعر بالمنافسة فإنه يكسل، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وكانت منافسة الصحابة فيما بينهم للتضحية في سبيل الله والبذل.

أقسام رضوان الله ومن يستحقه

أقسام رضوان الله ومن يستحقه Q ورد في حق أهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وفي حق عثمان: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، فما حكم الذنوب التي يفعلونها بعد ذلك؟ A لا شك أن بعض الأعمال قد يرتب الله سبحانه وتعالى عليها رضوانه الأكبر، فإذا رضي عن قوم رضاه الأكبر الذي لا خطر بعده فإنه لا يضرهم ما فعلوا، وقد اختلف العلماء في معنى ذلك: فقالت طائفة منهم: يفعلون الذنب وهو مغفور، فتسبق المغفرة الذنب أصلاً، فنحن الآن قد يغفر الله لنا إذا تبنا واستغفرنا، وأولئك ذنوبهم سبقتها المغفرة، فهم يفعلون الذنب وهو مغفور أصلاً. وقالت طائفة أخرى: بل يفعلونه ذنباً مبغوضاً إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يتوب الله عليهم وقد تعهد لهم بذلك فتوبته عليهم تأتي بعد وقوعهم في الذنب. فمن الذين حل عليهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، الذين شهدوا معركة بدر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وكذلك الذين بايعوا تحت الشجرة، فأنزل الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح:18]، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة). وفي حديث جابر في صحيح مسلم أنه قال لهم حين بايعوه تحت الشجرة: (أنتم أفضل أهل الأرض)، وفي رواية: (أنتم خير أهل الأرض). وكذلك في حديث عثمان بن عفان: (لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، وذلك حين جهز جيش العسرة واشترى بئر رومة فجعل دلوه فيه كدلاء المسلمين، ونحو ذلك من الأعمال. لكن هذا لا يمكن أن يكون نوعاً من العمل يقاس عليه فمن فعله أثيب هذا الثواب، وإنما يعرف هذا بالوحي: هل حل رضوان الله الأكبر وعلى فلان من الناس أو لم يحل. فقد عرفنا نحن بالوحي أن رضوان الله الأكبر حل على كل من حضر معركة بدر وكل من بايع تحت الشجرة، فهم أقوام بأعيانهم، أخبر الله عنهم رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يمكن أن نقول: الآن من جهز ثلاثة آلاف مجاهد مثلما فعل عثمان حلَّ عليه رضوان الله قياساً على عثمان، بل لا يعلم من تقبل منه، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. فإن قيل: يمكن أن يحل رضوان الله الأكبر يقع على بعض الناس اليوم؟ فالجواب: قال جل وعلا: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، نسأل الله أن يحل علينا رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، ونحن لا نمنعه أبداً لكننا لا نطلع عليه؛ لأن الوحي قد انقطع، وهو لا يعلم إلا عن طريق الوحي، لكن نسأل الله أن نكون ممن حل عليه رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده. والرضوان ينقسم إلى قسمين: رضوان أصغر، ورضوان أكبر. فالرضوان الأصغر: هو المتعلق بذنب بعينه، كمن أسلم بعد الكفر، أو تاب من ذنب معين فتاب الله عليه، فهذا رضوان أصغر، يمكن أن يذنب الإنسان بعده ويكتب عليه ذلك الذنب. والرضوان الأكبر: هو الذي يغفر ما تقدم من الذنب وما تأخر، ومما يدخل في الرضوان الأكبر ما أخرجه البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد يذنب ثم يقول: يا رب أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، ويقول الله: قد فعلت، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، فيقول الله: قد فعلت، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، لا يضر عبدي ما فعل بعدها أبداً)، فهذا يحل عليه رضوان الله؛ لكننا لا نعرف هذا بعينه، ولا نعرف أن الله أجاب أحداً منا بهذا إلا عن طريق الوحي، والوحي قد انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم. لكن هذا من الرضوان الأكبر، لأنه في المرة الأولى قال: (قد فعلت)، وهذا رضوان أصغر، والمرة الثانية أيضاً رضوان أصغر، والمرة الثالثة رضوان أكبر.

حسن الخلق وكمال الإيمان

حسن الخلق وكمال الإيمان Q ما المقصود بحسن الخلق في حديث: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)؟ A بالنسبة لحسن الخلق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا) المقصود به ما يكون من حسن التعامل مع الله ومع الناس، فهو يشمل ما يقتضي من الإنسان الإحسان عموماً الإحسان في أدبه مع الله، والإحسان في معاملته لوالديه والإحسان في معاملة أهله ولده، والإحسان في معاملة جيرانه، والإحسان في معاملة عامة المسلمين، والإحسان في معاملة سائر الناس. إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما روي عنه من حديث أبي ذر رضي الله عنهما: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، وهذه هي الرحمة، والله كتبها على نفسه فقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]. ولذلك يقول الحكيم: ارحم بني جميع الخلق كلهم وانظر إليهم بعين الرفق والشفقه وقّر كبيرهم وارحم صغيرهم وراع في كل خلق حق من خلقه فهذا الخلق هو ركن ركين من أركان هذا الدين، وهو أساس القيم التي جاء بها هذا الدين وفرضها وشرعها، ولذلك من أراد أن يتعامل مع هذا الدين في برود وجفاف ولا يستعمل جانبه العاطفي فيه ولا يهتم به، لا يمكن أن يكون من أكمل المؤمنين إيماناً أبداً، لأنه يهمل هذا الجانب فتقع منه مجازفات وتنطع وتشدد على الناس في غير موضعه. وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج أن رجلاً قال لـ عطاء بن أبي رباح: (يا عطاء! إنك يجتمع في مجلسك الناس -يقصد الفرق الإسلامية- وإني أكلمهم فاشتد عليهم ولا أراك تفعل ذلك، فقال: إني سمعت قول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83])، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني.

من خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم

من خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم لا منة علينا لأحد -بعد الله- مثل ما لهذا النبي الكريم، إذ هدانا الله به إلى الصراط المستقيم، ووقانا من حر نار الجحيم، وقد خصه الله بخصائص عظيمة، ومناقب كبيرة، منها أنه صاحب المقام المحمود الذي يحمده عليه جميع الخلائق حتى الأنبياء.

الشفاعة في الآخرة

الشفاعة في الآخرة قال الشيخ: كذا من الذي اصطفي به الشفاعة لأهل الموقف قد اصطفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف بعدة أمور عمن سواه، منها الشفاعة العظمى، وقد جاء فيها عدد من الأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أوتيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي)، وفي الحديث الآخر: (وأوتيت ستاً لم يعطهن نبي قبلي)، فذكر منهن: أنه كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث إلى الناس عامة. وأنه جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل. وأنه أحلت له الغنائم ولم تكن مباحة لمن سبقه. ومنها الحوض المشهود الذي يرده الناس، فهو مختص به صلى الله عليه وسلم. ومنها الشفاعة الكبرى، فهي من خصائصه صلى الله عليه وسلم. فهذه بعض الميزات التي اختص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أعظمها الشفاعة. قال: (كذا) معناه: مثل ما سبق من اختصاصه بعموم الرسالة المترتب على أن معجزته الوحي الذي أوحاه الله إليه؛ كذلك مما (اصطفي به) أي: شرف به على غيره من الرسل؛ (الشفاعة)، والشفاعة مصدر شفع يشفع إذا طلب الإذن أو الصفح عن غيره، أو قضاء حاجة، فهذا هو الذي يسمى شفاعة. والشفاعة تزاد بها منزلة صاحبها؛ لأنها وجاهة له ومنزلة، ويزاد بها أجره أيضاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)، وقال: (إني لأرجئ الأمر وأنا أريد أن أفعله رجاء أن يشفع فيه أحدكم)، فهذا مما يزيد منزلة الشخص. والشفاعة عند الله سبحانه وتعالى يشترط لها -بالإضافة إلى وجاهة الشافع- الرضا عن المشفوع له، فمن ليس مرضياً عند الله لا يمكن أن يشفع له أحد، لذلك قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، وكما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فلا يشفع عنده إلا لمن أذن في الشفاعة له. والشفاعات ثمانية أقسام اختص الله رسوله صلى الله عليه وسلم بثلاث منها هي: 1 - الشفاعة العظمى. 2 - والشفاعة الصغرى. 3 - والشفاعة الوسطى. وهذه الثلاث من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة العظمى

الشفاعة العظمى الشفاعة العظمى هي: الشفاعة في أهل المحشر جميعاً بعد أن يطول بهم الموقف، وهذه الشفاعة صح بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد من الأحاديث، منها قوله: (إن الناس إذا جمعوا في الساهرة يلجمهم العرق إلجاماً، وتدنو الشمس حتى تكون كالميل، ويطول بهم الموقف، فيذهبون إلى العلماء فيقولون: كنا نرجع إليكم في أمورنا في الدنيا، فيقولون: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء، فيذهبون إلى آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله وأكلت من الشجرة، ولكن اذهبوا إلى نوح. فيأتونه فيقولون: يا نوح! أنت أبو البشر بعد آدم فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار -وفي رواية أنهم يقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض- فيقول: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني سألت الله ما لم يأذن لي به, ولكن اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم! قد اصطفاك الله لخلته، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى. فيأتونه فيقولون: يا موسى! قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم يؤذن لي بقتلها، ولكن اذهبوا إلى عيسى. فيأتونه فيقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله -لا يجد شيئاً يذكره إلا هذا- ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيأتونه فيقولون: يا محمد! أنت خاتم الرسل، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم: أنا لها، فيخر ساجداً تحت العرش، ويلهمه الله ثناء عليه لم يلهمه أحداً قبله، فيناديه: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط. فيشفع للناس، فيخرجون من هول الموقف). وهذه هي الشفاعة الكبرى التي تشمل آدم ومن دونه، فكل الخلائق يدخلون فيها.

الشفاعة الصغرى

الشفاعة الصغرى الشفاعة الثانية: الشفاعة الصغرى، وهي أخص الشفاعة، وهي الشفاعة لرجل من أهل النار قد أوجب، فيشفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخفيف العذاب عنه، فيقف على ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، وفي رواية (تجعل جمرتان تحت أخمصيه يغلي منهما دماغه)، والراجح أنه أبو طالب، لا يمسه شيء من عذاب النار إلا جمرتان تحت أخمصيه يغلي منهما دماغه، وهذا بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. ولا تحل الشفاعة لأي كافر سواه، وهذه من خصائصه لأن الله قال لإبراهيم عليه السلام: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]، وأخبرنا أنه جعل لنا أسوة حسنة في إبراهيم إلا قول إبراهيم لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4]، هذا ليس لنا أسوة فيه.

الشفاعة الوسطى

الشفاعة الوسطى الشفاعة الثالثة: الشفاعة الوسطى: وهي الشفاعة في دخول الجنة، وهي أيضاً من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أول من يحرك حلقة الباب، فيشفع لأهل الجنة في دخول الجنة بعد مجاوزة الصراط. فهذه ثلاث شفاعات مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر أنواع الشفاعة الأخرى

ذكر أنواع الشفاعة الأخرى بعد هذه الشفاعات تأتي شفاعة مختصة برب العالمين، وهي أنه إذا انتهت شفاعة الشافعين، ومكث أهل النار فيها ما مكثوا، فإن الله تعالى يقول: انتهت شفاعات الشافعين، وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فيؤمر بأقوام قد اسودوا وامتحشوا فيخرجون من النار، وهؤلاء هم الذين قالوا: لا إله إلا الله، ثم الذين في قلوبهم مثقال ذرة من إيمان، أو الذين في قلوبهم مثقال خردلة من إيمان إلى آخره، وهؤلاء يتفاوتون بحسب ذلك، فأول من يأمر الله بإخراجهم من النار بعد نهاية شفاعة الشافعين من قال: لا إله إلا الله، ثم بعد ذلك من كان في قلبه شيء من إيمان، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ثم مثقال ذرة من إيمان، وهكذا. وهذه الشفاعات ليست التي فيها الحثيات، بل هؤلاء يخرجون من النار بشفاعة أرحم الراحمين. ثم بعد هذه تأتي الشفاعات الأخرى ومنها: الشفاعة الخامسة: الشفاعة في إخراج المذنبين من الموحدين من النار، فإن أهل التوحيد من كل الأمم يدخلون النار بمعصيتهم، ويخرجون منها بإيمانهم، من شاء الله له منهم ذلك، ومن شاء الله عفا عنه ولم يعذبه أصلاً، ومن شاء عذبه في البرزخ عذاب القبر ويذهب عنه به عذاب النار؛ لأن عذاب القبر من مكفرات الذنوب، ومن شاء عذبه بناره لكنه لا يخلد فيها، فمن كان من أهل الإيمان لا يخلد في النار، وهؤلاء يخرجون منها بالشفاعات، شفاعة الرسل والأنبياء والصالحين والملائكة، فهذه الشفاعة عامة شاملة من ناحية الشافع، خاصة من ناحية المشفوع، فهي مختصة بالذين في النار من أهل الإيمان. ثم الشفاعة السادسة: وهي الشفاعة في الحقوق، فإن بعض الناس يأتي وله حقوق على غيره، فيجازيهم الله عنها بالشفاعة، ويقول: (يا عبدي! لك على فلان كذا وكذا، أيرضيك أن أعطيك كذا فتسامحه؟). ثم بعد هذا الشفاعة السابعة: وهي الشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض المجرمين من المؤمنين، وهؤلاء لا يصلون إلى درجة الخروج من النار، ولكنهم يخفف عنهم العذاب بشفاعة الشافعين كنقص المدة ونقص أنواع العقاب، نسأل الله السلامة والعافية! ثم الشفاعة الأخيرة: الشفاعة لأهل الجنة في إعلاء منزلة بعضهم، وجمعه بأهله وأقاربه، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، وفي القراءة الأخرى (ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء). فهؤلاء تلحق بهم ذرياتهم، وتجمع معهم، والذرية تطلق على الآباء والأبناء، فمن إطلاقها على الآباء قول الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]، فذريتهم التي حملت في الفلك المشحون معناها: آباؤهم الذين حملوا مع نوح. وإطلاقها على العقب مثل قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ} [الأنعام:84]، الآية. فهذه هي الشفاعات الأخروية.

الكلام على الشفاعة في الدنيا

الكلام على الشفاعة في الدنيا الشفاعة في الدنيا هي الشفاعة عند الله تعالى في الوصول إلى الحقوق؛ وهي باستجابة الدعاء، وهذا لكل الرسل وللصالحين من عباد الله تعالى، وللملائكة المقربين فإنهم يشفعون للمؤمنين، وقد جاءت في ذلك آيتان إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة. فالمطلقة قول الله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]. والمقيدة في قوله تعالى في سور المؤمن: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9]. فدعاء الملائكة لأهل الأرض مختص بالذين آمنوا واتبعوا. كذلك الشفاعة بالدعاء للمطر ونحو ذلك، وقد كان الناس يلجئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، فيدعو لهم فينزل المطر، ولذلك سره صلى الله عليه وسلم حين أتاه رجل وهو على المنبر كما في حديث أنس فقال: يا رسول الله! هلكت البهائم وانقطعت السبل، فادع الله لنا أن يسقينا، فاستسقى وما في السماء قزعة فرأوا غمامة من قبل سلع، وجاء المطر واستمر أسبوعاً ثم جاء الرجل وهو على المنبر في الجمعة الأخرى يستصحي، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (من يحفظ قول أبي طالب؟) فأنشده أبو بكر رضي الله عنه قول أبي طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل ومن هذا النوع استسقاء عمر بدعاء العباس، كما أخرج البخاري ذلك تعليقاً في الصحيح، فهذا الاستشفاع بدعاء الناس في الدنيا من قبيل الشفاعة؛ لكن من قبيل الشفاعة الدنيوية فقط، وإنما يختار له من يدعو ممن يظن به الخير ممن يعرف بذلك، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب إذا أتاه أويس القرني أن يسأله أن يستغفر له. والشفاعة العامة هي أعظم الشفاعات، وهي المقام المحمود الذي وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون هو مقام الشفاعة، وهي المنزلة الرفيعة التي ادخرها الله لعبد عنده، وقد رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون هو، فحقق الله له ذلك، وهذه الشفاعة هي مقصود الشيخ في قوله: كذا من الذي اصطفي به الشفاعة لأهل الموقف وأهل الموقف هم أهل المحشر، وسمي موقفاً لوقوف الناس أجمعين؛ لأن الناس حينئذ يقومون لرب العالمين، ولا يجلس أحد منهم من هول الموقف، ويطول بهم الوقوف حتى يذهب عرقهم في الأرض كثيراً، وحتى يلجمهم العرق ويتفاوت الناس في ذلك بحسب أعمالهم، منهم من يصل العرق إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه إلجاماً.

وجوب الإيمان بالسنة والعمل بها

وجوب الإيمان بالسنة والعمل بها فآمنوا به وما أتى به فاقفوا وإن لم يأت في كتابه أي: فآمنوا به صلى الله عليه وسلم، فإن الإيمان به هو شهادة أن محمداً رسول الله، وهو مكمل لشهادة أن لا إله إلا الله، لا يمكن أن تقبل شهادة أن لا إله إلا الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ممن شهد أن محمداً رسول الله، لذلك قال: (فآمنوا به). والله تعالى أمر بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136].

ما أتى في السنة فقد أمر القرآن باتباعه

ما أتى في السنة فقد أمر القرآن باتباعه فآمنوا به وما أتى به فاقفوا وإن لم يأت في كتابه فمن تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم أن يصدق في كل ما أخبر به، وأن يطاع في كل ما أمر به، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وهو ما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قوله: (وما أتى به فاقفوا). أي: كل ما جاء به من عند الله تعالى فيجب اقتفاؤه أمراً كان أو نهياً، فالأمر اقتفاؤه بعمله، والنهي اقتفاؤه باجتنابه، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. (وإن لم يأت في كتابه)، أي: في القرآن، (فإنه أوتي مثله معه)، وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة منها حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يأتي رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه). فعلى هذا فإن كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من التشريع سواء جاء في القرآن أو في السنة يجب اتباعه واقتفاؤه، ولذلك صح عن ابن مسعود أن امرأة أتته فقالت: (يا أبا عبد الرحمن سمعت أنك تلعنني، فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، وكانت هذه المرأة واشمة تشم النساء، فقالت: لقد قرأت المصحف من الجلدة إلى الجلدة وما وجدت فيه ذلك، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما وجدت قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن الواشمات والمستوشمات).

علاقة السنة بالقرآن

علاقة السنة بالقرآن وعند قوله: (وإن لم يأت في كتابه) تأتي علاقة السنة بالقرآن، وقد ذكر العلماء ستة أوجه في علاقة السنة بالقرآن: الوجه الأول: أن تكون السنة مفسرة للقرآن، أي: شارحة له، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حفصة: (ألا إن الورود العبور)، وذلك تفسير لقول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، فبين أن الورود المقصود به العبور على الصراط. ومثل قوله: (المغضوب عليهم اليهود، والضالون النصارى). الوجه الثاني: أن تكون مخصصة لعام القرآن، وذلك مثل قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، فهذا عام؛ لأن (أل) في السارق حسية تشمل كل سارق، وكذلك السارقة، وقد خصص ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق النصاب، وبين أنه ليس فيما دون ثلاثة دراهم قطع، وأنه من أخذ بفيه غير متخذ خبنة فلا قطع عليه، فهذا كله تخصيص للعام. الوجه الثالث: أن تكون السنة مقيدة لمطلق القرآن، مثل قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، فإن الله أطلق الصيام والصدقة والنسك، ولكن قيد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة فقيد الصيام بثلاثة أيام، والإطعام بستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك بشاة. الوجه الرابع: أن تكون السنة ناسخة للقرآن، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، كما في حديث عبادة بن الصامت. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث). فالحديث الأول ناسخ لآية النساء وهي قول الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] , فبين ذلك السبيل السنة. والحديث الثاني ناسخ لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]. وهذه وإن كانت محل خلاف لكن الراجح أنها منسوخة بالسنة فقط وليست بالكتاب؛ لأن السنة هي التي بينت أنه لا وصية لوارث، أما الكتاب فليس فيه تصريح أنه لا وصية لوارث. الوجه الخامس: أن تكون السنة منسوخة بالكتاب، وذلك مثل صلاته صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شهراً إلى الشام بالمدينة فنسخ ذلك بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فنسخت السنة بالكتاب. الوجه السادس: أن تكون مضيفة حكماً ليس في الكتاب، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كل ذي مخلب من الطير فأكله حرام، وكل ذي ناب من السباع فأكله حرام). ومثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها). ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فهذه إضافة أحكام ليست في القرآن، لكن الحكم الأخير وهو تحريم نشر الحرمة بالرضاع، أصله في القرآن وهو قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، لكن لم يذكر الخالات من الرضاعة ولا العمات من الرضاعة ونحو ذلك، وقد ذكر ذلك في هذا الحديث. أما الحديثان الأولان حديث النهي عن كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، وحديث النهي عن أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، فهذا قطعاً فيه إضافة حكم ليس في القرآن.

معاني السنة لغة واصطلاحا

معاني السنة لغة واصطلاحاً قال: فإنه أوتي مثله معه من حكمة وسنة متبعة بين أن ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم يسمى سنة ويسمى حكمة، والسنة في اللغة: الطريقة خيراً كانت أو شراً. فمن إطلاقها على طريقة الخير قول الله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء:77]، ومن إطلاقها على الشر قول الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]. وتطلق كذلك على الصميم من كل شيء كقول غيلان: تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب وتطلق على الطريقة في الجبل. واصطلاحاً: يختلف إطلاقها باختلاف العلم الذي هي فيه، ففي علم العقائد تطلق السنة على مقابل البدعة. وقد تطلق على ما يقابل الشيعة بالخصوص فيكون ذلك إطلاقاً جزئياً يقال: أهل السنة والشيعة، تكون هنا غير مقابلة لكل بدعة، بل مقابلة لبدعة الشيعة فقط. والسنة في اصطلاح أهل الحديث هي: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو وصف خلقي أو خلقي، سواء صلح دليلاً لحكم شرعي أو لم يصلح. وعند الأصوليين هي: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح دليلاً لحكم الشرع. وعند الفقهاء هي: صفة المأمور به أمراً غير جازم. وفي اصطلاح آخر لبعض الفقهاء أنها: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأظهره في ملأ وواظب عليه ودل الدليل على عدم وجوبه، وهذا عند الذين يفرقون بين السنة والندب. والسنة تسمى حكمة، والحكمة في الأصل جعل الشيء في موضعه، وتمام العقل وإتقان كل شيء، فهي من (أحكمه)، أي: أتقنه، والسنة تسمى حكمة، ولذلك عطفت على القرآن في عدد من الآيات كقول الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، وكقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]، وكقوله تعالى في سورة الجمعة: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. فالحكمة التي يعلمها والتي تتلى هي السنة، وهي بيان للقرآن، ولذلك قال: (من حكمة وسنة متبعه). قوله: (متبعة) هذا تقييد للسنة، وهو تقييد مهم؛ لأن العمل مهم في مجال الاستنان؛ لأن الحديث إذا روي قولاً دون عمل، أي: لم يعمل به الصحابة ولم يعرف تطبيقه فإنه لا يكون العمل به سنة، وكذلك السنة الفعلية إذا لم يصحبها عمل فذلك دليل على نسخها، وأبلغ دليل في هذا الباب أن كثيراً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لم تصل إلينا ولم تنقل، والكتب التي ذهبت ولم تنقل قد استغنت عنها الأمة بما نقل، فهو كاف، والله تعالى تعهد بحفظ الدين، والدين نصفه في السنة، فما بلغنا من السنن ونقلته الأمة وعملت به فهو الدين المحفوظ، وما سواه فهو الأمور الشاذة التي هي من المتشابهات التي لا ينبغي اتباعها. ولهذا حذر عدد من أئمة السلف من الذي يأخذ الغرائب ويتتبعها ويشذ عن جمهور الأمة ويخالفها، ولهذا فإن كثيراً من الشواذ يبحثون عن أي حديث فإذا وجدوه حتى لو لم يفهموا معناه أو كان محتملاً لعدة أوجه؛ حملوه على المعنى الشاذ الغريب وعملوا به، وأرادوا بذلك إظهار الفتنة والفوضى بين الناس، وهذا مخالف للمقصود الشرعي، ولذلك قال: (وسنة متبعة). وقد نص عدد من الأئمة على هذا الشرط، منهم ابن عون وهو من أئمة التابعين، وسفيان بن عيينة، وكذلك الثوري وفي كلام الزهري تصريح بذلك حيث قال: آية محكمة أو سنة متبعة.

الأسئلة [1]

الأسئلة [1]

ذكر بعض أشعار الجن ومدى صحتها

ذكر بعض أشعار الجن ومدى صحتها Q يذكر العلماء أشعاراً للجن في كتبهم، فكيف رويت هذه الأشعار، وكيف اطلعوا على صحتها؟ A بالنسبة للأشعار والمقامات الواردة عن الجن والمروية في كتب السير، فإن كثيراً من هذه الكتب القديمة لا يظن بأهلها الكذب مثل محمد بن إسحاق فهو حديث عهد جداً؛ لأنه من كبار أتباع التابعين، فقد لقي عدداً كبيراً من التابعين وعهده قريب، فهي مروية عن الصحابة. وقد صح من أشعارهم بعض ما روي في صحيح البخاري مثل بكائهم على عمر بن الخطاب، ومثل أشعارهم في وقت الهجرة، فقد كان بعضهم من المسلمين لم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ومنهم الصارخ الذي سمعه أهل مكة ينوه بـ أم معبد: جزى الله عنا والجزاء بفضله رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالحق وارتحلا به فيا سعد من أمسى رفيق محمد وكذلك قول الآخر: فإن يسلم السعدان يصبح محمدٌ بمكة لا يخشى خلاف المخالفِ فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً ويا سعد سعد الخزرجين الغطارفِ أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله في الفردوس منية عارف وأشعارهم كثيرة، لكن بعض الأشعار تنسب إليهم ولم تثبت، مثل: نحن قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده رميناه بسهميـ ـن فلم تخط فؤاده ونحو هذا، فهذا لا يصح عنهم. والمقصود بصحة ذلك أن يسمعه الناس ولا يعرفون له قائلاً، بل يسمعون هاتفاً يصيح فيسمع الناس الكلام ويحفظونه ولا يعرفون له قائلاً، ولا يرون أحداً، فهذا المقصود من صحة الرواية عنهم.

الصلاة على الأنبياء

الصلاة على الأنبياء Q نرجو منكم الكلام على صيغة الصلاة على النبي، وهل تجوز الصلاة على غيره؟ A أما ما يتعلق بالصلاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الله أخبرنا أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرنا أن نصلي ونسلم عليه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في حديث كعب بن عجرة، وهذا يقتضي الصلاة عليهم أجمعين؛ لأن آل إبراهيم يدخل فيهم دخولاً أولياً الأنبياء والرسل. لكن اختلف أهل العلم في مشروعية ذلك، وأجمعوا على أنه يجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مرةً في العمر وعند ذكره، وأن ما زاد على ذلك مندوب، إلا في التشهد فقد اختلف فيه في التشهد الأخير هل هو على الوجوب، أو على السنية؟ وكذلك في خطبة الجمعة، هل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ركن من أركانها كما لدى الحنابلة في المشهور عنهم؟ أو ليس كذلك فتكون سنةً فقط. وأما من سواه من الرسل فلا تجب الصلاة عليهم، لكنها من السنن والمندوبات، وذكرهم بالصلاة والسلام هو المروي عن كثير من السلف، فقد كانوا يقولون: إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وتجدون ذلك في صحيح البخاري في كثير من المواضع، وقالت طائفة من الناس: بل الأفضل أن يخصص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبر الله أنه يصلي عليه، وأمرنا أن نصلي ونسلم عليه، وأما من سواه فيقال: (عليه السلام)، وهذا اللفظ أيضاً لا يختص بالرسل بل تجدون في صحيح البخاري إطلاقه على علي بن أبي طالب مثلاً وغيره مثل فاطمة عليها السلام. وصيغة الصلاة والسلام على النبي إذا كانت بالعطف فلا خلاف أيضاً في أنه يجوز أن يلحق به من سواه، ولهذا يصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآله يشمل كل مؤمن به كما سبق بيان ذلك، وكذلك على عباد الله الصالحين كما في حديث كعب بن عجرة، لكن البحث في الصلاة والسلام على غير النبي منفرداً دون عطف. وقد صح في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، وأبو أوفى رجل من الأنصار، وهو والد عبد الله بن أبي أوفى، كان يأتي بصدقته قبل أن يأتيه الساعي، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى). ولم يكن مستنكراً في الصدر الأول أن يقال: صلى الله عليك يا فلان! أو نحو هذا، أو إذا ذكر فلان فقيل: صلى الله عليه من باب الدعاء، فهذا لم يكن مستنكراً في الصدر الأول، لكنه اليوم مستبشع أن تذكر شخصاً من الناس فتقول: صلى الله عليه وسلم مثلاً، ولهذا ينبغي أن يخصص في زماننا هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم وإذا أطلق على نبي من أنبياء الله فلا إشكال أيضاً، لكن لا ينبغي أن يطلق على من دونهم ولا من سواهم. ومما كان في الصدر الأول قول جرير: صلى على عزة الرحمن وابنتها لبنى وصلى على جاراتها الأخرِ

أنساب الأنبياء

أنساب الأنبياء Q ذكرتم أن الأنبياء يكونون من أوسط قومهم نسباً، فهل ورد ذكر أنسابهم في الشرع؟ A بالنسبة لأنساب الأنبياء، لم تكن العناية بها قويةً في النصوص الشرعية، وإنما نسب بعضهم إلى آبائهم وبعضهم إلى أجدادهم، فإبراهيم سمى الله أباه آزر، وذكر نسبة بعض الأنبياء إلى آبائهم أو أجدادهم، ونسب عيسى إلى أمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)، وهذا من أشرف الأنساب، حيث يجتمع فيه أربعة أنبياء في سرد واحد، وهو الذي يمثل به أهل البلاغة لنوع من أنواع البديع يسمى بالاطراد، وهو الذي يقول فيه السيوطي في عقود الجمان: الاطراد ذكرك اسم من علا فأبه فجده على الولا بلا تكلف على وجهٍ جلي مثل عليٍ بن الحسين بن علي فهو مثل هذا الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في نسب يوسف عليه السلام، لكنه جاء في بعض الآثار عن الصحابة فرفعوا بعض الأنساب، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم نسب نفسه إلى عدنان ونسب بعض من سواه، فقد نسب لـ سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان عشر قبائل في الحديث الذي أخرجه الترمذي في السنن، وكذلك عد نسبه إلى عدنان فقال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان). وجاء عنه أيضاً أنه قال: (إلى معد بن عدنان)، لكنه نسب معداً أيضاً إلى عدنان. والمقصود هنا القبيلة والنسبة. وكذلك قوله لقوم من كندة: (نحن بنو النضر بن كنانة لا نستنسب لغيره). وقد عرفت خئولات النبي صلى الله عليه وسلم وعموماته، فيذكر له أهل النسب: خمسمائة أُمٍّ معروفة، بعضها ثبت فيها أحاديث، مثل: (أنا ابن العواتك من سليم)، وعواتك سليم: أم وهب بن عبد مناف، وأم هاشم بن عبد مناف بن قصي، وأم عبد مناف بن زهرة، فهؤلاء هن عواتك النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهن يقول البدوي رحمه الله: عواتك النبي أم وهب وأم هاشم وأم الندب عبد مناف وذهِ الأخيره عمة عمة الأولى الصغيره وهن بالترتيب ذا لذي الرجال الأوقص بن مرة بن هلال عاتكة بنت الأوقص، وعاتكة بنت مرة، وعاتكة بنت هلال والصغرى: عمتها التي تليها، والأخرى عمة الصغرى، فالصغرى منهن عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، والتي تليها: عاتكة بنت مرة بن هلال، والكبرى: هي عاتكة بنت هلال مباشرة. وكذلك في القبائل العشر: يقول البدوي رحمه الله في الأنساب: لسبأ بن بشجب بن يعرب سليل قحطان قريع العرب نسب خير مرسل بيننا عشرة الأزد الاشعرينا وحميراً ومذحجاً وكنده أنمار سادس لهم في العده وقد تيامنوا ومن تشام له غسان لخم وجذام عامله هذه القبائل العشر. وقد نص بعض الصحابة على نسب النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه، فرفعوه أيضاً إلى إسماعيل، أما كونه من ذرية إسماعيل فهذا لا اختلاف فيه، لكن تسمية الرجال إلى إسماعيل محل خلاف، والراجح والمشتهر بين الناس أن عدنان: ابن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن نبت -أو نابت- بن حمل بن إسماعيل بن إبراهيم. وبعضهم يعكس فيقول: عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن حمل بن نابت بن إسماعيل، وخلاف قليل هنا؛ لكنهم يتفقون أن إسماعيل هو السابع لـ عدنان. وعلى هذا فأنساب الأنبياء مثل أنساب الناس يرجع فيها لذوي النسب، وليست هي في حكم الشرع فيرجع فيها إلى النصوص الشرعية وحدها، وأهل الأنساب هم الذين يعتنون بهذا من حيث ضبطه وحفظه. وكذلك ذكرنا أنهم ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أُمٍّ، ولم تبق قبيلة من العرب إلا وله فيها أُمٌ، إلا ما كان من بني تغلب وحدها. وبالنسبة لما ورد عنه أنه قال: (كذب النسَّابون فيما فوق عدنان)، ما أظن أنه يصح، وإن كان مشتهراً أيضاً، وحمله كثير من النسابين على أن المقصود به: أنهم كذبوا في الأسماء حيث لم تكن من لغة كثير منهم، فحرفوا فيها، وأكثر هذه الأسماء محل خلاف في ضبطها، مثل: مهلائيل ومهلال؛ وكذلك لامك ولمك، وفالغ وفالج وعابر وعيبر. السؤال: هل لفظة (إلياس) موجودة في كلام العرب؟ الجواب: (إلياس) غير موجودة، لكن هذه لغات أخرى، فلذلك كان الخلاف فيها إنما هو فيما يتعلق بالجزم بصيغة الاسم وضبطه؛ لأن أهل كل لغة إذا نطقوا باسم، فإن أهل اللغة الأخرى يحرفون فيه غالباً، لأنه يصعب عليهم النطق به على هيئته الحقيقية.

معنى كون حسنات الأبرار سيئات المقربين

معنى كون حسنات الأبرار سيئات المقربين Q ما المقصود بقولهم: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)؟ المقولة التي فيها (إن حسنات الأبرار سيئات المقربين)، المقصود بها أن تفاوت الناس في التكليف على قدر تفاوتهم في التشريف، وهذا يشهد له كثير من النصوص الشرعية، وتفاوت درجات الناس بحسب ذلك من الموافق للحكم، وللمقتضى العقلي ومقتضى الفطرة؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقالة العثرات، وقال: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، وأمر أن ينزل الناس منازلهم كما في حديث عائشة رضي الله عنها.

حصر الرسل من الملائكة

حصر الرسل من الملائكة Q كم عدد الرسل من الملائكة؟ A الرسل من الملائكة لم يرد فيهم حصر مثل الرسل من البشر، ولكنه من المجمع عليه أن جبريل عليه السلام من رسل الله من الملائكة، فهو أمين الله على الوحي إلى كل الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ولذلك فإن بني إسرائيل كانوا يعادون جبريل في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أنه عدوهم من الملائكة، كما أخبر الله بذلك في كتابه: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98].

عدم امتناع القتل في حق الرسل

عدم امتناع القتل في حق الرسل Q لماذا لا يمتنع القتل في حق الرسل؟ A ليس مما يمنع في حق الرسل أن يقتلوا؛ لأن الموت كتبه الله على البشر: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد ولذلك لا يستحيل في حقهم القتل؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، وقد قتل بنو إسرائيل عدداً كبيراً من أنبياء الله، ونص على ذلك في القرآن، وهؤلاء جمعوا المقامات المختلفة، فجمعوا النبوة والرسالة والشهادة في سبيل الله، وهي أعلى درجات البشر، ومن هؤلاء زكريا ويحيى عليهما السلام، فقد صح أن بني إسرائيل قتلوهما، وكذلك حاولوا قتل عيسى بن مريم فرفعه الله، وشبه لهم بشخص فقتلوا ذلك الشخص وصلبوه. وكذلك قتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسم الذي وضعوا له بشاة خيبر، قال: (ما زالت أكلة خيبر تعادوني والآن حان انقطاع أبهري). فهؤلاء من الرسل الذين قتلوا في سبيل الله، والآيات مصرحة بكثرتهم، لقول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147]. و (كأين) من الألفاظ التي تدل على التكثير والمبالغة، وهذا مبني على الاختلاف في القراءة في قوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146]، ففي قراءة: (قتل معه ربيون كثير)، وهو اختلاف لا يغير هذا الحكم؛ لأن القراءتين كالآيتين، فيثبت حكماهما لتواترهما معاً. وعلى هذا: فالشهادة في سبيل الله منزلة عظيمة، ودرجة عالية، وقد صح في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل!) تمنى رسول الله هذا على الله سبحانه وتعالى.

امتناع الخسائس على الأنبياء

امتناع الخسائس على الأنبياء Q هل تعتبر المهن الخسيسة ممتنعة في حق الأنبياء؛ وكذلك غيرها من الخسائس؟ A أما الأعمال غير الخسيسة وغير الممتهنة فتجوز في حقهم؛ فقد كانوا يخصفون نعالهم، ويزرعون ويغرسون، ويشاركون الناس في أعمالهم كلها. وكذلك يصابون بالأمراض غير المنفرة، بل يوعك أحدهم كما يوعك رجلان من الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لزيادة ثوابهم، وعلو منزلتهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)؛ وليكونوا أسوة حسنة يتسلى بهم من سواهم، فإذا أصيب أحدنا بمصيبة تأسى بأولئك الرسل الذين هم خيرة الخلق وأشرفهم، وأكرمهم على الله، فقد ابتلاهم الله بذلك فصبروا وصمدوا، فنتسلى بما أصابهم، ونتأسى بهم ونتعزى. والمهن التي لا تؤثر في المروءة كرعاية الغنم لا تمنع في حقهم، بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، فقيل: وأنت يا رسول الله؟ فقال: وأنا، كنت أرعى غنماً لقريش على قراريط). وعلى هذا فرعي الغنم مهنة غير خسيسة بل هي تعويد على القيادة والنصح والصبر، وتعويد على الخلوة بالنفس؛ لأن راعي الغنم لا يستطيع أن يجلس مع الناس؛ لأنه يخاف عليها من الذئب وكل عادية، فيكون دائماً خالياً بنفسه، فيقتضي ذلك جرأته وشجاعته، ويقتضي نباهته وقوة عقله؛ لأنه يخادعه الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة عن غنمه، فراعي الغنم لا بد أن يكون نبيهاً ولا بد أن يكون صاحب فطنة وذكاء لكيد الأعداء. وكذلك فإنها رياضة بدنية وروحية لما فيها من الخلوة والحركة الدائمة، ومثل هذا ما يتعلق بالتجارة والزراعة وغير ذلك. فموسى عليه السلام رعى الغنم أيضاً كما صرح بذلك في سورة القصص، والنبي صلى الله عليه وسلم خرج بتجارة خديجة إلى الشام، وكذلك في الزراعة شارك في غرس النخل الذي كان سلمان كاتب عليها مواليه؛ وكذلك في البناء، فقد شارك في بناء المسجد وفي حفر الخندق وحتى بناء بيوت الناس فقد كان يشارك فيها، كما صح في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتزع ميزاباً للعباس بن عبد المطلب كان في داره يصب في المسجد، فلما انتزعه، قال العباس: والله لقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فبكى عمر بكاءً شديداً ثم أقسم على العباس أن يركب ظهر عمر حتى يعيد الميزاب إلى مكانه، وعمر خليفة إذ ذاك، فركب العباس مع ضخامة العباس وجسامته، حتى أعاد الميزاب إلى مكانه. ونظير هذا من الأعمال كخياطة ثياب ونحوها، كل ذلك من الأعمال التي لا تزري بدين ولا مروءة ولا تنفر، فيحل أن يشتغل بها. لكن يحرم في حق النبي ما يكون منفراً أو مقتضياً لعدم الاستجابة لدعوته، ومن هذا أخذ العلماء أن على من يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويسلك طريق الأنبياء؛ أن يتزين للناس حتى لا ينفرهم بنفسه. وما يطلب من الزهادة والتقشف في أمور الدنيا لا يطالب به الذين يدعون إلى الله ويخالطون الناس لهدايتهم؛ لأن ذلك ربما نفر كثيراً من الناس فلم يصلوا إلى تأثير في مستويات معينة من المجتمع، لكن ينبغي أن يكون ذلك في أيديهم وأن لا يكون في قلوبهم، وأن لا يغتروا بزخارف هذه الدنيا وما فيها، فليسوا أكرم على الله ممن سواهم، ولا ينبغي لهم أن يأمنوا مكر الله {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]؛ لذلك ذكر أهل العلم في اللباس أنه يندب فيه للعلماء والدعاة وخطباء المساجد تحسينه، وأن يكون من أرقى الأنواع وأثمنها، ليؤثروا بذلك في قلوب من لا يعتبرون إلا بمثل هؤلاء الذين ينظرون إلى المظاهر ويعنون بها.

الحكمة في أن الرسل من أهل القرى

الحكمة في أن الرسل من أهل القرى Q لماذا ذكر الله أنه ما أرسل رسولاً إلا من أهل القرى؟ A أما كون الأنبياء جميعاً من سكان القرى كما أخبر الله بذلك في كتابه، فإن ذلك مقتض منهم لحصول الرفعة، وأهل البوادي دائماً أشد عنجهية وأسوأ أخلاقاً، وأقل نظافةً ممن سواهم؛ ولذلك قال الله تعالى في كتابه: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]، وليس التحضر نسباً، حتى يقال: فلان بدوي، معناه: أن أباه كان كذلك، بل المقصود هو في نفسه، فلو سكن شخص من أهل البادية في الحاضرة، فإنه ليس من الأعراب ولا يدخل في ذلك؛ بل المقصود به من يتصف بهذه الصفة بنفسه لا بنسبه. الرسل عليهم الصلاة والسلام يراد بهم أن يسوسوا البشرية وأن يقودوها، فلا بد أن يعرفوا طرق تدبير المعاش، وهذه لا يعرفها أهل البوادي، ولا يعتنون بها، فأهل البوادي إنما يعيشون من الصيد -مثلاً- أو اتباع البهائم، ويعيشون مع الأحلام والأوهام كثيراً، وقد أخرج أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب الصيد غفل، ومن بدا جفا)، ومعناه: من سكن البادية غلظ طبعه، (ومن طلب الصيد غفل)، أي: نقص عقله بقدر ذلك؛ فلهذا اختير الرسل من أهل القرى.

معنى أمر الله لرسوله باتباع إبراهيم ونهيه عن التشبه بيونس عليهم السلام

معنى أمر الله لرسوله باتباع إبراهيم ونهيه عن التشبه بيونس عليهم السلام Q لماذا أمر الله رسوله باتباع ملة إبراهيم ونهاه عن التشبه بيونس عليهم السلام؟ A أما أمر الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم، ونهيه عن أن يكون كصاحب الحوت الذي هو يونس عليه السلام، في قوله: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48]، فنهيه عن أن يكون كصاحب الحوت مقيد؛ لأنه قال: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48]، فالمنهي عنه اتباعه في حال واحد وهو تعجله في الدعاء، وأمره باتباع ملة إبراهيم يقتضي منه صبراً وأناة وحلماً وعدم استعجال في الدعاء على قومه. فيونس تعجل عقوبة قومه فدعا عليهم كثيراً، وتأخرت الاستجابة، فاستعجل في الإجابة فغاضب الله سبحانه وتعالى بأن سافر في البحر، وكادت السفينة أن تغرق، فاستهموا على من يلقوه في البحر فكان من المدحضين، فرموه في البحر فالتقمه الحوت، ثم بعد ذلك أنجاه الله، فعاد إلى قومه بعد فترة طويلة، فدعاهم فأسلموا أجمعين، فتحقق الوعد، وارتفع عنهم العذاب، وكانت خاصة لأمته أن الله رفع عنهم العقوبة بعد أن رأوها، ولم ير قط قوم الآيات إلا نزلت بهم العقوبة، وقد استثناهم الله من ذلك فقال: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تفضلوني على يونس بن متى). والوجه المعروف لدى المحدثين عموماً: أنه لا ينبغي الجزم بالتفضيل الذي يقتضي تنقصاً، فلو فضلته بوجه لا يقتضي تنقصاً فلا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق؛ لكن إذا كان ذلك على وجه به تنقص مثل أن تتنقص نبياً من الأنبياء بسبب قصة حصلت له أو نحو ذلك، فهذا هو المنهي عنه شرعاً. لكن ابن سيد الناس ذكر وجهاً آخر بعيد المنال؛ ولذلك اشتهر به بين الناس، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به وعرج به فوق سبع سماوات حتى أعلا الله منزلته هذا الإعلاء العظيم، ويونس كان في قعر البحر في جوف الحوت؛ لكنه ليس أقرب إلى الله منه، فالله تعالى قريب في علوه علي في دنوه، فهذا معنى التفضيل هنا، وهذا وجه استحسنه العلماء ورضوه، واشتهر به الرجل بين الناس.

خلو الأنبياء من المنفرات

خلو الأنبياء من المنفرات Q ذكرتم اشتراط خلو النبي عن منفر طبعاً، فما تقولون فيما يذكره المفسرون عن أيوب من أنه تساقط أعضاؤه من المرض؟ A ما يذكر في بعض كتب التفسير التي تذكر الإسرائيليات عن نبي الله أيوب عليه السلام: أن النصب الذي أصابه به الشيطان كان مرضاً منفراً في بدنه، وأنه تساقط بعض أعضائه ونحو هذا؛ فهذا لا يصح، ولا يمكن أن يعتمد عليه بوجه من الوجوه؛ بل هو كما أخبر الله عنه أنه أصابه الشيطان بنصب وعذاب، وقد أزال الله أذاه ورفع منزلته وأعاد إليه عافيته، فكان من أدبه مع الله سبحانه وتعالى أنه لم يقل: (أصبتني)، إنما قال: (مسني الشيطان بنصب وعذاب)، ولذلك أثنى الله عليه بأنه كان عبداً أوّاباً.

تعدد الزوجات للأنبياء

تعدد الزوجات للأنبياء Q هل يدل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] على تعدد زوجات الأنبياء؟ A ما يذكر من أن جميع الأنبياء قد عددوا زوجاتهم أخذاً من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، فهذا مأخذ بعيد جداً وفهم لا يستقيم مع الآية؛ لأن الآية قوبل فيها الجمع بجمع، والأصل أن الجمع إذا قوبل بجمع فكل واحد يقابله واحد، مثل قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، ولا تقتضي الآية إثباتاً لذلك ولا نفياً له؛ لكن منهم من ثبت له تعديد الزوجات كنبينا صلى الله عليه وسلم، وكسليمان عليه السلام، ومنهم من لم يتزوج أصلاً وثبت له ذلك كيحيى عليه السلام، إذ قال الله فيه: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39]، فلم يتزوج أصلاً حتى يعدد، ومنهم ما سكت عنه، فلا يخالف في مثل هذا. فالآية المذكورة بينت أن من الرسل الذين أرسلهم الله قبل النبي صلى الله عليه وسلم من آتاهم الله أزواجاً وذرية، أي: فليس وجود الأزواج والذرية طعناً في النبي صلى الله عليه وسلم ولا عيباً فيه؛ لأن أعداءه قالوا: كيف تزعم أنك نبي يأتيك الوحي، وأنت تتزوج النساء ويأتيك الأولاد، فرد الله دعواهم بأن من سبقه من الرسل كذلك، فالمقصود أنها سيقت لرد هذه الشبهة والدعوى فقط.

قوة الأنبياء

قوة الأنبياء Q هل كان الأنبياء جميعاً يتميزون بالقوة على غيرهم، وما الحكمة من ذلك؟ A أما ما يذكر في قوة أبدانهم فالظاهر أنهم جميعاً كانوا كذلك، لأنهم يكلفون بأعمال هائلة جداً، ويضحون تضحيات جسيمة، فيؤيدهم الله تعالى على ذلك، وبالأخص كلام الملائكة واجتماعهم، فإن زيد بن ثابت رضي الله عنه قد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسنداً ركبته إلى فخذه، فنزل عليه الوحي فرضت فخذه حتى كاد يموت من شدة وطئه؛ وذلك من شدة الوحي، فمن لم يقو غاية القوة لا يمكن أن يتحمل الوحي؛ لذلك قواهم الله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضلهم، حتى فيما يتعلق بالقوة، فقد ذكر عنه قوة عجيبة، وكان الناس يشاهدونها في كل الأمور، فكانت فيه قوة العقل وقوة الروح، وقوة البدن، حتى قوة الجماع، وقد عقد لها القاضي عياض رحمه الله باباً مستقلاً.

إرسال يحيى وعيسى في زمن واحد

إرسال يحيى وعيسى في زمن واحد Q هل أرسل يحيى وعيسى في زمن واحد لبني إسرائيل، ولماذا؟ A بالنسبة لقصة عيسى وزكريا والوحي المنزل إليهما وأنهما أمرا بتبليغه، فهذا يقتضي أن بني إسرائيل يشكون في خبر الواحد، حتى لو عرفوا أنه نبي فإنهم يؤذونه ويكذبونه ويشكون بخبره؛ لكن إذا جاءهم من ليس معه في مكان بنفس الخبر صدقوه، فهذا من باب أن بني إسرائيل قوم بهت، لا يصدقون خبراً حتى لو كان من نبي مرسل يعرفون صدقه، لذلك قال موسى فيما حكى الله عنه في بني إسرائيل: {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:5].

حياة الأنبياء في قبورهم

حياة الأنبياء في قبورهم Q هل يصح ما يقوله بعض الناس أن الأنبياء لا زالوا في قبورهم أحياء؟ A ورد ستة عشر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون وقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، لكن حياتهم حياة برزخية ليست كحياة الدنيا على الأرض، وإذا قبضهم الله إليه، فمنهم من يبقى في مدفنه الذي دفن فيه، ويعرف مكانه، ومنهم من ينقله حتى بجسده إلى حيث شاء، ولا يعرف اليوم قبر نبي من الأنبياء بالجزم غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكن يعرف أن بمكة قبر إسماعيل عليه السلام، وكذلك آدم عليه السلام وعدد من الأنبياء، قال بعض الصحابة: إن حول الكعبة سبعين نبياً، وبالشام دفن عدد كبير منهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف قبر موسى أنه عند الكثيب الأحمر في طريق الشام، وأنه لو كان عنده لأراهم إياه. أما بالنسبة لقبر إبراهيم عليه السلام فيقال إنه في المكان الذي سمي بمدينة الخليل، لكن لا يعرف القبر بعينه، إنما يتلقى عن خبر بني إسرائيل وليس لهم إسناد متصل ولا تواتر، والإسناد من خصائص هذه الأمة، فلذلك انقطع الخبر، فلا يعتمد عليه، لكن يظن ذلك. بنو إسرائيل يقولون: هذا مكان قبر إبراهيم، وهناك قبور عندهم واضحة كقبر إبراهيم وقبر زوجته، وقبر إسحاق ويعقوب، ولكن الله أعلم بحال ذلك، والذي يبدو أن يعقوب توفي بمصر؛ لأنه هاجر إليها.

زوجات الأنبياء

زوجات الأنبياء Q نريد الكلام على زوجات الأنبياء وهل يختارهن الله اختياراً، وما هي خيانة زوجة نوح وزوجة لوط؟ A بالنسبة لزوجات الأنبياء: أكثرهن يختارهن الله لذلك اختياراً، كما قال تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26]؛ وبذلك فأكثر زوجات الأنبياء زوجات لهم في الدنيا وفي الآخرة، ومنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي أنزل الله فيهن القرآن وأعلى منزلتهن، وشرف درجتهن؛ فهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وزوجاته في الدار الآخرة، وهن أمهات كل المؤمنين به، ويجزم بأنهن جميعاً من أهل الجنة، ويلزم الإيمان بذلك. وأما زوجة نوح وزوجة لوط فقد جعلهما الله مثلاً للكافرين، وذكر أنهما خانتاهما، ونص العلماء على أن هذه الخيانة ليست خيانة فيما يتعلق بالزنا أو نحو ذلك، وإنما هي خيانة فيما يتعلق بما اؤتمنتا عليه من الأسرار، فكانتا تنقلان أخبارهما وأسرارهما إلى أعدائهما؛ ولذلك لم ينجهما الله، فأهلك امرأة نوح مع قومه، وأهلك امرأة لوط مع قومها، أي قريباً منهم: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]. فليست هاتان المرأتان من أهل هذين النبيين، بل عوضهما الله خيراً منهما، فليستا زوجتين لهما في الآخرة، وإنما هما زوجتان في الدنيا، وانقطع ذلك بكفرهما، ثم زوجهما الله خيراً منهما، ولا شك أن هذا من ابتلاء هذين النبيين الذي هو إعلاء لمنزلتهما، ورفع لدرجتهما. وكذلك ما جاء في جواب الله تعالى لنوح عليه السلام عندما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:45 - 46]، فلا يقصد به أنه ليس من ذريته، بل المقصود أنه ليس من المؤمنين؛ لأن أهله الذين وعده الله بإنجائهم هم الذين آمنوا به؛ ولذلك قال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فأهله هم المؤمنون به، وهذا الولد كان يظنه من المؤمنين به، ولكن الله أخبره أنه ليس كذلك فقد كان منافقاً؛ ولهذا حين أمره أن يركب في السفينة امتنع عن ذلك، وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43]. وأما قوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، فمعناه أن عمله غير صالح، هذا أرجح شيء في التفسير؛ ولذلك فالقراءة الأخرى: (إنه عَمِلَ غَيْرَ صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم). وقالت طائفة من أهل العلم: معنى (إنه عمل غير صالح) أنه كسب غير صالح، فكأنه هو لم يصلح، فالولد عمل من الأعمال من كسب أبيه؛ لكن هذا الولد غير صالح، حيث لم يكن من أهل الجنة. انظر عتاب الله لنوح عليه السلام لدعائه هذا؛ لأنه بين أن العتاب على مسألته، وأنه ظن أن الله أخلف الوعد، فأراد أن يذكره بالوعد، وأن ينجي هذا الولد لأنه من أهله؛ ولذلك اعتذر نوح من هذا فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]، فتاب الله عليه، فتوبته كانت من دعائه؛ لأنه دعا ما لم يأذن له به؛ ولذلك يعتذر بها يوم القيامة عندما تطلب منه الشفاعة كما سنذكر في حديث الشفاعة.

رفع إدريس ورفع عيسى عليهما السلام

رفع إدريس ورفع عيسى عليهما السلام Q ذكر الله أنه رفع إدريس مكاناً علياً، فما الفرق بين رفعه ورفع عيسى؟ A رفع إدريس ليس كرفع عيسى، فإدريس لم يرد فيه أنه سينزل، بل أخبر الله أنه رفعه مكاناً علياً، وهذا الرفع يحتمل أن يكون رفعاً معنوياً ويمكن أن يكون رفعاً حسياً، ويمكن أن يكون لروحه وجسده، ويمكن أن يكون لجسده بعد موته، ويمكن أن يكون لروحه فقط؛ كل ذلك محتمل، ولم يرد فيه شيء يفسره؛ لكنه رفع بعد موته. وأما عيسى فإن الله توفاه في الدنيا، بمعنى: أنهى رسالته وأنه قد أدى مهمته وانتهت رسالته، وهذا معنى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، وقد رفعه الله حياً بروحه وجسده؛ ولذلك سيعود كما رفع، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينزل حكماً عدلاً، وقت صلاة الفجر عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وسيحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فسيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وهذا في الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهد له أيضاً قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]، وسينزل بين ملكين يمنيه على أحدهما ويساره على الآخر، كأنما خرج من ديماس إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا طأطأه تساقط منه، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات من حينه، ونفسه يبلغ حيث يبلغ بصره، وهو الذي يقتل المسيح الدجال.

الأسئلة [2]

الأسئلة [2]

الوسوسة طاعة للشيطان

الوسوسة طاعة للشيطان Q أجد وسوسة في الغسل فأمضي ثلاثين دقيقة أو خمساً وأربعين دقيقة وأنا في الغسل، فيضيع الكثير من الوقت وكلما غسلت عضواً يخيل إلي أنني لم أغسله، فأرجع إليه، وكذلك شعر الرأس أو اللحية، فيضيع فيه الكثير من الوقت؟ A هذا الإنسان مصاب بوسوسة، وهي من عمل الشيطان، فعليه أن يحذر أن يجعل للشيطان عليه سبيلاً، وعليه ألا يطيع الشيطان وهو يعلم أنه عدوه، بل عليه أن يطيع الله، وأن يجتنب عمل الشيطان، وإذا أخبره الشيطان بأنه لم يفعل، فليرغم أنف الشيطان وليترك ما ألقى عليه. ومن هنا، فالذي يشعر بالوسوسة عليه أن يكثر من التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، صادقاً بقلبه، وعليه ألا يتبع وساوس الشيطان، فإذا غسل عضواً تجاوزه وغسل غيره، وإذا خيل إليه الشيطان أنه لم ينته فلا يراجع نفسه في ذلك، ولا ينظر إليه، لأنه قد يريه الشيطان أنه لم يغسل بعد، فليس له أن ينظر إليه بعد ذلك، وعليه أن يتجاوزه بالكلية وأن يلقي ما ألقى إليه الشيطان وألا يصدقه بشيء، وسواء كان ذلك في الغسل أو غيره أو في الصلاة، وعليه أن يكثر التعوذ، وألا يتبع الشيطان فيما يلقيه عليه مطلقاً.

حكم زيارة النساء للمقابر

حكم زيارة النساء للمقابر Q هل تجوز زيارة النساء للقبور؟ A جاء النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة النساء للقبور، وجاء عنه: (لعن زوارات القبور) ثم بعد ذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألته: ماذا نقول إذا زرنا المقابر، فعلمها الدعاء الذي يدعى به عند زيارة القبور، وعلى هذا فإن جمهور أهل العلم على جواز زيارة النساء للقبور. لكن ليس لهن أن يتخبطن بين الأجدر، بل المشروع لهن أن يقفن أمام المقبرة ويذكرن الدعاء الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة، ويتذكرن الموت والآخرة، والزيارة التي فعلتها عائشة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه الزيارة: أن تقف أمام القبور وأن تدعو، وأما التخبط بين الأجدر فلم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به عائشة ولا غيرها من الناس، ورأي الجمهور من العلماء أنه غير مشروع مطلقاً، ويتأكد ذلك في حق النساء.

الحكمة في زيارة القبور

الحكمة في زيارة القبور Q ما الهدف من زيارة القبور؟ A المقصود بالزيارة هي الموعظة وتذكر الآخرة، وإنما يحصل ذلك بثلاث رتب: الرتبة الأولى: أن يتذكر الإنسان أن هذا القبر الذي يراه، إما أن يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأن القبر الواحد أو القبرين الملتصقين، قد يكون أحدهما في غاية النعيم، والآخر في غاية العذاب، ولا هذا يشعر بعذاب هذا ولا هذا يشعر بنعيم هذا، بل قد تختلط العظام، فهذا في غاية النعيم والآخر في غاية العذاب، ولا يصل شيء من نعيم هذا إلى هذا، ولا شيء من عذاب هذا إلى هذا. المرتبة الثانية: أن يستحضر أن هذا الموت حاجز حصين، انتقل به الإنسان الذي كان أهله يثقون به، ويكلون إليه أمورهم، فانقطعوا عنه، وانقطع عنهم، ولم يعد مطلعاً على شيء من أخبارهم وأمورهم، وأصبح في هذه الأجداث، ومن عمار القبور الذين هم أسارى ذنوب لا ينفكون وأهل قرب لا يتزاورون، أخبارهم منقطعة، وأملاكهم قد خرجوا منها: {وتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]؛ كل ما كان لديه من الأسرار والأمور التي يختص بها أصبحت بيد من سواه، فهذه موعظة عجيبة. المرتبة الثالثة: أن يستحضر الإنسان أن هذا هو مصيره، وأحسن الأحوال أن يموت بين المسلمين فيدفن في مقابر المسلمين، فيتذكر نفسه محمولاً على الرقاب إلى المقابر، ويتذكر الساعة التي يسلم فيها نفسه إلى الله سبحانه وتعالى، ويستسلم فيها وتنزع روحه من كل عرق من عروق جسده، ويذهب به إلى هذه المقابر ليس له مشاركة في الرأي ولا في الأمر ويوضع في هذا الحال، وهذه موعظة عجيبة. وقد حصل لرجل في أيام معاوية رضي الله عنه، أن رأى جنازة تحمل إلى المقبرة في دمشق فخرج في تجهيزها، فلما دفن الميت، وقف على قبره وبكى، وأنشد قول الشاعر: ياقلب إنك من أسماء مغرور فاذكر فهل ينفعنك اليوم تذكير فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذا هو الرمس تعصره الأعاصير يبكي عليه غريب ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور فلما أنشد الأبيات قال له أحد الحاضرين: أتدري لمن هذه الأبيات؟ قال: لا. قال: إنها لهذا الميت الذي دفناه آنفاً، وأنت الغريب الذي يبكي عليه، وهذا ابن عمه ووارثه أقرب الناس إليه كان عدواً له وأصبح مسروراً بموته، فهذه موعظة عجيبة يتذكرها الإنسان في مثل هذه المواقف إذا رأى القبور، وانتقال الناس إلى الدار الآخرة.

الأعمال التي يصل ثوابها للميت

الأعمال التي يصل ثوابها للميت Q هل يصل ثواب القرآن إلى الميت؟ وعليه فهل يشرع ختم القرآن عند موت الميت؟ A أجمع العلماء على أن الميت يصل إليه في قبره مما يهدى إليه من الأعمال الصدقة والدعاء فقط، فالتصدق على الأموات يصل، وكذلك الدعاء لهم يصل، وأما الدليل على الصدقة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة أن يتصدق عن أمه. ودليل الدعاء قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) وكذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].

الرد على من زعم أن ابن تيمية مات في السجن كافرا

الرد على من زعم أن ابن تيمية مات في السجن كافراً Q إمام كفر أحد أهل العلم، وقال إنه سجن ومات في السجن بسبب كفره وإلحاده، وقال بأنه كفره مائة عالم، هل هذه المقولة صحيحة، وهل الموت في السجن دليل على أن الإنسان كافر أو ملحد؟ A إن تكفير المسلم كقتله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه غاية التحذير، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا قال المؤمن لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقال: (فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، وفي رواية: (وإلا حارت عليه) قد جاء في ستة أحاديث في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذيره من التكفير، كتكفير المسلمين، وبالأخص العلماء، الذين ائتمنهم الله على الوحي، وجعلهم من ورثة الأنبياء، والله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وإذا اختار الله إنساناً ليأتمنه على وحيه، فهو غير مكره ولا عاجز، فاختياره لا بد أن يكون ذا دلالة. ومن هنا فعلى الإنسان أن يحترم أهل العلم وأن يوقرهم ولا يكفرهم، وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى قد ائتمنهم على الوحي، فلذلك عليه أن يحترمهم من هذا الوجه. والسائل هنا يسأل عن الإمام ابن تيمية رحمه الله، وليس معنى هذا أن أهل العلم معصومون، وأنهم لا يخطئون، بل يقعون في الخطأ كغيرهم، لكنهم أولى بالمغفرة، لما قدموه من الأعمال الصالحة، وما لهم من العلم والعمل. وأيضاً فإن خطأهم إنما كان عن اجتهاد في وسائل ليس فيها قاطع من الشرع، ولذلك فهم مأجورون فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإن اجتهد وأخطأ كان له أجر). وأما سجن العالم أو تعذيبه أو نحو ذلك في سبيل الحق فهو دليل على إخلاصه، وهو من سنة الأنبياء السابقين، فقد سجن يوسف عليه السلام وقتل عدد كبير من الأنبياء، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران:146 - 148]. و (استكانوا) بمعنى: ذلوا. هو يسأل عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو بعيد من الكفر، وهو أحد ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد علماء هذه الأمة ومحدثيها، بل قال الذهبي رحمه الله: كل حديث لم يروه ابن تيمية فليس بحديث. وهو من أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل قل في زمانه من يستطيع مناورته أو القرب منه في هذا المجال، فقد كان يندر في زمانه من هو في مستواه في العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن ليس معنى هذا أنه معصوم، بل هو بشر يخطئ ويصيب مثل غيره، وما أخطأ فيه فإنما أخطأ فيه عن اجتهاد، وهو معروف بالورع والتقوى، وما أصاب فيه فمن توفيق الله وفضله، وليس من عند نفسه.

التوبة من الطعن في أهل العلم

التوبة من الطعن في أهل العلم Q هل تجب التوبة على من طعن في العلماء؟ A نعم، فالذي طعن في العلماء عليه أن يبادر بالتوبة، وأن يستغفر الله تعالى، وأن يعلم أنه قد تعرض لسخط الله -نسأل الله السلامة والعافية- وكثيراً ما يكون هذا سبباً لتعصبه ضد الحق، ولعدم قبوله له.

الإمام الغزالي بشر يخطئ ويصيب

الإمام الغزالي بشر يخطئ ويصيب Q إني أعيش مشكلة حيرتني، فأنا أرى الكثير من العلماء ينتقد الإمام الغزالي، وبعضهم يبالغ في مدحه، فما هو الرأي الحق فيه؟ A الإمام الغزالي هو أحد علماء المسلمين، كما أشرنا عن ابن تيمية، فهو عالم من علماء المسلمين يخطئ ويصيب، وصوابه بفضل الله، وخطؤه من نفسه ومن الشيطان، وما أصاب فيه أكثر مما أخطأ فيه، وما أخطأ فيه لم يكن خطؤه فيه باتباع للهوى، وإنما كان بطلب للحق واجتهاد فهو معذور فيه. ومن هنا فعلينا أن نلتمس العذر للمسلمين، وبالأخص لخلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، الذين حملوا هذا العلم وأوصلوه إلينا، وأن نلتمس لهم العذر فيما أخطئوا فيه، ونعلم أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وطوبى لمن شغلته عيوب نفسه عن عيوب الناس.

رؤية ابن بطوطة لشيخ الإسلام ابن تيمية

رؤية ابن بطوطة لشيخ الإسلام ابن تيمية Q قرأنا في رحلة ابن بطوطة قوله إنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية، يخطب يوم الجمعة في جامع دمشق إلخ القصة؟ A بالنسبة لهذه القصة كلها مكذوبة، لأن مجيء ابن بطوطة إلى دمشق كان بعد موت ابن تيمية بقرابة عشرين سنة، فإذا كان رآه فقد رآه في النوم بعد موته بعشرين سنة.

حكم الزينة للمرأة

حكم الزينة للمرأة Q هل يجوز للمرأة أن تشتري بعض الزينة من الأساور والخواتم لتتزين بها؟ A نعم {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، وقد اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزينة لبنات أبي أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه. لكن يجب عليهن أن يسترن ما أوجب الله ستره، والله تعالى لم يحرم عليهن الزينة ولكن قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].

حكم صبغ المرأة لشعرها

حكم صبغ المرأة لشعرها Q هل يجوز للمرأة أن تصبغ رأسها وليس فيه شيب وإنما ذلك لزيادة شعرها وطوله؟ A إن الصبغ بالسواد قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جابر في صحيح مسلم، وقال: (جنبوه السواد) وعلى هذا فلا يحل الصبغ بالسواد مطلقاً لا للرجال ولا للنساء، سواء وجد الشيب أو لم يوجد. أما الصبغ بغير السواد فإن كان ذلك لمصلحة راجحة ولم يكن فيه محاولة تغيير خلق الله، كما يفعله بعض الناس بصبغ بعض الشعر بألوان تكون خلقة في بعض الشعوب، كصفرة الشعر ونحو ذلك، فهذا النوع مثل الوشر والوشم وغيره من التغيير الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والواشرات والمستوشرات، المغيرات خلق الله) فهذا من تغيير خلق الله الذي يأمر به الشيطان كما أخبر الله بذلك في كتابه. أما بالنسبة لجعل الحناء على الشعر فلا حرج فيه للرجال ولا للنساء، بل هو الخضاب الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله عدد كبير من أصحابه.

حكم مسح الرأس للوضوء مع تلبيده بالحناء

حكم مسح الرأس للوضوء مع تلبيده بالحناء Q هل يجوز للمرأة أن تمسح على رأسها للوضوء وهو ملبد بالحناء، بدون أن تزيله؟ A إذا كان هذا الحناء بثمن غال، فيجوز لها أن تمسح عليه، لئلا تتلف هذا المال بإزالته، وإذا كان ثمنه رخيصاً، واضطرت إلى الوضوء بأن ضاق الوقت، فلا بد أن تزيله عن رأسها وأن تمسح على رأسها بالمباشرة.

صلاة المنفرد خلف الصف

صلاة المنفرد خلف الصف Q ماذا يفعل من أتى إلى الصف ولم يجد فيه مكانا؟ A الإنسان مأمور بأن يصف مع المؤمنين كما تصف الملائكة عند ربها، فإذا وجد مكاناً في الصف فليصله (من وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله) فإن وجد طريقاً لأن يصف مع الإمام سواء كان عن يمينه أو عن شماله فله الحق في ذلك، لكن يكره أن يصف الناس مع الإمام فيكونون عن يمينه وشماله، وعند الحنابلة أن ذلك حرام. أما الانفراد خلف الصف فقد اختلف فيه، فذهب الحنابلة إلى بطلان الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والأصل في النهي أنه يقتضي الفساد، وقالوا: يجذب أحداً من الصف وعلى المجذوب أن ينجذب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لينوا في أيدي إخوانكم) وهذا يكون من التعاون على البر والتقوى، ومحله إن لم يكن المجذوب سيقطع الصف ويجعله فيه فرجة، وقال آخرون: لا يجذب أحداً. والمالكية رحمهم الله يرون أن النهي في الإنفراد خلف الصف على سبيل الكراهة لمن يستطيع أن يصف، أما من لا يستطيع أن يصف ووجد المسجد مغلقاً، ولا يستطيع أن يصل إلى الإمام ولم يجد إلا أن يصلي خلف الصف فليصل وراءه وصلاته صحيحة حينئذ إن شاء الله. وهذا القول هو الأقوى لمن لم يستطع أن يصف مع الإمام ولم يجد من ينجذب له، فما له إلا أن يصلي حيث وجد.

دخول وقت الصلاة

دخول وقت الصلاة Q هل لهذه المقولة أصل: (حتى لا يبقى شاك)؟! A هذا في الوقت ويقولها بعض الناس، ومعناها: أن على الناس أن ينتظروا حتى لا يبقى شاك في دخول الوقت، وهذه المقولة شيطانية، فهي من كلام الشيطان وليست من الوحي، وليست مما شرعه الله لعبادة، بل لا بد أن يبقى في الناس شاك أبداً، وإذا تتبعنا شك الشاكين والمرضى والموسوسين فلن نصلي الصلاة في وقتها أبداً. لكن من لطف الله سبحانه وتعالى أن جعل التقليد ممكناً في دخول الوقت، فإذا أذن المؤذن وكان عارفاً بالوقت فلنقلده في الوقت والعهدة عليه، ولذلك فصلاتنا صحيحة حتى لو كانت خارج الوقت إذا قلدنا من هو عالم بالوقت يعرفه. وكذلك صيامنا إذا قلدنا من يعرف الوقت فأفطرنا بأذانه، أو أمسكنا بأذانه، فصومنا صحيح ومجزئ قطعاً من الناحية الشرعية إلا إذا كان المقلد ليس محلاً لذلك؛ فليس من أهل العلم ولا يعرف الوقت، أو لم ينظر إليه، فهذا خطأ. والأصل في المسلمين العدالة، ومن لا تعرفه فالأصل فيه الستر، فإذا كنت لا تعرفه بشر فالأصل فيه الستر.

الرقية الشرعية

الرقية الشرعية Q في البادية يوجد بعض الناس لديهم ما يسمونه حكمة، لمن لدغته أفعى يقرؤها عليه ويمسحون مكان اللدغة حتى يذهب الألم، ويعود اللديغ كأنما نشط من عقال، وهم يعتبرونها سراً خاصاً بهم لا يجوز لهم أن يخبروا به غيرهم، ما مدى جواز ذلك؟ A إذا كان هذا بكتاب الله أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بالثناء على الله سبحانه وتعالى وذكر أسمائه وصفاته فهو من الرقى الجائزة، والناس فيها متفاوتون بحسب إيمانهم، وبحسب قوة يقينهم، وإذا كان هذا فيما لا يفهم معناه أو بالكلام الأعجمي؛ فهو محرم، وكثيراً ما يكون فيه الشرك، وإنما ينتفع به على يد أقذر الناس، وهو ضد الرقية الشرعية، فرقية الباطل إنما تجري على يد الفجرة الفسقة، لأنهم هم الذين يخدمهم الشياطين كما قال تعالى: {قل هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222]، وغالباً ما يكون هذا الشخص الذي يجري على مثل هذا كذاباً، أما الرقية الشرعية، فهي ما كان بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأسماء الله وصفاته والثناء عليه، ويتفاوت الناس فيها بحسب يقينهم وإيمانهم. وأما بالنسبة لكتمان الرقية الشرعية، فليس بمشروع، لأنها من تعليم الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعليمها، فقال للمرأة التي كانت تعلم حفصة (هلا رقية النملة) وأمرهم أن يعرضوا عليه رقى الجاهلية، فما كان منها خالياً من الشرك وفيه ثناء على الله أقره، وما كان منها متضمناً شركاً رده ورفضه.

السنة في تعليم القرآن

السنة في تعليم القرآن Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد في مسنده أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إني أقرأ القرآن؛ فلا أجد قلبي يعقل عليه، فقال: إن قلبك حشي القرآن وإن الإيمان يعطاه العبد قبل القرآن). A معنى هذا أن هذا الإنسان إنما أشرب القرآن فقرأ الكثير منه قبل أن يعرف معناه، وهذا مخالف لسنة تعلم القرآن، فسنة تعلم القرآن أن لا يقرأ الإنسان شيئاً منه حتى يعرف معناه وحتى يعمل به، فإذا حفظ القرآن كاملاً دون معرفة شيء من معناه فقلما يخشع به وقلما يبكي عند سماعه، ولذلك فالصبيان الذين يُحَفَّظُون القرآن كاملاً ويحفظونه على أنه ألغاز لا يفهمون معناها ولا يتدبرون شيئاً منه، قلَّما يستطيع أحد منهم بعد ذلك الخشوع بالقرآن، أو التأثر به تأثراً بالغاً، ولهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي: أخبرنا الذين كانوا يعلموننا القرآن من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم عثمان، وعلي وابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس، وأبي بن كعب. قالوا: ما كنا نقرأ عشر آيات فنتجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل. فهذه سنة تعلم القرآن.

ما يجب على المرأة من الطاعة لزوجها

ما يجب على المرأة من الطاعة لزوجها Q هل طاعة الزوج واجبة في كل الخدمات أم تقتصر الزوجة على طاعته بنفسها؟ A لا يلزم المرأة طاعة الزوج في كل الخدمات، بل يلزمها طاعته فيما يتعلق بالفراش، وعدم الخروج من البيت إلا بإذنه ونحو ذلك، أما الخدمة فهي راجعة إلى العرف والعادة، فإن اقتضت العادة خدمة معينة كانت من المعروف، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وإن لم تكن العادة مقتضية لذلك بأن كانت المرأة من مستوى أهله يُخدَمون ولا يَخدِمون، فلا تجب عليها الخدمة، فإن فعلت فهو تطوع منها ومعاشرة بالتي هي أحسن، وذلك فيه خير لا شك، وعلى هذا فكل ما يقتضي أُلفةً بين الزوجين واستمراراً لهذه العلاقة فهو مطلوب شرعاً، وعلى الزوجين ألا يتحاقا بينهما في كل الحقوق، وعلى كل واحد منهما ألا يقتصر فقط على الحق الواجب عليه، وأن يسامح في حقوقه إذا استطاع أن يؤدي ما زاد على الحقوق الواجبة؛ ليكون ذلك أدعى لاستمرار هذه العلاقة الشرعية.

الجمع بين النهي عن إسبال الثوب والأمر بعدم كف الشعر والثوب في الصلاة

الجمع بين النهي عن إسبال الثوب والأمر بعدم كف الشعر والثوب في الصلاة Q أريد التوضيح في الجمع بين النهي عن إسبال الثوب، و (أمرنا ألا نكف شعراً ولا ثوباً في الصلاة)؟ A الإسبال جاء النهي عنه مطلقاً، والنهي عن كف الكم والشعر في الصلاة؛ المقصود به: أن يحذر الإنسان في وقت سجوده من أن يسجد وثوبه أو شعره يلامس الأرض، فإنه بذلك سينصرف باله وقلبه عن الصلاة وينشغل بالحذر على ثوبه أو شعره من أن يمس التراب، والشعر والثوب يسجدان لله سبحانه وتعالى، فإذا سجدت فكل خيط من خيوط ملابسك وكل شعرة من شعرك تسجد معك لله سبحانه وتعالى، وأنت تثاب على كل ذلك بسجدة كاملة، وعلى هذا فالإنسان أمر أن لا يكف. أما الإسبال في حال القيام، فقد جاء فيه بعض النصوص، منها ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل سادلاً، والمقصود بالسدل الإسبال في الصلاة، وعقب أبو داود هذا الحديث بما يقتضي تضعيفه، فقال: جاء عن ابن جريج أنه قال: كنت كثيراً ما أرى عطاء بن أبي رباح سادلاً في الصلاة. قال أبو داود وهذا مما يضعف هذا الحديث. لكن جاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في الحرم يصلي مسبلاً، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، ولكن لا يقاس على هذا؛ لأنه راجع إلى الوحي، فقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم عرف عن طريق الوحي أن هذا الرجل فعل ذلك خيلاء، لذلك أمره بإعادة الوضوء، ولكن الإسبال غير ناقض للوضوء، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر هذا الرجل بخصوصه أن يعيد الوضوء والصلاة. والأرجح في هذه المسألة أن الإنسان في حال القيام ليس له أن يسبل مطلقاً، أما في السجود فليس له أن يكف شيئاً من ثوبه ولا من شعره عن الأرض.

النوافل أوقاتها وعدد ركعاتها

النوافل أوقاتها وعدد ركعاتها Q أريد تفصيلاً حول النوافل الراتبة وما يقرأ في كل منها، والقول الأرجح في عددها وعدد ركعاتها؟ A الرواتب هي سي الفرائضِ. والسيّ هو ما يظهر في الضرع قبل أن ينزل فيه اللبن، فالذي ينزل على فم الفصيل عندما يرضع قبل أن تدر أمه هو الذي يسمى بالسي. ويسمى بالسيء أيضاً، وقد جاء في حديث ضعيف سيوا صلاتكم أو سيئوا صلاتكم فإن كثرة السي تدل على قوة الحشك، أي: تمام الدرار. فإذا كانت الفريضة محوطة بسياج من النوافل قبلها وبعدها إذا كان ما بعدها وقت إباحة، أو كان ما قبلها وقت إباحة فإن ذلك مما يكمل الفريضة ويقتضي من الإنسان إقبالاً عليها، لأن الإنسان يتطهر بالصلاة، ولذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة (النهر الجاري على باب أحدكم ينغمس فيه في اليوم والليلة خمس مرات، فهل ترون يبقى من درنه شيء) فكذلك النافلة يتطهر بها الإنسان للفريضة. ولذلك فالنوافل الراتبة هي: ركعتان قبل صلاة الفجر خفيفتان، ولم يرد تعيين شيء في السور التي يقرأ بها في هاتين الركعتين، لكن ورد الحض عليهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم (ركعتا الفجر؛ خير من الدنيا وما فيها). وأخرج أبو داود في السنن بإسناد ضعيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلوهما ولو طردتكم الخيل) وبالغ في الأمر بهما والحض عليهما ولذلك سميا بالرغيبة، أي رغب فيهما الشارع ترغيباً شديداً، فأما بعد الفجر فلا نافلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب. ثم بعد هذا من الرواتب: أربع قبل الظهر، واثنتان بعدها أو أربع، وكل ذلك وارد، وراتبه الظهر سواء كانت قبلية أو بعديه تسن في المسجد كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها، أما ركعتا الفجر فكان يصليهما في بيته، ولم يكن يصليهما في المسجد، وكذلك قبل العصر ورد ركعتان كما في حديث ابن عمر في الصحيحين وفي حديث ميمونة كذلك، وقد واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما في المسجد. وورد أربع ركعات في حديث أخرجه الترمذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً) وهذا الحديث فيه لين، لكن مع ذلك عمل به كثير من أهل العلم وحتى الترمذي وغيره، ثم بعد هذا لا راتبة بعد العصر، لأن الوقت وقت نهي كما بينا. أما المغرب فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين ثم قال في الثالثة: لمن شاء)، فاختلف العلماء في حكم هاتين الركعتين، فذهب الشافعي إلى ندبهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هذا الأمر، والأمر ليس للوجوب بل هو مقتضٍ للندب، وذهب مالك رحمه الله إلى الكراهة فيهما، لأنه قال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب ركعتين) في البداية ليس للوجوب لأنه قال: (خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة)، ولأن الله قال له ليلة المعراج: (هن خمس وهن خمسون ما يبدل القول لدي). وعلى هذا فلن تزيد الفرائض على الخمس، فلما قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين) كان للندب فقط، ثم قال بعده: (لمن شاء) فنزل عن الندب، وإذا نزلت الصلاة عن الندب، فإنها لا تصل إلى الإباحة المستوية الطرفين؛ لأن العبادة لا تكون مباحه، فلن يبقى إلا أن تصل إلى الكراهة فقط، ومع ذلك فقد صلاهما مالك رحمه الله ذات يوم، فقد كان واقفاً في المسجد فجاء طفل صغير فقال: يا أبا عبد الله! ألا تركع، فأحرم مالك وركع، فلما سلم اجتمع الناس عليه وقالوا: يا أبا عبد الله! لقد ركعت هاتين الركعتين، وما رأيناك ولا أحداً من ولدك يركعهما، فقال: خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. لقد أمره هذا الصبي الصغير أن يركعهما. كذلك فإن أحمد بن حنبل رحمه الله كره المواظبة عليهما، وقد صلاهما مرة حين روى الحديث. ثم بعد المغرب ركعتان وهما من آكد الرواتب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما في بيته كما في حديث ابن عمر، وقد ذهب الشافعية إلى كراهة صلاتهما في المسجد، بل ذهب بعضهم إلى أن صلاتهما في المسجد معصية، لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على صلاتهما في بيته. وكذلك ركعتان خفيفتان بعد العشاء إذا رجع الإنسان إلى بيته بعد صلاة العشاء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع ركعتين خفيفتين، وربما أخرهما فافتتح بهما صلاة الليل، فقد كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين قبل أن يصلي أربعاً طوالاً، لذلك جاء في حديث عائشة في وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان يصلي ركعتين خفيفتين، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يركع)، وفي حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى)، وفي رواية الموطأ: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، فهذا الأصل في النوافل، لكن مع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع تسعاً بسلام واحد، وجمع سبعاً بسلام واحد، وجمع خمساً بسلام واحد، وجمع ثلاثاً بسلام واحد، وهذا وتر النبي صلى الله عليه وسلم، أوتر بواحدة، وأوتر بثلاث، وأوتر بخمس، وأوتر بسبع، وأوتر بتسع، وكذلك جمع بين أربع بسلام واحد، وكل هذا على الجواز. فهذه هي الرواتب، ويضاف إليها غيرها من النوافل، وهي مثلاً: قيام الليل، وهو ما تيسر مطلقاً، وليس محدداً بعدد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل أو إحدى عشرة ركعة، وكذلك صلاة الضحى التي حض عليها النبي صلى الله عليه وسلم حضاً بالغاً، وأكثرها ثمان، وأقلها أربع أو اثنتان، وهما ركعتا الشروق، واثنتان وقت ارتفاع الشمس، وهي صلاة الأوابين حين ترمض الفصال فيكون الجميع أربعاً، وأوسطها ست، فهذه هي أهم النوافل. أما قضاء النافلة في غير وقتها فقد جاء فيه أن رجلاً من الأنصار صلى بعد صلاة الفجر فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يافلان: ماذا تصلي؟ فقال: ركعتا الفجر شغلت عنهما بالصلاة فسكت)، وهذا معارض لحديث ابن عباس في الصحيحين أنه قال: (شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر بن الخطاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب) ولذلك فإن المالكية والحنفية تركوا حديث ابن عباس على إطلاقه حين عملوا بالترجيح قبل الجمع، وذهب الشافعي وأحمد إلى الجمع قبل الترجيح، فرأيا إخراج ذوات الأسباب من حديث ابن عباس قياساً على ركعتي الفجر، والاحتياط أن يؤخر الإنسان الصلاة حتى ترتفع الشمس؛ لأن في الباب أحاديث أخرى كحديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وحديث ابن عمر في الساعات التي نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها، أو أن نقبر فيها أمواتنا. أما إذا جاء الإنسان بعد أن صلى الرغيبة فدخل المسجد فقد جاء في حديث أخرجه الدارقطني في السنن، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتيه -وفي رواية- إلا ركعتين) لكن الحديث فيه ضعف، ومع ذلك فقد عمل به بعض العلماء، فرأوا كراهة الصلاة بعد صلاة الرغيبة، لكن إذا جاء الإنسان قبل الصلاة ووجد الناس ينتظرون الصلاة، فلابد أن يحيي المسجد لحديث أبي هريرة: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).

جواز خروج المرأة للبيع والشراء في العدة

جواز خروج المرأة للبيع والشراء في العدة Q هل يجوز للمرأة إذا كانت في العدة أن تمارس التجارة وتمارس الذهاب إلى السوق؟ وهل يجوز لها الكلام مع الأجانب؟ A يجوز لها كل ذلك, ولكن يجب عليها أن تبيت في مكانها، ويحل لها الخروج لحاجاتها طرفي النهار لكن لا بد أن تسكن في مكانها، لقول الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1]. وأما الكلام مع الأجانب فيجوز لها منه ما كان يجوز لها قبل أن تكون في عدتها، ولم يحرم عليها بطلاقها أو بموت زوجها من الكلام مع الأجانب شيء إلا ما كان حراماً عليها من قبل، فخلطة الأجانب كانت محرمة عليها في كل ما كان فيه ريبة، لكن مخالطتهم بالبيع والشراء دون ريبة كانت تجوز لها في حياة زوجها، وهي زوجة قبل طلاقها، ولم يطرأ عليها شيء بعدتها.

حكم مسح العين بالريق عند قول المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله

حكم مسح العين بالريق عند قول المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله Q عندما قال المؤذن: محمد رسول الله، رأيت رجلاً بل إبهامه وسبابته بالريق ومسح بهما على عينيه، ورأيته لما قال المؤذن: لا إله إلا الله، تفل في يده اليمنى ومسح على رأسه، فهل لهذا أصل أم هو بدعة؟ A هذا لا أصل له، وإنما يعتمد فيه الناس على رؤيا رآها رجل في النوم، وهذه المرائي تسر ولا تغر، ولا يمكن أن تؤخذ منها الأحكام، ولا أن يعتمد عليها في مثل هذا، فعلى الناس أن يتركوا هذا، وأن لا يفعلوه، لأنه لو كان خيراً لجاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن قاعدتنا الشرعية: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)، وهي ضد قاعدة الكفار الذين قالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] فنحن نقول: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)، وكل خير لم يسبقنا إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس خيراً، وكل عمل لم يسبقنا إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس خيراً، وكذلك الذي يبصق في يده ويمسح على رأسه، فلا دليل على هذا، ولا ينبغي أن يفعل.

توجيه لمن أراد أن يكون عالما

توجيه لمن أراد أن يكون عالماً Q كيف أكون عالماً، أريد التوجيه منكم والنصيحة، وأريد أن تدلوني على الطريق الذي أصير به عالماً من علماء السنة؟ A لقد دل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق العلم، فيما أخرج عنه البخاري تعليقاً في الصحيح، وأخرجه ابن أبي عاصم النبيل في السنة متصلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)، فمن أراد أن يكون عالماً؛ فلا بد أن يتعلم، ولذلك فالعلم خمس رتب: فالرتبة الأولى: إحسان الاستماع له؛ أن يملك الإنسان سمعه عند العلم حتى يستمع إليه. الثانية: الفهم لما يسمع. الثالثة: العمل بما سمعه وفهمه. المرتبة الرابعة: الحفظ لما سمعه وفهمه وعمل به. المرتبة الخامسة: النشر لذلك وتعليمه. فهذه خمس مراتب بها يكون الإنسان عالماً، فمن لم يعمل بواحدة منها لم ينل هذه المرتبة.

حكم عيادة المرأة للمريض الأجنبي

حكم عيادة المرأة للمريض الأجنبي Q هل يجوز للمرأة عيادة المريض إذا كان أجنبياً؟ A نعم، يجوز لها أن تعوده، وقد أخرج البخاري في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها عادت بلال بن رباح رضي الله عنه في مرضه في الهجرة، وعقد البخاري على هذا باباً لعيادة المرأة للأجنبي، لكن عيادتها هي أن تقول له: كيف تجدك؟ كما قالت عائشة لـ بلال رضي الله عنهما، فيجوز للمرأة عيادة الأجنبي، لكنها لا تمس جسده، وإنما تقول له كيف تجدك، وتدعو له، وهذه هي فائدة العيادة: أن يدعو الإنسان للمريض، وأن يخفف عنه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في عيادته، فيقول: (لا بأس طهور)، ويذكر الإنسان بأجر الصبر والبلاء، ويخفف عنه بذلك، وهذا لا خلاف فيه، ولا خلاف في جواز عيادة المرأة للمريض الأجنبي، وكذلك عيادة الرجل للأجنبية من الأمور الجائزة، فيعودها لكن لا يرى ما لا يجوز له رؤيته، ولا يسمع إلا ما يجوز له سماعه، بل يأتي ويسلم ويقول: كيف تيكم؟ أو كيف حالها؟ أو كيف أنت؟ ويدعو لها أيضاً، ويخفف عنها.

قراءة الفاتحة للمأموم

قراءة الفاتحة للمأموم Q هل الأفضل بعد انتهاء الإمام من قراءة الفاتحة جهراً أن يقرأ المأموم أم الأفضل له أن يسكت؟ A الأحوط للمأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) فالأحوط للمأموم أن يقرأ الفاتحة لكن عليه أن يقرأ بها في نفسه، كما أخرج مالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال (اقرأ بها في نفسك يا فارسي) فعلى الإنسان أن يقرأ بها احتياطاً، فإن سكت الإمام فبها ونعمت، وإذا لم يسكت فليبادر الإنسان ليقرأ الفاتحة، لذلك قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: إن للإمام ثلاث سكتات فاجتهد أن تقرأ فيها الفاتحة، أو أن تكمل فيها الفاتحة، والسكتة الأولى بعد الإحرام قبل القراءة، والثانية بعد الفاتحة قبل السورة، والثالثة بعد السورة قبل الركوع. ولا إشكال بالنسبة للمأموم فإنه لا يقرأ السورة، وإنما يقرأ الفاتحة فقط، لكن يقرأ بها في نفسه، وهو بهذا لن يفوت الإنصات؛ لأنه أنصت للفاتحة، وأنصت لما أدرك من السورة أيضاً. أما بالنسبة لحكم هذه السكتات فإنها غير واجبة، بل السكتة بعد الفاتحة لا نعلم فيها شيئاً مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي من هدي الصحابة والخلفاء الراشدين، فقد كانوا يفعلونها.

من أدرك الثانية والإمام في القنوت

من أدرك الثانية والإمام في القنوت Q من أدرك الركعة الثانية من الصبح ووجد الإمام يقرأ القنوت فهل يقرؤه معه أم يقرأ الفاتحة؟ أم ماذا يفعل؟ A يجب عليه أن يقرأ الفاتحة؛ لأن الإمام حينئذ لا يقرأ القرآن وإنما أمر المأموم بالإنصات للقرآن فقط، لقوله تعالى: {إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، وقد أجمع أهل التفسير أن المقصود بذلك ما كان في الصلاة. وبالنسبة للقنوت نفسه فليس واجباً والحمد لله، وإنما اختلف في حكمه، فيرى الشافعي سنيته، وأن من تركه لزمه السجود، ويرى المالكية سنيته، وأن من تركه لا يلزمه السجود، ويرى الحنابلة والحنفية مشروعيته عند الحاجة فقط وعدم مشروعيته في غير ذلك.

حكم قول: ما شاءت الأقدار

حكم قول: ما شاءت الأقدار Q ما حكم الكلمات الشائعة، وهل لها أصل شرعي وهي: (ما شاءت الأقدار)، (فوافق القدر)؟ A إن القدر لا يشاء، وإنما يشاء الله سبحانه وتعالى، فالقدر صفة من صفات الله سبحانه وتعالى فينبغي للإنسان أن يتأدب بالأدب الشرعي، وأن يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، كما أمر الله بذلك، وكما حكاه الله في كتابه، وكما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا ما يقوله بعض الناس: يقول القرآن، أو قال القرآن، فالقران قول وليس قائلاً، فعليه أن يقول: قال الله أو يقول الله، ولا يقول: قال القرآن، وأما القسم بالقرآن فجائز لأن القرآن كلام الله.

حكم قول: سمحت الظروف ولم تسمح

حكم قول: سمحت الظروف ولم تسمح Q حكم قول: سمحت الظروف أو لم تسمح الظروف؟ A قول: شاءت الظروف وسمحت الظروف مما لا ينبغي، لأن الظروف هي الأزمنة. والزمان كان أهل الجاهلية يطلقونه على قدر الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر) فنهى عن سب الدهر؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يطلقونه على القدر، فلهذا لا ينبغي للإنسان أن يأخذ بعادة من عادات أهل الجاهلية.

النهي عن سب الدهر

النهي عن سب الدهر Q لماذا نهى الشرع عن سب الدهر؟ A النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تسبوا الدهر) والمقصود به: القدر؛ لأن الناس إذا قالوا: هذا الدهر سيء، أو مكائد هذا الدهر عجيبة، وبدءوا يسبون الدهر، فإنهم يصلون بذلك إلى الاعتراض على قدر الله وقضائه.

حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد تلاوة القرآن

حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد تلاوة القرآن Q ما حكم كلمة (صدق الله العظيم) بعد تلاوة القرآن؟ A هذه الكلمة إذا كانت بعد خبر، فإنها مطلوبة من الإنسان، لقول الله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] أما إذا كانت بعد أمر، أو إنشاء فلا تطلب لأن الأمر لا يحتمل الصدق والكذب، فإذا كان القارئ يقرأ قصة من قصص القرآن، أو خبراً من أخبار الله سبحانه وتعالى التي أخبر بها، فله أن يقول بعدها: (صدق الله العظيم). أما إذا قرأ أمراً: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فقال: (صدق الله العظيم)، فهذا ليس محتملاً للتصديق أصلاً. فإذاً لابد أن يفرق الإنسان بين المقروء، فإن كان خبراً صدقه وشرط عليه ذلك ولزمه. وإن كان إنشاء، فالإنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب أصلاً. فلا يشرع بعده أن يقول: صدق.

الحكم بصحة مؤلفات رشيد رضا

الحكم بصحة مؤلفات رشيد رضا Q ما هي صحة الكتب التالية للشيخ رشيد رضا: محمد رسول الله، وأبو بكر الصديق، وسيرة عمر، وسيرة عثمان، وسيرة علي؟ A بالنسبة لهذه الكتب كلها يؤخذ منها ويرد، ولا يمكن أن يحكم على كتاب بأن كل ما فيه خطأ وباطل، ولا أنه صواب؛ لأن الشافعي رحمه الله حين ألف الرسالة سلمها إلى الربيع بن سليمان المرادي، فقال: يا ربيع خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قال: قلت: يا أبا عبد الله! أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] أبى الله العصمة إلا لكتابه، وكل الكتب غير كتاب الله لابد أن يكون فيها شيء من الأخطاء.

حكم الأخذ بما في تفسير الصاوي وتفسير الخازن من شطحات وإسرائيليات

حكم الأخذ بما في تفسير الصاوي وتفسير الخازن من شطحات وإسرائيليات Q ما حكم اعتماد ما في تفسير الصاوي والخازن من شطحات وإسرائيليات؟ A الصاوي ليس له تفسير مستقل، إنما له حاشية على تفسير الجلالين، وهذه الحاشية إنما هي منطبعة بتخصصه هو، وقد كان رحمه الله موغلاً في التصوف، وفي ثقافة أهل زمانه، ولذلك أتى بشطحات كثيرة، وبأمور مخالفه، حتى رد بعض الأحاديث الصحيحة بمجرد عادات، فلذلك لا يؤخذ بما خالف الشرع مما أتى به، ويلتمس له هو العذر، ويستغفر له مثل غيره من علماء المسلمين، ونسأل الله أن يغفر لهم أجمعين. كذلك بالنسبة لتفسير الخازن مثله، إلا أن الخازن رحمه الله، حاول جمع الكثير من قصص الإسرائيليات اعتماداً على أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فأتى بكثير من قصص بني إسرائيل، وبعضها مخالف قطعاً، ولا ينبغي الإتيان به، مثل: أن الشجرة كانت تأكل منها الملائكة، ونحو ذلك من الأمور التي يستنكرها العقل وتخالف الشرع بالكلية، فهذا النوع من الحكايات ينبغي أن تنزه عنه الكتب، ولذلك قال القرطبي رحمه الله في مقدمة تفسيره: أنه خلص كتابه من الإسرائيليات التي تخالف الوحي والعقل.

العمل الصالح طريق إلى الجنة

العمل الصالح طريق إلى الجنة Q { أنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) السؤال: عن الجمع بين النصوص؟ A أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) والمقصود هنا بقوله: (بعمله) أي: في مقابل عمله، والنصوص الواردة في أن الجنة جزاء بما كانوا يعملون، ونحو ذلك في القرآن كثير، والمقصود: بسبب ما كانوا يعملون. فالباء في الآيات سببية، والباء في الحديث جزائية بدلية، فبينهما فرق كبير من ناحية المعنى، فالجنة لا يستحقها الإنسان بالعمل، لأن العمل مقابل للنعمة. وانظر هل تستطيع أن تعوض نعمة واحدة من نعم الله عليك بعملك؟! نعمة الإيمان وحدها نعمة الجوارح نعمة التوفيق للعبادة، فأنت لا يمكن أن تعبده إلا إذا أنعم عليك بالتوفيق لذلك، وإذا أعانك على تلك العبادة، فلن تستحق الجنة أبداً بعملك، لكن طريق الجنة وسبب دخولها هو هذا العمل: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) فالعمل سبب لدخول الجنة وليس بدلاً للجنة؛ لأنه ناشئ من النعم.

القول بدوران الأرض

القول بدوران الأرض Q ما هو رأي أهل السنة في دوران الأرض، وما يترتب على ذلك من حساب للزمن وقياسات هندسية أرضية ومائية؟ A هذه المسألة ليس فيها نص من كتاب ولا من سنة صريح، لا نص مثبت ولا نص معارض، وإنما يفهم من بعض النصوص دوران الأرض، كقول الله تعالى بعد أن ذكر الأرض وغيرها من الكواكب: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] وكذلك قال: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ َ} [النحل:15]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:30 - 31] فمعناه: أن من طبعها الميدان، ,وأنها قابلة لذلك، لكن هذا من دلالات تفهم فقط وليس من النص، ومن هنا فلم يرد في القرآن نص على كروية الأرض ولا على دورانها ولا في السنة، بل هذا من الأمور العادية ينظر فيها إلى ما أثبتته العادة، فإن أثبتت شيئاً في ذلك أخذ به، ولا منافاة بينه وبين النص، وإن لم تثبته فلا حرج؛ لأنه ليس مما يجب الإيمان به وليس مما يتوقف عليه شيء يتعلق بالدين، ونفس الشيء بالنسبة للشمس، أخبر الله أنها تجري لمستقر لها.

حكم مصافحة النساء الأجنبيات

حكم مصافحة النساء الأجنبيات Q هل توجد رخصة لإخراج النساء المسئولات في الدولة عن دائرة الإثم المترتب على مصافحة الضيوف، وكذلك بالنسبة للمسئولين في مصافحة الضيوف من النساء؟ A إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ويقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ} [النور:31] فمخالطة الأجانب أعظمها مخالطة الفروج، وأدناها مخالطة البصر، وقد حرم الله الطرفين، فدل هذا على تحريم ما بينهما. وهذا ليس من القياس وإنما هو من مفهوم الموافقة، ومفهوم الموافقة هو أن يكون المسكوت عنه موافقاً للحكم، وأن يكون أولى بالحكم منه، فالمصافحة أولى بالتحريم من مجرد النظر، فإذا كان النهي عن النظر نصياً في القرآن، فالمصافحة أولى منه بذلك، ولذلك قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وهذا أدنى شيء في مخالطة النساء: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وهذا أعلى شيء في مخالطة النساء، فذكر الحدين وذكرهما مقتض لتحريم ما بينهما، فلذلك تحرم المصافحة مطلقاً، وهذا نص بين، ولا يحل استباحته بالوظيفة، لأن الوظيفة ليست إلجاء ولا ضرورة، بل ليس الإنسان مضطراً لأن يعمل في هذه الوظيفة أصلاً، فيمكن أن يعيش بالاحتطاب، ويمكن أن يعيش بالبيع والشراء، ويمكن أن يكتسب مما جعل الله في الأرض من أنواع المعايش التي يعيش منها الناس. والشيطان هو الذي يخيل للإنسان أنه مضطر لمثل هذا، وأعرف أحد العلماء كان وزيراً فكان إذا اضطر لمصافحة الكفار الرجال لا يصافحهم إلا بشماله، وفي لقاءات مع بعض الرؤساء الكبار، كان يظهر كأنه يأخذ شيئاً في فمه بيمينه ثم يصافحهم بشماله، فكان أصحاب التشريفات يسألون: هل هو محب للشيكولاته، أو (للعلكة)، لأنه يمسك بيمينه شيئاً كأنه يخرجه من فمه، ويصافح الرئيس بشماله، وذلك أن الشمال هي التي جعلها الله تعالى للقذر، والكفار قذر، فلا يصافحهم إلا بشماله، ومع ذلك مكث في الوظيفة فترة طويلة حتى تركها ولم يصافح قط كافراً بيمينه، ولم يصافح امرأة قط ولا اقترب من ذلك، وما اضطر إلى شيء ولا نقصه أي شيء في هذا.

الاختلاف في القبض والسدل في الصلاة

الاختلاف في القبض والسدل في الصلاة Q ما قول المالكية في القبض -الضم- والسدل في الصلاة، وما هي أدلتهم في هذا؟ A قبض اليدين هو جعل اليد اليسرى على الصدر وإمساكها باليمين، وجعلها فوقها، وهذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصلاة، وقد وردت فيه ثمانية أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما السدل فهو إرسال اليدين إلى الجنبين، وهذا لم يرد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، لكنه ثبت عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فيما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح، وثبت كذلك عن عدد من التابعين منهم: سعيد بن المسيب، وعكرمة عن ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة بن دعامة، ومحمد بن كعب القرظي. ولذلك اختلفت الرواية عن مالك رحمه الله، فقد وجد كثيراً من علماء المدينة على السدل، لأن سعيد بن المسيب وهو إمام التابعين في المدينة، كان يسدل يديه، وكذلك عكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو العالية، وكذلك ما ثبت عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو عبد الله بن الزبير بن العوام. الرواية المشهورة عن مالك، التي رواها أصحابه جميعاً، هي رواية القبض، وهي التي ذكرها في الموطأ، وهي الأقوى دليلاً لأنها يعضدها ثمانية أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما الرواية الأخرى وهي السدل، فقد رواها عنه ابن القاسم في المدونة، واشتهرت لأن المدونة أشهر كتب المالكية، ومع ذلك فلم يكن ابن القاسم في حكايتها صريحاً بل أتى بها في باب الاعتماد والاتكاء في الصلاة، قال: وسألته عن الرجل يجعل يمينه على شماله على صدره أو على نحره في الصلاة، فقال: لا أعرفه، وهذا في باب الاعتماد والاتكاء في الصلاة، ولذلك اختلف المتأخرون في تأويل ما ذكره ابن القاسم في المدونة، لأن ابن القاسم روى في الموطأ عن مالك القبض، وكذلك كل أصحاب مالك، وقد روى عنه الموطأ تسعمائة رجل، وكلهم رووا عنه القبض. فالذي يريد أن يتجاهل السدل بالكلية، يقول: ما قصد ابن القاسم هنا سدل اليدين في مقام القبض، وإنما أتى به في باب الاعتماد والاتكاء في الصلاة، وهذا في الواقع غلط، لأنه لا شك في أن بعض أهل المدينة كانوا يسدلون قبل مالك، ولا شك أن السدل كان معروفاً في المدينة في أيام التابعين، فلهذا أرى أن الأمر اختلفت فيه الرواية عن مالك بسبب الاختلاف الوارد عن السلف، وقد كان مالك رحمه الله يحب العمل، فيعرض النصوص على العمل لأن العمل هو معيار النسخ، ولذلك تردد مرة فرأى السدل، ورواه عنه ابن القاسم. وأما ما أخرجه مالك في كتابه الذي لم يضع فيه شيئاً حتى يستخير الله فيه، وكان كلما شك في شيء أنقصه، فهو القبض، فقد أخرجه في موطئه وقال: ماكان لله فسيبقى، ولهذا فهو أقدم كتاب لدى المسلمين اليوم، وقد اعتنى به مالك عناية شديدة، وكل ما شك فيه حذفه منه، وقد بقي فيه القبض إلى زماننا هذا يحفظه الناس. وحديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه فيه القبض، وكذلك حديث مالك بن الحويرث وكذلك حديث جابر، وحديث أبي وائل، وكذلك حديث ابن مسعود في جعل يده اليسرى على يده اليمنى فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث في هذا ثمانية صحيحة. أما رواية مالك لحديث القبض فإنما أخرجه من رواية أبي أمية عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو رجل ضعيف، لكنه غر مالكاً بحسن صلاته، ولم يرو مالك في الموطأ عن ضعيف إلا هذا الرجل، وجميع أحاديث القبض صحيحة ليس فيها كلام، وإنما تُكلم فقط في الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق وقد روي من غير طريقه وهو صحيح من غير هذا الوجه.

الضمان على سائق السيارة دون مالكها والتأمين حرام

الضمان على سائق السيارة دون مالكها والتأمين حرام Q رجل له سيارة نقل وسلمها إلى سائق أجير يعمل فيها، واصطدمت بسيارة أخرى ومات السائق، أو انقلبت به فمات السائق، فعلى من تكون الجناية؟ وهل دية السائق تلزم مالك السيارة أو لا؟ وهل هناك ما يتعلق بالتأمين؟ A هذا السائق جنى على نفسه فديته على عاقلته هو وبني عمه، وليست على مالك السيارة ولا على عاقلة مالك السيارة، وإنما مات هذا الرجل خطأً، ولا هدر في الإسلام؛ فديته على عاقلته. وأما صاحب السيارة فليس عليه ضمان في شيء مما يحصل؛ سواء بموت الأشخاص أو بما أتلفته من غير ذلك، فهو غير مسئول عن شيء من ذلك أصلاً، لأنه ليس هو المتصرف إنما المتصرف السائق، فكل ما أتلف فجنايته خطأ على عاقلة السائق. أما التأمين فقد سبق السؤال عنه على هذا المنبر، وذكرنا حرمته وأنه لا يتوقف عليه أي شيء شرعاً، وأن الله سبحانه وتعالى بين أقدس المبادئ القانونية وأقدمها في قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:36 - 41] وأن التأمين ظلم سافر، لقول الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {قالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79]. فلذلك هو ظلم بنص القرآن، وهو مخالف لهذه القاعدة التي هي: شخصية الجريمة، والتي هي أقدس المبادئ القانونية وأقدمها شرعاً، وهي منزلة على إبراهيم وموسى. كذلك هو مقتض لجراءة الناس على الإتلاف والتعدي، فلهذا إذا اضطر الإنسان إليه فليجعله من باب الإكراه ولا يتوقف عليه أي شيء، ولا يأخذ شيئاً من شركة التأمين، ولا بينه وبينها أي علاقة، والرجل إذا جنى هو فجنايته على نفسه إذا كان متعمداً، أو على عاقلته إذا كانت جنايته خطأ. وكذلك إذا حصلت حوادث وأصيب أناس فعلاجهم إذا كانت الجناية واقعة بالخطأ من السائق على عاقلته وليس على مالك السيارة منها شيء.

حكم الخروج بالعباءات المزركشة للنساء

حكم الخروج بالعباءات المزركشة للنساء Q ما حكم العباءات النسوية المزركشة المزخرفة والخروج بها، وهل ذلك من التبرج؟ A لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم النساء إذا خرجن إلى المساجد أو خرجن لحوائجهن أن يخرجن غير متعطرات ولا متزينات، بل قال (وليخرجن إذا خرجن تفلات)، وقال: (أيما امرأة تعطرت وخرجت من بيتها فهي زانية) وعلى هذا فلا يحل للمرأة أن تلبس لباس الزينة فتخرج به، والعباءات المزركشة المزينة إذا كانت زينة واضحة بارزة فهي داخلة في قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] فلا يحل لها إظهارها، إلا إذا كانت الزركشة والزخرفة شيئاً يسيراً لا يؤبه له، أو كان مما جرت به العادة فلم يعد زينة لدى الناس، أما إذا كان ذلك مما يتزين به فلا يحل لها الخروج به.

حكم لبس المرأة للثياب الملونة

حكم لبس المرأة للثياب الملونة Q ماحكم اللباس الملون للمرأة؟ وهل صحيح أنه ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أن اللباس الملون من التبرج؟ A جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]. قال: كن يلبسن الرقيق الملون من الثياب، فليس التلوين وحده منهي عنه وإنما هو منهي عنه إذا كان معه الرقة التي تشف عما تحتها، فإذا حصلت الرقة فهذا هو التبرج، سواء حصل التلوين أو لم يحصل. وقوله: (الملونة من الثياب)، هذا من باب حكاية الحال لما كان عليه نساء الجاهلية ولا يقتضي ذلك تحريم التلوين في حد ذاته، بل لباس المرأة يجوز في كل لون على الراجح، وقد ذهب ابن القيم رحمه الله إلى حرمة لبس الحمرة بالنسبة للنساء، واعتمد في ذلك على أحاديث، لكن لا أرى هذا الذي ذهب إليه، فلا أرى تحريم التلوين في الثياب، لكن ما كان منها زينة لافتاً للانتباه مقتضياً لأن يتابعه الإنسان ببصره، فهذا يحرم على المرأة الخروج فيه من بيتها، وما كان معتاداً كالألوان المعتادة عند الناس التي لا تقتضي لفت انتباه أو متابعة نظر، فلا حرج في الخروج بها. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله استخلفنا الله عز وجل على الأموال التي بين أيدينا، وحثنا سبحانه على الإنفاق في سبيله، وبين لنا حقارة هذه الحياة الدنيا، حتى لا نغتر بزينتها، فمن يوق شح نفسه، وينفق مما آتاه الله؛ فهو من المفلحين.

مسائل في الإنفاق في سبيل الله

مسائل في الإنفاق في سبيل الله

الحكمة من الأمر بالإنفاق في سبيل الله

الحكمة من الأمر بالإنفاق في سبيل الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل التكليف امتحاناً لبني آدم، وجعل رضاه فيما كان مخالفاً للهوى، فللإنسان هوىً يدعوه إلى الانسياق وراءه، فمن انساق وراءه لم ينجح في أي امتحان، ومن خالف هواه فإن الله وعده على ذلك بالجنة. وإن من أبلغ الامتحانات التي امتحن الله بها عباده مما يخالف الهوى: إنفاق المال في سبيل الله؛ وذلك أن الناس يقولون: المال شقيق النفس، ويظنون أن بقاءها مشروط ببقاء المال بأيديهم، ولا ينالونه في الغالب إلا بجهد ومشقة وعنت؛ فلذلك كان إنفاقهم امتحاناً شاقاً، قل من ينجح فيه من الناس؛ لكن الله سبحانه وتعالى بايع عباده المؤمنين على ما آتاهم من الأنفس والأموال بيعة أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، ودعاهم سبحانه وتعالى إلى التجارة الرابحة معه فيما آتاهم من الأموال، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11]، وبدأ هنا بالأموال قبل الأنفس. وكذلك فإنه سبحانه وتعالى عندما دعا الناس إلى الإنفاق في سبيله، علم مشقة ذلك على النفوس، ومخالفته للهوى، فرتب عليه من الأجور الشيء الكثير، فجعل النفقة مضاعفة إلى سبعمائة ضعف كما في سورة البقرة.

نحن مستخلفون على الأموال وليست لنا حقيقة

نحن مستخلفون على الأموال وليست لنا حقيقة قال الله تعالى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:36 - 37]. ثم أكد بعد ذلك على الإنفاق فقال: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقد عطف الله سبحانه وتعالى هذا الامتحان على الامتحان بالإيمان، فقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]. وهذه الآية فيها تلميح عجيب!! بيّن الله فيه: أن كل ما في هذه الدنيا من الأموال والمنافع هو من الخلق الذي خلقه الله في الأيام الأولى من خلق العالم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10]، فكل أقوات الأرض وما فيها من الأموال والمنافع، كانت قد خلقت في الأيام الأولى من خلق العالم، فلم تنقص بعد ذلك، فما يأكله الناس منها راجع إلى الأرض، يخلفه الله سبحانه وتعالى فيما بقي في الأرض {كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]؛ ولكنه دولة بين الناس، يخرج من يد هذا ليصل إلى يد هذا إما بالبيع وإما بالتفليس وإما بالسرقة وإما بالغصب، وإما بالميراث، كحال المساكن في هذه الأرض، فما من بيت معمور اليوم بالسكان إلا وقد سكنه سابقون، وسيسكنه لاحقون، وهكذا أمر الدنيا كلها، فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نعلم أن ما تحت أيدينا ليس ملكاً لنا؛ ولهذا قال الله تعالى: {مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فأنت مستخلف أي: خالف لمن سبقك، ومخلوف أيضاً فيما تحت يدك، وستسلمه لآخرين إما طوعاً وإما كرهاً، ومن هنا يعلم أن الله ما ملكنا الأموال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، فالله تعالى لم يملكنا الأموال، وإنما استخلفنا فيها، فجعلها تحت أيدينا أمانة عندنا، ووكالة فقط، والوكيل ينتظر العزل في كل حين؛ ولذلك فعزله إما بالموت، وإما بالحجر، وإما بالفقر، كل ذلك عزل للإنسان عن التصرف فيما تحت يده، ولا يدري الإنسان متى يقع ذلك: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعول

اختلاف الناس في الأرزاق

اختلاف الناس في الأرزاق الأرزاق بقدر الله سبحانه وتعالى، ووفق الحكمة البالغة: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، فلهذا: جعل الله الأسباب التي تجمع بها الأموال مقسومة إلى حلال وحرام، وجعل من الناس من يبذل الجهد الكثير فلا ينال إلا القليل مقابل ذلك، ومنهم من يبذل الجهد اليسير، فينال الكثير من الدنيا إذا أقبلت. وكم من إنسان أعطاها وقته، فلم يبق أي وسيلة يمكن أن يعملها في جمع المال إلا أعملها، ومع ذلك مات فقيراً، ولم ينل من الدنيا مراده! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكم من إنسان أعمل الحيل لجمعها، فلما بلغ المستوى الذي يطلبه كان على موعد مع ملك الموت، فبينما هو ينعم بزهرتها انتهت حياته. وكم من إنسان لم يعمل من الحيل إلا الشيء اليسير فاجتمع عنده أكثر من حاجته. كل ذلك نراه ونشاهده بين ظهرانينا من الذين يعملون للدنيا، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولا عن إعمال الحيل، بل هو قدر يكتبه الله سبحانه وتعالى في الدنيا بحكمته، ولا مبدل لحكمه؛ ولهذا قال الحكيم: باتت تعيرني الإقتار والعدمَ لما رأت لأخيها المال والنعمَ تباً لرأيك ما الإقتار عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما فالدنيا كلها مقسومة قسماً، وكذلك إعمال الحيل ليس هو الموصل إلى الغنى، بل الموصل إليه هو القدر؛ ولذلك قال ابن زريق في عينيته: لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدرت أن النصح ينفعه فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من عذله فهو مضني القلب موزعه يكفيه من حزن الترويع أن له من النوى كل يوم ما يروعه ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالبين يجمعه كأنما هو من حل ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه إذا الزمان أراه في الرحيل غنى ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه وما مكابدة الإنسان واصلة رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه قد قسم الله رزق الناس بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً سوى الغايات يقنعه والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه أرباً ويمنعه من حيث يطمعه إذاً: على الإنسان أن يجمل في الطلب أولاً، ثم ليعلم أن ما جعل تحت يده ليس بالضرورة أنه سينتفع به، بل كثير من الناس يبتلى بكثرة العرض، وتجعل تحت يديه أملاك طائلة، ومع ذلك لا يرزق منها إلا الشيء اليسير، فيكون هو خادماً للدنيا، بعد أن كانت الدنيا خادمة له. إن كثيراً من الناس يعيش مهموماً مغموماً في مكابدة هذه الدنيا؛ فإذا اختل منها أي ركن من الأركان، أو أي لازم من اللوازم، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وظن أن الآخرة قد أقبلت، وقد أقبلت فعلاً؛ لكن ليس معنى ذلك أن ما اختل من الدنيا شيء لم يكن من قبل، بل هكذا حيل الدنيا كلها، وقد قال الحكيم: مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك فلن تنال من الدنيا إلا حظك.

حقارة الدنيا وما فيها من الأموال

حقارة الدنيا وما فيها من الأموال عليك أن تعلم قيمة هذا المال، وقيمة هذه الدنيا كلها، وأن تعلم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء، فالله سبحانه وتعالى جعل الآخرة خيراً وأبقى؛ ولذلك خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم -وخطابه خطاب لأمته- بهذا الخطاب البليغ فقال: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132]، فالعاقبة للتقوى، وما في هذه الدنيا من الأعراض سيزول، وبقاء الحال من المحال، فأمرها إلى زوال، وعلى هذا، فإن على الإنسان التقليل من الدنيا ما استطاع، وهذا خير له؛ ولهذا قال الله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]، فعلى الإنسان ألا ييئس على ما فاته من هذه الدنيا، وعليه ألا يفرح بما نال منها، فإن ذلك امتحان يمتحنه الله به، فإذا كان كذلك فليعلم المؤمن أن عليه في أموال الدنيا حقين: الحق الأول: أن يأخذها من حلها. والحق الثاني: أن يضعها في محلها. فأخذها من غير حلها محادة لله ورسوله، ووضعها في غير محلها غاية السفه والخسران، فعلى الإنسان حينئذ ألا يأخذها إلا من حلها، وألا يتبع نفسه ما ليس من حله؛ فإن الإنسان الذي يتبع نفسه هواها، ويريد الوصول إلى المال مطلقاً -سواء جاء من حله، أو من غير حله- مفتون بهذه الدنيا، والمفتون لا رأي له؛ لأن الهوى قد تملك قلبه فأصبح عابداً لهواه، وقد جعل الله سبحانه وتعالى عبدة الهوى أضل الناس: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]. فالذين يتبعون الهوى هم أضل الناس؛ ولهذا على الإنسان قبل الجمع أن يقدر الهدف.

أصناف الناس تجاه أموالهم

أصناف الناس تجاه أموالهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر) قال أهل العلم: المال كله كذلك، وإنما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل؛ لأهميتها عند العرب، وإلا فالمال كله كذلك، وهذا على القاعدة في تفسير السلف للقرآن، فإن تفسير السلف للقرآن يقصد به ضرب الأمثلة للتفهيم، كمن سألك عن الخبز فقال: ما هو؟ فأخذت خبزة فقلت: هذا الخبز، فليس معنى ذلك أنك تزعم أنك ترفع له ما في أيدي الناس من الخبز، وإنما معنى ذلك: أنك تبين له ما يفيده مدلول هذه الكلمة في لغة العرب، فكذلك ضرب المثل بالخيل هو ضرب مثال للمال كله، فالمال كله على ثلاثة أنواع: هو النوع الأول: من له أجر، وهو: من لم يأخذه إلا من حله، ولم يضعه إلا في محله، وابتغى به وجه الله سبحانه وتعالى، وأعده لما كلفه الله به، فكان في يده ولم يكن في قلبه، لا يحزن على ما فاته منه، ولا يفرح بما ناله منه، وما كان منه تحت يده فهو في يده فحسب، ولا يدخله داخل قلبه، فالمال محله اليد، وليس محله القلب. الثاني: من هو له ستر: وهو من أراد به التعفف عما في أيدي الناس والاستغناء عنهم، والحرية والاستقلال في الرأي، ولم يأخذه إلا من حله، وأراد أن يأخذ ما أحله الله له منه؛ لقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، فهذا النوع يستره من الزلل، فلا يذمه الناس بألسنتهم؛ لأنه جعله وقاية دون عرضه. النوع الثالث: من هو عليه وزر، وهو ما حصل عليه من غير حله، أو بعد أن جمعه -ولو من حله كمن ورثه- صرفه فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، فجعله إرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وتجبر به على عباد الله، وطغى وبغى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، فهذا المال يكون عليه وزراً، يأتي ويحمله يوم القيامة: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، فسيأتي يحمله جميعاً؛ لأنه أخذه من غير حله، وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره الغلول، فعظم من شأنه، والغلول: أخذ المال العام قبل القسمة أي: قبل أن يأخذ الإنسان نصيبه من الغنيمة، فعظم من شأنه، فقال: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث. ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة تيعر، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته صامت يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تلوح، يقول: يا محمد! أغثني. لست له بمغيث!! ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟). إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من هذا الخطر الداهم، الذي يتكالب عليه أقوام جهلوا أو تجاهلوا المصير الوارد، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك خطراً في بعض أنواع المال خصوصاً، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين). طوقه: أي: جعل قلادة في عنقه يوم القيامة من سبع أرضين، فيقطع له من كل الأرض المغصوبة، فيجعل في عنقه يوم القيامة. إن هذا المال ذو خطر جسيم، وأمر عظيم، وهو مع ذلك وقاية للإنسان، ويمكن أن يفتدي به في الدنيا؛ فإن كل إنسان يوم القيامة يستظل بظل صدقته، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والله سبحانه وتعالى بسط يده بالخير إلى عباده، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة:245]. إن الله سبحانه وتعالى: هو القابض الباسط الرزاق الوهاب، وهو الذي دعا عباده إلى أن يقرضوه قرضاً حسناً، مع غناه عما في أيديهم، وما قدموه إنما يقدمونه لأنفسهم، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيراً فليحمد لله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) هنا بين سبحانه وتعالى: أن من قدم له شيئاً فإنه يضاعفه له أضعافاً كثيرة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على وجه التقريب، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق عبد بصدقة طيبة إلا أخذها الله بيمينه، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل) والفلو: هو ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة، وتنميته: تربيته والإنفاق عليه حتى يتم ويصل إلى غاية الثمن. إن الثقل والضخامة التي في الجبال تحصل بما هو دونها من الإنفاق إذا تقبله الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه: (لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم، ولا نصيفه) لو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم أي: مد شعير تصدق به أحدهم، ولا نصيفه أي: نصفه، أو النصيف الذي تجعله المرأة على رأسها، وهو ثوب صغير.

الإنفاق في وقت الرخاء وفي وقت الشدة

الإنفاق في وقت الرخاء وفي وقت الشدة إن الإنسان الذي أنفق في وقت الرخاء، لا يقاس بالذي أنفق في وقت الشدة؛ ولهذا قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]، إن الذين أنفقوا في وقت الشدة يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم) , جاء قوم من الأعراب مجتابي النمار، عامتهم من مضر، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أرحم بالمؤمنين من أنفسهم- فتمعر وجهه رحمة بهم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (أنفق رجل من صاع تمره، من صاع بره، من صاع شعيره، من درهمه، من ديناره). جاء رجل من الأنصار وقدم درهماً واحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم) إن درهم ذلك الأنصاري عند الله أكبر وأربح من مائة ألف درهم ينفقها من سواه، لأنه كان من السابقين الذين يقتدى بهم، فكل من اقتفى أثره يكتب له من حسناته دون أن ينقص ذلك من أجر المنفق شيئاً.

فوائد الإنفاق

فوائد الإنفاق إن الإنفاق له فوائد أخرى غير الجوائز الأخروية التي فيها ثقل كفة الحسنات: فبه كذلك رفع الدرجات في الدنيا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، فالمنفق خير من المنفَق عليه؛ وكذلك هو مدعاة للغنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم! أنفق أُنفق عليك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: أعط ممسكاً تلفاً) هذا في كل يوم تطلع فيه الشمس، ملكان ينزلان يرسلهما الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يدعو الملك إلا بما عين له كالشفاعة لا تكون إلا بإذنه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، فلا يمكن أن يدعو الملك إلا لمن أذن الله بالدعاء له. ثم إن من فوائد الإنفاق الدنيوية أنه يرد الله به البلاء، فإن الصدقة تصطرع مع البلاء في السماء، وترده عن أهل البيت؛ ولهذا رتب الله على ابن آدم ثلاثمائة وستين صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، مقابل ما فيه من المفاصل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس)، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، وجعل على كل مفصل صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس)، في كل مفصل من المفاصل، سواء كانت مما يعرفه الأطباء، ومما يدرك بالتشريح، أو كانت من المخفيات التي لا تعرف بالعين المجردة، فإن كل تلك المفاصل -عظيمها ودقيقها- رتب الله عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، ويجزئ من ذلك أن يصلي المؤمن ركعتين وقت الضحى، فركعتان وقت الضحى تقومان مقام ثلاثمائة وستين صدقة؛ لكن لا شك أن هذا الترتيب هو إرشاد للعبد، ونفع له، وتقوية لهذه الجوارح، وسعي لتمتيعه بها، ودفع للضرر عنها، فما أحوجنا إلى مثل هذه الصدقات التي ترفع البلاء عن أهله في الدنيا، وترفع المنازل وتطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، وهي مع ذلك تضمن للإنسان الزيادة؛ فالصدقة لا تنقص المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال)، فالصدقة لا تنقص المال، بل تزيده، وما يبذل الإنسان من المال؛ ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى مخلوف عليه قطعاً، لا بد أن يناله في هذه الحياة الدنيا، فضلاً عن أجره يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى غني عن دراهم الناس ودنانيرهم، وأعطياتهم وإمدادهم، وإنما امتحنهم ليعلم الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتقربون إليه بما آتاهم.

وجوه الإنفاق في الخير

وجوه الإنفاق في الخير إن المؤمنين في الصدر الأول أدركوا قيمة الإنفاق ومنزلته، فقد جاء فقراء المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصومون كما نصوم، ويصلون كما نصلي، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة)، وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم كثرة طرق الخير وأبوابه، ومما قال: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! هل يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).

مفهوم الصدقة

مفهوم الصدقة الصدقة لها مفهومان: مفهوم عام واسع شامل لكل خير: (تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة)، فهذا من مفهوم الصدقة العامة الشاملة، وللصدقة نوع آخر أخص من سابقه، وهي الصدقة الجارية، التي لها أجر بالغ في إزالة الشح والبخل عن الإنسان، وهذا الأثر التربوي هو الذي نحتاج إليه؛ فإن كثيراً من الناس لا يشعر بأنه بخيل، بل يظن نفسه كريماً، لكنه إذا راجع نفسه لن يذكره الشيطان بما أنفق من ماله إلا ما كان في سبيل الله ليستكثره، ومن هنا لا يستشعر أنه بخيل في التعامل مع ربه الكريم الذي أنعم عليه بأنواع النعم، ولطف به بأنواع الألطاف، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].

اشتراك جمع في الأجر على عمل واحد

اشتراك جمع في الأجر على عمل واحد الصدقة الواحدة يدخل الله بها الجنة عدداً من الناس، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أهمية التعاون في الخير، فكل عمل جماعي يشترك فيه الناس يثابون فيه الثواب الجزيل العظيم، والصدقة التي تخرجها المرأة من بيت زوجها، يشترك معها في الأجر، لأنه هو الذي اكتسبها، والمرأة هي التي أنفقتها، وكذا الرسول الذي بلغها، والخازن الذي كان يحفظها، فكل هؤلاء شركاء في الأجر، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم في شأن السهم: (إن السهم الواحد يدخل الله به الجنة ثلاثة: الذي اقتطعه، والذي براه، والذي رمى به) هؤلاء جميعاً يدخلون الجنة بالسهم الواحد الذي يرمى به في سبيل الله، وهذا يدلنا على غنى الله عن خلقه. الله لا يريد منكم شيئاً، وإنما يريد منكم أن تقدموا لأنفسكم؛ لذلك بين أن الاشتراك في الأجر يحصل بمجرد المساعدة على الخير، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله)، وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).

وساوس الشيطان لسد باب الإنفاق

وساوس الشيطان لسد باب الإنفاق إن المنفق إذا تذكر أنه عندما يدخل يده في جيبه، أو يأخذ قلمه ليوقع العطية التي سينفقها؛ أن الكريم الوهاب الرحيم الرزاق ينظر إليه في تلك الساعة، وأنه مطلع على ما في قلبه، فإن ذلك يقتضي منه الإسراع والمبادرة قبل أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، فالشيطان لا يعد الناس إلا الفقر، كما قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268]، وهذا عكس ما أمر الله به: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فإذا علم الإنسان عداوة الشيطان له، حاول أن يبادر كيده الضعيف، حتى يفوته بما ينفق؛ ولهذا فإن كتمانه لذلك عن نفسه مما يضاعف الأجر: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، هؤلاء يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فالصدقة من الأمور التي يفوّت بها الإنسان على الشيطان كيده، فالشيطان يحاول منع الإنسان من التصدق من ماله، ولو بالتأخير؛ ومن حيلة الشيطان على بعض الصالحين أنه يقول: لا تخرج هذا المال على غير أولادك؛ فهم بحاجة إليه. فينازعه، ويقول: لا بد أن نقدم شيئاً للآخرة. فيقول: افعله وصية بعد موتك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ما هو إلا من البخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيقول عندما يغرغر: كذا لفلان، وكذا لفلان، وقد كان لفلان) وقد كتب له ذلك بالقدر؛ لكن (خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تتغلب على محاولة الشيطان إلا عندما تكون صحيحاً شحيحاً، وتخرج من مالك الذي تعبت في استخراجه، وأنفقت فيه الأوقات، ثم أنفقته ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى. ثم إن من مكائد الشيطان ومجاهدته مع الإنسان أنه إذا أراد الإنفاق، وغلبه فلا ينفق إلا شرار ماله، فلا ينفق خيار ماله، وكرائم أمواله، بل يحاول أن يدخر الكرائم، وأن يستخرج المعيب، وهذا ما حذر الله منه في الصدقة الواجبة فقال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] أي: لا تقصدوا السيئ من المال المعيب منه؛ لتنفقوه في سبيل الله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] أي: لو كنتم تطالبون أحداً بدين، فقضاه بذلك الخبيث لم تكونوا تأخذوه، إلا أن تغمضوا فيه، فتتغاضوا عن بعض حقكم!! ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (إياك وكرائم أموال الناس! واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، لكن هذا في حق الذي سيأخذ من الناس صدقات أموالهم، وهذا لا ينبغي له؛ لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه، لكن عليه هو أن تطيب نفسه بما يقدمه لنفسه. إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، فقال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر). وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!) إن مالك هو الذي سيصحبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم تبعه أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع ماله وأهله، ويبقى عمله). إن الذين ينفقون هذه الأموال التي هي من حلال يتحدون الشيطان، ويخالفونه ويتغلبون عليه، ويفعلون ما أمروا به من عداوته، فإن الله جمع الخبر والأمر فيما يتعلق بالشيطان في آية واحدة فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6]، هذا الخبر وهو صدق: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، وهذا هو الأمر، فعلينا تصديق الخبر وامتثال الأمر؛ لكن لا يمكن أن نتخذ الشيطان عدواً إلا إذا جاهدناه، والذي يطيعه فيما يأمره به ليس ولياً لله قطعاً، بل هو صديق وولي من أولياء الشيطان، والذي يفوت الشيطان بالخير، ويجاهده، ويراغمه، فينفق دون أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، ليس هو من أولياء الشيطان قطعاً، بل هو من أعدائه ومن أولياء الله؛ ولهذا فإن المنفق المخلص هو الذي يوفقه الله سبحانه وتعالى، بخلاف المنفق غير المخلص، وقد ضرب الله له مثلاً عجيباً بالصخرة التي يجتمع فوقها التراب، فيأتي المطر فيذهب به؛ فتبقى صلداً ليس فوقها شيء؛ فكذلك غير المخلص يجتمع حوله المال كالتراب الذي يجتمع على الصخرة، ثم يأتي المطر فيذهب به فتبقى الصخرة وليس عليها ما يرد ويدفع عنها عوامل النحت والتعرية.

الزكاة حق واجب

الزكاة حق واجب إن الإنسان المخلص الصادق يعلم أن الله امتحنه بما جعل تحت يده، وأن عليه أن يقوم لله بالحق الذي فيه، فإن لله حقاً في هذا المال، وهذا الحق لا بد أن يعرفه الإنسان في ماله، وأن يؤديه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، وقال الله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19]، لا بد أن يعلم الإنسان هذا الحق أولاً ثم يؤديه بعد ذلك. فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] أي: يقدرونه في أنفسهم، ويعلمون الحق الذي عليهم؛ فلذلك يقوم الأغنياء بمسئوليتهم تجاه الفقراء، ولا يعفى الفقراء أيضاً من الإنفاق، بل الإنفاق خطاب عام يستوي فيه الغني والفقير، الجميع مخاطب، لكن كل ينفق على حسب طاقته، فالله عز وجل يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقد بين أنس رضي الله عنه كما في الصحيح: أن الفقراء القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يذهبون إلى الجبل فيحتطبون، فيبيعون الحطب، فيتصدقون بثمنه على الفقراء، وكانوا يقومون الليل، ويعلمون الناس القرآن، فيأخذ أحدهم حبله في الصباح ويذهب إلى الجبل، فيأتي بالحطب، فيبيعه، فينفق به على أسرة فقيرة، فيكون قد زكى نفسه وماله: زكى نفسه بإعمالها في مرضات الله، وتحركها في عمل الخير، والنفوس التي لا تتحرك ستبقى جامدة، ويركبها الشيطان عند ذلك، لكن الحركة في الخير بركة؛ فلذلك يتحرك هؤلاء للزكاة التي قال الله فيها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف:156]. وقد قال تعالى عن الكافرين: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7]، فبين أن المرحومين هم المؤمنون الذين يؤتون الزكاة، وأن المشركين -المسخوط عليهم، الذين لهم الويل- هم الذين لا يؤتون الزكاة، وهذه الزكاة تشمل الصدقة الواجبة وغيرها، وهي شاملة لزكاة البدن، وزكاة المال، وزكاة الوقت، وزكاة الجاه، وزكاة العلم، كل ذلك داخل فيما تجب زكاته.

وصول المال إلى غير المستحقين

وصول المال إلى غير المستحقين إن الإنسان الذي ينفق ابتغاء مرضاة الله، ينفق ولو وصلت نفقته إلى من لا يستحقها، فإنه يثاب عليها، ويتقبلها الله منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من بني إسرائيل، قال: لأتصدقن الليلة بصدقة -عاهد الله أن يتصدق بصدقة يخلص فيها- فجمع تلك الصدقة من ماله، والناس نيام فخرج بها، فوضعها في يد بغي، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على بغي! فقال: لك الحمد، على بغي. ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته والناس نيام فخرج بها فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني! فقال: لك الحمد، على غني. ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته، فجعلها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: لك الحمد على سارق، فأتاه ملك في النوم فقال: إن الله تقبل صدقتك؛ فالبغي ما حملها على البغاء والزنا إلا الجوع، فقد أغنيتها عن ذلك، والغني: لم يكن يستشعر أن عليه حقاً، فلما تصدقت عليه عرف أنه ينبغي أن يتصدق، والسارق ما حمله على السرقة إلا الجوع، فقد أغنيته عن ذلك)، فتقبل الله سبحانه وتعالى منه هذا العمل الذي ظاهره أنه وقع في غير محله، ولكن صاحبه كان مخلصاً لله، فأثابه الله على ذلك. والإنفاق إذا وقع في محله كانت له فوائد عظيمة على المجتمع كافة، تخيل -يا أخي- عندما تأخذ المال الذي اكتسبته من حلال، وأخفيته عن نفسك، وعن حوائجك، وآثرت به الآخرة على الأولى، وجعلته في كمك، وخرجت به تلتمس الفقراء والمحرومين، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، فوجدت أسرة لا ترى فيها مواقد النار، وليس بها غنى، أهلها متعففون لا يتكففون الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الفقير الذي يتردد على الأبواب، وترده اللقمة واللقمتان، والطعمة والطعمتان، إنما الفقير المتعفف)، فالفقير المتعفف إذا وصله خيرك -وهو في داره- كتب الله لك أجر ذلك، ووجدته أمامك يوم القيامة.

من قصص وأخبار المنفقين والمتصدقين

من قصص وأخبار المنفقين والمتصدقين

إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم

إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق فيعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان الأعرابي إذا جاء أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرجع إلى قومه فيرفع عقيرته فيقول: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. ولذلك حين ألجأه الأعراب يوم أوطاس إلى شجرة فأمسكت رداءه قال: (ردوا عليّ ردائي، فلو كان عندي مثل شجر تهامة نعماً؛ لقسمته بينكم، ثم لن تجدوني جباناً، ولا بخيلاً، ولا كذاباً) وقال للأنصار حين أتوه وتوافدوا عليه في صلاة الفجر: (لعله بلغكم أن أبا عبيدة قدم من البحرين بمال، فما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس في منصرفه من تبوك: (إنه ليس لي من هذا المال إلا الخمس، وهو مردود عليكم). كان صلى الله عليه وسلم من أجود الناس وأسخاهم؛ ولذلك قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، ما سئل شيئاً قط فقال: لا) إن كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول. وهذا الأدب أدبه الله به في قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:26 - 29]، هذا تأديب الله له، وقد تأدب به صلى الله عليه وسلم، كما قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي). وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).

إنفاق عائشة رضي الله عنها

إنفاق عائشة رضي الله عنها كان الإنفاق من هدي الصحابة، وقد تعلموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فهذه عائشة رضي الله عنها تعلمت من إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (ذبح في بيتي شاة ذات يوم، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بقي عندكم من الشاة؟ قلت: كتفها، فقال: بقيت كلها إلا كتفها)؛ لأنها كلها أنفقت في سبيل الله، تقول مولاة عائشة رضي الله عنها: جاء إلى عائشة عطاء وهي صائمة في شدة الحر، وكان العطاء عشرة آلاف درهم، فوزعته في مجلسها، فلم تمسك منه أي شيء، فلما انتهى قلت: رحمك الله! لو أمسكت لنا ما نفطر عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت! لم تتذكر أنها بحاجة إلى ما تفطر عليه فقط!!

إنفاق أبي بكر رضي الله عنه

إنفاق أبي بكر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه أتى بماله كله مرتين في سبيل الله، يحمله فيجعله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل عليه السرور، حتى تبرق أسارير وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت لأهلك؟ قال: الله ورسوله)، وهو الذي عندما ارتد العرب عن دين الله، وبلغه الخبر، سل قراب سيفه، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي؟!، لا يتحمل أن يلحق هذا الدين أي نقص وهو حيّ؛ لأنه قائد للدين، وهو محام عنه ومدافع؛ فلذلك أنفق ماله كله في الدفاع عن دين الله.

إنفاق عمر وعثمان رضي الله عنهما

إنفاق عمر وعثمان رضي الله عنهما كان عمر رضي الله عنه ينفق كثيراً وقد سابق أبا بكر فأنفق نصف ماله، فأتى به؛ فإذا أبو بكر قد جاء بماله كله!! وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على الإنفاق في تجهيز جيش العسرة، فجاء بتسعمائة بعير برواحلها، ومراكبها، ونفقاتها، وسلاحها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم)؛ فقد حل عليه رضوان الله الأكبر، الذي لا سخط بعده. وكانت بئر رومة تستعذب في المدينة أي: ماؤها عذب، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة -وكانت ليتيمين-، فيجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين وله الجنة؟ فقال: عثمان: أنا لها. فاشتراها، فلما ساوم أصحابها فيها، أغلوا عليه بالثمن فأعطاهم ضعف ذلك، وجعلها في سبيل الله، وجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين).

إنفاق علي رضي الله عنه

إنفاق علي رضي الله عنه كان علي رضي الله عنه ينفق ولا يبقي لنفسه درهماً ولا ديناراً، وكان يقول: (مالي وللدنيا، إنني لست من أهلها، مالي وللدنيا؛ إنني لست من أهلها). فقد باع نفسه لله، وخرج من مكة وليس معه إلا ثوبه، وعندما تزوج سيدة نساء العالمين -بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة رضي الله عنها- لم يكن له إلا شارفان من الإبل، منحهما إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يخرج بهما إلى الفلاة؛ ليأتي بإذخر؛ فيبيعه، فيجهز أهله من ذلك، فلما أناخهما بعرصة الدار، وعقلهما، شرب حمزة إذ ذاك خمراً مع فتية من الأنصار، فغنته جارية، فحثت حمزة على نحر الناقتين، فقام إليهما، فنحرهما، فحرمت الخمر بعد ذلك، وكان رضي الله عنه من أشد الناس تعاهداً لقرابته، وصلة رحمه، وكان رضي الله عنه ينفق على كثير من أصحاب البيوت، وهم لا يعلمون أن النفقة من عنده. وكان قبل موته -وهو خليفة يقسم كل ما في بيت المال على المسلمين، ويقمه بردائه، وينضح فيه الماء، ويصلي فيه ركعتين، ويشهد فيه على المسلمين. ولم يترك إلا أربعين درهماً، كان ميراث علي جميعه أربعين درهماً، وله أربعة وعشرون من الأولاد، وله عدد من الزوجات، ومع ذلك لم يترك إلا أربعين درهماً، كان يريد بها رقبة يعتقها في سبيل الله. وعندما غنم المسلمون كنوز كسرى وقيصر، جيء ببنات كسرى إلى عمر بن الخطاب، فتردد عمر في شأنهن: هل يعتقهن، أو يستعبدهن ليكون ذلك نكاية في الفرس، أو ماذا يعمل بهن؟ فجمع أهل الشورى من المهاجرين والأنصار، فقال له عبد الرحمن بن عوف: بعهن، واجعل ثمنهن في تجهيز الجيوش؛ فإننا بحاجة إلى ذلك. فعرضهن عمر للبيع، فاشتراهن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكل ماله، ووزعهن بين أولاد الصحابة، فأعطى إحداهن الحسين بن علي فكانت أم علي بن الحسين، وأعطى الأخرى لـ عبد الله بن عمر، فكانت أم سالم بن عبد الله، وأعطى أخرى لرجل آخر أظنه عبد الله بن الزبير بن العوام، فكانت أم بعض أولاده. هكذا كان علي رضي الله عنه، فقد كان الذين يعرفونه يقولون: (والله! لهو أجود مما هو أشجع، ولكن شجاعته أذكر في الناس) أي: أشهر في الناس، فهو أجود مما هو أشجع.

إنفاق عبد الرحمن بن عوف

إنفاق عبد الرحمن بن عوف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان تاجراً يضرب في الأرض، أتته عير في (عام المجاعة) تحمل أنواع الأرزاق والبضائع، فأتاه تجار المدينة يساومونه بالعير، فقالوا: نجعل لك على الدينار ديناراً، وعلى الدرهم درهماً، فقال: أعطيت أكثر من ذلك. فقالوا: نجعل لك على الدرهم درهمين، وعلى الدينار دينارين، فقال: أعطيت أكثر من ذلك. فقالوا: نحن تجار المدينة وليس فيها من سوانا، فمن أعطاك أكثر من ذلك؟ فقال: ربي أعطاني عشرة أضعاف ما قلتم، فأنفقها بأحلاسها، وأقتابها، وما كانت تحمله في سبيل الله.

إنفاق السلف

إنفاق السلف جاء بعد الصحابة من اتبعوا آثارهم، وهم كثير في هذه الأمة في كل العصور، فهم الذين يتولون الإنفاق على المحتاجين، فكم من نساء هذه الأمة تقتدي بـ زينب بنت جحش التي كانت تكنى بـ أم المساكين!! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً)، وكانت أطولهن يداً في الإنفاق، ولم تكن أطولهن يداً في الواقع، فكانت أول من التحق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه. وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما ينفق على مائة بيت من فقراء المدينة، وكانوا لا يعلمون أنه الذي ينفق عليهم، كان يأتي في آخر الليل، وقد نام أهله، فيحمل الدنانير والدراهم، ويتسور تلك البيوت؛ فيجعلها فيها، فيصبح أهلها والدنانير عند رءوسهم، ولا يدرون من أين أتت!! وكان الحسن بن علي رضي الله عنه مطلاقاً، وكان ينفق على مائة مطلقة: فيتولى كل مصاريفها، وكل ما تحتاج إليه من نفقة وسكنى. وهكذا كان عدد كبير منهم وليسوا معدودين في الأغنياء، لكنهم معدودون في الكرماء، كان عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ينفق على فقراء المدينة وفقراء مكة، ثم ازداد ماله فأنفق على فقراء الحجيج، ثم أنفق على فقراء أهل الشام، وكان يقول: لو بقي لي عمر لازداد مالي؛ فأنفقت على غيرهم من الفقراء؛ لأنه يعلم أن القضية فقط هي قضية العمر، فهذا المال الذي تعتني به هو إنفاق من الله عليك، فإذا كنت أميناً في توزيعه استمر الإنفاق عليك، فما هو إلا بمثابة الحنفية إذا فتحت استمر الماء، وإذا أغلقت توقف. هكذا كان إنفاق أولئك القوم ومن بعدهم: فـ محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله كان من الأجواد المشاهير، وكان يكثر من النفقة على طلاب العلم فكان يقول: (إن هؤلاء قد شغلهم العلم، عن اكتساب المال، وإنهم لا يسألون الناس؛ فهم أحق بهذه النفقة) فكان ينفق عليهم، وكان إذا أتى المدينة اجتمع عليه طلاب الحديث من أصقاع الأرض، فيقضي عنهم كل ديونهم، وكذلك: عبد الله بن المبارك سيد أهل مرو وعالمهم، فإنه رحمه الله كان غنياً؛ لأنه كان مجاهداً في سبيل الله -والجهاد كفيل لصاحبه بالغنى- فكان إذا رجع من غزوة، أتى بالغنائم ليقسمها بين الذين يتأهبون للجهاد، فيقول: (هذا المال مال الجهاد، أخذناه منه وسنعيده إليه) فأخذه للجهاد حين غنمه، ثم يعيده على الجهاد بتجهيز الجيوش، وكان إذا خرج إلى الحج أخذ من رفقته الحجاج أموالهم، فقال: (هي أمانة عندي أنفق بها عليكم)، فإذا رجعوا من الحج، وظنوا أنه قد أنفق عليهم من مالهم، رد عليهم أموالهم كلها، فإذا به كان ينفق عليهم من ماله الخاص!! إن الإنفاق يحتاج إليه هذا الدين في كل مشروع؛ لأنه لا يمكن لمشروع أن يقوم إلا بتموين، وأعظم المشاريع وأكرمها مشروع إقامة دين الله عز وجل، فلا يمكن أن يقام دين إلا بمال؛ لأن كثيراً من الأمور لا يتوصل إليها إلا به، ولا يمكن سدادها إلا به. على المسلمين أن يدركوا خطر هذا المال، وامتحانهم به، وأن يقدموا منه اليوم لأنفسهم، وما زال -ولله الحمد- كثير من الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتصدقون بفضول أموالهم، وينفقون، وهم بمثابة الأودية في الأرض، يأتي المطر فينزل على مكان ناءٍ، فتذهب به الأودية، فتسقي به مواقع لم يسقها المطر؛ فكذلك هؤلاء الأجواد في الأرض: يأتي المال، فيجتمع في مكان، فينقلونه إلى مكان آخر لم يصل إليه، فهم مثل الأودية تجود في أرض الله عز وجل!!

من أسخياء القرن العشرين

من أسخياء القرن العشرين إن كثيراً من المتصدقين لهم في هذا الميدان باع واسع، ولهم آثار طيبة في الدفاع عن الإسلام، وإعلاء كلمة الله، أذكر أن تاجراً من التجار أتاه قوم من المجاهدين ذات يوم، فذكروا له ما يعانون من بطش (الروس)، وراجماتهم بعيدة المدى، وأنهم لا يمكن أن يقارعوهم إلا بصواريخ (سنجر)، وهي غالية ليس لديهم ما يشترونها به، فتمعر وجه الرجل، وقال: ليس بينكم وبين أن تقاتلوا الروس في سبيل الله إلا شراء هذه الصواريخ؟! قالوا: نعم، فقال: هي عليّ في سبيل الله! فتهلل المجاهدون لذلك، واستبشروا في الصفوف، وسمع التكبير في صفوفهم، وفعل الرجل ما وعد، فكان لذلك الأثر البالغ في هزيمة الروس النكراء. ومثل ذلك: ذات يوم كنا في وقت الظهيرة في شدة الحر مع رجل من قادة المجاهدين الأفغان، وهو عبد رب الرسول سياف، وكان يتحدث عن الضائقة التي يعانيها المجاهدون في قمم الجبال من بطش الروس، فبينما هو يتحدث ذلك الحديث -والناس صائمون في وقت الظهيرة- إذ بشاب يطرق الباب، فاستقبله أحد الحاضرين، فقال: إن معه أمه، وإنها تريد الشيخ لحاجة ضرورية، فتعجب الناس من هذه العجوز التي تأتي في وقت الظهيرة، وتريد الشيخ؛ ليخرج إليها وهو في وقت شرح حال المجاهدين وبيان حالهم!! فما كان من الشيخ إلا أن خرج إليها، فإذا هي جالسة عند الباب، فقالت: إنها عجوز كبيرة السن، وقد ورثت مالاً حلالاً، وتريد أن تقدمه لآخرتها، وقد جاءت به تحمله، وتريد رسولاً أميناً يحمله لها إلى الدار الآخرة، فسلمته ليد الشيخ، فجاء الشيخ يبكي وقد ابتلت لحيته بدموعه، وما ذلك إلا لأنه كان يحب أن يكون هو الذي أنفق هذه النفقة، كحال الأشعريين الذين كانوا يحبون الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لهم مالٌ يفعلون ذلك به، فأنزل الله فيهم: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]. كذلك أعرف تاجراً من تجار المسلمين ليس بأغناهم، ولا بأطولهم يداً، خرج ذات يوم إلى جامعة أهلية من الجامعات الإسلامية، فرأى فيها الطلاب من مختلف الجنسيات يدرسون العلم، وهذه الجامعة تسعى للتكوين التربوي؛ فتلزم طلابها بصيام الإثنين والخميس وقيام الليل، بالإضافة إلى دراسة العلم، وحضر معهم الإفطار، ورأى ضآلة طعامهم وضعف إمكانات الجامعة، فقطرت دموعه، فعرفت أنه مستعد لأن يبذل شيئاً للجامعة، فسألته: هل تريد أن تتبرع للجامعة بشيء؟ قال: نعم، فقلت: إن أحوج ما تحتاج إليه هذه الجامعة أن تشتري لها مطبخاً كبيراً، فاشترى لها مطبخاً كبيراً من اليابان، ووصل إليها بالفعل، وكان هذا المطبخ فتحاً عظيماً للجامعة، سد حاجة الطلاب جميعاً، وما هو إلا من لحظة واحدة تأثر بها الرجل عندما رأى الناس يجتمعون على الإفطار بوسائلهم الضعيفة المتواضعة.

الإنفاق على المجاهدين واجب ديني على المستطيعين

الإنفاق على المجاهدين واجب ديني على المستطيعين إن الذين يجاهدون في سبيل الله، ويقارعون أعداء الله سبحانه وتعالى، أغلبهم شباب لا يملكون نفقة، ولا سلاحاً؛ ولذلك هم يحتاجون إلى من يوصلهم أولاً إلى أرض العدو، ثم يشتري لهم السلاح بعد ذلك، فالذين يجاهدون الآن في (الشيشان) أغلبهم من الشباب الفقراء الذين ليسوا بموظفين ولا تجار، ولا يقاتلون إلا بأموال تجار المسلمين في مختلف الأنحاء، فليس هناك دولة من الدول الإسلامية تدعمهم مع استحقاقهم للدعم على الجميع، ومع أن منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة رابطة العالم الإسلامي، والمجمع الفقهي، كل هذه الهيئات قد أصدرت فتوى لجميع المسلمين -وبالأخص لحكومات المسلمين- بوجوب مساعدة هؤلاء، وحرمة خذلانهم، وحرمة إسلامهم للعدو، لكن -مع ذلك- لم ينالوا دعماً من الدول الإسلامية، وإنما ينالون دعماً من تجار المسلمين، وحتى في بعض الأحيان من فقراء المسلمين. أعرف بعض الفقراء يجمع في حيه التبرعات العينية: يأخذ بعض حلي النساء، وساعات الرجال والثياب وغيرها، فيبيعها بما يزيد فيها من الثمن، ويحل بذلك مشكلات كثيرة، مثل مشكلة عطش قرية من القرى النائية، أو علاج وباء منتشر في بلد، أو جوع يشمل طائفة من المسلمين.

حاجة المسلمين اليوم إلى المال

حاجة المسلمين اليوم إلى المال المسلمون اليوم يحتاجون إلى هذا الإنفاق غاية الاحتياج، فقد تكالب عليهم أعداؤهم، وصدق عليهم الوعد، وأنا أعرف في جنوب فرنسا وحدها مخيمات كبيرة أقيمت لأولاد المسلمين في البوسنة، ينصرون فيها وهم من أولاد المسلمين، وتنفق عليهم الكنيسة الأموال الطائلة، فهؤلاء من المسلمين، ولا يستشعر التجار حقوقهم عليهم، ولا يستشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، إنه من العيب علينا أن نطلب المساعدات الخارجية، وأن نبحث عمن يكفلون أيتامنا من خارج بلادنا، فأين الذين يكفلون الأيتام، ويتبرعون للفقراء، والمساكين؟! وأين الذين يقومون بالحقوق في كل بلد، ويعرفون الحاجة الماسة إليها؟! أنتم تعرفون في العام الماضي ما حصل في (تشير) وغيرها من القرى التي جاءها المطر الذي هدم البيوت، وأفسد أملاك الناس، وبقي الناس بلا مأوى تحت رحمة المنظمات التنصيرية، فهل هذا يسوغ عند المسلمين؟! هل يسوغ أن يكون بعض الناس ينعم في غاية ما يمكن أن يناله، ويتبع هواه في كل ما يبتغيه، وإخوانه المسلمون في أشد الحاجة وأمسها؟! إن هذا مخالف لقيم الإسلام بالكلية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً). فلذلك لا يحل للمسلم أن يخذل المسلم، ولا أن يسلمه، والنبي صلى الله عليه وسلم بين هذا فقال: (المسلم أخو المسلم: لا يخذله، ولا يحقره، ولا يكذبه. التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاثاً- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه). إن كثيراً من المسلمين اليوم يحتاجون إلى نفقاتكم، وهذه النفقات سواء كانت مباشرة، كحال الفقراء، أو كانت في مقابل ما يحتاجون إليه من الخدمات، فأنتم تعرفون كثيراً من الأحياء الريفية البدوية التي تحتاج إلى تفريغ معلم بعلمهم، أو إمام يصلي بهم، ومن لم يكن يعرف ذلك منكم فليأتني فأنا أعرف كثيراً من الأحياء التي ليس بها من يستطيع القيام بحقوق الله عز وجل. ذات يوم أتينا حياً من الأحياء البدوية، فأعجبني ما قاله عجوز من أهل ذلك الحي حين قام إلينا فقال: يا إخواني! نحن إخوانكم في الله، أرسلوا إلينا رسولاً واحداً يعلمنا حظنا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهلناه. ونحن عاجزون عن الاستقرار في ذلك المكان، لكن لو وجدنا حينئذٍ من يتبرع بالجلوس معهم ولو شهراً أو أقل؛ ليعلمهم فقط الفاتحة وقصار السور، ويعلمهم أركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، ويعلمهم إقامة الصلاة جماعة، ويعلمهم تجهيز جنائزهم، وإقامة أنكحتهم، وبيوعهم؛ لكان هذا فضلاً عظيماً نحن بحاجة إليه.

التفرغ لتعليم المسلمين

التفرغ لتعليم المسلمين من التعاون على البر والتقوى: أن يوجد من يفرغ الذين يستطيعون الجلوس في تلك الأحياء للتعليم، قديماً في صدر الإسلام كان الرجل إذا غزى يجهزه غيره، فيشركه في الأجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً فقد غزا)، فالذي يفرغ داعية أو إماماً أو معلماً -حتى ولو كان معلماً للقرآن فقط، وليس لديه من العلم ما يحمله كثيرٌ منكم- فإنه يشركه في الأجر، وأجرهما واحد عند الله سبحانه وتعالى، ومن الفضل العظيم أن تبقى في مكانك تزاول أعمالك ولا يتعطل شيء منها، ويكتب لك أجر ذلك الذي يقطع المسافات الشاسعة، ويغامر، ويقطع السيول، ويجلس في المستنقعات، وفي البيئات الموبوءة؛ ليعلم الناس الخير، وأنت شريك له في الأجر. كذلك فإن كثيراً من بلاد المسلمين بحاجة إلى الرحلات الدعوية النافعة التي ترد -على الأقل- بعض كيد المنصرين الذين يجوسون خلال الديار، وهذه الرحلات لا يمكن أن تتم إلا بتبرع غالباً، فليس لديها جهات رسمية تتبناها وتقوم بأمرها، فأين الذين يسارعون إلى فعل الخير، ويقرضون الله قرضاً حسناً، ويريدون مثل هذا الخير في ميزان حسناتهم؟

بناء المساجد

بناء المساجد الأجر العظيم يمكن الوصول إليه بالعمل اليسير، والمشاركة اليسيرة، فمن شارك في عمل الخير ولو بالشيء اليسير، كتب له الأجر كاملاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً -ولو كمفحص قطاة- بنى الله له بيتاً في الجنة). ومفحص القطاة: المكان الذي تستقر فيه وهذا مبالغة، ولا يقصد به أن يكون المسجد على قدر مفحص قطاة، وإنما يقصد به المشاركة، فالمشاركة مطلوبة في بناء المسجد ولو بطوبة واحدة، قدر مفحص قطاة- تكون سبباً في أن يبنى لك بها بيت في الجنة. وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)، وعندما جاء خالد بن الوليد بأكيدر دومة، عجب المسلمون من حسن ملابسه، وكان يلبس الديباج الأبيض، فجعلوا يلمسون ملابسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من ملابس هذا).

النية الصالحة ترفع صاحبها درجات في الجنة

النية الصالحة ترفع صاحبها درجات في الجنة على الإنسان أن يعلم أن بيوت الجنة يمكن أن تبنى بالعمل اليسير، وما أحوجنا إلى أن تكثر بيوتنا في الجنة، ما أحوجنا إلى أن تكون لنا القصور الشاهقة في الجنة: في الفردوس الأعلى، تحت عرش الرحمن، وإن الأمر لميسور سهل، وبالإمكان أن نصل إليه إذا قدمنا الشيء اليسير، فمن كان لديه مال فإنه ينال ذلك بماله، ومن لم يكن لديه مال، فإنه ينال ذلك بنيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً، وآتاه علماً، فهو ينفق المال فيما أمر بإنفاقه فيه، فهو بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو كان لي مال لفعلت فيه مثل ما يفعل هذا، فهو مثله في الأجر، ورجل آتاه الله مالاً: ولم يعطه علماً، فهو ينفق المال في غير حله، فهذا بشر المنازل، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثل ما يفعل هذا، فهو شريك له في الوزر)، نسأل الله السلامة والعافية. ولذلك فإن النية الصادقة يبلغ بها الإنسان المبالغ العالية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من بني إسرائيل خرج ذات يوم فمر بكثيب أهيل من الرمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً؛ فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة عمله، فإذا فيها كثيب أهيل من السويق متقبل عند الله، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط؟ قال: إنك مررت ذات يوم بكثيب رمل، فقلت: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك) فنية المؤمن أبلغ من عمله، ومن لم يكن لديه ما ينفقه فلينو إذا حصل على مال أن يتصدق به، وينفقه، وعليه ألا يخلف الوعد، وأن يتذكر حال المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77]. إن على الإنسان -إذا عاهد الله مثل هذا العهد- أن يفي لله بعهده؛ حتى لا يكون منافقاً مسخوطاً عليه، لا يتقبل الله منه عملاً، وعلى الإنسان الغني إذا رأى حاجة الناس أن يعلم أنها فرصة عرضت له، فإما أن يبادر إليها فينجح، وإما أن تفوته الفرصة. واذكر فضيلة صنع إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات من جعل الله حاجات الناس إليه، فهذه نعمة ابتلاه الله بها، واختبار اختبره به، وكان بالإمكان أن يجعل له الله حاجات لدى الناس، ولكن الله شرفه فجعل الناس يحتاجون إليه، ولا يحتاج إليهم، وهي نعمة عظيمة، بالإمكان أن يتذكرها الإنسان إذا كان يركب سيارته في الطريق، وهو يرى الواقفين على الطريق الذين لا يجدون ما يوصلهم إلى حاجاتهم، فيتذكر نعمة الله عليه، ويتذكر قول الله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، فيبادر لحمل أولئك، وإذا كان في بيت يكنه من الحر والبرد، ويجد فيه الهدوء والراحة، عليه أن يتذكر حال آخرين في خيام تحطهم الرياح حيث شاءت، فيرحمهم، ويعلم أن حاله كان كذلك من قبل، وإذا وجد ما يكفيه، ويسد خلته، ويجنبه ما كان يخشاه من الجوع، فليذكر حال آخرين هم في أمس الحاجة إلى ذلك، وهم جميعاً عباد لله، وقد امتحن بهم: هل سيؤدي إليهم حقهم أم لا؟!

قصة الأعمى والأقرع والأبرص

قصة الأعمى والأقرع والأبرص اذكروا حديث الأعمى والأقرع والأبرص، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله امتحنهم بالملك الذي أرسل إليهم، فاللذان أنكرا النعمة، ولم يعرفاها، سخط الله عليهما فردهما إلى حالهما السابق، والذي عرف النعمة، وأدى حقها، أدام الله عليه نعمته، وتقبل منه.

شكر النعم

شكر النعم يجب أن نتعرف على نعمة الله علينا، وألا ننكر هذه النعم، ولنتذكر حال المشركين الذين قال الله فيهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]، إن علينا أن نشكر هذه النعمة وأن نقيدها، ولا يكون قيدها إلا بشكر الله، وقد تعهد الله بالزيادة لمن شكر فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فعلينا أن نذكر نعم الله ونشكرها، وأن نؤدي الحقوق التي علينا، وأن نعلم أن ما ننفقه منها، وما نقدمه منها لن يضع، وإنما هو محسوب مكتوب نجده: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30]. إن من فضل الله علينا -حين سلط علينا الشهوات، وجعلنا عرضة لاستخفاف الشيطان، ولم يجعلنا معصومين- أن يسر لنا ما نفتدي به، ونتصدق به؛ حتى تكفر عنا سيئاتنا، وتحط عنا خطايانا، فما منا أحد إلا وهو مقصر مفرط في جنب الله، يتذكر ذلك كثيراً، وإذا نسيه فإن الله لم ينسه، ومع ذلك فإن الله قد آتاه ما يكفر به ما مضى، ويغسله به، ويزيله، وما ذلك إلا بصدقة يخلص فيها لله، فإنها مزيلة لآثار تلك الآثام التي قد ذهبت لذاتها، وبقيت تبعاتها، وهي شر الذنوب، فشر الذنوب ذنوب ذهبت ملذاتها، وبقيت تبعاتها، فهي مقيدة في الصحائف يجدها الإنسان يوم القيامة، وإنما تكفر بمثل هذا العمل الصالح الذي يقدمه الإنسان: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).

وضع القبول للمنفقين في الأرض

وضع القبول للمنفقين في الأرض إن الله يضع للمنفقين القبول في الأرض؛ وما ذلك إلا بسبب القبول في السماء، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع عليه البغض في الأرض)، نسأل الله السلامة والعافية. فأصحاب الجود والسخاء قد وضع الله لهم القبول والمحبة في الدنيا، وهذا يدل على محبتهم في السماء، وقبولهم، فلذلك علينا أن نحاول اللحاق بهؤلاء، فتخلقوا بهم إن لم تكونوا مثلهم. فيحاول كل إنسان منا أن يجعل نفسه في هذا المساء من المنفقين، والأمر ميسور؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد رضي الله عنه: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك)؛ فلذلك على الإنسان أن يحاول أن يكتب في مساء هذا اليوم الذي ستغرب فيه الشمس، وترفع الأعمال فيه إلى الله من المنفقين المتصدقين، وأن يحرص على الصدقة في كل يوم، وألا يسقط اسمه من لائحة المتصدقين المنفقين، وأن نتذكر آيات سورة الحديد، وما ذكر الله فيها من الترغيب في الإنفاق في سبيله. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجنبنا الشيطان وخطواته، وأن يعيننا على البر والتقوى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

§1/1