دروس للشيخ عمر العيد

عمر العيد

فلنرجع إلى عقيدتنا

فلنرجع إلى عقيدتنا في هذا الدرس بدأ الشيخ بالحديث عن أثر العقيدة في استقبال الأحداث ومن ثم توجيهها، ثم تطرق إلى ذكر أصول إيمانية كانت السبب في إنشاء رجال العقيدة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد ذكر أموراً تعيد بناء ما انهدم من قضايا العقيدة.

نداء إلى أمة العقيدة

نداء إلى أمة العقيدة الحمد لله على نعمه التي تترا علينا متوالية: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] . أما بعد: عباد الله! لعل العقيدة التي دائماً ننادي بها فنقول: نحن أمة العقيدة. لطالما سمعناها رنانة من سلفنا رضي الله عنهم وأرضاهم. إننا أمة عقيدة متى تمسكت بعقيدتها خافها أعداء الإسلام. إننا أمة عقيدة متى تمسكت بعقيدتها هابها الكفر ومن كان من أعوانه، مهما كان عندهم من عتاد وعدة. إننا أمة عقيدة متى تمسكت بها ثبتت عند الشدائد والمحن. إننا أمة لطالما قلنا: نحن أمة العقيدة، أين عقيدتنا في خضم هذه الأحداث التي أحدقت بأمتنا المسلمة؟ إن الكلام عن الأحداث والأحاسيس حول هذه الأحداث يطول، ولطالما حدثتُ نفسي في الكلام حول هذا الموضوع، وآن الأوان أن نتكلم عن جزئية من ملاحظات حول هذه الأحداث. إن هذه الأحداث التي نعيشها وبسببها سمينا عصرنا: عصر الفتن، فما تأتينا من فتنة إلا وأختها من بعدها، تأتي تلك الفتنة ترقق لأختها لتعلم الأمة: أنها إن لم ترجع إلى عقيدتها رجعة صادقة، وإلا فإن ما بعدها من الفتن أعظم وأعظم، إن هذه الفتنة التي أحدقت بأمتنا أعطتنا إفرازات معينة، وبينت لأمتنا منهجاً إن رجعت إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم انطلقت على المنهج المستقيم. هذا الموضوع فلنرجع لعقيدتنا رتبته على سبعة عناصر: الأول: حول الأحداث. والثاني: حالة العرب قبل هذه العقيدة، أي: عقيدة الإسلام. والثالث: مزايا عقيدة الإسلام. والرابع: وقفة مع بعض أصول الإيمان. والخامس: أثر العقيدة الإسلامية على المجتمعات المسلمة. والسادس: أمثلة لرجال العقيدة. والسابع: أمور تعين على الرجوع إلى العقيدة الصحيحة. وأسأل الله أن ييسر الوقت لإكمال هذه العناصر.

حول الأحداث

حول الأحداث أولاً: نقول: إن هذه الأحداث التي أحدقت بأمتنا بينت لنا أننا أمة في حاجة إلى الرجوع إلى علم الشرع، ونقصد بذلك علم الكتاب والسنة، لسنا في حاجة للعلوم الدنيوية؛ فإن العلوم الدنيوية أستطيع بأن آتي بأي شخص يفيدني فيها، أما علوم الشرع فلا أستطيع أن أستعين بقوى الكفر، أو بقوى الشرق والغرب حتى يبينوا أصول ديننا. تركنا النبي صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولما أحدقت بنا الفتن أصبح الناس يتخبطون يمنة ويسرة. ما المخرج من هذه الفتنة؟ وإذا بهم نسوا ما ترك لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) فصلى الله عليه وسلم. إن الله قد ترك لنا هذا النور الذي أرسله على يدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل من استضاء بنور الشرع مستضيئاً بنور الله تعالى، أما كثير من الناس فقد تنكبوا عن علوم الشرع، ونسوا علم الكتاب والسنة، فلما جاءتهم الفتنة التفتوا يمنة ويسرة فلم يجدوا لهم مخرجاً، فنقول: علينا بالرجوع الصادق للعلم الشرعي. ثم نقول: إن الكلام حول العلم الشرعي وأهميته يحتاج إلى محاضرة مستقلة، ولكن نسرد بعض هذه الملاحظات حول هذه الأحداث. ثانياً: تبين لنا بأننا في حاجة لعقيدة إسلامية صافية ناصعة بيضاء، يستضيء الناس بنورها، إن كثيراً من الناس قد أهملوا دروس العقيدة والاهتمام بالعلم الشرعي، ورأوا أنهم قد استغنوا عن العلم لما انطلقوا للأشياء المادية، وهذا من جهلهم؛ فإن أمتنا لطالما قلنا: إنها أمة العقيدة. إن العقيدة يجب أن تسري في جسد الإنسان كما يسري الدم في جسده، لذا يجب علينا أن نرجع إلى هذه العقيدة رجعة صادقة، وهذا ما سنتوسع فيه. اهتم كثير من المسلمين بالعلوم المادية، ولم يفكر كثير من الناس بهذا الدين، ولذا قلصت علوم الإسلام في الدراسات والتعليم، وانحصرت اهتمامات الناس بعلوم الدنيا، وعلوم العقيدة تنشأ مع الإنسان وهو طفل ثم يتدرج بعد ذلك فتضأل ثم تضعف، حتى إذا بلغ مستوى الجامعة لم يدرس عقيدةً، ولم يدر ما هي العقيدة الصحيحة، ولا المنهج المستقيم، مما يدلنا على جهلنا بعقيدتنا الإسلامية. عقيدتنا يجب أن تربطنا بكل شيء، إن المسلم بعقيدته يسمو ويعلو، وتصبح له العزة والتمكين، إن عقيدتنا تأمرنا بأن نرتبط برب يقول للشيء: كن فيكون، وعند ذلك نقوى، وننظر إلى عزتنا وقوتنا بقوة عقيدتنا. ثالثاً: هناك أمر حول هذه الأحداث، وهو إننا في حاجة للتفتيش عما في المجتمع من المعاصي والذنوب التي سببت مثل هذه الفتنة، وسببت تسلط الأعداء يمنة ويسرة، والله يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام:129] . كم هم الذين ارتبطوا بدين الله مع هذه الأحداث؟!! كم هم الذين بعد هذه الفتنة انطلقوا لصلاة الفجر يواظبون عليها أشد المواظبة؟!! كم هم الذين استقاموا على دين الله لما أحدقت بهم الخطوب، ورأوا شرر الحرب يتَّقد فقالوا: لا مخرج لنا إلا برجوعنا إلى الله رجعةً صادقةً، برجوعنا إلى هذا الدين وتمسكنا به تمسكاً صادقاً، ليست مجرد دعوى ننادي بها دائماً، إنما بسلوكنا العملي؟!! رابعاً: إننا في حاجة كاملة إلى قضية التناصح فيما بيننا، إن ذلك هو الذي يضعف هذه المنكرات التي أحدقت بكل بيت مسلم في الطريق والبيت والمدرسة، قلما تتجه إلى جزء من المجتمع إلا وتجد فيه من المنكرات والمعاصي ما لا يعلمه إلا الله. ضعف التناصح بيننا، وعند ذلك سفينة الحياة تخرق ونحن ننظر إليها، إن لم نتآمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر، وننطلق لرفع راية الإيمان في المجتمع خفاقة كما رفعها النبي صلى الله عليه وسلم، أصبحنا في ضعف وخور، وضعفت العقيدة في نفوسنا. يجب أن نأمر بالمعروف جميعاً: حكاماً ومحكومين، شباباً وكباراً، رجالاً ونساءً، لا نترك هذا الأصل العظيم ثم بعد ذلك نقول: لم لا نستطيع أن نقف أمام هذه الفتن؟ نقول: لأن سفينة الحياة يخرقها بعض الناس، فلا بد من إبعادهم عن خرق هذه السفينة، وإلا غرقوا وغرقنا معهم جميعاً. خامساً: يجب أن نعلم أن من الأمور التي أخرجت لنا هذه الأحداث ضعف قضية الولاء والبراء، ولطالما سمع أحبتي محاضرات حوله، إن لنا عقيدة في مسألة الولاء والبراء، نوالي لأي شيء؟ ألأنه عربي؟! ألأنه قريب لي؟! ألأنه من قبيلتي؟! ألأني أسكن معه في موطنٍ واحد؟! ذلك ولاء وبراء قد ألغاه الإسلام، إن الولاء والبراء عندنا هو على ضوء هذا الدين، لم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) ؟ ليعطينا معلماً سامياً نسمو به على ضوء عقيدتنا، وتمسكنا بهذه العقيدة، فإن أحببنا الإنسان أحببناه لله، وإن أبغضناه أبغضناه في الله، وإن كان أخانا أو من أقرب الناس إلينا. ثم نقول في هذه الأحداث: تساقطت القومية العربية، وأصبحت بعد ذلك أشلاءً ضعيفة؛ لما رأينا أن العربي يقتل العربي، وكلكم يراه بأمِّ عينه. سادساً: إن أمتنا بحاجة إلى إعداد عسكري عام ليس لفئة معينة -ولعل الله أن ييسر محاضرة مستقلة سميتها: الصحابة والجهاد- آن الأوان لأن نترك الزمر والطرب واللهو واللعب، آن الأوان لشد المئزر ولحمل المدفعية والسلاح؛ لننطلق إلى بلاد الكفر لنعلن راية التوحيد خفاقة (لا إله إلا الله) . ونقول للناس جميعاً: لسنا في إعداد لمجرد دفاع عن وطن أو قومية أو غير ذلك، إنا لا ندافع عن التراب، ولئن دافعنا عن ترابنا لأنا نقول: إنه بلد إسلامي، لأن من هذا البلد انطلقت راية التوحيد خفاقة لتعلن للناس: يجب أن تدخلوا في دين الله أفواجاً، لسنا نربي الناس ليدافعوا عن مبادئ هدامة أو غير ذلك، بل نقول لهم: انطلقوا للدفاع عن راية التوحيد، حتى لا يقف أمامها أحد من الناس، هكذا علمنا ديننا، وهذه هي عقيدتنا، أوليس الصحابة الأخيار خرجوا من مكة وهي موطنهم ورجعوا مع المصطفى يرفعون سيوفهم على أهل مكة وهو موطنهم، ليعودوا وليدخلوا في دين الله أفواجاً، لم يدافعوا عن تراب بل جاءوا بسيوفهم ووضعوها في رقاب الكفار، لأنهم لم يذعنوا لراية التوحيد والعقيدة. إن بعض الناس يظنون أننا في حاجة للقوى العسكرية فقط، وينظرون إلى قضية الأشياء المادية، وهذا من الجهل والخطأ، لسنا في حاجة للإعداد العسكري بكامله، أوليس الله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] نعد ما استطعنا من قوة، ونتمسك بعقيدتنا وينصرنا رب السماوات والأرض. سابعاً: هكذا يجب أن نعمل، أما أن تكون نظرة الناس تحليلات، كما تبثه إذاعات الغرب يمنة ويسرة، ويقارنون قواتنا بقوات الكفار فيرون عددهم أكبر، أين ارتباطنا بالرب الذي يقول للشيء: كن فيكون؟!! أين إيماننا بعقيدتنا أن ربنا يدبر السماوات والأرض: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [فاطر:44] {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:16] أين إيماننا بعقيدتنا نحن؟!! ونقول كذلك: إن الله قد قال لرسوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] والله لو جاءت جميع القوى ولم يرد الله نصرنا ما استطعنا أن ننتصر على أي أحد، لم يقول ربنا: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} [التوبة:25] ؟ نظر الصحابة إلى عتادهم وما عندهم من القوة، ويهزم الصحابة الأخيار لما اعتمدوا على قواهم المادية، فليعلم كل أحد: أن أمة الإسلام لا تنتصر بعددها وعدتها، إنما تنتصر بقوة تمسكها بهذه العقيدة. ثامناً: إن أمتنا في حاجة إلى معرفة قضية التوكل: فإن كثيراً من الناس لا يعرفون معالم التوكل، انطلق الناس في قضاياهم لما حدث، وإذا بهم ينظرون إلى الأشياء المادية فكان همّ الإنسان منا أن يكنز من الأرز والسكر وغير ذلك من الأطعمة، أين ربنا الذي يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] ؟ الله هو الرازق ولن يضيع خلقه سبحانه. ونقول: اهتم كثير من الناس بغلاء الطماطم وغير ذلك، وهذا مما يدل على ضعف التوكل عندهم، نحن أمة أُمرنا أن نرتبط برب السماوات والأرض، ونتوكل على الله حق توكله، لمَّا قال النبي صلى الله عليه وسلم موجهاً لأولئك الأخيار: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير) الطائر يطير من الشجر ليس معه شيء من الطعام، فيجوب في الدنيا، ويأكل من رزق الله تعالى، الرازق هو الله فهو متوكل على الله حق توكله. تاسعاً: وأمر أخير أنبه عليه: إن أمتنا في حاجة لدراسة مخططات الأعداء الذين أحدقوا بنا، كفانا غفلة وتناسياً وضياعاً ولهواً وطرباً وغير ذلك، إذا كان الأعداء يخططون لأمتنا لهدم ديننا فلا نسكت ونقول: نتوكل على الله ولا نعمل، بل نحن أمة يجب أن تكون فاحصة في نظرتها للمجتمع، إن كثيراً من الناس لا يفقهون ما يحدق بأمتهم، ولا ينظرون إلى المعاصي والمنكرات، ولا يفتشون في مجتمعهم عما أحدق فيهم من الخير، وبعض الناس في غيبوبة، فهم في حاجة إلى أن يشتروا نظارات إسلامية ليبصروا المجتمع وليروا ما فيه من المعاصي، والأخطار التي أحدقت بأمتهم، هذه أحاسيس حول الأحداث.

حال العرب قبل عقيدة الإسلام

حال العرب قبل عقيدة الإسلام ننطلق إلى الجزئية الثانية: كيف كانت حالة العرب قبل هذه العقيدة التي ننعم نحن بها؟ كان العرب في الجاهلية يدينون لعدة آلهة، لا يعبدون إلهاً واحداً. حصين لما جاء للنبي قال له صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة؛ ستة في الأرض وواحداً في السماء، قال: إذا أصابتك الشدائد أين تلتجئ؟ قال: للذي في السماء، قال: فاعبد الذي في السماء واترك التي في الأرض) . كان حول هذه الكعبة المشرفة من الأصنام التي تعبدها العرب ثلاثمائة وستون صنماً، يطوفون حولها، ويذبحون لها وينذرون إلى غير ذلك. كانوا لا يلتزمون بالشرع، يحلون ما شاءوا ويحرمون ما شاءوا، وينسبون لله الولد، ويجعلون البنات لله سبحانه وتعالى. كانت حياتهم مليئة بالمنكرات كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق، كانوا يئدون البنات مخافةً من العار، كان يغزو بعضهم بعضاً، ويفتك بعضهم ببعض، تقوم الحرب وتبقى سنوات طويلة لأتفه الأسباب؛ لأن جملاً ورد على حوض أناس فلطموه ثم قامت الحرب ويقتل الرجال، ويسبى النساء والأولاد، ويقول شاعرهم: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد أي: تبعاً لقبيلته. وكذلك يقول الآخر: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم وكانت الشعوب المجاورة أيام الجاهلية، بعضها قد دخلت تحت ألوية كافرة؛ فالمناذرة تحت الفرس، والغساسنة تحت الروم، وأهل اليمن كانوا تحت حكم الحبشة، ولم يكن لهم دين ولا عز ولا تمكين. ثم جاءتهم هذه العقيدة فنشروا دين الله في أصقاع الدنيا، وأصبح لهم تأثير عظيم في تاريخ الأمة إلى قيام الساعة، بمقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) ويبينها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (الذين يصلحون ما أفسد الناس) (أو أنهم يصلحون إذا فسد الناس) وانطلقوا من هذه الجزيرة ليشعوا للناس نور الله الذي أنزله الله عليهم.

مزايا عقيدة الإسلام

مزايا عقيدة الإسلام جاءتهم هذه العقيدة وتميزت بمزايا:

عقيدة تلائم فطرة الناس

عقيدة تلائم فطرة الناس أولاً: من مزايا هذه العقيدة: أنها تلائم الفطر وتنميها ولا تصادمها أبداً بمقتضى قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه) وفي رواية: (أو يمجسانه) ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أو يسلمانه؛ لأنه فُطر على الإسلام وقبوله، وهذا يبين لنا أن عقيدتنا تناسب الفطر، تسأل الإنسان: أين ربك؟ وهو طفل صغير، وننشأ نحن ويعلم الإنسان بفطرته بأن ربه في السماء؛ لأن هذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها.

عقيدة ثابتة لا تقبل الزيادة والنقصان

عقيدة ثابتة لا تقبل الزيادة والنقصان ثانياً: هي عقيدة ثابتة لا تقبل الزيادة ولا النقصان، ولا تقبل التغيير ولا التطور بمرور الأزمان والأعصار، وتعاقب الأجيال، فلذا نقول: ليس لحاكم من الحكام، ولا لمؤتمر من المؤتمرات، ولا لعالم من العلماء أن يزيد في العقيدة أو ينقص منها، بل إنه متى نقص أو زاد قلنا له قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) . إذاً: عقائدنا لا تتطور أبداً، بل تكون أصيلة عميقة، لا زيادة فيها ولا نقصان، ومن هنا من درس العقائد الأخرى وجد أنها تتطور في عصر من العصور؛ لتناسب الأقوام، اقرءوا تاريخ الكنيسة، فما بين مرور مائة أو مائتين سنة يجدون فيها تطويراً في أصول إيمانهم، نحن إذا جاءنا الرجل المسلم في عصرنا في القرن العشرين قلنا له: قل لا إله إلا الله. والنبي كان يقوله للصحابة أول ما يدخل أحدهم في الإسلام: قل لا إله إلا الله، إلى قيام الساعة لا تغيير في عقيدتنا ولا أصولنا الإيمانية.

عقيدة قائمة على الحجة البالغة والدليل الواضح

عقيدة قائمة على الحجة البالغة والدليل الواضح ثالثاً: عقيدتنا مبرهنة، ففي كل جزئية من جزئياتها تتبعها الحجة الدامغة، والدليل الناصع، ونجد كل مسألة من مسائلها، لا بد أن تتبع بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نقول للناس: اعتقد وأنت أعمى، لا نقول للناس: انطلق معنا ونحن ندلك على الطريق. بل نقول: هذا دليلنا من كتاب الله وسنة رسوله، فالتزم بهذه العقيدة وتمسك بها، لسنا نقول للناس: اتبعونا وقلدونا. لما قال اليهود والنصارى كما حكى الله عنهم في سورة البقرة: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] قال الله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] أعطونا دليلاً على هذه القضية من قضايا الاعتقاد.

عقيدة وسط بين العقائد

عقيدة وسط بين العقائد رابعاً: من مزايا عقيدة الإسلام أنها عقيدة وسطية، فلا إفراط فيها ولا تفريط، فهي وسط بين العقائد على وجه العموم، يوجد من أصحاب العقائد من ينكرون وجود الله بالكلية كحال الشيوعيين وغيرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، ويوجد من العقائد من يثبت عدة آلهة، فجاءت عقيدة الإسلام لتثبت الألوهية للرب الذي يقول للشيء: كن فيكون، للرب الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع. وهكذا عقيدتنا وسط بين العقائد الأخرى، حتى في المذاهب الإسلامية نحن وسط في باب الإيمان والصحابة؛ لا نغلو في الصحابة حتى نجعلهم في مرتبة الألوهية، ولا نقصر فيهم حتى نسبهم، بل ننزلهم المنزلة التي نزلت أو جاءتنا في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

عقيدة سهلة واضحة ليس فيها غموض ولا تعقيد

عقيدة سهلة واضحة ليس فيها غموض ولا تعقيد خامساً: عقيدة الإسلام واضحة، سهلة بعيدة عن التعقيدات، لا تحتاج إلى محاضرات وتدريس وغيره، من أراد الدخول في الإسلام قلنا له: قل لا إله إلا الله، اعبد إلهاً واحداً، ربنا له الصفات الكاملة، ربنا الخالق لكل شيء سبحانه وتعالى، ليس فيها تعقيد ولا تعب ولا غموض ولا غير ذلك.

عقيدة ليست محتكرة على طائفة دون أخرى

عقيدة ليست محتكرة على طائفة دون أخرى سادساً: وعقيدتنا ليست محتكرة لطائفة معينة، وطائفة ليس لها العقيدة، بل نعرضها على جميع طبقات المجتمع العالم والعامي، بيضاء نقية صافية واضحة وضوح الشمس، ليس فيها تميز لطبقات معينة.

عقيدة ثمينة غالية ليست مهانة كغيرها من العقائد

عقيدة ثمينة غالية ليست مهانة كغيرها من العقائد سابعاً: يجب أن نعلم أحبتي في الله بأن عقيدتنا عقيدة ثمينة غالية، ليست رخيصة مهانة عندنا، كم سمعنا من بعض الناس يقولون: أمور العقيدة هينة. ولا أحد ينكر، قد يكتب بعض الملحدين فيسب الرب، أو يتنقص الشرع أو العقيدة، ولا تثور للناس ثائرة، ولا يقوم الناس فيتناصحون. انطلق الصحابة الأخيار بأنفسهم يدافعون عن هذه العقيدة، فمنهم من مات في أثناء الطريق، ومنهم من أمد الله بعمره حتى وقفت هذه العقيدة في وجوه أهل الكفر، وقمع الله أهل الإلحاد فانتشر دين الله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. أوليس الصحابة ضحوا بأنفسهم وبأموالهم؟ صهيب لما انطلق من مكة إلى المدينة وترك ماله قال: [أعطيكم مالي وتتركوني أهاجر -حتى يدافع عن هذه العقيدة- قالوا: نعم] ويقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له: (ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى) . لم شرعت الهجرة في ديننا نحن؟! أليست شرعت حماية لهذه العقيدة؟ كم سافر من الأصحاب رضي الله عنهم وتركوا الأهل والأقرباء والأولاد والذرية، انطلقوا فراراً بدينهم علهم أن ينشروا هذا الدين، وفتح الله ما فتح عليهم من هذه الأمصار.

وقفة مع بعض أصول الإيمان

وقفة مع بعض أصول الإيمان ننطلق إلى العنصر الرابع وسنتكلم فيه على بعض أصول الإيمان. إننا أمة تؤمن بأصول إيمانية، وإن أغلب هذه الأصول أمور غيبية، من منا رأى الملائكة أو الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ من منا رأى الكتب السماوية السابقة أو الدار الآخرة؟ ومع ذلك يقال لنا: يجب أن تؤمنوا بها إيماناً حقاً. ونتساءل: لم؟ لأن الذي حدثنا بذلك هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .

الإيمان بربوبيته سبحانه وتعالى

الإيمان بربوبيته سبحانه وتعالى إيماننا بالله هو إيمان بربوبيته سبحانه وتعالى، لما حدث الحادث الذي سمعتموه من قضية الاعتداء على بلد مجاور، التفت الناس يمنة ويسرة، وفزع الناس وهلعوا وأصابهم الجزع والتسخط وكأن لم يكن لنا رب يقول للشيء كن فيكون، فأين إيماننا بربوبية الله تعالى؟ أوليس ربنا رب كل شيء سبحانه وتعالى؟ رب الأولين والآخرين {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17] رب السماوات والأرضين السبع وما بينهما ورب العالمين، مالك الملك سبحانه وتعالى، فلا يكون في ملكه إلا ما يشاء، ولا شريك له سبحانه في ملكه، ينزع الملك ممن يشاء، ويؤتي من يشاء سبحانه وتعالى، ويبسط الرزق ويقدره على من يشاء سبحانه وتعالى {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة:5] وهو الذي سخر الفلك لتجري في البحر بأمره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو المتفرد في ملكوته وفي جبروته، والمتفرد في تكوين هذه الدنيا سبحانه وتعالى. يعطينا الله معالم ربوبيته الشاملة: {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:68-69] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58-59] إلى غير ذلك من الأشياء، ويعطينا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) . إذاً: الأمر أولاً وآخراً لله سبحانه وتعالى. ولما جاء أهل النفاق فقالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] رد الله عليهم بقوله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] . إذا آمنا بأن لنا رباً يدبر كل شيء، يوجب لنا عزاً {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] . ولما قال الله في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) ؟! ليعطينا أن المؤمن له العزة والقوة، لا يهاب مهما كانت قوة الكفر، ومهما كان الأعداء قد أحدقوا به. جاء أعرابي والنبي يخطب يوم الجمعة فقال: (يا رسول الله! هلكت البهائم، وأجدبت الأرض، وهلك الناس، فاستسق لنا) رفع النبي أكفه لربه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] وربه يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186] فلتنصرف القلوب إلى الله تعالى، ولا نلتفت إلى قوانا المادية، بل نرتبط بالرب الذي يقول للشيء كن فيكون سبحانه وتعالى. ويرفع النبي أكفه لربه يقول: (اللهم أغثنا اللهم أغثنا، وتأتي غمامة ثم تنتشر على المدينة ويمطرون والنبي يخطب حتى يتقاطر المطر من لحيته الشريفة صلى الله عليه وسلم) من الذي جاء بهذا المطر؟ إنه الرب الذي يقول للشيء كن فيكون. ويمطرون أسبوعاً كاملاً ما رأوا الشمس، لما خطب النبي الجمعة الثانية جاء نفس الصحابي رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! تهدمت البيوت وهلكنا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، منذ أسبوع وهو يطلب المطر، والآن يطلب أن يكون بعيداً عنه. وإذا بالنبي يشير بالغمام هكذا بيده فينطلق جزءٌ منه تبعاً لإشارة المصطفى، ويشير هكذا وهكذا، ثم يتقطع وكأن لم يكن في السماء قزعة واحدة أو سحابة. هكذا نحن أمة لها هذه العقيدة ترتبط بالله تعالى حق الارتباط، ويعطيها الله النصر والتأييد. من الأمثلة كذلك: قصة سعد بن أبي وقاص لما خرج بجيش الإسلام، رأوا جيش الكفار وإذا بعدده كبير، فجاء أحد الصحابة فقال لـ سعد: [يا سعد! لو دعوت الله لنا، قال: انطلق إلى الجيش فأخبرني بحال هؤلاء الجنود، فانطلق الصحابي ينظر إليهم قال: فوجدت الجيش ما بين راكعٍ وساجدٍ وتالٍ لكتاب الله وذاكرٍ لربه] الله أكبر! هكذا جيش الإسلام الذي يرتبط بالله تعالى، ليس جيش زمرٍ وطربٍ وضياعٍ للأوقات [فقال سعد: الآن ندعو فنجاب] فدعا سعد؛ فإذا بالله عز وجل يجعل البحر يبساً تمشي خيول الإسلام عليه وما يبتل حافرها، والسمك من تحتهم ينظرون إليه، ويتجهون إلى الأعداء ليقاتلوهم، ويفر جيش العدو لما رأى جيش الإسلام يمشي على البحر، أين يكون ذلك إلا في عقيدتنا نحن التي ترتبط بالله حق الارتباط؟!! نحن أمة لا نرتبط بقوانا وما عندنا من القدرات وغيره، بل معنا رب يقول للشيء: كن فيكون سبحانه وتعالى. نجد الله يخاطب هذا الكون كاملاً في قصة نوح عليه الصلاة والسلام لما قال: {إنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:10-11] جاء الماء ينهمر من السماء، وفجر الله الأرض عيوناً، هل الله عاجز عن هذه القوى الكافرة؟!! بل الله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى. إننا أمة مرتبطة بربوبية الله تعالى حق الارتباط، فلذلك يجب أن نعلم في قصة نوح أن الكون بكامله غرق، من الذي نجا مع نوح؟! إنهم أهل العقيدة، سفينة العقيدة تنجو وما تصاب بأذى، والكون كله يصبح أهله غرقى ببهائمهم، ولم ينج الله إلا من كان مع نوح عليه الصلاة والسلام. إلى غير ذلك من الأمور، أوليس الله قادراً على أن ينطق الجلود: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] إذاً معنا ربنا سبحانه وتعالى إذا تمسكنا به حق التمسك، وارتبطنا به حق الارتباط نصرنا بنصر من عنده.

الإيمان بأسماء الله وصفاته ومدلولاتها

الإيمان بأسماء الله وصفاته ومدلولاتها وهكذا في باب الأسماء والصفات، نؤمن بأسماء الله وصفاته، وكلنا أو بعضنا يحفظها. أليس من أسماء الله (القدير) ؟ أين معنى هذا الاسم؟ إن لهذا الاسم مدلولاً عظيماً، فالله له مطلق القدرة الكاملة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [فاطر:44] {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] الله يقول: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} [النساء:133] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44] إلى غير ذلك من الآيات العظيمة التي تثبت لنا هذا الأمر. أليس من أسماء الله الملك؟ ما مدلول هذا الاسم؟ مالك للكون كله يصرفه كيف يشاء، فالله قادر على تصريف هذا الكون بكامله سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] الذي يصرف العالم صغيره وكبيره، كل جزئية من جزئياته هي بتصريف الملك: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] . أليس من أسماء الله (الحكيم) ؟ والحكيم عندنا هو الذي يضع الشيء في موضعه، فما حدث للدول المجاورة فإنما هو بحكمة الحكيم، بل هو أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى، وليس لنا اعتراض على ما قدره سبحانه وتعالى، فلله فيه الحكمة العظيمة، فالحمد لله على قضائه وقدره، فإن ما مضى وما حدث أمر قد انتهى، لكن يجب أن نخطط للأمر المستقبل، فعند ذلك نعد العدة لئلا يقع فينا ما يقع من أمور مستقبلية، وهذا أصل من أصول الإيمان.

الإيمان بالملائكة

الإيمان بالملائكة وعندنا أصل آخر قد أغفله كثير من الناس، وهو والله يحتاج إلى محاضرة مستقلة، إنه الإيمان بالملائكة، الإيمان بالملائكة أمر غيبي ليس أمراً مشاهداً، ومن منا شاهد الملائكة؟! ومع ذلك نقول: إن الإيمان بالملائكة يؤثر على كل مسلم، إن من البشرى التي نسأل الله أن نكون من أهلها، إذا اجتمع الناس في حلقات العلم إذا بالملائكة تأتي فتقول: هذه بغيتكم، فتأتي الملائكة فيجتمعون ليسمعوا الخير والذكر، الله أكبر! أهل الإيمان تحفهم الملائكة وأهل الزمر والطرب تحفهم الشياطين، والحمد لله على طريق الخير والاستقامة، ونسأل الله أن يتوفانا عليه. هذا الأصل العظيم أليس الله أمرنا بالإيمان به؟! {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ويبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل الذي رواه مسلم في صحيحه لما سأل عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه) ويؤصل لنا قضية الإيمان بالملائكة، أن الملائكة يكونون معنا ونحن لا نراهم، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وتكون مع الناس وهم لا يرونهم، لم؟ قال الله لنا في كثير من الآيات: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] إن حملة العرش تستغفر لأهل الإيمان، هناك فوق السموات السبع وهي تقول: (اللهم اغفر لأهل الإيمان، اللهم ارحمهم) الله أكبر! عند من تكون تلك المنقبة إلا لأهل العقيدة الصحيحة. ويبين لنا النبي كما ثبت في سنن أبي داود بسند صحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدثكم عن ملك من الملائكة من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خمسمائة عام) . ونتساءل: هذا الملك على ضخامته يستغفر لأهل الإيمان، الله أكبر! إن هذا يوجب لنا أن نتمسك بهذه العقيدة وبهذا الإيمان لتستغفر لنا تلك الملائكة، إننا جلسنا في هذا المسجد ننتظر صلاة العشاء، إن الملائكة تقول لكل واحد: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ونحن جلوس، من دعت له الملائكة فهذا حري بالإجابة. إن الملائكة تنصر أهل الإيمان: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ} [الأنفال:9] ثبت في صحيح مسلم: (جاء أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا رسول الله! كنت في الجهاد فسمعت هاتفاً يقول: أقدم حيزوم أقدم، لكن لا أدري ما هو، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا من مدد السماء الثالثة جاء معكم يقاتل) . إذاً: أمتنا يكون الله معها، ويمدها الله بإمدادات عجيبة في النصر بملائكة من عنده، يمدها الله بالريح وبقذف الرعب في قلوب الأعداء. فعلينا أن نرجع إلى هذه العقيدة، ويبين الله لأهل الخير والاستقامة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] نفس المؤمن تودع هذه الدنيا وهذا أمر حق، وهذا من عقيدتنا، لا يدري الإنسان متى يموت ولا بأي أرض يموت، فإذا نزل ملك الموت على المستقيم إذا بالملائكة تحيط من حوله تقول له: ألّا خوف عليك ولا حزن. لا خوف عليك مما أنت قادم إليه؛ لأنك قادم إلى جنة وإلى رب رحيم، ولا حزن على ما تركت من الأموال والذرية: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] . قصة واقعية: كان أحد العلماء يذكر لنا عن شيخ له لما نزل به الأجل، وكان عنده أولاده وهو يرمق إلى الباب، فنظر أبناؤه إلى الباب ما وجدوا أحداً، قالوا: لعله نظر إلى أحد يتمنى رؤيته، فانطلقوا إلى الباب فما وجدوا أحداً، رجعوا إليه وإذا به شاخص ببصره إلى الباب، سألوه: لم تنظر؟ قال: إني أرى أناساً معهم ثياب بيض ينتظرون روحي متى تخرج. هذا يبين لنا أنهم الملائكة. هذه عقيدتنا نحن، فلنرجع لهذه العقيدة رجعة صادقة متمسكين بها.

من أصولنا: الإيمان باليوم الآخر

من أصولنا: الإيمان باليوم الآخر ننطلق إلى أصل آخر من أصول الإيمان، وهي قضية الإيمان باليوم الآخر، ولطالما أغفلنا هذا الأصل إغفالاً كبيراً، متى نتذكر الإيمان باليوم الآخر؟ إن مات لنا عزيز عرفنا أن هناك يوماً آخر، إن وجدنا أحداً أصيب بمصيبة تذكرنا الانطلاق من الدنيا إلى الآخرة. لما قال لنا الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42] ما يعمله كل طاغوت في هذه الأرض من ظلم بأكل أموال الناس بغير حق، من ظلمٍ بضرب الناس أو جلدهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيِه الأَبْصَار} [إبراهيم:42] أي هذا اليوم؟ إنه اليوم الآخر، فلئن لم ينصف لنا في الدنيا، فإن الله سيقتص للخلائق جميعاً من هؤلاء الطواغيت، سواء كانوا من الظلمة الذين اعتدوا على أناس أو أخذوا أموالهم بغير حق، إن هذا يوجب لنا إيماناً باليوم الآخر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة يربط الصحابة رضي الله عنهم بقضية اليوم الآخر، وكأنها عندنا هذه الأيام تحيط بنا، حالنا هذه الأيام كحال الأحزاب لما أحدق الأعداء بـ المدينة، وجاءت العرب بقضها وقضيضها وأحاطت بـ المدينة، وإذا بالنبي يرى حال الصحابة فيهم الجوع والبرد وقلة العتاد ويعملون، ومضى لهم ثلاثة أيام ما ذاقوا شيئاً رضي الله عنهم، ويأتي الصحابي يكشف عن بطنه وقد ربط حجراً على بطنه من شدة الجوع، ويرى النبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه من الجهد، فلما رآه المصطفى كشف عن بطنه وإذا بالمصطفى قد ربط حجرين صلى الله عليه وسلم، وتكون النتيجة بعد ذلك أن يسليهم النبي تسلية عجيبة، ما يقول لهم: إنها ستنفرج ونرجع إلى رغد العيش، بل كان يقول لهم: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) أين نحن من هذه المفاهيم في عقيدتنا وفي أصول إيماننا؟!! إيماننا وعقيدتنا دائماً تربط بقضية الآخرة، ويجيب الأخيار رضي الله عنهم: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً لا وقفة للجهاد أبداً حتى تعلو كلمة الله في الأرض خفاقة براية التوحيد، في كل صقع من أصقاع الأرض. ونجد النبي صلى الله عليه وسلم يعرض للصحابة قضية الآخرة وكأنهم يرونها رأي العين، أوليس النبي في غزوة بدر كما ثبت في الصحيح: (لما صف الصحابة صفوفاً وهو يقول لهم: قوموا إلى جنة عرضها كعرض السماوات والأرض - يشير إلى أن الجنة أمام هؤلاء الأعداء- يقول عمير بن الحمام: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: نعم. قال: بخ بخ -يعني: ربح من قام- قال النبي: ما حملك على هذه الكلمة؟ قال: والله يا رسول الله! إني لأرجو أن أكون من أهلها، قال النبي: أنت من أهل الجنة) . إن هذا يدلنا على أن أمتنا يجب أن تربط بالآخرة لا بالدنيا، كم نربي أبناءنا على الشهادات والمستقبل ولقمة العيش، ويقول الناس: إن هذا الشاب قد أمن مستقبله. إن مستقبل الأمة المسلمة هناك في الفردوس الأعلى، في جنة عرضها السماوات والأرض، ليس مستقبلها في بيت أو وظيفة أو شهادة تحملها، هكذا هي عقيدتنا. ويأتي الصحابي يقول: أخبرتنا يا رسول الله بالجنة فكم بيني وبينها؟ قال: أن تقتل فتدخل الجنة، وكان في يده تمرات فيلقيها وراء ظهره وهو يقول: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات، لسان حاله: من يريد زاد الدنيا فهاهو في يدي فليأخذه من شاء. إذاً: هذه عقيدتنا، وينطلق ويدخل الجنة. أين يوجد هذا إلا في عقيدة التوحيد الإسلام! الله أكبر! أين نحن عن عقيدتنا التي دائماً ننادي بها؟! ويا أسفى على قومي وأمتي إذا انتصرنا في الرياضة قلنا: بتمسكنا بعقيدتنا، أي عقيدة تكون في اللهو والزمر والطرب وضياع الأوقات؟!! عقيدتنا تخرج في الشدائد والمدلهمات ونُربط بها ربطاً عجيباً، النبي لا يؤمل الصحابة برجوعهم إلى الدنيا، بل يؤملهم بقضايا الجنة والآخرة، حتى أصبحوا يرونها رأي العين، بل يقول أنس بن النضر رضي الله عنه: [والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد] فتحت له الجنة فشم رائحتها، فاشتاق إليها، وانطلق حتى يدخلها رضي الله عنه وأرضاه. لو قلنا لكثير من المسلمين: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، كم من المسلمين يتخلفون عن ذلك؟ أين عقيدتنا التي دائماً ننادي بها، أهي مجرد دعوى؟! تلك لا رصيد لها عندنا في أمة الإسلام، بل هي سلوك وعمل وانطلاق بعمل لهذه الأصول الإيمانية. الله لما قال لنا: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] أين يجد الإنسان حصائد تلك الأعمال؟! إنها في الآخرة يجدها دائماً أمام عينيه، إن قضية اليوم الآخر تعطينا أصلاً عظيماً، ليعلم أولئك الطغاة والظلمة واللصوص الذين يسرقون أموال الناس ويبذرونها في غير حقها أن ربي لهم بالمرصاد ولن يغفل عنهم إطلاقاً، سواء في الدنيا يعاقبون أم في الآخرة، أوليس الله يقول: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58] ؟! والله يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35-36] ويقول سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] .

آثار الإيمان باليوم الآخر

آثار الإيمان باليوم الآخر إن الإيمان باليوم الآخر له آثار، وأعظم آثاره على العبد أن يجعله يستشعر قضية الآخرة في كل عمل يعمله، فيشعر المسلم أنه مسئول عنه، مسئول في كل صغيرة، انطلقت إلى العمل سأسأل عن هذا، انطلقت إلى متجر سأسأل عنه، انطلقت من معصية سأُسأل عن ذلك الأمر، لم قال الله: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ؟ فإن المحاسب في ذلك اليوم هو رب السموات والأرض الذي لا تخفى عليه خافية، يقول العاصي: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] . إن الإيمان باليوم الآخر يجعل صاحب العمل يجد في عمله ويجتهد، كم هم الذين يفرطون في أعمالهم في الدوام وفي الإنتاج وغير ذلك؛ لأنهم غفلوا عن قضية المحاسبة، وغفلوا عن قضية تأمين مستقبلهم. إننا أمة قيل لها: إن الدنيا هي مزرعة الآخرة، قيل لها: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] قيل لها: انطلقي بالأعمال الصالحات لترتقي في درجات الجنة. كثيرون هم الذين إذا قيل لأحدهم: اتق الله. قال: الدنيا فانية؛ فينبغي لك أن تعيش وتأكل من متاعها، وتنسى ما أنت قادم إليه!! وهذا من الجهل والخطأ، بل إننا أمة لها زاد؛ وزادها التقوى والصلاح والأعمال الصالحة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة فقال: علام اجتمع هؤلاء؟ فقيل: على قبر يحفرونه، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا على ركبتيه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- يقول البراء: فاستقبلته من بين يديه فنظرت ما يصنع صلى الله عليه وسلم، فبكى بكاء مراً حتى اخضلت لحيته -تذكر اليوم الآخر، وتذكر ما أعد الله لأوليائه، وتذكر ما الناس قادمون إليه- ثم قال صلى الله عليه وسلم: أي إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا، لمثل هذا اليوم فأعدوا) كم نزور المقابر لتذكرنا بالدار الآخرة، وقلوبنا في غفلة؟! بعض الناس يبقى في المقبرة يضحك مع صاحبه، وربما يعزمه ويستضيفه، أين التذكر للدار الآخرة، والعرض على الله سبحانه وتعالى؟! قال صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت) الذكي عندنا نحن في الدنيا، من يجمع الدينار والدرهم ويستطيع أن يكسب، لكن الكيس الحقيقي الذكي هو الذي يجمع للدار الآخرة لا لأمور الدنيا. من آثار ذلك: أن إيماننا باليوم الآخر يسهل علينا بذل النفس والنفيس والدينار والدرهم في سبيل الله تعالى، جاء أحد الصحابة بناقة مخطومة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هذه في سبيل الله افعل بها ما شئت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة) يقدمون الأعمال ويجدونها أمام أعينهم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] . ويبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في أحاديث كثيرة؛ كما في حديث أنس لما قال: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) ولتذهب تلك النفس ولا ترجع للدنيا؛ لأني أضعها في موقع أفضل من ذلك، الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا ذهبوا للجهاد يودعونهم لا يريدون منهم الرجوع، ولما رجع أهل مؤتة استقبلهم الصبية وصغار الناس يحثون في وجوههم التراب يقولون: أنتم الفرَّار لم رجعتم ودعناكم على ألا ترجعوا، موعدكم هناك في جنة الفردوس، لم رجعتم إلى الدنيا وإلى أهليكم؟!! هكذا كان الصحابة ينشئون رضي الله عنهم، وعند ذلك ما يهمهم شيء: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي إن الإيمان باليوم الآخر يهون على المسلم الشدائد مهما كانت تلك الشدائد، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى كما في الحديث القدسي: (من ابتليته في حبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة) (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له) .

من أصولنا: الإيمان بالقضاء والقدر ومراتبه

من أصولنا: الإيمان بالقضاء والقدر ومراتبه ننطلق إلى أصل آخر ونختم به: إنه قضية القضاء والقدر الذي أغفله كثير من الناس. إن القضاء والقدر في عقيدتنا لا بد له من مراتب أربع: - المرتبة الأولى: مرتبة العلم. يجب أن يعلم الناس أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وأنه أحاط بكل شيء علما، وأنه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون -سبحانه وتعالى- وأنه عالم بالخلق جميعاً بكل جزئية صغيرة أو كبيرة، حتى ورق الشجر؛ ما تسقط من ورقة في هذا الكون إلا ويعلم ربي متى تسقط، وفي أي موضع من الأرض تسقط، والله يقول: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] ويقول سبحانه وتعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] أي: عالم السر والعلانية، وعالم أمور الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى {إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه:98] وإلى غير ذلك من الآيات. - المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة. ما حدث لأمتنا وما حدث للدول المجاورة أحدث فلتة؟! أليس من أصولنا أن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؟! أليس أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال القلم: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، فما حدث للأمة أمر قد كُتب، فلا بد من وقوعه!! ليس معنى هذا أن نسلم، بل ما مضى نسلم به فالحمد لله على قضائه وقدره، ونصبر، وما كان مستقبلياً نعد العدة لئلا يقع شيء من ذلك، وهكذا أمرنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ويقول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] ويقول: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61] ليبين لنا هذا الأصل العظيم. - المرتبة الثالثة: وهي مرتبة الإرادة والمشيئة. يجب أن نعلم أن ما حدث إنما هو بإرادة الله، ليس صدام هو الذي أراد هذا الشيء، بل الله المريد: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] الله هو المريد سبحانه وتعالى. إن كل شيء يجري في هذا الكون فهو بمشيئته: (فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) فلا يخرج شيء في هذا الكون عن مشيئته: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ويقول: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:6] ويقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان:30] . - المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق. فالله سبحانه خالق كل شيء، ومنها أفعال العباد، فلا يقع شيء في هذا الكون إلا وهو خالقه سبحانه وتعالى، والله يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر:62] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] .

آثار الإيمان بالقضاء والقدر

آثار الإيمان بالقضاء والقدر إن الإيمان بالقضاء والقدر لا شك بأن له آثاراً. أولاً: إن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب للمسلم ارتياحاً، فلا يمرض نفسياً، إن الكفار متى حدثت بهم أدنى مصيبة جزعوا ولجئوا إلى الانتحار، أو البعد عن الواقع بمخدرات أو غيرها، أما أمة الإسلام فمهما أصابها من الشدائد والابتلاء لا تلجأ إلى هذا الشيء، بل تتمسك بعقيدتها؛ لأن لديها أصولاً إيمانية تجعل نفسها تستقر استقراراً كاملاً: ثانياً: إن المؤمن بالقضاء والقدر يوجد له أثر أنه لا يتكبر ولا يتجبر، فإما أن يكون الإنسان عنده كثرة مال، فالمال مال الله هو الذي أعطاك إياه، هل أنا أعلم ماذا أكسب غداً؟ لا أعلم أبداً، فالمال أولاً وآخراً هو من الله سبحانه وتعالى، فلم تتكبر؟ والمعطي الحقيقي هو الله، حتى ولو كان لديك قوة جسدية، فالله هو الذي أعطاك إياها سبحانه وتعالى، لست أنت الذي أعطيت نفسك، فعند ذلك لا مجال للتكبر والتجبر على عباد الله. إن العبد إذا أصابه الخير فإنه لا يبطر، بل إنه يسبب له هذا الخير شكر الله تعالى وحمده وتصديقه، والإيمان به، ويزداد في عبادة الله، لكن إن أصابه الشر صبر على ذلك ورضي بقضاء الله وقدره. ثالثاً: إن من آثار الإيمان بالقضاء والقدر أنه يسحب الأمراض التي توجد بين الناس، كم هم التجار الذين يتنافسون في جمع الدينار والدرهم؟ فإذا باع صاحبه نافسه هو وأوجد له حسداً، كم هم الطلاب الذين يكونون في الفصل ويوجد بينهم التنافس والحسد والحقد؟ لماذا يأخذ درجات أكثر مني؟! ولم هذا كسب من المال؟! إن ذلك من الله تعالى ليس منك، يجب أن نعلم أن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب للإنسان شجاعةً وصبراً عند الشدائد، وثباتاً في ساحات القتال، إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. رابعاً: خالد بن الوليد الشجعان من الصحابة رضي الله عنهم، ألم يدخل المعارك كلها وما قتل رضي الله عنه، وتمنى الشهادة وما تحققت له، يبحث عن الموت في كل موقعة، وفي كل مكان، ولم يقتل رضي الله عنه وأرضاه. إن المؤمن بالقضاء والقدر يعلم أن الأجل بيد الله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ويبين لنا في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] . البراء بن مالك في حديقة الموت يقول للصحابة: [ارفعوني على الرماح حتى أقفز على الحديقة] وينزل على الأعداء أجمع يعلم أن الأجل بيد الله، ويقاتل الأعداء ثم يفتح باب الحصن ويكبر الصحابة فيدخلون، وينصرهم الله بنصر من عنده. خامساً: إن من آثار إيماننا بقضاء الله وقدره يوجب على الداعية إلى الله تعالى أن يصدع بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم؛ لأنه يثق بأن الأجل بيد الله، وإن الرزق هو بيد الله تعالى، ليس بيد أحد كائناً من كان ذلك الإنسان، فلذلك يجب أن نعلم أن لهذا القضاء والقدر آثاراً علينا. سادساً: إن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب علينا أن نتوكل على الله سبحانه وتعالى حق توكله، إلى غير ذلك من الآثار.

نماذج لرجال العقيدة

نماذج لرجال العقيدة أضرب أمثلة لرجال العقيدة كيف كانوا؟ ثم أنطلق إلى أثر العقيدة على المجتمع، وكيف يمكن أن نعيد الناس إلى هذه العقيدة؟ ربعي رضي الله عنه وأرضاه، انطلق مع سعد في إحدى الغزوات رضي الله عنه وأعطاه سعد كتاباً إلى ملك الأعداء، وقال: انطلق به إليه. وينطلق ربعي فلما جاء إلى قصره نظر الناس إليه؛ ترون أن كثيراً من المحلات لا يدخلها الناس إلا بصفة معينة، وإلا فلا يسمح له بالدخول، وإذا به بيت ملك من ملوك العجم، نظروا إليه وإذا ثيابه مرقعة، وكان أسمر فارع الطول رضي الله عنه، ومعه رمحه، ليس مؤهلاً لأن يدخل، لكن معه العقيدة ستدخله على رغم أنوفهم، قالوا له: أعطنا الكتاب نحن نوصله إلى الملك؟ قال: إن أميري أمرني أن أوصله إلى يده. قالوا له: إذاً تأتي بسلاحك فلا تدخل به. قال: ولا أدخل إلا بسلاحي وإلا رجعت. فيدخلونه إلى بلاط الملك، وكلكم يعلم ما في بيوت الملوك من الأبهة وغيرها، فيها الحرير والديباج والرخام وغير ذلك. دخل ربعي رضي الله عنه وأرضاه. أهو كحالنا إذا دخلنا ننظر إلى السقف وإلى الفرشات، وننظر يمنة ويسرة فتنبهر قلوبنا؟! كلا. انطلق بكتابه وهو يمشي إلى ذلك الملك، ثم يعطيه الكتاب ويسأله: لم جئت؟ جاء بعقيدته من جزيرة العرب يغزو بها، يقول: جئت لأخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. جئنا لنخرج الناس من عبادتك أيها الملك فإنك لا تستحق العبودية، ليعبدوا لهم رباً يقول للشيء: كن فيكون، برب يكلأ الخلق بالليل والنهار سبحانه وتعالى. وجئنا لنخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة. إنك أيها الملك وما معك من المتاع والعدة وغيره والله إنك لفي ضيق، وما وعدنا النبي صلى الله عليه وسلم بالآخرة لهو السعة، ولا ننظر إلى دنياك. هذا هو رجل العقيدة. ثم يسأله الملك ويقول له: كم في جيش الإسلام مثلك؟ قال: إني قد خلفت في جيش الإسلام آلافاً مثلي. قال الملك: والله ليملكن ما تحت قدمي هاتين. كلنا ننظر إلى الأبهة وما أعددنا، إنه رمح وأسلحة يسيرة، لكن معهم العقيدة يغزون بها في كل مكان. إذاً: نحن في حاجة إلى عقيدتنا أشد من حاجتنا إلى العتاد وغيره، وليس معنى ذلك إغفال العتاد، بل لا بد منه بمقتضى قول الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] . مثال آخر ولعلكم سمعتموه، وهي قضية المساومة على العقيدة. عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وأرضاه؛ هو رجل العقيدة، رباه المصطفى لعقيدة يدافع عنها في كل مكان، خرج في عهد عمر بن الخطاب فأسره الروم مع بعض الجنود، وأخبر الملك أن فيهم عبد الله بن حذافة شخصية نادرة، وهو ممن رأى النبي ورباه المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال: ائتوني به لأرى كيف تربية هذا الرسول. وجيء بـ عبد الله بن حذافة، فقال له الملك: أعطيك نصف ملكي وترجع عن دين محمد وتكون على ديني. فماذا يقول رجل العقيدة؟ يقول: لو أعطيتني ملكك كله وملك العرب عليه ما رجعت عن دين محمد طرفة عين واحدة. الله أكبر! كيف يعتزون بعقيدتهم؟!! ولا يتنازلون عنها في الشدائد والرخاء، عقيدتهم معهم، تمشي وتسري معهم؛ لأنها تتحرك في الجسد كتحرك الدم. انطلق إلى أسلوب ثانٍ: صلبه على خشبة وجاء بالرماة وقال: ارموه يمنة ويسرة علَّه يخاف ويرجع عن عقيدته، يرمون السهام تمر أمام عينيه وبين جسده ويقال: أترجع عن دين محمد؟ قال: لا. من قال إنني سأرجع. ما خرجت إلا لأدافع عن عقيدة محمد، وعن دين محمد صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي أسلوب أشد: يوقد قدرين ويضع فيهما الزيت فيغلي الزيت، ثم يؤتى بأسيرين من المسلمين، ثم يلقى أحدهما في الزيت فيتفسخ لحمه عن عظامه، وعبد الله بن حذافة ينظر، ثم يلقى الثاني أمام عينيه فيقال لـ عبد الله: ترجع عن دينك وإلا ألقيناك مثلهما؟ ويذهبان رضي الله عنهما شهيدين برحمة أرحم الراحمين، ثم يجر عبد الله بن حذافة ليلقى، فلما قرب من القدر ذرفت عيناه بالدمع، فقالوا: لعله خاف، لعله يريد أن يرجع، فسأله الملك فقال له: هل ترجع عن دين محمد؟ قال: من قال لكم إني سأرجع. قالوا: إذاً لماذا بكيت؟ قال: تذكرت أنها نفس واحدة تلقى في القدر فساعة ثم تنتقل إلى الرفيق الأعلى، وتمنيت أن لي أنفساً عدد شعر جسدي تلقى في القدر واحدة تلو الأخرى. الله أكبر! أين يوجد ذلك إلا في عقيدة التوحيد؟ هذه عقيدتنا التي دائماً نُنادي المجتمع كله فنقول: لنرجع إلى عقيدتنا، لنحيا حياة أولئك الأبطال رضي الله عنهم. حبيب بن زيد رضي الله عنه يقطعه مسيلمة الكذاب ويقول: تتبعني. قال: لا، والعجب منهم رضي الله عنهم أن عقيدتهم تجعلهم يتحملون الشدائد فما يبكون! أحدنا لو ضربت يده أو جرحت إصبعه طلب إجازة، وترك العمل أسبوعاً أو شهراً، وذهب للإسعاف مخافة أن يموت، أولئك تأتي جراحاتهم ضخمة رضي الله عنهم، ولكن العقيدة تصبرهم وتربط على قلوبهم فما تذرف أعينهم دمعاً. صحابي يخرج في الجهاد رضي الله عنه ويضربه أحد المشركين، وتظل يده متدلية بقطعة لحم، ويمشي بها سائر النهار يقاتل، فلما أثقلته وضعها تحت قدمه فقطعها ثم يكمل الجهاد في سبيل الله. أليس فيه عروق وشرايين ويخشى عليه الموت؟!! هو خرج بنفسه كاملة لتموت، لم يرد هذه اليد لتقطع فقط، بل جاء برقبته لتستأصل في سبيل الله. الله أكبر! هذه عقيدتنا التي ندافع عنها.

أثر العقيدة في قلوب رجالاتها

أثر العقيدة في قلوب رجالاتها إن لهذه العقيدة آثاراً على الناس، إن أمة العقيدة التي كثير من المسلمين في البلاد الإسلامية يدّعون أنهم على العقيدة، أمة العقيدة أمة يجب أن نعلم أنها تحافظ على أوامر الله وتجتنب النواهي؛ لأن ضميرها يؤنبها متى عصت الله تعالى، متى تأخرت عن الله في أوامره أنبها الضمير. أين نحن من أناس يدعوننا إلى نبذ الحجاب، والانطلاق بالنساء في الطرقات لتصبح كنساء الغرب، أهذه هي أمة العقيدة؟!!

أولا: أمة العقيدة تتمسك بدينها

أولاً: أمة العقيدة تتمسك بدينها تتمسك بأوامر ربها، تفتخر بعزتها وتمكنها بالتزامها بشرع الله تعالى، فهي بعيدة عن الربا؛ خوفاً من حرب الله ورسوله، بعيدة عن نبذ الحجاب؛ لمخالفة الدين، بعيدة عن المعاصي؛ لأنها تعلم بأن ربها سوف يراقبها في كل صغير وكبير.

ثانيا: أمة العقيدة أمة العزة

ثانياً: أمة العقيدة أمة العزة لأنها تشعر أن الله معها: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] من كان الله معه فهل يخاف أو يهاب الناس؟ والله ما يخاف ولا يهاب؛ لأن الله معه، ومن كان الله معه فلن يهزم ولن يغلب.

ثالثا: أمة العقيدة أمة تتحاكم إلى شرع الله تعالى، ولا تستبدله بغيره

ثالثاً: أمة العقيدة أمة تتحاكم إلى شرع الله تعالى، ولا تستبدله بغيره {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً} [المائدة:50] . إذاً: أمة الإسلام تتحاكم إلى شرع الله في كل صغير وكبير، لسنا كحال بعض الأمم تتحاكم لشرع الله في قضايا الأحوال الشخصية، أما بقية شرع الله فيعطل وما ندري متى تقوم قائمته ليحكم؟ أمة العقيدة تحكم شرع الله في كل جزئية من جزئيات حياتها.

رابعا: أمة العقيدة أمة نشيطة

رابعاً: أمة العقيدة أمة نشيطة عاملة لا تعرف الكسل، ولا النوم، ولا تعرف اللهو والزمر والطرب، وضياع الوقت باللعب وغيره؛ لأنها أمة تعلم بأن الله سيسألها عن كل صغير وكبير، سيسألها عن أوقاتها: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه) .

خامسا: أمة العقيدة أمة ذات تضحية وإيثار وبذل

خامساً: أمة العقيدة أمة ذات تضحية وإيثار وبذل لا تخاف عند بذل الأرواح شيئاً، بل تستشرف للمعارك وللقتال وللجهاد، إذا نادى النذير للجهاد انطلقت بكل ما فيها، هكذا كانت أمتنا أمة العقيدة، ولو قيل لكثير من المسلمين: قوموا إلى جنة، الآن جاء نادي الجهاد في سبيل الله بإعلاء كلمة الله، جاء الأب قال: ابحثوا عن غيرنا، ثم بدءوا يعللون النفس، إنه والله لهو الشرف للمسلم أن يقتل ابن الإنسان في الجهاد في سبيل الله، كم للآباء من أبناء استشهدوا في ساحات القتال في جهاد الأفغان، والله إنه العز لوالديه، والشرف للقبيلة التي ينتسب إليها ذلك الشاب؛ لأنه قتل لإعلاء كلمة الله. كم من الآباء يريدون أبناءهم أن يموتوا على فرشهم، أو أن يموتوا عندهم في البيت، وما يريدون رفع راية الإسلام، ولا رفع رءوسهم؟ لأن هؤلاء الأبناء قتلوا تحت راية التوحيد، جاء أحد الصحابة يقول: (يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم، يقاتل شجاعة، يقاتل شهرة، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) وهكذا هي أمة الإسلام؛ لأنها تعلم أنه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ولئن آثرت الأمة بمالها وأنفقته في الجهاد في سبيل الله، فهي تعلم بأن الله يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261] إلى آخر الآية.

سادسا: أمة العقيدة أمة مراقبة لله تعالى في كل صغير وكبير

سادساً: أمة العقيدة أمة مراقبة لله تعالى في كل صغير وكبير ليست أمة ترتبط بعقيدتها في بلدنا وإذا خرجت نسيت العقيدة، كم هم شباب الإسلام الذين ينطلقون يمنة ويسرة إلى بلاد الكفر، ينسلخون من عقيدتهم ودينهم، فلا يصلون، ولا يصومون، ولا يحرصون على طاعة ولا غيرها، وإذا بهم يتأثرون بما يحيط بهم من بلاد الكفر؛ وهذا من الجهل والخطأ. إن ربنا معنا في كل مكان سبحانه وتعالى، ربي الذي أعبده وأراقبه معي في أمريكا وفي غيرها من أصقاع الدنيا، لسنا نقول إذا خرجنا من هذا البلد: خلا لكِ الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري بل ربنا نراقبه في كل مكان سبحانه وتعالى.

سابعا: أمة العقيدة أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر

سابعاً: أمة العقيدة أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر أمة خيِّرة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ليست أمة متخاذلة متكاسلة، متى رأيت العاصي كلمته بكلمة لطيفة، نصحته إشفاقاً عليه، خوفاً من عقوبة الله، علَّ الله أن ينجيه بسببي من عقوبة الله تعالى.

ثامنا: أمة العقيدة أمة تلتغي فيها الروابط الأرضية

ثامناً: أمة العقيدة أمة تلتغي فيها الروابط الأرضية فروابط الأرض عندنا الجنس، واللون، واللغة، والأرض، والمصالح، تلك داسها الإسلام ووضعها تحت أقدام المسلمين، أصبحت رابطة العقيدة تربطنا من الشرق إلى الغرب، دخل بلال فيها وسلمان وعمر بن الخطاب فأصبحوا بنعمة الله إخواناً، لسنا نفرق المجتمع أحزاباً وطوائف لانتسابهم إلى أوطان، بل نقول: نحن أمة أخونا الذي تمسك بعقيدتنا في السند والهند وفي كل مكان من هذه الدنيا، هذه أمة العقيدة أمة ترتبط برابطة هذه العقيدة دون الروابط الأرضية.

تاسعا: أمة العقيدة أمة يستوي فيها الحاكم والمحكوم

تاسعاً: أمة العقيدة أمة يستوي فيها الحاكم والمحكوم ويستطيع الفرد العادي فيها أن يناصح مسئوليها وحكامها، بدون هيبة من سلطان ولا غيره؛ لأنه يعلم أن الحاكم منفذ لشرع الله، حارس لهذه الشريعة، ليس هو حاكماً على الشرع، ولذلك نتناصح فيما بيننا؛ لأنه يعلم كذلك بأنها أمة ليس فيها إذا سرق الشريف لم نقطع يده، وإذا سرق الضعيف أقمنا عليه الحد، بل أمة سواسية أرساها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها، أفي حد من حدود الله تشفع يا أسامة!) إلى غير ذلك.

عاشرا: أمة العقيدة تقيم الحرب والسلم على أساس العقيدة

عاشراً: أمة العقيدة تقيم الحرب والسلم على أساس العقيدة لا نقيم الحرب والسلم على أشياء دنيوية، بل متى تعرض أحد لعقيدتنا ولديننا وقفنا كلنا في وجهه عداءً له، ولهذا يجب أن نعلم أننا لا تثور ثائرتنا من أجل أمور دنيوية، بل متى انتهكت حرمات الله تمعرنا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويغضب أشد الغضب صلى الله عليه وسلم.

أمور تعين على الرجوع إلى العقيدة الصحيحة

أمور تعين على الرجوع إلى العقيدة الصحيحة العنصر الأخير وهو: كيف يمكن أن نرجع إلى هذه العقيدة؟

الأمر الأول: فهم الإسلام فهما عميقا

الأمر الأول: فهم الإسلام فهماً عميقاً هناك ثمة أسس لا بد من الرجوع إليها. أمة الإسلام في حاجة أولاً إلى أن تفهم هذا الإسلام فهماً عميقاً، إن كثيراً من المسلمين يفهمون هذا الدين أنه ليس إلا صلاة، وإعفاء لحية، وتقصير ثوب، هذا والله من الجهل، فهؤلاء لم يعرفوا العقيدة حق المعرفة، إن الفهم الصحيح أن نتمثل قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] فكل شيء في هذه الحياة الدنيا يجب أن يكون مرتبطاً بعقيدتنا، أن نستشعر بمعية الله لنا، بمراقبة الله لنا، بأننا مع الله إذا استقمنا على طاعته، وبأن الله معنا إذا تمسكنا بشرعه.

الأمر الثاني: الرجوع إلى هذا القرآن

الأمر الثاني: الرجوع إلى هذا القرآن كم هي المصاحف في المساجد التي قد اغبرت؟ وينطبق علينا قول الله على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] كم هو القرآن الذي يدوي في بيوتنا كدوي النحل؟ كم هي البيوت التي مزمار الشيطان يدوي فيها؟ قلما يوجد بيت مسلم إلا ومزمار الشيطان يدوي فيه، وبعض الناس إذا سمع القرآن في بيت عجب منهم أميت لهم؟! أم كيف يصبرون ويتحملون سماع القرآن طيلة الوقت؟! سبحان ربي! كيف كانت بيوت الصحابة؟ كانت بيوتهم يدوي القرآن فيها كدوي النحل، كانوا يسمعون آيات الله آناء الليل وأطراف النهار، فكلما سمعوا آية تعلقوا بربهم، واستشعروا بعقيدتهم وتمسكوا بها. ثم نقول كذلك: ما تأثير هذا الفهم أصلاً على سلوكنا؟ فنريد أن تُدرس العقيدة لا لأجل أن يختبر فيها في آخر الفصل، ولا لأجل أن يحصل عليها درجات، ولا لأن يحمل شهادة، بل تدرس العقيدة لينطلق الإنسان بسلوكه في الحياة، إن المسلم إذا درس الكيمياء، أو الفيزياء، أو الرياضيات، ما منا أحد إذا علم معادلة ازداد إيماناً وخشوعاً وتقوى وصلى لله ركعتين، لكنني إذا ارتبطت بربٍ يقول للشيء كن فيكون، تمسكت حق التمسك، وعلمت بأن هذا يزيدني إيماناً وصلاحاً وتقوى.

الأمر الثالث: دراسة سير السلف الصالح

الأمر الثالث: دراسة سير السلف الصالح أمر آخر: إننا في حاجة إلى دراسة سير أولئك الأخيار كيف طبقوا هذه العقيدة؟ كيف غرس النبي في نفوسهم هذه العقيدة؟ مكث النبي ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يغرس هذه العقيدة غرساً عميقاً، حتى إذا جاءت الأوامر انصاعت جوارحه انصياعاً كاملاً، تنزل آية الخمر: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] تسيل سكك المدينة كاملة بالخمر، لم؟ كانوا يشربون الخمر، لكن لما جاءتهم العقيدة ورست قذفوا بها ورجعوا وقالوا: (انتهينا انتهينا) . كم من الناس إذا عرضت عليهم أوامر الله وحذروا من النواهي قالوا: بعد التدريج، والله المستعان، وتغير الوضع، أين رصيد العقيدة لتنفذ الجوارح تبعاً لتلك العقيدة؟!

الأمر الرابع: مقاومة المبادئ الهدامة

الأمر الرابع: مقاومة المبادئ الهدامة نقول كذلك: إننا في حاجة ماسة إلى مقاومة المبادئ الهدامة، والعقائد الفاسدة، فإن بعض الناس يدرسون قضية القومية العربية بلاد العرب أوطاني، ثم ندرس قومية عربية. ديننا يقاوم هذه القومية وينبذها، لسنا ننادي بقومية بل ننادي بالإسلام، وننادي بعقيدة الإسلام، القومية قد التغت منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد وضعها تحت قدميه، ويقول لرسوله: {وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] يقال للنبي: أتريد زينة الحياة الدنيا؟ لما جاء كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو تركت لنا يوماً ولهؤلاء الضعفة يوماً، وينزل الخطاب من الله: ((وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)) [الأنعام:52] ) . إذاً: الرابطة عندنا هي العقيدة ليست غيرها، ويجب أن يعلم الشباب فضائح العلمانية والبعثية والشيوعية يجب أن يبصر الناس بها، لا أقول العامة، لكن الطبقة المثقفة يجب أن تعلم هذه المبادئ الهدامة، والعقائد الفاسدة؛ لأنهم يخططون على عقيدتنا، يريدون أن يهدموها، يريدون أن يربطونا بروابط غير العقيدة، فنقول لهم: لا وكلا، لا رابطة عندنا إلا تحت راية التوحيد، لا إله إلا الله نرتبط تحت لوائها في كل مكان، واخسئوا أينما كنتم في أي مكان، فلا نقبل منهم مهما كان الأمر. يجب أن نعلم أن كل من حاول مساساً لعقيدتنا ضربناه بيد من حديد، فلا هوادة في الوقوف معه، ولا مجاملة له ولا إصغاء إلى مقالته، بل عقيدتنا هي أهم علينا، نغار متى تعرض لها، وتثور ثائرتنا متى تعرض لها، ونقف بدمائنا وأنفسنا دفاعاً عن هذه العقيدة، لا نتنازل عنها بوجه من الوجوه.

الأمر الخامس: عدم المجازفة بإطلاق الأحكام على الناس

الأمر الخامس: عدم المجازفة بإطلاق الأحكام على الناس ثم نقول: ينبغي للمسلم أن يكون حريصاً مع علمه بهذه الأمور ألا يجازف في قضية أحكامه، ولا في قضية الجزم على الناس، فإنه من أظهر لنا حقيقة التوحيد قبلنا منه، ومن تعرض لنا بشيء من ذلك رددنا عليه، ولم نقبل منه بوجه من الوجوه. إن عقيدتنا شيء غالٍ وثمين، ليست رخيصة عندنا نجعلها مجرد دعوى، كم هم الناس الذين إذا قيل لهم: أرونا سلوك هذه العقيدة. قالوا: الحمد لله تراها أنت على ظواهرنا، العقيدة ما يخرج رصيدها إلا في الشدائد، كما يقول أحد السلف: الناس في العافية سواء، وفي حال الشدائد يتميز الناس. كم خرج لنا في هذه الأحداث من مرضى القلوب، كم خرج لنا من التصرفات السيئة، كم خرج لنا من الألفاظ الكفرية، قال بعض الناس: إن قوى الكفر تقول للشيء: كن فيكون. إننا إذا ارتبطنا بالله وبقوى الكفر فلا شيء علينا ولا تثريب. من قال هذا الشيء عقيدتنا تأبى هذه الكلمات، وتحكم على أصحابها بأنهم مرقوا من الإسلام فيجب عليهم أن يرجعوا، لسنا نحابي أحداً ونقول: إن هذه الألفاظ ليست يسيرة وسهلة، بل هي ألفاظ خطيرة، فلنتمسك بعقيدة التوحيد ولنرجع إليها رجعة صادقة. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعني وإياكم في مستقر رحمته، وأن يجعلنا نموت على هذه العقيدة، وأن يتوفانا على راية التوحيد، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، وأن يرفع راية الجهاد خفاقة، وأن يقمع أولئك العلمانيين ومن حذا حذوهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم اخسف بهم، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم إنهم لا يعجزونك وهم أكالوا لنا بحرب فنجعلك ربنا في نحورهم، اللهم اكفنا شرورهم بما شئت، اللهم لا تجعل لهم قائمة، وأعل راية التوحيد خفاقة في هذه البلاد، واجعلنا ممن يتمسك بهذا الدين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، معزين لمن أطاعك مذلين لمن عصاك، خاذلين لمن أراد أن ينحرف عن هذا الطريق المستقيم. ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

دروس من سورة الغاشية

دروس من سورة الغاشية كتاب الله هو النور الذي يشق دياجير الظلام، ويهدى به إلى طريق الجنان، وقد أزف الناس عنه ورغبوا عما فيه جهلاً وغفلة، وما سورة الغاشية على قصرها إلا موجز عظيم يحث على ضرورة لزوم كتاب الله تعالى في الحل والترحال، فقد صاغ الله فيها عبراً شتى لفئات البشر، ذاكراً فيها نعيم المتقين وجزاء الكافرين، مع حث الناس على التفكر في مخلوقاته التي تدلهم على فضله.

أهمية الوقوف على معاني القرآن

أهمية الوقوف على معاني القرآن الحمد لله على نعمة الإسلام التي أنعم الله بها علينا، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] الحمد لله الذي أنشأنا في بلد إيمانٍ، وبلد هو منبع الرسالة ونزول القرآن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه. وبعد: ألتقي بأحبتي في هذه المدينة المباركة، وإني في مقدمة كلمتي أشكر فرع الوزارة على أن هيأ لي هذا اللقاء، الذي أسأل الله أن ينفعني وإياكم به، كما أشكر المكتب التعاوني بمدينة الرس على ما بذلوه من جهدٍ وعلى حرصهم ومتابعتهم، وليس هذا بغريب عليهم. أقول لأحبتي: إن الأمة بحاجة إلى الوقوف مع كتاب ربها تلك الوقفات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقفها مع صحابته رضوان الله عليهم، تلك الوقفات التي تترجم سلوكاً عملياً لهذا القرآن في سلوكه صلوات الله وسلامه عليه، لما سئلت عائشة رضي الله عنها وأرضاها عن خلقه، ما زادت على أن قالت: [كان خلقه القرآن] فهذا هو الخلق الذي تُرجم إلى سلوك عملي وقيل للأمة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] . إن الأمة لفي حاجة إلى إقامة دروس حول القرآن، وحول هذا الكتاب العزيز، وأقول للأحبة: ربما يقام درس في الحديث أو الفقه فترى عدداً هائلاً، ولكنك حين تقيم درساً لتفسير القرآن ترى قلةً ممن يحضره، وربما لا يحضره إلا طلاب العلم الذين يحرصون على الاستفادة من كتاب ربهم. كانت مجالس الصحابة هي القرآن، وهاهو أسيد رضي الله عنه وأرضاه يجلس لـ عمر، ويقول له عمر: [شوقنا لربنا، ذكرنا ربنا] وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لـ ابن عباس فيقول: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) ومعنى علمه التأويل: أن يعلم معاني هذا القرآن العظيم. سبحان الله! إني أتأمل في حياة شيخنا العلامة مفتي هذه الديار سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ما من درسٍ يقيمه إلا والتفسير معه، بل إنه جعل له درساً خاصاً يوم الجمعة بعد الصلاة يقرأ في تفسير الإمام البغوي وحده غير الدرس الذي في الفجر، وفي المساء في تفسير ابن كثير، وما نسي التفسير لعلمه أن القرآن هو أصل هذه الأمة وعزها، وتمكينها. وأقول للأحبة: نحن في حاجة لأن نرتبط بهذا القرآن ارتباطاً قوياً، وما شرفت أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الكتاب العظيم، إذ أنزل عليها أفضل الكتب وأحسنها. وقد أنزله الله لأي شيء: أهو لأجل أن يتبرك به؟! أو يُقرأ على الموتى وفي المصائب إذا حلَّت بالناس من مسٍ أو جنون؟! أم أنزل ليعلق ويصبح تحفة جميلة في مجلس أو صالة أو غيرها؟! أم أنه أُنزل ليبتدأ به في الحفلات؟! أو ليصبح حروزاً تعلق على صدور المرضى؟! لا وربي! إنه أنزل ليعمل به المسلمون، وليترجم إلى سلوك عملي، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنه ونقل عن ابن مسعود وغيره من أصحاب رسول الله: [إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فارعها سمعك؛ فإما خير تؤمر به، أو شر تحذر منه] كم نسمع: (يا أيها الذين آمنوا) وما ندري، وكأن الخطاب يرجع للصحابة وحدهم، ونعوذ بالله أن نكون من قومٍ ذكرهم الله -وهم الكفار- ويتشبه بهم بعض الناس قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] . إن هذا القرآن وصفه الله بصفات عجيبة بديعة: - أنه هدى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] . - أنه شفاء: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء:82] . - أنه نور وروح وحياة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52] . فمن هدي لهذا القرآن وهدي للعمل به فوالله إنه هو المستقيم على دين الله تعالى. ونحن والله في حاجة إلى أن نرتبط بكتاب ربنا.

دلالات وإشارات من سورة الغاشية

دلالات وإشارات من سورة الغاشية لعل بعض الأحبة يقول: لم اخترت هذه السورة دون غيرها؟ فأقول: قد فكرت في نفسي وقلت: لم أقيم درساً طويلاً في القرآن، ولكن لو جعلتها دروساً متعلقة بالسور التي نقرؤها نحن، ونسمعها دائماً، وترتبط بنا بمناسبات وبأوقات محددة، فالناس في حاجة إلى أن يكشف لهم شيء من معانيها، وأن يستفيدوا شيئاً من دروسها، وأن يتأثروا بما فيها من معانٍ ودلالات، وإن كنا بحاجة إلى معرفة تفسير القرآن كله وليس سوراً محددة؟ وسبحان الله! إني أتأمل قول الشافعي رحمه الله تعالى حين قال كلمته المشهورة في سورة والعصر: أنها لو أنزلت على الناس كحجة وحدها لكفتهم. لما تشتمل عليه من المعاني العظيمة؛ من الأمر بالإيمان، والعمل والصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهذا هو الدين، وهي سورة جامعة عظيمة. كيف والناس في حاجة إلى علمٍ بسورة الفاتحة -أعظم سورة في كتاب الله- وفي حاجة إلى أن يعلموا شيئاً من السور التي نقرؤها في مناسبات عدة؟ مثلاً سورة الغاشية فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه أنه سئل: (بم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة؟ قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] ) نسمعها يوم الجمعة، ويوم العيد، ونقرؤها في الوتر، وتجد أن الإنسان يحتاج إليها ويقرؤها لما تشتمل عليه من المعاني العظيمة.

المواضيع التي تحدثت عنها سورة الغاشية

المواضيع التي تحدثت عنها سورة الغاشية هذه السورة سميت بهذا الاسم في المصاحف وكتب التفسير، وكذا كان عنوانها في سنن الترمذي رحمه الله. وهي سورة مكية بالاتفاق، نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف، وآياتها ست وعشرون آية، وهذه السورة ترتكز على أربعة مواضيع ضخمة: الموضوع الأول: عن تهويل يوم القيامة، وما فيه من عقاب قوم أعرضوا عن ربهم، مبينة حالهم، ومشوهة حالتهم، ومبينة واقعهم في النار، نعوذ بالله من النار. الموضوع الثاني: عن طائفة وهم أهل الإيمان. أسأل الله أن نكون وإياكم منهم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] بين الله حالهم وما لهم من النعيم وما أعد لهم في جنات عدن؛ بسبب صلاحهم وإيمانهم وتقواهم. الموضوع الثالث: اشتملت السورة على الركن الثاني: وهو النظر في آيات الله الكونية، والاستدلال بمخلوقات الله تعالى التي نصبها الله أمام أعين الناس يشاهدونها ليل نهار، بل إنها تلتصق بحياتهم فلا يستغنون عنها طرفة عين، سواء في الإبل -وهذه حالة العرب معهم، وسيأتي الكلام عليهم- أو في السموات أو الجبال أو الأرض {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] من كان ذا لبٍ ممتلئٍ بالإيمان والصلاح والتقوى فإنه يستجيب لتلك الآيات: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] ومن كان في غفلة وإعراض عن ربه فلا يدري مهما جاءته من آية، ومهما مرت عليه، فما تغني عنه تلك الآيات، ونعوذ بالله أن نكون من القوم الغافلين. الموضوع الرابع: ختمت بالركن الثالث: وهو تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، وألا يعبأ بإعراض الكافرين: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] . وختام هذه السورة يحتاج إلى محاضرة كاملة؛ لأنها منهج للذين يدعون إلى الله ويريدون أن يتأسوا بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك تربية ربانية للأنبياء والرسل، وتربية لنا نحن ممن يريد أن يتأسى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتربية للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء: (فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) . ومبينة في ختام هذا الركن: أن الذين يعرضون عن دين الله أن وراءهم البعث، وأنهم راجعون إلى ربهم سبحانه وتعالى وسيجازيهم على كفرهم وعنادهم.

بيان حديث الغاشية وصفات من تغشاهم

بيان حديث الغاشية وصفات من تغشاهم قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] استفتحت هذه السورة بالاستفهام: هل بلغك حديث الغاشية؟ وهل هذا معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغه؟ لا. وهو خطاب لنا، وجيء بهذا الاستفهام للتشويق إلى معرفة الخبر بما يترتب عليه من الموعظة، ويدل على أهمية الخبر الذي بعده، وهذا في القرآن كثير كما في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21] {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9] وهنا: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وذكر الحديث ولم يفصل فيه أي حديث عن الغاشية هو؛ وذلك لزيادة التشويق في القلب: أي حديث هو؟! وذلك لأن الآتي من الأخبار عنهم، فيصبح الذهن متوجهاً ليعرف هذا الخبر وهذا الحديث، وليتمكن في القلب. والحديث هو: الخبر المتحدث عنه. ثم تأتي قضية الغاشية، وسبحان الله! إنك إن تتأمل أسماء يوم القيامة تجد أنها أسماء ضخمة: حاقة، قارعة، صاخة، غاشية، آزفة، كلها تهز القلب والوجدان كلها معانٍ ضخمة يقف المسلم معها متأملاً: أي حديث هو؟! وسميت غاشية؛ لأنها من الغشيان، فهي تغطي على القلوب فلا تستشعر شيئاً، ويصبح الإنسان في فزع، وقد حكاه الله في قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] . وذكر الله عنها: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] . وسميت غاشية؛ لأنها إذا قامت لم يجد الناس مفراً من أهوالها، فكأنها غشت على عقولهم، ويبقون حيارى فيها. وتلك المعاني في هذه الأسماء ليوم القيامة تقف في النفس موقفاً عجيباً: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-3] {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1-2] إنها تقرع القلوب وتغشاها وتفزعها، هذا إذا كان في القلب شيء من الإيمان يحركه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن تأثر به أشد التأثر، أليس لما سمع من ابن مسعود رضي الله عنه سورة النساء ووصل إلى قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء:41] قال النبي: (حسبك) ؟ لأن ما بعدها مفزع: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:42] ويصبح محمد أشفق الناس وبكى وذرفت عيناه بالدمع صلوات الله وسلامه عليه؛ من هول ذلك اليوم ومطلعه، إذ يقف محمد شهيداً على الأمة، والله سبحانه وتعالى مطلع لا تخفى عليه خافية. قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وما هو حديث الغاشية؟ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] وجيء بلفظ الوجوه؛ لأن الوجه تظهر فيه معالم ما في القلب، فإنك عندما ترى أخاك أو عزيزك أو قريبك وتنظر إلى ملامح وجهه تعرف أهو مسرور أم مصاب، وتعرف أنه في حزن أو في فرح، وتصبح تلك الوجوه تعبر عما في القلوب وأثر الجوارح عليها، وليس المقصود هنا الوجه وحده وإنما الجسد كله، ويعبر عن الوجه هنا بالذات، وقال بعض العلماء: يستدل عليه بقول الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] مقصود به الله سبحانه وتعالى، قالوا: واستدل لذلك في قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] كناية عن الناس وليس كناية عن الوجوه؛ لأن الطعام للجسد وليس للوجه. وسبحان الله! نجد هذا في القرآن كثيراً: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38-39] . وفي القرآن كذلك: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:40-41] والسبب؟ لأن المعاصي أظلمت عليه، أو الكفر والشرك والبدع أثرت عليهم فتصبح وجوههم مغبرة، ونعوذ بالله من تلك الوجوه. ووصفها أنها خاشعة، ويقصد به الذل، خشعت من الذل والفضيحة والخزي، ونعوذ بالله أن يفضحنا ربنا بسوء أعمالنا، بل نسأله سبحانه وتعالى أن يسدل علينا كنفه وألا يبدي لنا سوءة نكرهها يوم القيامة. ويأتي الخشوع بمعنى الذلة: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ} [الشورى:45] وكذلك في قوله تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:43] وفي قوله تعالى: {وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه:108] يصبح الناس في هذا اليوم في خشوع وسكون فما يستطيع أحد أن يحرك ساكناً، وهذه حال أهل الكفر والعناد والإعراض عن صراط الله المستقيم.

معنى قوله تعالى: (عاملة ناصبة)

معنى قوله تعالى: (عاملة ناصبة) هذه الوجوه الخاشعة: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:3] أي: أنها تكلفت الكثير من العمل والمشاق يومئذ، أي: في يوم القيامة، وأصبحت ناصبة، أي: متعبة، فهذه الوجوه -نعوذ بالله منها- ليست في نعيم، بل في تعب وشقاء، ويجرى عليها العذاب بأنواعه. وكل هذه الصفات تعريضاً بشقائهم، وتذكيراً لهم بأنهم تركوا الخشوع لله تعالى والعمل بأمره في الدنيا، فجازاهم الله بالنصب والتعب يوم القيامة، وبخشوع المذلة وبالإرهاق. ويقول بعض المفسرين رحمهم الله تعالى: إن هذه الآية: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:3] تنطبق في الدنيا على طائفتين: الأولى: على أهل الكفر والعناد، ونجد دليلاً على ذلك في أثر أورده ابن المنذر رحمه الله تعالى: [أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مرَّ بديرٍ للنصارى وإذا فيه راهب، فنودي هذا الراهب وخرج على عمر، فلما رآه عمر رضي الله عنه وجد عليه آثار الخشوع والتعبد، وما فيه من النصب والتعب في اجتهاده في عبادته التي هو عليها، فلما رآه عمر بكى، قالوا لـ عمر: إنه نصراني، قال: إنني أعلم أنه نصراني وإنما بكيت رحمة به؛ إذ أنه يشقي نفسه في الدنيا، وفي الآخرة مصيره إلى النار لا يستفيد شيئاً من هذا التعب] وأصبحت نظرته نظرة رحمة، وهنا أنبه على أدب لطيف نبه عليه الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين وهو: يجب أن تكون نظرتنا إلى أهل المعاصي نظرة إشفاق وعطف ورحمة. ويقول ابن القيم: لو كانوا يعرفون الله حق المعرفة ما عصوه، وما تجرءوا عليه بالعصيان، وليس هذا مما ينافي قضية الولاء والبراء، ولا ينافي أنهم يُبغضون في الله، لكن مع ذلك ينظر إليهم نظرة شفقة ورحمة؛ حتى يحسن أسلوب الإنسان في عرضه ونصحه وتوجيهه، وفي بيان الحق لهم. وهذا المنهج نأخذه مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم. إذاً: فقوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:3] تنطبق على طائفتين: الطائفة الأولى: أهل الأديان الباطلة والملل الفاسدة. الطائفة الثانية: وتنطبق على المبتدعة؛ لعدم تأسيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. من الناس من يكون مبتدعاً في دينه، ترى عنده كثرة التأله، والذكر، والركوع، والسجود، ولكنك لا تراه متأسياً بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم. كم نرى من الصوفية من الأذكار العظيمة، وكثرة الصلاة والصيام والمواصلة فيه، ومع ذلك لا يستفيدون؛ لأن من شرط العمل: أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، وأن يكون متأسياً فيه بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواجب علينا؛ فنحرص أشد الحرص على هذين الأصلين العظيمين: الإخلاص والمتابعة.

معنى قوله تعالى: (تصلى نارا حامية)

معنى قوله تعالى: (تصلى ناراً حامية) ما نتيجة هذه الطائفة التي عملت ونصبت سواء عملت في الدنيا كثيراً ثم تعبت في الآخرة، أو أنها عملت في الدنيا ونصبت وتعبت في الدنيا، على كلا التفسيرين: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:4] يقال: يصلى إذا أصابه حر النار. وسبحان الله! نجد الله يقول: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:4] ومجرد الصلي يكفي في حرارتها؛ لأنها تحيط بهم من كل مكان. وذكر النار بعد (تصلى) وأنها حامية؛ لزيادة التهويل، ولزيادة الإرهاب والإفزاع من يوم القيامة، وذلك يبين لنا أنها تجاوزت في الحد مقدارها المعروف؛ لأن الحمي عليها من لوازم النار، وهذا يدل على شدة حمي النار. ويصبح هؤلاء في دركات النار -نعوذ بالله من النار- ولقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم وفزع منها أشد الفزع، ورآها النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر منها تأثراً عجيباً وهو يقول: (أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار) رآها رأي العين يحطم بعضها بعضاً: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] تبحث عن أهلها تريد أن تلتهمهم، ونعوذ بالله أن نكون من أهل هذه النار. ولهذا كان دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في يوم الغاشية؛ هذا اليوم العظيم: (اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم) هم في فزعٍ وهلع وهم أنبياء الله! دعاؤهم: (اللهم سلم سلم) حين يذهبون إلى آدم ونوح وإبراهيم، ما يزيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يقولوا للناس: (إن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ويقول النبي: (نفسي نفسي، نفسي نفسي) مع عظم منزلتهم عند الله وكرامتهم على ربهم. وهذا يدلنا على أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولذهبتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش) . أي شيء رآه المصطفى؟ إنه رأى النار وما فيها من الفزع والهلع.

معنى قوله تعالى: (تسقى من عين آنية)

معنى قوله تعالى: (تسقى من عين آنية) وما حال هؤلاء الذين يسقون النار: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] ؟ سبحان الله! أقول للأحبة: ونجدها سنة، كلما اشتد علينا الحر نحتاج إلى الماء، في أيام الحر الشديد تجد أن جسد الإنسان يفرز عرقاً فيحتاج إلى كثرة الماء، وهؤلاء يصلون في نار حامية تحيط بهم من كل مكان، يستغيثون فيغاثون: {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] يشربه فيسقط لحم وجهه على الأرض من شدة حره وخبث طعمه. ولما ذكر الله الاحتراق في النار فإن الذهن يتصور مباشرة أن هذه الأجساد تحتاج إلى إطفاء شيء من حرارتها بالشراب، فجعل الله لهم هذا الشراب -نعوذ بالله أن نشربه- وهو من عين حامية أي: شديد حرها. وهنا نتذكر قصة رجل آخر يدخل الجنة، والحديث قصته في الصحيح وأنا أرويها لكم بالمعنى، وهو حديث عظيم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم حال آخر رجل يدخل الجنة، ونحن نعلم يقيناً أن الشمس تدنو من الخلائق، وأنهم يلجمهم العرق والناس على حسب ذنوبهم ومعاصيهم، فمنهم من يصل العرق إلى ثدييه ومنهم إلى حقويه ومنهم إلى ركبتيه ويحتاج الناس إلى ماء، فمن الناس من يسقون من حوض محمد صلى الله عليه وسلم -نسأل الله أن نكون ممن يرده- فإن من شرب منه فإنه لا يظمأ بعدها أبداً، وآخر أهل الجنة دخولاً يمشي على الصراط، وليتصور المسلم هذا الصراط الذي نُصب على النار، وهذه النار كما سيأتي شيء من صفاتها، تأتي يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع على كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ} [الملك:8] تجر جراً، وسيمشي كل واحدٍ منا عليها كما قال الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] هذا الصراط دحض مزلة، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعر، ويمشي الناس عليه على مقدار أعمالهم في الدنيا، ويحتاجون إلى نور؛ لأن النار سوداء مظلمة، والإنسان في حاجة إلى نور، فمن الناس من يكون نوره كالشمس، ومن الناس من يكون نوره كالقمر، ومنهم من يكون نوره كالكوكب الدري وهكذا. أما آخر أهل الجنة دخولاً فإنه يمشي ومعه نور في إبهام قدمه، وهذا لا يغني، فهو يمشي قليلاً ويسقط ويتعلق بيده، ثم يصعد على الصراط فيمشي قليلاً ثم يسقط فيتعلق مرة أخرى، والنار تسفعه يمنة ويسرة، ويمشي على هذا الصراط، وما يدري ما حاله، ويرى حوله الكلاليب تتخطف العصاة وأهل الكفر والبدع يمنة ويسرة، حتى إذا نجاه الله من النار التفت إليها وقال: الحمد لله الذي أنجاني منك. ويصبح جسده كالفحم، فالجسد مع شدة الحرارة يحتاج إلى أمرين: الأمر الأول: الظل البارد؛ لأنه يريد أن يطفئ حرارة جلده. الأمر الثاني: يحتاج إلى الماء البارد ليطفئ حرارة جوفه، فيخلق الله له شجرة طيبة وهي بعيدة عنه ويجري من تحتها ماء بارد فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة؟ فيقول الله: ألم أنجك من النار؟ -يعني: أليس أمراً عظيماً أن تنجو من النار- قال: بلى، ولكنه يعلم بأن رحمة ربه واسعة وسعت كل شيء، فأين الذين يريدون أن يتعرضوا لنفحات الله تعالى في هذا اليوم؟!! ويأخذ الله عليه العهد: ألا يطلب غير ذلك، فينقله الله إلى هذه الشجرة، يستظل ويشرب، ثم يخلق الله شجرة أحسن منها وأطيب ماءً فيلتفت إليها ويسأل، فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة، فيقول الله: ألم آخذ عليك العهود والمواثيق، ما أغدرك يا بن آدم! ولكن ظنه بربه أنه لن يخيبه، والله يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:186] فينقله الله إلى تلك. ثم يخلق الله شجرةً ثالثة وهي عند باب الجنة، فإذا قرب منها دعا ربه، ثم ينقل إليها فيرى أهل الجنة ويرى ما فيها من نعيم، فيقول: يا رب! إني أريد أن أدخل الجنة، أدخلني الجنة، فيقول: ما أغدرك يا بن آدم! وما أكثر ما تعاهد وتنقض، فيقول الله له: ادخل الجنة، أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، وفي بعض الروايات: أن الله تعالى قال: ادخل الجنة، فلما وجدها مليئة بالبشر قال: يا رب قد أخذ الناس منازلهم، فيضحك الجبار سبحانه وتعالى. وقال له في بعض الروايات: أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، قال: أيا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. أقلَّ الناس دخولاً للجنة له عشرة أمثال الدنيا. هذا فضل أهل الجنة وما أعد الله لهم. وبيت القصيد: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] شتان بين هذين الماءين؛ أهل الإيمان يسقون أولاً من حوض محمد صلى الله عليه وسلم، ويسقون من نعيم أهل الجنة وأنهارها وما فيها من الخير، وأهل النار يسقون من هذا الماء: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] وشتان بين هذين الماءين.

معنى قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع)

معنى قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) من احتاج إلى سقي يحتاج إلى شيء من الطعام، وماذا يطعم هؤلاء؟ إنهم يطعمون الضريع، يطعمون طعاماً كله آلام وتنغيص وتعذيب؛ فإنه لا ينفعهم أبداً، والأصل في الطعام أن الإنسان حين يطعم فإنه يطعم لأمرين: إما أن يطعم لكي يسمن، وإما أن يطعم ليدفع حاجة الجوع التي في جسده وشدتها، ولهذا قال الله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:6-7] فما يزيده إلا ألماً على ألم، كما أن شرابهم لا يكفي أن يسد عنهم رمق الظمأ، وهذا الضريع يابس وهو نبت ذو شوك إذا كان أخضر أكلته الإبل، وإذا يبس سمي ضريعاً ويصبح هذا الشوك ساماً، وقد وصف بهاتين الصفتين؛ لأنه لا يعود على آخذه بالسِّمَن حتى يصلح أجسادهم التي أكلتها النار، ولا يغني عنهم من دفع ألم الجوع شيئاً، وسبحان الله! ولعل الجوع نوع من عذابهم يوم القيامة، فيصبحون يعذبون في النار بشدة الظمأ والجوع، فيطلبون ماءً فيسقون ماءً حميماً، ويطلبون طعاماً فيطعمون ضريعاً فما يستفيدون شيئاً، نعوذ بالله من حالهم. وهذا يدل على أن المسلم الواجب عليه أن يحرص على الأعمال الطيبة في هذه الحياة الدنيا. وأقول للأحبة: إن هذه النار هي عذاب الله تعالى لمن أعدت له -ونعوذ بالله أن نكون من أهلها- وهي سجن المجرمين، والخزي الأكبر الذي لا خزي فوقه أبداً، والخسران العظيم الذي لا خسران بعده أبداً، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192] {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63] {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] .

من صفات النار وأهلها

من صفات النار وأهلها وأما النار فلا ندري عما نتحدث عنها. أنتحدث عن عمقها؟! فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس إذ سمعنا وجبة -أي: صوتاً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً -سبعين عاماً- فهو يهوي في النار إلى هذه اللحظة) الآن وصل إلى قعرها، ومع ذلك وعد الله سبحانه وتعالى هذه النار للعصاة وللكفار، والعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخل بعضهم ثم يخرجون؛ فإن النار لا يخلد فيها إلا المشرك، وأما الموحد -فلله الحمد- لا يخلد في النار. وما ندري أنتحدث عن كثرة الملائكة الذين يأتون بالنار؟ فهذا الحديث رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: (يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك) . أم نتحدث عن وقودها؟ فقد ذكره الله في القرآن: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] ونعوذ بالله أن نكون من وقود النار. أم نتحدث عن شدة حرها؟ فقد روى لنا البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن نارنا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، فقيل للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن نارنا لكافية) كافية أن يعاقب بها الإنسان، والصحابة رضي الله عنهم يحكون عن واقع، من منا يتحمل أن يضع إصبعه على وقود النار التي عندنا، من منا يستطيع أن يضع إصبعه على عود الثقاب حتى ينطفئ، فكيف إذا وعد الإنسان أن يكون في غمرات النار من فوقه وتحته -نعوذ بالله من النار- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها فضلت عليها -يعني: على ناركم- بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها) نعوذ بالله منها. أنتكلم عن بشاعة منظرها؟ فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني رأيت الجنة) ونسأل الله أن نكون من أهل الجنات، وقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، صلى النبي بالصحابة وإذا به تفتح له الجنة ويراها رأي العين، ويتقدم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم يريد أن يأخذ عنقوداً من عناقيد الجنة، قال الراوي: (فتقدم الصحابة ثم تأخر النبي فتأخر الصحابة فسألوا الرسول: لم تقدمت وتأخرت؟ فقال النبي: فتحت لي الجنة ورأيتها رأي العين فأردت أن آخذ عنقوداً من عناقيدها، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) عنقود واحد يبقى مع الناس ما بقيت الدنيا يأكلون منه، كيف بمن يتقدم في القصور والجنات، ويتقلب بين الأنهار والأشجار والخير العميم الذي أعده الله لأوليائه؟ وقال النبي في سبب تأخره: (رأيت النار فلم أر كاليوم منظراً أفظع منه أبداً، ورأيت أكثر أهلها النساء) ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم سبب ذلك. أما كثرة ساكنيها، فقد روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الله يقول لآدم: (يا آدم! أخرج بعث النار؟ قال: يا رب! وما بعث النار، قال: أخرج من كل ألفٍ من ذريتك واحداً إلى الجنة، وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، فلما سمع الصحابة ذلك الخبر غطوا رءوسهم ولهم خنين، يقولون: متى النجاة يا رسول الله؟! -متى ننجو إذا كان من الألف واحد إلى الجنة وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار- فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبشروا، ثم ذكر أن معظمهم من يأجوج ومأجوج -ثم أسرهم ببشرى عظيمة- قال لهم صلوات الله وسلامه عليه: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، قال: فكبرنا فرحاً، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، قال: فكبرنا فرحاً، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، فكبر الصحابة -فرحاً بهذا الخير العظيم-) . روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع) ولعلها تضخم أجسادهم والسبب: لتكون العقوبة على كل جزءٍ من أجسادهم. وقد ثبت في مسلم: (إن ضرس الكافر يوم القيامة أو نابه مثل أحد، وإن غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام) ونعوذ بالله أن نكون من الكافرين. وهذا يوجب لنا أحبتي أن نحمد الله تعالى على الهداية لهذا الدين، وعلى تحبيب الإيمان في قلوبنا، وأن تسأل الله دائماً الثبات على دينه.

وقفات للنجاة من النار

وقفات للنجاة من النار الوقفة الأولى: ينبغي لكل مسلم منا أن يكون له زاد في معرفة أهل النار، ومعرفة أحوالها وصفاتها، وثمرة ذلك أن نحذر أشد الحذر أن نكون من أهلها. الوقفة الثانية: ينبغي لنا أن نعرف الأسباب التي توجب لأهل النار أن يدخلوها، بأي شيء دخل هؤلاء؟! ولم دخل هؤلاء؟! طائفة دخلت لكفرها، وطائفة دخلت لنفاقها، وطائفة دخلت لردتها، وطائفة دخلت لمعاصيها وبعدها عن ربها، فاحذر أشد الحذر أن تكون من هؤلاء، وإن كنت على صلاح وإيمان فسل ربك الثبات إلى أن تلقاه، وأن يختم لك بخاتمة خير، وهذه المعلومات التي ذكرت عن النار ليست خاصة بالعلماء، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بها صحابته صغيرهم وكبيرهم، ويحدث ذكرهم وأنثاهم؛ لأن الخطاب عام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] . إن أهلك لفي حاجةٍ أن يحدثوا عن النار ولو بشيء يسير، وأن يحدثوا عن أصناف أهل النار، وعن الأسباب الموجبة للنار -نعوذ بالله من النار- وكم نحن في حاجة إلى أن يبصر الناس بمثل هذه الحقائق، عقولنا تسمع وتؤمن بها ولله الحمد، ونبقى في معرفة لهذا الغيب العظيم الذي يقف المسلم معه بإيمانه ويقينه أن هذا حق؛ لأنه ثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ويحدثنا الله عن الجنس الثاني، وسنة من سننه تعالى ومنهج في كتاب ربنا سبحانه وتعالى أنه إذا ذكر أهل النار ذكر أهل الجنة مقابلاً. ولعل السبب في ذلك: أن الإنسان يذكر النار فربما يجزم بأنه من أهلها، فيأتي خبر الجنة فيسليه ويحرص أن يكون من أهلها، وأن يعمل بما يوجب له دخولها.

نعيم الجنان وصفات أهلها

نعيم الجنان وصفات أهلها يقول الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] وعلم من السياق أن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن الوجوه الأولى هي الوجوه المكذبة بمحمد صلى الله عليه وسلم، والوجوه الثانية هي وجوه المؤمنين الصادقين الذين يتبعون منهجه ويتبعون ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في كل صغير وكبير، وتأتي تلك الوجوه ناعمة من اللين والبهجة والحسن، جرت عليهم نضرة النعيم فنضرت أبدانهم، ونضرت وجوههم، وأصبحوا في كل جانب على سرور وراحةٍ وطمأنينة. وسبحان الله! لماذا نضرت تلك الوجوه؟! لأنها ناعمة لسعيها راضية، ولأنها عملت بالطاعة في هذه الحياة الدنيا. وأقول لكل مسلم: إنك إن توفق لطاعة الله تعالى، ويفتح لك عمل من أعمال الخير؛ من حفظٍ لكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الدعوة إلى الله تعالى، أو أمر الناس بكل خير، أو مجالسة الأخيار، أو محبة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قيام الليل، أو غيرها، فسل ربك أن يعينك على هذا العمل إلى أن تلقاه، وسل ربك أن يرضيك. قال تعالى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9] ؛ لأنها تعبت في الدنيا وعملت بطاعة ربها فرضيت يوم القيامة كامل الرضا، والسبب: لأنها سترى حسنات عظيمات، والله وعد أولياءه في غير ما آية بكل عمل يجدونه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:7] بخلاف الطائفة الأخرى فإنها ليست راضية، والرضا ضد السخط. إذاً: هي حامدة لما سعته في الدنيا من العمل بامتثال أمر الله، وامتثال أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

علو الجنة ودنو ثمارها

علو الجنة ودنو ثمارها يقول الله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية:10] وهذه نتيجة لها، وأقول للأحبة: إن أعظم ما يكمل الله به العبد هو نجاته من النار، وإن كنا نقول: أعظم نعيم أهل الجنة رؤية الجبار، فكونك تنجى من النار وتدخل الجنة فضل عظيم، والله قد ذكره في كتابه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] ووالله لهو الفوز العظيم، والسبب: لأن الجنة جمعت أنواع النعيم كله. وسميت جنة؛ لاستئثارها بكثرة ما فيها من الأشجار والنعيم والخير العظيم الذي أعده الله لأوليائه، وأصبحت جنة عالية، وهذا من زيادة الحسن، وسبحان الله! الآن في واقع الحياة كلما كانت البساتين في سفوح الجبال كانت لها مناظر عجيبة، وأثر في النفس وانشراح في الصدر، ولذا إذا رأيت جبلاً كله أشجار ومزارع قلت: سبحان الله العظيم! الذي أوجد هذا الكون. وأهل الجنة في جنة عالية ليست منخفضة، وتصبح مساكنهم في أعلى، وتصبح فتصبح غرفهم من فوقها غرف مبنية فيصبحون في علو، وهذا من فضل الله تعالى الذي أعده لأوليائه، فهم يشرفون على ما أعد الله لهم من الكرامة. وتصبح مع علوها قطوفها دانية، والقطوف هي الثمار من فواكه وخير، واللذيذ الذي لا انقطاع له، وثمار حسنة. دانية أي: في التناول، ما يحتاج إلى قيام، فإذا كان مضطجعاً ومستريحاً ويريد فاكهةً ينزل عليه الغصن فيأخذ منه، ولا يحتاج إلى رفع يده، ولا إلى قيام، نسأل الله أن نكون ممن يأكل من هذه القطوف الدانية، ويصبحون يتناولونها على كل حال. وكم يحصل للناس من النعيم عندما يدخلون الجنة العالية، ويصبحون من نعيمهم أنهم لا يسمعون فيها لاغية، فمجالسهم في الجنة لا لغو فيها أبداً؛ واللغو هو الكلام الذي لا فائدة منه، وفيه تنبيه: على أن الجنة دار جد فلا مكان لما لا فائدة منه. أقول: كم نجلس في المجالس فيحصل منا اللغط، وكم نجلس المجالس فنتكلم بأمور قد لا تعود علينا بالنفع في الدنيا ولا في الآخرة، وأهل الجنات كلامهم كله حق ونافع ومشتمل على ذكر الله تعالى، وذكر نعمه المتواترة عليهم.

عيون الجنة وأنهارها وسررها وفرشها

عيون الجنة وأنهارها وسررها وفرشها يقول الله عز وجل: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية:12] وهذا وصف للجنة، وذلك باستكمال محاسنها، وما أحسن أن يكون البستان تمر به ترع الماء والأنهار، وسبحان الله! فرعون قبحه الله لما أخبر موسى عليه الصلاة والسلام أن الله أعد لأوليائه جنات تجري من تحتها الأنهار ماذا عمل فرعون؟! بنى قصوراً وجعل الأنهار تجري من تحتها ونادى في قومه: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] بئس ما قال، وشتان بين مقالته وبين ما أعد الله لأوليائه في جنات عدن. لما ذكر الله في القرآن: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً} [الإسراء:91] وهذا اسم جنسٍ لقضية العيون الجارية، وعيون الجنات كثيرة أعدها الله لأوليائه، وهذا من الحسن الذي كان لهم. ويصبح لهم من النعيم كذلك تلك السرر المرفوعة، وهذا من محاسنهم، سرر وقصور عظيمة في داخلها تلك السرر، والسرير: هو ما يجلس عليه الإنسان ويضطجع عليه، ووصفت بأنها مرفوعة بتصوير حسنها، والأصل في السرير أن يكون مرتفعاً عن الأرض، وكونها مرفوعة لكمال حسنها، فهي مجالس مرتفعة وفيها من الفرش اللينة الوطيئة، وفيها أكواب موضوعة، والكوب هو: الذي له عنق وساق وليس له عروة، وتصبح موضوعة دليل على أنها معدة لأولياء الله تعالى، ما يحتاجون أبداً إلى أن يصبوا فيها شيئاً، أعدها الله لهم فهي مجهزة، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وكل ما طلبوه وصل إليهم وحصل لهم فيها الخير العظيم، وتصبح هذه من لذائذ الجنات، ولهم النمارق؛ والنمرقة: هي الوسادة التي يتكئ عليها الجالس والمضطجع، وهي من الحرير والإستبرق، وهي مما لا يعلمه إلا الله، وقد أعطوا خيراً عظيماً وأجراً كبيراً، وتصبح لهم كذلك الزرابي؛ وهي جمع: زربية، قالوا: هي البسط الحسان، وأحسن البسط عندنا هي المنسوجة من الصوف الناعم، وتفرش في الأرض للزينة، مثلما يوجد عند بعض الناس الآن قطع صغيرة توضع للزينة لا للجلوس وهي نوع من الجمال، وغالباً ما يضعها أهل الترف فكم من بسط توضع للجمال والحسن، وتصبح هذه مبثوثة في كل مكان تجميلاً وتحسيناً. قوبلت صفات أهل النار بصفات أهل النعيم، وشتان بين تلك الصفات، أولئك خاشعة وجوههم ذليلة وعاملة وناصبة وتصلى ناراً حامية، أما هؤلاء ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية، إلى غير ذلك من النعيم العظيم. ونعيم أهل الجنة ذكره الله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71] وقد وردت أحاديث عظيمة في وصف الجنات وهي كثيرة، منها: الحديث الصحيح: (أعددت لعبادي الصالحين في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) . ووالله مهما يخطر في قلبك من الحسن ففي الجنات أعظم منه، ويدل عليه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) وهذا الحديث في الصحيحين. أقول للأحبة: كم نتقاتل على الدنيا؟! وكم يحدث بيننا من القطيعة والخصومات وغيرها؟!! وما ننظر لما أعد الله لأوليائه من الجنات، وكم نرى من زهرة الدنيا حين ندخل قصور أصحاب الثراء والأموال الطائلة، والزخارف وما فيها من الفرش وغيره؟!! ويقول بعض الناس: لئن كان أهل الجنة في مثل هذا فهم في نعيم. نقول: رويدك فالجنة فيها: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) .

عامة أهل الجنة وأول من تفتح له

عامة أهل الجنة وأول من تفتح له يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه أول من يستفتح الجنات كما في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول الخازن: بك أمرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك) ويكون النبي هو أول الناس دخولاً صلوات الله وسلامه عليه. وهنيئاً له بهذا الفضل العظيم، وهذه هي الشفاعة الثانية التي هي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. إن الفقراء يسبقون أهل الثراء إلى الجنات، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أسامة بن زيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قمت على باب الجنة فكان عامَّة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون يحاسبون) وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك في الحديث الصحيح: (الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة) أكثر الناس مالاً أقلُّ الناس دخولاً لجنات عدن إلا من سلط ماله في هلكته بالحق، وكذلك من كسب المال من حلِّه وصرفه في حلِّه. وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار. ونجد كذلك أبواب الجنة كثيرة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله دُعي من أبواب الجنة الثمانية، من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الزكاة دعي من باب الزكاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: والله ما على أحدٍ من ضرر إذا دعي من أيِّها -يعني: من دعي من أي باب ودخل الجنة فهنيئاً له- ثم سأله: يا رسول الله! هل يوجد أحد يدعى من الأبواب كلها؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. وإني لأرجو أن تكون يا أبا بكر! منهم) رضي الله عنه وأرضاه. وتأتي قصور الجنة وأشجارها وغير ذلك أمور كثيرة متعددة، وإن كان الكلام حول الجنة قد يطول بنا، ونتركه إن بقي له شيء من الوقت في آخر هذه الكلمة.

معنى قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)

معنى قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) ثم ننتقل إلى العنصر الثاني: يقول الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] وسبحان الله! المخاطب بها العرب، وكانت إبل العرب لها في أنفسهم منزلة عظيمة، وكانوا أهل إبل، ويفتخر أحدهم بها، بل إن أشعارهم تكون مضمنة بمدح الإبل ووصفها، والسبب: لأنها من كرائم أموالهم، وهي من أحب النعم إليهم، ولهذا يشترون بها ويبيعون ويجاهدون عليها إلى غير ذلك، والله ذكر هذه الأشياء: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ} [الغاشية:17] كأنه خطاب لأولئك أصحاب الوجوه الخاشعة التي عملت، لم لا ينظرون إلى آيات الله في الكون فتكون تلك الآيات سبباً لإسلامهم واستقامتهم على دين الله تعالى، يقول القرطبي: قال المفسرون: لما ذكر الله أمر أهل الدارين تعجب الكفار من ذلك فكذبوا وأنكروا ذلك، فذكرهم الله قدرته التامة، وأنه القادر على كل شيء، ذكر لهم الإبل؛ لأن فيها خصائص عجيبة؛ أولاً: لأنها من الحيوانات المنتشرة في جزيرة العرب، ولهذا يسمونها سفينة الصحراء، ففي البحر سفن وفي الرمال سفن. ولأنها أعظم المخلوقات عندهم. ولأنها كذلك مذللة مع عظم خلقها، يأتي الطفل الصغير ويأخذ بخطامها فتبرك إلى الأرض، ثم يقيموها ويحملون عليها. ولأنها تصبر على المشقة فتبقى عشرة أيام أو أكثر لا تحتاج إلى الماء، وتحمل أثقالهم. ولأنها ترعى أغلب الأعشاب في هذه الجزيرة. وسبحان الله! لما خلق الله الحيوانات جعلها مصنفةً: طائفة منها تؤكل، وطائفة يشرب درها، وطائفة يحمل عليها، وطائفة للزينة والجمال. والإبل جمعت ذلك كله؛ نأكل لحمها، ونشرب لبنها، ونحمل عليها، ونتجمل بها ونفتخر، وتصبح من الأموال، ولذلك يقول الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] إنها من المخلوقات العظيمة، فهو استفهام إنكاري، ينكر الله عليهم لم لا ينظرون إلى دقائق صنع الله؟!! وليس النظر المقصود هنا نظر العين فإن الكافر والمسلم والكبير والصغير ينظرون، وإنما يقصد به النظر المفيد للاعتبار، ذلك النظر الذي يُؤْثر الإيمان والصلاح في القلب، وهذا هو الذي يستفاد منه في هذا النظر.

أمور تتعلق بالجنة والاستعداد لها

أمور تتعلق بالجنة والاستعداد لها ونذكر شيئاً من الدروس، ولعلي نسيتها حول قضية الجنة كما ذكرنا في مسألة النار: الأول: أنه ينبغي تذكير الناس دائماً بالجنة، وبما أعدَّ الله لأوليائه فيها، فإن أثرها عظيم في ترغيب الإنسان في الاستقامة على دين الله تعالى، إذا كنت تركت هذه المحرمات وحرصت على طاعة الله، فإن نتيجة ذلك جنات أعدها لك. الثاني: أنه يوجب لي أن أعرف الأعمال التي تعين على دخول هذه الجنة، منها: بر الوالدين، وتوحيد الله تعالى، وأنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وصلة الأرحام، والبعد عن المحرمات: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء:49] خشية بالغيب وبعد عن المعاصي. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة الثمانية، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) فكن أخي المسلم ممن يعمل بتلك، ووالله إننا في حاجة دائمة لأن نذكر بها. إن كثيراً من الأحبة يقول: قد سمعنا بهذا الوعظ دائماً، ونقول: ومع ذلك نحن في حاجة إلى التذكير به، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يذكر صحابته بالجنة والنار. وسبحان الله! إني أتأمل حديث الأعرابي الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يسمعه يدعو ومعه معاذ قال: (يا رسول الله! إني لا أحسن دندنتك ودندنة معاذ -إنك تدعو أنت ومعاذ بدعاء لا أحفظه ولا أعرفه- فقال له الرسول: ماذا تدعو؟ قال: أما أنا يا رسول الله! فأسأل الله الجنة وأستعيذه من النار، قال المصطفى: كلنا حولها يدندن) دعواتنا حولها، يستعيذ الإنسان من النار ويسأل الجنة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] وهذا هو الواجب وعلينا دائماً أن نحرص عليه.

نظرة في الآيات الكونية في سورة الغاشية

نظرة في الآيات الكونية في سورة الغاشية ننتقل إلى الآية الثانية من آيات الله الكونية وهي قوله تعالى: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:18] .

معنى قوله تعالى: (وإلى السماء كيف رفعت)

معنى قوله تعالى: (وإلى السماء كيف رفعت) إن الله سبحانه وتعالى ذكرهم بحيوانٍ كان يمشي معهم، ويبيت ويقيل معهم، يستفيدون منه طيلة حياتهم فما يستغنون عنه، ثم نقلهم الله تعالى إلى شيء أعظم من ذلك: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] وهذه السماوات أفلا ينظرون إليها؟! وأقول للأحبة: إن السماوات نراها ليلاً ونهاراً، وننظر إليها في كل أحوالنا صيفاً وشتاءً، وإن كنت أقول: قلَّ من يعتبر ويتعظ من تلك السماء، ونحن نراها في سفرنا وحضرنا، كم للسماء من الأثر العظيم إذ يخرج الإنسان في ليلة لم يكن القمر فيها بادياً، ويخرج إلى برية فيرفع بصره إلى السماء ليرى تلك النجوم وكأنها وجدت الآن مع أنه كان يراها من قبل، ويرفع بصره إلى السماء دائماً فيرى فيها بديع صنع الله تعالى، فهي فوقنا ومع هذا فقد رفعت بغير بعمد، وقد ذكر الله أن السماء سقفاً محفوظاً، والأصل أن السقف يكون بأعمدة، ومع ذلك هذه السماء لم يكن بها أعمدة أبداً، وخلق الله فيها الكواكب التي أدهشت العقول، ونثر الله فيها النجوم بلا عدد، وكم نحن في حاجةٍ إلى الاطلاع على عجيب صنع الله تعالى فينا، يقول ابن قتيبة الدينوري: إن أعلم الناس بمواقع النجوم ومساقطها هم العرب. وهم أولى الناس أن يتوجهوا لمعرفة تلك، ولهذا تجد التقويم القطري أو تقويم أم القرى تجد أنه إذا خرج سهيل يحصل كذا، وإذا بدأ كذا يحدث كذا، وتجد المزارعين يعرفون أوقات الزراعة على ضوء هذه النجوم، ليس لأن النجوم لها تأثير فإن ذاك علم باطل، ومنه ما يسمى علم التسيير وليس علم التأثير، فعلم التأثير من السحر، وعلم التسيير أن تعلم مواقع النجوم وأوقاتها. وقد علقت أوقات الصلوات عندنا بقضية السماء وكواكبها، إذا أصبح ظل كل شيء مثليه فهو قبل الغروب، فنحن نرتبط بالشمس في السماء، إذا غربت الشمس بدأ المغرب، وإذا غاب الشفق ونحن ننظر إليه بدأ العشاء، وهكذا نرتبط بهذه السماوات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] والكلام على الشمس وبديع صنع الله تعالى فيها يطول بنا.

معنى قوله تعالى: (وإلى الجبال كيف نصبت)

معنى قوله تعالى: (وإلى الجبال كيف نصبت) ثم ينقلنا الله إلى أمرٍ مشاهد ملموس لنا، تمر بنا آيات في الآفاق وآيات نمر بها ونحن نسير: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:19] جعل الله هذه الجبال رواسي أن تميد بنا، أوتاداً لهذه الأرض، محلاً للاعتصام من الأعداء، ولهذا نجد الجبال موقعاً للمسلمين يعتصمون به من أعداء الله تعالى، وأكناناً، وجعل فيها كهوفاً يسكنها الناس. وإذا نظر الإنسان إلى ديار عاد وثمود يرى فيها عجباً: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128-130] وسبحان الذي أعطاهم القدرة على أن ينحتوا الجبال: {وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء:149] كما ذكر الله في كتابه، وهذا يدل على أن هذه الجبال يمكن أن نستفيد منها، ومع ذلك ذكر الله أنه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] يخاف من ربه مع أنه صلب، وجعل الله هذه الجبال أنواعاً، منها: الصخري الجامد، ومنها: ما ينبت الأزهار والثمار والعجائب، ومنها: ما يتوج بتيجان الثلج في أعلام ناصعة بديعة في منظرها، ومنها: براكين تخرج منها حمم بركانية تقذف به، ومنها: الذي تسكنه الطيور والمخلوقات العجيبة، ومنها: ما يصبح مسكناً مصيفاً لعباده يؤون إليه، وتصبح تلك الجبال أمورها عجيبة، وحين يصعد الإنسان إلى قمم هذه الجبال الشم الضخمة الرواسي يتعرف على عظمة الله تعالى، وعلى أن الذي خلقها قادر على هذا الكون كله، وما أصغر الإنسان أمام هذا الجبل الضخم. وإنا لنجد أمراً عجيباً أن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يتحنث في غار حراء، ويحدث بعد أن صعد عليه، وإن كنا نقول: ليس من السنة صعود جبل النور، يرقاه في ساعة إلا ربع ثم يصل إلى قمته بلا فائدة، ونبينا كان يتحنث فيه الأيام ذوات العدد يتعبد لله فيه؛ لأن ذلك الجبل يعطي الإنسان عظمة الرب سبحانه وتعالى، ويستصغر الإنسان نفسه أمام هذا المخلوق وهو من مخلوقات الله تعالى.

معنى قوله تعالى: (وإلى الأرض كيف سطحت)

معنى قوله تعالى: (وإلى الأرض كيف سطحت) يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:20] بسطت هذه الأرض ومدت حتى صارت ممهدة سهلة يصلح فيها العيش للناس والسكنى والحياة، وفيها مرعى الناس، ومسكنهم ومفترشهم إلى غير ذلك، يقول بعض العلماء: إن الأرض أربعة أصناف: صنف براري: قفار وخلوات؛ وهي الصحاري، وصنف مجاري: أنهار وغدران وغيرها، وصنف تلال وجبال وأودية، وصنف مراعي ومزارع وقرى ومدن يسكنها الناس. وهذا من تسخير الله إذ سطحت، وحيث سطحها الله خلقها ممهدة للمشي والجلوس والاضطجاع، ومعنى سطحت يعني: سويت، ويصبح كل أهل كأرض يجلسون في تلك الأرض المسطوحة، وهذا من تسخير الله تعالى لنا، فلو كانت صخوراً كبيرة ما استطاع الناس أن يسكنوا فيها ولا أن يمشوا عليها، وإنما جعلها مسطحة للناس يستفيدون منها، وهذا من فضل الله تعالى، وليست هذه المنة لأهل الإيمان وحدهم بل لأهل الإيمان والكفر وغيرهم، وتوجب لنا تلك الآيات أن نرجع إلى ربنا وأن نتذكر نعم الله تعالى علينا، وهذه الآيات توجب لنا أن نوحده سبحانه وتعالى. ويذكر العلماء رحمهم الله تعالى في أقسام التوحيد: أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وكيف ذلك؟ أليس الله يقول في سورة البقرة: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:22] كل هذه ربوبية، جاءت بعدها: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] . إن سَوق آيات الربوبية ليس المقصود منها أن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر فذاك أمر معروف، وإنما يراد منا أن ننتقل من هذا التوحيد إلى توحيد الألوهية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] . وكان كفار قريش يعرفون أن الله هو الخالق الرازق وما نفعهم هذا شيئاً؛ لأنهم لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى، ويتأثروا بهذا النظر إلى معرفة أن الله هو الخالق الرازق للإنسان، والمستحق للعبودية وحده سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس:101] . وجاءت هنا: {أَفَلا يَنْظُرُونَ} [الغاشية:17] هم ينظرون ولهم أبصار، والعين يبصر بها الإنسان ويبصر بها الحيوان، لكن الإنسان المؤمن هو المستفيد والمتأثر بذلك أشد التأثير، هذه آيات الله الكونية.

النظر في آيات الله الكونية

النظر في آيات الله الكونية أقول للأحبة: إن علينا أن ننظر إلى آيات الله، ولا أدري الآن في أي آيات الله ننظر، ولعل أعظم ذلك لما قال الله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] إن نفسك التي بين جنبيك وجسدك الذي أعطاه الله إياك أبصر ما فيه من عجائب خلق الله تعالى، وليس المقصود أن نقر بأن الله هو الخالق الرازق، وإنما لننتقل منه إلى توحيد الألوهية فهو المستحق للعبودية وحده لا شريك له. وإني أتأمل لو أن أحدنا أصيب بفشل كلوي ما يكون حاله؟ قطعتا لحم صغيرة تبقى في جسد الإنسان ملصقة في ظهره تعمل وتغسل هذا الدم وينفع الله بها العبد وهي صغيرة، إذا تعطلت ما حاله معها؟! يحتاج إلى جهاز ضخم كبير لأجل أن يقوم بعمل قطعة اللحم هذه {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] . نعمة السمع والبصر، وما أدري ما أحدث من عجائب خلق الله في هذا الجسم، وكم يحدث للإنسان من قضية كريات الدم وغيره، وهناك كتب ألفت في الطب يقرؤها الإنسان فيحمد الله على ما أنعم الله به عليه. أذكركم بلطيفة من اللطائف وهي من آيات الله الكونية: قضية النمل هذه الحشرة الصغيرة؛ هي من عجائب خلق الله تعالى. ويحدثنا الآباء من قبل عندما كان الناس في حال جوع -والحمد لله الذي أبدلنا من الخوف أمناً، ومن الجوع رغداً من العيش- كانت النمل تجمع محاصيل الناس من قمح وغيره ثم تدفنه في الأرض، فإذا جاء المطر أخرجته فنشرته في الشمس؛ لعلمها أنه لو بقي مع الرطوبة تعفن فما استفادت منه، يقول الكبار: فإذا أخرجته أخذناه فأكلناه وتركناها وما أعطيناها شيئاً، وسبحان الله! هذا النمل إذ يأخذ القمح يعرف محل النواة التي تخرج منه فيأكل هذا النواة بحيث لو جاءه الماء لا ينبت حتى لا يفسد منزله وبيته، وذكروا عن صنف من النمل أنه يأخذ البذور فيضعها على سواقي الأنهار، ثم يغطيها بالتراب، حتى إذا أينعت السنابل رقى النمل فقطف الثمار، ثم يأكل النواة ويخزنه عنده ليأكله طيلة عامه، ولهذا في أيام الشتاء القارس لا ترى النمل يخرج، وبعد أيام يخرج فيؤذي البيت كله، أين هو من قبل؟ إن معه طعامه في الداخل، سبحان الذي أعطاه! وقد تكلم على هذه المسألة ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة، وأنصحكم بقراءة هذا الكتاب؛ فإن فيه من عجائب خلق الله تعالى، التي ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله ليربطنا بأن الله هو المستحق للعبودية وحده لا شريك له. والكلام على آيات الله الكونية في السماوات أو الأرضين أو جسد الإنسان أو غيره يحتاج إلى محاضرات حتى يوقن الإنسان ويرسخ في قلبه الإيمان، ويتأثر بذلك أشد التأثر.

مهمة الداعية وضرورة ثبوته على منهجه

مهمة الداعية وضرورة ثبوته على منهجه المقطع الأخير وهو توجيه للمصطفى صلى الله عليه وسلم: ذلك التوجيه الرباني: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] يا محمد! أنت أخبرت المشركين من قبل بأن مصيرهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:2-4] وذكرت أهل الإيمان وصفتهم ولم يقبلوا منك، ثم نقلتهم إلى آيات الله الكونية من السماء والأرض والجبال والإبل وغيرها ومع ذلك لم يقبلوا، ثم سلَّى الله رسوله فقال له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] ذكر الناس ووعظهم وأنذرهم وبشرهم، فأنذرتهم في الأولى، ثم بشرتهم في الثانية، وبينت لهم أنك المبعوث إليهم جميعاً، فمن اهتدى فمصيره إلى جنات عدن، ومن أعرض فإن له ناراً تلظى.

مهمة الداعية وأهمية الدعوة

مهمة الداعية وأهمية الدعوة ثم قال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] ولعلها تعطينا مهمة الدعوة إلى الله تعالى والدعاة، يجب أن يعلم أنه ما قام دين من الأديان ولا انتشر مذهب من المذاهب إلا بالدعوة، وما تداعت أركان أمة بعد قيامها ولا درست رسوم مذهب من المذاهب إلا بترك الدعوة، والنتيجة أن الدعوة إلى الله تعالى هي حياة لكل امرئ ولكل أمة تريد أن تعيش وتبقى. وهنيئاً لأقوامٍ يدعون لدين ربهم ويدعون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتأسون بما كان عليه أصحاب رسوله وسلف الأمة من النور والضياء والحق الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة. ثم نقول: لو كان الحق يقوم بنفسه والدين يقوم بنفسه وينتشر بذاته لما احتاج الناس إلى الدعاة، ولهذا قال الله لرسوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس:99] وإنما أمر: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ} [النحل:35] . {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22] بلغهم دين الله تعالى؛ لأنك لم تبعث عليهم مسلطاً ولا موكلاً بأعمالهم، ويجب أن نعلم أن هذا التذكير إنما هو لما بين الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر) . وأقول لأحبتي: يجب أن نعلم أن أحدنا حين ينصح إنساناً فلا يقبل منه فإنه يحزن قلبه، وربما ينتصر لنفسه، ثم تكون النتيجة أن تضيع ثمرة دعوته، كأن تنصح شخصاً وتقول له: يا أخي! اتق الله واترك المعصية، فربما رد عليك بلفظ نابٍ، ثم ترد عليه أنت بأسلوبٍ ليس جيداً، فتنتقل من مهمة الدعوة إلى الانتصار للنفس، قال الله لرسوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] فقط {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ} [النحل:35] مهمتنا أن نقول للناس: إن هذا حلال وهذا حرام، وما عداه ليس من مهمتنا، ولهذا قد يحزن القلب لعدم القبول، ولإعراض الناس عن دين الله، ومع ذلك قال الله لرسوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقال الله لرسوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حريصاً على هداية عمه أبي طالب، ووقف عند رأسه يناشده أن يقول كلمة التوحيد، وتحسر قلبه على ذلك: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] .

ما يجب أن يكون عليه الداعية

ما يجب أن يكون عليه الداعية أقول للأحبة: إن من أعظم الأساليب التي توصل الحق للناس وتجعلهم يقبلون به هو حسن الأدب، فهو يجعل الإنسان ذا سمت عظيم، ويكون كنبيه عليه الصلاة والسلام {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فالنبي صلى الله عليه وسلم أدبه ربه فأحسن تأديبه كما في الحديث المتفق عليه، وأثنى الله عليه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وكم كان فيه من الأخلاق والتأثير في تذكير الناس ووعظهم وتوجيههم إلى الخير. يقول الإمام ابن القيم بعد أن ذكر شيئاً من الآيات كما في قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى:48] وكما في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس:108] يقول ابن القيم ناقلاً عن المفسرين رحمهم الله -أقوله بالمعنى-: إنك لم ترسل مسلطاً عليهم قاهراً لهم جباراً، بل أنت عبدي ورسولي المبلغ رسالاتي فمن أطاعك فله الجنة، ومن عصاك فله النار. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) دلَّ هذا على أن الإنسان ينبغي له أن يحرص على أن يبلغ دين الله وأن يذكر؛ فما هو عليهم بمسيطر. ينبغي لمن أراد أن يذكر الناس أن يستغل إقبال القلوب، فإن القلوب لها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت انطلق ليعظها وليذكرها، وأن يكون منتهزاً للفرص، ولعلي أضرب بمثال في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه نمرقة، وكان أهداها إليه سعد بن معاذ رضي الله عنه، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام يخطب الناس وهي عليه، فأعجب بها الصحابة الذين كانت ثيابهم مرقعة؛ لأنها كانت ناعمة عظيمة ما رأوا مثلها أبداً من حسنها وجمالها، ولما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم نزل وإذا بالصحابة يلمسونها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: تعجبون منها؟ قالوا: ولم لا يا رسول الله؟! والله ما رأينا أنعم منها أبداً -لأنهم أصابهم شظف العيش رضي الله عنهم، ثم نقلهم النبي بكلمة واحدة- فقال لهم: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أنعم من هذه التي ترون) . وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل الصحابة نقلةً عظيمة: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) مهما كانت الدنيا بما فيها من النعيم، ومهما أصابك بها من الشدة: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، نقلة عظيمة! تجعل قلب الإنسان يرفرف حول الجنات ويتمنى أن يكون من أهلها، وما يكون ذلك إلا بصلاحٍ واستقامة على دين الله تعالى، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، والكلام حول هذا يطول بنا كثيراً. ولكن الله قال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22] فإذا قمت بما عليك فلا عليك بعد ذلك لوم أبداً، والله قال لرسوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] .

عاقبة من تولى وكفر

عاقبة من تولى وكفر ثم قال الله: {إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية:23] هذه تسلية عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، تسلية له وللمؤمنين أن أهل الكفر نتيجتهم: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:24] إن من كفر وأعرض عن دين الله فإن الله له بالمرصاد، ولن يتركهم أبداً، وسيجازيهم على كل صغيرة وكبيرة: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:8] كيف إذا كان الذنب هو الكفر والإلحاد في دين الله، نعوذ بالله من ذلك. ثم تكون النتيجة: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:24] والسبب: كيما يسلي نبيه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25] مرجعهم. فلا مفر لهم أبداً، والسبب قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] تركتم الأموال والمناصب، والقصور والزوجات والأولاد كلها خلف ظهوركم وجئتم فرادى كلٌ يقول: نفسي نفسي، يقول الله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37] ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] النتيجة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:30-31] والسبب: بأن حسابهم على الله سبحانه وتعالى. وإذا قيل: إن الله سيحاسبهم، ليس حسابهم عليك يا محمد وإنما علينا نحن، فإذاً: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء:47] سيحاسبون حساباً دقيقاً على كل صغير وكبير: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] لن يظلم أحد أبداً، وهنيئاً لأقوام وقفوا مع القرآن وقفات. وأقول للأحبة: إن هذه السورة تحتاج إلى ثلاث محاضرات بمواضعها المركزة هذه، ووقفات دقيقة؛ نظراً لأننا والله في حاجة إلى أن نقف مع القرآن، وأنا إنما ذكرت خواطر سريعة ودروساً ميسرة حول هذه السورة العظيمة سورة الغاشية. أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم من أهل الصلاح والإيمان والتقوى، وأن ينفعنا وإياكم بالقرآن، وأن يجعل القرآن ربيعاً لقلوبنا ونوراً لصدورنا، اللهم إنا نسألك أن تذكرنا منه ما نُسِّينا، وأن تعلمنا أحكامه وآياته، وأن تجعلنا ممن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم إنا نسألك أن تتوفانا على دينك وأن ترزقنا الصلاح والإيمان والتقوى. اللهم إنا نسألك أن تصلح أئمتنا وولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين، اللهم اجعلهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، معزين لمن أطاعك مذلين لمن عصاك. اللهم إنا نسألك أن تجزي القائمين على وزارة الشئون الإسلامية خير الجزاء على أن هيئوا لنا هذه الفرصة، وأن تجزي الإخوة القائمين على المكتب التعاوني خير الجزاء، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في جنات عدن. ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

كيفية أداء العمرة وقضاء الوقت في مكة [1-2]

كيفية أداء العمرة وقضاء الوقت في مكة [1-2] الذهاب إلى البيت العتيق لأداء مناسك العمرة عبادة عظيمة تشتاق إليها النفوس؛ لكن تتطلب من الإنسان أن يحرص على أداء هذه العبادة على ضوء ما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن للعمرة آداباً وضوابط وأحكاماً ينبغي للإنسان أن يتعلمها ويطبقها، وهناك ملحوظات كثيرة يحتاج إلى معرفتها المعتمر ليراعيها في عمرته.

آداب السفر

آداب السفر الحمد لله الذي أمدَّ بأعمارنا حتى أدركنا هذا الشهر الكريم، فكم من نفسٍ مؤمنة تشتاق لصيام هذا الشهر حيل بينها وبين صيامه، فأصبحت وقد أوسدت تحت الثرى؛ وودعت هذه الدنيا ولم تكمل هذا الشهر الكريم! فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يمد في أعمارنا حتى نبلغ نهاية هذا الشهر، وأن يتقبله منا ومن إخواننا المسلمين. علنا أن نتكلم على ثلاثة عناصر: العنصر الأول: في آداب السفر. العنصر الثاني: في كيفية العمرة على ضوء ما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. العنصر الثالث: في ملحوظات على الناس في أداء العمرة، وتلك الملحوظات قد تبلغ ستين أو سبعين ملحوظة في العمرة فقط، ولعل بعض الإخوة قد سمعوا هذه الملحوظات على الناس في الحج، وكنتُ ذكرتُ أكثر من مائة وثمانين ملحوظة، ولا زلنا -إن شاء الله- نعد العدة لإعادة هذه المحاضرة مرة أخرى، وقد تزيد على مائتين وخمسين أو ثلاثمائة ملحوظة على الناس في الحج فقط. إن كثيراً من المسافرين ينطلقون إلى بيت الله الحرام وهم لا يستشعرون إلى أين ينطلقون، ويبقى هم الإنسان كله أن يؤدي تلك العبادة، فيظن أن العبادة هي دخول بيت الله الحرام، أما الطريق والمسير فلا يستشعر الإنسان فيه بشيء إطلاقاً، وهذا من جهل كثير من الناس أن الطريق هو عبادة إلى الله تعالى، فإن الصحابي -رضي الله عنه وأرضاه- الذي كان يصلي الصلوات، وكان من أبعد الناس منزلاً عن المسجد، وإذا به يأتيه بعض أحبابه وأقربائه، فيقولون: لو اتخذتَ حماراً يقيك حر الرمضاء، ويكفيك مئونة الطريق، فيقول رضي الله عنه: [والله ما أحب أن بيتي عند المسجد، إني أحتسب ذهابي ورجوعي في ميزاني يوم القيامة] ويُخْبَر المصطفى صلى الله عليه وسلم بمفهوم ذلك الصحابي رضي الله عنه، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: (إن الله قد كتب لك ذلك كله) أي: إن ذهابه ورجوعه في ميزان حسناته يوم القيامة. فمن كان يستشعر ذهابه من هذا البلد إلى مكة، أن كل خطوة يخطو بها في ميزان حسناته، إذاً عليه أن يكثف أشد التكثيف في هذا الطريق فيما يقربه من الله تعالى.

كتابة الوصية

كتابة الوصية آداب السفر قد ذكرتُ عدداً منها، وهي أربعة عشر أدباً:- الأدب الأول: أن يكتب المسلم وصيته، فإن السفر قطعة من العذاب، وإن الأسفار هي عرضة للأخطار، فكم من الناس من يودع أهله عله أن يصل إلى مكة فيموت في أثناء الطريق، ويودع الدنيا بكاملها. ومن هنا كان لزاماً على المسلم إذا أراد أن ينطلق إلى مكة أن يكتب وصيته، فيكتب ما يحتاج إليه، فإن بعض الناس يكون صحيحاً، وإذا نزل به الموت قال: ليتني كتبتُ الوصية، وأوصيت بثلث مالي في الجهاد، أو في الإنفاق في سيبل الله، أو في التبرع في أعمال الخير من توزيعٍ لكتبٍ أو أشرطةٍ أو غير ذلك. ما دمتَ صحيحاً فأوصِ بثلث مالك، حتى إذا نزل بك الموت نفَّذ أهلك تلك الوصية، وبَقِيَتْ في ميزان حسناتك وأنت لا تدري. فما إن يفعل المسلم ذلك حتى يترقى في درجات الجنة، إن أدركه الموت أو أدركته المنون، في طريقه وفي سفره. وإن كل إنسان قد يكون عليه نوع من الديون، أو أنه قد وضع بعضاً من أمواله عند بعض الناس، فإذا كتب وصيته ذكر فيها الديون التي عليه والديون التي له، حتى إذا مات استطاع أهله أن يسددوا ما عليه من الدين، واستطاع أهله أن يأخذوا حقوقهم من عند الآخرين، فإن كثيراً من الناس لو قلت له: اكتب وصيتك، قال: فأل الله ولا فألك! تريدني أن أموت حتى أكتب الوصية! هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الدنيا لا شك أنها موضع للأخطار والفتن، وموضع لتغير الأحوال؛ سرعان ما يسير الإنسان في طريقه في مجتمعه ومكانه فينزل به الموت ويودع الدنيا، وبعضهم يقول: يا ليتني كتبت! ويا ليتني عملت، فكان الأولى للمسافر أن يكتب وصيته.

السفر يوم الخميس

السفر يوم الخميس الأدب الثاني: أن يسافر في يوم الخميس، فقد روى البخاري والإمام أحمد رحمهما الله تعالى من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: (قل ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا أراد سفراً إلا يوم الخميس) وإني لأعلم أن هذا الأدب من أندر الأشياء، وليس معنى هذا أنه إذا لم يحدث لا يكون هناك أجر؛ لكن إذا تخول الإنسان في أسفاره بأن يهتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، سيكون له الأجر، أما هنالك نوع من الأسفار لا نستطيع أن نؤخرها إلى يوم الخميس، لِمَ؟ لوجود الظروف الضرورية، فالضرورة لها قدرها. لكن أن يتحين المسلم كلما أراد سفراً أن يسافر يوم الخميس فإن في ذلك اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم. ونقول: إن يوم الخميس يوم مبارك، فيه ترفع الأعمال إلى الله تعالى، فإذا كان الإنسان مسافراً يوم الخميس رُجِي الإجابة، فإن المسافر تُرجَى إجابته، فكذلك إذا كان في يوم الخميس تُرْفَع الأعمال إلى الله، ويكون فيها الخير، ويكون فيها الأجر والثواب.

طلب الدعاء والوصية من الإخوان

طلب الدعاء والوصية من الإخوان الأدب الثالث: أن يطلب من أهل الخير والاستقامة الدعاء والوصية في هذا السفر، فإن المسلم إذا انطلق في سفره، ينطلق إلى الأخيار فيقول: بِمَ توصوني؟ ولا تنسوني من دعائكم الصالح، فإنه قد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد سفراً، فقال: (يا رسول الله، أوصني -فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الوصية الجامعة- فقال له: أوصيك بتقوى الله تعالى) وتلك الوصية العظمى التي ما عرضت على مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر إلا ارتعدت فرائصه خوفاً من هذه الوصية. فكيف يستطيع المسلم أن يحققها؟! A يستطيع باستقامته على دين الله تعالى. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن تكبر على كل شرف، فلما ولى الرجل مسافراً وأخذ تلك الوصية، دعا له المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم ازوِ له الأرض، وهون عليه السفر) . فدل ذلك على أن المسلم ينبغي له أن يدعو لأولئك المسافرين بالدعاء الطيب. وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه (أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أريد سفراً فزودني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زودك الله التقوى، ثم قال: يا رسول الله، زودني كذلك، قال: وغفر ذنبك، فقال: يا رسول الله، زودني بأبي أنت وأمي، قال: ويسَّر لك الخير حيث كنتَ) أي في أي طريق توجهتَ. وهذا يدل على أن المسلم ينبغي له أن يدعو لإخوانه المسافرين.

توديع المقيم للمسافر

توديع المقيم للمسافر الأدب الرابع: أن يودِّع المقيمُ المسافرَ لقول قزعة رضي الله عنه لما التقى مع ابن عمر: (قال لي ابن عمر رضي الله عنهما: هلم أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا، فقلتُ: كيف كان يودعكم؟ قال: يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) . مَن منا قيل له هذا الدعاء إذا انطلق في السفر؟ وأحدنا يسافر والده وإخوانه وأحباؤه فلا يهدي لهم هذه الكلمات النبوية، هي والله درر، تدعو بها من قلبٍ صادق فيستجيب الله الدعاء فيكون لك الأجر أنت وذلك المسافر.

مرافقة الصحبة الصالحة

مرافقة الصحبة الصالحة الأدب الخامس: أن يحرص المسلم المسافر أن يسافر ويصحب الصحبة الصالحة، فإن رفيق الخير هو الذي يعينك على طاعة الله تعالى. فكم هُمُ الذين إذا انطلقوا في الأسفار ما سألوا: مع من تسافر أنت؟ وإذا سألوا قيل لهم: إني أسافر مع زملائي. مَن هم هؤلاء الزملاء؟ قد يكونون ممن لا يذكرون الله إلا قليلاً، وقد يكونون من أهل الغفلة ومن أهل المعاصي فينطلق المسلم في سفره، وإذا هو يتقلب في السفر ما بين مزمار وطرب، وكلامٍ في أعراض الناس وغيبة ونميمة، أين زاد التقوى الذي يريد المسلم أن يسافر إليه؟! وكم هُمُ الذين ينطلقون في الحج والعمرة، تجدهم أثناء الطريق يسمعون الزمر والطرب، سبحان ربي! يريدون الأجر والثواب، ويزدادون سيئات وظلمات بعضها فوق بعض، يريدون الخير والأجر ويظن بعضهم -وهذا من الجهل- أن المقصود من العمرة هو الطواف والسعي، حتى إذا انقضى الإنسان من سعيه وعمرته انطلق فحلق لحيته، وجلس في فندق، فسمع الزمر والطرب، وأصبح يتقلب في بلد الله الحرام، في أرض الله المقدسة، في الأرض التي تُجْنَى فيها الحسنات، وتعظَّم السيئات، ومع ذلك يبقى على معاصيه، فما يشعر بفائدة العمرة، ولا بأثر الأجر والثواب. وسبب ذلك أن الإنسان لَمْ يَخْتَر الرفقة الصالحة، فإن من اختار الرفقة الصالحة إن وجدوا عنده نوعاً من القصور وجهوه، وإن وجدوا عنده نوعاً من الخير شجعوه وأعانوه على طاعة الله. وهذا الأمر ينبغي أن يكون المسلم حريصاً عليه أشد الحرص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر المسلم وحده؛ ليحرص المسلم في السفر على الرفقة، ليكون معه اثنان أو ثلاثة أو أربعة ينطلق معهم في السفر. ثم إن الرفقة الصالحة هي الخير، وهي زاد الدنيا في حياتنا، والله إن أعظم الزاد في الاستقامة على دين الله في هذا العصر الرفقة الصالحة، وليس قراءة القرآن ولا القيام ولا غير ذلك، فليست هذه الأعمال أعظم من الرفقة الصالحة، فإن الرفقة الصالحة تشجعك على قيام الليل، وتشجعك على قراءة القرآن، وتشجعك على البذل والإنفاق في سبيل الله. فكان لزاماً على المسلم أن يختار رفقة صالحة إذا انطلق إلى بيت الله الحرام، فإن بعض الناس ينطلقون برفقةٍ حتى يبقى ليلهم سهراً، ونهارهم نوماً، فإذا بك تتقلب، في أي شيء؟! أهو في التنافس؟! ليس والله ذلك، إنما في التخذيل والكسل عن طاعة الله تعالى.

طلب المقيم من المسافر الدعاء له

طلب المقيم من المسافر الدعاء له الأدب السادس: ينبغي للمقيم المسلم أن يوصي المسافر ألا ينساه من الدعاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر بن الخطاب لما انطلق في السفر: (لا تنسنا يا أُخَيَّ من صالح دعائك) . فإن المسافر مجاب الدعوة، فينبغي لكل مسلم؛ الأهل والوالد والوالدة والأخ إذا انطلق ولدهم للسفر أن يقولوا: لا تنْسَنا من صالح دعائك. ويكون الدعاء بخيري الدنيا والآخرة؛ من الاستقامة على دين الله، والثبات، والتحبيب لطاعة الله، والرغبة فيما عند الله والدار الآخرة. أما أن يصبح قلب الإنسان غافلاً سادراً فذلك من الخطأ والجهل، بل ينبغي للمسلم المسافر متى أوصاه أحد من إخوانه بالدعاء له أن يدعو له، وأن يخصصه بذلك الدعاء.

دعاء المسافر عند الصعود والنزول

دعاء المسافر عند الصعود والنزول الأدب السابع: يستحب للمسافر إذا صعد على نشز من الأرض أن يكبر الله تعالى، وإذا هبط وادياً أن يسبح الله تنزيهاً له، وهذه الآداب قد أغفلها كثير من الناس، يصعد الإنسان جبلاً أو مرتفعاً من الأرض ولا يشعر بالتكبير وإذا هبط لا يذكر التسبيح والتنزيه لله تعالى. وتبقى الشخصية المسلمة لها تأثير على صاحبها حتى في الطريق والانطلاق، فلها آداب تتميز بها، وذلك لأن ديننا نعلم بأنه قد تمثل فيه قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ليس ثمة شيء لا يكون لله تعالى، حتى في تحريكي لسيارتي وانطلاقي هو لله تعالى، فكلما ارتفعتُ أو هبطتُ أذكر رب السماوات والأرض فلا أنساه، فلقد ثبت في صحيح البخاري وعند الإمام أحمد قول جابر بن عبد الله: (كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا صعدنا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا الله تعالى) . فهذا هو أدب الصحابة جميعاً في السفر رضي الله عنهم وأرضاهم.

الحرص على الإتيان بدعاء من نزل منزلا

الحرص على الإتيان بدعاء مَن نزل منزلاً الأدب الثامن: ينبغي للمسلم إذا نزل منزلاً في أثناء الطريق للجلوس، إما لغداء أو عشاء أو إفطار، أو غير ذلك أن يحرص على هذا الدعاء العظيم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فلقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام مسلم والإمام أحمد من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها وأرضاها، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من مكانه) . وكم هم الذين يصابون بمس الجن؟! أو يصابون بالحيات ولدغ العقارب وغير ذلك؟! ينزلون المنزل فلا يذكرون، وبعض الناس إذا نزل منزلاً شعر بداخل نفسه بخوف وفزع. نقول: خذ هذا الحصن الرباني، الذي يحفظك فيه رب السماوات والأرض، فمن قال هذا الدعاء: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء) فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. مَن منا إذا نزل قال ذلك الدعاء؟! هذا الأدب قد أغفله كثير من الناس.

التكبير عند الرجوع من السفر

التكبير عند الرجوع من السفر الأدب التاسع: ينبغي أن يحرص المسلم متى رجع من السفر أن يكبِّر على كل شَرَفٍ ثلاثاً؛ لما ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزوة أو حجٍ أو عمرةٍ، إذا وافى على ثنية -أي: على شيء مرتفع- كبر ثلاثاً، ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) وهذا الحديث رواه الإمامان البخاري ومسلم.

النفقة الحلال للمسافر

النفقة الحلال للمسافر الأدب العاشر: ينبغي للمسلم أن يصحب معه النفقة الطيبة الحلال، وهذه المسألة مهمة جداً في قضية السفر. كم هم الذين ينطلقون في أسفارهم ومعهم من الأموال التي جمعوها من خارج الدوام ولا يعملون، ومعهم من الأموال ما يأخذونها من انتدابات وهم لا يذهبون، ومعهم من الأموال الربوية ويريدون الأجر والثواب؟! وقد بُيِّنَ لنا عن ذلكم الرجل الذي يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب، يا رب، -وهو أشعث أغبر، ومع ذلك هل يجاب له الدعاء؟! لا، بل يقال له: مطعمك حرام، وملبسك حرام، ومشربك حرام، فأنَّى يُستجاب لذلك الرجل. وكلنا إذا انطلقنا للعمرة نطلب الإجابة، ونطلب أن تقبل تلك العبادة منا، وإذا ببعض الناس -هداهم الله- ينطلقون بأموالٍ الله أعلم من أين اكتسبوها! ولذلك كان السلف يحذرون من المطعم الحرام، فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أكل لقمة لم يدر من أين أخذها، ولما سأل رضي الله عنه وأرضاه غلامَه بَيَّن له غلامُه أنها من مالٍ مشبوه، فما كان من أبي بكر إلا أن أدخل إصبعه في فيه ليخرج تلك اللقمة، فقيل له: إنها قد ذهبت، لماذا تخرجها؟! قال: [والله لو لم تخرج إلا وروحي معها لأخرجتُها] . أوَما علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كل جسم نبت من سُحت فالنار أولى به) ، فكيف بمن يأكل ليلاً ونهاراً من الأموال المحرمة؟! إذاً على المسلم أن يكون طيب المطعم ليكون مجاب الدعوة.

سؤال العلماء عن كيفية العمرة أو الحج

سؤال العلماء عن كيفية العمرة أو الحج الأدب الحادي عشر: ينبغي للمسلم في انطلاقه إلى العمرة أن يذهب إلى العلماء وطلبة العلم؛ ليُبَيِّنوا له كيف يؤدي هذه العبادة، فكم هم الناس الذين ينطلقون للحج أو للعمرة، ثم يخطئون أخطاء فيسألون، كان الأولى لهم قبل أن ينطلقوا أن يسألوا حتى لا يقعوا في الخطأ، فإن هذا من التفقه في دين الله تعالى، فكان لزاماً على المسلم أن يكون حريصاً أشد الحرص على التفقه في دين الله تعالى.

استشعار السفر إلى الله

استشعار السفر إلى الله الأدب الثاني عشر: ينبغي للمسلم في سفره وانطلاقه إلى مكة أن يستشعر السفر إلى الله تعالى، فإنا والله من هذه الدنيا مسافرون، ما منا أحد يقول: إنه مقيم سيخلد في هذه الدنيا، تمر بنا الليالي والأيام وهي المراحل ثم يقال للإنسان: قف، فإن السفر إلى الله قد وقف إلى هذا الحد، فمن الناس من أعد العدة لهذا السفر، وأعد الخير والأجر والثواب، فهنالك هنيئاً لذلكم الرجل، ومن الناس من جمع إساءة وتقصيراً، فمسكينٌ هذا الرجل. فإن الإنسان يخلِّف أهله، ويخلف بيته ومسكنه، ويترك أولاده خلف ظهره، وينطلق إلى مكة، يرغب في الأجر والثواب، فليستشعر أنه مسافر إلى الله تعالى. إن المسلم حينما ينطلق إلى مكة واللهِ لكأنه مسافر إلى القبر، فإن الإنسان يترك أولاده وذريته، فالميت يترك المال والأهل والذرية خلف ظهره، ثم ينطلق إلى بيت الله الحرام، ونحن حينما ننطلق إلى القبور ننطلق إلى الأعمال، فمن قدم خيراً هنيئاً، ومن كانت الأخرى فنسأل الله ألا نكون من هؤلاء الذين قصروا مع ربهم، وتكون قبورهم -نعوذ بالله- حفراً من حفر النار.

الحرص على دعاء السفر

الحرص على دعاء السفر الأدب الثالث عشر: ينبغي للمسلم إذا صعد على دابته أو إلى السيارة، وهو في انطلاقه أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، ثم يقول بعد ذلك: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13-14] :- فليستشعر المسلم هذه النعمة العظيمة. ثم إن هذا الدعاء خاص بالأسفار فقط، وليس لمجرد الركوب في السيارة، وإنما يُخَص للسفر، فلنتنبه لهذا. ثم يدعو الإنسان بعد ذلك بدعاء: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل) ثم يدعو بالدعاء المعروف.

استغلال وقت السفر بالأعمال الصالحة

استغلال وقت السفر بالأعمال الصالحة الأدب الرابع عشر: ينبغي للمسلم في أثناء طريقه أن يستغل طريقه بالخير، بعض المسلمين -هداهم الله- ينطلقون في أسفارهم، ثم ماذا يكون؟ تكون سيارته قد ملئت بالزمر والطرب، فيُقَلِّب من أغنية إلى أغنية، ومن زمر إلى زمر آخر، ثم يقول: إنا نقضي الطريق، فإن الطريق طويل، فنقطعه بهذا الزمر. نقول للأخ: انطلق بأشرطة الخير والقرآن والمحاضرات، حتى تسمع خيراً، ويكون ذلك المجلس الذي أنت فيه محفوفاً بالملائكة، وإن كنتَ ماضياً في طريقك تمشي. هذه هي مجالس الخير؛ لأنه يُسْمَع فيها القرآن والذكر ويوجد فيها الخير من قراءة قرآن وغير ذلك. ثم ينبغي للمسلم أن يحرص على مسألة: أنت في سيارتك قد تقول: إن الإنسان أثناء الطريق قد يثقل سمعه، فلا يكون القرآن في كل الطريق سماعاً فقط. فأقول: خذ معك شيئاً من المصاحف، ثم اجلس حتى ولو كنت مع والدتك وأختك وعمتك وجدتك وغير أولئك، اجعل درساً قرآنياً في السيارة، فتقرأ أنت أولاً، ثم تقرأ الأخت، فإنها تعرف القراءة، وتسمع الجدة والأم ممن لا يسمعون القرآن ولا يحسنون القراءة، فتجد أنهم يشعرون بروحانية عظيمة، مَن منا انطلق بأهله وإخوانه فجعل درس القرآن في السيارة، يسمعونه غضاً طرياً؟! هذه من الأمور الميسرة. ونستطيع أن نقرأ موضوعاً طيباً في كتابٍ ميسر؛ قصة لصحابي، أو غزوة للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم نتناقش في ذلك الأمر، ونتناقش في هذه العزوة، فنحيي الإيمان في داخل نفوس هؤلاء، فيرتفعون، فتسمو النفوس، فإذا بها تستقبل العبادة بنشاط وحيوية. الحمد لله الذي يسر لنا طرق الخير، وهناك بعض الناس ينطلقون من الرياض إلى مكة، يمشون ثمان أو عشر ساعات وما سمعوا ذكراً ولا تسبيحاً ولا تهليلاً، هذا من الجهل. فينبغي أن يكون الطريق كله طريق خير، نتنافس فيه على الخير وعلى طاعة الرحمن.

صفة العمرة على ضوء السنة النبوية

صفة العمرة على ضوء السنة النبوية ثانياً: في كيفية العمرة على ضوء ما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم:

التجرد من المخيط

التجرد من المخيط الأمر الأول: يُسن للمسلم التجرُّد من المخيط، فإن من الأمور التي ينبغي أن يتذكرها المسلم في قضية انطلاقه: إذا وصل المسلم إلى الميقات يُسَنُّ له التجرد من المخيط.

إزالة الأذى من الجسد

إزالة الأذى من الجسد الأمر الثاني: يُسَنُّ للمسلم أن يزيل كل شيء، فيزيل المسلم ما فيه من الشعور، فبعض الناس -هداهم الله- يزيلون الشعور التي يجب أن تبقى، ولقد قُسِّمت لنا الشعور في الإنسان على ثلاثة أقسام: - قسمٌ من الشعور يجب إبقاؤه، كشعر اللحية والحواجب، فلا يجوز للمسلم أن يَجُزَّه. - قسمٌ يجب إزالته فلا يَيْقى، وهو شعر الإبط والعانة، فهذا لا بد من زواله، وقد أمِرْنا به. - وقسمٌ سكت عنه الشارع، فلم يبيِّن لنا فيه حكماً، وهو ما يوجد في اليدين، أو في الصدر، أو في الفخذين، أو في الساقين، فهو مسكوت عنه، إن أزاله الإنسان أو أبقاه فلا حرج عليه. هكذا ينبغي أن نعلم. وأنت إذا انطلقت ووصلت إلى الميقات، فإنك ترى عجباً من بعض الطائفين -هداهم الله- ستجد الرجل منهم محرماً؛ ولا شك أنه يتبيَّن منه شيءٌ من إبطه، فتجد أن شعر الإبط ربما يكون له سنة أو سنتين لم يحلقه، ويكون هذا من الجهل والخطأ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحابة الأطهار الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، يقولون: (وقَّت لنا النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ليلة) ، فما عداها فلا يجوز للمسلم أن يزيد عليها، بعد الأربعين يجب، أما قبله فقد ذَكَرَت كتب الفقه وغيرها أنه ينبغي أن يتعاهده المسلم كل جمعة، فيصبح إبطه وعانته دائماً نظيفة، أما أن تكون محلاً للأقذار والأوساخ والروائح المنتنة، فهذا من جهلنا بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وديننا لا مجال للاستحياء فيه، فلا بد أن نبين أحكام الشرع ليتفقه الناس، فقد كانت المرأة تسأل عن أمور خاصة، حتى قالت إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّك فضحتِ النساء يا امرأة، وقالت عائشة: [رحم الله نساء الأنصار، كن لا يستحيين من الحق] ، وهذا ديننا، ويجب أن نتفقه فيه.

خلع المخيط وتذكر الآخرة

خلع المخيط وتذكر الآخرة الأمر الثالث: إذا تجرَّد المسلم من المخيط فليتذكر الدار الآخرة، فقد زال عنه لباسه المعتاد، فأخذ لفائفَ يتذكر الكفن بها، ويتذكر الانطلاق إلى الدار الآخرة، مَن منا إذا لبس هذا الشيء تذكر أنه يُحْمَل على آلة حدباء، ثم ينقل إلى القبر، نبقى دائماً نلف هذا الإزار والرداء، ثم ننطلق، ويصبح الإنسان مهرولاً، يخرج قوته وفتوته في المطاف والمسعى، ولا يشعر بأننا بهذا قد أعطينا معلماً لنتذكر الدار الآخرة به، والرجوع إلى الله تعالى.

التلبية ووقتها

التلبية ووقتها الأمر الرابع: التلبية، ومتى يلبي المسلم؟ A إذا لبس الإزار والرداء وتجرد من المخيط.

التطيب والتنظف

التطيب والتنظف الأمر الخامس: ينبغي للمسلم أن يتطيب ويتنظف، وهل يكون الطيب في الإحرام؟ A لا، إنما يكون في الجسد، يطيِّب رأسه ولحيته وصدره وإبطيه وسائر جسده، أما الإحرام فإنه لا يطيَّب ولا يجوز تطييبه.

استحباب صلاة ركعتين بعد لبس الإحرام

استحباب صلاة ركعتين بعد لبس الإحرام الأمر السادس: بعد أن يتطيب المسلم ينطلق ليصلي ركعتين إن كانت ذات سبب، أما إذا جاء في وقت لم يكن فيه صلاة ذات سبب فلا يصلي شيئاً. ولكني أقول: ينبغي للمسلم أن يحرص على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم. ما هو هديه؟ كان صلى الله عليه وسلم إذا انطلق وأراد أن يحرم بحج أو عمرة، أحرم عقب فريضة، فإنه في حجة الوداع أحرم عقب الفريضة، فإن كان هناك وقت الظهر أو وقت العصر أو وقت المغرب، صلى المحرم ثم انطلق، وليس ثمة سنة خاصة بالإحرام مستقلة، إنما إذا أراد الإنسان أن ينطلق وهو في أثناء الطريق فليحرص على أن يكون إحرامه عقب فريضة، فإن أخر الظهر نصف ساعة أو ساعة فلينطلق حتى يصل إلى الميقات، ثم يغتسل ويتطيب ويتجرد من المخيط، ثم يصلي الظهر أو العصر؛ وقت الصلاة التي حانت، ثم ينطلق بعد ذلك إلى بيت الله الحرام، ينطلق بعد الإحرام، وينوي الدخول في النسك بعد الفريضة.

التلبية بعد الركوب على الدابة أو غيرها

التلبية بعد الركوب على الدابة أو غيرها الأمر السابع: إذا صلى المسلم الفريضة انطلق إلى سيارته، ومتى يلبي المسلم؟ A لا يلبي حتى يصعد على دابته، إذا ركب السيارة فهناك ينوي الدخول في النسك، بعض العامة -هداهم الله، وسيأتينا هذا ضمن الملحوظات- يظنون أن الدخول في النسك يكون بمجرد التجرد ولبس الإزار والرداء، وإذا سألوا المحرم: أقصَّرت أظفارك؟ فإن قال: لا، قالوا: إذاً: أنت أحرمت؛ قد لبست الإحرام، فلا تقصِّر أظفارك! وهذا غير صحيح، إنما يكون الإحرام بنية الدخول في النسك مع التلبية، فيلبي الإنسان إذا صعد على دابته أو السيارة أو غير ذلك.

الاستمرار في التلبية

الاستمرار في التلبية الأمر الثامن: ينبغي للمسلم أن يستمر في التلبية:- فيقول: لبيك اللهم لبيك، أو يقول: لبيك اللهم عمرة، ثم يستمر في تلك التلبية، فمتى نوى الدخول في النسك فلا طيب، ولا تقليم للأظافر، ولا تقصير للشعر، ولا لبس للمخيط إطلاقاً، فإنه قد حَرُمت عليه محظورات الإحرام، فيستمر في التلبية حتى يصل إلى بيت الله الحرام. ثم نقول: ما المقصود بهذه التلبية؟ إن التلبية تعني أن المسلم مستجيب لله ولرسوله، كأنه يقول: لبيك اللهم لبيك، أي: أستجيب لك يا رب استجابةً بعد استجابة، فلا أنقطع في الاستجابة أبداً يا رب، وتوحي للمسلم أنه انطلق، وتوحي له كذلك أن الإنسان منذ أن يدخل في الإحرام أنه مستجيب لله ولرسوله. هذا مثالٌ بسيطٌ على ذلك؛ لو قيل لأحدنا: البس الإزار والرداء بدون سراويل أو (فنائل) فلا يستطيع أن يصلي به التراويح معنا إطلاقاً، فتجد الإنسان كلما تحرك يخشى أن تبدو عورته للناس؛ لكن إذا انطلقنا إلى بيت الله الحرام استجبنا لله ولرسوله سمعاً وطاعة، ولا نشعر بحرج ولا تضايق ولا بخجل ولا بغير ذلك، إن ذلك يدل على الاستجابة لله ولرسوله، فلنستمر في هذه الاستجابة، علنا أن نلقى الله على هذه الاستجابة، فيكون فيها الخير والأجر والثواب. فإذا انطلق الإنسان وهو مُلَبٍّ فلا ينقطع؛ بل يستمر في التلبية حتى يصل إلى بيت الله الحرام.

دخول الحرم من باب بني شيبة

دخول الحرم من باب بني شيبة الأمر التاسع: يُسَنُّ له أن يدخل من باب بني شيبة -وهذا الباب معروف، ويسمى الآن: باب السلام- إن تيسر له ذلك، وإلاَّ فالحمد لله الذي لم يجعل علينا في الدين من حرج، فإن تيسر للمسلم الدخول من هذا الباب، وإلاَّ فليؤجل ذلك، ويدخل من أي باب حتى يتيسر له في عمرة لا يكون فيها ثمة زحام، ولا أدنى مشقة عليه. فإذا رأى المسلم البيت قطع التلبية.

الاضطباع في الطواف

الاضطباع في الطواف الأمر العاشر: الاضطباع بإخراج كتفه اليمنى، وأنبه على قضية الإحرام: بعض الناس يضطبعون من ساعة لبسهم للإحرام، وليس الاضطباع إلا لطواف القدوم. وهذا الاضطباع سنة في طواف القدوم فقط، وترون من المظاهر على الناس سواء في الحج أو العمرة أن بعض الناس يبقى مضطبعاً طيلة أيام الحج، حتى يسود كتفه من الشمس، وهذا قد شَقَّ على نفسه، وإنما الاضطباع في طواف القدوم فقط. فإذا انتهى من الطواف سبعة أشواط، فليضع الرداء على كتفيه، وانتهت هذه السنة.

محاذاة الحجر الأسود عند الطواف مع التكبير

محاذاة الحجر الأسود عند الطواف مع التكبير الأمر الحادي عشر: بعد الاضطباع يحاذي الحَجَر الأسود ويكبِّر، ونقول: إن المسلم إذا حاذى الحَجَر الأسود، هل يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، كما يعمل الناس؟ أو باسم الله، الله أكبر؟ نقول: إن الإنسان يشير بيده، وكنت أتمنى أن آتي بمجسم للكعبة ليعلم الناس كيف يبدءون الطواف وكيف يكون طوافهم. فالسنة للمسلم أن يضع كتفه الأيسر على جهة الكعبة، وبناء عليه: لنضرب مثالاً بأن هذا هو الحَجَر الأسود على يساري، إذاً أكون هكذا، ثم أقول وأشير بيديَّ: الله أكبر، أما أن ينحرف الإنسان بكل جزئيته، ويقول: الله أكبر، الله أكبر فلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل البيت عن يساره، ثم كبر صلى الله عليه وسلم، إن قال في أوله: باسم الله والله أكبر جاز، وبقية الطواف يكون: الله أكبر الله أكبر، بدون حاجة، وإن سَمَّى فلا حرج في ذلك. - طواف القدوم يتميز بمزايا: أولها: الاضطباع وسُنِّيَّتُه، وهو: إخراج الكتف الأيمن. ثانيها: الرَّمَل: وهو أن يُسرع الإنسان مع مقاربة الخُطَا، بعض الناس يركض حتى أنك ترى إزاره أو رداءه كأنه علم خلفه، وهذا من الخطأ، فيؤذي إخوانه، ويشق على الطائفين.

الرمل أثناء الطواف

الرمل أثناء الطواف الأمر الثاني عشر: يُسَنُّ للمسلم أن يرمل، فيبدأ الإنسانُ طوافَه من لحظة أن يقول: الله أكبر في بداية الطواف بأن يسرع ويقارب بين الخُطا، وكثيرٌ من الناس ينسون هذه السنة حتى إذا لم يبقَ من طوافه إلا شوطٌ أو شوطان يسأل: أأرمل قضاءً؟! فنقول: هي سنة قد فات محلها، فلا حاجة إلى أن تعيدها مرة أخرى. ثم يقول: كم يرمل الإنسان؟ نقول: الثلاثة الأشواط الأولى فقط، ويكون الرَّمَل على جميع الطواف في هذه الثلاثة، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما ذكر ذلك جابر بن عبد الله، وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رَمَل الطواف كاملاً؛ لكنه في عمرة القضاء رَمَل النبي صلى الله عليه وسلم ما بين الحَجَرَين، بمعنى أنه بدأ من الحَجَر الأسود ثم طاف إلى أن وصل إلى الركن اليماني، ثم رَمَل إلى الحَجَر الأسود، ثم لم يرمل بعد ذلك. ذلك الرَّمَل لسبب أن كفار قريش كانوا قد أمروا بعضهم أن يأتوا إلى البيت ويقولوا: انظروا إلى محمد وأصحابه، قد أوهنتهم حمى يثرب، فانظروا إليهم كيف يطوفون؛ لأن من كان فيه الحمى لا يستطيع أن يمشي وقد أثقله التعب والمشقة، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصحابةَ إغاظةً لهؤلاء الكفار أن يرملوا، فجلسوا ينظرون حمى يثرب، وإذا بالصحابة يرمُلون، قيل: كيف تقولون: إنهم أوهنتهم حمى يثرب، فوالله لكأنهم الغزلان. فأغاظ الله الكفار لِمَا جاءوا من أجله، فقد جاءوا ليستشرفوا وينظروا إلى الصحابة، فردَّ الله كيدهم في نحورهم، وبقيت تلك سنةً، نرمل في الثلاثة الأشواط الأولى فقط.

الدعاء أثناء الطواف بما يجب

الدعاء أثناء الطواف بما يجب الأمر الثالث عشر: دعاء المسلم حال الطواف بما أحب من الدعاء:- بعض الناس -هداهم الله- يحملون معهم (مَنْسكاً) ، فيه الشوط الأول، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، ثم السادس، والسابع، ويصبح بعض الناس مدمناً عليه، وقد رأيتُم هذا، بعض العامة إذا لَمْ يدعُ بهم شخص بهذا الدعاء قالوا: والله هذه السنة ما اعتمرنا، وليس للعمرة طعم هذه السنة؛ لأننا لم نقرأ (المنسك) وهذا من الجهل والخطأ، وتلك من الأمور التي ينبغي أن ينبه الناس عليها. إذاً: ماذا يعمل المسلم؟ نقول: أيها المسلمون! يمكن للمسلم أن يدعو بما أحب، مَن منا يقول: إنه لم يذنب ولم يعصِ الله؟! والله إن الكواهل قد أثقلتها السيئات والمعاصي، فلنصدُق مع الله في هذا الطواف، فإن الطواف ترجى فيه الإجابة، فكل منا يعرف ذنوب نفسه، فليدعُ اللهَ أن يخفف عنه، وأن يزيل عنه الذنوب والسيئات. إذا قال: دعوتُ حتى تعبتُ، أقول له: يمكنك كذلك أن تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وتطوف وتدعو، وتسبح، ويمكنك أن تقرأ القرآن، فتقرأ من: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] حتى تصل إلى {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] ، أو تقرأ ما شئت من الآيات القرآنية والآحاديث النبوية. أما أن نحجِّر أنفسنا على أدعية مسجوعة الله أعلم بمن قالها، ويظن بعض الناس أنه إذا لم يكن دعاؤهم على (المنسك) ، فإنه لا طواف لهم ولا سعي، فهذا من الجهل، بل وتسمعون في طواف العمرة يقول أحدهم كما في (المنسك) : اللهم اجعله حجاً مبروراً، فيقول الباقون وراءه: آمين، وهو ليس حجاً، فكيف يكون هذا؟! وتجد أن بعضهم يدعو بأدعية -خاصة من العجم هداهم الله- لا يحسن قراءتها من هذا (المنسك) ، فتجده يدعو: اللهم إن هذا (الحرام) حرامك، والصحيح: اللهم إن هذا (الحرم) حرمك، وتصبح قراءات لا يدري بها الإنسان ولا يفقه معانيها، ثم تجد بعض الناس قد يدعو على نفسه، ومَن خلفه يقولون: آمين، ولا يدرون ماذا يحدث. وهذا من الخطأ والجهل. فكان الأَولى بالمسلم أن يدعو بما شاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وليتخير من الدعاء أحبه إليه) تخيَّر ما شئت من الأدعية، من منا يقول: إنه ليس في حاجة إلى الثبات على الدين؟! أو ليس بحاجة أن يرزقه الله اللقمة الحلال؟! أو أن يرزقه الله الذرية الصالحة؟! أو أن يثبته الله على طريق الاستقامة حتى يلقاه؟! أو أن يكون آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله؟! إذاً: هذه أدعية ميسَّرة، فادعُ بما شئت. فيدعو الإنسان حتى يصل إلى الركن اليماني.

استلام الركن اليماني والتكبير بعد الاستلام

استلام الركن اليماني والتكبير بعد الاستلام الأمر الرابع عشر: إذا وصل إلى الركن اليماني يؤشر ولا يكبِّر:- بعض الناس منذ أن يصل يقول: الله أكبر، فنقول: رويدك، فلا تكبير حتى تستلم، فإن استلمت فكبر، وإلا فتمر ولا تكبر إطلاقاً، قد يقول بعض الناس: الناس يكبرون، ونحن نقول مع الناس، فنقول لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يكن أحدكم إمَّعة، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساء الناس أساء) ، وبعض الناس تجده من العامة، يقول عن هؤلاء الناس الذين يسمعهم يكبرون: أنا أكبر، فربما كانوا على أجر، وما أريد أن يفوتني الأجر، فأريد أن أكون وإياهم على الأجر سواء. فنقول له: ليس هذا هو الصحيح، إنما الصحيح أن نعبد الله بما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهل تريد الأجر والثواب؟! سيقول: نعم. فنقول: الزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فيه الأجر والثواب.

الأدعية البدعية أثناء الطواف

الأدعية البدعية أثناء الطواف الأمر الخامس عشر: إذا مسح الإنسان الركن اليماني، وأراد أن ينطلق إلى الحَجَر الأسود، فليقل ما ثبت من الدعاء وهو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] :- أما تكملة الدعاء: يا عزيز، يا غفار، يا ذا الجلال والإكرام، هذه الأدعية التي نسمعها من المزورين هي من التزوير، وليست من الزيارة. فنحن في حاجة إلى تأصيل. وإني أقول: إن بعضاً من هؤلاء الذين يطوفون بالناس، قد رأيت أحدهم في المسعى وقت الصلاة، الناس يصلون وهو لا يصلي، ومع ذلك ينتظر من هؤلاء العُمَّار والحجاج حتى يزوِّرهم، فتريد أنت بعد هذا أن يدعو لك رجلٌ أو شخصٌ لا يصلي؟! سبحان الله! وترجو الإجابة منه، وتقول: آمين؟! وهذه من المصائب والبلايا. فيجب أن يكون الإنسان حريصاً على أن يدعو بنفسه بدون حاجة إلى أن يأتي بأناس يدعون له. إذاً: نقول: ما ورد عندنا هو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] ونقف، قد يقول بعض الناس: مع الزحام ينتهي هذا الدعاء، فنقول: كرره مرة أخرى، أو ادعُ بما شئت من الأدعية الطيبة.

التكبير عند محاذاة الحجر الأسود

التكبير عند محاذاة الحجر الأسود الأمر السادس عشر: إذا وصلَ إلى الحَجَر فليقل: الله أكبر، وبعض الناس تجده عجيباً! قد يكبر قبل، وقد يكبر بعد! وبعض الناس تجد عنده خطأ؛ حيث أنه يستدير ثم يرفع يديه ثم يقول مع الناس: الله أكبر الله أكبر. وبعض الناس يقول: هذا يكبر بيديه الاثنتين، ربما كان أعظم أجراً! لماذا لا أكبر بيدي الاثنتين معه؟! لا، هذا من الخطأ. فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان كلما حاذى الحجر كبر، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (الله أكبر) ويشير فقط. إذاً: طُفْ سبعة أشواط، وبعد أن ترمل الثلاثة الأشواط الأولى قف عن الرَّمَل، ثم بعد ذلك أكمل الطواف ماشياً حتى إذا وصلتَ إلى السابع قف إلى الحَجَر، ثم قل: الله أكبر.

التوجه إلى مقام إبراهيم

التوجه إلى مقام إبراهيم الأمر السابع عشر: ينطلق إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ هذه الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] :- قد يكون بعضُ الناس أولَ مرة يسمع هذه الآية! فنقول: سبب ذلك هو: عدم علمنا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. فإذا انتهى وكبر فليقل: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] .

الصلاة خلف مقام إبراهيم

الصلاة خلف مقام إبراهيم الأمر الثامن عشر: يأتي خلف المقام، ويصلي لله ركعتين، ويتجوَّز في الركعتين، فقد يكون في المكان زحام، بل عليه أن يرجع بعيداً ولو صلى في الأروقة، وهي التي خلف المقام، لئلا يضيق على إخوانه الذين يطوفون، فبعض الناس يكون عنده بعض الفتوة، فيأتي ثلاثة أو أربعة منهم فيحجزون المقام ويمنعون الناس تبعاً لذلك، وهذا والله من الجهل ومن الخطأ، فلو صلى الإنسان هاتين الركعتين في أي موضع من المسجد أجزأته، والحمد لله.

وجوب الطهارة عند الطواف

وجوب الطهارة عند الطواف الأمر التاسع عشر: يشترط في الطواف أن يكون المسلم متطهراً من الحدث الأكبر والأصغر، أما السعي فلا يشترط فيه الطهارة. فيجوز للإنسان أن يسعى يبن الصفا والمروة وإن كان مُحْدِثاً؛ فإنه لا يشترط فيه ذلك.

مشروعية الشرب من ماء زمزم

مشروعية الشرب من ماء زمزم الأمر العشرون: بعد أن ينتهي ويصلي خلف المقام ركعتين -وقد يأتي الإنسانُ في النهار- فإن كان مسافراً انطلق إلى زمزم فشرب شيئاً من الماء.

الصعود إلى الصفا

الصعود إلى الصفا الأمر الحادي والعشرون: بعد الشرب من ماء زمزم ينطلق إلى الصفا، فإذا مرَّ في طريق الصفا فليصعد وهو يقول: (أبدأ بما بدأ الله به: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] ) .

استقبال البيت حال الصعود إلى الصفا

استقبال البيت حال الصعود إلى الصفا الأمر الثاني والعشرون: إذا صعد الصفا فليستقبل البيت:- إذا استقبلَ البيت ماذا يعمل؟ إن المسلم إذا استقبل الكعبة ينظر إلى الكعبة، بعض الناس يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أليس هذا موجوداً؟! وكثيرٌ مَن يفعل هذا. فنقول: هذا ليس موضع إشارة حتى نشير. فماذا نعمل إذاً؟

مشروعية الدعاء على الصفا مع رفع الأيدي

مشروعية الدعاء على الصفا مع رفع الأيدي الأمر الثالث والعشرون: يرفع الإنسان يديه، فهذا الموضع موضع رفعٌ لليدين، فيقف قائماً، وبعض الناس يجعل بصرَه إلى القبة! سبحان الله! ما أُمِرْنا بالنظر إلى القبة حتى يكون فيها الأجر والثواب. فارفع يديك، وقل: الله أكبر، الحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم ادعُ طويلاً، ثم أعِدها مرة أخرى فقل: الله أكبر، الحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم ادعُ طويلاً، ثم أعِدها مرة ثالثة. إن كثيراً من الذين يسعون -سواء في حج أو عمرة- همهم أن يصلوا إلى الصفا، حتى إذا وصلوا انطلقوا مسرعين، فتجد أن أثر العبادة ضعيف عندهم، لا يشعرون بلذة العبادة، ولا بمواقف الدعاء، فإن هذا الموضع من المواضع التي تُرْفَع فيه الأيدي. فارفع يديك، ثم ادعُ وادعُ طويلاً بخيري الدنيا والآخرة، ثم ليصدق الإنسان مع ربه، فإن هذا موطن إجابة، ليصدق المسلم مع ربه في الدعاء، عله أن يجيب الله دعاءه في هذه المواضع. وكم همُ الناس الذين لا يطبقون هذه السنة؟! وبعض الناس يقول: لو طبقنا هذه السنة لحصل زحام وغير ذلك! نقول: الهدي هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإذا ذهب طالب العلم أو المتعلم أو العالم بهذه السنة، فليُنَبِّه والدته وإخوانه وأحباءه أن يُفْعَل في هذا الموضع كفعل المصطفى صلى الله عليه وسلم.

الإسراع عند العلمين أثناء السعي للرجال

الإسراع عند العلمين أثناء السعي للرجال الأمر الرابع والعشرون: إذا انتهى من هذا الدعاء نَزَلَ بعد ذلك، حتى إذا وصل إلى العَلَمين أو الْمِيلين أسرَعَ سرعة شديدة، حتى كان الصحابة يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: (إن إزاره ليدور) صلى الله عليه وسلم. لكن ينبغي أن ننبه على مسألة: فبعض الناس معه أمه وأخته، فيأمرهما بالإسراع، فقد تنفلت عباءة الأم من السرعة، فتريد أن تنطلق كما ينطلق الابن، وهذا من الجهل والخطأ، فإن المرأة ليس عليها رَمَل، وليس عليها سعي بين العَلَمين هنا، فتبقى الأم تمشي، ويسرع ولدها حتى يقف، ثم ينتظرها، حتى إذا جاءت أمْسَكَها خوفاً عليها أن تضيع، فسار هو وإياها. وهذه السنة ينبغي أن نحرص عليها. وبعض الناس -من جهلهم- يسرعون في كل المسعى، فيصبح مُشَغِّلاً السرعة القصوى منطلقاً هَمُّه أن ينتهي فقط، ويتمنى -كما هي اقتراحات بعض الناس- أن يصبح المسعى على آله تمشي بين الصفا والمروة، فيقف الإنسان عليها، وتكون دقائق وينتهي السعي، بدلاً من هذه المشقة. وهذا من الجهل ومن الخطأ. فكان مما ينبغي على المسلم أن يحرص على أن يسعى بين الصفا والمروة مطبقاً هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل موضع بما فعله صلوات الله وسلامه عليه. ومن الملحوظات: أن المسلم إذا رقى على المروة -الآن انتهيتَ من الصفا وتريد أن تصعد على المروة - فبعض الناس يقرأ الآية التي تقول {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] إلى آخرها مرة أخرى، فليس ثمة قراءة هنا، فإن شيخنا العلامة/ عبد العزيز بن باز يقول: إن قول الإنسان: أبدأ بما بدأ الله به، وقراءة هذه الآية إنما هو في بداية السعي، وهو عند الصفا؛ لأنه يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] فبدأ بها، فأصبحت من الشعائر.

مشروعية الدعاء على المروة مع رفع الأيدي

مشروعية الدعاء على المروة مع رفع الأيدي الأمر الخامس والعشرون: يصعد مرة أخرى على المروة، ثم يرفع يديه ويقول كما قال على الصفا. ماذا قال على الصفا؟ قال: الله أكبر، الحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم ليدعُ طويلاً، وليدعُ طويلاً، ثم بعد ذلك يعيدُها مرة أخرى وليدعُ طويلاً، ويعدها ثالثة وليدعُ طويلاً.

التوجه من المروة إلى الصفا

التوجه من المروة إلى الصفا الأمر السادس والعشرون: ينزل مرة أخرى، ثم يفعل بعد ذلك على الصفا مثلما فعلَ على المروة، حتى يُنهي سبعة أشواط، ذَهابُه شوط ورجوعُه شوط. إن بعض الناس من جهلهم يسعون أربعة عشر شوطاً! وهذا من الخطأ، فإن هؤلاء يشقون على أنفسهم، ويقولون: إن الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى ذهب إلى أن السعي بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطاً. فقال بعض العلماء: لو سعى ابن حزم ما قال هذا القول؛ لأن فيه تعباً ومشقة. فننبه على هذه المسألة.

الدعاء بعد الانتهاء من السعي

الدعاء بعد الانتهاء من السعي الأمر السابع والعشرون: إذا انتهى من السعي ووصلَ إلى السابع فليرفع يديه، ثم ليدعُ كما فعلَ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر قال: (ففعل على المروة مثلما فعل على الصفا، حتى انتهى من طوافه كله) أي: من سعيه صلى الله عليه وسلم.

مشروعية الحلق أو التقصير

مشروعية الحلق أو التقصير الأمر الثامن والعشرون: بعد ذلك ينطلق فيقَصِّر أو يحلق، وإن كنتُ أُرَغِّب المسلم على أن يحلق شعر رأسه، فإن بعض الناس -هداهم الله- لا أقول: مخالفاً، وإنما أقول: خلافاً للسنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً، فيصبح المسلم همه أن تبقى شعيرات على رأسه ليتجمل بها. لكني أقول: ينبغي للمسلم أن يفعل ذلك الأمر طواعية لله ولرسوله، فإن المسلم إذا حلق هذا الرأس تكون فيه الاستجابة، ويحصل له فيه الدعاء من المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله: قال في الثالثة: والمقصرين) . فإني حينما أعمله استجابة لله ولرسوله أضحي بالجمال، لا شك أن الشعر جمال وزينة؛ لكني لما كنتُ أقرِّبه إلى الله تعالى فإنه يهون ويسهل أمام الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ومن الملحوظات أيضاً: أن بعض الناس يأتون إلى أصحاب المقصات، فيقص شعرة من هنا وشعرة من هنا! كثير من أهل العلم يرون أن هذا لا يجزئ عن التقصير إطلاقاً، ولا تبرأ الذمة به. إذاً ماذا يعمل؟! يجب عليه أن ينطلق إلى الحلاق، فيستعمل (الماكينة) رقم (4) ، هذا هو التقصير الآن، فالحلق يكون بالموسى، والتقصير يكون بماكينة رقم [4] لأنك تجد بعض الناس يقصر شعرتين من هنا، وشعرتين من هنا، وشعرتين من هنا، ثم يقول: قصرنا! فالله لما قال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] ماذا قال؟ {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] . لو رأينا شخصاً الآن حلق جزءاً من هنا وترك شعراً، ثم حلق من هنا وترك شعراً، ثم حلق من هنا وترك شعراً، أنسميه محلقاً؟! أم نقول له: لماذا لم تحلق رأسك؟! لا نسميه محلقاً؛ لأننا نجد بقايا من شعره ما زالت في رأسه. وكذلك نقول للمقصرين: يجب أن تقصروا من جميع الشعر، حتى يكون عاماً كما أن الحلق يجب أن يكون عاماً لجميع الشعر. هنا انتهى الإنسان من عمرته وما يجب عليه.

ملحوظات على الناس في أداء العمرة

ملحوظات على الناس في أداء العمرة هنا أحب أن أنبه على بعض الملحوظات، وأسردها سرداً مستعجلاً، ولن نأتي لكل جزئية بتفصيلها؛ لأني قلت: قد تصل إلى ستين أو سبعين ملحوظة، فأسردها سرداً على عجل:

ملحوظات متعلقة بمسألة السفر

ملحوظات متعلقة بمسألة السفر الملحوظة الأولى: أن بعض الناس ينطلقون إلى السفر في الطاعات ولا يقلعون عن المعاصي فتجد المزمار، والدخان، والمعصية كاملة ولا يتغير من حاله شيء. فنقول: أنت انطلقت لتجلب الحسنات، ولتبعد عن نفسك آثار السيئات، فاترك المعاصي حتى تُقْبَل منك الدعوة. الملحوظة الثانية: عدم كتابة الوصية. الملحوظة الثالثة: عدم ذكر الدعاء عند توديع المسافر، فلا يقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. الملحوظة الرابعة: عدم الحرص على الرفقة الصالحة. الملحوظة الخامسة: عدم توصية المسافر بالدعاء للمقيمين، وذلك كما فعل ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه. الملحوظة السادسة: سفر المسافر وحده. الملحوظة السابعة: ترك دعاء السفر، فتجد كثيراً من الناس يتركون الدعاء، وأنا قلت لكم، ووعدتُ -وأسأل الله الإعانة- بمحاضرة أسميها: (الترقيع والتأصيل في الأمة المعاصرة) أُسَمِّي هذا من الترقيع الذي نعيشه: وضع دعاء السفر في السيارة، هذا من الترقيع، ووضع كفارة المجلس في المجلس، هذا من الترقيع، وتعليق الآيات في البيت، هذا من الترقيع وليس من التأصيل، وتجد أن المسلم من الترقيع الذي يعيشه كلما سافر يقول لإخوانه: يا إخوان، لا تنسوا دعاء السفر، لا تنسوا دعاء السفر، سبحان الله! الصحابة علمهم المصطفى صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وكثير ما كان يسافر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يقول للصحابة: أيها الصحابة! لا تنسوا دعاء السفر في كل مرة، بل أخذوه مرة، فعَلِق في القلوب، فعملت به الجوارح تلقائياً. ولهذا تجد أنه لو لم يذكَّر الناس بدعاء السفر لَنَسُوه حتى يصلوا إلى مكة، ثم يقولوا نسينا دعاء السفر، وإذا رجعوا نسوا دعاء الوصول إلى البلد، وهذا من عدم التأصيل والتمكين في نفوس الأمة. الملحوظة الثامنة: عدم التسبيح عند النزول، وعدم التكبير عند الصعود. الملحوظة التاسعة: عدم الدعاء بدعاء النزول، وهو: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) . الملحوظة العاشرة: عدم الحرص على النفقة الحلال. الملحوظة الحادية عشرة: عدم التفقه في أحكام الحج. الملحوظة الثانية عشرة: استماع آلات الزمر والطرب في أثناء الطريق وفي الرجوع، وكنتُ عجبتُ ذات مرة من شيء رأيتُه؛ كنا في يوم عرفة، وإذا ببعض الحجاج -هداهم الله- في يوم عرفة مع أحدهم الجراك والشيشة، في عصر يوم عرفة، ومعه أجهزة الزمر والطرب، الناس يتعرضون لرحمة أرحم الراحمين، وهذا يجاهر الله في هذا اليوم، فكان الأولى به أن يستحي في مثل هذا الموقف العظيم الذي يدنو الله فيه من عباده، ويحصل فيه الأجر والثواب من الله تعالى لهؤلاء الأخيار، وتجاب الدعوات. الملحوظة الثالثة عشرة: سفر المرأة بدون محرم، وأُعَرٍّج إلى لطيفة: أننا نجد كثيراً من الناس يسافرون بالخادمات معهم بدون محرم، ويصبح المحرم (أُلُبُو) وهي تسمي الوالد: (بابا) ، وتذهب مع (بابا) و (ماما) ، ويصبح (بابا) هذا محرمها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوماً وليلةً إلا مع ذي محرم) فننبه على هذه المسألة حتى لا يقع الإنسان في حرج ومعصية، أو مخالفة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم. الملحوظة الرابعة عشرة: يُسَنُّ للمسافر إذا رجع إلى بلده أول ما يقدم أن يصل إلى المسجد وكثير من الناس همه البيت والأولاد. كان الرسول صلى الله عليه وسلم من هديه أول ما يقدم فإنه يأتي إلى المسجد، فيصلي لله ركعتين شكراً على سلامة وصوله، ويستشعر أنه قدم من مشقة، ورجع إلى الإقامة، ثم بعد ذلك يعود فينطلق إلى بيته، فيأتي إلى أهله ليقضي حاجاتهم. الملحوظة الخامسة عشرة: الطروق على الأهل ليلاً، فتجد بعض الناس يصِل الساعة الثانية والنصف، أو الثالثة، أو قبل الفجر بساعة، فيطرق الباب: افتحوا. فإذا قيل: مَن؟ قال: أنا وصلت إليكم. إذاً! أنت الآن أزعجتهم من النوم وأتعبتهم، وجعلتهم في مشقة عظيمة. فكان الأَولى أن تبيت قبل دخولك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى الصحابة عن الطروق ليلاً. وقد ذكرتُ لكم لعَلي في قصة غزوة ذات المريسيع، لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث نهى عن الطروق ليلاً، فأراد عبد الله بن رواحة مع جابر بن عبد الله أن يرجعا في آخر الليل، فـ عبد الله بن رواحة قال: [لن أرجع، وأما جابر فقال: سأرجع. فلما وصل إلى بيته نظر إلى فراش زوجته وإذا شخص آخر نائمٌ معها في الفراش، فاعتلى بالسيف يريد أن يقتله؛ إذْ كيف يكون مع زوجته؟! لكنه قال: وقفتُ مع نفسي، وقلت: أوقظها، فحرَّك رِجْل زوجته، وقال: من الذي معك؟ قالت: إنها ماشطة رأسي قد نامت معي، تؤنسني من الوحشة] فلو أنه قتلها في الليل لكان قتل مسلمة. فكان الأولى له ألا يطرق في الليل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الطروق لأمرين: الأول: لتستحدَّ المغَيَّبة. الثاني: لتمتشط الشَّعِثَة: فقد يدخل الإنسان على أهله في الليل، ويجد طَلْع شعرها كأنه رءوس الشياطين؛ شَعِثَة، فيه الغبار، ما تجملت بعد ولا تزينت. فكان الأولى للمسلم إذا جاء إلى أهله ليلاً ماذا يعمل؟ يمكن للإنسان ألا يتعبهم، وإنما يتركهم حتى الصباح، ويرسل أحداً: إني وصلت، فتتجمل المرأة وتتحسن، وتستقبله بوجهٍ باش، بدلاً من أن تستقبله بوجه ثلاثة أرباعه نوم، وقوامها مائل، وشكلها مريع ومخيف. فإن هذا من الجهل والخطأ. فكان الأولى أن يتأدب المسلم بآداب المصطفى صلى الله عليه وسلم. الملحوظة السادسة عشرة: أن الناس ينطلقون مع الوالد والوالدة والإخوان ولا يؤَمِّرون عليهم أحداً أثناء السفر. فيقول هذا: قف هنا! ويقول الآخر: لا. قف هناك! ويقول الثالث: لا. بل الأحسن أن تقف بعد قليل! فيحدث من النزاع والخصومات في الطريق ما الله بها عليم. فلو كان ثَمَّ أمير نسمع له ونطيع لكان أفضل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بطاعة أمير السفر، فإذا أمر أمير السفر ألا ينزل أحد من السيارة، فمن نزل من السيارة لغير ضرورة فإنه عاصٍ لله ولرسوله، وهو أمير، قد يقول رجل: هذا من زملائي، لماذا يتأَمَّر علينا؟! نقول: هذه سنتنا، وهذا ديننا، نؤمِّره ونسمع ونطيع لله ولرسوله، حتى ينضبط الأمر، فتجد بعض المسافرين الذين لا يؤمِّرون إذا وقفوا ليعبئوا (بترولاً) ينزلون في الطريق، وينتشر الأولاد والبنات، وينطلق بعض الزملاء, وتتفرق السيارات، فيحتاجون إلى ساعة إلا ربع ساعة حتى يجمعوا الشباب الذين معهم، فلو كان الأمر مرتَّباً بضبطه على ضوء كلام هذا الأمير لكان السمع والطاعة ولم يكن هناك اختلاف إطلاقاً، ولَحَرِصَ المسلمُ على أن ينضبط في سلوكه. فهذا هو الأمير؛ طاعته لا بد منها في السفر، أما أن يأتينا شخص ويقول: أنا أمير عليكم في المسجد، فلا أحد يكون أميراً، ولا غيره، ولا سمع ولا طاعة إلا لولاة الأمر الذين ولاهم الله علينا، وما عداهم فلا نؤمِّر أحداً إطلاقاً. الملحوظة السابعة عشرة: بعض الناس في السفر إذا كانوا في الطريق وغربت عليهم الشمس، فإنهم ينسون أذكار الصباح وأذكار المساء، وهذا من الجهل، فإن المسافر ينبغي له أن يتحصن، ويحرص على وردَي الصباح والمساء. الملحوظة الثامنة عشرة: بعض الناس يظن أن السنن الرواتب ما دامت قد سقطت على المسافر فإن كل شيء من السنن يسقط، كسنة الوضوء، وسنة الضحى، وتحية المسجد إلى غير ذلك، فتجد الإنسان قد أسقط جميع النوافل، فيقول: الحمد لله الذي لم يجعل علينا في الدين من حرج، فلو نظرنا إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنه كان يصلي على راحلته أينما توجَّهَت به، ما ترك التنفُّل صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي ذوات الأسباب، أما ما عداها من السنن والرواتب، فإنها تُخَفَّف، ولا حاجة لصلاتها، فإن ابن عمر رضي الله عنه يقول: [لو كنتُ مسبحاً لأتممتُ] أي: لو كنتُ مصلياً السنن الرواتب لأتممتُ، فما دام قد خُفِّفت علينا الصلوات؛ فلا سنن رواتب، فكانت الأربع اثنتين، وهل تكون الثلاث ركعة ونصف الركعة؟! لا. بل تظل ثلاثاً، فهذا لا يمكن إطلاقاً، وإن كنت قد سمعتُ أنه يوجد من الناس -هداه الله- مِن فِقْهِه -وهذا من الجهل وليس من الفقه- أنه أفتى لبعض زملائه أن يصلوا المغرب اثنتين قصراً. وهذا من الجهل وخلاف إجماع الأمة إلى قيام الساعة، ولم يحدث أن أحداً قال بهذا القول. وهذا من جهله وعدم معرفته. الملحوظة التاسعة عشرة: وأنبِّه إخواني عليها، وأشدِّد فيها، وهي ليست واجبة؛ وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته أينما توجَّهَتْ به. مَن منا إذا ركب في السيارة في السفر قال: الله أكبر، فصلى لله ركعتين، وهو في السيارة؟! بل تجد مِن أندر الناس مَن يفعل هذه السنة. فيمكنك إذا ذهبتَ مع والدك أو والدتك اسألهم: هل أنتم على وضوء؟ فإن قالوا: الحمد لله. فقل: إذاً: صلوا لله ركعتين. تجد العوام يقولون: أنصلي ركعتين لا سجود ولا ركوع فيهما داخل السيارة وهذا فيه مشقة، وإذا نزلنا يمكن للواحد منا حينئذٍ أن يتسنن؟!! وهذا من الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو على بعيره يصلي أينما توجه البعير به، يقول بعض الناس: لا نستقبل القبلة ولا نركع ولا نسجد، فما هذه الصلاة التي عندنا؟! نقول: نحن جهلنا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان الأولى بنا أن نقتدي به. وأنبِّه إخواني إذا ركبوا السيارة بالنسبة للسائق: ألا يفعل، الله الله ألا يفعل! تجده أمام السيارة ويكاد يسقط، ثم يقول: الله أكبر ساجداً، ثم يعمل لنا حادثاً! فيقول: أنا والله كنتُ أتنفَّل! لا يمكن هذا إطلاقاً، بل يُخشى عليه أن يأثم بهذا الفعل. فنقول لهذا الشخص: لا تفعل هذا إطلاقاً؛ لأن أدنى حركة من قائد السيارة كأن يقول: الله أكبر، تنحرف السيارة بها، ومن ثَمَّ يسقط من (كوبري) ثم بعد ذلك يقول: سمع الله لمن حمده بعد الانقلاب. فهذا من الخطأ ومن الجهل. فنقول للإمام: لا تفعل هذا إط

ملحوظات على الناس في الإحرام

ملحوظات على الناس في الإحرام الآن ننطلق إلى الملحوظات على الناس في الإحرام، وهذه الملحوظات كانت تُلْقى سابقاً في ثلاثة دروس أو أربع محاضرات، إذْ لا تكفي محاضرة واحدة؛ لكن نسرع بعض الشيء. الملحوظة الأولى: عند الإحرام حيث يعتقد بعض الناس وجوب الاستحمام، فتجد بعض الناس -هداهم الله- ينطلقون أيام الشتاء إلى الاغتسال، ومعروف أن منطقة الطائف باردة، فإذا دخلت دورات المياه سمعتَ الشهيق، كأنَّ إنساناً سيموت، وماذا تجد؟! ما الذي حصل؟! الحاصل أنهم يستحمون! فنقول: الاستحمام ليس للوجوب، بل يكفي المسلم أن يتوضأ، فلا حاجة لقضية الشهيق والزفير، فإن المسلم ما جعل الله عليه في الدين من حرج. إن كانت ثَمَّة مشقة عليه فليتوضأ والحمد لله، فإن الاستحمام ليس من الواجبات. الملحوظة الثانية: إحرام بعض الحجاج والمعتمرين من مطار جدة، فهو يستحيي أن يخلع ملابسه أمام الناس؛ لأن ذلك عنده عيب! فنقول: يمكن للمسلم أن يلبس إحرامه في الطائرة، أو قبل ذلك في أهله، يلبس الإزار ويترك الرداء، ويلبس عليه ثوبه، وإذا أُخْبِر بأنه وصل إلى الميقات ماذا يعمل؟ يخلع ثيابَه وإزارَه عليه، وليس عليه سراويل، ثم يلبس الرداء عليه، ثم يكمل. كنتُ وجدتُ من اللطائف أن رجلاً من البادية -هداه الله- كان يسعى معنا في المسعى، وعليه إحرام خفيف، فوجدتُ عليه سروالاً ذا خط أخضر، فعجبتُ لهذا، فقلت له: جزاك الله خيراً، اخلع سراويلك. قال: (وَخِّرْ بَسْ وَخِّرْ إِنْتْ) كأنه يقول: أنا أخلع سراويلي؟! كيف هذا؟! وهذا من الجهل. فالإنسان ينبغي له أن يتأدب بآداب هذا الدين، ويلتزم به، فنحن نتجرد من المخيط سمعاً وطاعة، فلو قيل لواحد منا الآن: والله لَتَخْلَعَنَّ سروالَك أو لَتُقْطَعَنَّ رقبتُك! فإنه لن يخلعه، لا يمكن له ذلك، بل يقاتل أمامه، حتى ولو كان عليه الثوب، أو عليه الإزار، فإنه لا يستطيع؛ لكنه لما جاء الميقات قال: سمعنا وأطعنا لله ولرسوله. وهذا يدل على الاستجابة لله وللرسول، ونسأل الله أن نكون من الذين يستجيبون لله ولرسوله. الملحوظة الثالثة: بعض النساء -هداهن الله- تعتقد أنه لا بد أن تفصل لها إحراماً أخضر، وإذا لم تلبس الإحرام الأخضر أو الأسود فإنها تعتقد أنها لم تعتمر، فتعتقد أن كل عمرة لا بد لها من تفصيل جديد، فتذهب إلى الخياط ليخيط لها إحراماً، رغم وجود الإحرام السابق من العام الماضي والذي قبله، وهذا من الجهل، فيمكن للمرأة أن تلبس أي ثوب من ثيابها بشرط ألا يكون فيه زينة، فتوجَدُ قمصانٌ طويلة بعشرين ريالاً أو بثلاثين ريالاً، يمكن للمرأة أن تلبسها. الملحوظة الرابعة: أن بعض النساء من البادية تحرم وتلبس البرقع في نفس الوقت، فالمرأة المحرمة لا يجوز لها أن تلبس البرقع، فماذا تفعل؟! تغطي وجهها إذا كان ثَمَّ رجال، أما إذا لم يكن هناك رجال فإنها تكشف وجهها، وما دام أن الناس الآن كثير، فيمكنها أن تسدل على وجهها شيئاً، ولا حاجة لِأَنْ تلبس البرقع. الملحوظة الخامسة: بعض الشابات اللاتي يُسَمَّيْن (مُطَوِّعات) -كما يُسَمَّى الشبابُ الملتزمُ (مُطَوِّعِين) - بعضهن يلبسن مع الإحرام القُفَّازَين، فإني أنُبِّه على هذا! وهذا من الخطأ، فإن المرأة لا تلبس البرقع ولا القُفَّازين. فنقول للأخت المسلمة: ما دمتِ تَرَين أن هذا دين فماذا تعملين؟ تغطي يدَيكِ بعباءتكِ فيَسْتَتِران. أما أن تلبس المرأةُ القُفَّازين وتصبح كبعض النساء -هداهن الله- اللاتي يلبسن القفازين، فتمشي كأنها رجل، فاتحةً ورافعةً لصدرها، وكأن الأمر ليس فيه شيء، فلا. فكان الأولى للمرأة أن تمشي بسَمْتِ المرأة لا بسَمْتِ الرجل، فتُرَى عليها آثار الأنوثة، لا آثار الرجولة. الملحوظة السادسة: دخول بعض النساء إلى الحرم وهي حائض، بعض النساء تستحي أن تخبر بذلك، فتطوف وتسعى، ثم إذا وصلت إلى الرياض قالت: أنا ما طفتُ ولا سعيتُ؛ ولكني كنتُ حائضاً. كان الأولى بها ألا تطوف ولا تدخل الحرم، فلا يجوز لها أن تدخل المسجد الحرام وهي حائض، فماذا تعمل؟! تجلس في السيارة حتى تعتمر صُوَيْحِباتِها، ثم إذا انقضى حيضها اغتسلت مرة أخرى، ثم بعد ذلك تطوف وتسعى وتقضي عمرتها. الملحوظة السابعة: بعض النساء ما دامت حائضة فإنها تقول: والله لن أحرم، ولن أدخل الحرم؛ ولكنها تذهب إلى مكة! وهذا من الجهل. فنقول لها: أحرمي كما فعلت نساء الصحابة -رضي الله عنهن- بل كما فعلت عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس فقال: (استثفري. ثم أمرها أن تغتسل، ثم أمرها أن تحرم وتلبي؛ وتفعل ما يفعل الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت) . إذاً لا طواف بالبيت فقط، فتحرم وتبقى في الشقة أو في الفندق الذي جلست فيه حتى إذا قضت من حيضها اغتسلت، ثم دخلت المسجد الحرام للطواف. الملحوظة الثامنة: عدم حرص المسلم على النظافة، سواء في الإبطَين أو في العانة أو في غير ذلك فينبغي للمسلم أن يكون حريصاً على التنظُّف. الملحوظة التاسعة: اعتقاد بعض الناس أن هناك سنة للإحرام، وليس ثمة سنة، وإنما إذا وُجِدت فريضة فهذا فِعْل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإن وُجِدَت سنةٌ ذاتُ سبب جاز ذلك. الملحوظة العاشرة: التلفظ بالنية، فبعض الناس يقول: اللهم إني نويت أن أعتمر. فنقول: النية محلها القلب، والتلفظ بالنية بدعة، فلا حاجة لذلك. الملحوظة الحادية عشرة: بعض الناس يلبي عند بدء الإحرام فقط، وأما في أثناء الطريق فيتكلمون، وبعض الناس ينام أو يكسل عن التلبية، وهذا من الخطأ، فإن الصحابة كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربَعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عُنُق راحلته) ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] . الملحوظة الثانية عشرة: التلبية الجماعية، فتجد أن مَن كان في سيارة (الجيمس) أو حافلة (الأوتوبيس) أو غيرهما، والسائق معهم، كلهم يلبون بصوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وهم يدوُّون بتلك التلبية. نقول: إن هذا ليس على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلْيُلَبِّ كلُّ واحد بمفرده، ولا يلبِّ تلبيةً يزعج بها إخوانه أو يشغلهم بها، فيمكنه أن يلبي على أي حال، وكل إنسان يلبي منفرداً، ولا حاجة للتلبية الجماعية. الملحوظة الثالثة عشرة: شراء كتاب الأدعية وقد نبهنا عليه. الملحوظة الرابعة عشرة: الإسراف في الماء:- نقول: الحمد لله أن الدولة يسرت الأمر؛ ولكن هذا يقول: الحمد لله، الخسارة على وزارة المالية، وليس علينا شيء!! وهذا من الجهل، فينبغي للمسلم ألا يسرف، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسرف ولو كنت على نهرٍ جارٍ) ، كما رُوِي في الأثر. والإسراف على وجه العموم مَنْهِيٌّ عنه، فتجد بعض الناس ساكناً في الحمام، جالساً ساعةً أو ساعةً ونصف الساعة ليتنظف، وكأنه جاء مِن أماكنَ مُوْحِلة، أو مِن قفار، وكأن كلَّ جسده قذَرٌ ووسَخ. فكلنا نتنظف يومياً تقريباً، فالحمد لله تيسرت الأمور، ولم يَعُد الناس كالسابق، يمضي على أحدهم الأسبوع والأسبوعان دون أن يستحم، بل إن الإنسان يستحم في الأسبوع مرتين أو ثلاث مرات، والحمد لله الذي يَسَّر. فيكفي الإنسان أن يفيض الماء، بدلاً من أن يحبس إخوانه، ويحجز الحمام ويجلس، ويَحدُثُ مِن ثَمَّ الخصام، فهذا يقرع، وهذا يتهجَّم، وهذا ربما يفتح عليه الباب، وهذا يدخل. فكان الأولى أن يجلس الإنسان قليلاً من الوقت، ثم يخرج ليفسح المجال لإخوانه. الملحوظة الخامسة عشرة: السنَّة أن يستقبل الإنسان القبلة، ثم يلبي فيقول: اللهم هذه حجة، أو اللهم هذه عمرة ولا رياء فيها ولا سمعة. الملحوظة السادسة عشرة: أن يكثر الملبِّي من التلبية، فإنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أحدٍ يُلَبِّي إلا لَبَّى ما عن يمينه وعن شماله من شجر أو حَجَر، حتى تنقطع الأرض من هنا ومن هنا) فيسمعون تلك التلبية ويشهدون، وتلك التلبية العظيمة تذكِّر بالاستجابة لله ولرسوله. الملحوظة السابعة عشرة: أن الإنسان إذا دخل الحرم ينسى دعاء دخول المسجد، فهمُّه أن يدخل إلى الحرم فقط، ودعاء دخول المسجد يسبقه تقديم رجله اليمنى، هذه كلها ينساها، وبعض الناس قبل أن يدخل ينظر هل بدأ برجله اليمنى أم باليسرى؛ لأنه لم يتعود على هذه السنة، فقد كان الصحابةُ جوارحُهم تعمل تلقائياً، ويطبقون تطبيقاً كاملاً رضي الله عنهم وأرضاهم. وكذلك تجد بعض الناس إذا دخل ينسى أن يدعو بدعاء الدخول، وهو: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم) . ثم بعد ذلك يجوز له أن يدعو دعاء المسجد المعروف، كما ثبت عن عمر بن الخطاب قوله: [اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحَيِّنا ربَّنا بالسلام] .

ملحوظات على الناس أثناء الطواف

ملحوظات على الناس أثناء الطواف الملحوظة الأولى: بعض الناس لا يبدأ الطواف بالحجر الأسود من محاذاته، رغم وجود خط موازٍ للحَجَر الأسود، بعد أن عدلته الدولة، ليكون موازياً للحَجَر، رغم ذلك بعضُ الناس يبدءون قبل الحَجَر الأسود احتياطاً. وهذا من الخطأ. فالأولى أنه متى حاذى هذا الحَجَر كَبَّر. ورأينا كثيراً من الناس يعكسون الطريق، ثم يبدءون من الباب، إذا وجد الباب قال: الله أكبر، فإذا قلتَ له: ارجع، بَقِي الحََجَر، قال: زحام، الله غفور رحيم، امْشِ وكفى. نقول: هذا قد نقص عليه طوافٌ مِن أَطْوِفَتِه، ولم يتم طوافه سبعة أشواط. وهذا بسبب الجهل وعدم فقههم في تطبيقهم لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المصطفى لما طاف قال: (خذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) صلوات ربي وسلامه عليه، فأخذ الصحابةُ المناسك عنه، فطبقوا كما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم. الملحوظة الثانية: مِن الناس مَن يطوف مِن داخل الحِجْر للاختصار، والناس يسمون هذا الحِجْر بحِجْر إسماعيل، وهذا اللفظ مبتدع، ولا يسمى حِجْراً لإسماعيل؛ لأنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أنه سُمِّي بهذا الاسم. فالطواف داخل الحِجْر ليس طوافاً صحيحاً، فمن طاف شوطاً أو شوطين، ثم أكمل البقية من الخارج قلنا: بقي عليك شوطان، فإنك لم تطف. الملحوظة الثالثة: كذلك من الملحوظات في الطواف: قضية أخذ الدعاء والمنسك، ويبدءون: اللهم بتلبية جماعية. وبعضهم قد ينتهي من هذا الدعاء قبل الانتهاء من الطواف لوجود الزحام، فيسكت حتى يصل إلى الحَجَر، كأنه يعمل (أوتوماتيكياً) مع هذه الورق! وهذا من الخطأ، فإن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج، فادعُ بما شئت من خيرَي الدنيا والآخرة. الدعاء الجماعي له خطورته؛ لأنه يشوِّش على إخوانه، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة وهم يقرءون القرآن: (لا يؤذي بعضُكم بعضاً) فكيف بالأدعية؟! تسمع من هذا بلغة، ومن هذا بلغة، وتسمع من هذا دعاءً مرتفعاً، ومن هذا دعاءً منخفضاً، ويبقى الإنسان لا يشعر بلذة الدعاء ولذة الطواف حول هذا البيت. الملحوظة الرابعة: بعض الناس يطوفون حول الكعبة للتمسُّح بها وبملحقاتها، فتجده يمسح الجدار ثم يمسح وجهه، ويمسح الحِجْر ثم يمسح وجهه، ويمسح (اللمبة) التي على الحِجْر وهي ربما أتت من إيطاليا ويمسح ويمسح ويتبرك (بألومونيوم) إيطاليا ثم يمسح وجهه، وليس فيه فائدة أصلاً. وهذا كله من الجهل والخطأ في تطبيقهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وتجد الأم أيضاً تمسح وجه الطفل، وبعضُهم (يصَنْفِرون) وجوههم يَمْنَةً ويَسْرَةً على الكعبة وعلى أستار الكعبة! فنقول: إن مسح الوجه بهذا الشيء لم يوجد عليه دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم. الملحوظة الخامسة: تجد بعض الناس يقبِّلون الركن اليماني، وهذا من الخطأ ومن الجهل، وهو ليس محل تقبيل، وإنما هو محل استلام. الملحوظة السادسة: الإشارة إلى الركن اليماني مع أن الإنسان لم يستلمه، فإن الإنسان إذا لم يستلم الركن اليماني فلا حاجة لأن يقول: الله أكبر، ويشير إليه. الملحوظة السابعة: زيادة بعد قولنا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] يا عزيز، يا غفار، يا ذا الجلال والإكرام، يا غفور، يا رحيم! وهذا اللفظ ليس له نص، وليس فيه دعاء وارد. الملحوظة الثامنة: التكبير ثلاثاً عند الإشارة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وبعض الناس يُعَلِّق، فلا يَكُفُّ عن التكبير حتى يُدَفع أو يُبْعَدَ عن الطريق. وهذا من الخطأ، إذْ أن تكبيرةً واحدةً تكفي، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وذلك ما قاله جابر في الحديث الذي يروي فيه صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وطوافه، قال: (كلما حاذاه كَبَّر) . فإذا حاذاه الإنسان وقال: الله أكبر، كفاه ذلك، ومشى وانطلق في طوافه. الملحوظة التاسعة: المزاحمة الشديدة عند الحَجَر الأسود، وهنا تكون المعركة، ويخرج لنا فارس الميدان وبطل الحرم وبطل المطاف الذي يقبِّل الحَجَر ويَفْسَح الناسَ، ويصبح الإنسان يقول: والله كلما طفتُ شوطاً قبَّلتُ، وإن طوافي خيرٌ من طوافكم. والله لستُ أدري أيؤجر هذا أم يؤزر على إيذائه لإخوانه؟! وتجد بعض الناس -وهذا من جهله- يقف في الصف نحو نصف ساعة، فيقطع الطواف. وهذا ليس من الهدي، بل ينبغي أن يكون الطواف متتابعاً. فعندها نقول: إذا وجدتَ زحاماً ومشقة لا حاجة لأن تقبِّل الحَجَر، فطُفْ، فقد يذهب الإنسان إلى مكة سنة أو سنتين لا يقبِّل الحَجَر وطوافه صحيح وحجه صحيح وعمرته صحيحة، فلا حاجة لمزاحمة إخوانه. متى تقبِّل؟ إذا لم يوجد زحام، فائت في أوقاتٍِ لا يكون فيها مشقة ولا زحام، فحينئذٍ يمكن للإنسان أن يقبِّل بدون أن يرهق إخوانه. والأدهى والأمر: أن تأتي الوالدة وتقول: لا بد أن أطوف وأقبل الحَجَر، فيأتي أبناؤها وهم جنود الميدان، فيفتحون الطريق: تفضلي جزاك الله خيراً، ثم تجد أنها قد تتعرض للرجال، وقد يزاحمونها، ثم تحصل لها مشقة فتسقط، أو يسقط ما على وجهها من الخمار، فتنكشف وقد يؤذيها بعض الناس. وهذا من الخطأ والجهل، فإن المسلمة ينبغي لها ألا تزاحم الرجال، وتكون بعيدة. الملحوظة العاشرة: عدم الاضطباع في طواف القدوم. الملحوظة الحادية عشرة: عدم الرَّمَل في الثلاثة الأشواط الأولى للرجال. الملحوظة الثانية عشرة: مسح الوجه والبدن باليدين بعد استلام الحَجَر الأسود، لأن بعض الناس إذا استلمه مسح يديه ووجهه وركبتيه وظهره، ومسح جيرانه ومن حوله تبرُّكاً بذلك! وهذا من الخطأ، ولهذا تجد بعض الناس يقدِّسون كل شيء حول الحرم! نقول: ليس عندنا شيء مقدَّس لذاته، قال عمر بن الخطاب: [والله إني لَأَعلم أنك حَجَر لا تنفع ولا تضر، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبَّلتُك] . إذاً: علينا السمع والطاعة فيما يحصل، أما ما عداه فلا يكون. الملحوظة الثالثة عشرة: التبرك بأشياء الكعبة، فتجد بعض الناس يبحثون عن الحلقات الصفر، وبعضهم يَلُفُّونها بأيديهم، وبعضهم يمسح وجهه بنوعٍ من النحاس قد يؤثر على وجهه وهذا من الخطأ. وتجد بعض الناس يغافل الناسَ يَمْنَةً ويَسْرَةً، حتى إذا وجد خيطاً من أستار الكعبة التَفَتَ يميناً ويساراً وقَبَضَه وأدخله في جيبه وانطلق بهذا الصيد الثمين إلى أهله، وقال لهم: حَنانَيْكُم! هذا بعض الكعبة، فمن أراد البركة فليدفع شيئاً من النقود حتى نبرِّكه بجزء من الكعبة. وهذا من الجهل والخطأ ومخالفةٌ لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم. الملحوظة الرابعة عشرة: استلام بعض الحجاج لجميع أركان الكعبة، فتجد المسلم يستلم الحَجَر الأسود، والركن اليماني، والشامي، والعراقي، ثم يستلم كذلك حِجْر إسماعيل، ويستلم (الشاذروان) وغيره. وهذا من الخطأ، لا يُسْتَلَم عندنا إلا ركنان فقط، وما عداهما فلا استلام. الملحوظة الخامسة عشرة: الانشغال في الطواف عن الطواف، فبعض الناس يصبح الطواف عنده محل فرجة، فيلتفت يميناً ليبحث له عن أحد يسلم عليه، يلتفت يساراً ليبحث له عن أحد يعرفه، وإذا رجع من الطواف جاءنا بأخبار الحرم كله: وجدتُ فلاناً وسلمتُ عليه، وآخر وصل بالأمس، وثالث أصيب بحادث وهكذا! وإذا سألته: أين رأيت هذا العالَم؟ قال: مع الطواف حينما كنتُ أطوف، فقد أخذنا أخبار الناس. فالطواف ليس محل جني الأخبار، ويصبح بعض المحررين الإخباريين الصحفيين يطوف ليجمع الأخبار. كثير مِن الناس مَن يفعل هذا. فينبغي للمسلم إذا طاف أن يُطْرِق، فإن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: [فإنَّا في هذا الموضع نتراءى اللهَ تعالى] لأنهم طبقوا: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) . الملحوظة السادسة عشرة: عدم قراءة الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] . الملحوظة السابعة عشرة: مزاحمة الناس خلف المقام. الملحوظة الثامنة عشرة: تطويل الصلاة خلف المقام، وهذا من الخطأ، بعض الناس يصلي ركعتين خلف المقام، ويخشع كأنه في قيام الليل، ويبكي، ويطيلهما، وقد يقرأ سورتي البقرة وآل عمران. فينبغي للإنسان خلف المقام أن يوجز، فالناس الذين يعتمرن أحوج منه، فإذا أراد الخشوع فلينطلق بعيداً عن الناس حتى لا يؤذيهم ويشغلهم في مكانهم. إذاً فليصلِّ ركعتين يقرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ثم ينتهي منهما. الملحوظة التاسعة عشرة: بعد الانقضاء من الركعتين يمد الإنسان يديه، فيدعو طويلاً، ويأتي بدعاء يُسمى دعاء خلف المقام، وهذا ليس فيه دعاءً أصلاً، وإنما الوارد فيه هو: الصلاة خلف المقام، ونبينا صلى الله عليه وسلم -وهو أفضل مَن حج واعتمر- ما دعا بعد الركعتين، بل صلى الصلاة، ثم انطلق صلى الله عليه وسلم. الملحوظة العشرون: تكرير الصلاة خلف المقام، إذا صلى الإنسان ركعتين أتْبَعَهُما باثنتين أو أربع أو ست، ثم بدأ يطيل، نقول: صلِّ ركعتين، ثم أفسح المجال لإخوانك. الملحوظة الحادية والعشرون: إصرار بعض الناس على الوصول إلى المقام، والتمسُّح بالزجاج، فتجد بعض الناس يُصر على الوصول إلى المقام، وتجده ينادي أمه وإخوانه وأخواته: انظروا! فيمسح ذاك الزجاج (الكريستال) ، ثم يمسح به وجهه وإخوانه، ثم ينطلق. وبعض الهيئات والشرطة -جزاهم الله خيراً- يمنعون، فإذا مُنِعَ أمر صاحبَه أن يُشْغِلهم، ويأخذ هو على حين غِرَّة فيسمح (الألومونيوم) ثم يقول: الحمد لله! فتستريح نفسه أنه مسح بهذا (الألومونيوم) وتَلذُّ نفسه به. وهذا من الخطأ والجهل، فليس عندنا شيءٌ يُمْسَح إطلاقاً. الملحوظة الثانية والعشرون: إسراع بعض الناس إلى باب الكعبة من حين سلام الإمام من الصلاة، فتجدهم يرون أنه لا بد من

ملحوظات على الناس أثناء السعي

ملحوظات على الناس أثناء السعي الملحوظة الأولى: نِسْيانُ كثيرٍ من الناس عند صعودهم الصفا أن يقولوا: (أبدأ بما بدأ الله به: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] ) فينبغي للمسلم بعد أن ينتهي من الطواف، والصلاةِ خلف المقام ركعتين، والانطلاقِ إلى الصفا، أن يأتي -حال صعوده إلى الصفا - بهذا الدعاء: (أبدأ بما بدأ الله به: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] ) . الملحوظة الثانية: نِسْيانُ رفعِ اليدين وتطويلِ الدعاء. الملحوظة الثالثة: عدمُ الهرولة بين العَلَمين، فتجد بعض الناس ينسونها. الملحوظة الرابعة: البَدْء بـ المروة قبل الصفا، بعض الناس -مِن جهله- يبدأ بـ المروة قبل الصفا! وهذا من الخطأ. الملحوظة الخامسة: الاستمرار في الاضطباع:- بعضُ الناس يستمر في الاضطباع، فيصلي خلف المقام وهو مضطبع. فنقول: إذا انتهى من الطواف كاملاً يرفع الرداء ويضعه على كتفيه، ويصلي خلف المقام، ثم يستمر في سعيه، وليس ثمة اضطباع. الملحوظة السادسة: الرُّقِيِّ إلى أعلى الصفا والمروة، وبعض الناس يتكلف، فيصعد على أعلى صخرة، وتجده واقفاً في مَشَقَّةٍ، وقد يسقط على رأسه، وإذا سألته: لماذا؟! قال: الرسول صلى الله عليه وسلم رقى إلى الصفا. فنقول: يمكنه أن يصعد إلى ارتفاع قليل، ثم يستقبل القبلة، ويدعو بما شاء. الملحوظة السابعة: عدمُ تدبُّر الدعاء في هذا الموطن. الملحوظة الثامنة: السعيُ أربعة عشر شوطاً. الملحوظة التاسعة: هرولةُ النساء بين العَلَمين. الملحوظة العاشرة: تخصيصُ دعاءٍ معيَّنٍ للهرولة بين العَلَمين، حيث تجد بعض الناس يحمل الدفاتر التي لم يقصِّر الذين ألَّفوها -عفا الله عنا وعنهم- فوضعوا لنا أدعية في الطواف، وفي السعي، وخلف المقام، وعند زمزم، وغيرها. الملحوظة الحادية عشرة: الصلاة إلى عين زمزم وهذه من الملحوظات والأمور التي ينبغي أن ننبه عليها من البداية. بعض الناس يُصَلُّون إلى عين زمزم، وتجد المصلِّي مطمئناً! وتجد -من اللطائف لو نَزَلْتَ إلى بئر ماء زمزم- تجد بعض الناس يستقبلون البئر، وقد لا يستقبلون الكعبة، ليس مهماً عنده استقبال القبلة، أهم شيء عنده هو بئر زمزم!! وهذا من الخطأ ومن الجهل، فينبغي تنبيه هؤلاء على أن هذا ليس من السنة. الملحوظة الثانية عشرة: جلوس بعض الشباب في المروة، فبعض الشباب يواعد بعضُهم بعضاً أن يكون اللقاء عند المروة، فيجتمع نحو عشرين شاباً، فيضيقون على المسلمين. فنقول: ينبغي أن يخرجوا إلى الخارج، فالشوارع كثيرة، وإذا أرادوا أن يعدوا بعض إخوانهم ويخشون عليهم من الضياع، فليواعدوهم خارج المسعى، أو يواعدوهم داخل الحرم في موضعٍ معين؛ تحت المكبر أو غيره، بدلاً من أن يواعدوهم على المروة، فإن مكان المروة ضيق، فيكون المسلم بدلاً من أن يسعى في الدور الأسفل يسعى في الدور الأعلى، رغم أن الأَولى أن يسعى في الدور الأسفل. الملحوظة الثالثة عشرة: التبرُّك بأبواب المسعى، وهذه من الملحوظات اللطيفة، وتوجد في الحج، أما في العمرة فقد لا توجد. فمع الزحام الشديد وجدتُ امرأة تسعى، ووجدتُ بعض الصبية الصغار يركضون، وتعرفون أن أبواب المسعى كثيرة، فيرفع أحدهم حلقة أحد الأبواب ويضرب بها، فسَمِعَت تلك المرأةُ الضربَ، فأخذت تضرب، ثم جاء رجل ثالث فأخذ يضرب، فقلت: ربما وجدوا أجراً ما علمنا به! فقلت للشخص: لماذا تضرب؟! قال: وجدتُهم يضربون فضربتُ معهم. قلت: لماذا؟! قال: والله ربما يكون في ذلك أجر! قلتُ: سبحان الله! وتسمع المسعى في قرقعةٍ وصوتٍ عجيب. لماذا؟! لأن الناس في جهل، وتجد -من خفة الناس وجهلهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم- أن أي شيء يحدث سرعان ما ينطلقون إليه، ويعملون به. الملحوظة الرابعة عشرة: عدمُ استقبال القبلة حال الدعاء. الملحوظة الخامسة عشرة: اعتقاد بعض الناس أن السعي يحتاج إلى وضوء، فيمكن للإنسان أن يسعى ولو كان على غير طهارة، ويمكن للمرأة أن تسعى ولو كانت حائضاً. وهنا أنبِّه إلى لطيفة يسيرة: ينبغي لنا ألا نصلي في المسعى، ولا نضطر إلى الصلاة فيه إطلاقاً؛ لأن كثيراً من أهل العلم يقولون: إن المسعى ليس من المسجد الحرام، وليس له خصائص المسجد؛ لأن المرأة الحائض يجوز لها أن تسعى فيه، والمسجد لا يجوز لها أن تسعى فيه، فلا أجلس في المسعى، وأقول: الحمد لله! المسعى خالٍ، بل أنطلق حتى أدخل داخل الحرم، وإذا اضطررتُ إلى المسعى، فـ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] . الملحوظة السادسة عشرة: التوقيت بين الشباب أن يكون الانتهاء من السعي في وقت معين، وهذه من الملحوظات اللطيفة؛ حيث يذهب بعض الشباب إلى السعي مجتمعين، فإذا بدءوا في السعي يقولون: بعد ربع ساعة الموعد هناك، إياكم أن تتأخروا! سبحان الله! السعيُ عبادةٌ أم (مقاولةٌ) تنتهي بسرعة وينتهي الإشكال؟! السعيُ عبادة، فحينما يقف الإنسان ليدعو قد يخشع قلبُه فيدعو نصف ساعة، وهو منكسر بين يدي ربه. أما أن يقول بعض الناس لبعضهم: إياكم أن تتأخروا! لكم ساعة إلا الساعة ربع وتنتهوا. وإذا تأخر بعضهم قالوا لهم: لقد تأخرتم، لماذا تأخرتم؟! فمعنى ذلك: كأنهم يقولون لهم: لماذا تدعون الله تعالى؟! لماذا تطيلون في الدعاء؟! وهذا لا يجوز. فينبغي أن نحرص على تطبيق السنة، فليس المقصودُ سرعةُ الانقضاء منها، فليست مشروعاً إنتاجياً أو مشروعاً معمارياً كلما أسرع صاحبه كان الفوز للأسبق، لا والله، إنما الفوز لمن خشع قلبه في هذه المواضع، والأجر لمن شعر بوقوفه بين يدي ربه في هذا الأمر. الملحوظة السابعة عشرة: سرعة انقضاء السعي مِن قِبَل أصحاب العربات، فتجد صاحب العربة همه أن ينتهي، فتراه طائراً بِمَن عليها بسرعة، وراجعاً به بسرعة، فينسى المستأجر للعربة الدعاء وغيره. فأقول لصاحب العربة: خذ عشرين ريالاً زيادةً، ودَعِ الوالدة تدعو، حتى تحصل لها السنة. فصاحب العربة هَمُّه أن تنقضي السبعة الأشواط. وبعض أصحاب العربات قد يخدع المستأجر، فيطوف به أربعة أشواط أو خمسة أشواط، ثم يقول له: هيا حوِّل. والمستأجر مسكين، يسعى ولا يدري ما الأمر، ولا يعُدُّ معهم، بل يقول: الحمد لله، انتهينا بسرعة، جزاهم الله خيراً، هذا سريع! ولكن يمكن للابن أن يأخذ عربة لوالده أو والدته، والدولة -ولله الحمد- قد وضعت عربات مجانية، فيسعى بوالده أو والدته، فيحصل له الأجر ببره بوالده أو والدته. الملحوظة الثامنة عشرة: النومُ في عربة المسعى حتى ينقضي به السعي، بعض الناس يركب العربة وينام، حتى إذا انقضى السعي أيقظوه: حَوِّل. فيصبح المسعى نوماً. وهذا من الجهل والخطأ، فأين مكان الدعاء والتضرع والانكسار بين يدي الله؟! وبعض الناس يمر بصاحب العربة، فيقول: يا ليتني كنتُ راكباً عربة لأستريح مثله. وهذا من الخطأ والجهل. الملحوظة التاسعة عشرة: عدم معرفة عدد أشواط الطواف أو السعي، فبعض الناس يطوف، ثم يسأل الذي بجانبه: كم طفنا نحن الآن؟! لا يدري كم طاف! يطوف مع الناس ماشياً ورائحاً فقط. فأقول لإخواني: ينبغي للإنسان أن يعرف ويَعُد. الملحوظة العشرون: وجود الخصومات بين الناس في بعض مواطن النُّسُك، فتجد عند المروة وعند الصفا يحصل أن تأتي أفواج عظيمة، فيختلفون، فيَرْكُزُ الإنسانُ منهم نفسَه في الأرض، ويتهيأ للدفاع والمخاصمة والقتال. وهذا من الخطأ والجهل، فكان الأولى بالمسلم ألا يخاصم أحداً، وألا يقاتل أحداً. الملحوظة الحادية والعشرون: عدم إكمال الشوط السابع، فبعض الناس قد لا يكمل الشوط السابع، يسعى حتى إذا وصل إلى الباب الأخير خرج من الباب، وإذا قيل له: لم يبقَ إلا عشرة أمتار فأكمِلْها، قال: الحمد لله انتهينا، وزملائي ينتظرونني. فينبغي له أن يصعد إلى المروة، ثم ينزل مرة أخرى إلى الباب. الملحوظة الثانية والعشرون: إسبال ملابس الإحرام، فتجد بعض الشباب يلبس إحراماً طويلاً ويُسْبِلُه، ويجعلُه يجرُّ معه. فينبغي التنبه كذلك، فالنهي عن الإسبال ليس خاصاً بالثوب الذي عليك أو السراويل، بل حتى إزارك الذي تطوف به وتسعى، فلا تسبله وتجعله ينزل تحت الكعبين. الملحوظة الثالثة والعشرون: حلقُ الرأس في المروة، فبعض الناس يحلق رأسه في المروة فيصبح مكان المروة مليئاً بالشعر، فتجد أحدهم مليئاً بالشعر، وخاصةً إذا كانت رِجْلاهُ خشنتين، فإنَّهما يَسْحَبان وَيَجُرَّان معهما من الشعر ومن الغث وغيره إلى خارج المروة. وهذا من الخطأ. فأقول: أخي في الله! لا ينبغي لك أن تقصر الشعر عند المروة إطلاقاً. فأين تقصِّرُه؟! خارج المسجد؛ لأنك تقذر المسجد، فأين تنطلق بعد الحلق؟! تجد أنك بعد انتهائك من التقصير تحمل أقدامُك الشعرَ إلى أن تصل إلى المطاف، فأنت حينئذٍ تكون قد قذَّرت المسجد، فلا ينبغي لك إطلاقاً أن تقذِّر المسجد، بل ينبغي لك أن تحرص أشد الحرص على طاعة الله تعالى. تنبيه: أنبِّه إخوتي الآباء: أن بعض الآباء -هداهم الله- ينطلقون إلى المسجد بالأسرة كاملة! فالأب يكون في بيت الله الحرام ما بين صلاة وقيام، وأبناؤه في الشوارع والطرقات يعاكسون النساء، ويقول: الحمد لله نحن منذ عشر سنين ونحن نتهجد لله عند الكعبة ونطوف، وأولاده منذ عشر سنين وهم مجرمون في الأس

كيف نقضي رمضان في مكة؟

كيف نقضي رمضان في مكة؟ وأنبِّه -أخيراً- إلى بعض البرامج التي بموجبها نعرف كيف نقضي رمضان في مكة: يجب أن نستشعر الآن أننا -ولله الحمد- في شهر عبادة، والحمد لله لَمْ تَمَلِّ النفوسُ هذه العبادة، ونسأل الله كما تلذذنا بالعبادة أن نتلذذ برؤية وجهه الكريم، وهذا من أعظم اللذائذ لأهل الإيمان، وألا يحرمنا لذة النظر إلى وجهه. فنقول: إذا انطلقنا إلى مكة فسيجتمع زمان فاضل، ومكان فاضل، وعند بيت الله الحرام، فيكون الأَولى بنا أن نكثف الجهد، فإذا كثفنا الجهد في هذا الزمان وهو رمضان، فلا بد -إذا وصلنا إلى الأماكن المقدسة- أن نزداد عبادة وتقوى وصلاحاً. وهنا ينبغي للمسلم أن يبرمج له وقتاً. الأمر الأول: استغلال بعد الفجر في حضور المحاضرات:- فمن ذلك الذي ينبغي أن يحرص المسلم عليه: بعد الفجر، فبعض الناس في ماذا يقضونه؟! أحب -أولاً- أن أنبِّه إلى ملحوظة وهي أن المسجد الحرام يجمع مِن الأحبة والأصدقاء والزملاء مَن لا يُرَى لأشهرٍ وسنوات، فبعض الناس يجلس في صحن الحرم، ويصبح (راداراً) يلتفت يَمْنَةً ويَسْرَةً حتى إذا وجد من يقول له: السلام عليكم، ردَّ: وعليكم السلام، ثم يسأله: كيف حالك؟ وحال الوالدة والإخوان؟! فتذهب منه عشر دقائق، ثم يجلس قليلاً، ثم يلقى شخصاً آخرَ يقول له: السلام عليكم، فيرد: وعليكم السلام، فتذهب عشر دقائق أوربع ساعة، ثم يأتي الثالث، وهكذا يقضي نهاره وليله في سلام وتعارف، وليس معنى هذا أنه لا يحصل على الأجر، لا، بل في ذلك أجر السلام والتعرُّف وغيرهما؛ لكن ينبغي أن يكون هناك تكثيف في العبادة، ففي الصلاة أين التكثيف؟! وفي قيام الليل أين التكثيف؟! وفي قراءة القرآن أين التكثيف؟! وفي حضور حلقات العلم أين التكثيف؟! فنقول: بعد صلاة الفجر توجد حلقات للعلم، فلينطلِق المسلم إلى تلك الحلقات. وبعض الناس يحضر إلى تلك الحلقات، فيبحث عن جدار أو عمود من أعمدة الحرم، ثم يضع ظهره ورأسه، ثم يجلس ليستمع، فينام. وبعض الناس قد يتكلم ويسأل وهو في حلم، لا يدري ما الناس فيه. وبعضهم قد ينادي، والناس يلتفتون يَمْنَةً ويَسْرَةً ينظرون ماذا يقول هذا؟! وإذا هو يغط في نوم عميق، ثم يقال له بعد طلوع الشمس: صباح الخير، نحن -ولله الحمد- ما فاتتنا أيَّةُ حلقة من حلقات الحرم. وإذا به هو ما فاته أيُّ نوم في الحرم. فهو بحضوره الآن حلقات العلم لم يستفد. فينبغي للمسلم أن يحضر الحلقة ليستفيد. الأمر الثاني: تقييد فوائد المحاضرات:- وأحب أن أنبِّه -أحبتي في الله- إلى أنه ينبغي لنا إذا حضرنا محاضرةً أو درساً أن تكون معنا مثل هذه الحقيبة، وأنا لستُ مشجعاً لشراء مثل هذه؛ لكن أقول: يكون مع الإنسان حقيبةٌ يوجد فيها دفتر صغير، فيُقَيِّد الفوائد، حتى إذا خرج من المحاضرة استفاد علماً، فيأتي إلى أهله فيقول: هذه من فوائد الحرم التي استفدتها. أما أن يكون من فوائد الحرم النوم والسفرة فحدِّث ولا حرج! بعض الناس -هداهم الله- يقضون بعد الفجر في النوم، فهم يُسَمَّون معتكفين، واعتكافُهم طيِّبٌ؛ لكن الاعتكاف هو: لزوم المسجد لطاعة الله، فهذا لَزِمَ المسجد للنوم في الله، فماذا يحدث؟! إذا سَلَّم الإمام بَسَطَ ما معه من الفرش فنام. وإذا استيقظ في الظهر صلى، ثم إذا سَلَّم الإمام مَدَّ رجليه وتغطى بإحرامه. وإذا صلى العصر فثيابه معلقة ومعه إزاره ورداؤه، وجلس كأنه في غرفة نوم. فأصبح المسجد للنوم وليس للعبادة. وهذا من الخطأ والجهل. وقد لاحظتُ مثل هذا في العام الماضي، وأحببتُ أن أنبِّه إلى أن بعض المعتكفين لا يعرفون ثمرةَ الاعتكاف! الاعتكاف هو لزيادة الإيمان، ولتكثيف طاعة الله، ويبقى بعضُ الناس في مشقة، فإذا قلتَ له: لماذا لا تقرأ القرآن؟! قال: والله أنا مرهق، ورأسي تعبانٌ! إذاً -يا أخي-: لا تعتكف، اجلس في فندق فيه (مكيفٌ) أو في مكان طيب، حتى إذا جئتَ إلى الحرم شعرتَ بلذة الصلاة، وبلذة قيام الليل، وبلذة قراءة القرآن، وبلذة حضور حلقات العلم. فالاعتكاف شُرِع لزيادة الإيمان. فنقول لهذا الأخ: إذا اعتكفتَ فليزدد إيمانُك، لا أن تصبح متسخطاً، فبعض الناس يدخل في الاعتكاف ثم يقول: تورطت، ليتني ما دخلت؛ ولكن أعتكف هذه المرة، وبعدها -إن شاء الله- لا أفعل شيئاً! فنقول: كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتكف في العشر الأواخر ويبقى في المسجد ما بين ذكرٍ، وقراءةٍ، واستغفارٍ وغير ذلك، فإن هذا من الخير. الأمر الثالث: استغلال قبل الشروق في الطواف أو قراءة القرآن وأذكار الصباح:- إذا جلس المسلم بعد صلاة الفجر فلينتظر إلى طلوع الشمس، ويمكنه أن يقضي هذه الفترة في الطواف، فإن ذلك من الأجر، أو في قراءة القرآن، ولا ينسى أذكار الصباح والمساء، فإنها من الأمور المهمة. الأمر الرابع: صلاة الضحى عند الشروق:- فنقول للمسلم: إذا طلعت الشمس فصَلِّ ركعتين، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى لله ركعتين، كُتِبَ له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) . إذاً الحمد لله الذي يسر هذا الشيء. الأمر الخامس: استغلال بعد الشروق في بعض حلقات العلم:- فبعض حلقات العلم تستمر بعد طلوع الشمس، فإن كان الإنسان عنده نشاط وقدرة فليحرص على أن يمكث زيادةً، فكلما جلس في المسجد الحرام فوالله إن فيه الخير. الأمر السادس: استغلال وقت الظهيرة في الطواف، وإن كان زحاماً ففي قراءة القرآن، أو حضور حلقات العلم:- وأحب أن أنبه على مسألة: بعض الناس يأتون في أوقات الزحام للطواف؛ لكني أقول: يمكن للمسلم أن ينام، فيستيقظ قبل الظهر بنصف ساعة، أو بساعة كاملة، أو بساعة ونصف، ثم يطوف. وقد يقول الإنسان: الطواف في فترة الظهيرة يكون في وقت حارٍّ والشمس فيه حارَّة. فنقول: جَرَّبَهُ الكثير، فإن المسلم إذا أخذ دُشَّاً من الحمام البارد، فسيصبح جسدُه مُبَرَّداً، فيطوف في وقتٍ لا يستطيع الناس الطواف فيه؛ لأن بعضهم في هذا الوقت يكون جالساً في الحرم وجسمه عَرِقٌ ومتعب ومرهقٌ ولا يستطيع أن يطوف؛ لكن إذا أخذ المسلم حماماً مثلاً، ثم بعد ذلك انطلق، فسيكون جسده بارداً، فيطوف طوافاً، ثم طوافين، ولا يجد مشقة، ولا زحاماً إطلاقاً، ولا شيئاً من ذلك، بل والله يشعر بلذة، ويمكن للإنسان أن يكثِّف، فكلما استطاع أن يطوف حول هذا البيت فليحرص على ذلك؛ لكن إذا وُجِد زحام شديد، فنقول: ما دمتَ قد أديتَ الواجب، فاجلس واقرأ القرآن، واحضر حلقات العلم، فلا حاجة لِأَنْ تزاحم إخوانك في هذا المطاف، فإنهم أحق به؛ لأنهم سيؤدون الواجب، أما أنت فتعمل سُنَّة. الأمر السابع: عدم حجز أمكنة في الحرم:- فمن الأمور التي ننبه عليها: أن بعض الناس يحجزون أمكنة، وهذا من الخطأ والغصب، فلا يجوز للمسلم أن يحجز مكاناً ويخرج إلى بيته، ثم يعود حتى يصل إلى الروضة، أو يصل إلى قريب من الإمام فيقول: هذا مكاني، فإن مَن وُجِدَ مكانه فارغاً فإنه يُزال، إلا إذا كان موجوداً في الحرم فإنه لا يُزال هذا الشيء. الأمر الثامن: النوم والراحة في غير أوقات العبادة:- كذلك من الأمور التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم: أن الجسد لا بد له من حظ في الراحة؛ لكن يجب أن يُقْسَمَ للنوم جزءٌ من الوقت، وأغلب الناس ممن يسافرون في العشر الأواخر، فلا نقول لهم: نوموا؛ لأنهم لو ناموا لفاتهم جزء من القيام؛ لكن يمكنهم أن يجلسوا جلسة خفيفة، فبعض الناس -هداهم الله- يصلون جزءاً من القيام، ثم يجلسون، ومعهم (الشاي) (والزمزمية) والتوت، وواحدٌ منهم مهرٍّبٌ (سنبوسةً) والثاني مهرِّبٌ أرزاً ودجاجاً، فيجلسون ويبسطون السفرة ويأكلون، فالناس يصلون وهم جالسون يتحدثون، وهذا من الخطأ. الأمر التاسع: عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة القيام، والحرص على عدم الصلاة منفرداً:- وأنبه إلى مسألة -وإن كنتُ أقول: في المسألة خلاف بين أهل العلم- لا شك أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (كان يصلي القيام في رمضان، وما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) كما قالت عائشة رضي الله عنها، فتجد بعض الناس يصلون إحدى عشرة ركعة ثم يجلسون، ماذا يعملون؟! يعملون على ما يُسَمَّى عندنا: (فَلَّتَ حِجَاجه) فيبسطون السفرة، ثم تأتي (السنبوسة) ويجلسون للقهوة!! وبعضهم مساكين مُقَلِّدَةٌ، لا يفقهون شيئاً لا يصلون عشرين ركعة مع الإمام! وهذا من البدع، فإن شيخنا العلامة/ عبد العزيز بن باز يذهب إلى أن ذلك من قلة فقههم وعملهم هذا شَيْن. فالأولى للمسلم أن يصلي الصلاة كاملة مع أئمة الحرم، ويُكْتَب له قيام ليلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِبَ له قيام ليلة كاملة) فينبغي للمسلم إذا جلس ألا ينشغل ويشغل إخوانه. الأمر العاشر: الصلاة مع الإمام من لحظة تكبيرة الإحرام:- بعض الناس يجلس حتى إذا قام الإمام للركوع رَكَعَ معه، وهذا خطأ، فإن الإنسان لو أحس بتعب يُكَبِّر وهو جالس، ثم يقرأ ما شاء، ويستمع، ثم إذا أراد الإمام أن يركع قام فركع معه، ولا حرج في ذلك، بدلاً من أن يجلس ليتكلم حتى إذا أراد الإمام أن يركع قام فركع معه، فهذا يفوِّت عليه أجراً عظيماً. الأمر الحادي عشر: الحرص على الحضور إلى الحرم قبل الأذان للتهيؤ للعبادة:- ينبغي أن يحضر المسلم للصلاة في الحرم قبل الأذان بقليل حتى يتهيأ للعبادة، فإن بعض الناس تجد أن سكنهم بعيد، فيأتون بمشقة، فيركضون حتى تفوتهم ركعتين أو ثلاثاً. فنقول للمسلم: أنتَ جئت للازدياد من الطاعة لا للتفريط، فإن كنتَ تفرط في تكبيرة الإحرام في الرياض، فلا تفرط فيها في مكة، فإن مكة موضع يجب أن نكثف فيه من الخير والطاعة. الأمر الثاني عشر: السُّنَّة في تحية المسجد الحرام: الطواف لا ركعتين:- كذلك ينبغي للمسلم أن يتهيأ للطاعة دائماً، فإذا قَدِم إلى المسجد فإن كان يستطيع أن يطوف فإن السُّنَّة في دخول المسجد الحرام هو الطواف وليست ركعت

الأسئلة

الأسئلة .

حكم التقصير في العمرة للنساء

حكم التقصير في العمرة للنساء Q ذكرتَ أن الرجل يقصِّر أو يحلق، فماذا تفعل المرأة؟ جزاكم الله خيراً. A بالنسبة للمرأة فإنها تقصُّ قدر أنملة، وأحب أن أنَبِّه إلى قدر الأنملة. المرأة عندنا ماذا تعمل؟ تأخذ هكذا من طرف واحد من شعرها وتلفه وبهذا يصبح ما أخَذَتْه إصبعاً. لكن مقدار أنملة هو: أن تجمع جميع شعرها، ثم تأخذ أنملة هكذا، فإذا جمعت جميع الشعر فإن القطع يكون هكذا على الكل؛ لكن إذا قلنا: إن الأنملة هكذا على البعض فإن هذا يصير إصبعاً.

حكم العمرة لمن عليه دين

حكم العمرة لمن عليه دين Q فضيلة الشيخ، إني أحبك في الله، وسؤالي: هل يجوز للإنسان أن يعتمر وعليه دَين؟ جزاكم الله خيراً. A العمرة لا تُحْجَب بالدَّين؛ لكن إذا كان صاحب الدَّين يريد ماله فإن المدين يسأله فيقول له: أنا سأعتمر بخمسمائة ريال مثلاً، فهل تريدها، أم تأذن لي بالذهاب بها إلى العمرة؟! فإن أذِنَ له اعتَمَرَ، شريطة أن يكون الدين حالاً، أما إذا كان الدين غير حال فلا حاجة إلى استئذانه. وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يجعلنا ممن اعتمر، فقُبِلَت منه عمرته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) صلوات الله وسلامه عليه.

§1/1