دروس للشيخ علي بن عمر بادحدح

علي بن عمر بادحدح

فقه الأزمة والفتنة

فقه الأزمة والفتنة الحياة مليئة بالفتن والأزمات، والنجاة منها إنما تكون بفقه التعامل معها، وقد ورد في الشرع كثير من الأمور المعينة على ذلك، فأول تلك الأمور: التثبت والتبين من حقيقة ما يقال ويذاع، ثم العدل والإنصاف في الحكم، وعدم الزيادة في العقاب عن مقدار الخطأ، وأن يناصح المخلص ويرشد بالتي هي أحسن مع مراعاة الإخلاص لله تعالى. وفي الجهة الأخرى: لابد من إعلام صادق، وكلمة صائبة، وتربية تقي المخاطر وتحذر من الانزلاق في الهاوية.

موقف المسلم في الأزمات والفتن

موقف المسلم في الأزمات والفتن الحمد لله، الحمد لله خلق الخلق، وبسط الرزق، وشرع الشرائع، وفرض الفرائض، وكتب الآجال، وقدر الأقدار؛ حكمته بالغة، ونعمته سابغة، ورحمته واسعة، ومشيئته نافذة، له الأمر من قبل ومن بعد، وهو على كل شيء قدير، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ نبيه المصطفى، ورسوله المجتبى، وعلم التقى، ومنار الهدى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! في فقه الأزمة والفتنة نصل حديثنا، وأسلفت غير مرة أن منبر الجمعة ينبغي أن يكون له دوره البارز، لكن على منهجية صحيحة، وبلغة واضحة فصيحة، وبأسلوب منهجي حكيم، ليس فيه مزايدات سياسية، ولا مهاترات إعلامية، ولا مغالطات من هنا أو هناك، ومن هنا فإن ما سأذكره أمر يفيدنا في حياتنا العامة كلها، وفيما قد يمر بنا أفراداً من مشكلات أو معضلات في دوائرنا الضيقة الخاصة، كما أنه ومن باب أولى يفيدنا فيما يحيط بنا كمجتمع وما يحيط بنا كأمة ونحن نرى تكالب الأعداء من كل حدب وصوب، وتوجه سهامهم في كل ميدان ومجال، وحصول كثير من الأمور المؤلمة المحزنة؛ سواء ما كان ذلك مادياً محسوساً بانتهاك العرض، أو استلاب الأرض، أو احتلالها أو غير ذلك، أو ما كان معنوياً فيما تعلق باختراق الأفكار، وإثارة الشائعات، وكثرة الشبهات ونحو ذلك، فلعلنا في أضواء كتاب ربنا وفي ظلال سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى أرضية تاريخنا المشرق الوضيء، ومن خلال واقعنا الذي نتأمله بكل هذه المعاني والمعالم؛ أن نتلمح طريقاً واضحاً نافعاً مفيداً بإذن الله عز وجل.

التثبت والتبين

التثبت والتبين التثبت والتبين معلم واضح في منهج الإسلام؛ إذ لا ينبغي تعجل لا تستجلى فيه الحقيقة، ولا رد فعل تغيب فيه الإثباتات في أي أمر من الأمور صغيرها وكبيرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وكم من خبر في أمورنا الخاصة وحياتنا الشخصية تلقيناه دون تمحيص، ورمينا آخرين بالتهم، وجزمنا بوقوعهم في الخطأ، ثم تبين من بعد أننا لم نع ما سمعنا، وأننا تجاوبنا مع عواطفنا ومشاعرنا دون أن نتثبت على وفق المنهج القرآني. قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند البخاري في الأدب المفرد: (بئس مطية الرجل زعموا)، تسأله: ما حجتك في ذلك؟ فيقول: سمعتهم يقولون: إن وكالة (يقولون) وكالة مذمومة في كتاب الله عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات:151 - 152]، وتلك فرية عظيمة، ومن لم يكن في كل أمره متثبتاً متبيناً فإنه يوشك أن تكون حالته دائماً أنه صحيفة لكل من شاء أن يكتب فيها خبراً صادقاً أو كاذباً، قضية صائبة أو خاطئة؛ فهو حينئذ كما وصف الله عز وجل أهل النفاق، والذين في قلوبهم مرض: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15] فهم يتلقون بآذانهم وأسماعهم، لكنهم لما كانوا لا يمررون ذلك على عقولهم، ولا على مناهج التثبت والتمحيص، بل ينطقون به بألسنتهم، كما ذكر الله أن تلقيهم بألسنتهم، ولعل حادثة الإفك وهي شأن لم يكن خاصاً برسول الهدى صلى الله عليه وسلم، بل عم مجتمع المسلمين، وكان حدثاً من أشد ما مضى بهم من الفتنة والأزمة، وشيوع الشائعات، وكثرة القالات، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأي شيء فعل؟ نأخذ مما روته عائشة -كما في صحيح مسلم - مواقف وومضات، قالت: (جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما بعد: يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه). رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة يسألها ويستثبت منها، والأمر كان جد عصيب، ولم يكن في نفسه عليه الصلاة والسلام شك وريبة، لكن الأمر -وقد تعلق به- أراد أن يقطعه قطعاً جازماً، وأن يبينه بياناً يخرس الألسنة، ثم كان له عليه الصلاة والسلام مواقف أخرى، وأسئلة من هنا وهناك، ثم رقى المنبر وقال: (من يعذرني من رجل تكلم في أهلي)؟ حتى اختلف الحيان من الأوس والخزرج؛ فسكنهم وسكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنزلت البراءة من فوق سبع سماوات جازمة قاطعة ناصعة شاهدة لبراءة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها. وليس المقام مقام إفاضة، وإنما أريد أن نأخذ هذه القضايا في أصولها وفي عناوينها ودلالاتها فحسب.

العدل والإنصاف

العدل والإنصاف ما أدراك ما العدل والإنصاف؟! إنه أمر عزيز ثقيل لا تطيقه إلا النفوس المؤمنة الخالصة المخلصة. إن في النفوس من الأهواء، ومن شوائب البغضاء والعداء ما يحملها على ظلم من تخالفه، بل على الظلم أحياناً بصورة عامة إذا كانت تريد تحصيلاً لمصلحتها، أو تحقيقاً لمنفعتها، والله جل وعلا يقرر العدل تقريراً عظيماً في هذا الدين بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، ذلك هو أمر الله بالعدل على إطلاقه في كل حال، ومع كل أحد، وتحت كل ظرف، فإن العدل قيمة مطلقة، وهو من أسس هذا الدين، ومن أخلاقه العظيمة، ومبادئه الرائعة البديعة، ومن هنا جاء قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] أي: لا يحملنكم بغض قوم على أن تظلموا وتحيفوا عليهم، ولو كانوا من الأعداء ومن غير المسلمين، فيكف بغيرهم من المسلمين؟! وذلك أمر مهم، فإن الفتن والأزمات تثير الضغائن، وتشعل نيران الأحقاد، ومن لم يكن له نفس مؤمنة، وعقل راسخ، فإنه يتحرك ويندفع مع أهوائه، ويقع في الظلم الذي حرمه الله عز وجل، كما ورد في الحديث القدسي عن أبي ذر عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا)، وكم من قضية تستطيل فيها الألسنة، وتتحرك فيها الأهواء؛ لتكون حينئذ ظلماً محضاً. ولننظر مرة أخرى إلى مواقف خلص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك، عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم المقربين منه قالت عائشة في روايتها: (فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله، فقال: يا رسول الله! أهلك ولا نعلم إلا خيراً، وأما علي رضي الله عنه فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بريرة مولاة عائشة فقالت رضي الله عنها: والذي بعثك بالحق! إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها، إلا أنها كانت جارية حديثة السن تعجن العجين فتنام عنه فتأتي الداجن فتأكله)، أولئك قوم لم يكن لأحد منهم أن يجور في حكمه، بل حموا أنفسهم وتوقفوا عند حدودهم، وأحسنوا ظنونهم. ورحم الله أبا أيوب الأنصاري عندما نقلت له أم أيوب ما يقال ويشاع، فقال: يا أم أيوب! أكنت فاعلة؟ قالت: لا والله، فقال: فلـ عائشة خير منك، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خير مني. ذلكم هو الإنصاف والتجرد؛ أن تضع نفسك موضع من أرسلت عليه سهام التهم بغير بينة أو برهان، وأن تتحرى ألا تكون مجرماً معتدياً؛ حتى وإن كان المخطئ قد وقع في خطئه وثبت خطؤه؛ فإن حكمنا عليه ينبغي ألا يتجاوز حدود الخطأ، وإلا كنا عادلين فيما حكمنا عليه من خطأ، وجائرين فيما زدنا عليه مما لم يثبت له، وذلك هو الأمر الذي لابد منه. ومن روائع العدل والإنصاف الذي لا يكون إلا مع شدة التحري والإيمان والورع، ما كان من أم المؤمنين زينب، وما أدراك من زينب؟ تقول عائشة عنها: هي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. هي المنافسة التي قد يكون بينها وبينها شيء، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً)، لم تنتهز فرصة لتشفي غليلاً، ولم تستجب لهوى قد يكون داعياً في النفس بطبيعتها لمن ينافس أو يكون في ذات المرتبة، قالت عائشة رضي الله عنها: (كانت هي التي تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، وأما أختها -وهي حمنة بنت جحش - فقد خاضت، وكانت تحامي عن أختها، فهلكت فيمن هلك)، فانظروا! صاحب الشأن ترفع واستعلى، وعدل وأنصف، وتورع وأخلص، وغيره فاته ذلك، فوقع وأخطأ وجار في حكمه، وذلك ما ينبغي أن نتنبه له.

الإخلاص والتجرد

الإخلاص والتجرد إن الأزمات يتأكد فيها الإخلاص لله عز وجل، والتجرد من المصالح والمنافع الذاتية، والارتباط بمصالح الأمة والمصالح العامة، فإنه من غير المقبول مطلقاً أن يكون هناك اتباع لأهواء النفوس لتحصيل المكاسب، أو لأخذ المنافع الذاتية، وفوق ذلك إغضاء وإعراض عما قد يترتب على ذلك من مضرة في المصالح العامة، فلابد من الترفع عن الأهواء، والبعد عن حب الظهور، والابتعاد عن الانتصار للنفس والتشفي، وكم في مواقف الصحب الكرام رضوان الله عليهم ما يدل على سمو في هذه المعاني، أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه في معركة وقتال مع الأعداء -ليس في حال من حالات السلم أو السكون- علا بسيفه على رجل من أهل الشرك، فسبه وبصق في وجهه، فأمسك علي سيفه وتركه، لم؟ قال: خشيت أن أنتصر لنفسي فلا أكون قتلته ابتغاء مرضات الله عز وجل! تلك النفوس التي ترتفع عن الانتصار لذاتها، والتشفي لمتطلبات أهواء نفوسها، وذلك ما ينبغي أن يكون، فكم من مخالف تختلف معه في قضية شخصية، ثم تأتي فرصة فإذا بك كأنما تنتقم منه، متخطياً العدل والإنصاف، متناسياً التثبت والتبين، مندفعاً مع حب الانتقام، أو مع تصفية الحسابات؛ وحينئذ تختلط الأوراق، وتعظم الفتنة، وتتكاثر أسباب الأزمة؛ لأنه تغيب حينئذ الحقائق مع مثل هذه الأمور. أيها الأحبة! لا عصمة إلا بالإيمان، ولا وقاية إلا بخوف الرحمن، ولا يمكن أن يسير الإنسان في هذا الحقل من الأشواك لما فيه من أهواء النفوس، ووساوس الشياطين، وقرناء السوء، وتسلط الأعداء إلا أن يعصمه الله سبحانه وتعالى باستمساكه بكتابه، واعتصامه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ألسنا نعرف من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الكثير التي ترك فيها ما هو لنفسه؛ إرادة المصلحة العامة، وإرادة الخير للأمة؟ بل قد فعل ذلك أصحابه رضوان الله عليهم، فترفعوا عن مثل هذا، والأمر يطول فيه الحديث.

المصارحة والمناصحة

المصارحة والمناصحة لابد في أوقات الأزمة والفتنة أن تكون مصارحة مبنية على الحقائق، ومناصحة تترجم الحرص على المصلحة العامة، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث من جوامع كلمه قدر النصيحة في دين الله عز وجل فقال: (الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وهو حديث عجيب جدير بالتأمل ومعرفة دلالاته النصيحة لله عز وجل ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فهل بقيت دائرة تخرج عنها هذه النصيحة ولا تشملها، فأين التناصح بالإخلاص، وقول الحق بالأسلوب والمنهج الحكيم الذي يحقق المنافع والمقاصد، ولا يكون مثيراً لغير ذلك مما يعارضه أو يناقضه؟ نحن نعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يطبق ذلك، ويطبقه أصحابه، ويعلنون الحق، ويبرزون الصدق، خاصة في المواقف العصيبة مع كل الأدب والاحترام، ومع كل الحكمة ووضع الأمور في نصابها، أليست غزوة الأحزاب كانت شدة من أعظم الشدائد، ومحنة من أقسى المحن؟ في ذلك الأتون الذي مر بالنبي عليه الصلاة والسلام والصحابة مع شدة خوف وجوع وبرد، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخفف عن أصحابه، فأراد مقترحاً أن يعطي لغطفان ثلث ثمار المدينة حتى ترجع عن الأحزاب، ويتفكك هذا الجمع الغفير من الأعداء. فسأل واستشار عليه الصلاة والسلام السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فماذا قالا؟ بكل الأدب وبكل الفقه قالا: أوحي يا رسول الله أم أمر تراه لنا؟ أي: إن كان وحياً فهو موضع التسليم لا اعتراض ولا رأي ولا نقاش، فذلك الذي تخضع له الرقاب، وتمتثل له الأمة المسلمة، وأما إن كان رأياً تراه لنا قلنا الرأي، قال: (بل رأي أراه لكم) فصدقوه القول وصارحوه وقالوا: يا رسول الله! كنا وهؤلاء في جاهلية وكفر وهم لا يطمعون منا بتمرة إلا بشراء أو قرى، أفبعد أن أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم ثمارنا؟ والله! لا نعطيهم إلا السيف، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيهم ومشورتهم. ينبغي أن نخلص النصح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جعل ذلك في البيعة للإسلام كما ورد في الحديث الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فزادني: والنصح لكل مسلم) لماذا إذا رأينا المخطئ لم يكن عندنا إلا سهام الاتهام والإغلاظ والجفاء دون أن نخلو به، أو يكون فيما بيننا وبينه مناصحة؟! إن أقر بخطئه، وإن ثبت جرمه، قلنا له: عد إلى الله، وتذكر الله وارجع؛ فإن أبواب التوبة مفتوحة، وذلك يعين على تلافي كثير من الأخطاء، وعدم التمادي فيها.

المرابطة والمواجهة

المرابطة والمواجهة المرابطة والمواجهة، وهي أمر مهم، فإننا اليوم على مستوى الأمة الإسلامية جمعاء، وعلى مستوى هذه البلاد والمملكة خصوصاً مستهدفون بالعداء، ولا يحتاج ذلك إلى برهان وتفصيل وبيان، فنحن نعلم الاستهداف فكرياً ومنهجياً وتعليمياً واجتماعياً وسياسياً، وكل ذلك ظاهر بين معلن، فكيف حينئذ لا نلتفت إلى أننا مرابطون على ثغور الإسلام؛ لأن هذا البلد هو بلد الإسلام، فيه نشأ ومنه انطلق، ولا يزال في أصل بلاد الحرمين هذا الإسلام، وإعلان تطبيق شريعته، وإظهار معالم شعائره وشرائعه، والانتداب لذكره ونشره، والدعوة إليه، ثم بعد ذلك ننشغل عن هذا الهجوم الشرس بما قد يكون أدنى منه، وهذا من فقه الأولويات الذي ذكرته من قبل، لابد أن ننتبه إلى الخطر الأعظم، فلا نغفل عنه، ونعطيه من الالتفات إليه ومن المواجهة له، ومن المرابطة لعدم اختراقه لصفوفنا ما يستحق. ولعلي هنا أنقل نقلاً واحداً في ومضة سريعة لمسئول من المسئولين في تلك البلاد والدول المواجهة والمعلنة لهذا العداء، يقول: (لدينا استراتيجية غاية في البساطة، فنحن نريد في المنطقة نظماً موالية لنا، ثم إننا نريد ثرواتها بلا منازع، فنحن نريد ضماناً نهائياً لأمن إسرائيل؛ لأنها الصديق الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه)! فنقول: لا ينبغي أن ننسى في أي وقت وتحت أي ظرف ما يحيط بديننا وأمتنا وبلادنا ومجتمعنا من هذا العداء الذي يبرم أمره كل ليل وكل نهار، وتتوالى أحداثه، وتتوالى إعلاناته، وتظهر ملامحه في كل ميدان ومجال، وهي قضية مهمة لابد من الانتباه لها وعدم نسيانها بحال من الأحوال.

الوحدة والاجتماع

الوحدة والاجتماع تجب الوحدة والاجتماع، ومهما كان من أمر فإنه يجب وجود الوحدة الجامعة والولاية الشرعية المجمع عليها والمنعقدة والمنتظمة التي لا يصح الخروج عنها، ولا الانفلات منها، وقد أشرنا إلى الأدلة الشرعية على ذلك، وإلى الأضرار والمفاسد المترتبة عليها، فينبغي حينئذ ألا نتبادل الاتهامات، وألا نسمح للاختراقات أن تشقق أو تفتت وحدتنا، وتزايد على لحمتنا، وتمس أصل اجتماعنا وائتلافنا على أصل ديننا، وعلى أصل ولايتنا، بحيث لا يكون هناك أثر لذلك، والأمر من بعد ومن قبل أوسع وأعظم من أن تحيط به كلماتنا في هذا المقام.

الرجوع إلى الكتاب والسنة

الرجوع إلى الكتاب والسنة لابد لنا في كل أمر من أمورنا الخاصة والعامة، الصغيرة والكبيرة، أن يكون مرجعنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الأئمة من العلماء قديمهم وحديثهم، والاسترشاد بالآراء والتوجيهات التي ترتبط بذلك وتنطلق منه، ومن قبل ذلك ومعه كذلك: الاستجابة والطاعة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين ولولاتهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ على أمة الإسلام أمنها وأمانها، وأن يحفظ عليها وحدتها وقوتها، وأن يعيد إليها قوتها وعزتها، نسألك اللهم لهذه البلاد المقدسة الطاهرة أن تحفظ عليها أمنها وأمانها، وإسلامها وسلامها، ورزقها ورغد عيشها، وإلفتها ووحدتها، ونسألك اللهم أن ترد عنا كيد الكائدين، وشرور المعتدين، وفتنة الفاتنين، برحمتك يا أرحم الراحمين! أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

دور الإعلام في الأزمات والفتن

دور الإعلام في الأزمات والفتن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجتنبوا كل ما شاع وظهر من الفتن، نسأل الله عز وجل أن يسلمنا منها. أيها الإخوة! أمران أختم بهما، وأعرج على صور تناقض كثيراً مما ذكرناه: الإعلام والإحكام. الإعلام اليوم هو الذي يسمعه الناس من الإذاعات، ويقرءونه مكتوباً على الصحف، ويشاهدونه على الشاشات، فهو مصدر من المصادر الأساسية، بل يكاد يكون عند كثير من الناس هو المصدر الأول لمعرفة المعلومة وتحليلها ومعرفة ما وراءها، ومن هنا تأتي مسئولية الكلمة، ومسئولية الإحكام في الحديث عن الأمور كلها، وخاصة في الأحوال التي تكون فيها التباسات واشتباهات، ومن هنا ندرك عظمة الكلمة في منهج الإسلام: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:35 - 36]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً)، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري: (الرجل يتكلم بالكذبة تبلغ الآفاق)، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه يعذب بكلاليب يؤتى بها إلى فمه ثم تشقه إلى آخر شدقه، ثم يعود كما كان، ومن هنا لابد لكل أحد في كل دائرة من دوائره حتى في أسرته وفي دائرة قرابته من التثبت، فيجب أن نحرص على الانتباه لهذا، والدقة فيه، فإنه قد يكون أمران متناقضان أو متباعدان والوسط بينهما هو الحق، فثمة مبالغة في التهويل، أو مبالغة في التهوين، وليس ذلك مطلوباً، ولا هذا مرغوباً، بل ينبغي الحرص على الحقائق، وليس كل ما يعلم يقال، فإن من الأمور ما ينبغي إخفاؤه أو عدم التصريح به؛ لئلا يتسبب في أمور من البلبلة، أو غير ذلك. وهذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بلغه في ذلك الموقف العصيب في يوم الأحزاب نقض بني قريظة للعهد، فلم يقبل الخبر على عواهنه، بل أراد تثبتاً وتبيناً فأرسل السعدين ليستجليا له الخبر، ثم قال: (إن علمتما خيراً فأذيعا) أي: إن كان الأمر أن القوم على عهدهم فانشروا ذلك وأذيعوه وبثوه في وسائل الإعلام؛ لتثبت القلوب، وترتفع الروح المعنوية، وتزيل البلبلة، قال: (وإن كان غير ذلك؛ فالحنوا لي لحناً لا يعرفه غيري) أي: قولوا قولاً ليس صريحاً لا يفقهه سواي؛ حتى لا يذاع الخبر فيكون سبباً في شيء من إضعاف المعنويات، أو في شيء من الخوف، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (عضل وقارة)، ذكروه بأخبار بعض من سلف من الغادرين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أبشروا، الله أكبر! الله أكبر! أبشروا أبشروا) أراد أن يطمئن النفوس والقلوب، وإن كان قد أخذ بالأسباب، ولم يغب عنه ما ينبغي أخذه في مثل هذا الأمر، لكنه كان يدرك عليه الصلاة والسلام كيف ينبغي أن تبث الأخبار وأن تنشر الوقائع، كما نرى أحياناً في وسائل الإعلام بعض ما يحصل من الجرائم والفواحش، ويذكرون قصصها وتفاصليها، فيكون أثر ذلك في بعض الأحيان من الناحية السلبية أكثر من الإيجابية، فتهون المعاصي في نفوس الناس، وتجرئهم عليها، وقد تبين لهم سبلها، وذلك ما يقوله الإعلاميون والتربيون والنفسيون فيما تبثه الوسائل الإعلامية من الأفلام الإجرامية والعنفية وغير ذلك. فينبغي أن نراعي ذلك، وأن نلتفت له، فلابد من الدقة في استخدام المصطلحات، وتحرير محل النزاع، وعدم إطلاق الكلمات التي لها دلالات مختلفة دون تعيينها وتحديدها، حتى لا يحصل من ذلك ما يكون فيه أثر غير محمود.

الشرع والردع

الشرع والردع الشرع والردع هو الأساس الذي ينبغي تحكيمه وإحكامه، فإن إقامة شرع الله عز وجل أمر لابد منه، فكل من وقع في إثم، أو اقترف ذنباً، أو ارتكب كبيرة، أو اجترأ على جريرة، فإنه إن استوفي حكمه بقضاء، وثبت عليه ما عليه؛ فإن حكم الشرع يأخذ طريقه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (تدارءوا الحدود فيما بينكم، فأيما حد بلغني فقد وقع)، فإذا بلغ الأمر إلى الوالي والحاكم الشرعي فإنه لا مجال حينئذ إلا تمحيص البينات، وتحقيق القضايا، ثم إقامة الأحكام. والردع في منهج الشرع أوسع من إقامة الأحكام، فالحدود الشرعية في السرقة والقتل والزنا وغيرها هي من العلاجات التي تحسم مادة الفتن والجرائم، لكنها ليست وحدها، فإن الإيمان قبلها، وإن تنمية الرقابة لله عز وجل، والخوف والحياء منه، والنظر إلى العواقب في الآخرة، وغير ذلك من الأمور التربوية والاجتماعية هي أيضاً من أساليب الردع.

التربية والتهيئة

التربية والتهيئة أختم بقضية مهمة وهي: التربية والتهيئة، فإن التربية في المنزل والمدرسة والشارع إن كانت على المنهج الصحيح؛ وقتنا -بإذن الله- الكثير من الشرور، وكانت على مبدأ: الوقاية خير من العلاج، فلو تركنا أبناءنا: لا نعلمهم، لا نربيهم، لا نلفت نظرهم إلى الأخطاء، لا نحذرهم من المشكلات، ثم ذهبوا إلى دور العلم فلم يجدوا من المعلمين توجيهاً وتنبيهاً وتذكيراً، ولفت نظر وعلاج أخطاء كما ينبغي، ثم خرجوا إلى المجتمع، فلم يجدوا من وسائل الإعلام أو من الدعاة والعلماء القدر الكافي الذي يوجه ويرشد ويبين الأخطاء ويوضح المعالم؛ فحينئذ يحصل بعض ما يقع من التفريط والغلو والتطرف، وقد أسلفنا القول فيه من قبل. ينبغي لنا أن نتحدث بصوت هادئ، فإن الجعجعة والصراخ لا تنفع في هذه الأحوال، وإننا ينبغي لنا أن نتحدث بمنهج سليم سديد، فإن الهيشات والمهاترات لا تنفع، وينبغي لنا ألا نتعجل وألا نجعل هناك شيئاً من الافتراق والتباعد، فلا ينبغي أن نتكلم عن هذا أو ذاك بأنه مخالف للشرع، وبأنه يريد مصادرة الدين، وبأنه يريد كذا وكذا، ولا ينبغي هذا لمن يعتلي المنبر أو يتكلم في الوعظ والإرشاد، كما لا ينبغي للآخرين أن يقولوا عن كل ملتزم أو متدين: إنه مخطئ في كذا، وإنه يقصد كذا، حتى كأن الناس شقوا عن القلوب والنوايا، بل ينبغي لنا أن ندرك عظمة الخطر، وأهمية الاتحاد، ومرجعية الشرع، وينبغي لنا أن ندرك أن مزية هذه البلاد أولاً وآخراً هي قيامها على الإسلام، وتحالف الدولة مع الدعوة، وأن أمر الاستهداف أعظمه وأكثره على ديننا، فلا ينبغي أن يكون منا جميعاً بغي، لا من هذا ولا من ذاك، وألا نصنف الناس فريقين، وأن نقول: أهل المنابر وأهل المحابر، ونجعل هناك أموراً تثار فيها البلابل، ينبغي لكل مسلم -وكلنا مسلمون في أصل إيماننا واعتقادنا- أن يكون مخلصاً لله، وما ذكرته ينطبق على جميع الناس، لا يستثنى منه أحد، ولا يظنن أحد كذلك أن العالم أو الداعي مبرأ من النقص أو منزه عن الخطأ، بل هو إنما يستمد قوة نهجه أو صواب رأيه من أصل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما اللذان لا يأتيهما الباطل من بين يديهما ولا من خلفهما، وهما عصمة كل معتصم، ونجاة كل راغب في النجاة بإذن الله. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بكتاب ربنا، وأن يعلمنا هدي رسولنا، اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي رسولك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، وللحرص على أخوتنا ووحدتنا عاملين. نسألك اللهم أن ترد عنا كيد الكائدين، وأن تدفع شرور المعتدين، وأن تصد فتنة الفاتنين، وأن تعيد وتبقي وتقر في هذه البلاد الأمن والأمان، والسلامة والإسلام، والهدى والتقى، وأن تجعلها أبداً مناراً للإسلام والمسلمين والدعوة إليه، والتبشير به والدفاع عنه في كل الأحوال والعوارض. ونسألك اللهم أن تجنب الإسلام والمسلمين عداء المعتدين وعدوان الغاصبين. نسألك اللهم أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور يا رب العالمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن تهديهم وتوفقهم لما تحب وترضى، وأن تصرف عنا ما لا تحب وترضى. اللهم يا حي يا قيوم يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميرا ًعليه يا سميع الدعاء! اللهم الطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين، امسح اللهم عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، أفرغ اللهم في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين برحمتك وقوتك وعزتك يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واصرف اللهم عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمرنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، ووفق اللهم ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الغنيمة الباردة

الغنيمة الباردة الصلاة عماد هذا الدين، وهي آخر عرى الإسلام نقضاً، وتاركها يخشى عليه من الكفر والعياذ بالله! فهو على شفا جرف هار، ويخشى عليه من دخول النار، فإذا كان هذا قدرها وخطرها فجدير بالمسلم أن يحافظ على أدائها بشروطها وأركانها وسننها، وفي أوقاتها؛ ليفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، ومن أفضل الصلوات وأعظمها أجراً صلاة الفجر، ففيها من الفضائل والأجور ما يجعلها بحق غنيمة باردة.

تهاون كثير من المسلمين في شأن الصلاة

تهاون كثير من المسلمين في شأن الصلاة الحمد لله ذي الجود والإكرام، ولي الفضل والإنعام، الذي أكرمنا بنعمة الإسلام، وفضلنا بهذا الدين على سائر الأنام. نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، نحمده جل وعلا حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، بعثه للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فحديثنا عن الغنيمة الباردة الضائعة، ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد ساق لنا كثيراً من النعم، وأفاض علينا كثيراً من الخيرات، ويسر لنا أبواباً لاغتنام الحسنات، وجعل لنا من بين سائر الأمم مزية في تكفير السيئات ومضاعفة الحسنات، ولإن كان ذلك هو السمة الظاهرة في دين الإسلام وفي سنن خير الأنام صلى الله عليه وسلم فإنه أظهر وأشد وضوحاً وأكثر عظمة فيما يتصل بالفرائض والأركان التي هي أسس هذا الإسلام، والتي هي الأعمدة والأركان التي يقام عليها البنيان. ونحن في هذا المقام نتكلم عن الغنيمة الضائعة، التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فريضة الصلاة التي فرط كثير من الناس فيها، وقصروا في أدائها، وتخلفوا عن أوقاتها، وتقاعسوا عن شهودها في مواطنها في بيوت الله عز وجل، ولست في هذا الصدد متحدثاً حديث الفقه والأحكام الشرعية، ولا حديث العبر والدروس التربوية، وإنما حديث التشويق والترغيب، الذي يهز القلوب المؤمنة، ويثير كوامن الشوق في النفوس المسلمة، الذي يحدو بالمؤمن إلى أن يرنو ببصره إلى الآخرة، وأن يستحضر فضل الله سبحانه وتعالى، وأن يتأمل عظيم المنة والفضل الذي ساقه الله إليه، كيف غفل عنه! وكيف زهد فيه! وكيف لم يلتفت إليه! ذلك أن الغفلة قد غشيت كثيراً من القلوب، وحجبت كثيراً من العقول، وذلك لأن الدنيا فتنت كثيراً من الناس، وشغلتهم بأحوالها وأوضاعها، فاستكثروا القليل الذي ينبغي أن يبذلوه في طاعة الله، واستقلوا الكثير الذي يبذلونه في أمر حياتهم الدنيا، فانتكست الموازين، وانعكست الأمور، وصار الناس في أمر الطاعات -ليست المندوب إليها وإنما المفروضة عليهم- مقصرين مفرطين، وهم في أمور الدنيا -لا في أساسياتها بل في كمالياتها- متسابقون متنافسون. وهذا لعمري هو عين الخلل حيث اتصل بالفرائض والأركان، فقد جعل الله عز وجل لنا أبواباً كثيرة من الفضائل، وأساسها الأركان والفرائض، وأمها وأولها وأكثرها تكراراً بعد التوحيد الصلاة، التي حصل فيها ما حصل في واقع حياة المسلمين اليوم.

أهمية أداء الصلاة في جماعة وما فيها من الأجور

أهمية أداء الصلاة في جماعة وما فيها من الأجور إن الله جل وعلا قد ساق هذا الفضل بما لا يتصوره العقل، إلا أن يكون مستحضراً لعظيم جود الله عز وجل، وعظيم لطفه بعباده سبحانه وتعالى، فأنت ترى أمر الصلاة يحدوك إلى الإقبال عليها والارتباط بها، والسعي الدءوب الحثيث للغنيمة المتواصلة المتكاثرة منها، بما جعل الله في كل شأن من شئونها وكل أمر من أمورها من أجر وفضيلة. فالنداء إليها -وهو الأذان- هو الذي يعلن التوحيد، ويذكر بأمر الآخرة، وينادي المنشغلين بالدنيا ليأخذوا زاداً من تقوى الله عز وجل، ومن مراقبته سبحانه وتعالى ليواجهوا الباطل من بعد ذلك، وليعرفوا حقيقة الحياة الدنيا، ويجعل الله عز وجل في ذلك فضلاً وأجراً. ثبت عن سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً غفر له ذنبه). وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة! آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه أنس في مسند أبي يعلى بسند حسن: (من قال مثل مقالته) أي: مثل مقالة المؤذن. وفي حديث بلال رضي الله عنه قال: (من قال مثل مقالته وشهد مثل شهادته) أي: كرر الشهادتين مع المؤذن (فله الجنة)، فهذا في النداء إليها وفي التذكير بها وفي الدعوة إلى شهودها قبل أن تقبل عليها وتتهيأ لها وتتوجه لها. وفوق ذلك -أيضاً- يهب الله لك مزيداً من الفضل ترغيباً وتشويقاً وتحبيباً، لتأتي إلى بيته ولتناجيه وتدعوه سبحانه وتعالى، فبمجرد سماع هذا الأذان ينسكب في القلوب، فتهتز القلوب شوقاً، وتتعلق بشهود الصلوات في المساجد مع الجماعات، وما يزال المؤمن مرتبطاً بها فيستحق حينئذٍ ذلك الوعد العظيم والأجر الكبير الذي ذكرنا به النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عن السبعة الذين يظلهم الله عز وجل تحت ظل عرشه في يوم القيامة، وذكر منهم: (رجل قلبه معلق في المساجد)، قال أهل العلم: ومعناه أنه شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد! فهو تعلق قلبك عندما تنتهي من هذه الصلاة، فأنت مستحضر في قلبك أنك ستدعى مرة أخرى إلى لقاء الله، وإذا سمعت النداء تهيأت بقلبك ونفسك للإقبال على الله، فهذا لك به أجر عظيم؛ لأن هذا المعنى الذي استقر في قلبك هو من أعظم المعاني، معنى التعلق الدائم والارتباط التام بالعبودية لله عز وجل، فما يزال قلبك مستحضراً أنك بين الفينة والأخرى، بين الصلاة والصلاة وبين النداء والنداء، تنطرح بين يدي الله عز وجل، وتسجد له سبحانه وتعالى، وتخضع له، وتذرف دمع الندامة، وتدعو دعاء المتضرع لله سبحانه وتعالى، كل ذلك ولما تأتي بعد إلى الصلاة. فإذا تحركت إليها، وإذا مشيت إليها جاءك فضل من الله عز وجل يتلقاك مع أول حركة وأول خطوة، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر: (أن بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا -وقد كانوا بعيدين عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فلما خلت البقاع من حوله أرادوا أن ينتقلوا ليكونوا على قرب من مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم فإنها تكتب آثاركم وخطاكم إلى المسجد عند الله سبحانه وتعالى. قال النووي: فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم إلى المساجد. وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى ترغيباً وتشويقاً. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه متسائلاً يحثهم ويرغبهم ويعلقهم بهذه الصلاة: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله!)! ومن يسأل مثل هذا السؤال اليوم؟! ومن يتعلق به اليوم؟! ومن يبحث عن جوابه؟! ومن يرتبط بمدلوله؟! ومن يلتزم بمقتضاه؟! قلّ هذا في الناس أو شغلوا عنه. أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه في مشهد من أصحابه يلفت أنظارهم وينبه قلوبهم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، فهل ترى في هذه الخصال الثلاث شيئاً يخرج عن الصلاة؟! إنه الوضوء وهو شرط الصلاة، إنه السعي والإقبال إلى الصلاة، إنه الرباط في انتظار الصلاة. فالأمور الثلاثة كلها التي يحصل بها هذا المحو للخطايا والرفعة للدرجات والمضاعفة للحسنات ساقها الله عز وجل لنا في هذه الفريضة. وهناك بشارة عظمى يتعلق بها قلب كل مؤمن، ذلك أن المؤمن الحق إنما ينظر إلى الآخرة، وينظر إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا إلى الهول الأعظم، وإلى الحساب الدقيق، وإلى العذاب الشديد، كيف يفتدي نفسه منه، كيف يفك رقبته منه، كيف يعمل ما يظن أنه ينال به رحمة الله عز وجل ورضوانه سبحانه وتعالى. جاءت هذه البشارة في حديث سهل بن سعد عند ابن ماجه، وفي سنن أبي داود من حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) يوم يحجب النور عن أهل النفاق والكفر والعصيان، يوم يبحث الناس عما يضيء لهم الطريق ليجوزوا الصراط وينجوا من عذاب الله عز وجل ومن كلاليب النيران، يوم تمشي في الظلمات إلى المساجد في صلاة العشاء أو الفجر تسعى إلى طاعة الله، وتتحرك إلى رضوان الله، يفتح الله عز وجل لك في حياتك الدنيا، وينور لك قلبك، ثم يكون ذلك ضياء بين يديك يوم القيامة {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:8]. هكذا تتميز عندما تقبل على هذا الأمر العظيم، وليس ذلك فضلاً منك، وإنما هو واجب عليك، ولكن فضل الله سبحانه وتعالى يجعل على الواجب أجراً أعظم من الأجور التي تكون للمندوبات والمستحبات، وهذا من عظيم فضل الله عز وجل ومنته على الناس. ثم ما الذي يجعلك تتقاعس وأنت في كل حال وفي كل لحظة ووقت وفي كل ما يتصل بشأن هذه الصلاة مأجور عند الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لأن الله جل وعلا جعل هذه الصلاة صلة بينك وبينه سبحانه وتعالى، فجعل في كل أمر من أمورها وفي كل شأن من شئونها أجراً عظيماً، حتى يبقى القلب موصولاً بالله، وتبقى الصلة دائمةً بالله سبحانه وتعالى. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة فهو في صلاة ما لم يُحدث، تقول الملائكة: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه) فهذه ملائكة الرحمن تتنزل من السماء لتشهدك وأنت تنتظر الصلاة في بيت الله ثم تتوجه إلى الله بالدعاء لك بالمغفرة والرحمة والرضوان. فأي وقت يكون طويلاً وأنت في هذه الحالة؟! ما بالك قد ترى أنك بكرت إلى الصلاة، أو جئت بعد الأذان فتنظر إلى ساعتك وتستطيل الوقت إلى الإقامة، وإذا أطال الإمام قليلاً في قراءته تململت ورأيت أن الوقت -كما يقال- قد ضاع؟! وأي وقت يضيع وأنت في بيت الله، وحولك ملائكة الله، والدعاء مرفوع لك إلى الله عز وجل، وأنت تسجل لك الحسنات وتمحى عنك السيئات؟ فهل ندرك عظيم ذلك الفضل الذي غفل عنه كثير منا ولم يستحضروا في قلوبهم ونفوسهم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الصورة العظيمة التي شملت كل فضيلة في هذا الأمر؟ وفي حديث عثمان رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس في المسجد غفر الله له ذنوبه) مغفرة عند الأذان، ومغفرة عند الوضوء، ومغفرة في السعي والمشي إلى الصلاة، ومغفرة عند أداء الصلاة، أليس هذا فضلاً عظيماً من الله عز وجل؟! ما بال الناس اليوم غفلوا عن هذا الفضل؟! فلا تراهم في المساجد إلا قليلاً، ويقلون بشكل أكبر في بعض الفرائض كصلاة الفجر أو العصر أو غيرها مما قد يكون فيه مشقة يسيرة لا يمكن أن تصد أو أن تحجب عن مثل هذا الأجر الكبير والفضل العظيم. وفي الحديث المشهور -الذي يحفظه كثير من الناس، وهو حديث ابن عمر في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ -أي: الفرد- بسبعٍ وعشرين درجة) وما أدراك ما هذه الدرجات؟! وما أدراك ما فيها من الفضائل والحسنات؟! وهذا فضل عظيم ساقه الله عز وجل، وكلما شهدت الصلاة مع جماعة أكبر كان الفضل والأجر عند الله عز وجل أعظم. كل ذلك لتبقى مشدوداً متعلقاً بهذه الفريضة، وبعض الناس يختار الأدنى ويرضى بالأقل في أمر الدين، بينما هو في أمر الدنيا يسعى للمراتب العالية وللفرص العظيمة، وإن كانت صعبة أو شاقة، ولذا نجد بعض الناس كلما وجد فرصة للترخص أو لترك الصلاة مع الجماعة في المسجد أو لأي شأن من الشئون رأى أن في ذلك عذراً يكفيه لأن يرضى بالأقل من الأجر، كأنما قد غنمنا أجوراً كثيرة، وأمنا من معاص وسيئات عديدة، نسأل الله عز وجل السلامة. يقول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في سنن أبي داود من حديث أبي بن كعب -: (إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده

مكانة صلاتي العشاء والفجر

مكانة صلاتي العشاء والفجر لقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على أمر كان الصحابة فيه من المتنافسين، وكانوا فيه ممن ضربوا المثل الأعلى في شأن قيام الليل الذي كان يحييه بعضهم من أوله إلى آخره، وبعضهم معظمه، أو من منتصفه إلى آخره، ونحو ذلك، وقد تقاعست الهمم، وضعفت العزائم في عصرنا هذا عن قيام الليل، ولو بركيعات قليلات، ولذا جاء فضل من الله عز وجل عظيم وربطٌ لنا بأداء الصلوات في الجماعات كبير، عندما قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، فكثيرون ممن يفرطون في الفجر يفرطون في عظيم الأجر. وكذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً فيه خصيصة لك أيها العبد المؤمن، يا من شهدت صلاة الفجر في الجماعة؛ لأنها صلاة تأتي والناس غارقون في نومهم، أو سارحون في أحلامهم وقد أنسوا بالراحة بعد التعب، وشق عليهم أن ينهضوا من فرشهم الوثيرة بسبب البرد وغير ذلك من أسباب التثاقل والتكاسل، فإذا نهضت من تلك الراحة إلى طاعة الله فإن لك بشارة، وإن لك شهادة عظيمة من الله عز وجل أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه كما عند الطبراني من حديث أبي بكرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فمن أخفر ذمة الله أكبه الله في النار لوجهه) قال أهل العلم في معنى قوله: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) أي: في أمان الله عز وجل، وفي حفظ الله عز وجل، وفي رعاية الله عز وجل تحت عين ونظر الله عز وجل. فما أعظمها من شهادة! وما أعظمه من حفظ ورعاية! (فمن أخفر ذمة الله أكبه الله في النار لوجهه) قال العلماء: معناه على أحد قولين: الأول: تحذير من ترك صلاة الفجر في جماعة؛ لأن تاركها ينقض ذمة الله عنه فلا يعود محفوظاً، فيصيبه ما يصيبه عندما ينسحب أو ينتقض أمان الله وذمة الله له. المعنى الآخر -وهو جميل جداً ورائع جداً يبين لنا عظمة هذه الصلاة-: أن (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله) أي: فلا تتعرضوا له بشيء، لا تؤذوه ولا تتعرضوا له؛ فإنه في ذمة الله وفي حمايته، فإن تعرضتم له فقد تعرضتم لسخط الله عز وجل، فما أعظم هذه الحماية التي تؤتاها عندما تشهد صلاة الفجر في جماعة.

تبكير السلف إلى الصلاة وعدم التخلف عنها

تبكير السلف إلى الصلاة وعدم التخلف عنها على المسلم أن يتأمل كم في هذه الصلاة من فضائل عظيمة، حتى إن سلف الأمة رحمة الله عليهم عندما فقهوا هذا فقه الإيمان وعرفوه معرفة العباد الأذلاء لله الراغبين في ثواب الله الخائفين من عقاب الله انعكس ذلك صورة حية في واقع حياتهم، فلم يكن أحد منهم يتخلف عن الصلاة، بل كان الأمر كما ثبت عن بعض الصحابة أنه قال: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وإن كان الرجل ليؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. فهذا وصفٌ واضح قاطع معروف عند مجتمع الصحابة أن المتخلف عن أداء الصلوات في الجماعات منافق معلوم النفاق، أي: كأن نفاقه واضح بيّن دليله قاطع ظاهر. ولذا كانوا يحذرون من هذه الوصمة الخطيرة وصمة النفاق، حتى إن الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، أي: يستند إلى رجل عن يمينه وآخر عن شماله لأنه مريض، لكنه يؤتى به على هذه الصورة حتى يقام في الصف ليشهد الصلاة مع الجماعة، لئلا يكون متخلفاً فيعد من المنافقين. وانظر إلى ما رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث ثابت البناني أنه كان مع أنس قال: فمشيت معه إلى الصلاة، فقارب بين الخطا -أي: جعل الخطا متقاربة وأسرع في المشي- ثم التفت أنس إلى ثابت وقال له: كنت مع زيد بن ثابت فمشى مثل هذه المشية -أي: قارب بين الخطا- ثم التفت إلي -أي: التفت زيد إلى أنس - وقال: مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمشى وقارب بين الخطا، ثم التفت إلي -أي: التفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثابت - وقال: (إنما فعلت ذلك ليكثر عدد خطانا في طلب الصلاة) هذا فقه النبي الأعظم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وانعكس ذلك صورة عملية في الصحابة والتابعين وسلف الأمة الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين. وهذا عدي بن حاتم -وهو من الصحابة- يقول: ما دخل وقت صلاة قط حتى أشتاق إليها. أي: يكون قد بلغ به الشوق أنه ينتظر دخول وقت الصلاة، فإذا جاء وقتها كان كمن ينتظر شيئاً محبوباً إليه طال وقت انتظاره إليه واشتياقه إليه. ويقول أيضاً: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء. أي أن الاستعداد المبكر والتهيؤ قبل دخول الوقت كان من سمة صحابة النبي عليه الصلاة والسلام ومن تأثر بهم من التابعين. فهذا إمام التابعين سعيد بن المسيب رحمة الله عليه يقول: ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد. منذ أربعين عاماً! فلو حسبنا كم في الأعوام من أيام وكم في الأيام من صلوات وما كان يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد طوال هذه المدة! قال عنه بعض أصحابه: صلى أربعين سنة في الصف الأول ما رأى قفا أحد. أي: لا يصلي في الصف الثاني فيرى قفا من في الصف الأول، بل كان على هذه الحال دائماً. وفي معجم الطبراني الكبير بسند حسن أن عنبسة بن الأزهر قال: تزوج الحارث بن حسان فصلى الفجر في ليلة زواجه. أي: في ليلة زواجه صلى الفجر في المسجد. وهذا أمر مشهور في حياتنا أنه إذا صلى العروس صلاة الفجر في ليلة عرسه فكأنما جاء بأمر غريب. فقيل للحارث: أتخرج وإنما بنيت بأهلك الليلة؟! فقال: والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جماعة لامرأة سوء. أي: إن كان الزواج سيمنعني من صلاة الفجر في الجماعة فهذا لا شك أنه أمر سيئ لا يمكن أن يكون في طاعة الله عز وجل. فهذه الملامح تبين لنا كيف فَقِهَ سلفنا هذا الفقه، وكيف حرصوا على الغنيمة ولم يضيعوها. فالله نسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا متعلقين بالفرائض، حريصين على الأجر والثواب، متسابقين في الخيرات ومسارعين إلى الطاعات؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المحافظة على الصلاة فضلها ودلائل التهاون فيها

المحافظة على الصلاة فضلها ودلائل التهاون فيها إن من أعظم التقوى وأساسها ولبها المحافظة على الفرائض بشرائطها وسننها التي جاءتنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما نتحدث هذا الحديث نعلم جميعاً أن الناس في هذه الحياة الدنيا لا يفرطون في أي غنيمة تتاح لهم وتعرض عليهم، بل يدعون إليها ويرغبون فيها، فإن فرط أحدهم في هذه الغنيمة أو قصر في مكسب كان يمكن أن يحوزه فلا شك أنه يوصف عند الناس بالتفريط، وربما بالحمق، وهو نفسه يعض أصابع الندم على ما فاته من هذا المغنم والمكسب، فكيف بنا مع هذه الغنائم الربانية العظيمة الأجر التي فُرضت علينا ورغبنا الله فيها وأعطانا عليها العطاء الجزيل الذي لا منتهى لحده ولا حد لوصفه؛ لأنه من عند الله سبحانه وتعالى. وفوق ذلك كله عندما تشهد الصلاة في جماعة فهذا هو الفضل والأجر، وهذا هو الأداء للفرض، وهذا هو الاتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك معالم أخرى جديرة بالاهتمام، فهذا هو شعار الإسلام الذي نعلنه ونرفعه، فإذا خلت المساجد وقل فيها المصلون كان ذلك دليلاً من أدلة ظهور النفاق وظهور التقصير في طاعة الله وظهور التفريط في جنب الله، واستحقاق السخط والغضب من الله عز وجل. أضف إلى ذلك أن كثيراً من الناس عندهم جهل، فلا يعرفون فقه الصلاة، ولا يحسنون التلاوة، فلو أنهم شهدوا صلاتهم في مساجد المسلمين لسمعوا تلاوة مرتلة وصلاة صحيحة، فيعينهم ذلك على أن يؤدوا صلاتهم على وجه تام؛ لأن بعض من يصلون منفردين هم على جهل، ويصلون صلاة ناقصة، وربما يقع فيها من الخلل ما يحكم به في الفقه بأنها صلاة باطلة. وهناك معانٍ أخرى كثيرة، مثل التعارف والتآلف والوئام، وفوائد أخرى يطول حصرها. وأقول: إننا قد فرطنا في هذا الأمر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بداية هذا التفريط هو منتهى التفريط في أمر الإسلام؛ لأن عرى الإسلام تنحل عقدة عقدة في آخر الزمان، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وآخر ذلك الصلاة، وقد يقول قائل: ولم تنحل الصلاة؟ فأقول: هذا المفرط الذي يترك الصلاة في المسجد، ويقول: ليست الصلاة واجبة علي في الجماعة. ثم بعد ذلك يرى أن الجماعة ولو في غير المسجد ليست لها أهمية، ثم يصلي منفرداً، ثم يتأخر عن أدائها في وقتها، ثم لا تبقى الصلاة كما كانت في حياة الصحابة، وكما أمرنا بها في هذه النصوص على النحو المطلوب، وحينئذٍ لا يكون لها الأثر المطلوب الذي أخبرنا الله عز وجل به في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ولا تكون كذلك على نحو ما أمرنا الله عز وجل ووضحه لنا بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، وكل هذه المعاني تغيب وتضيع عندما نفرط في الجماعة على سبيل الترخص والتهاون. فهذه فضائل عظيمة، وهذه أجور كبيرة، وهذه غنيمة باردة، ينبغي أن لا نفرط فيها، وأن لا نضيعها، ومن الفطنة والذكاء، ومن الإيمان واليقين، ومن الحرص والرغبة أن نكون مترسمين خطا سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فنسابق ونسارع ونرابط، ونسعى ونجتهد ونقوم في الليل، ونسعى إلى الصلوات في الجماعات لاسيما في الفجر، لا أن يكون حالنا أننا حتى في الجمعة التي هي مرة في الأسبوع يأتي كثير من الناس متأخرين، بل يأتون وقد انتهت الخطبة أحياناً وشرع الإمام في الصلاة، ونحن نعلم أن من طبيعة حياتنا أن صباح الجمعة ليس فيه أعمال، وأن الناس غالباً يخلدون فيه إلى النوم، فأي شيء يؤخرهم عن هذا الأجر وعن الفضل وعن الفرض قبل ذلك؟! فهذا تفريط وتقصير ينبغي أن نطهر أنفسنا منه، وأن نسعى إلى أن ننبذه في مجتمعنا وفي أنفسنا وفيمن حولنا، وفي أبنائنا وفي جيراننا، عسى الله عز وجل أن يرحمنا وأن يتقبل منا وأن ييسر لنا أمورنا. اللهم! إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم! أنزل الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وامح عنا السيئات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار. اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار. اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، اللهم! سكن لوعتهم، اللهم! وامسح عبرتهم، اللهم! ارزقهم الصبر واليقين، اللهم! ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم! واجعل ما قضيته عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم! واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

بلايا الخطايا

بلايا الخطايا لقد كثر في عصرنا الحاضر تناول الأشياء المضرة بالصحة والبدن كالدخان، وارتكاب بعض الفواحش والمحرمات التي أثرت على الفرد والمجتمع، فحلت بسببها عقوبة الأمراض المستعصية التي لم تكن في أسلافنا الذين مضوا، وهكذا عاقبة المجتمعات حين تتمرد على دين الله، وتتعدى حدوده ولم تتمثل أوامره وتجتنب نواهيه.

حصاد الدخان

حصاد الدخان الحمد لله جعل الإيمان أمناً وأماناً، والإسلام صحةً وسلاماً، وجعل السلامة في الطاعات، والبلية في المعاصي والسيئات، نحمده سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من البركات، وما أوسع من الرحمات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء الأرض والسماوات، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وله الحمد على كل حال وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومنار العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! بلايا الخطايا أمر ينبغي أن تلتفت له الأذهان، وأن يعطى حقه من العناية والاهتمام، فإن شيوع المعاصي، وذيوع الخطايا، وتوسع دائرتها يؤذن كسنة ماضية من الله جل وعلا بعظيم البلايا، وجليل الرزايا التي لا تقتصر على موات القلوب، وكدر النفوس، وضعف الإيمان، وزيغ الأهواء وغير ذلك، بل تتعداها إلى الأضرار والأخطار المادية الملموسة، ولعلي وأنا أريد أن ألفت الأنظار، وأن أجعل كل أحد ينتبه من غفلته، ويرعي هذا الحديث سمعه، أبدأ بأن أقول: إن خطيئة واحدة قد حصدت في عام واحد -هو العام الذي انصرم- ثلاثة ملايين من البشر، فهل ترون مثل هذا الرقم الخطير المفزع أمراً هيناً؟ وهل ترونه عقوبة ليست مرئية أو ملحوظة؟ وأزيدكم لأقول: إن جريرة يكاد كثير من المسلمين عموماً، بل ومن الحاضرين في هذا المسجد وفي غيره خصوصاًً يلمون بها ويقترفونها ويمارسونها كل يوم وليلة، ليست مرة واحدة بل مراراً عدة، هذه الخطيئة حصدت في عام (2000) أي: قبل نحو أربعة أعوام خمسة ملايين من البشر. ولعلكم الآن تتساءلون، وأنا أيضاً أقول: بأيهما أبدأ وهما اثنتان، وغيرهما من الخطايا فيها العظيم والجليل من البلايا والرزايا؟ هل تصدقون -وهذا بموجب إحصائيات علمية معتمدة معتبرة من منظمة الصحة العالمية- أن قتلى التدخين في عام (2000) بلغ خمسة ملايين إنسان، وأنه بموجب معدل الإحصائيات المتزايدة من كل عشر وفيات من الرجال والنساء واحدة سببها المباشر هو التدخين، وأن هذه النسبة ترتفع في الرجال ليكون كل خمسة يموتون منهم واحد يكون سبب موته المباشر هو التدخين؟

بلاء الإيدز وانتشاره في المجتمعات الإسلامية

بلاء الإيدز وانتشاره في المجتمعات الإسلامية وكذلكم أنتقل بكم إلى الموضوع لنعود إلى هذه القضية مرة أخرى: يكثر الحديث اليوم في وسائل الإعلام صحفاً وإذاعات وقنوات عما ينتظر أو يرتقب مما يعرف باليوم العالمي للإيدز، مرض نقص المناعة الذي فتك بملايين البشر، وتقول الإحصاءات: إن المصابين بهذا المرض والعاملين له بلغ اليوم خمسة وأربعين مليون إنسان، وإن العدد يتزايد بكثرة مذهلة مخيفة مرعبة، وأنه قد حصد في العام الماضي ثلاثة ملايين نفس، وأن هذه الإحصاءات يتبعها إحصاءات دقيقة يصعب أن تحدد أرقامها وهي إحصاءات المبالغ المالية المنفقه على الأبحاث، والمختبرات، وتحليل الدم، والعلاج، والعزل الصحي، وغير ذلك الذي فاق ليس مئات ولا آلاف بل بلغ عشرات ومئات الآلاف من الملايين التي تهدر في مثل هذا الباب الذي سببه الخطايا والفواحش كما سنشير، هذه الإحصاءات تقول: إن العام الحالي الذي سينصرم بموجب التاريخ الميلادي قريباً قد سجل فيه وحده خمسة ملايين حالة جديدة مصابة وحاملة للمرض، فإذا كان هذا يشكل نحو عشر الذي مضى وقد اكتشف المرض عام (1979) إذاً: فهذا العام كأنما ينذر بأن الأمر قد وصل مبلغاً عظيماً خطيراً فتاكاً يوشك أن يكون من أعظم بل هو في الحقيقة أعظم بلايا هذا العصر. ولعلنا نتساءل: لم نتحدث عن هذا ونحن بحمد الله عز وجل في بلاد الإسلام وبلاد الحرمين؟ فنقول: إن الشر يعم ولا يخص، وإن مثل هذا البلاء قد غزا كل دار وبلاد، إحصاءات المسئول الرسمي في وزارة الصحة السعودية يقول: إن عدد الحالات المسجلة لهذا المرض في المملكة العربية السعودية يصل إلى أقل من ثمانية آلاف حالة، منها أكثر من ألف وخمسمائة لمواطنين، وأخرى لقادمين أو راحلين، ويعطينا مؤشراً ويقول: إن (90%) من أسباب هذا المرض في العالم كله هو الاتصالات الجنسية المنحرفة والشاذة، ويسميها أهل الحضارة المعاصرة: الاتصالات غير الآمنة، ويريدون أن يعلموا الناس كيف يقومون ويمارسون الحرام والفاحشة ولكن بطرق صحية آمنة، والله عز وجل يخبرنا في شطر آية أن هذا أمر بعيد المنال؛ لأنه قد قال جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124]، ويخبرنا الحق سبحانه وتعالى بأن للسيئات آثاراً وخيمة مادية ملموسة محسوسة قال تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51] كل سيئة وشذوذ وانحراف وفاحشة لا بد لها من عقوبة دنيوية معنوية ومادية، فضلاً عما هو أعظم وأفظع من العقوبات الأخروية. وتأتينا الإحصاءات في المملكة لتقول: إن (45%) من أسباب الحالات المسجلة اتصالات جنسية، و (20%) نقل لدم ملوث في خارج المملكة و (6%) جناية أمهات مصابات على أجنة بريئة و (2%) من أسباب إدمان المخدرات، وتبادل الحقن الملوثة و (27%) أسباب مجهولة غير معروفة، وأما الأعمار المصابة فهي ما بين الخامسة عشرة إلى الخامسة والأربعين من العمر، زهرة الشباب وبداية الرجولة تلك التي تحصدها هذه الأمراض الخطيرة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة:268]، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].

حرية المرأة المزعومة

حرية المرأة المزعومة

الترويج الفاسد للانحلال الخلقي

الترويج الفاسد للانحلال الخلقي يكثر الحديث في ديار الإسلام عموماً عما يسمى بحرية المرأة، وعن تخفيف قيود التقاليد البالية، وعن إلغاء عوامل الكبت، وإطلاق سبل الترقي والتحضر، وكأن القوم عمي لا يبصرون، صم لا يسمعون، قد أصابهم جنون فهم لا يعقلون. إن هذه المقالات وتطبيقاتها العملية هي التي أدت بالمجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الإسلامية والعربية إلى أن بلغت مبلغاً عظيماً في آثار هذه الفواحش. واستمعوا إلى مقالة رجل يهودي أسس انحراف البشرية وقعد له، بعد أن ذكرت لكم ما قد يقال من الأقوال، يقول فرويد اليهودي عالم النفس الشهير: إن الإنسان لا يحقق ذاته بغير الإشباع الجنسي، وكل قيد من دين أو أخلاق أو تقاليد هو قيد باطل ومدمر لطاقة الإنسان، وهو كبت غير مشروع. قال ذلك وسار القوم على خطاه، وانتهى الأمر إلى أن يمارسوا الفاحشة مع البهائم بعد أن فشا فيهم شذوذ بممارسة الفواحش بين الرجال والرجال والنساء والنساء. بل قد وجدت مجموعات من هؤلاء الشاذين في بلاد العرب والمسلمين، وكلما تركنا ما أسماه قيد الدين والأخلاق أو التقاليد فتحت أبواب الشر، وتسهلت أسباب الفساد، وعظم ارتكاب الفواحش، وزاد الخنا والزنا والفسق والفجور، وزاد معه ما في هذه البلايا من رزايا. ولعلنا ننتبه إلى أمور أخرى أحب أن أربطها بهذا الشأن، فإن الذي يقال وربما يردد من هذه الأمور التي يدعى فيها حرية المرأة، والتي يدعى فيها توسيع دائرة دورها، في أمور نحن نعلم كيف بدأت وإلى أين انتهت، وفي أمور لو أنها كانت قائمة على أحكام الشرع، ومنضبطة بضوابطه، لعلمنا يقيناً أن خواتيمها ليس فيها ضرر، غير أنها تبدأ كما يقال: (أول الغيث قطرة ثم ينهمر): نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء وذلك ما نشهده في كل حال المجتمع، وما نشهده في آحاد الأفراد، انظروا إلى من انحرف أو انغمس في بعض الشهوات والملذات، هل تراه بدأ في الفواحش الكبرى؟ وهل تراه بدأ بالكبائر التي قد عظم الله عز وجل ارتكابها؟ إنه بدأ بأمور يسيرة، وبتجاوزات خفيفة، بدأ بنظر آثم، وترخص في حديث واختلاط مغرٍ، وانتهى إلى خلوة محرمة، ومشى إلى أمور انتهت به إلى ما نحن نوقن بأن بدايته ستكون هذه نهايته قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] (لا تقربوا) أي: لا تأتوا دواعيه، ولا تبدءوا بمقدماته، ولا تتساهلوا في أي أمر يتصل به، وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، والخطاب كذلك للمؤمنات قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]. وإذا جئنا إلى السمع نجد قول الحق سبحانه وتعالى في خطاب أمهات المؤمنين العفيفات المؤمنات: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] إلانة القول سبب لفتنة القلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك من الضحك والملاعبة والأحاديث الإيحائية الإغرائية وغير ذلك، بل حتى الأنف فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيما امرأة خرجت متعطرة يجد الرجال ريحها تلعنها الملائكة حتى ترجع)؛ لأن لذلك أثراً وتأثيراً، وكل الجوارح والحواس مفضية إلى القلب ومؤثرة فيه. وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر النظرة سهم من سهام إبليس، العينان تزنيان وزناهما النظر، وكل جارحة لها زناها. وبعد هذا البيان القرآني الرباني هل ينكر علينا وعلى كل مؤمن غيور أن يذم، وأن ينتقد، وأن يحرم بتحريم الله عز وجل وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم ما يبث على الفضائيات من الغناء والرقص والتبرج والعري، الذي أجزم يقيناً أنه من الأسباب المؤدية إلى الوقوع في هذه الفواحش، والداعية إليها، والمرغبة فيها، والمؤججة للغرائز والمشاعر ونحوها، والمسهلة لارتكابها، والمهونة لشأنها، والتي تعرضها كأنه ليس فيها آيات محرمة ولا أحاديث مؤثمة، بل تعرضها على أنها من صور التحضر والفنون الراقية؟! وأقول هذا لأخاطب إخواني المؤمنين لينتبهوا لأنفسهم ولأبنائهم ولبناتهم، فإن أول الغيث قطرة ثم ينهمر، ولأن أول الخطايا والفواحش إنما هي صغائر لا يكاد المرء يلتفت إليها: لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى

عاقبة الفساد ومخالفة الشرع

عاقبة الفساد ومخالفة الشرع إننا نقول هذا، ويأتينا من يقول: إن مثل هذا القول تشدد في غير محله، بل بعضهم يعده تطرفاً عن الاعتدال والوسطية التي يفهمونها فهماً غير صحيح، بل ربما يرجم بعضهم رجماً أعظم فيقول: إن قائل هذا من أهل الإرهاب والغلو ونحوه، فأي شيء يريدون أن يبقوا لنا من ديننا، ومن عفة وحياء بناتنا، ومن شرف ورجولة أبنائنا، ومن حصانة ورقي وحفظ مجتمعاتنا؟ إنها السدود التي تبدأ بخرم صغير يتسرب منه الماء قليلاً، ثم يتشعب وينصدع ذلك السد، ثم لا يلبث -عياذاً بالله- أن يخرق فيه خرق يتسع على الراقع، ويوشك من بعد أن ينهد السد، وأن يفيض الطوفان، أن يغرق كل أحد حتى من لم يكن سبباً في ذلك. ولنستحضر حديث أم المؤمنين رضي الله عنها عندما تعجبت وسألت سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ويوم يقول المؤمنون ذلك في هذه الأيام، ويربطون بين ما يحصل من البلاء وما يقع من المعاصي يتهمون بأنهم حمقى ومغفلون، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يبين هذه المخاطر يقول: (والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)، أو ليس قد ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو ليس القرآن قد نص عليه بقوله جل وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]؟ فهل تعليل القرآن وتحليل المصطفى النبي العدنان صلى الله عليه وسلم باطل ولغو؟ حاشا الله عز وجل أن يكون كذلك، فتنبهوا لمثل هذا، وانظروا إلى تشريع الإسلام الحكيم الضابط في كل جانب من هذه الجوانب، وكيف جعل بين الحلال والحرام أموراً تكون بمثابة الوقاية والحماية، وكلكم يحفظ حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، ابحث في حياتك كل أمر من المعاصي الواضحة ارتكبته فانظر إلى الخلف قليلاً فإنك واجد أموراً من المشتبهات، وأموراً مما فيه قليل أو يسير من المحرمات كان هو طريقك إلى هذا، فاقطع الطريق من أوله، واقطع على الشيطان وسواسه، فإن ذلك مؤذن بما هو أخطر. ولعلي -وأنا أذكر ذلك- أستحضر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة في سننه منفرداً به، ورواه الحاكم وصححه في قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، وهذا هو الواقع ينطق ويشهد بما أخبر به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. ولاشك أن كل معصية ومخالفة هي سبب لحصول سخط الله عز وجل وغضبه، وما أدراكم ما غضب الحق جل وعلا، في قصة موسى عليه السلام مع فرعون لما طغى وبغى وتجبر وتكبر قال الله جل وعلا في شأنه وشأن من تبعوه: {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف:55] أي: أغضبونا، {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56]. ويكفينا كذلك ما جاء في القرآن في قصة قوم لوط وفي أوصافهم فيما ارتكبوه من الشذوذ الذي فشا في دنيا الناس اليوم والعياذ بالله، كل وصف قبيح، وكل سمة رذيلة ذكرت عن هؤلاء في القرآن: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166]، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81] وفي دعاء لوط عليه السلام: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30]، وفي قوله كذلك: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:84]، وعنهم قال الحق جل وعلا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، وخاطبهم لوط فقال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] الفاعلون لهذه الفاحشة قوم عادون، مفسدون مجرمون في الغي سادرون، ليس لهم عقل ولا رشد. وتأتينا العقوبات والحدود الإلهية من جلد الزاني غير المحصن، ورجم الزاني المحصن، وقتل من يفعل فعل قوم لوط، فيقولون لنا: إن هذه عقوبات ليست إنسانية، وتتعارض مع حقوق الإنسان، ولا يدركون أنهم يقتلون الإنسان بالملايين، ويفعلون ذلك عن سبق علم وإصرار كما يقال، حتى بلغت الوفيات بمثل هذه الأعداد المذهلة والأسباب المباشرة هي هذه الجرائم والفظائع والفواحش، وهكذا نجد أن الله عز وجل قد آتانا في الإيمان والإسلام والشرائع والأحكام ما يحفظ نقاء القلوب، وشرف النفوس، ورشد العقول، وسلامة الجوارح، وطهارة المجتمع، وعفة ورفعة الأخلاق، فإذا تنكبنا نهج ربنا، وخالفنا هدي رسولنا فلنؤذن بما قدره الله عز وجل من البلاء والهلاك، نسأل الله عز وجل السلامة. اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واصرف عن بلاد الحرمين كل سوء ومكروه يا رب العالمين! أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

إحصاءات الآثار المترتبة على إدمان الدخان

إحصاءات الآثار المترتبة على إدمان الدخان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى اجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والمباعدة عن الحرام، والتوقي من الشبهات، ولعل هذه الخطايا ذات البلايا كثيرة ليست بهذه الفواحش، وليست في التدخين، وإنما كذلك في المخدرات وغيرها، ولسنا في هذا المقام بصدد الإحصاء والذكر لكل شيء، غير أني وقد ذكرت شيئاً عن هذا المرض الخطير قد يقول بعضكم: نحن بعيدون عنه، وفي منأى منه، لكني مرة أخرى أعود بكم إلى التذكير وإلى الإضافة في شأن التدخين، وما أدراك ما التدخين! لعلي أستطيع أن أقول: إن هذا الجمهور الكريم فيه نسبة قطعاً من المدخنين، ولتكن عشرة بالمائة أو عشرون أو أكثر أو أقل، أقول مرة أخرى: إن الإحصاءات قد أثبتت لنا أن قتلى التدخين أكثر، بل قد يصلون إلى ضعفي قتلى الإيدز، فإذا كنا ولابد نفكر وندرك ونحلل فإننا ندرك أن هذا الخطر أعظم، وأن أثره أكبر، وأن مصيبته وبليته أجلى وأظهر. وتقول الدراسات: إن أعظم الأسباب التي ينتج بها الوفاة بعد قدر الله عز وجل من أسباب التدخين أمراض القلب والأوعية الدموية، ويليها مرض سرطان الرئة التي يتلفها ويحرقها التدخين حتى تصل بصاحبها إلى الوفاة، وأن الوفيات تراوحت الأعمار فيها ما بين الثلاثين من العمر إلى تسعة وستين، وأن هذه الأعداد في تزايد مستمر. وأنتقل مرة أخرى إلى إحصاءات تخصنا في بلادنا لنقول: إن الإحصاءات وبموجب قراءات رسمية كانت في عام (1984م) تجعل المملكة ثالث دولة مستوردة للدخان في العالم كله، وأن الذي أنفق من الأموال والاستيراد في عام (1990م) على سبيل المثال كان متجاوزاً لمليار ريال، أي: ألف مليون من الريالات، وهنا للمقارنة البسيطة، نقول: إن مسئول الصحة عن مرض الإيدز أخبر: أن وزارة الصحة قد أنفقت أربعة وعشرين مليوناً في مسائل الإيدز وعلاجه وفحص الدم وغيره، وانظروا إلى ألف مليون في عام تسعين، ثم زادت في عام واحد وتسعين إلى ألف وأربعمائة مليون ريال، ثم هي في تزايد مستمر، حتى قدرت الإحصاءات في أعوام قريبة ماضية بأن الاستهلاك يصل إلى خمسة وعشرين مليار سيجارة. وبحسابات عملها بعض الباحثين أثبتوا فيها أنه لو كان عدد السكان خمسة عشر مليوناً، وأن ثلثهم يدخنون، فإن نصيب كل واحد في العام خمسة آلاف سيجارة، وأن نصيبه في اليوم الواحد أربع عشرة سيجارة، وهذا معدل واقعي موجود، وأن النتيجة بعد ذلك وبعد كل إهدار هذه الأموال هي الأمراض الفتاكة والقاتلة، ثم يأتينا من بعد مدخنون أو غير مدخنين ويقولون: من قال إن الدخان محرم؟! فأمر يفتك بالصحة قطعاً، ويؤدي إلى الهلاك حتى الموت إثباتاً علمياً طبياً، ويتلف كل هذه الأموال، ويسبب ما يسبب من أضرار أخرى اجتماعية وغير اجتماعية، ثم بعد ذلك نقول: إنه حلال زلال، أو نقول: إنه مفيد ونافع، أو إنه يمكن أن يدل على الرجولة أو البطولة! ولو أردنا أن نكون واقعيين فلنسأل كل أب مدخن: هل ترضى أو تحب أو لا تمانع على الأقل أن يصبح أبناؤك مدخنين؟ لقال بصوت عال: كلا، ولرفض ذلك، فلو كان فيه خير أو كان فيه شيء من منفعة أفلا تحبه لأبنائك؟! وأعجب من المدخنين يعلمون كل ذلك ثم لا يمتنعون عن التدخين، ويدخلون إلى شهر رمضان ويصومونه كله، ويمتنعون في نهاره وإن طال عن التدخين، ثم يعودون إليه. وقد لقيني في أول أيام العيد أحد المصلين، ولحقني إلى الباب وهو يقول: إنني مدخن منذ اثنين وأربعين عاماً، وأبشرك بأنني مع رمضان امتنعت عن التدخين، ويطلب الدعاء ألا يعود إليه، فتصوروا كم أنفق من الأموال في أعوامه الأربعين، ولو أنه ادخر هذا المال وأنفقه في سبيل الله أو أطعمه لعياله لكان له في ذلك خير وأجر أعظم وأكبر وأفضل. ولا شك أننا -أيها الإخوة- نحتاج إلى نكون صرحاء في مثل هذا الأمر، ولعلنا ونحن في بيت من بيوت الله وفي يوم جمعة أغر أن ندعو الجميع من المدخنين في هذه اللحظة أن يعقدوا في أنفسهم العزم، وأن يقولوا في أنفسهم عهداً مع الله عز وجل أنهم في هذه اللحظة وعند خروجهم من هذه الجمعة سيقاطعون التدخين إلى الأبد؛ لأنهم يعلمون مضرته، ويعلمون ما ينفقونه ويهدرونه فيه من مال، وما يسببه لهم من إحراج اجتماعي، فنسأل الله عز وجل لهم أن يعينهم على ذلك، وأن نكبت أعداءنا بأن لا نستهلك هذه السموم التي يصدرونها لنا. تقول الإحصاءات مؤخراً: إن أمريكا والعالم الغربي عموماً يقل فيه التدخين في الأعوام الأخيرة في كل عام (10%) وأنه يزداد في دول العرب والمسلمين، وكأننا نأخذ ما يتركونه، وهم يصنعون ونحن ندفع الأموال لحرق قلوبنا ورئانا، ولإهلاك صحتنا، نسأل الله عز وجل السلامة. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم جنبنا المحرمات، وباعد بيننا وبين السيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت. اللهم أعنا على ترك المنكرات، ومجانبة الشبهات يا رب الأرض والسماوات! اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم وفقنا للصالحات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت. اللهم إنا نسألك صحة أبداننا، وسلامة قلوبنا، وبركة أوقاتنا، وصلاح وبر أبنائنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وخذهم اللهم أخذ عزيز مقتدر. اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم اللهم لمن خلفهم آية. اللهم إنا نسألك أن تهزمهم، وأن تنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! عاجلاً غير آجل يا رب العالمين اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، وأقر اللهم أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم ثبت إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك بإخواننا المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

دعوة للتطهير

دعوة للتطهير يهتم الناس اليوم بالنظافة المادية والطهارة الحسية اهتماماً بالغاً، لكنهم لا يولون الجانب المعنوي والتطهير النفسي الباطني أي اهتمام، ولأجل هذا نزل بالأمة من البلاء والفتن ما الله به عليم. وهاهم العلماء ينادون الناس إلى الرجوع إلى أنفسهم لتطهيرها بالأعمال الصالحة، ويلفتون أنظارهم إلى أهمية تطهير المجتمعات والحكومات من السياسات الفاسدة، والأمراض الاجتماعية الخطيرة.

أهمية التطهير المعنوي

أهمية التطهير المعنوي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدانا الله به من بعد ضلالة، وأعزنا من بعد ذلة، وكثرنا من بعد قلة، وقد جعلنا عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

تطهير القلوب من وحل الشرك

تطهير القلوب من وحل الشرك فلذلك لابد أن نسعى إلى تطهير القلوب، وإلى تطهير العقول، وإلى تطهير الجوارح عما حرم الله سبحانه وتعالى، وأول أمر وآكد أمر: التطهر من كل صورة من صور الشرك صغيراً كان أو كبيراً، ظاهراً كان أو باطناً. طهروا قلوبكم من التعلق بغير الله عز وجل، طهروا قلوبكم من التوكل على غير الله سبحانه وتعالى، نزهوا قلوبكم من الخوف من غير الله عز وجل، نزهوا قلوبكم من الرجاء لغيره سبحانه وتعالى، فإن كثيراً من الناس اليوم قد بات تعلقه بغير الله أكبر، واعتماده على غيره أكثر في صور عملية كثيرة. وإضافة إلى ذلك: فإن شين الرياء والتصنع قد طم وعم في مجتمعات المسلمين، حتى قل المصلحون وندر وجودهم، بل من أخلص لله عز وجل عد في الناس غريباً شاذاً، بل ربما عده بعضهم ساذجاً لا يعرف كيف يغتنم الفرص، ولا كيف يعيش الحياة كما يقولون. ولذلك أيضاً: هناك صور أخرى قد شاعت في بعض مجتمعاتنا مما يتناقض مع كمال الإيمان وصفاء التوحيد، أعني بهذا القول: ظاهرة الاعتماد والتعلق الكبير بالجن والسحر والشعوذة والكهانة، وقد شاعت بين الناس في صور كثيرة، وظهرت بينهم وكأنه ما قد وقع فيهم قول الله سبحانه وتعالى بأنهم زادوهم رهقاً، فاستسلموا لهم، وخافوا منهم، والتجئوا إليهم، وسرى بين الناس هذا الداء سرياناً كبيراً، فنحن نرى له صوراً عديدة في واقعنا، فإذا حقد أحد على أحد التمس له من يسحره، أو من يسلط عليه بعض الجان، أو من يقرأ له كفاً، أو من يكتب له حرزاً أو غير ذلك، وتعلقت القلوب بذلك تعلقاً غير مشروع يجرح في أصل إيمانهم، وفي كمال توحيدهم. وغير ذلك كثير من صور عدم صفاء المعتقد وكمال التوحيد، ومن ذلك: الرضا بالمنكرات إذا كان رضاً قلبياً، والرضا بحكم غير حكم الله عز وجل إذا كان رضاً كاملاً باطنياً؛ فإن ذلك إشراك بالله عز وجل في أعظم حقوق الألوهية، وهو حق الحكم والحاكمية لله عز وجل، وكذلك في إقرار الحق، وإبطال الباطل، ومعرفة الحرام من الحلال، وإن ذلك من أعظم صور الكفر كما ورد في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه لما أخبره المصطفى صلى الله عليه وسلم عن عبادة اليهود والنصارى للأحبار والرهبان، قال: (إنهم يا رسول الله لم يعبدوهم. قال عليه الصلاة والسلام: أوليس قد أحلوا لهم الحرام، وحرموا لهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم). فهذا جانب لابد من تطهير القلوب منه، وتنقيتها من أدناسه؛ لأنه أخطر أنواع الإشراك، وأشدها فتكاً، وأكثرها ضرراً في حياة المرء المسلم؛ لأنها ترتكز وتتصل بأعظم أساس، وهو أساس الإيمان والتوحيد بالله عز وجل. وهذا باب يطول الحديث فيه جداً.

اهتمام الناس بالتطهير الحسي

اهتمام الناس بالتطهير الحسي أيها الإخوة المؤمنون! في ظلال آيات الله سبحانه وتعالى نبقى اليوم مع آية من هذه الآيات العظيمة، التي تُعلِّمنا ما ينبغي أن نكون عليه، وتحثنا على ما فيه خيرنا في دنيانا وأخرانا. يقول الحق جل وعلا: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، وفي موضع آخر يقول الحق جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. هذه الآيات تشعرنا بأن الحق جل وعلا يحب المتطهرين، وذلك لا شك موجب من موجبات السعي إلى هذا التطهر ما دام فيه مرضاة الله عز وجل، وما دام المتحلي به يكون محبوباً عند الحق جل وعلا. والتطهر: هو التنزه عن الأدناس، والبعد عن الأرجاس، وحسن المعاملة مع الناس. فالتطهر: هو أن تبقى محافظاً على ما من شأنه أن يجعلك بين الناس وضيئاً وجيهاً، وعند الله سبحانه وتعالى محبوباً مقرباً. هذا التطهر يظهر في أمرين واضحين من خلال الأمور العادية المحسوسة التي نعيش فيها ونتعامل بها. إن التطهر يقتضي أولاً: أن تبتعد عن أسباب الأقذار والأوساخ، فإذا لبس الواحد منا ثوباً نظيفاً أو جديداً فإنه يكون أشد تحوطاً وأكثر تنبهاً من ورود أماكن الأوحال، أو من المرور بأماكن القاذورات، فإذا اضطر وكان قريباً منها فإنه يسعى إلى أن يرفع ثوبه، أو أن يحفظه بما يقيه من هذه الأدناس والأوساخ، ولكنه قطعاً مع شدة تحوطه واحتياطه، ومع عظيم تنزهه وابتعاده سيمر اليوم واليومان والأسبوع والأسبوعان، وسيجد أنه قد أصاب ثوبه بعض القذر، فهل يا تراه يسكت عن هذا ويرضى به؟ إنه يسعى مباشرة إلى خلعه وتنظيفه من جديد؛ لتعود له وضاءته وبياضه ونصاعته؛ لأنه يحب أن يكون متطهراً متجملاً. وقد تفنن الناس اليوم كثيراً في أسباب التطهر المادي، فهذه أنواع متعددة من الصابون الذي يزيل الأوساخ، والذي يجعل الملابس أشد نصاعة وبياضاً كما يقولون، وهناك مطهرات للفم، وهناك مطهرات للفرش، وهناك مطهرات للحيطان، وهناك مطهرات للبلاط، وهناك مطهرات تجمع مع التطهير طيب الرائحة، وأخرى -كما يقولون- تجمع مع التطهير لمعاناً وبريقاً. ويظل Q أين مطهرات القلوب؟ وأين مطهرات العقول؟ أين تطهير البواطن؟ أين السعي إلى التطهير الذي يكون به العبد محبوباً عند الله سبحانه وتعالى؟!

تطهير القلوب من دنس المعاصي

تطهير القلوب من دنس المعاصي إن أمر التطهر عظيم جداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نص على أن المتطهرين عنده من المحبوبين، وهذه منزلة عالية لا تكون لأمر من الأمور العارضة، ولا لعمل من الأعمال الظاهرة، بل تكون لجوهر يتصل بأصل الإيمان وجوهر الإسلام؛ فلذلك ينبغي أن ننظر إلى التطهر من هذه الزاوية؛ أعني من زاوية أن شأنه عظيم، وأن أمره خطير، وأن منزلته عند الله سبحانه وتعالى رفيعة. ولهذا التطهر مجالات واسعة، وعلى نفس ونهج التطهر المادي ينبغي أن تكون لنا عناية وأسباب وأعمال وحرص وتحوط في مسألة التطهر المعنوي الباطني! وكما أن الأصل في التطهر المادي الاحتياط والبعد عن الأدناس والأقذار، فكذلك يكون هذا التطهر المعنوي الإيماني التربوي. ثم إذا أصابت الإنسان بعض هذه الأقذار، وألم ببعض الذنوب، وضربت عليه الغفلة؛ فإنه لا يرضى أن يبقى وسخ الثياب، يخرج إلى الناس فتشمئز نفوسهم منه، وتنصرف أبصارهم عنه، وتتأفف أنوفهم من كراهية رائحته، فكما يسعى بعد وقوع الأقذار على تطهيرها وغسل ثيابه منها، فلابد له أيضاً أن يكون له بعد احتياطه في البعد عن الذنوب والمعاصي أموراً تغسل هذه الذنوب، وتبيد هذه الأوضار، وتعيد له وضاءه الإيمان، وإشراقة الإسلام، ونصاعة التوحيد، وبريق الطاعة لله سبحانه وتعالى. ومن هنا نجد النهج القرآني الذي يدلنا على هذا الأمر، فالله عز وجل قد أمر المؤمنين أن يغضوا أبصارهم، وأمر المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن، وقال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، فهذا المنهج لنيل الطهارة هو البعد عما يشوبها، أو عما يدنس قلب الإنسان ونفسه من هذه الذنوب والمعاصي، والله عز وجل قال في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وفي آية غض البصر قال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، فهو فيه الطهارة والتزكية، فالأصل في طلب هذا التطهر هو التجنب والحذر من الوقوع فيما حرم الله عز وجل. فإن المرء يقيس التطهر المعنوي على التطهر الحسي، فهل يرضى أن يكون في ثوبه بقعة سوداء ولو كانت صغيرة؟ إنه يراها عواراً وتشوهاً في ذلك البياض الناصع، وكذلك المعصية إن كانت صغيرة كانت كذلك، فإذا سكت وغض الطرف عن هذا، فإذا جاءت أخت لها كانت أهون منها، ثم إذا تكاثرت هذه النقاط من الأقذار والأوساخ فإنه ربما لا يكترث لها، فإذا جاءت ثالثة ورابعة رأى أنه قد سبقتها أخوات، وأنه لن يكترث لها، ثم إذا أراد بعد طول عهد أن يطهر ثوبه فإنه يجد صعوبة، ويحتاج إلى كثير من المطهرات، وإلى قوة دلك، وإلى غير ذلك؛ لأنه لم يسبق إلى ذلك التطهير أولاً بأول كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما روي عن حذيفة مرفوعاً وموقوفاً: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، فإذا تاب منها واستغفر صقل) أي: القلب، وعاد مشرقاً وضيئاً، وإن لم يفعل ذلك تجمعت هذه الأقذار والنقاط السوداء كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (حتى يصبح قلبه أسود مرباداً كالكوز مجخياً -أي: منكوساً- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).

مظاهر تطهير الجوارح

مظاهر تطهير الجوارح

تطهير الأذن من سماع الحرام

تطهير الأذن من سماع الحرام والأذن أيضاً ينبغي أن تتطهر عن سماع الحرام، وعن تسقط الكلمات بين المتحاورين، والله عز وجل قد بين أن لذلك أثراً، فقال سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]؛ فإن إلانة الكلام والتكسر فيه من المرأة مؤثر في الرجل. وإن الكلام أيضاً قد يكون عوناً على الباطل، وقد ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم زجر ووعيد على من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، فما بالك بالذي يسمع ويتتبع وينظر، ثم ينقل ويتكلم، ثم يعين الظالم على ظلمه، ويوقع المسلم في المهاوي والمهالك؟! أسأل الله عز وجل السلامة! هناك كثير من الصور التي ينبغي أن تتطهر في ذواتنا، والله أسأل أن يطهر قلوبنا، وأن يطهر بواطننا، وأن يطهر ألسنتنا، وأن يطهر أبصارنا وأسماعنا عن كل ما حرم الله عز وجل. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

تطهير الأعين من النظر إلى الحرام

تطهير الأعين من النظر إلى الحرام وأيضاً: طهروا الأعين من النظر إلى المحرمات، وما أكثر ما تجوس العيون يميناً وشمالاً! وما أكثر ترداد الأبصار آفاقاً وآفاقاً! وما أكثر ما تتبع العورات! وتتجسس على المحرمات، ولا تلتفت إلى أن لذلك آثاره العظمى في القلب فيما يشغله عن الله عز وجل، ويعلقه بالشهوات الآثمة والملذات المحرمة! قال الشاعر: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر وقال الآخر: كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر ولذلك نجد كثيراً من المسلمين قد ابتلوا بالنظر إلى المحرمات، إما عياناً في المشاهد الحية، وإما على صفحات المجلات، أو على شاشات التلفاز، أو عبر وسائل أخرى كثيرة قد تفنن الأعداء في جلبها وبثها بين المؤمنين وفي مجتمعات المسلمين؛ حتى يفسدوا عليهم جوارحهم.

تطهير اللسان من الثلب والكذب والنميمة

تطهير اللسان من الثلب والكذب والنميمة وكذلك لابد من التطهر في سائر الجوارح، فلابد أن نطهر ألسنتنا مما تساهل الناس فيه تساهلاً عجيباً غريباً؛ حتى كأنهم لم يسمعوا فيه قرآناً محكماً، ولا أحاديث هادية، فإذا بهم -إلا من رحم الله عز وجل- يكذبون ولا يتورعون عن الكذب، وينسون حديث النبي صلى الله عليه وسلم -كما في مسند الإمام أحمد -: (يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة)، أي: قد يقع منه شيء من المعصية أو المخالفة، لكنه إن كان صادق الإيمان لا يكذب أبداً، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن مغبة ذلك فقال: (وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار). وكذلك صور أخرى من التجاوزات التي أصبح قاموس الألسنة فيها بذيئاً فاحشاً يمتلئ بسباب ما كنا نسمعه من قبل، ويمتلئ بغيبة وتجريح لا تترك ظاهراً ولا باطناً، ولا خفياً ولا معلناً، فإذا مجالس كثير من الناس تتناول أعراض إخوانهم المسلمين تناولاً يتشفون به، وينتظرونه، ويتتبعون الزلات، ويلتمسون العيب للبرآء، في صورة تدل على أن نفوسهم قد أظلمت، وأن قلوبهم قد اسودت، وأن منهاجهم قد انحرفت، وأن تصورهم لهذا الدين قد عراه خلل كبير. إذ أصل الإسلام مبني على براءة المسلم وطهارته، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم موجه إلى حسن الظن بالمسلم، وإلى التماس العذر له، وإلى إقالة عثرته، ومنعه من الوقوع في المعصية، والتماس نصرته وإعانته كما قال عليه الصلاة والسلام: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا: يا رسول الله! قد عرفنا نصرته مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم، فتلك نصرته)، فلابد أن نعرف أن هذه الألسن اللاغية تورد أصحابها المهالك. وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من هذا، وبين خطورته عندما طلبت منه الوصية، فقال عليه الصلاة والسلام: (كف عنك هذا. وأخذ بلسان نفسه صلى الله عليه وسلم)، وكما جاء في حديث معاذ: (قال: يا رسول الله! أو إنا لمؤاخذون بما نقول؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم). هذه الكلمات بين لنا النبي عليه الصلاة والسلام خطورتها بقوله: (إن الرجل ليتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً). فطهروا ألسنتكم من الأقوال المحرمة، ومن الكلام الذي لا نفع فيه ولا فائدة؛ فإن من أعظم صفات المؤمنين ما ذكره جل وعلا بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] واللغو: كل كلام باطل محرم، وكل لغو هذر لا نفع فيه ولا فائدة. وتأملوا إلى صورة الإيمان في كماله عندما يحدثنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن كمال الإيمان: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، عجباً لهذا الربط الوثيق بين الإيمان المستقر في القلب والكلام المنطلق من اللسان! ينبغي أن تفكر قبل أن تنطق الكلمة كيف هي، وما وجهتها، وما حكمها في شرع الله عز وجل؛ ولذلك ذكر أهل العلم -كما أشار النووي في شرح هذا الحديث- أن الكلام إما أن يكون كلاماً استبان رشده ونفعه فيجب النطق به، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، وتوجيه الجاهل، ونحو ذلك مما خرست عنه كثير من الألسن، وانشغلت بغيره من الباطل، وإما كلاماً استبان غيه وفحشه وضرره، فهو مما يجب السكوت عنه وعدم النطق به، من نحو غيبة، أو نميمة، أو سب، أو لعن، أو طعن، أو غير ذلك من جدال ومراء ونحوه. وإما كلاماً لا تدرى عاقبته إلى خير أم إلى شر، فالسكوت عنه أولى. فهل تفكرنا في مثل هذه المعاني؟

تطهير الحكومات والمجتمعات

تطهير الحكومات والمجتمعات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

تطهير السياسة والحكم

تطهير السياسة والحكم أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن هذه التقوى هي في معناها تدل على التطهر، إذ هي أن يتخذ العبد بينه وبين عذاب الله وقاية باتباع ما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر. والتطهر -يا عباد الله- أمره عظيم؛ ولذلك ينبغي أن نسعى جاهدين إلى تطهير قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا تطهيراً نبالغ فيه، ونعتني به، ونحرص عليه ونداوم، ونكرره دائماً وأبداً. وكما نتفنن في جلب المطهرات للأثواب أو البيوت ينبغي أن نحرص على أن نأخذ كل أسباب التطهر القلبي، وكما ذكرت في شأن ذلك التطهر في أفراد المجتمع، فإن هناك صوراً كثيرةً جداً على مستوى المجتمعات -لا على مستوى الأفراد- تحتاج إلى التطهير الذي ينبغي أن يكون جاداً وقوياً، وأن يكون صادقاً وخالصاً، وأن تتظافر الجهود عليه، وأن تتوفر كل أسباب التعاون للقيام به؛ لأنه من أعظم أسباب التعاون على البر والتقوى. ينبغي أن تتطهر مجتمعات المسلمين من أوضار السياسة، بما فيها من النفاق الدولي، والكذب الدائم، والمخادعة التي لا تليق بمسلم، ومن المكر بالمسلمين، وكذلك الولاء لأعدائهم، والبراءة منهم على عكس ما أراد الله عز وجل وأمر به من الولاء للمؤمنين والعداء للكافرين. وصور أخرى كثيرة لعل أبرزها: أن كثيراً من السياسات في بلاد الإسلام لا تعتمد شرع الله عز وجل، ولا ترجع إلى كتاب الله، ولا تحكم بشرع الله عز وجل، وهذا لا شك أنه أعظم الأقذار والأوضار والأوزار التي يعم بلاؤها، وينتشر ضررها، وتفتك أمراضها بالمجتمع أفراداً وجماعات؛ لأن هذه هي التي تصبغ حياة الناس وتفرض عليهم كثيراً من الصور.

تطهير المجتمعات من التقاليد الغربية

تطهير المجتمعات من التقاليد الغربية وكذلك في المجتمعات ما يحتاج إلى تطهير، ومن ذلك: تطهير العادات الاجتماعية من التقاليد الغربية، ومن متابعة أهل الإباحية، وعدم التقيد بالآداب الشرعية، فكما ذكر الله عز وجل في غض البصر جاءنا من يشيع في مجتمعات المسلمين مصطلحات الصداقات البريئة، والزمالة الدراسية، وأن النفوس نقية، وأن القلوب طاهرة، ولا يؤثر فيها خلوة بريئة، ولا مناجاة حبيبة، ولا غير ذلك من الأسباب، إضافة إلى صور من العادات الاجتماعية التي خرج فيها جمهور الناس في مجتمعات المسلمين عن شرع الله عز وجل، كأنهم لا يعرفونه، وجعلوا كتاب الله وراءهم ظهرياً إلا من رحم الله عز وجل. وصور أخرى تحتاج أيضاً إلى التطهير، وهي من أعظم ما يفتك بالناس ويؤثر فيهم سلبياً ولذلك فإن تطهيرها مهم؛ لأن هذا التطهير سينعكس على الناس، وهذا التطهير هو تطهير وسائل الإعلام ومناهج التعليم من كل ما لا يتوافق مع شرع الله عز وجل. ولكل مسلم أن يقيس، وأن ينظر وإن كان حظه من العلم قليلاً، فإنه واجد بين كثير منها وبين شرع الله بوناً شاسعاً، وفرقاً كبيراً، بل معارضة ومعاكسة ظاهرة واضحة لا تؤسس في المسلم الارتباط بالله عز وجل، ولا تحببه في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تربطه بسيرة الصحابة وأجيال الأمة في تاريخها العريق المجيد، بل تعمد إلى عكس ذلك في غالب الأحوال إلا ما رحم الله عز وجل، وذلك في كثير من ديار الإسلام والمسلمين. وكل تلك الانعكاسات لها آثارها، ولا تجعل المجتمع أو الأفراد في المرتبة التي يكونون فيها محبوبين عند الله؛ لأن الله عز وجل يحب التوابين ويحب المتطهرين، الذين يتطهرون من هذه الأرجاس والأدناس والأوزار والأوضار، والمعاصي والآثام، التي عندما سرت وانتشرت وتكاثرت وعظمت؛ ألفها الناس فلم يعودوا ينكرونها، واستمرءوها فلم يعودوا يرون فيها غضاضة ولا تحرجاً، والله عز وجل قد جعل التربية الإيمانية تنبني على شفافية روحية، وعلى طهارة قلبية، وعلى صفاء إيماني يميز فيه العبد بين الحق والباطل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، أي: قلوباً حية تفرقون بها بين الحق والباطل، وأنفساً طاهرة تأبى الأدناس والأرجاس، وروحاً محلقة لا ترضى أن تحوم حول الجثث، بل ترقى إلى آفاق السماء العليا، تطلب هواءً عليلاً، وجواً نقياً، وقمة سامقة.

الغذاء الإيماني الذي يحفظ الطهارة

الغذاء الإيماني الذي يحفظ الطهارة نعم -أيها الإخوة المؤمنون- قد عشنا في الأوحال كثيراً، وقد خالطنا الأدناس كثيراً، فلم يعد أحدنا يتنبه إلى ما يقع على أثوابه الباطنية من هذه الأرجاس والأدناس.

التطهر بالإنفاق واجتناب المال الحرام

التطهر بالإنفاق واجتناب المال الحرام وكذلك أمر مهم لم أشر إليه، وهو قوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، هذا الأمر بالإنفاق هو نوع من تطهير النفس من شحها وبخلها وحسدها للآخرين، نوع من صقلها من هذه الأمراض الخطيرة، ولذلك فإننا أيضاً نحتاج إلى التطهير في الأموال التي خالطها الحرام إلا ما رحم الله، فهذه أموال الربا التي يتعامل بها كثير من الناس ويتعاطونها، وكذلك أكل أموال الناس بالباطل والمخادعة، والتعدي على حقوق الآخرين، واكتساب المال من حل وحرمة. ومن أعظم هذه الصور التي تشيع في مجتمعاتنا: استعباد المستخدمين، وإلجاؤهم بحكم موقع القوة الناشئة عن كفالتهم، أو عن تأشيراتهم، أو غير ذلك، فيجعله يدفع له ضريبة هي أشبه بالمكوس المحرمة دون أن يقدم له شيئاً، ويضطره إلى ذلك اضطراراً، ويجبره عليه إجباراً، ويأكل هذا المال، وهو مال محرم عليه. ومن أعظم الآثار الناشئة عن عدم طيب المطعم: حرمان إجابة الدعاء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ سعد: (أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة). أيها الإخوة الأحبة! إننا في حاجة إلى أن نتنبه إلى هذا التطهر، وأن نطهر أموالنا وبيوتنا وقلوبنا وظواهرنا وبواطننا من كل ما حرم الله عز وجل، أسأل الله أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يصرف عنا أسباب الفسق والفجور والعصيان، وأن يبعدنا عن نزغات الهوى، وأن يسلمنا من نزغات الشيطان وهمزه ونفثه ووسواسه. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام نائمين. اللهم احفظنا من فوقنا، اللهم احفظنا من أمامنا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين. اللهم إنا نسألك لقلوبنا الصفاء والنقاء، ولأبداننا الصحة والعافية، ولذرياتنا الصدق والإخلاص برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وأقل لنا العثرات، وامح عنا السيئات برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم طهر مجتمعاتنا من كل ما لا تحبه ولا ترضاه برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم طهر سائر أوضاعنا عما لا تحب وترضى يا أكرم الأكرمين. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن ترفع راية الحق والدين، وأن تنكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم يا سميع الدعاء! يا قوي يا عزيز! يا منتقم يا جبار! نجعلك اللهم في نحور أعدائنا، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، ونسألك اللهم أن تحصيهم عدداً، وأن تقتلهم بدداً، وألا تغادر منهم أحداً، وأن ترينا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، وأن تزلزل الأرض تحت أقدامهم، وأن تأخذهم أخذ عزيز مقتدر. اللهم نكس جباههم، وسود وجوههم، وأذل أعناقهم، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم يوماً أسود قريباً يا سميع الدعاء! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم رحمتك بعبادك المؤمنين المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ارزقهم الصبر عند البلاء، اللهم وارزقهم الرضا بالقضاء، اللهم وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وفرج كربهم، ونفس همهم يا أرحم الراحمين! اللهم وانصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، انصرهم على عدوك وعدوهم يا حي يا قيوم! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وأقم الصلاة؛ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

التطهر بالأعمال الصالحة

التطهر بالأعمال الصالحة إن الأمر يحتاج إلى الاجتناب والابتعاد أولاً، ولا يكفي ذلك؛ بل يحتاج إلى مزيد من التطهر بأعمال مباشرة يبتغي بها العبد زكاء نفسه، ونظافة قلبه، وإحياء روحه، وتقوية عزمه، وصفاء ذهنه، وقوة عقله، وذلك لا يكون إلا بالطاعة والعبادة لله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]. وتأمل ما وصف الله عز وجل في شأن هذا الغذاء الإيماني الذي يحفظ الطهارة، ويديم الوضاءة: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37]، جاءت هذه الآية بعد الآية التي ضرب فيها المثل لإشراق الإيمان في قلب المؤمن، وهي قوله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] أين هذا الضياء؟! أين هذا الإشراق؟! أين نجد هذا الغذاء؟! أين نجد هذا الزاد؟! يأتي الجواب في الآية التي بعدها مباشرة: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، فلابد للعبد أن يطهر نفسه وقلبه، وأن يزكيها بدوام الخضوع، واستمرار السجود، ودوام الذكر، ولهج اللسان بالتحميد والتنزيه والتعظيم لله سبحانه وتعالى، وإرسال البصر للتفكر في عظمة خلق الله عز وجل، والسماع لآيات القرآن ولمواعظ الذكر، ذلك كله تطهير للنفس من أوضارها، وتزكية لها ورفع لمستوياتها. ولذلك قال الله عز وجل: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، أي: في بيوت الله عز وجل والتي لم يعد يرتادها كل المسلمين اليوم، وإذا ارتادوها فإنهم سريعاً ما ينصرفون عنها، ويخرجون منها، فلم تعد قلوبهم معلقة ببيوت الله عز وجل حتى ينالوا وصف المحبة، وحتى ينالوا كرامة التظليل بظل عرش الله عز وجل، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منها حتى يعود إليها).

العلم والدعوة

العلم والدعوة العلم والدعوة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً ببعضهما، ولا تعارض ولا تنافر ولا تخاصم بينهما، فعلى المرء المسلم أن يجعلهما مسار تعاون وتعاضد وتناصح، وأن يكونا مكملين لبعضهما دون إفراط ولا تفريط.

مقدمة بين يدي موضوع العلم والدعوة

مقدمة بين يدي موضوع العلم والدعوة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسار على هديه واتبع سنته. وبعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا بحمد الله تعالى هو الدرس الثاني والستون وعنوانه: العلم والدعوة، وينعقد في يوم الجمعة الموافق للخامس والعشرين من شهر شوال عام (1413هـ) ولهذا الموضوع قصة أذكرها قبل ذكر نقاط هذا الموضوع، فقد دعيت مرة للمشاركة في برنامج مفتوح للتوعية الإسلامية في الجامعة، وكان المنظمون قد اختاروا اجتهاداً منهم عنواناً متعلقاً بالدعوة، وعندما حضرت إلى اللقاء كان عدد الحاضرين ربما لم يتجاوزوا عشرة أشخاص، وفي غالب الظن يتصور أن مثل هذا العدد قد يضعف العزم على الحديث أو الحماسة فيه أو الإتقان له، غير أني والحمد لله رأيت أن في هذا خيراً؛ إذ عندما يقل السامعون يتوجه الخطاب بشكل أكثر مباشرة، ويكون الاستيعاب والسؤال والجواب وما يتعلق بذلك أكثر تركيزاً وعمقاً، وعنَّ لي في ذلك المجلس أن أتحدث عن العلم من خلال الواقع الذي يعيشه جيل الصحوة على وجه الخصوص، ومن غير تحضير مسبق ولا إعداد مادة ترسلت في الحديث، الذي كنت أظنه كلمة عابرة لا تتجاوز عشر دقائق أو ربع ساعة حتى أذن العشاء ولما نفرغ من الحديث بعد، وكان حديثاً طيباً بحمد الله سبحانه وتعالى، واتفق أن دعيت في اليوم الذي يليه إلى القاعدة البحرية من خلال دعوة من الشئون الدينية فيها، فكان الموضوع لا يزال عالقاً بالذهن فأعدته عليهم فترسخ أكثر ثم دعيت في أول هذا الشهر إلى لقاء ضم عدداً من الإخوة الدارسين في مجالات العلوم والهندسة من طلاب جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وكان من ضمن ما ذكروا من الأسئلة والإشكالات في ذلك اللقاء ما يتعلق بالعلم والدعوة إذ هم منشغلون متفرغون لتلك العلوم التي سجلوا فيها وتخصصوا فيها من هندسة أو كيمياء أو فيزياء أو اتصالات أو غير ذلك، وعندهم شوق لطلب العلم الشرعي، وقد لا يستطيعون الجمع بينهما، ثم كان هناك نظرات يستفسرون عنها، فمن طالب علم قد بذل جهداً ووقتاً كبيراً في طلب العلم ينظر إلى من يشتغل بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظرة فيها شيء من الازدراء والاحتقار باعتبار أنه لم ينل حظه من العلم مثل ما نال، وآخر مشتغل بالدعوة بما عنده من يسير العلم ينظر إلى من أكب على حلق العلم ودروسه وشغل بحفظ المتون وغير ذلك نظرة يرى أنه قد تخلف بها عن واجب كان أولى به أن ينخرط في سلك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا كانت مسألة العلم والدعوة وارتباطهما مسألة مطروحة في الساحة بين الشباب، فرأيت أن أستحضر ما سلف في تلك اللقاءات والأحاديث، وأن أضم شتات ما ذكرته فيهما، ثم عدت إلى مراجع وكتب لأؤيد ما كنت قد ذكرته من ذاكرتي ومن خلال ما اجتهدت فيه؛ حتى يكون أدعى إلى التوفيق والقبول والإفادة.

ملامح في منهجية العلم

ملامح في منهجية العلم إن هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالعلم وحده. القسم الثاني: يتعلق بارتباط العلم بالدعوة. الحق أنني لا أريد أن أشغلكم بكثرة ما أعددت من نقول ونصوص، بل أحب أن أترسل لأخاطب إخواني بما نلامسه ونعايشه في واقعنا، من خلال هذا الموضوع على وجه الخصوص، وبقدر ما يتسع له الوقت نستشهد بشواهد وآثار فيما يتعلق بسير وتراجم لأئمة علماء السلف رضوان الله عليهم أجمعين.

طلب العلم العيني والكفائي وضوابطهما

طلب العلم العيني والكفائي وضوابطهما فيما يتعلق بالعلم أتحدث عن ملامح في منهجية العلم، وأذكر عشر نقاط: أولها: العينية والكفائية في طلب العلم. لابد لنا أن نعرف أن قضية طلب العلم ليست قضية ذاتية تخضع للعواطف التي قد تمليها الأوضاع والأحوال على بعض الشباب، فإن بعضاً منهم قد يكون حديث عهد بالتزام وقريب عهد بإقبال على الخير، فإذا ارتاد مجالس العلم ويسمع عن طلب العلم وضرورته وأهميته وطلبة العلم والعلماء حينها يظل صدى هذه الكلمات يتردد في ذهنه فيندفع من غير بينة، ومن غير معرفة للأولويات وما هو أكثر أهمية وأولى تقديماً من غيره. إن مسألة العلم مسألة لها ضوابطها الشرعية وأدلتها النصية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن لها تطبيقاتها العملية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وسيرة كثير من علماء الأمة وأئمتها، فليست المسألة اندفاعاً عاطفياً ولا رغبة عند إنسان يحب اطلاعاً أو حفظاً أو يجيد بعض المسائل والبحث فيها، بل لابد له من مراعاة الضوابط الشرعية، ومن هنا قبل أن يقبل الطالب لابد أن يعرف ما هو الواجب العيني من طلب العلم؟ وما هو الواجب الكفائي؟ الواجب العيني: هو ما يجب على كل أحد بعينه، فهذا لا شك أنه الأول والمقدم الذي لا ينفك عنه مسلم مطلقاً، وأنه لابد أن يعلمه؛ لأنه لا يصح اعتقاده ويخلص ويبتعد من نواقض التوحيد ومداخلات الشرك إلا به، وهو الذي لا تصح عبادته إلا به؛ لأن به ينجو من الابتداع وغير ذلك من المخالفات الشرعية التي تبطل عبادته وتذهب صحتها وأجرها عند الله سبحانه وتعالى. كما أن به معرفة ما يتعلق بالأحكام التي يفتقر إليها في معاملاته من زواج وطلاق، ويتعلق بمعاملاته المالية وغيرها، وألوان أخرى كثيرة. إذاً: الواجب العيني هو المعلوم من الدين بالضرورة. هذا الذي ينبغي ألا يتخلف عنه مسلم، وينبغي أن يكون أول ما يبدأ به على كل حال وفي كل آن. إذاً: المسلم عندما يبلغ سن التكليف عليه أن يعرف دين الله عز وجل وأن يبدأ بهذه المعارف، ثم هناك فروض كفايات قد يحتاج إليها بعض الناس دون بعض، وقد يحتاج إليها المرء في وقت دون وقت، وقد مثل لها أهل العلم بالآتي: إن كان المسلم فقيراً ليس ذا مال فإنه لا تجب عليه في هذه الحالة معرفة أحكام الزكاة، سيما على وجه التفصيل، فإن وجد مالاً بلغ نصاباً لزمه أن يتعلم من أحكام الزكاة ما يخرج به حق الله عز وجل، وما يعرف به الحكم الشرعي في هذا الركن من أركان الإسلام، وكذلك الذي لم يتيسر له الحج قد لا يكون واجباً عليه في الحال معرفة أحكام الحج، فإذا عزم عليه وتوجه إليه لزمه أن يعرف ما تصح به هذه الفريضة، وما هي واجباتها وفرائضها؟ وما هي سننها وآدابها؟ وما يترتب على الإخلال بشيء مما يجب عليه أو يفترض أو يسن أو يستحب، إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه لتصح به عبادته وهكذا، فإذا أراد أن يتزوج تعلم أحكام النكاح والطلاق وما يلحق بذلك، وهناك علوم أخرى غير العلوم الشرعية المباشرة، وهي العلوم التي بها صلاح الناس في هذه الدنيا، وتسيير أمور حياتهم من طب وهندسة وحساب وغير ذلك، هذه واجبات كفائية تجب على الأمة بعمومها، فإن قام بها البعض سقطت عن الباقين، ولكن لابد أن يكون في الأمة من ينتدب لها ويتفرغون لها ويبدعون فيها ويتوسعون في معارفها ودقائقها حتى يغني هؤلاء الأمة فيما تفتقر إليه من الطب أو الاقتصاد أو الهندسة أو الحساب أو غير ذلك من أسباب القوة المادية والمعنوية لهذه الأمة. إذاً: لا ينبغي أن يختلط الأمر على المرء فيبدأ بما هو أقل أهمية قبل ما هو أعظم وأكثر أهمية. إذاً: لابد أن نعرف أن هناك قسمين: العلوم غير الشرعية: وهي أوسع من علوم الشرع. العلوم الشرعية وتنقسم إلى قسمين: علوم شرعية على هيئة فرض الكفاية، وعلوم شرعية على هيئة فرض العين، وبعد ذلك تأتي تقسيمات أخرى أذكر بعضاً منها: يقول ابن حجر رحمة الله عليه: المراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف في أمر دينه وعبادته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص. ويفصل ابن القيم رحمة الله عليه في أعلام الموقعين تفصيلاً أوسع وهو يذكر أنواع العلوم الأساسية، يقول: النوع الأول: علم أصول الإيمان الخمسة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ذكر ما ورد في الآية الجامعة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ} [البقرة:177] إلى آخر ما في هذه الآية. النوع الثاني: علم شرائع الإسلام واللازم منها، وعلم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها. النوع الثالث: علم المحرمات الخمسة التي اتفقت الرسل والشرائع والكتب عليها: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فهذه محرمات وردت على لسان كل رسول لا تباح قط، ولذلك أتى فيها بـ (إنما) المفيدة للحصر. النوع الرابع: علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصاً وعموماً، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرانه، وليس الواجب على من نصب نفسه لأنواع التجارات من تعلم أحكام البيوعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجة إليه. وأما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطاً صحيحاً، فإن كل أحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضاً، وبالجملة فالمطلوب والواجب على العبد من العلوم والأعمال ما إذا توقف عليه شيء منها كان ذلك الشيء واجباً وجوب الوسائل، يعني: على غرار القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا احتاج لأمر وجوبي ورأى أنه لا يمكن تطبيقه إلا بعلم بعض مسائله وفروعه، كان ذلك العلم الذي يوصله إلى تطبيق ذلك الحكم الواجب أمراً واجباً عليه. وقال في آخر الأمر: ومدار هذه العلوم الشرعية على التفسير والحديث والفقه. ويقول ابن عبد البر رحمة الله عليه: أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع. قال: واختلفوا في تلخيص ذلك. وساق مقالة طويلة ذكر فيها تفصيلاً من أمور الاعتقاد والعبادة والمعاملة التي يجب على المرء عيناً أن يعرفها. وقد وضع بعضهم ضابطاً لما يتعلق بالفرض الكفائي، فقال: وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا على وجه الخصوص. وذكر الغزالي أيضاً مقالة ضافية في ذلك قال فيها: اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية: ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل: الحساب، ولا التجربة إليه مثل: الطب، ولا السماع مثل: اللغة. أي: العلوم التي وردت عن طريق الوحي بالرسل والأنبياء. ثم قال: فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، ومنها ما هو مباح. فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وغير ذلك، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة. ثم ذكر أنواعاً من هذه العلوم. فإذاً: لابد للأخ المسلم أن يعرف ما يجب عليه عيناً، وذلك بمعرفة الأسس اللازمة التي هي معلومة من الدين بالضرورة، والتي لا يعذر المرء بجهلها، والتي يعرف بها أول دخوله في هذا الدين ونطقه بالشهادتين، وأول ذلك ما يتعلق بالإيمان والاعتقاد في ذات الله عز وجل وكتبه ورسله وأنبيائه واليوم الآخر والقدر خيره وشره على سبيل الإجمال، وليس المرء مطالباً على سبيل التفصيل، والرد على كل فرقة، والاستنباط من كل دليل؛ فإن ذلك ليس مطلوباً على سبيل الوجوب العيني، بل هو مخصوص بمن تهيأ لطلب العلم أو احتاج إليه، أو كان يرد على بعض من خالف أو ابتدع، أو كان ممن يستفتى ويسأل في مثل هذه المسائل. ثم على المرء أن يتعلم ما يجب عليه من أمر العبادات من طهارة وصلاة وصيام وزكاة إن كان ذا مال وحج إن قصد إليه، فهذا لا شك أنه من أوجب الواجبات وألزم اللازمات، ثم بعد ذلك ما يتعلق بأمور المعاملات ومعرفة المحرمات بالإجماع وهي المعلومة من الدين بالضرورة، كحرمة الخمر وحرمة الزنا وغير ذلك مما يلحق بهما كالكذب ونحوه، ثم بعد ذلك للمرء أن يتوسع بما يحتاج إليه أو يرى ميله إليه إلى غير ذلك من الأنواع.

ضرورة التنوع والتوزع في العلوم الشرعية الكفائية

ضرورة التنوع والتوزع في العلوم الشرعية الكفائية النقطة الثانية: هي التوزع والتنوع. بعد أن يعرف المسلم العلم من فرض عيني وكفائي، نقول: إن في الكفائي ما يحتاج إلى تنوع وتوزع، فلو سمعت من ينتدب لعلم الحديث على سبيل المثال يقول لك: إن علم الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف هو أهم المهمات وأولى الأولويات، ويذكر لك ما هو صحيح في نفس الأمر، فإذا بكثير ممن يسمعونه يتوجهون إلى قوله، ونرى أن جلّ طلاب العلم توجهوا ليكونوا محدثين، ولم نجد بعد ذلك فقيهاً يستنبط لنا مما رواه هؤلاء الكثرة الكاثرة من الرواة. أو قد تجد من يقول لك وهو محق في ذلك: إن علم الاعتقاد والتوحيد هو أساس كل شيء وأوله ومبدؤه، وبتوجيهه هذا يجعلك تظن أن التشريعات والتفصيلات والردود في هذا العلم أولى بك من أن تعرف علم تفسير كتاب الله عز وجل، أو فقه الأحكام الشرعية، أو صحة الأحاديث النبوية، فيختلط الأمر عليك مرة أخرى. أقول: لابد من أن يتوسع طلبة العلم سيما في مجال التخصص، وأن يكون التوسع على العلوم الشرعية المهمة اللازمة التي أوجز ذكرها -كما أشرت- ابن القيم رحمة الله عليه، بدءاً بعلوم التوحيد والإيمان ومروراً بعلوم الفقه والسنة والتفسير وهذه الجوامع الكلية المهمة. إذاً: نحذر نظرة التركيز التي تطغى فيها العبارات بحيث إذا مدح أي علم ما فكأنه لا أهمية ولا نفع ولا فائدة في غيره من العلوم؛ لأننا نجد أن كل صاحب تخصص حتى في غير علوم الشريعة يقول لك ذلك، فصاحب علم الرياضيات يقول لك: كل الناس يفتقرون إلى الرياضيات، ومثل ذلك الذي يبني البناء، والذي يريد أن يطبب المرضى، والذي يريد أن يطير في الجو، والذي يريد أن يغوص في البحر، والذي يريد أن يحارب في المعارك إلى آخر ذلك، وهكذا كل صاحب علم يشيد بعلمه، لذلك لا ينبغي أن تكون النظرة بهذا الشكل، بل ينبغي إعطاء كل علم أهميته، وأن يشيع بين شباب الصحوة نوع من التوزع والتنوع على فروض الكفايات، فإن التوسع والتفصيل في كثير من المسائل والعلوم ليس واجباً على العين، لكن لا شك أنه واجب على الكفاية، وأنه في حق الداعية وطالب العلم وشباب الصحوة ألزم وأوجب. إذاً: ينبغي أن يكون هناك مثل هذا التنوع والتوزع؛ لأنه قد يقع اللوم والنقد بين أهل العلم وغيرهم، فالذين رأوا نصرة الإسلام وخدمته في الجهاد العسكري البحت نظروا إلى كل من تفرغ لطلب العلم أو سار في طريق الدعوة نظرة ازدراء واحتقار، وأنه مقصر في خدمة دين الله عز وجل، وأنه لاه عابث لا يقدم شيئاً لهذه الأمة، وقد تكون نظرة الذي يدعو أو يتعلم إلى ذلك نظرة ازدراء واحتقار وأنه ليس له جَلَدٌ في طلب العلم ولا في الدعوة، وإنما همه أن يذهب هنا وهناك مع كل صيحة جهاد. والحق أن كلاً على خير؛ لأن التنوع والتوزع هو الذي تحتاج إليه الأمة؛ ليكون لها في كل مجالاتها جهاد علمي وجهاد دعوي وجهاد تربوي وجهاد عسكري وجهاد فكري، فإن كل ذلك مندرج في أسباب القوة التي تتقوى به الأمة في داخل صفوفها، وتتقوى به كذلك في مواجهة أعدائها، ومن جميل ما قاله ابن القيم رحمة الله عليه: إنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد، فالعالم وطالب العلم كذلك يقومان بدور الجندي المجاهد وقائد الجيش، فشيخ العلم كقائد الجيش، وطالب العلم كجندي الجيش، كلاهما يجاهد في نصرة دين الله عز وجل. وتأمل بقية قول ابن القيم فإنك ناظر في ذلك فقهاً دقيقاً ومعرفة رشيدة، وإحاطة بمقاصد هذا الدين فريدة وعجيبة، يقول: ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان وهو الجهاد العسكري، وهذا المشارك فيه كثير. والثاني: جهاد بالحجة والبيان وهذا هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه، قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:51 - 52] فهذا جهاد بالقرآن وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضاً، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن. ثم قال: والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله. فإذاً: لابد أن نعرف أن كل جانب من الجوانب هو ثغرة من الثغرات يجب سدها، وأن كل ميدان من الميادين هو افتياد يجب أن ينتدب له من أبناء الأمة وشبابها الصالحين من يبدع فيه ويتفرغ له، ولا يعيبن أحد على أحد صنيعه إلا إن كان يرشده إلى الكمال أو التتميم، فإن الاستغناء بأمر دون الآخر أو النظر إلى أمر على أنه يشمل كل شيء وغيره يسقط كل شيء، فهذه النظرة خاطئة فيها مبالغات ومجازفات، فالذي يجاهد ينظر إلى غيره على أنه لا يصنع شيئاً، والذي يطلب العلم يرى أن غيره يلعب ويلهو، هذا كله قصور نظر وقلة فقه وعدم بصر وإدراك بحقيقة هذا الدين وشموله وكماله.

ضرورة القدرة والتأهل وأهميتهما لطالب العلم الشرعي

ضرورة القدرة والتأهل وأهميتهما لطالب العلم الشرعي النقطة الثالثة: القدرة والتأهل، بعض الناس من خلال ما يتأثرون به من الأقوال وشحذ الهمم والعواطف الجياشة والمجامع الحاشدة في المحاضرات أو الدروس يريد أن يكون طالب علم، ويظن أن طلب العلم من أيسر المسائل، وانغرس في أذهان بعض الناس أو كثير منهم أنه إذا لم يحصل الطالب على مجموع عال في الثانوية فعليه أن يذهب إلى كلية الشريعة؛ لأنها الكلية التي يمكن أن يدخل فيها ويدرس فيها ويتخرج منها دون عناء ودون حاجة إلى ذكاء وفطنة أو أي ملكة من الملكات، وهذا لا شك أنه من أقبح الأفكار وأسوأها؛ إذ كان عباقرة الأمة في تاريخها الطويل وأفذاذها من المتميزين بالذكاء الخارق والفطنة العجيبة، كانوا هم علماء الشرع، فمثلاً: تأمل حفظ البخاري واستنباط أبي حنيفة وأدب مالك، وعقولاً أشرقت بأمور ومزايا كثيرة كلها كانت في هذا الجانب. وقد كان سلف الأمة أصل التوجه عندهم هو أن يدفع بالشباب إلى طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين؛ لأنه هو الذي فيه الخيرية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وهو الذي دعا به النبي عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس حيث قال: (اللهم علمه الكتاب) فإذا عجز عن ذلك دفعوا به إلى أمور الصناعات فليكن بناءً أو ليكن كذا أو ليكن كذا، لكن انعكست الأمور اليوم وظن كثير من الناس أن أي إنسان ليس عنده أدنى قدرة ولا أية مواصفات تأهيلية يمكن أن يكون طالب علم، بمجرد أن يحمل كتاباً أو يحمل قلماً أو يكون مالكاً لدفتر جيد عديد الصفحات إلى غير ذلك من الأمور الشكلية. أقول: لابد أن نعرف أن لطلب العلم تأهلاً وأن له نجابة لازمة وذكاء واستنباطاً وعقلاً مفكراً مدبراً يفتقر إليه؛ لأن طلب العلم ليس مثل قضية شرب الماء، أو مثل أن يذهب لأخذ شيء وشرائه، لا، طلب العلم شيء آخر، ولذلك سيأتي في دقيق المواصفات ما يدل على هذا، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتلمسون مخايل الذكاء وبوادر الفطنة عند صغار الشباب ويتفرسون فيهم النجابة فيدفعونهم إلى ما يصلح لهم من علوم الشرع فينبغون ويبدعون فيها، أما النظر إلى أن التأهل أمر عادي فهذه قضية خطيرة جداً، ولذلك لما رخصت هذه القيمة للعلم الشرعي وشاعت هذه النظرة بين الناس رأينا كل الناس طلبة علم، كل من حضر محاضرة أو خطبة أو اقتنى كتاباً واشتراه وحمله في يده أصبح طالب علم، ويمكن أن يكون في يوم من الأيام وربما ليس بعيداً عالماً من العلماء، هذا التصور الذهني البارد البليد ليس مقبولاً ولا صحيحاً في الوقت نفسه، ولذلك لا بد أن يعرف أنه ليس كل إنسان يصلح لكل شيء ولا بد أن يكتشف الإنسان أيضاً ميله وقدرته، فإن من الناس من يميل إلى الفقه والاستنباط وإعمال العقل، وعنده بذلك نظر وقاد وفقه عجيب واستنباط دقيق، حسبك في ذلك ما يذكر من فقه الإمام البخاري في تراجمه رحمة الله عليه، حارت العقول فيها، وأجهد العلماء أنفسهم حتى يصلوا إلى بعض ما كان البخاري يهدف إليه وما استنبطه رحمة الله عليه، وصنفت كتب ومؤلفات ليس في شرح أحاديث صحيح البخاري ولا في أسانيدها ولا غير ذلك، بل على التراجم التي هي عناوين أبواب الصحيح فحسب، فليست القضية قضية عارضة سهلة، وليس أمر التأهل عيباً، كون المرء لا يصلح لعلم الفقه، قد يكون الرجل حافظاً فيصلح أن يكون راويةً، ولا بد أن نفرق، قال الإمام مالك: أدركت سبعين ممن يستسقى بهم كلهم لا يؤخذ منهم الحديث؛ يقال: ليسوا من أهله، وليسوا حفاظاً ما انتدبوا لهذا العلم. فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده فقه ودقة استنباط عجيبة؛ ولذلك انظروا إلى ما نوع به النبي عليه الصلاة والسلام أوصاف أصحابه فإذا أبي أقرؤهم، وإذا معاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وإذا زيد أفرضهم، وإذا علي أقضاهم إلى آخر ما ذكر في شأن الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا ابن عباس أعلمهم بكتاب الله، هذا التميز لا يعني أن حظهم من العلوم الأخرى كان صفراً، لا، لكن كان هناك تميز وتفرد من زيد في الفرائض؛ لأنه نقل أكثر علم الفرائض ومسائله عنه عليه الصلاة والسلام، وكان لـ ابن عباس تميز في التفسير وملئت كتب التفسير بمروياته ومقالاته، وكان معاذ رضي الله عنه عالماً بالحلال والحرام فكان النقل عنه في هذا كثيراً، وأبي كان قارئاً واتصلت الأسانيد إليه أكثر من غيره. إذاً: لا بد أن نعرف التأهل والتمكن، وأن يكتشف الشاب ميله ورغبة نفسه وما يرى أنه يصلح له؛ لأن المسألة ليست أمراً عابراً، والذي يدل على ذلك اختلاف وصايا النبي عليه الصلاة والسلام، واختلاف إجاباته للسائلين، واختلاف توجيهه لبعض الصحابة كل بحسب ما يرى له، انظر إلى أبي ذر رضي الله عنه يقول عنه عليه الصلاة والسلام: (ما أقلّت الغبراء ولا أظلت السماء أصدق لهجة من أبي ذر) ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يحذره من الإمارة ويقول له: (يا أبا ذر! إنها الإمارة وإنها يوم القيامة خزي وندامة) وأبو ذر الصحابي رضي الله عنه الإيمان في قلبه كأمثال الجبال الشامخة الراسية، فهو عابد زاهد تفرد بين كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الشأن، لكنه مع ذلك ليست له مؤهلات الإمارة والسياسة وتقبل الناس والتعامل معهم؛ لأنه كان صارماً كالسيف رحمة الله عليه ورضي الله عنه. إذاً: ليس هذا عيباً فيه وإنما هذا اكتشاف لما يحسنه، وإبعاد له لما لا يطيقه ولا يتقنه، فلا بد أن نفطن إلى هذا وأن نسلم به، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام اختلفت وصاياه فجاءه من يستوصيه فيقول له: (لا تغضب) ويأتيه ثان يستوصيه فيقول له: (قل: آمنت بالله ثم استقم) ويأتيه ثالث يستوصيه فيقول له: (أمسك عليك لسانك) فهو عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن كلاً منهم يحتاج إلى شيء معين، وأن كلاً منهم له قدرته التي يتميز بها، وأن كلاً منهم له حاجة ماسة تخصه، وهكذا كان توجيه النبي عليه الصلاة والسلام في كثير مما سئل عنه، ففي حديث: (أي الأعمال أفضل؟) فكان عليه الصلاة والسلام يغير الجواب بحسب حال السائل. وذكر ابن حجر مقالة جميلة فريدة رائعة في قضية طلب العلم، وأنه إذا لم يكن عندك مكنة ولا قدرة ولا تأهل لطلب العلم، فهل يعيبك ألا تكون من طلاب العلم، أعني: فيما وراء فرض العين، وفيما وراء العلم الذي يكون عندك فيه حظ لا بأس به؟ ليس في ذلك عيب. يقول ابن حجر في مسألة التفاضل بين العلم ونوافل التطوعات: إن وجد في نفسه مكنة لطلب العلم من سعة حفظ وتوقد ذهن ودقة استنباط كان العلم في حقه أفضل من نوافل العبادات، وإن لم يجد ذلك كانت نوافل العبادات أفضل في حقه من العلم. لماذا؟ لأنه سيمضي إلى طلب العلم ويمضي وقته فيه ولا يفهم ولا يحفظ ولا يتعلم، فلا صار عالماً ولا صار عابداً، فلا بد أن يعرف المرء هذه الحقيقة، ولو أن كل الناس كانت لهم مؤهلات ومكنة لكانوا بعد حين من الزمن علماء، لا يوجد فيهم عامي يسأل عالماً، ولا طالب يتتلمذ على شيخ. فإذاً: لابد أن نعرف أن القدرة والتأهل أمر مهم جداً.

أهمية الحفظ والضبط والفهم لطالب العلم

أهمية الحفظ والضبط والفهم لطالب العلم النقطة الرابعة: أريد أن أشير إلى ظواهر أراها متفشية بين كثير من الشباب، يريدون طلب العلم على أسهل ما يكون، يريد الواحد من هؤلاء أن يكون مضطجعاً متكئاً في جو مكيف، وربما يروح عليه من يروح ويريد بعد ذلك ألا يقرأ وألا يحفظ وألا يراجع، وأن يبقى مع ذلك طالب علم، وربما يفتي في المسائل ويجيب كل سائل ويرتقي المنابر، وهذا لا شك أنه من أقبح الأمور. ومن ضمن هذه الأمور: الضبط والحفظ، فطلب العلم بلا حفظ كالذي يكتب فوق الماء، فلو سطّر ما سطّر فإنه فوق الماء لا يبقى له أثر، ولذلك كانت الطريقة التعليمية الأولى تعتمد على الحفظ والفهم، ولم يقل أحد: إن هناك حفظاً بلا فهم، ونحن نريد أن نكون طلاب علم من غير حفظ، هذه في تصوري من خلال ما اطلعت عليه من التراجم وأحوال علماء الأمة لا يمكن أن يكون هناك طلب علم وتحصيل علم بلا حفظ مطلقاً، ولذلك انظر إلى ما كان عليه سلف الأمة وهذا يتعلق بالتدرج الذي سيأتي معنا. أولاً: يبدءون بتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم صغاراً، وعد إلى من شئت من العلماء في تراجمهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن سبع وهو ابن ست وهو ابن تسع وهو ابن عشر، وأقلهم من كان يتجاوز هذه السن أو قريباً منها ولم يحفظ القرآن، ثم بعد ذلك ينشط الطالب لحفظ المتون والكتب والأحاديث والمسائل. إذاً: لا يمكن أن يستحضر المرء إلا بالحفظ، وكما قيل: علم لا يعبر بك الوادي لا يعمر بك النادي. العلم الذي في رأسك وفي صدرك، تسافر وتقطع البحار وتصعد الجبال وعلمك معك، أما إذا كان علمك في الكراريس والكتب فلابد أن تجهز الصناديق وتدفع نقود الشحن، حتى إذا أردت علمك لابد أن ترجع إلى كتبك. وهذه قصة تذكر للغزالي: أنه سئل فاحتاج إلى أن يراجع كتابه فقال: إذا كان الأمر كذلك فلا حصلت علماً، فاجتهد بعد ذلك حتى صار آية في الحفظ. المهم أن الحفظ لابد منه، ولابد أن يعلم الشباب أن طلب العلم ليس بمجرد أن يسمع الشخص محاضرة؛ لأن بعضهم يأتي إلى درس علمي في فقه أو حديث أو تفسير في كتاب معين يأتي وليس معه ورقة ولا قلم يقيد به ولا كتاب ينظر فيه، ويلتمس أقرب عمود يتكأ عليه، ويحدق ببصره يميناً وشمالاً، ويعد اللمبات التي في المسجد والأبواب وكذا. ويقول بعد ذلك: إنه طالب علم ويصر على هذا، وقد يكون متكبراً على غيره متعالياً عليهم، فهذا لابد أن نعرف أنه يتميز طالب علم عن غيره. إن أول أولويات هذا التميز هو الحفظ، وقد كان حفظ السابقين عجيباً، ولو استطردنا في ذكر ذلك من تراجم العلماء لانقضى الوقت قبل أن نذكر جزءاً مما ذكر عنهم، حسبك بحفظ الشافعي وما يروى عنه، حتى المتنبي كان يشتغل بالوراقة، فإذا نسخ كتاباً حفظه. كان الوراقون عندهم كتباً قد تصل إلى عشرة كتب أو عشرين كتاباً؛ لأنه لم تكن هناك مطابع، فيأتيهم من يرغب أن ينسخ له الوراق ما عنده من الكتب، فإذا نسخ ما عند هذا الوراق من الكتب حفظها وانتقل إلى وراق آخر؛ ليكتب كتباً أخرى فيحفظها. وقيل للأصمعي: كيف حفظت ونسي أصحابك؟ قال: درست وتركوا. يعني: راجعت. وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: (أتينا أم الدرداء تحدثنا فتحدثنا عندها فقلنا: أمللناك يا أم الدرداء؟ فقالت: ما أمللتموني لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئاً أشفى لنفسي من مذاكرة العلم) أي: مراجعة لهذا الحفظ. وقال ابن أبي ليلى: إن إحياء الحديث مذاكرته، فقال عبد الله بن شداد: يرحمك الله! كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات. وحديث: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفلتاً من الإبل في عقلها) يقول ابن عبد البر: في هذا الحديث دليل على أن من لم يتعهد علمه ذهب عنه. وذلك لأن العلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا غير، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إذا لم يتعاهد فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة؟! فإذاً: لابد من هذا المصير لهذا العلم.

أهمية الفهم والاستنباط لطالب العلم

أهمية الفهم والاستنباط لطالب العلم النقطة الخامسة: الفهم والاستنباط، فليس الأمر حفظاً، فإن بعض الناس قد يكب على كتابه أو على نص يحفظه ويدندن به، فإذا سئل عن شيء لم يكن إلا نسخة جديدة من ذلك الكتاب، أو شريطاً بدلاً من الكتاب. فلابد أن يكون لطالب العلم فهم يستنبط به، وهناك مسائل كثيرة ذكرت لأهل العلم تبين دقة فهمهم وعمق استنباطهم لكثير من المسائل والمعضلات، وقد كان عمر رضي الله عنه إذا أشكل عليه أمر استشار واستفتى علياً رضي الله عنه، ومن ذلك المسألة المشهورة التي ذكر فيها: (أن رجلاً جاء بامرأته وقد ولدت لستة أشهر يتهمها، فقضى علي أن الولد منه، واستشهد بأن الرضاعة حولين كاملين -أي: سنتين- وقال: إن حمله وفصاله ثلاثون شهراً، فيمكن بعد الفصل أن يكون الحمل ستة أشهر). وهناك من المسائل الكثيرة التي فيها بيان لفقه العلماء ودقة استنباطهم، حتى قال القائل في شأن أبي حنيفة رحمة الله عليه: لو شاء أن يجعل لك هذه الإسطوانة ذهباً لجعلها. أي: من قوة حجته وقدرته على فهم النصوص وبيان معانيها ودلائلها. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من يرد به الله خيراً يفقهه في الدين) والفقه: هو الفهم والاستنباط. وقال سبحانه: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] أي: لا تفهمون تسبيحهم، ولذلك من وراء الفقه التفقه. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فإذاً: لابد أن نعنى بهذا الجانب وهذا متعلق بالملكات والقدرة.

أهمية التأسيس والتدرج لطالب العلم

أهمية التأسيس والتدرج لطالب العلم النقطة السادسة: التأسيس والتدرج، وهذه مسألة ظاهرة عند كثير من الشباب، ولعل لها سبباً يختص بواقعنا أحياناً، فإن كثيرين منا مع الدراسات المنهجية والمدارس التي تستنزف من عمر المرء اثني عشر عاماً يفاجأ الشاب عندما يلتزم بأنه في سن لا بأس بها وليس عنده من العلم شيء؛ لأنه ربما لا يحسن تلاوة القرآن، ولا يحفظ إلا قصار السور، ولا يحفظ شيئاً من الحديث، ولم يقرأ شيئاً من الفقه، ولم يعرف شيئاً من التفسير إلى غير ذلك، فإذا به يندفع إلى طلب العلم اندفاعاً عاطفياً فتراه يريد أن يقفز قفزاً عالياً، وبقدر ما تكون قفزته عالية بقدر ما تكون نكسته شديدة وخطيرة، فلابد أن يرقى السلم درجة درجة، إذا أراد أن يقفز فليقفز درجتين لا بأس إذا كان عنده بعض القدرة، أما أن يقفز من أول الدرج إلى آخره لا شك أنه سيسقط سقطة تبقى أثر هذه القفزة طيلة حياته. يقع كثير من الناس في أخطاء، فإذا أراد أن يتعلم مثلاً في الحديث قال: أعظم كتاب في الحديث (فتح الباري) لابد أن أبدأ بفتح الباري مباشرة، نقول هناك: (الأربعين النووية) وهناك (بلوغ المرام) وهناك (رياض الصالحين) وهناك (مختصر البخاري) و (مختصر مسلم) ثم تدرج في ذلك. وكذلك إذا جاء إلى الفقه قال: (المغني) لابد أن أغتني من المغني، فذهب ليدرس المغني، فإذا به يقرأ في المسألة الواحدة ليس أربعة أقوال أو أربعة مذاهب بل أكثر من ذلك، ويقرأ دليل هؤلاء ودليل هؤلاء، ثم يقول ابن قدامة: وحجتنا في ذلك أو ودليلنا في ذلك، ويخرج بعد هذه المسألة وليس عنده إلا -كما يقولون- من كل بحر قطرة، فإذا سئل ما استطاع أن يجيب؛ لأنه لم يؤسس له علماً، فإن الأقوال المختلفة المتضاربة أو النقول العديدة والفروع الكثيرة تشوش الفكر؛ ولأنه خالي الذهن، إذاً: لابد أن يكون هناك تدرج في الطلب؛ لأنك إذا جئت الآن تريد أن أعلمك نظريات في الرياضيات كنظريات فيثاغورث أو غيرها، وأنت لا تعرف الأعداد ولا تعرف جدول الضرب، قل لي بربك: كيف تفهم؟! فإذاً لابد أن تؤسس، وكذلك لو جئت لك بكتاب حروفه كبيرة ومشكل بعلامات ملونة، لكنك لم تعرف الأحرف من قبل لا يمكن أن تقرأ، وعلى هذا كيف تدخل في فروع الفقه واختلافات الفقهاء وأنت لم تعرف أصل المسألة ولا قولاً واحداً فيها من قبل؟! وهكذا إذا جاء إلى التفسير قال: أبدأ بتفسير ابن جرير، ويذهب حدثنا، حدثنا، حدثنا، ويأتي في الآية الواحدة أو الكلمة الواحدة ربما بعشرة آثار أو أكثر من ذلك. فإذا رجع للناس وسئل قال: يا أخي! في كل مسألة أقوال كثيرة واختلافات عديدة، وهي قد لا تكون اختلافات كما سبق أن أشرت في بعض الأمثلة، مثل قوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]. قالوا: السابق بالخيرات الصلاة في أول وقتها، والمقتصد الصلاة في وقتها، والظالم لنفسه الصلاة في آخر وقتها، أو الزكاة التي يؤديها وما معها من الصدقات، أو الزكاة فقط إلى آخر ذلك من الأنواع. المهم أن التأسيس مهم جداً، أن يبدأ بأساس يكون كالقاعدة يستطيع أن يبني عليه، وأن يكون بعد ذلك التدرج، والأقوال في هذا كثيرة جداً، ولكني أرى كثيراً من الشباب يندفعون إلى طلب العلم اندفاعاً عاطفياً بغير تقدير لقضية العلم يجعلهم هذا الاندفاع يقفزون قفزاً لا يفيدهم علماً ولا ينتج لهم أدباً. كذلك إذا جاء مثلاً في أمر العقيدة وأهمية العقيدة وكذا، قال: أقرأ الطحاوية أو ما هو أوسع منها، وإذا في الطحاوية من الردود على الفرق ما لم يعرفه ولم يسمع بالمصطلحات في هذا العلم، ويمر به مثلاً قول المعتزلة، من هم المعتزلة؟ ما سمع بهم من قبل أو يقال له: الكلابية أو كذا أو كذا، فتراه يخلط خلطاً عجيباً، وتمر به مسائل دقيقة تشوش فكره، ويضطرب لها عقله دون أن يحصل علماً. إذاً: لابد من التدرج، ولذلك ذكر صاحب كتاب (تذكرة السامع): أن من لم يتقن الأصول حرم الوصول، لابد من أصول وأسس وإلا لن تصل إلى علم، وقال القائل أيضاً: من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وكذلك قيل: ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم، يعني: يضل الفهم. هنا مثال: لو أن عندك ورقة بيضاء صافية وكنت تكتب فيها جملة ثم تكملها في السطر نفسه وبعده الذي بعده، فإنك تخلص في آخر اليوم أو آخر الأسبوع بكلام منتظم قد يكون متفرقاً في أبواب، لكن إن كنت تسجل في هذه الورقة خبراً سمعته وحدثاً رأيته، وهذا بخط مائل وهذا في الوسط، وهذا بلون وهذا باختصار وهذا بتوسع، بقيت عندك الورقة مشكلة لا تستطيع أن تخرج منها فائدة واحدة، ولذلك لابد لكل فن من أصول تحفظ كما في مسألة الحفظ، وأبواب ذلك كثيرة. إذاً: قبل أن يبدأ الطالب بالفقه المقارن لابد أن يأخذ فقهاً مختصراً في مذهب من المذاهب مجرداً عن الأدلة، ثم إذا فقه المسائل زيد له بعد ذلك في كتاب آخر أكثر توسعاً وفيه الأدلة، ثم بعد ذلك يكون في كتاب ثالث أكثر توسعاً وفيه بعض الآراء الأخرى وأدلتها، ثم يتوسع بعد ذلك في مقارنة المذاهب، ما الذي يحصل هنا؟ تمر به المسألة أول مرة ثم يعيدها في الكتاب الثاني ثم تمر عليه بتوسع في الثالث، فإذا بها ترسخ في ذهنه، أما عندما يأتي إليها وهي بأقوالها المتعددة المتشعبة لم يبق عنده أصلها، وإنما بقي عنده نتف منها وأقوال متفرقة عنها. ولذلك على سبيل المثال: من أراد أن يدرس الفقه الحنبلي يبدأ بزاد المستقنع، ثم المقنع من بعده للخلاف المذهبي، ثم المغني للخلاف العالي، وكان لا يسمح للطبقة الأولى أن تجلس في درس الثانية وهكذا. إذاً: لابد من المختصرات قبل المطولات، وعندي نقول كثيرة عن تدرجات كتب العلوم ليس هذا موضعها، ربما نذكر بعضاً منها في الجولات الآتية إذا أكملنا جولات في علوم القرآن وكتبه. وذكر أيضاً ابن قدامة فيما يتعلق بالعلوم الشرعية حيث قال: الأصول: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وآثار الصحابة، والفروع: ما فهم من هذه الأصول من معاني تنبهت لها العقول، والمقدمات: هي علوم الآلة التي تجري مجرى الآلات كعلم النحو واللغة أيضاً لابد أن يفرق بين هذه العلوم، والمتممات: كعلم القراءة ومخارج الحروف وما يلحق بذلك. لابد من هذا التدرج؛ لأنه مهم، وهذا التدرج على أنواع، منه: أن يبدأ بالقليل ثم بعد ذلك يتوسع فيه، وأن يبدأ باليسير ثم بعد ذلك بالصعب العسير، أما إذا بدأ بالعسير إما أن تنقبض نفسه ويرجع عن طلب العلم، وإما أن يكابر فيظن أنه فاهم وليس بفاهم، ولذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري فيه مسائل نفيسة جداً من ذلك في إحدى التراجم قال: الرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره. والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وكباره: ما دق منها، أما غير الرباني فهو يعلمهم جزئياته قبل كلياته أو فروعه قبل أصوله أو مقدماته قبل مقاصده هذا الذي يخلط. ولـ ابن خلدون كلمة جامعة أذكر جزءاً منها قال: اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريب شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقي عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي لآخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها ملكة جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي في الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا معلقاً إلا وضحه، وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد، أما غير ذلك فهو تشويش وليس تعليماً، وهذا أقوله عن التعليم المدرسي الذي عندنا، أرى أن التعليم السابق هو الناجح الذي يقتصر على علم أو علمين ثم بعد إمكانهما وإحكامهما ينتقل إلى غيرهما، وهذا فرق ما بين الطالب في المدرسة والجامعة، أن طالب الجامعة مواده أقل، فبالتالي عنده شيء من التركيز في التخصص، أما طالب المرحلة الأولى في الثانوي على وجه الخصوص، فهناك إحدى وعشرون مادة من كيمياء إلى فيزياء إلى قواعد إلى جغرافيا إلى تاريخ إلى بلاغة إلى نحو، يأخذ من كل بحر قطرة ويخرج من كل شيء بلا قطرة، وهذه من المشكلات، فتجد الطالب يتخرج من الثانوية وهو لا يجيد النحو أو اللغة، ولا يعرف الكتابة ولا الإنشاء، ولا يعرف الحساب والرياضيات، ولا يتقن الفقه أو التفسير أو الحديث أو التوحيد إلى آخر هذه الأمور، وهذا باب واسع فيه نقول كثيرة جداً.

أهمية الجدية والهمة لطالب العلم

أهمية الجدية والهمة لطالب العلم النقطة السابعة: الجدية والهمة، لابد أن يكون عند طالب العلم جدية وهمة عالية، وهناك كثير من النماذج والتراجم، منها: ما نقل أن ابن حجر رحمة الله عليه قرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس، كل مجلس عشر ساعات، وصحيح مسلم في أربعة مجالس في نحو يومين ومن اليوم الثالث إلى الظهر، وانتهى من ذلك في يوم عرفة في يوم الجمعة عام (813هـ). والفيروزآبادي قرأ في دمشق صحيح مسلم على شيخه قراءة ضبط في ثلاثة أيام. وللخطيب البغدادي والمؤتمن الساجي وابن الأبار وغيرهم في ذلك عجائب وغرائب يطول ذكرها، والإمام النووي يذكر عن نفسه أنه كان له في اليوم الواحد اثنا عشر درساً في اثني عشر علماً، ليس هذا ميسوراً لكل أحد، فالأصل ألا تختلط في العلوم، والأولى أن تأخذ علماً واحداً أولاً فإذا مكنته أخذت في الذي بعده، لكن هناك من عنده همة تبلغ به ذلك، وكما يقال: العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه، فكيف إذا أعطيته بعضك؟! وانظر إلى الهمة عند كثير من طلبة العلم اليوم، إذا كان الدرس بعد الفجر قال: هذا درس صعب ولا يمكن المواظبة عليه، ولماذا لا ننقله إلى وقت آخر؟! وإذا كان الدرس يمتد إلى أكثر من ساعة، قال: لابد أن نأخذ الحكمة والسنة في عدم إملال الناس وكذا وكذا، وإذا كان الدرس في كتاب فيه بعض الدقة والصعوبة، قال: لماذا لا نأخذ كتاباً أيسر منه؟! وهكذا. هذا كله دليل على ضعف الهمة، أما قوة الهمة فينبغي أن تكون على ما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم، حتى قال بعضهم عندما كان يأخذ علم القراءات: كان الناس يسبقونني إلى شيخ القراءات في دمشق، فعزمت على أن أكون سابقاً، فاستيقظت قبل الفجر الأول ومضيت إلى المسجد؛ ليكون أول الناس، قال: فجئت وإذا أنا الثلاثون، قبله تسعة وعشرون قد بكروا لذلك، وكان من دأب علماء الأمة وطلبة العلم من قبل أن تبدأ دروسهم قبل الفجر، ثم بعد ذلك يصلون ما تيسر أو يوترون ويصلون الفجر وتبدأ دروس أُخر. وهذا الإمام الشوكاني، فقد ذكر أنه كان يدرس في كل يوم ثلاثة عشر درساً في أنواع مختلفة من العلوم. إذاً: لابد أن نعرف أن الهمة في طلب العلم مطلوبة؛ لأن طلب العلم بلا همة لا يمكن أن يكون، والأمثلة في ذلك كثيرة. وهناك أمثلة معاصرة على علو الهمة حتى لا يقال: إن هناك ظروفاً كانت تناسب وتلائم أولئك، لكن من كان طالباً للمعالي فإنه لابد أن يصل إليها أو إلى بعض منها، ومن هذه الأمثلة: أعرف أحد الإخوة الذين يسر الله لهم الهداية عندما انقدح في قلبه حب طلب العلم وكان بصيراً وجاداً، تفرغ لحفظ كتاب الله عز وجل فأتمه في أقل من عام، ثم مضت به همته أعلى من ذلك فجوده وأخذ الإجازة فيه، ثم واصل أكثر من ذلك فإذا به يقرأ بالقراءات العشر ويحفظ المتون اللازمة لها، ثم مضى إلى أكثر من ذلك فانتسب إلى كلية من كليات الشريعة، ومضى إلى أكثر من ذلك وهو في دراسة غير الدراسة الشرعية فتخرج، ثم مضى إلى الدراسات العليا وانتهى من مرحلتها الأولى، وهو في آخر المراحل الدراسية ولا يزال مرتبطاً بعلمه الأول وعمله السابق، ولكن جمع بين جنبيه همة عالية صارمة. قال كثير من السابقين مستشهدين لهذا بقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]: أي: بهمة عالية، أما بترخص وضعف فلا يكون ذلك، ولذلك قيل: يحتاج في العلم والتفقه إلى جد ثلاثة: المتعلم والأستاذ والأب إن كان حياً حتى يحرض ابنه على ذلك. يقول الشاعر: تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً بغير عناء فالجنون فنون وليس اكتساب المال دون مشقة تحملها فالعلم كيف يكون إذا كان طلب المال وطلب الدنيا يحتاج إلى جهد فكيف بطلب العلم؟! ويقول الشاعر: بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلى سهر الليالي تروم العز ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي علو القدر بالهمم العوالي وعز المرء في سهر الليالي تركت النوم رب في الليالي لأجل رضاك يا مولى الموالي ومن رام العلى من غير كد أضاع العمر في طلب المحال فوفقني إلى تحصيل علم وبلغني إلى أقصى المعالي

أهمية الاجتهاد والتورع لطالب العلم

أهمية الاجتهاد والتورع لطالب العلم النقطة الثامنة: الاجتهاد والتورع، إذا أردت أن تقول قولاً أو تبحث أمراً أو تفتي في مسألة فلا يكونن ديدنك أن تنظر إلى عناوين هذه المسألة في بعض الكتب، أو تسمع إلى قول مفرط ومتساهل، ثم تظن أنك قد جمعت القول فيها وقتلتها بحثاً، وأنك قد جئت فيها بالقول الفصل الذي لا تقبل فيه منازعة؛ لأن الأصل في طالب العلم إذا سئل أو أراد أن يبحث شيئاً أن يجد ويجتهد ويرجع إلى المراجع، وأن يبحث في الكتب ويسأل أهل العلم، وبعد هذا كله وقبله أن يستعين بالله سبحانه وتعالى حتى يفتح له، وبعد كل هذا يقول: هذا مبلغ علمي، ويكون متورعاً غير متكبر، واستمع إلى ما ذكره البزار في الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية: يقول ابن تيمية عن نفسه: إن كنت لأقرأ في الآية مائة تفسير، ثم أخرج إلى بعض المساجد الخالية إلى أطراف دمشق فأمرغ وجهي في التراب وأقول: اللهم يا معلم إبراهيم علمني، اللهم يا مفهم سليمان فهمني. إذاً: ليست المسألة أن تحفظ أو تأخذ ما تيسر وتفتي دون أن تجهد نفسك وتبذل وقتك وتعمل فهمك، كان السابقون إذا قالوا قولاً في مسألة، فإنهم لا يقولونه إلا بعد استفراغ للجهد والوقت بشكل كبير، ثم بعد ذلك يقول: هذا مبلغ علمي، أو أحسبه كذلك، أو أرجو أن يكون كذلك، ولا يصادر قول غيره كما رأيت في مطوية صغيرة اطلعت عليها، فيها وصف صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، يقول فيها كاتبها مثلاً في بعض المسائل: والنزول من الركوع إلى السجود على اليدين وسواه لا يصح، هذا غير صحيح، يا أخي! ما هذه الجرأة كأنك قد أحطت بقول السابقين واللاحقين، وعرفت الأدلة كلها واستنبطت المعاني كلها، ثم جزمت وخطّأت من سلف ومن سيأتي، هذا لا شك أنه مناقض لطلب العلم سيما فيما يحتاج إليه الشباب في أمر الدعوة. كذلك على طالب العلم أن يهتم بجانب الإخلاص لله عز وجل والخشية له سبحانه وتعالى؛ فإن العلم بلا خشية لا فائدة منه، كذلك يجب عليه العمل بما يعلم؛ فإن العلم بلا عمل لا فائدة منه. نادى العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل كذلك على طالب العلم أن يتحلى بأمور كثيرة منها: عدم التكبر وازدراء الآخرين، وهذه للأسف ذميمة أرى لها انتشاراً عند بعض الشباب، ينبغي أن يحذروا منها وأن يخشوا على أنفسهم من ضررها؛ فإنها حرمان للعلم وبعد من التوفيق وذهاب للمنزلة والقبول عند الناس. ومن حلية طالب العلم حسن أدبه مع غيره من أهل العلم، سيما عند المخالفة فلابد له من مراعاة أدب الاختلاف، ومن ذلك موقفه من خطأ غيره كما قال بعض أهل العلم: إذا بصرت بوهم لعالم فلا تفرح به للحط منه ولكن افرح به لتصحيح المسألة فقط، فإن المنصف يكاد يجزم بأنه ما من إمام إلا وله أغلاط وأوهام، لاسيما المكثرين منهم، وما يشغب بذكر المخالفات ويفرح بها للتنقص إلا متعالم يريد أن يطب زكاماً فيحدث به جذاماً، وهذا لا شك أنه لا يليق بطالب علم ولا يحسن به. وهناك أيضاً أمور كثيرة جداً أذكر منها مقالات لبعض أهل العلم قال بعضهم: العلم ثلاثة أشبار: من دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع؛ لأنه عرف حقيقة العلم، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه ليس بعالم؛ لأن العلم بحر واسع. فلذلك لا تكن من أهل الشبر الأول الذي يدخل من الباب فيفرح بما يرى ويزدهي ويتكبر ويتعمم، وكما قيل: تفقهوا قبل أن تسودوا فإذا سدتم قبل أن تفقهوا فاتكم خير كثير، ولذلك لابد من الحذر من التصدر قبل التأهل، وكذلك لابد من مراعاة كل ما يتعلق بذلك الأدب، ومنه أمانة النقل ونسبة الأقوال إلى قائليها.

أهمية المواصلة والاستمرار لطالب العلم

أهمية المواصلة والاستمرار لطالب العلم النقطة التاسعة: المواصلة والاستمرار، فإن الذي يظن أنه بعد جولة أو جولتين أو بعد كتاب أو كتابين أو شهر أو شهرين أو عام أو عامين أنه قد أتى على العلم كله أوله وآخره وفرغ منه، فإنه لم يفقه العلم ولم يعرف ما ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في قوله: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) والعالم ما يزال يغترف من العلم، فكلما اغترف جديداً علم أنه بافتقار شديد، ولذلك هناك ظاهرة موجودة وهي عدم المواصلة في طلب العلم، يبدأ الدرس في كتاب الفقه أو الحديث أو غيره بخمسين أو ستين طالباً ثم لا يلبث أن ينتهي بخمسة أو ستة طلاب، وهذا يدل على أنه ليس هناك جلد ولا شغف، وهذا غالباً ما يكون سببه عدة أمور، منها: أمور إيمانية من عدم الإخلاص وعدم القصد لله عز وجل، ومنها كذلك: أمور علمية فهو لم يفقه العلم ولم يفقه أسبابه وطرائقه وتأهله، ومنها كذلك: عدم الإدراك للثمرة المرجوة من العلم، فإنه يكتفي بحضور الدرس؛ ليقول: حضرت الدرس الفلاني، أو يقرأ في الكتاب مرة واحدة على شيخ؛ ليقول: إنه من تلاميذ هذا الشيخ، بل ربما قد يتصل بالهاتف بالشيخ الفلاني ويسأله سؤالاً ثم يقول: أنا من تلاميذ ذلك الشيخ، أو يقول: قال شيخنا فلان. سبحان الله! عندما تقرأ عن أهل العلم وملازمتهم تجد أمراً عجيباً، هذا ابن كثير رحمة الله عليه يلازم أبا الحجاج المزي ملازمة طويلة حتى تزوج ابنته، وبذلك يصبح بعد الزواج من أهل الدار وستكون الملازمة طويلة، وبعضهم لازموا شيوخهم لسنوات طوال، وأخذوا العلم وعصارته وخلاصته بالمجالسة والمواصلة، وكان بعضهم يحمل أوراقه وأدواته في كل وقت، فإذا تكلم الشيخ في سفر أو حضر دوّن عنه، وكتب ما يرى من الأحوال وما يسمع من الأقوال، أما هذا الانقطاع السريع والنفس الضيق لا شك أنه من الأمور التي ينبغي أن نتنبه لها.

أهمية الأخذ والتلقي لطالب العلم

أهمية الأخذ والتلقي لطالب العلم النقطة العاشرة: الأخذ والتلقي، فلا يكفي خاصة عند الابتداء أن يرجع طالب العلم إلى الكتاب، وهذه مشكلة كبيرة، فإن بعض الشباب بمجرد أن يسمع عن الكتب المشهورة مثل: فتح الباري شرح صحيح البخاري، والطحاوية في العقيدة، والمغني في الفقه، فتراه يمسك الكتاب ويقرأ فيه، ويريد أن يتعلم منه قبل أن يتلقى عن شيخ متقن مجيد فاهم حافظ عالم بهذا العلم، لا شك أن هذا يخلط خلطاً عجيباً، بل يقع في أخطاء شنيعة وفظيعة، وأذكر مثالاً يذكر على سبيل الطرفة وهو متعلق بقراءة قارئ ليس بمتقن لحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سد فرجة في الصلاة فله كذا وكذا) فعندما قرأ لم يضبط القراءة فقال: من سد فرجه في الصلاة، فنكس المعنى وشنع وقبح، وهكذا قال بعض أهل العلم: إنه يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم، وهي معدومة عند المعلم وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، أحياناً أخطاء مطبعية وتسمع عند من يقرأ بعض الكتب قراءة خاطئة يشكو منها سيبويه والكسائي في قبورهما أو في تاريخهما. بسبب هذه الأخطاء لا يعرف خاصة في كتب المتقدمين وكذلك الغلط بزوغان البصر قد ينتقل من سطر إلى سطر أحياناً، ويعجب من هذا النص الفريد كيف كذا ولا ينتبه، بينما الشيخ المحكم المتقن يستحضر في ذهنه فيرده، وكذلك قلة الخبرة بالإعراب، وكتابة ما لا يقرأ وقراءة ما لا يكتب، ومذهب صاحب الكتاب إن كان مخطئاً، وفي هذه المسألة لم يصب على وجه الخصوص، وسقم النسخ، ورداءة النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وهذه كثيرة جداً يقرأ المقطع فيقف في موقف ويصل بعد ذلك الكلام بجملة أخرى، فلا تعرف هل هو يقرأ بالعربية أم بغيرها؟! لأنه شتت المعاني وجزأ الكلمات فلم يحسن ولم يفهم عنه غيره، إلى غير ذلك. ثم قال: وخلط مبادئ التعليم وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة إلى آخر ما يقال في مثل هذه المسائل، هذا ما يتعلق بالشق الأول وهو ملامح منهجية طلب العلم.

ضرورة معرفة ارتباط العلم بالدعوة

ضرورة معرفة ارتباط العلم بالدعوة المسألة الثانية: ما يتعلق بالعلم والدعوة، هناك أمور عند ابتداء الجيل الناشئ، فالذي ولد في أحضان البيئة الإسلامية والأسرة المسلمة فلا إشكال، فيبدأ من صغره في حفظ القرآن وفي تلقي العلم، ولن يكون عنده هذا الفطام الذي نشكو منه، فإنه قد يأخذ في التدرج في هذه العلوم ويحصل كثيراً منها في أوائل عمره، ثم من صغر سنه عند المراحل الأولى يمكنه أن يجمع بين الدراسة النظامية والدراسة العلمية الاختيارية، لكن الذي نفاجأ به الآن أن الشباب في العشرين يبدأ في طلب العلم، وهو في ذلك السن لا يجيد قراءة القرآن، ولا يحفظ شيئاً من الحديث، ولا يعرف شيئاً من مسائل الفقه، ولا يعرف النحو والإعراب، خالٍ من أغلب ما يحتاج إليه ويفتقر إليه طالب العلم، ثم هو بعد ذلك في هذه السن ملزم بمجال علمي آخر يحتاج منه إلى وقت، أو بمجال عملي يحتاج منه إلى وقت، وهنا يحصل الاصطدام، لذلك لابد أن نراعي هذا الأمر في الجيل الناشئ مراعاة لا يحصل بها التناقض، فلابد أن يؤسس الأساس العلمي وهو الأول؛ لأن أمر الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الغالب لا يكون في هذا السن، بل عندما يبلغ ويكلف، فليكن ذلك السن الأول هو سن النقش على الحجر، فليحصن الجيل الناشئ وليحفظ وليدرك وليتعلم، فإذا بدأ في ذلك السن بدأ وقد أسس على علم، ثم بعد ذلك يوجه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتيسر له من هذا الشأن، ثم يمضي في الأمرين معاً فيكتملان بإذن الله بلا تعارض ولا تنافر وضيق في الوقت.

عدم التعارض بين الداعية وطالب العلم

عدم التعارض بين الداعية وطالب العلم أما الوضع الحالي فإنني أشير أيضاً إلى نقاط مهمة: أولها: ينبغي أن يفهم أن الذي يأخذ في أمر الدعوة والنصح والإرشاد بما عنده من علم يؤهله لذلك هو على خير، كذلك الذي يتفرغ للعلم وطلبه وتحصيله ولا يغفل أيضاً أن يذكّر ويعلّم ويرشد لا شك أن الأمرين ليس بينهما تناقض، فإن كان حظ امرئ من العلم أكثر وعنده حظ من الدعوة يغني ويقيم به الواجب عليه، والآخر عنده حظ من الدعوة والاجتهاد أكبر وحظه من العلم أقل فكلاهما إن شاء الله على خير.

ضرورة معرفة الحاجة الملحة للداعية وطالب العلم

ضرورة معرفة الحاجة الملحة للداعية وطالب العلم الأمر الثاني الذي أشير إليه: ينبغي أن نعرف الحاجة الملحة لكل منهما للآخر، فإن الداعية لا يمكن أن يدعو من غير علم قطعاً، لا نقول له: لا تدع حتى تعلم علم الأولين والآخرين، فإنه سيموت قبل أن يدعو، كلا، ولكن المقصود ألا يدعو إلى أمر حتى يعلمه، وألا يخوض في مسألة حتى يعرفها، وكثير من الأمهات المعلومات من الدين بالضرورة يشترك فيها الناس، هل يحتاج تذكيرك للناس بالصلاة وأهميتها وفضيلتها وحضك لهم على أدائها وزجرك لهم عن تركها، هل يحتاج ذلك إلى العلم الغزير؟ كلا، فإنك تستطيع أن تقوم بمثل هذا الواجب. كذلك النهي عن المنكرات المحرمة من شرب الخمور وأكل الربا وفعل الفواحش لا شك أنها أمور معلومة من الدين بالضرورة، يمكن أن تقوم فيها بأمر الدعوة والتذكير من غير حاجة إلى ذلك التوسع والإلمام والشمول بالعلم، وفي الوقت نفسه لابد أيضاً أن يعرف العالم أو طالب العلم أنه لابد له من الدعوة والتعليم والإرشاد، فإن العالم الذي يعيش بين كتبه أو طالب العلم ويقتل المسائل بحثاً بين صفحات الكتب ويكتب على الورق ويشرق ويغرب ولا يعرف ما الناس محتاجون إليه، ولا يجيب سائلاً، ولا يعلم جاهلاً، ولا يذكر غافلاً، ولا ينصح متكاسلاً، ولا يزجر مخالفاً، لا شك أن علمه لم ينتفع به، لا له ولا لغيره، فنعلم أنه لا بد من حد أدنى لحاجة كل منهما للآخر.

الآثار المترتبة على النظرات القاسية وردود الأفعال الشديدة

الآثار المترتبة على النظرات القاسية وردود الأفعال الشديدة الأمر الثالث وهو مهم جداً: بعض النظرات القاسية وردود الفعل الشديدة، بعض الإخوة قد يكون في كلية الطب أو الهندسة وقد توغل فيها وتوسط، فإذا به في وسط البحر ليس الرجوع إلى المبتدأ بسهل، وليس سهلاً أن يصل بسرعة إلى المنتهى، هذا قد يأتيه عارض وخاطر يقول له: لم قصرت في طلب العلم الشرعي؟ فيترك ذلك كله ويعود إلى هذا، وهذه طامة كبرى، إذا كان لم يكتشف قدرته وتأهله وصدق رغبته وصفاء نيته، فيخرج من هنا ويذهب إلى هناك وإذا به ليس هناك وليس هناك، هذه مشكلة يقع فيها بعض الشباب، وبالمقابل هناك من يجد في طلب العلم وتحصيله ويثني الركب عند مجالس العلماء، ويضيق وقته على أن يخرج لينصح هؤلاء، وأن يرحل ليذكر هؤلاء، فإذا رأى بعض الفساد أو الشر أو نحو هذا قال: لابد أن أترك العلم وحلقه لأصلح أحوال الناس. نقول: لا يكن فعلك رد فعل، فإن رد الفعل كثيراً ما يفتقر إلى الصواب والدقة والإتقان.

ضرورة استصحاب طالب العلم للاستدراك المتدرج

ضرورة استصحاب طالب العلم للاستدراك المتدرج الأمر الرابع: ليكن عندك استدراك متدرج؛ حتى لا تبقى حزيناً أو كسيف البال، خاصة بعد فترة من الزمن وأنت قد فرغت أو أمضيت في علمك من طب أو هندسة مبلغاً لا بأس به، نقول: خذ ما تستطيع من ذلك الوقت والجهد لطلب العلم. أي: إذا كنت قد أعطيت وقتك لهذه الدراسة وذلك الجهد ثم تخرجت فأعط وقتك بعد الدراسة لطلب العلم الشرعي الذي تنتفع به، وإذا كنت قد حفظت المتون وحزت الفنون وجمعت بعض مسائل العلم وأمهاته وكلياته، فليكن لك اهتمام أن تزيد من وقتك وجهدك في شأن الدعوة والتذكير والوعظ والإرشاد والتصويب والتقويم إلى غير ذلك. فهنا يحصل التعادل ليس النكسة الشديدة ولا ردة الفعل العنيفة بل الانتقال والتدرج؛ ليحصل التوازن الذي يراد بإذن الله عز وجل.

أهمية معرفة قدرات الناس في تحصيل العلوم ومعرفة الفوارق

أهمية معرفة قدرات الناس في تحصيل العلوم ومعرفة الفوارق الأمر الخامس: اعلم أن كلاً ميسر لما خلق له وهذا متعلق بما سبق، فليس ضرورياً أن يكون كل طبيب عالماً شرعياً، مع أنه إذا كانت هناك همة واستدراك فإنني أعرف في بعض البلاد الإسلامية من كان أميناً للفتوى فيها بجدارة، وهو طبيب تخرج من كلية الطب، ونعلم كثيراً من الناس عندهم ملكات، هؤلاء ليسوا بكثرة في الناس، لكن أقول: لابد من الانتباه لهذا الجانب. إذاً: لا تقارن نفسك بغيرك دون أن يكون هناك قياس مطرد، هناك قياس مع الفارق، أنا أقول: لماذا لا أكون مثل فلان وهو طالب علم جيد أو طيب؟! انظر إلى حالك مع حاله: هل عندك ذكاؤه؟ هل عندك سرعة حفظه؟ هل عندك ما تيسر له من كونه مكفياً في أمور المعاش؛ لا عنده من المال ما يغنيه عن الاشتغال به؟ هل عندك ظرفه الذي هيئ له من الانتقال والارتحال إلى طلب العلم هنا وهناك؟ إذاً: إذا توافر لك ما له فقس نفسك عليه، أما إذا كانت هناك فوارق فلابد من مراعاة هذه الفوارق.

ضرورة التكامل بين أصناف الناس في جانب العلم والدعوة

ضرورة التكامل بين أصناف الناس في جانب العلم والدعوة الأمر السادس: ينبغي ألا يكون هناك حرب بين الفريقين بل تكامل، والأصل أن كلاً منهما لابد أن يحصل قسماً آخر، فليس هناك داعية يدعي أنه يدعو بلا علم، وليس هناك عالم أبداً يقول: إنه يتعلم لا للدعوة ولا للإرشاد، بل يتعلم لتحصيل المعلومات وحفظها، كلا. فلذلك الأصل أن العالم هو الداعي، وأن الداعي هو العالم، كذلك ينبغي ألا نجعل هذا مسار صراع ونزاع، بل ينبغي أن نجعله مسار تعاون وتكامل، وبعض الشباب من قد بلغ من العلم مبلغاً جيداً فليفض من علمه على إخوانه، ومن كانت له تجربة في سياسة النفوس والتلطف مع الناس، وله الأساليب في مداخل الكلام، وله القدرة على مصابرة أذى الناس والاحتمال بمشكلاتهم، وعنده القدرة على تربية الأطفال، فليعلم ذلك الذي حفظ ودرس وعلم، وهناك نماذج كثيرة في حياة السلف، وحتى في أوقاتنا المعاصرة، فإنني أعلم بعض من أتقن علماً من العلوم وتهيأ له وإذا به يدرس في الجامعة، وإذا بشيخه وأستاذه الذي يدرسه في الجامعة في كلية شرعية يطلب منه أن يتعلم على يديه ذلك العلم الذي لم يأخذه، وهنا يحصل التكامل، لم يستنكف من تقدم في الدعوة وليس عنده حظ من العلم أن يجلس إلى قرين له أو شيخ كبير عالم، أو حتى إلى من هو أدنى منه في العمر وكان أكثر منه في العلم؟! لماذا لا يكون الذي حصل بعض العلم من الشباب يستفيد من تجربة من ذكر ووعظ وأرشد وعرف أحوال الناس، وعرف كثيراً من مفاسدهم، وألواناً من تقصيراتهم؟ لابد أن نجعل هذا مجال تكامل وتعاون، إذا كان هذا الأمر على هذا النحو استفاد كل فريق من الآخر، وحصلت المصلحة المرجوة للأمة، وانتفع المجتمع انتفاعاً كبيراً كاملاً، فليس هناك فصام ولا تنافر كما يسمى بين الدين والدولة، وكذلك لا يوجد فصام وخصام بين العلم والدعوة، وإن كان بعض الناس يردد ويقول: إن كثيراً من العلماء لا يعرفون الواقع ولا يعرفون حال الناس، ولا يؤثرون أمر الدعوة، نقول: هذا على إطلاقه باطل، وكل الإطلاقات الكلية الجزافية يغلب عليها أنها غير صحيحة، ولا يقال كذلك: إن هناك دعاة قد هدى الله على أيديهم فئاماً من الناس، وصلحت بهم أحوال كثير من المجتمعات وهم جهلة؛ لأن الجاهل لا يصلح حالاً، ولا يستقيم بجهله الناس مطلقاً، لكن قد يكون عنده حظ من ذلك، وإنما المقصود أن يكمل نقصه، وكل إنسان ناقص، حتى من كان في أمر التذكير والإرشاد قد بلغ مبلغاً كبيراً فإنه ناقص فيه وناقص في غيره، ومن بلغ في العلم مبلغاً جيداً فإنه ناقص فيه وفي غيره، فلماذا لا نجعل هذا مجالاً لاستكمال النقص عند أهل الخير والصلاح من هذه الأمة، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن العلماء والدعاة هم زبدة هذه الأمة وخيرها، وهم ملح البلد، من يصلح البلد إذا الملح فسد. إذاً: لابد أن يعلم الذين يسيرون في طريق الدعوة أن هذا السير بلا زاد من العلم لا شك أنه سير لا يكمل ولا يعطي ثماره المرجوة، ولابد أن يعلم سالك طريق العلم أنه إنما يحصل العلم؛ ليدعو إلى الله عز وجل، وليعلم الناس أمور الخير، ويزجرهم عن أمور الشر، ويكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. وحسبنا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم المثال الأعظم في ذلك، وحسبنا في سيرة أعلام الأمة وعلمائها وأئمتها من ضربوا المثل الأعظم في كل هذا، وفيما هو أعظم من هذا. ولست بمستقص ولكن أذكر ابن المبارك رحمة الله عليه ورضي الله عنه كان تاجراً غنياً ثرياً ومجاهداً فارساً مغواراً، وحاجاً عابداً متألهاً، وعالماً معلماً ومذكراً ومرشداً، وداعية وواعظاً ومنبهاً، وجمع أموراً من الخير عجيبة وفريدة. وانظر إلى ابن تيمية رحمة الله عليه كان عالماً يدرس الناس ويبين الأخطاء ويرد على المبتدعة، فلما جد الجد ودعا داعي الجهاد كان في مقدم الصفوف رحمة الله عليه. وهكذا انظر إلى سير علماء الأمة فإنك تجد هذا واضحاً جلياً. فالله أسأل أن يجعلنا من أهل العلم والدعوة، وأن يسلك بنا سبيل طلب العلم النافع الصحيح المشروع المفيد، وأن يسلك بنا طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يوفقنا بإذنه تعالى لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الاحتساب فضله وأهميته

الاحتساب فضله وأهميته دين الإسلام دين كلي متكامل لا يقوم إلا بجميع أجزائه وأعمدته، ومن أعظم أعمدة الدين التي تقوم عليه جميع جزئياته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبه يحفظ للأمة عزتها وكرامتها، وبه تدوم النعم وتبسط الخيرات، وبه تحفظ دماء المسلمين وتصان أعراضهم، وبه تنتشر الفضيلة وتنعدم الرذيلة، فلا حياة ولا سعادة ولا خيرية للأمة إلا بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو سفينة النجاة.

سفينة النجاة

سفينة النجاة الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، له الحمد سبحانه وتعالى، منه الرزق والنعمة، وله الفضل والمنة، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أقام الدين والملة، ونصح الأمة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! في بيت من البيوت أراد أحد الأبناء أن يشعل النار لغرض من الأغراض، لكنه جعلها تشتعل في شيء من الأثاث وجانب من البيت، فبادر آخر ليطفئ تلك النار بالماء وقت اشتعالها، فزجره ثالث بدعوى ألا يتلوث الأثاث بالماء، وأحسب أن مثل هذا لا يتصور وقوعه على النحو الذي ذكرته، لكنه يحكي صورةً تشبه واقعنا الذي نعيشه سواء كان ذلك في بيوتنا كآحاد وأفراد، أو كان في مجتمعنا كمجتمع وأمة. وأبلغ من مثالي هذا، وأعمق منه دلالة، وأظهر تأثيراً ما قاله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد ضرب لنا المثل الذي يستحق منا كل تدبر وتأمل، وهو حديث مشهور محفوظ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). سفينة الحياة والمجتمع كلنا ركاب فيها كلنا نلتمس بها الوصول إلى شاطئ الأمان كلنا يدرك أن أي أثر سلبي أو إيجابي في هذه السفينة يلمسه مباشرة، فإن تعرضت لخطر الغرق فهو قطعاً سيكون واحداً من الغرقى، وإن نجت وأسرعت فهو من السالمين الغانمين بإذن الله عز وجل. ابن النحاس من علماء أمتنا يوضح لنا هذا التشبيه ويقول: الدين سفينة النجاة إلى الآخرة، وسفينة هذه الدنيا كسفينة من ضرب فيهم المثل عليه الصلاة والسلام، فالذين يخرقون في السفينة يسببون الهلاك لجميع السفينة، ومثلهم الذين يخرقون في سفينة نجتنا في دنيانا إلى أخرانا. أي: الذين يخرقون في الدين، وهذه شركة واضحة، فالجميع على حد سواء، المسلمون مشتركون في الدين الذي هو النجاة في الآخرة كاشتراك أهل الدنيا في السفينة التي هي نجاتهم في الدنيا، وكما أن السكوت على شركاء السفينة إذا أفسدوا فيها يكون سبب هلاكهم، فكذلك المسلمون عند تركهم الإنكار على الفاسق يكون سبب الهلاك لهم، فإن أخذوا على يده -أي: أخذ بعضهم على يده- حققوا سبب النجاح، وذلك مثل ظاهر في فرض الكفاية، إذا قام به البعض قياماً يفي بالغرض لم يكن في ذلك عتب أو حاجة في دور الآخرين، ثم قال: لا يعترض على من ينكر المنكر إلا من عظم حمقه، وقل عقله، وجهل المعصية وشؤمها. عندما يأتي خارق السفينة ليخرقها هل تظنون أحداً يثني على فعله، أو يقول ما نسمعه اليوم: ذلك حرية شخصية، وهو إنما يفعل شيئاً يخصه حتى ولو كان في دينه وخلقه أو في أهله وزوجه أو في بيته وخاصة نفسه؟ وهل ترون أحداً في هذه السفينة ينظر إليه وهو يخرق الخرق في نصيبه ويتأمل متعجباً أو ينظر إليه متبسماً أم أنه لا يملك إلا أن يمنعه؛ لأن الضرر لا يخصه بل يتعداه إلى غيره، ولا يقدم من الشركاء على خرق السفينة إلا من هو أحمق يستحسن ما هو في الحقيقة قبيح، ويجهل عاقبة فعله الشنيع؟ وكذلك العاصي المقترف لما حرم الله سبحانه وتعالى، والحديث ظاهر في دلالته، وأزيد في إيضاحه ببعض رواياته التي تبين المزيد من معانيه، فقد ورد في الحديث روايات أخرى منها رواية عند الإمام أحمد في مسنده قال: (مثل أولئك مثل ثلاثة ركبوا في سفينة، وعندما قام أحدهم يخرق في نصيبه، قال الآخرون: لا، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا جميعاً، وإن تركوه هلك وهلكوا جميعاً). وفي رواية ثالثة (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، والمداهن فيها). فهنا أقسام ثلاثة: الواقع أي: المرتكب للمحرم والواقع في المنكر، والمداهن فيها أي: المجامل الساكت المضيع للحقوق، التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما القائم على حدود الله فهو المستقيم على أمر الله فعلاً لأمره وتركاً لنهيه، ومن ذلك قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأقسام الثلاثة ظاهرة بينة في واقع حياتنا.

قصة بني إسرائيل وما جسدته من معنى للحديث

قصة بني إسرائيل وما جسدته من معنى للحديث ننتقل نقلة قصيرة إلى آية تبين المعنى الذي جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية قصة وعبرة، ومثل وحكمة، قصها الله عز وجل لنا في شأن بني إسرائيل: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163]. ثم جاء الوصف من بعد فيما كان من أثر لبقية أهل القرية إزاء الموقف الذي اعتدى فيه المعتدون على ما حرم الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]. ماذا كانت النتيجة والعاقبة؟ {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. نهى الله بني إسرائيل عن الصيد في يوم السبت، وجعله خاصاً بالتفرغ لطاعة الله، والعبادة والانقطاع لها، وترك العمل، وابتلاهم بسبب فسقهم -كما قال جل وعلا- بأن جعل الأسماك تظهر في يوم السبت كأنما تقول: من يصيدني؟ آمنة ظاهرة على سطح الماء، سهلة ميسورة، قريبة مغرية، فلم يستطع نفر منهم أن يمتنع من ذلك، وأراد الصيد، وأخذ بالحيل الإبليسية الشيطانية، فجعلوا يحفرون الأخاديد، ويضعون الشباك في يوم الجمعة، فتدخل فيها الأسماك وينحدر الماء وتقع الأسماك الأخرى في الشباك، فلا يأخذونها ولا يلمسونها في السبت، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها، زاعمين أنهم مبرءون من المعصية، مجانبين لارتكاب المحرم والاعتداء على حدود الله، فجاءت الغيرة الإيمانية، والانتصار لحرمات الله من قوم مؤمنين صادقين، يعلمون أن الضرر سيعم ولا يخص، وأن الأثر سيحيق بهم كما يحيق بغيرهم، فجاءوا ناهين، وجاءوا معترضين، وجاءوا مذكرين. فجاءت فئة ثالثة فقالت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف:164] لا فائدة من وعظ أولئك، فهم قوم لا ينفع فيهم الوعظ، ولا يثمر فيهم التذكير، ولا يرعوون ولا يرتجعون عن مثل هذا، فجاء A { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] نقوم بما أوجب الله علينا نؤدي فريضة الله عز وجل فينا نحقق حقيقة إيماننا نترجم صورة مشاعرنا نبين ونعلن كلمة الله عز وجل وحكمه حتى لا يلتبس الأمر على الناس، ولا يختلط الحق بالباطل، ولا ينقلب المعروف منكراً، والمنكر معروفاً. (لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) لسنا معنيين ولا مكلفين بأن يتغيروا وأن يتركوا المنكر، فذلك أمره إلى الله، إنك لا تهدي من أحببت، حسبك أن تؤدي الأمر أن تقول الذكرى أن تحذر بالنهي أن توبخ بما يستطاع، وبكل وسيلة يمكن أن يكون فيها أثر نافع مشروع، فانتهت النتيجة إلى ما سمعنا: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165]. في وضوح وجلاء بأن الذين قاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعلنوا حكم الله، وأظهروا الغيرة على حرمات الله كانوا من الناجين: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأعراف:165] أي: الذين اعتدوا وارتكبوا المنكر {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. ثم بقي السؤال ما شأن أولئك الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ)؟! هل نجوا أم عذبوا؟! قال ابن كثير رحمه الله: لم يذكر؛ لأنهم ساكتون، فليس هناك فعل لهم يوجب مدحهم، ولم يرتكبوا المنكر فيوجب ذمهم، وإن كان أهل التفسير ذكروا فيما ذكروا أنهم من الناجين في الجملة لأسباب ظاهرة، وهو أن النص لم يتناولهم، ولم يكونوا ظالمين أي: فاعلين للمنكر، ولأمر آخر، وهو أنهم إنما قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ). للدلالة على أنهم قد نهوا من قبل فلم يستجب لهم، فقالوا مثل هذا، أو أنهم في ظاهر قولهم أبدوا إنكارهم بلسانهم وبما يعتمر في قلوبهم، لكن الأمر حينئذ أصبح ظاهراً في أن الجميع ينالهم الأثر في آخر الأمر، حتى وإن برئت ذممهم عند الله في الآخرة إلا أن عقوبة الدنيا وما يحصل من البلاء هو من سنة الله سبحانه وتعالى. هكذا قال ابن حجر إقامة الحدود -أي: في الدنيا- يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية، والساكت بالرضا بها، وفي الحديث استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، والأمر في هذا ظاهر بين، وثمة أمور لا بد أن نقف معها هنا لأنها تحكي واقعنا. ما قص الله علينا القصص عموماً وقصص بني إسرائيل خصوصاً إلا للعظة والعبرة، ألم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما تكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربطنا بقصة بني إسرائيل، وأنهم وقع فيهم الهلاك بسبب أنهم كانوا إذا وقع فيهم المنكر لم ينكروه، واستشهد بقوله جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78]؟! وذكر الله العلة في ذلك بأنهم: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ} [المائدة:79].

صور من واقعنا المعاصر

صور من واقعنا المعاصر

استخدام الحيل في إباحة ما حرم الله

استخدام الحيل في إباحة ما حرم الله صورة ثانية مهمة وخطيرة، وهي: التحايل على دين الله، والحيل التي يستحل بها الناس ما حرم الله كثيرة، فهذه صورة ذكرتها آيات القرآن، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل أن الله لما حرم عليهم الشحوم ماذا فعلوا؟ جملوها وأذابوها، فاستعملوها وهي زيت ولم يستعملوها وهي سمن، وقالوا: هذا حلال وذاك حرام، تركنا الحرام وأخذنا الحلال، وكم هي الصور التي يرتكب بها الحرام مع بعض التغيير في الأسماء! فالخمور مشروبات روحية، والربا فوائد اقتصادية، والعري والعهر فنون جميلة أو راقية، وغير ذلك مما قد تستمعون له، ونجد هذا وللأسف يزداد وتتسع دائرته حتى تعم أخياراً من الناس يقعون في مثل تلك المنكرات، وقد تلبس عليهم الأمر حقيقة في بعض الأحوال، فنحن في زمن الاختلاط والالتباس الذي اشتبهت فيه على كثير من الناس حرمة أمور مقطوع بحرمتها، حتى فعلها أناس وهم لا يشكون في حلها وجوازها، وهذه صور كثيرة تزداد كل يوم، وتتسع دائرتها في جوانب من حياتنا العامة في أمتنا المسلمة، لا سيما في قضية المرأة -وما أدراك ما المرأة؟ - في اتساع الدوائر التي تأخذ لنا شيئاً من الأمور المختلف فيها عند الفقهاء، لتصل بنا بعد ذلك إلى ما وراءه من أمور محرمة لم يقل بها أحد من العلماء سابقاً ولا لاحقاً، ويكون الاتكاء على ذلك الأمر المختلف فيه كما نرى ونعرف دائماً، وإذا تأملنا فإنا نجد أن هذه الحيل والألاعيب والصور هي التي تصيب الأمة في مقتل من جهات ثلاث: الجهة الأولى: ارتكاب المحرم والوقوع فيه. الثانية: تخفيف وقع ارتكابه بهذه الحيل والألاعيب. الثالثة: العمل على نشره وتطبيعه دون وجود من ينكره، ودون وجود من يرى فيه مخالفة أو غير ذلك، قال ابن القيم رحمه الله: في هذا زجر عظيم لمن يتعاط الحيل على المناهج الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، وليس المتحايل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه، وهذه مسألة مهمة.

قلة السالكين منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قلة السالكين منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسألة ثالثة أيها الإخوة! وهي مسألة الإنكار، أين هو الأمر بالمعروف؟ أين هو النهي عن المنكر؟ تفكر في نفسك ارجع قليلاً إلى الوراء لمدة أسبوع أو شهر، تذكر كم مرة نطق لسانك بأمر بمعروف أو نهي عن منكر! تذكر كم انقبض صدرك واهتم واغتم قلبك لمنكر رأيته! تذكر كم استطعت أن تقوم بشيء من تغيير المنكر بيدك فيما تستطيعه وتقدر عليه ولا يترتب عليه ضرر! وإذا فعلت ذلك فانظر إلى دائرة من حولك وتأمل: هل وقع شيء من ذلك؟ إن الأمور تنحسر شيئاً فشيئاً، فلا نكاد نسمع لساناً ناطقاً بمعروف أو ناهياً عن منكر، ولا نكاد نرى وجهاً متمعراً لما يرى من صور الفساد وارتكاب المنكرات، ومثل هذا خطره عظيم، وضرره كبير، وأذكر من ذلك أموراً خطيرة مهمة؛ لأن هذه هي الدوائر التي تصلنا بها الآثار السلبية، قالوا: معذرة إلى ربكم، لماذا لا تنكر؟ فيجيب: من يسمع لي؟ وهل سيتغير الواقع؟ وهل تظن أن كلمة مني ستغير هذا الفساد؟ إذاً: فلنبق كلنا كالشياطين الخرس لا تنطق بكلمة حق، لا في حال من أحوال اليسر أو العسر، {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]. سيسألك الله وسيسألني وسيسأل كل أحد: ماذا فعلت في تلك المنكرات؟ ستقول: لا فائدة، الواجب عليك: (فليغيره) الواجب عليك: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]. ذلك واجبك قم به معذرة لله عز وجل، وتأمل، فإنه من الممكن أن تقع الكلمة موقعها، وأن تؤثر في نفس سامعها وقلبه، وما يدريك فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ورب طاغية مجرم أو ظالم معتد أو فاسق فاجر تردعه وترده إلى الحق والهدى والصواب كلمة، فلا تحتقرن شيئاً تقوله لوجه الله، وتتحرك فيه غيرة على دين الله، وتؤدي فيه واجب الله، وتقتدي فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أثر ذلك يكون عظيماً بإذن الله عز وجل ولنتصور أن كلاً منا نطق بمعروف ونهى عن منكر، فكم من منكر سيزول بسبب من يقول لصاحبه: قف! وانتبه! واحذر! وخف الله عز وجل! ولو أن كل واحد سكت لما سمعنا شيئاً من ذلك، تأمل هذا المعنى فإن التقصير والتفريط فيه عظيم وكثير للأسف الشديد.

الحرية الشخصية والوصاية الدينية

الحرية الشخصية والوصاية الدينية انظر متأملاً إلى صور كثيرة في واقعنا من أجلها وأخطرها المفاهيم المغلوطة، إن أموراً كثيرة تقال اليوم هي مما يخالف المفهوم الصحيح في دين الله، ومن ذلك مسألة الحرية الشخصية، والوصاية الدينية، إن الذين يرتكبون المنكر يخرقون في سفينتنا، إنهم لا يعملون شيئاً يخصهم، إنهم لا يتصرفون في ملكهم، إنهم يتصرفون في أمر نشترك فيه، إن الدين ديننا، وإن الإسلام إسلامنا، وإن الأمة أمتنا، وإن المصلحة مصلحتنا، فلا يقال: إن لأحد حرية شخصية، إن تبرجت المرأة وأظهرت نحرها وذراعيها أو كشفت عن فخذها وساقها فهل نقول: حرية شخصية؟ إنها تعتدي على حرمات الله، إنها تسبب الفتنة في المجتمع، إن الذي يعمل بأمر من الأمور المحرمة شاء أم أبى لن يقتصر أثره العملي فضلاً عن أثره الكوني في سنة الله عز وجل عليه وحده، بل سيتعداه إلى غيره قطعاً وجزماً واقعاً مشاهداً حياً، وهذه مسألة مهمة. ولذلك تأتينا الوجهة الأخرى إذا جئت تنكر، إذا قلت: لا تشعل النار، إذا جئت لتطفئ؛ قالوا: وما الذي يعنيك من هذا؟ وكيف تجترئ على حرية الناس؟ ويقال لك: لماذا تهددنا بالوصاية الدينية؟ ولماذا أنت الذي تريد أن تكون مهيمناً علينا وكأن عندك تفويضاً ربانياً إلهياً بأن تحكم على الخلق؟ نقول: إن ذلك التفويض موجود حقيقة، وهو معني ومقصود به الجميع بلا استثناء: (من رأى منكم -معاشر المؤمنين والمسلمين- منكراً فليغيره، -على صيغة الأمر- بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية أخرى: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) هذه مهمة من الله عز وجل، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن عماد ديننا وعموده، فكيف يقال: إننا نقوم بوصاية دينية؟! إنها ليست قضية شخصية، إنها قضية الأمة والمجتمع.

الأسباب المؤدية إلى الحديث عن موضوع الحسبة

الأسباب المؤدية إلى الحديث عن موضوع الحسبة أنتقل إلى مسألة مهمة: وهي ما الذي دعاني إلى هذا الحديث اليوم؟ أحسب أنه لو تفكرنا قليلاً لعرفنا الأسباب، وأذكر هنا أمرين:

ما كشفته الحملات الأمنية من الجرائم

ما كشفته الحملات الأمنية من الجرائم الأول: ما طالعتموه على مدى الأسابيع الماضية وربما الأشهر الماضية من الحملات الأمنية التي قامت بها الشرطة في عدد من المدن، وقد كانت النتائج مفزعة ومثيرة للعجب، كم كشفت من شبكات دعارة؟ كم كشفت من شبكات مخدرات ومصانع خمور وتزوير هويات وممارسة السحر والشعوذة؟ كل ذلك واقع في مجتمعنا وبين أظهرنا، وقريباً منا، وفي ذلك الطريق أو ذلك الشارع الذي نمر به كثيراً، هل كل هذا الذي اكتشف لم تكن عين رأته من قبل، ولا أذن سمعته؟ كلا، بل كان ذلك موجوداً، وخرست الألسن، وأغمضت الأعين، وصمت الآذان، وضعفت الغيرة، وغاض ماء الإيمان في القلب، ولن يدرك أحد أن السفينة إذا غرقت سيكون الجميع غرقى. أليس هذا الذي رأيناه ونقرأ عنه في صحف كل يوم أمراً لم يكن لنا به عهد بمثل هذا الحجم؟! كيف وصل الأمر هكذا؟ لم يكن في يوم وليلة، لكن أحداً خرق خرقاً صغيراً فقلنا: وما عسى أن يفعل؟ وقال الثاني: دعه مالك وله؟ وقال الثالث: هل أنت وكيل الله على خلقه؟ وقال الرابع: مالي وللناس؟ وهكذا حتى اتسع الخرق على الراقع، وأصبحت القضية ضخمة هائلة.

الحرب الضروس على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الحرب الضروس على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثاني: وهو من عجائب ما يحير عقلي، ويكشف لي عن أمور تحتاج إلى شيء من المصارحة والوضوح، وهو أيضاً مما قص، ومما ذكر في وسائل الإعلام الصحفية على وجه الخصوص، ففي الآونة الأخيرة تذكر أخبار هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهودها المشكورة، وأعمالها المبرورة التي رأيناها في الواقع دائمة، وليست مؤقتة، ولكن الذي أظهره الإعلام في الصحف مؤخراً أنهم استطاعوا مرات ومرات أن يكتشفوا مثل هذه الجرائم في هذه الشبكات الأخلاقية المنحلة، وفي توزيع الخمور والمخدرات وغيرها، لكن عجبي! هو أن أحداً في الجملة لم يذكر لهم ذلك الخير، بينما ترى الكتاب ينتقدون الهيئة إذا أخطأ عضو من أعضائها في أسلوب من الأساليب أو في موقف من المواقف، فيقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ويكتبون على التشدد والتزمت والتطرف وغير ذلك، ويكتبون لنا عن الاعتداء على الحريات الشخصية، وعلى التنفير من الدين وغير ذلك، لم لا يكتبون عن هذه الجهود التي هي حماية لنا، ووقاية لأبنائنا، وسلامة لمجتمعنا، وحفظ لديننا وإيماننا وإسلامنا؟! لماذا لا تذكر إلا المثالب إن صح وقوعها؟! لماذا لا نكون صرحاء؟! لماذا نشعر حينئذ بأن الأمر إنما هو تلمس المعايب وتتبع القبائح على افتراض وجودها مع أن غاية ما يقال فيها: إنها أخطاء اجتهادية أو ممارسات فردية؟! إن ذلك يدلنا على أن كثيراً من هذا الزخم الإعلامي ليس معنياً في الحقيقة لمصلحة المجتمع، ولا بالأثر الإيجابي فيه بقدر ما يعبر فيه أولئك الكتاب عن ذواتهم وأهوائهم ونزواتهم ورغباتهم وآرائهم الشخصية، ضاربين عرض الحائط بالمجتمع ومصالحه وكل ما يتعلق به، وهذه مسألة خطيرة مهمة، وهذا أمر ينبغي لنا نحن ألا نكون كذلك، ينبغي أن نشكر الله عز وجل ونحمده على كل من يقوم بأمر بمعروف ونهي عن منكر؛ لأنه يدفع عنا سخط الله وعذابه؛ لأنه يدفع عنا فتنة وبلاء؛ لأنه يكون سبباً من أسباب نجاتنا وعدم استحقاقنا للعذاب، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه أجر ومدح من الله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. إن الفلاح في ذلك، وإن الأثر المحمود دنيا وأخرى في ذلك: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ليست لنا خيرية إلا بأداء شرط هذه الأمة وسمتها في قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71]. من أراد رحمة الله فذلك طريقه، وفي الوقت نفسه مقابل ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدح واستحقاق للعذاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78]. قال الزمخشري معقباً على مثل هذا الأمر: فيا حسرة على المسلمين! -والزمخشري في القرن السادس الهجري أي: قبل نحو تسعة قرون من تاريخنا هذا- في إعراضهم عن التناهي عن المنكر، وقلة عبئهم به، وكأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب. أي: من المبالغات في التشديد في هذا الباب. والفتنة والعذاب لازمة عند ترك هذه الشعيرة المهمة العظيمة، وهي التي قد نفسر بها كثيراً مما هو واقع بنا، كما قال الحق جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. ستعم كما بين ذلك أهل التفسير، لا تصيب الظالمين بل تصيب معهم غيرهم ممن لم يغير المنكر ولم ينه عنه، وإن كان لم يظلم كما قاله ابن جزي في تفسيره، والحق جل وعلا يقول: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]. والتسلسل يمضي لئن لم ننكر فسيكون الجيل من بعدنا في حال أسوأ منا، والمجتمع يغرق في هذه المعاصي والسيئات، ويأتي جيل فيقصر أكثر؛ فيكون الأثر من بعده أعظم، ولله سبحانه وتعالى في ذلك سنة ماضية: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه الذي يرويه أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم. والأمر في هذا يطول، قال ابن العربي رحمه الله في هذا المعنى: وهذا من الفقه العظيم، وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل بها إلى الآخرة، وإن السكوت على المنكرات تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات، وركوب الذل من الظلمة للخلق. نسأل الله عز وجل السلامة! وهذا حديث حذيفة أختم به هذا المقام روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم) رواه الترمذي. نسأل الله عز وجل أن يصرف عن السوء والفحشاء، وأن يحفظ علينا في مجتمعنا إيماننا وإسلامنا، وأخلاقنا وذرياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغيرة على حرمات الله، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل حب لله، وتعظيم وإجلال له؛ لأنه كما قالت عائشة أم المؤمنين في وصف سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (ما نيل من شيء قط فينتقم لصاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم منه) رواه مسلم. قال ابن القيم في شأن هذه الغيرة: المهم أن نحميها في قلوبنا، أي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟! وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورئاستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين وأهله؟ وتأملوا فقه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: سئل ابن مسعود رضي الله عنه: من ميت الأحياء يا ابن مسعود؟ قال رضي الله عنه: (الذي لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً) فكم بين أحيائنا أموات وإن كانوا يتحركون ويتكلمون ويأكلون ويشربون نسأل الله عز وجل العافية! ومن المآثر المهمة لمثل هذه الشعيرة: أن تبقى الذكرى قائمة، وأن يبقى ما ينزع وما يبطل الغفلة حياً مذكوراً مشاعاً في المجتمع، حتى لا تغفل العقول، ولا تموت القلوب، ولا تخمد النفوس في دينها، بسبب عدم إنكار المنكر الذي يرتكب في واقعها ومجتمعها. قال إمام الحرم الشيخ ابن حميد حفظه الله في هذا المعنى كلاماً جميلاً، قال: ولو طوي بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهمل علمه وعمله؛ لتعطلت الشريعة، واضمحلت الديانة، وعمت الغفلة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، وحينئذ يحل عذاب الله، وإن عذاب الله لشديد. أبلغ هذه النصوص الشرعية والأحاديث النبوية والمقالات العلمية، وهو يحتاج منا إلى أن نعيده ونكرره عسى الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا وغيرتنا، وحميتنا وانتصارنا لدين الله، وانتصارنا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين! اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، ولا تؤاخذنا اللهم بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم ارحم إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم سهل عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا، وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الصيف بين الإهدار والاستثمار

الصيف بين الإهدار والاستثمار الوقت من أهم ما يجب على المسلم المحافظة عليه، وهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وإن لم تستثمره في الخير أهدر في الشر وما لا فائدة فيه، وهذه الإجازة الصيفية التي تُمنَح للمعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات من أوسع ميادين الإهدار والاستثمار للوقت، فعلى الآباء والأولياء الأخذ بأيدي أبنائهم إلى استثمار هذه الإجارة الصيفية بما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة، وذلك عن طريق وضع الخطط والبرامج المناسبة، أو عن طريق الالتحاق بالمخيمات الصيفية الهادفة ونحو ذلك.

مظاهر سيئة في المجتمع المسلم

مظاهر سيئة في المجتمع المسلم الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وجعل العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومنار العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

وجوب تربية الأبناء على إجلال المصحف

وجوب تربية الأبناء على إجلال المصحف إن مسألة الإجلال والتقدير ليست مسألة نظرية ولا لائحة عقابية ولا أنظمة تعليمية، إنها قبل ذلك كله تنشئة إيمانية وتربية. لم لا نوجه العناية في صيفنا هذا كله لنجعله تربية إيمانية عملية لأبنائنا على تقديس كتاب الله وخدمته؟ لم لا نجعل في الأسر برامج تعلم الأبناء كيف يتعاملون مع كتاب الله، ونجعلهم يقومون بأعمال تتعلق بخدمته ونشره، فيشتري هذا مصحفاً مسجلاً ثم يبذله لأحد، أو يشتري مصحفاً ويضعه في المسجد أو يصنع أي شيء من الأعمال الإيجابية التي لا تقف عند التقديس والتقدير والاحترام نحسب، بل تقود إلى ما هو ترجمة لذلك بالخدمة والنشر والإعانة.

إهانة القرآن وتبلد مشاعر المسلمين

إهانة القرآن وتبلد مشاعر المسلمين وهكذا نجد الصور تتشكل، حتى تبلغ الصور الصارخة أعداد كثيرة. وإنني كلما أردت أن أطوي هذا الحديث تجدد في النفس والقلب من الحزن والأسى ما يجعله يعود، وتجدد في الواقع أيضاً ما يذكي جراحه ويثير نزف دمائه من جديد، مثل قضية تدنيس المصحف، وقد قرأنا خلال هذا الأسبوع تقريراً يتضمن نتائج التحقيق في تلك الجريمة ويقول: إنه لم يثبت إلا خمس حالات فقط، وسميت هذه الحالات بـ (إساءة التعاطي مع القرآن الكريم)! ألفاظ مهذبة مشذبة! ما هي هذه الإساءة لهذا التعاطي؟ بنص التقرير فقد ذكر صوراً تتعلق بتبول -أكرمكم الله- على كتاب الله، وأخرى فيها ركل أو دعس لكتاب الله، وثالثة فيها قذف شيء من الماء على كتاب الله. ويأتينا الخبر مجدداً اليوم عن اعتداء مماثل في سجون الكيان الصهيوني على المصاحف التي يمتلكها ويقرأ فيها إخواننا الأسرى المسجونون المظلومون من أبناء الشعب الفلسطيني. وتتجدد هذه الأمور وكأن شيئاً من ذلك لم يكن ليحدث، ولعلي هنا أنتقل سريعاً إلى ما ينبغي أن نغيره في أذهاننا ونفوسنا فضلاً عن أذهان ونفوس أبنائنا.

تمزيق الكتب الدراسية في نهاية السنة الدراسية

تمزيق الكتب الدراسية في نهاية السنة الدراسية أيها الإخوة المؤمنون: "الصيف بين الإهدار والاستثمار"! وقد أوشكت أيام الدراسة على النهاية ليحل موسم الإجازة أو العطلة كما يطلق عليها، والتي تمتد وقتاً طويلاً ليس أياماً ولا أسابيع، وتنتظم أعداداً كبيرة من الطلاب والطالبات على وجه الخصوص، والأسر من الآباء والأمهات على وجه العموم، إذ كثيراً ما تكون إجازات الأعمال متوافقة مع إجازات الدراسة. فهذا الوقت الطويل الممتد، فيم يستغل؟ وهذه هي الطاقات والإمكانات كيف توظف؟ ثمة صور متناقضة أو متعارضة، ولعلي أبدأ بصورة ربما رأيناها وسنراها في الأيام القادمة، وهي صورة محزنة مؤلمة، شدد عليّ بعض الإخوة في ذكرها، وأهمية التنبيه عليها، وهي صورة لا تبشر بخير، وهي ظاهرة قذف الطلاب لكتبهم وتمزيقهم لمناهجهم، وشعورهم بأنها قيد يتخلصون منه، أو عبء يلقونه عن كواهلهم، ونرى -وللأسف- الكتب على أرصفة الطرقات، بل نراها في بعض الأحيان وهي في حاويات النفايات بما فيها من الآيات والأحاديث والعلوم المختلفة المتنوعة! ومناهجنا بحمد الله عز وجل لا تخلو من ذلك في شتى نواحي العلم. هل هذه صورة تبين لنا أن هؤلاء الطلاب سيستقبلون الصيف بقراءة نافعة، وثقافة واسعة، ونشاطات متنوعة؟! ولماذا يحصل مثل هذا؟ وهنا نؤكد على أمر مهم، فالقضية في مثل هذا ليست ناشئة عن أوضاع دراسية أو تعليمية أو عن نظم يمكن أن تفرض، بل هي التنشئة الإيمانية والتربية الإسلامية والتهيئة الأخلاقية، والتثقيف الفكري والإعداد النفسي الذي فقده بعض طلابنا في بيوتهم وأسرهم، ومن أساتذتهم وفي معاهدهم، فخرجت الصورة النهائية لتعبر لنا عن خطوات قبلها: عن خلل في تفسيرهم ونظرتهم لهذا العلم، وشرفه وفضله وأجره وثوابه، وكذلك أثره الذي يعود عليهم وعلى مجتمعهم وأمتهم بالنفع والفائدة.

مواجهة هذه الظاهرة مسئولية الجميع

مواجهة هذه الظاهرة مسئولية الجميع فهذه الصورة لم تجعل العلم في مقام التوقير الذي لقننا إياه منهج الإسلام: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)، أين معنى هذا العلم؟ أين غرسه؟ أين تعظيم ما هو معظم من كلام الله جل وعلا وآياته وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين نحن من إعجاز العلم وكتبه ومناهجه؟ أين هذه المنهجية التي ينبغي أن تكون غرست؟ وهنا يجب أن ننتبه إلى هذا الخطر، وندرك تماماً أننا جميعاً مسئولون عن ذلك التفريط العام؛ سواء في الأداء التعليمي أو في الرسالة الإعلامية التي تبث ما يحط من قدر العلم والعناية به، إنها لا تمجد ولا تشيد بأحد من الطلبة المتفوقين ولا المتميزين ولا المتخرجين، وإنما تشجع المغنين والمغنيات والرياضيين والرياضيات، حتى أصبح حجم هذا البث يكفي أمة العرب وعشر أمم من أمثالها من ضخامته وزخمه، فمن أين لطالب أن يعنى بالعلم وأن يلتفت إليه في ظل هذه الأجواء الإعلامية التي يغلب على كثير منها الجوانب السلبية تجاه العلم والتعليم؟ وكذلكم ما قد نشهده هنا وهناك من تصرفات بيئية أسرية في داخل البيوت، فإن الأب كما أشرنا من قبل يعتني كثيراً في تعليم أبنائه اللغة الإنجليزية، ويحضر لهم المدرسين، وقد يفرغهم في فترة الصيف لدراسة طويلة داخل البلاد أو خارجها، لكنه لا يسأل مطلقاً ولا يلتفت أبداً إلى حال أبنائه في تعلمهم لكتاب الله أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأحكام الفقه أو لتربية الأخلاق، أو لغير ذلك من الأمور، ويراها ثانوية! فحينئذ تُعظَّم تلك وتضعف هذه في نفوس الأبناء تلقائياً.

إقامة الدورات الصيفية من الصور المشرقة في استثمار العطلة

إقامة الدورات الصيفية من الصور المشرقة في استثمار العطلة ونحن نقف اليوم على أبواب الصيف نرى صوراً أخرى مشرقة بالاستثمار في الدورات القرآنية الصيفية، التي هي تربية إيمانية تجعل الناشئ من أبنائنا يأتي إلى بيوت الله متشوقة إليها نفسه راغباً فيها قلبه، وتجعله كذلك يعكف الساعات يرطب بكتاب الله لسانه، ويحيي به قلبه، ويدرك أنه يستغل هذا الوقت في هذه اللحظات والساعات في مقابل أوقات أخرى يقضيها غيره في اللهو والعبث. إننا نصنع من خلال هذه الدورات أموراً عظيمة في التنشئة والتربية والتقويم والسلوك، أكثر من النتائج التي نرقبها من الحفظ والمراجعة والتجويد والإتقان، ولذلك ينبغي أن ندرك أن النتائج إنما تنشأ من المقدمات؛ فكل أب يرى من ولده سلوكاً غير محمود فليعلم أن ثمة مقدمات من داخل الأسرة أو من المحيط العام، أو من وسائل الإعلام؛ أثرت في سلوك الولد حتى وصل إلى هذا الحد، وأنه لم يكن هناك ما يكافئها ولا ما يعارضها. فظاهرة تمزيق الكتب ينبغي الآن وفي هذه الأيام أن نسعى بين أبنائنا بالتوجيه والإرشاد لتجنبها والحد منها.

البذخ والتبذير في حفلات الأعراس

البذخ والتبذير في حفلات الأعراس وهناك صور أخرى من صور الإهدار، وبعضها محزن مؤلم، كصور البذخ والتبذير والإسراف الذي يرافق فترات الصيف عموماً ومواسم ومناسبات الأفراح خصوصاً. ليست الأموال أيها الإخوة آلافاً ولا مئات الآلاف، بل ليست ملايين ولا عشرات الملايين إنها تبلغ أكثر من ذلك، ولا شك أن من ذلك ما هو مباح ومندوب ومستحب في إقامة الوليمة وإعلان العرس، لكننا نوقن تماماً أن ثمة صوراً من التبذير والبذخ في الألبسة وفي الأطعمة وفي الأماكن التي تعقد فيها هذه المناسبات وغير ذلك، وكل هذا يحدث في مقابل وجود صور من الفقر كثيرة في كل أنحاء مجتمعنا الإسلامي بما فيه هذه البلاد، فكم من عاطل عن العمل يحتاج إلى من يعينه، وكم من عاجز عن الزواج يحتاج من يساعده، وكم من أسرة فقيرة تحتاج من يواسيها، وهذا البذخ في مقابله.

حكمة الإسلام في تحريم التبذير

حكمة الإسلام في تحريم التبذير والإسلام عندما يحرم التبذير فإنه يحفظ الثروة العامة للأمة ككل، بل ولصاحبها الذي لا يعلم ما يستقبل من الأيام، فقد يحتاج إلى هذا الذي أسرف فيه في يوم تدور فيه الدوائر ويحتاج فيه إلى أقل من ذلك، فضلاً عما ينتج عن ذلك من أثر في الناحية المعنوية والتربوية الاجتماعية من وجود هذا التفاوت وحنق الضعفاء على الأغنياء، ووجود المفارقات والطبقيات التي لها من الآثار ما لها. وحسبنا في الأمثلة والقدوات ما جاء في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم تزوج ويوم زوج، فهل ثمة أشرف وأعظم من زواج النبي صلى الله عليه وسلم أو تزويجه لبناته؟! كم كانت مقادير المهور، وكم كانت تكاليف مناسبات الأفراح في تلك النماذج المشرقة الوضيئة؟ ولئن كان فرق بيننا وبين ذلك المجتمع فإن الصورة النسبية ظاهرة لا تخفى على أحد، حتى لا يقال: إننا في عصر غير ذلك العصر، ونجد أن الإحصاءات تدلنا على أمور أخرى، وقد نشر خلال الأيام الماضية تقارير أعتقد جازماً أن من رآها بكى قلبه قبل أن تبكي عينه. إنها تقارير مجاعة في النيجر، يموت فيها الأطفال دون الثانية من العمر، وصورهم تمثل هياكل عظمية وتنبئ عن أمراض خطيرة، وبمجرد النظر يجد الإنسان نفسه قد كاد يفقد لذة طعامه الذي يأكله ومائه الذي يشربه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه لا يؤمن من بات شبعان وجاره طاو. أين نحن من التكامل الذي حرك النبي صلى الله عليه وسلم وأثر في مشاعره يوم رأى الفقراء من مضر، فتمعر وجهه -أي: تغير حزناً- ثم دعا الناس للإنفاق، فبادر الأنصاري بصرة من ذهب كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت، فتتابع الناس واجتمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة من شدة فرحه بهذا التعاطف وبهذه الروح الإيمانية، وبهذه النفوس الرقيقة الرحيمة التي وإن أخذت بقوله جل وعلا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]؛ فإنها لا تنسى ذلك الجانب الآخر. صورة تتكرر في مواسمنا الصيفية وأفراحنا المتتابعة، حيث نجعل الأفراح مقترنة في كثير من الأحوال بترك المباح، أو على أقل تقدير بتجاوز المندوبات والمستحبات إلى دائرة الشبهات والمكروهات، بل نتعداها إلى أكثر من ذلك، وهذا يحتاج منا إلى تأمل وإعادة نظر.

تقارير اقتصادية تبين مدى التهاون عند أثرياء المسلمين

تقارير اقتصادية تبين مدى التهاون عند أثرياء المسلمين واليوم نشرت تقارير لبعض المجلات الاقتصادية عن حجم الثراء وزيادته، فعدت في الشرق الأوسط خمسة وعشرين ألفاً وثمان مائة شخص من الأثرياء، قدرت ثروتهم بترليون دولار أي ألف ألف مليون دولار، وبحساب زكاتها نجد أن في كل ألف مليون خمسة وعشرين مليوناً، أي: أن مجموع زكاة هذه الأموال: خمسة وعشرون ألف مليون دولار، لو أخرجت هذه الزكوات وصرفت في مصارفها لم تبق الأحوال على ما هي عليه! ولكن للأسف فإننا نرى من يصرف على غناء ماجن وعلى تسويق داعر وعلى اختلاط آثم في هذه الأفراح ما هو أضعاف أضعاف ما يمكن أن يكفي لعدة أسر لأعوام متعاقبات. {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27]. والإسلام دين الوسط {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29].

إقامة المخيمات الصيفية صورة إيجابية

إقامة المخيمات الصيفية صورة إيجابية وأنتقل إلى صورة ثالثة لنرى فيها المفارقات، ونرى صوراً من الإيجابيات وكيف تواجه بالمخالفات والمعارضات، ففي صيفنا دائماً تجد المخيمات الدعوية، وهي مع تطورها أصبحت تشتمل على برامج متنوعة، لا تكتفي بالمحاضرات ولا تقتصر على الندوات، ولا تطعم برامجها بالأمسيات الشعرية فحسب، بل تزيد إلى ذلك فقرات ترفيهية وأنشطة رياضية ومسابقات ثقافية، وتشتمل على برامج للرجال وأخرى للنساء، وثالثة للأطفال والأبناء ويشهد لنجاحها وتنوعها وتأثيرها وإيجابيتها أمور كثيرة، منها كثرة الإقبال عليها، وقد جاء في إحصائية المخيم الدعوي الذي كان يعقد في المطار القديم أنه بلغ عدد الذين زاروه خلال أسابيعه الخمسة ثمانمائة ألف إنسان رجالاً ونساءً. وهذا شيء يشرح الصدر ويدل على الخير والإقبال عليه، ويدل على أن هذه البرامج كان فيها من التشويق والتنوع والإفادة ما جعل هؤلاء يقبلون عليها. وثانياً: وهي شهادة قررها محافظ هذه المحافظة ومدير شرطتها والمسئولون فيها في دور هذه المخيمات في مكافحة المخدرات وإقلاع الشباب عنها، فبسبب البرنامج الشهير الذي كان يجذب هؤلاء الشباب الذين ربما لا يأتون إلى المساجد في المحاضرات ولا تعجبهم بعض تلك البرامج التي يصفونها بأنها متشددة أو منغلقة، جاءوا بالآلاف وأقلعوا أمام الناس وعلى مرأى منهم ومع الكاميرات التي صورتهم؛ أقلعوا عن التدخين، وأقلعوا عن استخدام الحبوب المخدرة، ورأى ذلك المسئولون في الأمن وأشادوا به وعرفوا به. وصورة ثالثة أيضاً: وهي ما يتعلق بالإيجابيات التي تدفع إلى سلوكيات أخرى، فثمة مسابقات في البحوث، ومسابقات في الأسئلة والأجوبة تدفع أبناءنا في هذه الأوقات إلى أن يقرءوا وأن يطلعوا. والقراءة قد دفنت فلا نكاد نجد من شبابنا قارئاً يحسن قراءة نص من النصوص أو يحفظه، أو يقرأ التاريخ أو غير ذلك. هذه جوانب أخرى غير الجوانب الأساسية في هذه البرامج، فكم في هذا من خير وكم في هؤلاء الثمانمائة ألف -وهم في برنامج واحد ومخيم واحد- من انتفعوا بكلمة بارك الله فيها، وعرفوا حكماً كانوا جاهلين به، ومنهم من تحمسوا إلى عمل وبذل كانوا معرضين عنه، ومنهم من أقلعوا عن إثم ومحرم كانوا مرتكبين له.

تشويه المرجفين والدخلاء للمخيمات الصيفية والمتدينين

تشويه المرجفين والدخلاء للمخيمات الصيفية والمتدينين ثم يأتينا اليوم كما أتانا من قبل من يقول: إن هذه المخيمات تفرخ الإرهاب وتنتج القتل والتدمير! ويقول لنا: إنها تمثل أحادية الرأي وتسلط الفكر وقهر الآخر، وتجعل الناس يقطبون وجوههم ويعبسونها فلا تكاد ترى فيها ابتسامة ولا تسمع كلمة طيبة. وأجزم جزماً أن واحداً من هؤلاء لم يدخل مثل هذه المخيمات ولم يعرف برامجها، وقد قرأت اليوم نصوصاً من صحافة اليوم تحدثنا عن بعض هذه الصور مقرونة بجانب آخر وهو جانب التعليم والمدارس. فهذا كاتب يقول عن بعض البرامج التي قدمت في المدارس لكي تكون فيها مواطن عظة وعبرة وفيها صور أخرى لم يذكرها من مواطن الترفيه والتنشيط؛ فيذكر لنا ويقول في سياق النشاط الذي يقدم في المدارس ناهيك عن تلك الأفلام التي تعرض في مدارس البنات أيضاً، وفيها تصوير لمجازر ومشاهد الذبح والقتل والدمار وأفظع الجرائم التي ارتكبت في البوسنة والهرسك والشيشان، ثم يعلق مباشرة ويقول: ألا تؤدي تلك المشاهد إلى تكريس الكراهية للآخر في نفوس النشء ودون تمييز؟! ثم يقول: لأنه لا يقابلها ثقافة إيجابية توفر لهم معرفة حقيقية بالآخر! يرى أن تعريف أبنائنا بجرائم الأعداء وضرب أمثلة اجتمعت البشرية كلها -إذا صح التعبير- على إنكارها؛ غير ملائم ولا مناسب. ثم يقول: إنه تذكر أيام كان طالباً في المدرسة، يقول: وكانت لدينا جمعيات مختلفة: جمعية للعلوم وجمعية للرياضيات وجمعية للتوعية الإسلامية، ثم يخبرنا عن هذه الجمعيات فيقول: كانت مجرد أسماء وكانت تتعرض للعطل وتتوقف عن العمل، وكأنها آلة ليس لها إلا هيكل من الخارج ولا محرك لها من الداخل. ثم ينتقل إلى جمعية التوعية الإسلامية فيقول عنها: كانت شديدة النشاط قوية الهمة تنظم المخيمات وتقيم المحاضرات، وتلقي الخطب وتوزع الأشرطة كما كانت تتخذ لها مقراً داخل المدرسة. وكأنه بهذه المقارنة يدين نفسه لكنه يستدرك ويقول: كنت أمر بجانب هذا المقر وأرى فيه من الداخل صخوراً وصوراً توحي بأنك في كهف مظلم وإضاءة خافتة! ويقول: إني لم أدخل هذا المكان؛ لأنه كان يعبر عن شيء من الخوف والرهبة! لست أدري ماذا يقول هؤلاء وما الذي يريدونه لأبنائنا إذا كان هذا تفكيرهم وتصويرهم الذي لا أعتقد أنه مبالغ فيه فحسب، بل أعتقد أنه مجانب للحقيقة، فأي مقر لنشاط مدرسي فيه صخور وظلمة وفيه مثل هذا الذي يصور ويقال؟! وهكذا نجد مثل هذا في كتابة أخرى تصور لنا صراع الأجيال، وتصوروا أن هذا الوصف الذي يكتب في صحافتنا يبين فيها اختلاف الأب عن جيل جديد من الأبناء سماه هو: جيل (استر أكادم) وجيل الفضائيات، وجيل الإنترنت، وجيل ثالث هو الجيل المفكر فكراً انحرافياً حداثياً انكسر من قبل، ويزعم ويقول: إن في كل بيت من بيوتنا هذه الأصناف الثلاثة. وأجزم بأنه مخطئ قطعاً وأن الوجود الذي يصفه وجود محدود لو شئنا أن نبحث لوجدنا النسب تشهد بغير ذلك. يقول في وصفه للأب: سنجد في البيت أباً متديناً يلبس الثياب القصيرة ويصلي الصلوات كلها في المسجد وله المرجعية الدينية التي يتعامل معها ومع أحاديثها على منزلة التقديس؛ محافظاً على كل ما تشير به هذه المرجعيات من القيم والالتزامات الدينية والخلقية. إنه في هذا الوصف يعطينا وصفاً لا نرى فيها عجباً، بل نراه هو الوصف الطبعي، وكما قلت من قبل: لم لا يكون المسلم متبعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! ولم لا يكون معظماً ومقدراً لعلماء الأمة ومستمعاً ومصغياً إليهم؟! ويقولون لنا: إن الإرهاب سببه عدم شيوع العلم وعدم الاستماع إلى العلماء! ولم لا يكون الإنسان مصلياً كل صلواته في المسجد، وهل بنيت المساجد لغير ذلك؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه- في صفة المسلم أنه يلبي الصلوات حيث ينادى بهن؟! أي: في المساجد، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم كما صح من حديث أبي هريرة (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة في المساجد فأحرق عليهم بيوتهم؟). ألم يكن من دلائل النفاق -كما نص على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- عدم الحرص على أداء الصلوات في الجماعة؟! ألم يقل الصحابة: كان لا يتخلف عنها -أي: العشاء والفجر- إلا منافق معلوم النفاق؟! فيصور هذا على أنه مدرسة قديمة، ثم يصور لنا جيلاً جديداً ووصف لنا شعره ووصف لنا لباسه، ووصف لنا تعقله، ثم يأتينا بالحكم، وتأملوا هذا الحكم بنصه كما نشر؛ يقول: الذي سينتصر حتماً جيل التكنولوجيا والاتصالات، وهو القادم والآخران مدبران، وهو الآتي ومعه مفاتيح الزمن ومعطياته. ويصور لنا أن كل متدين ملتزم لا يعرف الكمبيوتر والحاسب الآلي ولا يعرف العلوم الحديثة، ويعيش في العصور الوسطى ويعيش في الكهف الذي صوره لنا في مدرسته كما يزعم. والواقع يشهد بخلاف ذلك، فدورات القرآن اليوم تدرس الحاسوب، ومخيمات الدعوة تقدم الدورات التدريبية والعلمية الحديثة، وتشهد بكذب هذه الادعاءات وزورها وأنها إنما تعبر عن خيالات وأوهام في رءوس أصحابها، أو عن مرض في نفوسهم وقلوبهم، أو عن عمالة! ولا ندخل في نياتهم، لكن واقعنا يشهد بغير ما يطرحونه وما يصورونه. وهنا ينبغي لنا أن نقف هذه الوقفة المهمة ونحن على أبواب الصيف، إما الإهدار وإما الاستثمار؛ فثمة أوقات كثيرة وطاقات عديدة وبرامج متنوعة وصور للاستثمار ينبغي أن يحرص عليها، أسأل الله جل وعلا أن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد وأن يلهمنا الرشد والصواب، وأن يحفظ علينا وعلى أبنائنا وبناتنا الأوقات والطاقات، وأن يسخرها في الطاعات، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

قبل أن نقول: الصيف ضيعت اللبن!

قبل أن نقول: الصيف ضيعت اللبن! الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى بشكل عام اغتنام الأوقات وعمرانها بالطاعات، والحذر من الغفلة، والإسراف في الشهوات. وهنا أستحضر بعض أمثلة العرب ومن أشهرها فيما يتعلق بموضوعنا: (الصيف ضيعت اللبن)! قد نقف بعد عدة أشهر وقد انتهى الصيف وقد يقول بعضنا لنفسه: (الصيف ضيعت اللبن)! أي: ينقضي الوقت ويمر على الأبناء والبنات والآباء والأمهات والمجتمع، ونرى ما نراه في كل عام من سهر حتى انشقاق الفجر، ونوم حتى انتصاف النهار، وتبديد للطاقات بلا فائدة ولا نفع، ونصدق أيضاً عندما نجد بعض الأمور المؤلمة من الحوادث المرورية أو من الجنايات الأخلاقية، ونشكو منها عموماً وفي الصيف خصوصاً، وأقول حينئذ: يداك أوكتا وفوك نفخ، فأنت الذي أسهمت في هذا وكنت عاملاً من عوامله. فينبغي لنا ونحن في هذه الأوقات قبل بدء الإجازات أن نحزم أمرنا وأن نرتب أوقاتنا وأن نجتمع بأبنائنا وبناتنا، وأن نفتح لهم القنوات، وأن نحثهم على النشاطات، وأن نجعل بيوتنا وكأنها مخيمات أو مراكز صيفية، ولنجعل بعض المسابقات بين الأبناء والبنات، ولنجعل بعض البرامج الترفيهية؛ لئلا تستولي عليهم القنوات والتجمعات وغير ذلك من الأمور التي تعلمونها وتعرفونها. وكما قلت: نسبة الإهدار عظيمة وعظيمة جداً، ولعلي أحث مرة أخرى على أن نتبنى جميعاً في هذا الصيف برامج تتعلق بتربية أبنائنا على تعظيم وتقديس القرآن من جهة، وعلى خدمته ونشره والدعوة إليه من جهة أخرى، ويكفي أن أقول لكم: إن بلاداً مسلمة عربية فضلاً عن غيرها من البلاد الإسلامية لا يوجد لكل مسلم فيها مصحف، بل إن في بعض بلادنا العربية يمزق المصحف تمزيقاً حتى يوزع بين عدد من الأسر؛ لأنه لا توجد أعداد كافية من المصاحف، وقد يكون في بيوتنا فائض يمكن أن نوجهه إلى من ليس عندهم أو إلى من يحتاجون إلى ذلك. خذ وفكر في أي مجال نحول هذا السلوك الذي نستنكره بقلوبنا ونصيح فيه ونجعجع حوله بألسنتنا ولكننا لا ننشئ شيئاً مقابلاً وتياراً معاكساً، ويكفي أن أقول: إنما حدث من هذه الأحداث ينبغي أن يشكل برنامجاً عملياً لكل فرد في الأمة لنصرة القرآن من الناحية العملية في نفسه وسلوكه وأسرته، وفيما يقدمه لمجتمعه، فنحن أحياناً نزيد الصراخ ونزيد البكاء، لكننا في كثير من الأوقات لا نجيد العمل، فلماذا لا نتحول إلى العمل الذي نواجه به قصور أنفسنا وانحراف مجتمعاتنا وتفريط أبنائنا، وتغير أفكارنا، وشيئاً من شذوذ نفسياتنا. كل ذلك نحن في حاجة إليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلا وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب. اللهم تولَّ أمرنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، اللهم أنزل علينا من رحماتك وأفض علينا البركات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك أن تحفظنا وأبناءنا وبناتنا بالإسلام قائمين، وأن تحفظنا بالإسلام قاعدين، وأن تحسن ختامنا، وأن تجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن تجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم أنطق ألسنتنا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحضه عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ لها أمنها وإيمانها وسلمها وإسلامها وسعة عيشها ورغد رزقها يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الإسلام والمسلمين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً؛ أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين؛ اللهم امسح عبرتهم وسكن لوعتهم وفرج همهم ونفس كربهم وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم وزد إيمانهم، وعظم يقينهم واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعل ذلك فتنة لهم في الدين. اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا سميع الدعاء! اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

خطبة عيد الفطر

خطبة عيد الفطر نِعَمُ الله عز وجل علينا كثيرة، وفضائله تجاهنا وفيرة، فيجب شكر الله سبحانه وتعالى وحمده عليها، ويجب أن يحذر المسلمون كل الحذر من مقابلتها بالذنوب والمعاصي، فإن الذنوب والمعاصي تزيل النعم، والنعم إذا شُكرت قرت، وإذا كُفرت فرت.

كثرة نعم الله عز وجل وأهمية استشعارها

كثرة نعم الله عز وجل وأهمية استشعارها الحمد لله، الحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، والله أكبر كبيراً. الحمد لله خلق كل شيء وقدره تقديراً. الله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. الله أكبر كلما صلى مؤمن وأناب. الله أكبر كلما رجع مذنب وتاب. الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. الحمد لله على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وحبيبنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: معاشر المؤمنين! العيد فرحة، والفرحة لا تكون إلا بالنعمة، والنعمة نعمتان: نعمة باطنة، وأخرى ظاهرة، نعمة معنوية وثانية حسية، نعمة روحية وأخرى بدنية، ولقد أتم الله علينا نعمته، وزادنا من فضله، فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً. إن المتأمل من أهل الإيمان يستشعر عظمة نعمة الحق سبحانه وتعالى في نعمة الإيمان والإسلام، ونعمة الطاعة والعبادة، ونعمة الأمن والأمان، ونعمة الرزق ورغد العيش، ونعم أخبر الله جل وعلا أن أحداً لا يستطيع حصرها، ولا يمكن أن يقدر قدرها، ولا أن يوفيها حق شكرها، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]. فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].

الفرحة بالعيد

الفرحة بالعيد أحبتنا! إخواننا! أهل ملتنا وديننا! العيد فرحة عظمى؛ لكنها فرحة دين، لكنها فرحة طاعة، لكنها فرحة عبادة، قال عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، فلا تخرج أفراحنا عن ديننا، بل إن ديننا هو سبب أفراحنا، فما من عيد إلا بعد ركن وطاعة وعبادة من العبادات العظمى التي تجمع أهل الإسلام والإيمان في كل الأقطار على صفة واحدة وهيئة واحدة، فما أجلها من نعمة! وما أعظمها!

أهمية التأمل في نعمة الإسلام والإيمان

أهمية التأمل في نعمة الإسلام والإيمان تأمل أخي! هذه النعم: نعمة الإيمان والإسلام، قال عز وجل: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، والله جل وعلا يسوق لنا النعم في سياق منته وفضله سبحانه وتعالى علينا، كما قال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، أليست نعمة الإيمان نشعر بها طمأنينة قلب، وسكينة نفس، وهدوء بال، واستقامة جوارح، وبركة رزق، ورغد عيش، وخيراً كثيراً ليس له أول ولا آخر؟ ألسنا نشعر بهذه النعم ونستحضر قول الحق جل وعلا: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]؟ إننا نستشعر هذه النعمة كلما رأينا قسوة القلوب، وظلمة النفوس، وضلال العقول، وانحراف السلوك فيما نراه في هذا العالم من حولنا يموج بالكفر، ويفيض بالعهر والفسق نسأل الله عز وجل السلامة! فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53].

وجوب شكر النعم بالقول والفعل

وجوب شكر النعم بالقول والفعل وحتى تستشعر هذه النعم تحتاج منك إلى ذكرها، وتحتاج منك إلى شكرها، قال عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فمن أراد هذه النعمة أن تبقى وأن تحفظ، وأن تزاد وأن تضاف؛ فإن طريق ذلك شكرها، وشكر النعم يكون في الباطن إقراراً واعترافاً ورضاً وتسليماً، ويكون شكر النعم في الظاهر قولاً وإظهاراً لها وإشهاراً لها وإعلاناً بها، فنحن نؤذن كل يوم، ونردد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة، ونذكر الشهادتين في كل الأحوال تحدثاً بنعمة الله وإظهاراً لها. ثم بعد ذلك يجب شكر النعم بالأفعال، قال عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، فتلك هي ما ينبغي لنا أن نحرص عليها، وأن نتواصى بها، وأن يكون لنا حظ دائم منها؛ عل الله عز وجل أن يزيد لنا فضله، ويضاعف علينا نعمه، ويواصل بنا لطفه سبحانه وتعالى.

نعمة الاستقامة، وأهمية الاستمرار عليها

نعمة الاستقامة، وأهمية الاستمرار عليها ونحن في هذه الديار قرب مهبط الرسالة العظيمة ومثوى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نشعر بهذه النعمة، فلا نرى في جملة أحوالنا ما يناقضها ولا ما يعارضها، ولا ما يخالفها أو ينحرف بها عن مسارها، وتلك نعمة عظمى يعرفها من رأى غيرها في بلاد الإسلام المختلفة. فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، نحمد الله على نعمة الطاعة والعبادة، ففي رمضان كان القرآن يتلى في المحاريب، وكانت المساجد تغص بالمصلين، وكان الإنفاق في كل الأحوال وفي سائر الأوضاع، وكانت القلوب لله عز وجل خاشعة، والعيون من خشيته سبحانه وتعالى باكية، والأيدي تسأل من عطائه ضارعة، فالله الله! في هذه النعمة أن نقدر قدرها، إنها نعمة يحرم منها كثير من الناس، فنعمة الطاعة والتوفيق لها، ونعمة العبادة والاستقامة عليها من أعظم نعم هذه الدنيا التي تنفعنا في الآخرة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. ولما طلب بعض الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوجز خلاصة الإسلام كله قال: (قل: آمنت بالله، ثم استقم)، فهي نعمة عظمى كما قال الحق جل وعلا: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:162] كل هؤلاء في سياق واحد: {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:162]. إنها نعمة عظيمة ينبغي أن نستشعرها إذا استشعرنا غيرها، إذا استشعرنا يوم مرض أقعدنا عن الطاعة، أو استشعرنا شبهة شوشت علينا الاستقامة، أو وقعنا أسرى لشهوة أغرقتنا في معصية. فكم نرى من الناس أسارى شهواتهم! وكم نرى من الناس قاعدين مع ضعف نفوسهم وهممهم! وكم رأينا المساجد ممتلئة وكانت الأسواق بالناس غاصة! أليس أولئك محرومين من تلك النعمة؟! أليس الذين شغلوا بالأدنى عن الذي هو أسمى قد فقدوا خيراً كثيراً، وحرموا نعمة عظيمة؟! إنها نعمة ينبغي لنا أن نتدبرها، وأن نتأملها، وأن نذكرها، وأن نشكرها، وليس شكرها إلا بالاستقامة عليها، فينبغي ألا تعود المساجد خاوية بعد أن كانت ممتلئة، وألا تعود المصاحف مهجورة بعد أن كانت متلوة، وألا تعود الصلات منقطعة بعد أن كانت ممتدة، فلا ينبغي أن نرتد على أعقابنا خاسرين، ولا ينبغي لنا أن نبدد ما أكرمنا الله عز وجل به من الخيرات وما ضاعف لنا من الحسنات فنمحقها بالمخالفات، ونبيدها ونضاعف أضعافها مما يعاكسها ويناقضها من السيئات، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا لذكر نعمته وشكرها، والحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً!

نعمة الأمن والأمان

نعمة الأمن والأمان نحن أيضاً في نعمة أمن وأمان، نعمة نتفيأ فيها ظلال الطاعة والقلوب مطمئنة، والنفوس مستقرة، والأحوال هادئة، والأهل والأولاد محيطون، فتأمل هذه النعمة! لو رأيتها وحدها لرأيت أن كل ما في الدنيا لا يقدر مقدارها؛ بل لا يأتي عشر معشارها، فكيف بما هو سابق لها من تلك النعم كالإيمان والعبادة والطاعة؟! قال عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، ألسنا نرى أحوال إخواننا في العراق؛ لا يأمن أحدهم على نفسه، لا يستطيع أن يجتمع بأهله، لا يدري إذا خرج هل يرجع إلى سربه؟! ألا نتذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من بات آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها)، وذكر أهل العلم في تفسير قول الله عز وجل: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة:20] قالوا: من كان له سكن وخادم، وعنده قوت يومه فهو ملك. فكلنا أو جلنا ملوك بفضل الله عز وجل.

التحذير من ازدراء نعم الله عز وجل والتذمر منها

التحذير من ازدراء نعم الله عز وجل والتذمر منها يأتي من ينظر إلى شيء من تعسير أو قلة ذات يد فإذا به يجحد، وإذا به يتذمر، وإذا به يعترض على قسم الله عز وجل، وينسى النعم العظيمة الكثيرة التي عليه. إننا نعرف وندرك أن أربعة وخمسين ألفاً في غضون أيام قلائل ماتوا في زلزال باكستان، ويتبعهم أكثر من سبعة وسبعين ألفاً من الجرحى، وما يقرب من أربعة ملايين من المشردين، إننا نسمع التقارير عن أربعة ملايين ونصف مليون من الأيتام في بلد واحد! فأين هذا كله مما نحن فيه من نعم الله عز وجل؟ فكيف تجحد وتنسى؟ ألا نتذكر وننتبه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم من رواية أبي هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم). قم بزيارة هذا اليوم إلى إحدى المستشفيات، فستحمد الله أنك تمشي على قدميك، وأنك تبصر بعينيك، وأنك تأكل الطعام فتستلذه، ولا يصيبك شيء مما لو قلت لأحدهم: ما تريد؟ لقال: عافية بدني وصحة جسدي. أفليست هذه نعماً؟! وقد روى هذا الحديث الترمذي بلفظ أكثر وضوحاً وجلاءً من رواية أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى من فُضل عليه في الخلق والرزق -كما نرى اليوم ونقول: هذا عنده السيارات، وعنده الفلل والقصور، وعنده الأموال- فلينظر إلى من أسفل منه -ممن فضل هو عليه- فإنه أجدر ألا يزدري نعمة الله عليه). فكم هذه النعم تحتاج منا إلى أن نتذكرها وأن نشكرها! وكم هي نعم الله سبحانه وتعالى وفيرة! فالحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.

أهمية إظهار نعم الله عز وجل

أهمية إظهار نعم الله عز وجل إن نعم الله عز وجل الكثيرة تحتاج منا إلى أن نذكرها، وألا نضيق على أنفسنا، فنحن لا نقول ذلك لكي يكون هناك شيء من عدم إظهار نعمة الله؛ كلا، فقد روى أبو داود والنسائي في سننهما والإمام أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل عليه رجل في ثوب دون -أي: غير حسن، وغير مناسب- فقال له صلى الله عليه وسلم: ألك مال؟ فقال الرجل: نعم؛ من كل المال. فقال: ما هو مالك؟ قال: الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق. فقال صلى الله عليه وسلم: إذا آتاك الله مالاً فلير عليك أثر نعمته وكرامته).

تحريم استخدام نعم الله عز وجل في الحرام

تحريم استخدام نعم الله عز وجل في الحرام قال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32]، لكن بطراً أو أشراً أو تبذيراً يحصل من الناس في مثل هذه الأيام؛ وكأنما هو عدم إقرار بهذه النعم، أو كأنما هو -والعياذ بالله- استجلاب لمحقها؛ إذ توضع في غير موضعها، وخاصة إذا استغلت النعمة فيما حرم الله، فمن أنفق مالاً ليقتني ما حرم الله، أو ليدخل إلى الأماكن التي فيها ما حرم الله، أو ليعين على شيء مما حرم الله فإنه قد جحد أعظم جحود لنعمة الله يوم جعلها في معصية الله التي آتاه الله إياها. وعجباً لأمر الناس! خير الله إليهم نازل، وشرهم إليه صاعد! يتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي! ونعمتنا أن أفراحنا دين وعبادة وطاعة، كما قال عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].

فضل صيام ست من شوال

فضل صيام ست من شوال إننا في العيد نصل عبادة رمضان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن صام رمضان، وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله). إننا نصل عبادة بعبادة، وطاعة بطاعة، وبينها ومعها فرح بنعم الله عز وجل كلها ظاهرة وباطنة، فرح نعلن فيه إقرارنا بفضل الله، ونذكر فيه نعم الله، ونستقيم فيها على شرع الله عز وجل، ولا نقع في معصية الله، فالله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.

نعمة النصر على هوى النفس والشهوات

نعمة النصر على هوى النفس والشهوات كم هي النعم عظيمة! فالله الله! في هذه النعم الكثيرة الوفيرة، ومنها نعمة النصر. وقد يقول أحدنا: أين هو النصر؟ إنه النصر الأول، إنه النصر الذي لابد منه في كل معركة، إنه انتصار المرء على نفسه وشهوته وضعفه وهواه، لقد كنتم منتصرين حين أعلنتم الحرب على الشيطان، وأعلنتم المعارضة للهوى، وأعلنتم رفض كسل النفوس وميلها إلى الأرض وإخلادها إليها يوم قمتم إلى الله طاعين، يوم ظللتم على مدى شهر كامل صائمين، يوم قطعتم يومكم ونهاركم ذاكرين ضارعين داعين، لقد أعلنتم أنكم بالإيمان تقهرون كل شيء، وتزيلون كل عارض، وتستطيعون بإذن الله عز وجل أن تنتصروا في كل معركة تواجهون فيها أعداءً حقراء من أولئك البشر الضعاف مهما كانت قوتهم، ومهما تسموا بالقوة العظمى أو الكبرى؛ فإن الله جل وعلا قد ذكر كل قوى الأرض في شطر كلمة فقال: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]، فكلهم دون الله عز وجل، وكلهم لا يستحقون من أهل الإيمان إلا وقفة صدق مع الله عز وجل، و {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، فالحمد لله على نعمة النصر على الهوى والشهوة، والحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً. فاحمدوا الله على نعمه، واثبتوا على طاعته، واستقيموا على شريعته، والحمد لله رب العالمين.

التحذير من كفر نعم الله عز وجل وعدم تذكرها

التحذير من كفر نعم الله عز وجل وعدم تذكرها الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. الحمد لله على آلائه ونعمائه، والشكر له على سرائه وعطائه، والصبر له على ما قدر وقضى من بلائه، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن نبيه ورسوله المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: معاشر المؤمنين! إن الله جل وعلا نبهنا أن نذكر نعمته فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:103]، ألم نر ماء الوصل يجري بين القلوب؟ ألم نر روح المحبة تسود بين الأقارب والأحباب؟ ألم نر تلك النعمة العظمى التي قال الله عز وجل عنها: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة:11] فاذكروها ذكراً عملياً كل ذلك تذكير بنعم الله عز وجل. وينبغي لنا الحذر ألا نكون كحال من قال الله عنهم: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:83]، أو كحال الذين بدلوا نعمة الله كفراً! وما ذكره الحق جل وعلا في ذلك عظيم جليل يحتاج منا إلى مثل هذا التدبر والتأمل؛ حتى نكون ظاهراً وباطناً على ما يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى. إن هذه النعم الكثيرة التي قد فاضت وزادت وعظمت في شهرنا الذي مضى تستدعي منا أن نستنظر رحمة الله، وأن نستجلب نعم الله بفيض ذلك الذي كان في هذا الشهر الكريم.

وجوب الاستمرار في أعمال الخير بعد رمضان

وجوب الاستمرار في أعمال الخير بعد رمضان إن ما وجدناه من الخير والشعور بالرحمة، والإحساس بالنعمة إنما هو لذلك الإيمان والإخلاص والتجرد لله، إنما هو لتلك العبادة والإقبال على الله، إنما هو لذلك الذل والانكسار بين يدي الله، إنما هو لذلك التعلق والتشوق إلى مرضات الله، إنما هو لأجل التضحية والفداء والبذل في سبيل الله؛ فإن أردنا دوام ما أكرمنا الله به في رمضان فليكن لنا كل عامنا رمضان، وليكن لنا كل دهرنا رمضان، فإن تجديد رمضان بتجديد أعمار رمضان، وإن تجديد الخيرات والنعم التي أفاضها الله في رمضان بفعل الأعمال التي استوجبنا بها تلك النعم. وينبغي لنا أن نؤكد مرات ومرات على أن النعم عظيمة، وأن كل نعمة تستدعي تدبراً وتأملاً خاصاً بها.

وصية للنساء

وصية للنساء وإلى أخواتنا المسلمات حديث توجه به النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب العيد ليخصهن بحديث لا يكون إلا لهن وحدهن، وكذلكم نفعل كما فعل عليه الصلاة والسلام، ونقول: أختي المسلمة ذات الصحة والعافية! ذات الجمال والبهاء والوضاءة! لا تجحدي نعمة الله عليكِ بالتبرج والسفور، أو بفعل ما يدعو إلى الفسق والفجور، أو بالتعلق بغير مرضات الله عز وجل بتلك الأنماط أو الصور التي يغري بها أهل الكفر أو أهل العهر مما تمتلئ به القنوات ووسائل الإعلام التي تريد اليوم أن تمسخ ما كان بالأمس، وأن تمحق كل خير أصابته نفوسنا، وكل نور أشرقت به قلوبنا، وكل طاعة استقامت عليها جوارحنا. فالحذر الحذر! أخيتي المسلمة! من أن تكوني سبباً في ضرر نفسك، واستحقاق غضب ربك، أو فتنة غيرك، وإلحاق واستشراء الفساد في أهلك ومجتمعك.

أهمية سؤال الله عز وجل حفظ النعمة وشكرها

أهمية سؤال الله عز وجل حفظ النعمة وشكرها الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً. نعم الله لا تُعد ولا تحصى، فاسألوا الله جل وعلا أن يحفظ علينا نعمه، وأن يوفقنا لشكرها، وأن يزيدنا منها بشكرنا عليها، وأن يجعل شكر نعمته نعمة تستوجب شكره عليها، لك الحمد ربنا على آلائك ونعمك التي لا تعد ولا تحصى حمداً كما تحب وترضى، أنت أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك. اللهم أتم علينا نعمتك، وأوف لنا فضلك، وأكمل علينا نعمتك يا رب العالمين! نسألك اللهم المزيد من فضلك ونعمتك يا أكرم الأكرمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم يا أرحم الراحمين! نسألك في هذه الأيام المباركة اللطف بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى والمنكوبين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم. اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم اجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تكون قد ختمت لنا رمضان بالمغفرة والقبول والرضوان، والعتق من النيران. اللهم ارزقنا الاستقامة على الطاعات بعد رمضان، اللهم وارزقنا صلة رمضان بصوم التطوعات يا رحيم! يا رحمان! اللهم وفقنا في غير رمضان إلى الإنفاق في سبيلك، وإلى مد حبال الوصل لإخواننا في كل مكان. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تلطف بهم فيما تجري به المقادير، اللهم ثبتهم في وجوه الصهاينة المعتدين. اللهم أخرج أولئك المجرمين من المسجد الأقصى أذلة صاغرين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].

في صحبة الإمام أحمد

في صحبة الإمام أحمد المقصد من عرض سير العلماء والدعاة والمصلحين هو أخذ العظة والعبرة، والاستفادة من مواقفهم عند حلول الفتن، وكيف صبروا وثبتوا على الحق، وإن قتلوا وحبسوا وعذبوا. وعندما يطالع المسلم تلك النماذج لا يسعه إلا أن يقتدي بأولئك الرجال الأفذاذ، ويصبر كما صبروا، ويرجو الثواب والأجر من الله.

جولات وقبسات من مواقف وسيرة الإمام أحمد بن حنبل

جولات وقبسات من مواقف وسيرة الإمام أحمد بن حنبل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا موعدنا مع الدرس السابع والأربعين، وهو بعنوان: في صحبة الإمام أحمد، وهي صحبة كريمة مع إمام جليل، وغرض الصحبة أن ننظر في حاله، وأن نستمع إلى أقواله، وأن نقتبس من أفعاله، غير أنا جزماً لا نزعم أنا نحيط بسيرته، ولا نجمع جميع دروس وعبر مواقفه وأقواله وأفعاله، فإن المدعي لذلك كمن يدعي قدرته على أن يجمع ماء البحر في قارورة، فلو ادعى ذلك فلن يحظى إلا بقدر ملء هذه القارورة من ماء البحر، وحسبنا أن نغترف من بحر علمه وفضله وجوده وكرمه وجميع خلاله الحميدة، فإن في ذلك ما ينفع ويهدي بإذن الله عز وجل، في زمن قل فيه الثقات، وصعد فيه النكرات، واختلطت فيه الأولويات، وقل من الناس من عاد يميز بين الغث والسمين، ومن يفقه فقه أولئك الأئمة رحمة الله عليهم ورضوان الله عنهم، وكما قال القائل أقول: من أين أبدأ قولي أيها البطل وأنت أبعد مما تخطب الجُمَلُ كل القوافي التي استنصرتها وقفت مبهورة وبدا في وجهها الوجل ماذا نقول وصرح العلم شامخة أركانه وبناء المجد مكتمل ماذا تقول قوافي الشعر عن رجل كل يقول له هذا هو الرجل ولذلك حسبنا ومضات وقبسات من مواقف وسيرة الإمام الجليل أحمد رحمة الله عليه؛ وسنمضي بصحبة متنوعة، غرضنا منها أن نرى التمايز والبون الشاسع بينما كانوا عليه وما صرنا إليه، عل ذلك يقوي العزم على اقتفاء آثار السلف، وأن نفقه فقههم الإيماني، وأن نسلك سلوكهم القرآني، فنبدأ مع الإمام أحمد بعيداً عما تستلهمه التراجم من ذكر المولد والشيوخ والتلاميذ، وما يتعلق بالرحلة في طلب العلم ونحو ذلك؛ لأنا نريد أن نخلص إلى ما هو أكثر تأثيراً فينا واحتياجاً لنا بإذن الله عز وجل.

الجولة الأولى: قبسات ومواقف من ورع الإمام أحمد

الجولة الأولى: قبسات ومواقف من ورع الإمام أحمد نمضي في جولة مع الصبي الورع، إذ كان رحمة الله عليه صفحةً بيضاء مشرقة، كتب الله له أن يكون على حظ وافر من النجابة والذكاء، ومن العلم والفطنة ومن الصفاء والطهارة منذ نعومة أظفاره؛ فهذه الروايات في ترجمته تذكر أنه كان في الكتاب كما يروي أبو عفيف أحد أقرانه يقول: كان معنا في الكُتّاب وهو غليم نعرف فضله، وكان الناس الرجال والنساء تأتيهم الكتابات والمراسلات ممن لا يعرفون الكتابة ربما أرسلوا إلى المعلم يقولون له: ابعث لنا أحمد بن حنبل حتى يكتب لنا، فكان يبعث لهم بـ أحمد بن حنبل وكان يذهب إليهم وهو مطأطئ الرأس من حيائه وغض بصره مع كونه صبياً صغيراً، فيكتب جواب كتبهم! فربما أملوا عليه الشيء من المنكر فلا يكتبه لهم، فهذا وهو صغير يأبى أن يكتب ما فيه منكر، بل كان يعف ويتورع عن ذلك. وكان إبراهيم بن شماس يقول: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام صغير وهو يحيي الليل منذ نعومة أظفاره. ومن القصص المؤثرة والدالة على حسن سمته وعظيم رعاية الله له سبحانه وتعالى ما ذكره داود بن بسطام حيث يقول: أبطأت علي أخبار بغداد أي: الأخبار والأحوال التي كانوا يتناقلونها ويكتبونها عبر البريد إلى الولايات وإلى المسئولين أو إلى الخليفة، قال: فوجهت إلى عم أبي عبد الله أحمد بن حنبل؛ لأن عمه هو الذي كان يبعث بالأخبار. فقلت له: لم تصل إلينا الأخبار اليوم وكنت أريد أن أحررها وأوصلها إلى الخليفة، فقال لي: قد بعثت بها مع ابن أخي أحمد؛ ثم بحث عن أحمد وجاء به وقال له: أليس قد بعثت معك بالأخبار؟ قال: نعم، قال: فلأي شيء لم توصلها؟ قال: أنا أرفع هذه الأخبار قد رميت بها في الماء؛ لأن فيها من المنكر ومن الظلم فلا أرفع مثل تلك الأخبار. رمى بها في الماء ولم ينتظر مشاورة ولا مراجعة، إنه يتورع وهو في سن الطفولة، قال ابن بسطام: هذا غلام يتورع فكيف نحن؟! فهذه القصة تدلنا على عظيم أثر التربية في الصغر، مع أنا نعلم أن الإمام أحمد ولد في بغداد سنة (164هـ) ومات والده وهو صغير ابن ثلاث سنوات، لكنه تربى تربية إيمانية صبغته بهذا النهج القوي منذ صغره. وكما ذكر أبو بكر بن الأثرم قال: أخبرني من كان يطلب الحديث مع أحمد بن حنبل قال: ما زال أبو عبد الله بائناً من أصحابه؛ منذ صغره وهو متميز، وهذه الوقفة تدلنا على ما للتربية الإيمانية في الصغر من أثر ومن استقرار، وإذا ربي الصغير على هذه المعاني الإيمانية فإنها تصبح ملكةً ذاتية وطبيعةً نفسية وسلوكاً دائماً لا يخشى عليه بإذن الله أن يتغير؛ لأنه كما قيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ومن شب على شيء شاب عليه. فلذلك الإسلام أمر بتربية الصغير والعناية به من الصغر؛ لما لذلك من أثر في استقرار الكلمات والأفعال والصور في ذهن الصغير وإن لم يكن عاقلاً مدركاً، فإن من السنن عندما يستهل الوليد صارخاً أن يؤذن في أذنه اليمنى وأن يقام في أذنه الأخرى؛ حتى يكون أول شيء يسمعه في هذه الدنيا شهادة التوحيد والدعوة إلى الصلاة والفلاح، ثم يحنك، ثم تكون هناك من الأمور والدلائل في التربية ما يدل على أثرها وإن لم يكن الصغير يعقل معناها، كأن لا يكذب عليه كذبة -كما يقولون- صغيرة أو بيضاء أو نحو ذلك.

الجولة الثانية: قبسات ومواقف من طلب الإمام أحمد للعلم

الجولة الثانية: قبسات ومواقف من طلب الإمام أحمد للعلم فنمضي مع الطالب المؤدب في جولة أخرى مع طلبه للعلم، لقد كان للإمام أحمد سمت فريد وصفة عجيبة في كمال التوقير لأهل العلم من مشايخه؛ ومن ذلك ما رواه عمرو الناقد قال: كنا عند وكيع وجاء الإمام أحمد بن حنبل، فجعل وكيع يصف من تواضعه ويثني عليه ويكرمه إكراماً عجيباً؛ لما له من منزلة ونجابة كان يعرفها الناس فيه وهو صغير، قال: فقلنا له: يا أبا عبد الله! إن الشيخ يكرمك فما لك لا تتكلم؟ فقال: وإن كان يكرمني فينبغي أن أجله. أي: أن هذا الإكرام جعل عليه من الحياء ما ألجم لسانه، حتى يجل شيخه ولا يجاريه ويصبح مثله في المنزلة، وإن كان قد أفاض في مدحه وثنائه. وقد قال قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ الإمام أحمد، وإن كان قد روى عن الإمام أحمد، فـ ابن الجوزي رحمة الله عليه في كتابه (مناقب الإمام أحمد) عقد فصلاً لشيوخ الإمام أحمد الذين رووا عنه؛ لأنه قد بلغ منزلة عالية من العلم واحتاج الناس إلى علمه، فروى بعض شيوخه عنه، ومنهم: قتيبة بن سعيد وهو من شيوخ البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم. يقول قتيبة: قدمت إلى بغداد وما كانت لي همة إلا أن أرى أحمد بن حنبل، فإذا هو قد جاءني مع يحيى بن معين فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل وجلس بين يدي، فقلت: يا أبا عبد الله! اجلس مكانك، فقال: لا تشتغل بي إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه. انظروا كيف جلس بين يديه جلسة الطالب مع أستاذه، وبعضنا في هذه الأزمان التي قل فيها مراعاة الأدب إذا أثنى عليه أستاذه أو كذا فأعطاه كلمة رد عليه بكلمة، وإذا وضع يده على ظهره مكرماً أو مبجلاً ربما فعل مثل فعل شيخه أو أستاذه، وهذا مما يدل على أن قضية الأدب والتوقير ليست على الصورة المطلوبة، وهذه دروس نقتبسها من الإمام أحمد رحمة الله عليه. وهذه قصة تجمع كثيراً من أهل العلم مع الإمام أحمد قال إسحاق الشهيدي: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند إلى منارة المسجد، فيقف بين يديه علي بن المديني إمام أهل الجرح والتعديل، والشاذكوني وعمرو بن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم يستمعون الحديث وهم قيام على أرجلهم حتى تحين صلاة المغرب لا يقول لأحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً له ولا يطلبون منه ذلك. قد يقول القائل: في ذلك مبالغة! ولكن أقول: لا يجتمع أمثال هؤلاء على مثل هذه المبالغات تنطعاً أو تكلفاً؛ ولكنها سجية التوقير غرست في نفوسهم، والتعظيم للعلم ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أحمد بن سعيد الرازي: ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل. وتأمل هنا! قال: (ما رأيت أحفظ ولا أعلم بفقهه ومعانيه) أي أن العلم السلوكي والتربية الإيمانية قد اقتبسها الإمام أحمد مع الحفظ رحمة الله عليه.

الجولة الثالثة: حسن تعامل الإمام أحمد مع أصدقائه

الجولة الثالثة: حسن تعامل الإمام أحمد مع أصدقائه نمضي مع الجولة الثالثة: كيف كانت علاقته وحسن تعامله ولين جانبه مع أصدقائه ولطافته في المعاملة! فإن بعض الناس يظن أن العلم والوقار يقتضي التجهم وعبوس الوجه وتقطيب الجبين أو نحو ذلك وما ثمة شيء، بل ينبغي أن يكون لكل مقام مقال ولكل موضع حال؛ فهذا الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أئمة أهل العلم ومن أئمة الإسلام يقول: زرت أحمد بن حنبل فأجلسني في صدر داره وجلس دوني، قال: فقلت: يا أبا عبد الله أليس يقال: صاحب البيت أحق بصدر بيته؟ كما قد يحتج بعض الناس دائماً ببعض النصوص في كل موضع، ولا يعرف الحال الذي قد لا تكون معارضة للنص. فقال الإمام أحمد مباشرة: نعم، يقعد ويقعد فيه من يريد؛ إكراماً له وإجلالاً واستضافة، قال: فقلت في نفسي: خذ إليك يا أبا عبيدة فائدة. إذاً: كان الواحد من السلف يأتي للزيارة لا لمجرد المتعة والفكاهة والكلام والمزاح، وإنما كان يأتي لغرض المذاكرة والانتفاع، فقال في نفسه: خذ إليك فائدة. قال: ثم قلت: يا أبا عبد الله! لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لأتيتك كل يوم. أي: لو أنني أزورك على قدر مرتبتك وحقك لكان واجباً علي أن أزورك كل يوم، كأنه يعتذر من قلة زيارته على عظيم قدره. فقال له أيضاً على البديهة: لا تقل هذا، إن لي إخواناً لا ألقاهم إلا في كل سنة مرة، وأنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم. أي المهم أن تعرف صدق المحبة وصدق التعامل وحسنه، وليس الغرض هو كثرة الزيارة ودوامها؛ فإن ذلك ليس بالضرورة. فقال: أبو عبيد: فقلت في نفسي: خذ أخرى يا أبا عبيد، هذه الثانية، قال: فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله. كما يفعل بعض الناس الآن عندما يودع ضيفه يقول: في أمان الله، كأنه يطرده من بيته. قال: فقام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، فقال الإمام أحمد: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه؛ قال: قلت: يا أبا عبيد هذه ثالثة. فاستفاد أبو عبيد هذه الثلاث من الإمام أحمد؛ بسبب حسن التعامل مع الزائر والتودد له وهذا من أسباب توطيد عرى المحبة والمودة بين القلوب.

الجولة الرابعة: مواقف من خوف الإمام أحمد من الله عز وجل

الجولة الرابعة: مواقف من خوف الإمام أحمد من الله عز وجل نمضي مع الخائف الوجل الإمام أحمد رحمة الله عليه، يقول عبد الله: سمعت أبي يقول: وددت أني نجوت من هذا الأمر كفافاً لا لي ولا علي. هذا الذي كان طاهر الذيل نقي النشأة حافظاً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان يعلم ويوقن عظمة المهمة والواجب الملقى على عاتقه، ويعلم قصور العبد وقلة حيلته، ويعلم عظمة الرب وعدم القدرة على إيفاء حقه سبحانه وتعالى، فيقول: وددت أني نجوت كفافاً لا لي ولا علي. وكان إذا دعا له رجل يقول: الأعمال بخواتيمها. وكثيراً ما كان يسمع منه قول: اللهم سلم سلم؛ لأن القلوب الخائفة الوجلة مهما عملت فإنها تبقى على وجل من عدم القبول، أو على وجل من أن تكون الأعمال دون الصور المطلوبة ودون المنزلة المرجوة، ولذلك كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] حين نزلت هذه الآية قالت عائشة: (يا رسول الله! الرجل يشرب الخمر ويزني ثم يخاف؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يقبل منه) هذا حال أهل الإيمان، يقول الحسن البصري رحمة الله عليه: لقد لقيت أقواماً هم أخوف منكم ألا تقبل حسناتهم من خوفكم أن تحاسبوا على سيئاتكم. فهم في خوف عظيم أكثر من خوفنا من سيئاتنا، خوفهم أعظم ليس من السيئات لكن من عدم قبول الحسنات، وهذا لا يكون إلا مع استحضار عظمة الله عز وجل، وفهم الحق الواجب له سبحانه وتعالى، ولذلك لما سئل الإمام أحمد: كيف أصبحت؟ قال مقالة عجيبة فريدة تدل على عظيم ما كان يفقه من دين الله وما يحمل من أمر الله؛ قال: كيف أصبح مَنْ ربه يطالبه بأداء الفرائض، ورسوله يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يطالبه بقبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟! كلها أمور يحتاج الإنسان فيها إلى مجاهدة واستقامة على أمر الله، واتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحر للإخلاص وصدق التوجه لله عز وجل، وبراءة من شهوات النفس ومجاهدة لها، محاربة لإغواء الشيطان وتزيينه. وفوق ذلك كله انتظر الموت على وجل وخوف؛ ولذلك كان رحمة الله عليه مع ما له من قدم سابقة في العلم والعمل كان دائماً يستحضر عظمة الله عز وجل، والواجب الذي ينبغي أن يكون له، فيرى أن على الإنسان المسلم ألا يكون مطمئناً ولا واثقاً ولا آمناً من مكر الله وعذاب الله سبحانه وتعالى.

الجولة الخامسة: مواقف من وقار وهيبة الإمام أحمد

الجولة الخامسة: مواقف من وقار وهيبة الإمام أحمد نمضي في جولة مع الرجل الوقور، فقد كان رحمة الله عليه مع خوفه لله عز وجل ومع حسن تعامله مع الناس وقوراً يهابه الناس، فحتى إن شيوخه وأهل العلم والتقوى وأهل الإمامة في الدين كانوا يراعون الإمام أحمد ويهابونه ويوقرونه. فهذا يزيد بن هارون وهو من أعظم شيوخه ومن كبار أهل العلم، قال أحد التلاميذ: كنا في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستمليه الذي يملي عليه الحديث فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب يزيد على خده كالمتأسف وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح. لقد كان الإمام رحمة الله عليه أعظم وأشد توقيراً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وللعلم. وعن أحمد بن شيبان قال: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيماً منه لـ أحمد بن حنبل، ولا رأيته أكرم أحداً إكرامه لـ أحمد بن حنبل، وكان يوقر الإمام أحمد ولا يمازحه أبداً. وقال أحدهم: كنا عند إسماعيل بن علية فتكلم إنسان فضحك بعضنا وثم أحمد بن حنبل -أي: جالس معهم- فأتينا إسماعيل بعد ذلك فوجدناه غضبان فقال: أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل. من شدة هيبته ووقاره رحمة الله عليه. وهناك قصة لطيفة تدل أيضاً على سمت الإمام رحمة الله عليه: يقول أحمد بن منصور: صحبت الإمام أحمد ويحيى بن معين وكنت خادماً لهما في رحلتهما لطلب الحديث عند عبد الرزاق، ولما رجعا ذهبا إلى أبي نعيم، قال ابن معين: أريد أن أختبر أبا نعيم وحفظه، فقال له الإمام أحمد: لا تفعل فإنه حافظ ثقة، فقال: لا بد لي من ذلك، فعمد إلى ثلاثين حديثاً وجعل في كل عشرة منها حديثاً ليس من حديث أبي نعيم، ثم ذهب ثلاثتهم إليه، فخرج إليهم وجلس معهم على دكة طين عند باب بيته أو قريباً من بيته، فجعل يقرأ عليه أول أحاديثه، فلما جاء إلى الحديث المغلوط قال: هذا ليس من حديثي؛ ثم الثاني قال: هذا ليس من حديثي؛ ثم الثالث فقال: هذا ليس من حديثي، ثم بعد ذلك التفت إلى الثلاثة وقال موجهاً حديثه إلى الإمام أحمد: أما هذا -أي: الإمام أحمد - فأورع من أن يفعل هذا، وأما هذا -يعني: أحمد بن منصور - فأقل من أن يفعل هذا يعني: لا يعرف مثل هذه الأمور. ثم قال: ما فعلها غيرك يا فاعل، قال: ثم رفسه حتى أسقطه من الدكة، فقال الإمام أحمد لما انصرفوا لـ يحيى: ألم أمنعك من الرجل وأقل لك: إنه ثبت؟ قال: والله لرفسته أحب إلي من سفري. وهذه القصة من كتيب لطيف اسمه (من لطائف المحدثين).

الجولة السادسة: مواقف من تعظيم الأئمة للإمام أحمد

الجولة السادسة: مواقف من تعظيم الأئمة للإمام أحمد نمضي بعد ذلك عندما تحقق للإمام أحمد هذه الجوانب كلها من ورع في الصبا، وأدب في العلم، ووقار في الرجولة، وحسن تعامل مع الأصدقاء والقرناء، صار حينئذ إماماً وقدوة، فنمضي معه وهو قدوة الأئمة فنرى أن المقتدى بهم يقتدون بالإمام أحمد، وأن المعظَمين لعلمهم وفضلهم يعظمون الإمام أحمد رحمة الله عليه. فهذا علي بن عبد الله بن جعفر يقول: أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة في كل يوم وهو يزداد خيراً. لو أن شخصاً خلال خمسين يوماً فقط يزيد في كل يوم عملاً من أعمال الخير لا شك أنه سيأتي بعد هذه الأيام الخمسين وقد تحول تحولاً كبيراً في حياته. ويقول يحيى بن معاذ: أراد الناس أن أكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله لا أكون مثل أحمد أبداً. يعني: أنه لا يطيق؛ لأن الإمام أحمد قد بلغ منزلة عظيمة في كل باب من أبواب الخير، حتى انقطعت دون اللحاق به الرقاب. وكان بشر بن الحارث من قرناء الإمام أحمد، وقد ذكر عنه كثير من الأقوال التي تبين تبجيله وتوقيره للإمام أحمد وإبراز إمامته على الأئمة، فها هو يقول عندما ابتلي الإمام أحمد وثبت: إن هذا الرجل قام اليوم بأمر عجز عنه الخلق، أرجو أن يكون ممن نفعه الله بالعلم. وقال أيضاً: أحمد إمام من أئمة المسلمين. ثم لما جاءوا إليه قالوا له: أنت تقول بقول أحمد فلماذا لا تعلن قولك وتقف موقفه؟ فقال: أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء، إن أحمد قام مقام الأنبياء. ولما بلغه أن الإمام أحمد ضرب بالسياط مد بشر رجله وخاطب ساقه قائلاً: ما أقبح هذه الساق ألا يكون فيها القيد نصرة لهذا الرجل، ولكنه قال: هذا مقام النبيين لا أستطيع أن أقومه. هذا مما يدل على أن الإمام أحمد وقف وقفة لم يقفها مثله من العلماء والأئمة، وإن كان ذلك ليس جرحاً فيهم ولكنه علو في منزلة الإمام رحمة الله عليه. وهذا أبو زرعة جمع لنا هذا كله في كلمات وجيزة حيث قال: ما رأت عيني مثل الإمام أحمد، فقال له السائل: في العلم؟ فقال: في العلم والزهد والفقه والمعرفة وكل شيء. وهذا الإمام البويطي رحمة الله عليه من تلامذة الشافعي سجن في المحنة وكتب من سجنه وقال في كتابه: إني لأرجو أن يجزي الله عز وجل أجر كل ممتنع في هذه المحنة لسيدنا الذي ببغداد. يعني: الإمام أحمد؛ لأنه هو السيد المبجل المقدم في هذا الأمر، وكل من وقف وقفة في هذه المحنة فإنما كان يقتدي بالإمام أحمد؛ فهو الذي كان مقدماً في هذه المحنة. وقال بشر عن الإمام أحمد: أحمد امتحن بالسراء والضراء، وتداولته أربعة خلفاء بعضهم بالضراء وبعضهم بالسراء، فكان فيها مستعصماً بالله عز وجل، تداوله المأمون والمعتصم والواثق بعضهم بالضرب والحبس، وبعضهم بالإخافة والترهيب، فما كان في هذه الحال إلا سليم الدين غير تارك له من أجل ضرب ولا حبس، ثم تداوله المتوكل بالتكريم والتعظيم، وبسطت الدنيا عليه فما ركن إليها، ولا انتقل عن حاله الأولى رغبة في الدنيا ولا رغبة في الذكر، وهذا هو الثبات العظيم الذي تميز به الإمام أحمد رحمة الله عليه. من لطائف توقير وتعظيم الأئمة له أن حجاج الشاعر وهو كان من المحدثين وكان يقول: كنت أكون عند الإمام أحمد بن حنبل فأنصرف في الليل -أي: من بيته- فأذكره في الطريق فأبكي؛ شوقاً إلى لقاء الإمام أحمد والانتفاع به. فهذا كلام الأئمة في هذا الإمام الجليل.

الجولة السابعة: مواقف من متابعة الإمام أحمد للرسول صلى الله عليه وسلم

الجولة السابعة: مواقف من متابعة الإمام أحمد للرسول صلى الله عليه وسلم نمضي أيضاً في جولة أخرى مع السلفي الأصيل الإمام أحمد، كيف كان حريصاً على أن يكون متبعاً للسلف، مع فقه أصيل ومع متابعة دقيقة! سئل الإمام أحمد عن الوساوس والخطرات، فقال: ما تكلم فيها الصحابة والتابعون. فكان يرى أن ما لم يتكلموا فيه من المسائل ولا يحتاج إليه في رد شبهة ونحو ذلك أنه لا يفتح على الناس به، وإلا كان ذلك نوعاً من عدم الفقه بمنهج السلف، إذ لو كان في مثل هذه المسائل من نفع لذكروه، ولذلك كان رحمة الله عليه يحرص على تعلم السنة وفقهها، وكان لا يخوض في أمر إلا إذا علم أن الصحابة خاضوا فيه؛ فإن علم بذلك اتبع رأيهم ونفى غيره، وإن لم يعلم أن الصحابة خاضوا في ذلك الأمر كف عنه واستعصم؛ لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهاج السلف وإلحاد في دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لم يكونوا يتكلفون التعمق في المسائل العقلية التي كثرت في وقت الإمام رحمة الله عليه، وضل بها كثير من الناس، ولذلك لما سئل عن علم الكلام، كتب إلى السائل قائلاً له: أحسن الله عاقبتك! الذي كنا نسمع عنه وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله لا تعد ذلك. يعني: لا تزد عليه ولا تبحث عن شيء وراءه. ولم يزل الناس يكرهون الجلوس مع المبتدع ليردوا عليه، إلا إذا احتيج إليه في رد ما شبه على الناس ولبس عليهم في دينهم. يقول الإمام أحمد عن نفسه: ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به. ومسنده فيه نحو من أربعين ألف حديث، وحتى لو كان بالمكرر فكونه يعمل بكل حديث كتبه فهذا أمر عجيب! وقد ذكر في ترجمته أمور عجيبة من حرصه على المتابعة للمصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد احتجم وما به من علة وأعطى الحجام ديناراً كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولما أمر بالاختفاء ذهب إلى بيت بعض أصحابه ومكث فيه ثلاثة أيام ثم قال له: التمس لي طريقاً أخرج، قال: لا آمن عليك، قال: التمس لي وأعطيك فائدة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختفى في غار حراء ثلاثة أيام ثم خرج فسهل الله أمره. وقال عنه بعض أهل العلم: إنه سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب عنها كلها وفي كل جواب يقول: أخبرنا أو حدثنا؛ ينسب ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانت المسألة امتثالاً يشمل كل ما بلغه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وكل ما أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم. ونحن اليوم نحتاج إلى مثل هذا الأمر، أن يكون أخذنا بما يبلغنا عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة أخذاً جاداً عازماً شاملاً كاملاً، لا أن يكون تقويمنا ونظرنا إلى أمور دون أمور، أو إلى حالات دون حالات، بل كما كان عليه الإمام أحمد رحمة الله عليه. يقول عنه عبد الملك الميموني: ما رأت عيني أفضل من الإمام أحمد؛ ما رأيت أحداً من المحدثين أشد تعظيماً لحرمات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذا صحت عنده ولا أشد اتباعاً منه رحمه الله تعالى. فهذه جملة تبين لنا كيف كان الإمام أحمد حريصاً على اتباع السلف، وقطع ما لم يكن في عهدهم من المقالات والمسائل التي شققها الناس وفرعوها وخرجوا بها عن نهج السلف، ولبسوا فيها على الناس دينهم، وكثر فيها القيل والقال، ولم يقفوا فيها عند ما أثر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام، وقد رويت عن الإمام أحمد في مسائل الفقه أقوال متعددة؛ لأنه لم يكن رحمة الله عليه يرى أن يخرج عن مجموع النصوص، بل كان يرى أنه يفتي بموجب هذه النصوص الواردة، وإن كان ليس بينها تعارض ربما قال بالقولين في المسألة الواحدة ليجري الأثرين أو الحديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان من فقهه في سجود السهو على سبيل المثال أنه قال: يتبع في كل حالة ما كان من فعله صلى الله عليه وسلم، فما روي في النقص من سجود السهو فيتبعه، وما روي في الزيادة من سجود السهو فيتبعه، حذو القذة بالقذة، وهكذا كان رحمة الله عليه إمام أهل السنة في وقته، لحرصه على هذا الاتباع.

الجولة الثامنة: مواقف من تواضع الإمام أحمد وهيبته

الجولة الثامنة: مواقف من تواضع الإمام أحمد وهيبته نأتي إلى جولة أخرى مع المتواضع المخلص الذي كان إماماً للأئمة والذي كان متبعاً للسنة، كان رحمة الله عليه متواضعاً يحب خمول الذكر ويبعد عما يحفه به الناس ويزيدون فيه، وهذا لا شك أنه من أعظم مراحل الإيمان والتقوى، وهو ألا يغتر الإنسان وألا يفتن عندما يوفق إلى بعض الخير، سيما والناس يحفون به، فقد كان أحمد رحمة الله عليه لا يحب أن يتبعه أحد قال ابنه: وربما خرج الجمعة فيتبعه بعض الناس فيقف حتى ينصرفوا عنه؛ لئلا يتبعه أحد؛ يأخذ ذلك من تواضع الصحابة، كما ذكر ابن القيم في الفوائد: (أن ابن مسعود خرج فتبعه بعض الناس، قال: ألكم حاجة؟ قالوا: لا وإنما نتبعك، قال: لا تفعلوا؛ فإنه ذلة للمتبوع، فتنة للتابع) هكذا كان أولئك القوم يحرصون على براءة نفوسهم وطهارة قلوبهم، والحذر من الرياء أو من الكبرياء ونحو ذلك. وهذا ابن معين رحمة الله عليه وهو من أصحاب أحمد والمقربين إليه يقول: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان عليه من الخير والصلاح. أي: لم يذكر يوماً أنه أعلم منهم أو أن عنده فقهاً أكثر منهم، أو أن عنده عبادة أكثر منهم، أو أن عنده أصلاً أو شرفاً أو كذا مطلقاً، مما يدل على أنه لم يكن يرى لنفسه شيئاً، بل كان يرى منزلته بين يدي الله عز وجل فلا يجد نفسه شيئاً مذكوراً، وكان ينظر إلى الصحابة رضوان الله عليهم فيقيس نفسه إليهم فيرى أنه قزم صغير عند عمالقة عظام رحمة الله عليهم أجمعين. وهو كما هو معروف أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني من قبائل العرب الصحيحة الأصيلة الأقحاح، فهذا محمد بن الفضل الملقب بـ عارم يتردد على أحمد فقال مرة: يا أبا عبد الله؛ بلغني أنك من العرب، فمن أي العرب أنت؟ فقال الإمام أحمد: يا أبا النعمان نحن قوم مساكين. ما أجابه على السؤال. وقيل له مرة: جزاك الله عن الإسلام خيراً. وكم نسمع هذه الكلمة لمن لا يبلغون عشر معشار الإمام أحمد، وإن كانوا على خير وفضل وصلاح؛ قال له رجل مرة: جزاك الله عن الإسلام خيراً؛ فقال له: لا، بل جزى الله الإسلام عني خيراً؛ ثم قال: من أنا وما أنا؟ من هذا الذي يكون له فضل على الإسلام؛ الإسلام هو الذي بصرني بالنهج، وهو الذي رزقني الله به الإيمان، وهو الذي عرفت به الحلال من الحرام، وهو الذي شرفت به في الدنيا وأنجو به في الآخرة بإذن الله عز وجل. وهذا يدلنا على أن النفس قد تطهرت من هذه الأوضار والأمراض التي تفتك بالنفوس، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة، وقيل له مرة: ما أكثر الداعين إليك؟ فاغرورقت عيناه بالدمع وقال: أخشى أن يكون استدراجاً، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجعلني خيراً مما يظنون وأن تغفر لي ما لا يعلمون. مثل ما روي من قول الصديق رضي الله عنه. وهكذا كان رحمة الله عليه ولذلك كان الناس يسمعون عن الإمام أحمد بن حنبل، ويسمعون عن تعظيمه وتوقيره وعلمه وصلاحه وموقفه الذي كان شائعاً في الأمة كلها، فكان بعض الناس يظنونه شيئاً غير البشر، حتى إن الذهبي ذكر: أن رجلاً جاء من خراسان ورأى الإمام أحمد بن حنبل فقال: الحمد لله الذي رأيته هكذا؛ فقال له الإمام أحمد: اقعد أي شيء ذا؟ ومن أنا؟ وكان موصوفاً بهذه الهيبة مع كونه على هذا التواضع. إذا رمى بصراً في مجلس هدأت ضوضاؤه واستقر الناس واعتدلوا يشير في هيبة الإيمان تحرسه رعاية الله لا جند ولا خول وليس في كفه سيف يذل به من لا يطيع ولا في ثوبه بلل ولكنها طاعة الرحمن عز بها عزاً له في حياة المصطفى مثل كأنما هو والهامات خاضعة شدا إليها جبال التهم ترتحل

الجولة التاسعة: مواقف من عدل وإنصاف الإمام أحمد لغيره

الجولة التاسعة: مواقف من عدل وإنصاف الإمام أحمد لغيره من عظيم مواقفه ومآثره ودروسه ما نمضي فيه مع المنصف العادل، الذي ينصف الناس ويعدل معهم ويعذرهم ويحسن بهم الظن، وفي ذلك مقالات فريدة جديرة بأن تكون موضع اعتبار وادكار، فهذا الإمام أحمد لما جاءت المحنة التي قد نذكرها وقد نرجئ ذكرها في درس مع محن الأئمة لأن فيها دروساً كثيرة. هذا الإمام أحمد كان معه جمع ممن حملوا إلى الحبس منهم: محمد بن نوح وعبيد الله القواريري وسجادة فبعضهم لما حبس أجاب في أول يوم، وبعضهم في اليوم الثاني، وأما محمد بن نوح لما حمل مع الإمام أحمد مات في الطريق وصلى عليه الإمام أحمد، فكان الإمام أحمد يسأل عمن كانوا معه وأجابوا والتمسوا لأنفسهم تأويلاً يعذرون به عند الله وهم أهل علم وخير، يقول الراوي: سمعت الإمام أحمد وقد ذكر الذين حملوا إلى الرقة إلى المأمون وأجابوا إلى ما طلب منهم من خلق القرآن تورية أو تأولاً؛ قال أبو عبد الله: هؤلاء لو كانوا صبروا وأقاموا لله لكان الأمر قد انقطع وحذرهم الرجل -يعني: المأمون -، ولكن لما أجابوا وهم عين البلد اجترأ على غيرهم. يعني: هؤلاء كانوا أعيان الناس لو أنهم ثبتوا لما اجترأ على غيرهم ولتراجع المأمون. وقد كان المأمون أراد أن يعلن الفتنة في العام الثاني عشر بعد المائة الثانية، قال المأمون: كنت أريد أن أعلن بخلق القرآن لولا خوفي من يزيد بن هارون شيخ الإمام أحمد، فقالوا له: من يزيد بن هارون؟ قال: أخشى أن أقول فيقول بغير قولي فيبطل. كان يحسب حساب العلماء والأئمة؛ لأن كلمتهم هي المسموعة، لكن لما جاء العام الثامن عشر بعد المائتين أعلن المأمون ودعا بخلق القرآن وامتحن الناس، فكان الإمام أحمد يقول: لو أنهم ثبتوا في ذلك الموقف لكان الأمر قد انقطع. كان أبو عبد الله رحمة الله عليه يعذر القواريري وسجادة ويقول: قد أعذرا وحبسا وقيدا، وقال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ثم قال: القيد كره والحبس كره. التمس لهما العذر ولم يقل: ضَعُفا وجَبُنا ولا انتقدهما ولا قدح فيهما ولا ازدراهما ليعلو بنفسه عليهما، وإنما التمس لهما العذر وأثنى على ما علم من حالهما وأحسن الظن بهما، ولذلك فهذا الموقف درس عظيم فيما ينبغي أن يكون من حسن الظن والتماس العذر وعدم التشنيع، وإن كان ثمة خطأ فينبغي أن يكون النصح بالحسنى وبالسر، حتى يقوم الإنسان أخاه بما يحصل به النفع دون الضرر، وبما يحصل به الخير دون الشر؛ لأن كثيراً من الناس ربما تغلبهم نفوسهم فيلتمسون علوها وشرفها بنقد الآخرين وجرحهم، وعندما تكون ثمة مواقف أو مقالات أو نحو ذلك ترى الناس يكثرون القول واللغط فيقولون: فلان كان جريئاً، وفلان كان خائفاً جباناً وغير ذلك، وهذا التقويم ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً، فإنما اجترأ من اجترأ حمية لدين الله عز وجل، وإنما سكت من سكت ربما فطنة أو حكمة أو مداراة ومراعاة لمصلحة. وهذا أحمد بن نصر الخزاعي في أمر المحنة رأى رأياً حتى قتل، فأثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل، وغيره تأول فالتمس له العذر؛ فكل على خير ما دامت المقاصد بإذن الله عز وجل صحيحة، ولم يبلغ الناس خطأ متعمد، فإن هذا ينبغي ألا يشاع عنه قالة سوء، ولذلك يقول أحمد بن حفص السعدي: سمعت الإمام أحمد يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل: إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً. ابتدأ هذا القول بالثناء على إسحاق وإن كان يخالفه في المسائل أو يخالفه في الاجتهادات، لكن هذا الخلاف لم يمنعه من أن ينصفه، ولم يكن هذا الخلاف مؤدياً إلى الاختلاف ولا إلى نفرة القلوب، بل كان من فقه الإمام رحمة الله عليه وإيمانه وورعه وتقواه أن أثنى على إسحاق، وأبلغ من هذا وأكثر منه ما رواه عبد الله بن محمد الوراق -وهذا درس عظيم- يقول: كنت في مجلس الإمام أحمد فأقبل عليه قوم فسألهم: من أين أقبلتم؟ فقالوا: من مجلس أبي كريب محدث من المحدثين فقال: اكتبوا عنه فإنه شيخ صالح، والمتوقع أن يكون هذا صديقاً حميماً للإمام أحمد، قال: فقلنا له: إنه يطعن فيك -يعني: يذكرك بسوء ويذمك- فقال الإمام أحمد: فأي شيء حيلتي فيه؟ شيخ صالح قد بلي بي. انظروا إلى عدل الإمام أحمد وإنصافه، فإنه لم يمنعه ذلك أن ينصفه وأن يذكر فضله وأن يكف عن الرد عليه بما قد يسوء ويشوه ويبلبل الناس، ولذلك فإن من أعظم ما ينبغي أن نفقهه وأن نعلمه وأن نستفيده من دروس الأئمة هو تجردهم لله عز وجل، وعدم انتصارهم لأنفسهم؛ لأن قصدهم المصلحة العامة دون المصلحة الشخصية، ولأن دورانهم مع الحق دون دورانهم مع أنفسهم ولا آرائهم، ولذلك هذه المواقف من هذا الإمام العظيم إمام أهل السنة تبين لنا منهج السنة في إحسان الظن والتماس العذر، وعدم الرد على من يخالف لغرض الرد عليه وإنما لإظهار الحق إن كان ولا بد منه، على ما كان من رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما بال أقوام يقولون كذا، ما بال أقوام يفعلون كذا) وهذه جولة من الجولات المهمة التي ينبغي أن نستفيد منها كما ينبغي، علينا أن نستفيد من فقه الأئمة كلهم في هذا الباب، فإن المأثور عنهم في هذا يطول ذكره، وهو من الأمور التي يفتقر إليها ويحتاج إليها كثيراً في هذه الأيام، التي إذا خالف فيها امرؤ شخصاً آخر ربما صرح بهذه المخالفة، وجعل توكيد نهجه وصحة رأيه لا تبنى إلا على نقد الآخر وتجريحه، أو الإكثار من ذكر فساد قوله على ما يعتقده هو، دون أن يكون هناك تبادل بالحب والمودة والتماس للعذر وثناء على الخير مثل ما يقع اليوم من اضطراب، فإذا الناس متحيرون وإذا بهم يتشككون في كثير من الخير وأهله؛ لأنهم يسمعون من هذا قدحاً في هذا ومن ذاك لمزاً في الآخر، فيسقط عندئذ هذا وذاك، ولا يبقى عند الناس حرمة لأهل العلم ولا للدعاة، فضلاً عن العلماء، وهذه الأمور هي لكل مسلم يوصف بالإسلام، فكيف إن كان عالماً أو داعية أو مجاهداً في سبيل الله، أو كان قائماً بأمر من أمور الخير والدين لا يقوم بها مثله، فإنه ينبغي أن تكون المراعاة لحاله وشأنه والثناء عليه والتوصية به وإرشاد الناس للاقتداء به أكثر مما ينبغي أن يذكر مخالفته لغيره في رأي أو اجتهاد.

الجولة العاشرة: مواقف من عبادة الإمام أحمد وصلته بربه عز وجل:

الجولة العاشرة: مواقف من عبادة الإمام أحمد وصلته بربه عز وجل: نمضي مع الإمام أحمد في صلته بالله عز وجل وإذا به العابد الذي وصفه ابنه فقال: كان أبي يصلي في كل يوم ثلاثمائة ركعة، فلما ضرب بالسياط في المحنة وسجن ثمانية وعشرين شهراً ضعف فكان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة وقد بلغ الثمانين؛ فأي أحد في هذه العصر إلا من رحم الله يستطيع أن يفعل مثل هذا الفعل؟! فلذلك لا يكون أهل العلم علماء حقيقيين إلا أن يجمعوا مع العلم العبادة والصلة بالله سبحانه وتعالى. يقول أحد طلاب العلم: إنه جاء إلى الإمام أحمد مسافراً فنزل ضيفاً عليه قال: فأعد لي ماءً ثم ذهب فجاء في الصباح فرأى الماء لم أمسه فقال: طالب حديث لا يقوم الليل! قال: فقلت: أنا مسافر؛ قال: وإن كنت مسافراً فإن مسروقاً حج ولم ينم إلا ساجداً. أي: من كثرة ما كان يصلي يغلبه النوم في سجوده؛ فهذا يدلنا على ما كان عليه أهل الإيمان من الصلة بالله التي نفتقر إليها اليوم كثيراً، قد نكثر من الكلام وقد نكثر من الخطب والمواعظ وقد نكثر من القراءة في الكتب وقد نكثر من سماع الدروس، لكننا إلا من رحم الله نقل ونقل ونقل كثيراً من الصلة والطاعة والعبادة والصلاة والقيام والذكر والتلاوة، ويقول أيضاً عبد الله في وصف أبيه: كان أبي يقرأ كل يوم سبعاً، يعني: يختم القرآن في سبعة أيام، وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو. ويقول: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم وكان يكثر الدعاء ويخفيه، وكانت قراءته خفيفة وربما لم أفهم بعضها، وكان يصوم ويدمن الصوم ثم يفطر ما شاء الله، ولا يترك صوم الإثنين والخميس وأيام البيض، فلما رجع من العسكر أدمن الصوم إلى أن مات، فهذا كان حاله في العبادة والصلة بالله سبحانه وتعالى على أمر فريد عجيب.

الجولة الحادية عشرة: نماذج من أدعية الإمام أحمد

الجولة الحادية عشرة: نماذج من أدعية الإمام أحمد نمضي مع دعوات الإمام أحمد، وقد كانت له دعوات جليلة عظيمة، حتى إن ابن الجوزي أفرد فصلاً في دعوات الإمام أحمد، لنرى كيف كان دعاء أولئك الصالحين، من دعائه رحمة الله عليه أنه كان يقول دبر كل صلاة: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك. وكم من الناس من يقع في المسألة لغير الله عز وجل من غير أن يشعروا، ويقعون في شيء من الرجاء أو الخوف لغير الله سبحانه وتعالى. ينبغي أن يكون المسلم محباً للخير عند الآخرين؛ لأن هذا من علامة كمال الإيمان كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فهذه النفسية إن وجدت في قلب المؤمن نظر إلى الطائع، فإذا به ينظر إليه نظرة محبة وإجلال واقتداء، وإذا نظر إلى العاصي لم ينظر إليه نظرة ازدراء واحتقار، بل نظرة شفقة ورحمة ورغبة في الإصلاح والإرشاد مع النصح واللطف، وهذا هو الذي يفارق فيه المسلم الفطن الحكيم في دعوته من ينظر إلى الناس شزراً ولا يرى فيهم إلا شراً ولا يتوقع منهم إلا نكراً، فكأنه يفرح بخطيئة الرجل ويفرح بزلته في القول، وإذا به يريد أن يجرم الناس أو يفسقهم أو يبدعهم أو يكفرهم، هذه نفس مريضة مظلمة ليست نفساً مشرقة بالإيمان محبة للخير، فكان من دعاء الإمام أحمد رحمة الله عليه حين كثرت الأهواء والفتن والبلايا وانحرافات العقيدة في عهده فكان يقول: اللهم من كان على هوىً أو على رأي وهو يظن أنه على حق وليس هو على حق فرده إلى الحق، حتى لا يضل من هذه الأمة أحداً. انظروا إلى القلب الشفيق الرحيم، وقد رأى الفتن تغتال العقول وتفسد القلوب، وأشفق على هذه الأمة مما جاءها من هذا البلاء، ومن هذه الفتنة العمياء، ومن هذه المقالات الفلسفية والانحرافات العقلية فكان يدعو بهذا الدعاء. وكان يقول في دعائه: اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكفلت لنا به، ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك، ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا، ولا ترنا حيث نهيتنا، ولا تفقدنا من حيث أمرتنا؛ أعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية. ومن دعائه أيضاً يقول: اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر علينا فنطغى، ولا تقلل علينا فننسى، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغاً لنا، وأغننا بفضلك يا رب العالمين. هذه الدعوات تبين لنا فقه الإمام أحمد وبصره بهذا الأمر.

موقف الإمام أحمد من فتنة خلق القرآن وثباته

موقف الإمام أحمد من فتنة خلق القرآن وثباته إن أمر الفتنة والمحنة التي وقعت للإمام أحمد هي أبرز صورة ومرحلة من مراحل حياته، بدأت في العام الثامن عشر بعد المائتين واستمرت إلى العام الرابع والثلاثين بعد المائتين، وابتلي فيها الإمام أحمد بصور شتى، كان منها: السجن، والضرب ومنها: أن يعلق من رجليه فيدلى رحمة الله عليه، وكان منها: أن يلف في بساط ويداس وهو في داخل البساط حتى يدمى رحمة الله عليه، وكان كالطود الشامخ؛ لأن عنده حجة مفحمة وبرهاناً قاطعاً أعيا به العقول وأخرس به الألسنة، ووقف الجميع أمامه لا يملكون إلا حجة الضعيف، وحجة الضعيف هي القوة والبطش، تلك الحجة التي أظهرها فرعون مع موسى، فإنه لما انقطعت حجته وحيلته قال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وهي الحجة التي قالها النمرود لما أعيته الحجة مع إبراهيم الخليل عليه السلام فلذلك أذكر أولاً بعض المواقف والرؤى التي كانت قبل المحنة ذكرت في كتاب كامل عن محنة الإمام أحمد بن حنبل يقول أحدهم: رأى الإمام أحمد في المنام: كأن عليه بردة مخططة وكأنه بالرجل يريد المسير إلى الجامع يوم الجمعة، فاستعبرت بعض أهل التعبير؛ فقال: هذا يشتهر بالخير؛ قال: فما أتى عليه إلا قريب حتى ورد ما ورد من المحنة. ويروى عن الإمام أحمد أنه قال: رأيت في المنام علي بن عاصم فأولت علياً بالعلو، وعاصماً عصمة من الله عز وجل فالحمد لله على ذلك، فعلا بين الناس ذكره، وعصمه الله عز وجل من الفتنة والمحنة، ومن عجيب ما كان عنده من الحجة مثل هذه المواقف، كان إذا أرادوه على شيء قال: ائتوني بشيء من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم ربما جاء ببعض الآيات التي يستشهدون بها مثل قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] أليس القرآن شيئاً؟ إذاً: فيكون مخلوقاً، هذه هي أصل فتنة خلق القرآن، فيقول لهم: يقول الله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] فدمرت كل شيء إلا ما أراد الله عز وجل فلا يكون هذا عموماً مطلقاً، بل فيه ما هو مستثنىً بأمر الله سبحانه وتعالى، ويحتجون عليه باحتجاجات أخرى فإذا به يرد عليهم هذه المقالات كما احتجوا بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] فقالوا: أليس القرآن مجعولاً فإذاً هو مخلوق؛ فقال لهم: يقول الله سبحانه وتعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] فهل معناها خلقهم كعصف مأكول، أو أن الجعل ما يصير إليه الشيء وينتهي إليه. وذكروا له قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] والمحدث مخلوق، فقال لهم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] فقال هنا: القرآن ذي الذكر هو القرآن، فهو معرف بأل، وأما (ذكر) غير المعرف فلا يراد به القرآن، فكلما جاءوه بحجة ألجمهم حجة أخرى، فما استطاعوا أن يظهروا عليه بالحجة، فأرادوا أن يكون ظهورهم عليه بالقوة والفتنة والمحنة.

الدروس المستفادة من فتنة خلق القرآن ووقت نشوئها

الدروس المستفادة من فتنة خلق القرآن ووقت نشوئها في هذه المحنة دروس كثيرة منها: كيف نشأت هذه الفتنة العظيمة؟! كان في آخر عهد الرشيد بداية لانتشار المقالات الفلسفية التي وردت إلى المسلمين من أولئك الفرس وغيرهم ممن فتحت بلادهم، وكان المأمون ممن تتلمذ على العلاف وهو شيخ من شيوخ المعتزلة، ثم قرب إليه هؤلاء الناس فألقوا في عقله ونفسه الشبه فاقتنع بها، ولذلك من أهم الأمور التي يجب أن تتوافر في الحاكم والخليفة أن تكون له بطانة صالحة من أهل الخير والصلاح، فيحسن حينئذ حاله وتحسن حال الأمة من ورائه، لكن لما كان هؤلاء المبتدعة بطانة المأمون حدثت منه هذه المحن التي ابتلى بها الناس. وخلاصة هذه الفتنة أن القرآن مخلوق وهذا هو قول المعتزلة؛ لأنهم أنكروا بعض الصفات ومنها صفة الكلام، قالوا: ننكرها لأنا نقع في التشبيه ووصف الله عز وجل بما لا يليق من الأوصاف، فجعلوا القرآن مخلوقاً، وكونه مخلوقاً يقتضي أموراً كثيرةً من الفساد، منها: أن المخلوق يخطئ ويصيب، وبالتالي تزول حرمة القرآن وقدسيته، التي يتلقى بموجبها المسلمون كل شيء وارد في القرآن على أنه حكم مقطوع مجزوم به، فلما أراد أن يقول بهذه الفتنة وبهذه المقولة خشي من بعض العلماء من أهل السنة، فزين له أهل الباطل أن يعلن هذه الفتنة، فهذا يدلنا على أثر أولئك القوم وأثر البطانة، فلما قال: أخشى يزيد بن هارون قالوا: ومن يزيد بن هارون هذا؟ فلما أججوه أعلن هذه الفتنة في سنة (212هـ) لكنه لم يدع الناس إليها حتى جاء عام (218هـ) فأعلن فيها هذه المقالة وحمل علماء الأمة عليها، وبدأ يمتحن الناس عليها فأخذ عشرين من كبار العلماء والأئمة في بغداد منهم: الإمام أحمد يريد أن يمتحنهم بهذا القول، وممن حمل إلى الخليفة: محمد بن نوح والقواريري وسجادة كما ذكرنا. يروى أن أبا جعفر الأنباري عبر النهر ليلقى الإمام أحمد فلقيه وسلم عليه فقال: يا هذا! إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبون، فتحمل أوزارهم إلى يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميداً، قال أحمد: فكان كلامه مما قوى عزمي وثبتني. هذا مما يدلنا على أن المرء يثبت بإخوانه ويعان بإذن الله عز وجل. نذكر بعض المواقف في هذه المحنة ومن أعظمها: أنهم لما قدموا على المأمون كان محمد بن نوح قد مات في الطريق، فجاء إلى الإمام أحمد خادم الخليفة وهو يمسح دموعه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، قال: فجثا الإمام أحمد على ركبته ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي! غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولئك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته؛ قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، قال أحمد: ففرحنا، وفي بعض الروايات: أن الإمام أحمد قال: اللهم إني أسألك أن لا أراه ولا يراني، فكان الأمر كما كان. وفي هذه الفترة رجع الإمام أحمد مع محمد بن نوح لمقابلة المعتصم، وكان مرض ابن نوح وموته في الطريق قبل أن يصل إلى المعتصم.

صور من تعذيب الإمام أحمد في الفتنة

صور من تعذيب الإمام أحمد في الفتنة من الصور التي مرت بهم في هذه المحنة أنه قال رحمة الله عليه: ضربت بالأسواط أول يوم فطفقت أعد سبعة عشر سوطاً، ثم أغمي علي ولم أدر ما كان. يقول الذين غسلوا الإمام أحمد عند موته وكانت وفاته سنة واحد وأربعين ومائتين يقول: رأيت أثر السياط في ظهره ما زال ظاهراً. ويقول أيضاً عن نفسه: علقت من رجلي وبيني وبين الأرض مسافة ذراع، فكانوا يضربونني بالسياط حتى انقطع الحبل بي ودقت عنقي بالأرض وأغمي علي ولم أدر ما وراء ذلك. وما أشبه الليلة بالبارحة، نسمع عن مثل هذا في هذه الأيام، بل نسمع عما هو أفظع وأشد؛ لأن القوم ممن مضوا كانوا على اجتهاد وإن انحرفوا، أما من يعذبون دعاة الإسلام وأولياء الله عز وجل اليوم، فإنهم قد نقموا على الإسلام كله ونقموا على أهله، وأبوا أن يكون لهذا الإسلام دولة يطبق فيها شرعه، ويحكم فيها بحكمه سبحانه وتعالى. ويقول أيضاً فيما وقع له من البلاء: إنه جيء بحصيرة ولفوه فيها، وظلوا يدوسونه بأرجلهم حتى أغمي عليه، وفي كل ذلك يقولون له: قل كما نقول بخلق القرآن، فيأبى.

موقف الإمام أحمد ممن يريد أن يثنيه عن موقفه من فتنة خلق القرآن

موقف الإمام أحمد ممن يريد أن يثنيه عن موقفه من فتنة خلق القرآن في فترة سجنه جاء بعض تلامذته يترخصون، وكان معهم ابن أبي زهير فقال له: أيها الإمام! ما عليك أن تجيب؟ لك عيال ولك كذا ولك كذا فنظر إليه الإمام وقال: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت. أي: إن كنت تفكر بنفسك بهذه النظرة الضيقة والمصلحة الشخصية والعيال والأولاد فقد استرحت؛ لأنك لا تحمل هم الأمة، ولا هم الدعوة، ولا تحمل هم الحماية لهذا الدين والذود عن هذه العقيدة، فإذاً: أنت مما عنى به القائل توبيخاً وهجاءً: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي هل يفكر مثل الإمام أحمد في طعامه وشرابه وأهله وعياله ودوره وما فيها؟! إن صاحب الهمة العالية وصاحب العقل الذي يفكر في هموم المسلمين وفي مصالح الأمة لا يستريح بل يبقى منشغلاً ويبقى حاملاً للهم، ولذلك قال الله عز وجل في وصف رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] كان يحمل هماً ويديم التفكير ويواصل العمل والتدبير لا لشيء يعود عليه بالنفع؛ وإنما ليستنقذ الناس من الكفر إلى الإيمان ومن الظلمة إلى النور، ليخرج الناس من هذا الموات إلى الحياة؛ لأن بالإيمان يحيا الناس وتكون نجاتهم في الآخرة بإذن الله عز وجل.

موقف الإمام أحمد ممن آذاه

موقف الإمام أحمد ممن آذاه أخرج الإمام أحمد من السجن ورجع إلى منزله، ولما جاءه الطبيب جعل يقطع من جسمه لحماً ميتاً من أثر السياط، وكان قد مكث في السجن ثمانية وعشرين شهراً. ومن عظمة نفسه رحمة الله عليه أنه كان قد أحل من آذاه، إلا من كان صاحب بدعة حتى يرجع عن بدعته، أما المساكين الذين كانوا يجلدونه بالسياط فقد عفا عنهم، ولم يحمل في قلبه حقداً ولا غلاً؛ لأنه لم يحتمل ذلك لأجلهم، وإنما كان يرى في ذلك ثباتاً على أمر الله عز وجل، والتماساً لثواب الله سبحانه وتعالى. وكان يقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، تريد أن تقتص منه مرة أخرى، أو أن تقول: هذا الذي فعل كذا وكذا، وأن تغري به حتى يقع به الضر، ما هذه نفوس المؤمنين ولا النفوس الكبيرة التي تتعب الجسد معها وهي أعظم من هذه الأجساد. ثم أيضاً قيل له: ادع على ظالمك، فقال: ليس بصابر من دعا على ظالمه. هذه مراتب عالية عند الأنبياء فسؤالهم لله عز وجل لم يكن سؤالاً مباشراً؛ لأنهم كانوا يستعظمون بعد نعمة الله عز وجل أن يسرعوا في الجزع وأن يلحوا في الدعاء، كما في قصة أيوب عليه السلام، وكما في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، ولذلك الإمام أحمد كان عندما يذكر ما حصل له كان يتلو: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40].

أثر الوشاة والمنافقين في إيذاء العلماء والدعاة والمصلحين

أثر الوشاة والمنافقين في إيذاء العلماء والدعاة والمصلحين ومن القصص: أنه عندما كان يضربه السياط كان الخليفة يشهد هذا الضرب ويقول للضارب: شد عليه قطع الله يدك. يعني: هذا ضرب خفيف. ثم تأتي القالة السيئة عندما بالغوا في ضربه ولم يرجع عن قوله، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين! دمه في عنقي اقتله. هؤلاء الذين لم يكونوا يرعون حرمة لمسلم ولا كرامة لعالم ولا منزلة لإمام من الأئمة. وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين! أنت صائم وأنت في الشمس قائم، فقال لي: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقول به؛ فرجع وجلس وقال للجلاد: تقدم وأوجع قطع الله يدك، فجعلوا يضربونه وهكذا، ثم جاء دور بعض الأشرار فقال: لا تقتله فيقولون: مات في مجلسك صبراً فيعظم عند الناس ويكون إماماً، ولكن أرسله حتى إذا مات في بيته لم يكن له مثل ذلك؛ فكانوا يعرفون ارتباط الناس وأثرهم في مثل هذه الأمور. وبعد المعتصم جاء الواثق واستمرت المحنة أيضاً ولكنه في فترة من الفترات منعه من مجالسة الناس ومن شهود الجماعات إلى غير ذلك من الأمور.

أثر مناظرة الشيخ الشامي لابن أبي دؤاد على الخليفة الواثق

أثر مناظرة الشيخ الشامي لابن أبي دؤاد على الخليفة الواثق ذكر بعضهم مناظرة وقعت لأحد الأشياخ من أهل الشام، جاء فناظر أحمد بن أبي دؤاد الذي كان قاضي القضاة وشيخ المعتزلة، وهو صاحب هذه الفتنة التي خفض فيها ووضع، هذه المناظرة ذكرها الذهبي وغيره وفي سندها مقال، لكن فيها حكمة وحجة، فجاء هذا الشيخ وأدخل ليناظره ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: يا ابن أبي دؤاد أخبرني عن مقالتك هذه أهي داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم، قال أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل ستر شيئاً مما أمر به؟ قال: لا؛ قال: فدعا إلى مقالتك هذه؟ فسكت، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين واحدة. ثم قال الشيخ: أخبرني عن الله حين قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] أكان هو صادقاً في إكمال دينه أم أنت صادق في نقصانه حتى قلت هذا القول؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقال: الثانية؛ قال: أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة أم جهلها؟ فقال: علمها؛ فقال: هل دعا إليها؛ قال: لا، قال: فأمر اتسع له علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه ولم يطالب أمته به، ووسع الخلفاء من بعده وسكتوا عنه أما يسعك أنت أن تسكت عنه؟ فأطرق الواثق يفكر فقال: بل يسعني، فكوا قيود هذا الشيخ. لما طال الأمد وقويت حجة الإمام مع صبره وثباته، العجيب الذي جعله إماماً للممتحنين حينئذ قضى الله عز وجل بعد وفاة الواثق وقد بدأ بعض تراجعه أن هيأ الله المتوكل بعده فهداه الله إلى السنة، فرفع المحنة عن الإمام أحمد وعظمه ووقره، وجعل له أمر تولية القضاة وأمر تغيير أحوال الدولة.

ثبات الإمام أحمد في الفتنة وثباته أمام الشيطان عند الوفاة

ثبات الإمام أحمد في الفتنة وثباته أمام الشيطان عند الوفاة الإمام أحمد ابتلي بالضراء فصبر، وابتلي بالسراء فشكر، وجاءته الدنيا صاغرة تحت قدميه فلم يخفض رأسه لينظر إليها، بل ظل شامخ الرأس ووطئها بأقدامه ماضٍ على طريق الله سبحانه وتعالى، وكانت وفاته أيضاً درساً وعبرة، فإنه رحمة الله عليه مرض نحو تسعة أيام، وجعل يطلب أبناءه وأحفادهم وجعل يشمهم ويودعهم، وكان في وقت مرضه إذا اشتد عليه يقول: لا بعد، لا بعد، لا بعد، ثم يغمى عليه، فسأله ابنه؟ فقال: إن الشيطان كان يقول: فتني يا أحمد، يعني: لم أستطع أن أبلغ منك مبلغاً؛ يقول: فكنت أقول: لا بعد، لا بعد، حتى مات. كان يخشى على نفسه الفتنة حتى في مثل هذه اللحظات، قيل: إن الإمام أحمد سمع حديثاً عن ترك الأنين فلم يئن، حتى لا يدخل في الجزع من قضاء الله سبحانه وتعالى، ولما مات الإمام أحمد خرجت بغداد كلها في جنازته، حتى قالوا: لم يصلوا العصر ذلك اليوم؛ لأن وفاته في صبيحة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول عام (241هـ) وكانت ولادته أيضاً في الثاني عشر من ربيع الأول عام (164هـ). يقول الذهبي: فأحصي من حضر جنازته فكانوا: ألف ألف نفس، وظل الناس يصلون على قبره وقتاً طويلاً. وفرح الناس بموكب جنازته لما أظهرت من نصرة السنة، وإن كانوا قد حزنوا لموت الإمام رحمة الله عليه. فهذه وقفات سريعة أمضيناها مع الإمام أحمد، وإن كانت كل واحدة منها جديرة بأن تكون موضعاً للاقتداء، ورؤية للواقع الذي نحن فيه، لما بيننا وبين الإمام وغيره من الأئمة من بون شاسع، خاصة فيما يتعلق بالصلة بالله عز وجل، والتقوى والورع مع العلم والفقه في الدين، وفيما يتعلق بالنفوس وتهذيبها والإخلاص وتحريره لله سبحانه وتعالى، ورعاية مصلحة الأمة والجهاد في سبيل نشر دعوة الله عز وجل والثبات على ذلك. نسأل الله أن يرزقنا حسن الاقتداء والتأسي بأمثال هؤلاء الأئمة رحمة الله عليهم.

الأسئلة

الأسئلة

الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن

الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن Q ما سبب فتنة خلق القرآن وما يترتب عليها من آثار؟ A من أهم الآثار أن القائلين بخلق القرآن أنكروا صفة من صفات الله سبحانه وتعالى وهي صفة الكلام، وهذا إبطال وتعطيل للصفات، وهو من مقالات الكفر التي تؤدي إلى إنكار ما ثبت في القرآن والسنة، ومن ذلك أيضاً زوال القطعية في كتاب الله عز وجل من حكم، وأنه حق لا يسع الإنسان إلا اتباعه؛ وغير ذلك أيضاً من المقالات الفلسفية العقلية التي تصرف الناس عن التسليم لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

موقف الإمام أحمد من خلق القرآن والخروج على الحاكم

موقف الإمام أحمد من خلق القرآن والخروج على الحاكم Q لقد كان موقف الإمام أحمد من مسألة خلق القرآن موقفاً عظيماً، ولكن بعض الناس يظن هذا الموقف لو حدث مثله اليوم لكان يعد خروجاً على الحاكم؟ A لا، ذكر ابن حجر رحمة الله عليه: أن بعض الأئمة كانوا يكرهون رواية بعض الأحاديث مخافة ما قد يسبق إلى الأفهام من سوء فهم لها، ومن ذلك أن الإمام مالك كان يكره رواية حديث الصفات، ومحمد بن الحسن كان يكره الغرائب، والإمام أحمد كان يكره رواية الأحاديث في الفتنة والخروج على الأئمة؛ لئلا يسبق إلى الناس فهم خاطئ فيها، وهو الذي استجاب لأمر أمير المؤمنين لما أمره أن يحتجب عن الناس ولا يوافقهم في مجالسهم، ولا يأتون إليه أيضاً في مجلسه، التزم ذلك ولم يكن ذلك إعلاناً منه للخروج؛ لأن للخروج ضوابط كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) فهذه المقالة هي مقالة كفرية، لكن القائل بها ليس بالضرورة أن يكفر؛ لأنه كان يظن ذلك صدقاً وحقاً ولبس عليه وفتن في مثل هذا الأمر؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة أثراً عن الإمام أحمد: أنه دعا لبعض من خاضوا في هذه الفتنة قال: لأنهم لم يكونوا يعلمون أنهم على باطل، فهذا ينبغي أن يعلم من مثل هذا الأمر.

العلاقة بين الإمام أحمد وأحمد بن نصر الخزاعي

العلاقة بين الإمام أحمد وأحمد بن نصر الخزاعي Q ما علاقة أحمد بن حنبل بـ أحمد بن نصر الخزاعي؟ A كلاهما من أئمة الحديث الكبار ومن أهل السنة العظام، وكان الإمام أحمد بن نصر الخزاعي أيضاً ممن ثبت في هذه المحنة والتمس لها تغييراً واقعياً جذرياً، حتى إنه كان يعلم الناس السنة ويعلم الناس المعتقد الصحيح، ويبين فساد هذا القول وما يترتب عليه من الآثار ووجوب إزالة هذا المنكر، حتى رأى أن يثب على الخليفة ليغيره ويغير هذا المنكر الذي فشا في الأمة دهراً طويلاً، لكن نبأ علمه إلى الخليفة وقتل ونصب رأسه في سر من رأى وجسمه في بغداد أو العكس، وظل كذلك منصوباً نحو سبع سنوات، وكان الإمام أحمد رحمة الله عليه يثني عليه ويقول: ذاك رجل جاد بروحه في سبيل الله عز وجل، وهذا تنبيه لطيف في مواقف الإمام أحمد، يقول: إن سبب هذه الفتنة أن المأمون تتلمذ على المعتزلة. نقول: واليوم في هذه الأعصر يتتلمذ بعض كبار القوم وأبناء الحكام والسلاطين في بلاد الكفر فوقع لهم مثل ما وقع لأولئك، نقول: نعم قد حرص المستخربون أن يأخذوا أبناء أكابر القوم وأبناء أهل الحكم ليغرسوا في عقولهم الشبهات والشهوات، وليجعلوهم تابعين لملل الكفر وموالين لأعداء الله عز وجل، حتى إذا كانت في أيديهم سلطة أو حكم أو قدرة على فعل أمر من الأمور فعلوا فيه فعلاً يناقض الإسلام ويضر بأهله، ولذلك جعلوا التولية في أمور كثيرة من الإعلام أو التعليم أو غيرها من المجالات لمن صنع على أعينهم وربي في ديارهم وتغذى بأفكارهم، وخفق قلبه بحبهم وتعظيمهم والولاء لهم، وهذا أمر شائع معروف.

ذكر مراجع سيرة الإمام أحمد وما حصل له

ذكر مراجع سيرة الإمام أحمد وما حصل له Q هذه المرويات تحتاج إلى ذكر المراجع؟ A أخشى من الإطالة وإلا كلها مراجع معروفة، ولعلنا نشير إلى بعض هذه على الإجمال، هناك كتاب (مناقب الإمام أحمد لـ ابن الجوزي) ساق فيه كثيراً من الروايات بالأسانيد وذكر فيه تفصيلات كثيرة، ومن هذه أيضاً مصادر ترجمة الإمام أحمد في سير أعلام النبلاء، وكذلك كتاب عن الإمام أحمد للشيخ محمد أبي زهرة، وكذلك كتاب عن إمام الصابرين، يتعلق فقط بالمحنة لـ عبد العزيز المسند وغيرها، أيضاً كتاب عن الإمام أحمد إمام أهل السنة لـ عبد الغني الدقر، وهناك كتب كثيرة أفاضت في مثل هذه الروايات، ولا شك أن تصحيح هذه الروايات وتوثيقها ليس بالضرورة أن تكون كلها صحيحة على مثل هذا، فإن ما يروى في التاريخ غير ما يروى في السنن، وما يروى في التراجم أدنى من ذلك وأقل، لكن كثيراً من هذه الروايات تطابقت عليها الكتب، وذكرها من ترجم للإمام أحمد.

طلب الرد على من يطعن في المناهج الدراسية وغيرها

طلب الرد على من يطعن في المناهج الدراسية وغيرها Q هنا في الأسبوع الماضي ذكر أن أحدهم كتب عن المناهج الدراسية كتابة غير جيدة، وأن الكاتب نفسه كتب عن البث المباشر في هذا الأسبوع بأسلوب يفهم منه أن الغرب أفضل من المسلمين وبطريقة لم يذكر فيها الأسلوب الأمثل للتصدي لمثل هذه الأفكار الهدامة ما هو دورنا نحو هذا؟ A اكتب للجريدة فإنها تنشر، وقد ذكر الكاتب أنه يريد من يرد عليه أو من يخالفه في الرأي؛ واكتب لمن ترى أن بيده أمراً حتى يصلح؛ لأن هذا الفساد ليس بالضرورة أن يكون لمجرد رأي راءٍ أو لقول قائل أو لكتابة كاتب أن يقر، وأن يسكت عنه؛ بل الناس ينبغي أن يقولوا الحق وأن يلهجوا به ويبلغوه، ودين الله عز وجل هو الأحق أن يتبع؛ لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ومعلوم أن أكثر ما ينبغي أن نحرص عليه هو أن نعرف أن هذه البلاد بما فيها من الحرمين قائمة بإذن الله عز وجل على شرع الله سبحانه وتعالى، وينبغي ألا يقبل أي شيء مما يخالف هذا الشرع، والأنظمة المنصوص عليها سواء في التعليم أو في الإعلام أو في غيرها مبنية ومصاغة صياغة تراعي أحكام الشرع، فبموجب الشرع وبموجب النظام مثل هذا القول ومثل هذه المطالبة مخالفة للشرع أولاً، ومخالفة للنظام ثانياً؛ فالمعترض عليها صاحب حجة قوية. فالله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إنذار وإعذار

إنذار وإعذار لا يزال أعداء الإسلام يحوكون المؤامرات، ويحاولون نزع الإيمان من قلوب المسلمين، وإبعادهم عن الأخلاق السامية الطاهرة، وقد ساعدهم بعض المسلمين على ذلك بالغفلة والجهل والتفريط في الدين، ولا خلاص من ذلك إلا باليقظة والتحصن والوعي التام.

تفريط المسلمين في كنزهم الثمين

تفريط المسلمين في كنزهم الثمين الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل الدائرة على الكافرين، والعاقبة للمتقين ولو بعد حين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً؟ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وبصر به من العمى، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إنذار وإعذار في تفاقم الأخطار، وكثرة الأضرار، وثمة أمور يغفل عنها الناس ولا ينتبهون إلى خطرها، ولا ينتبهون إلى معالجة ضررها إلا عندما تشتعل النار، وتعظم الأخطار، وتنحرف الأفكار، ويصبح الأمر حينئذٍ أصعب معالجة، وأثقل مدافعة، ولعلي أبدأ بقصة غريبة وهي: أن رجلاً كانت عنده ثروة كبيرة من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة، ولكنه لم يحفظها في مكان أمين أو خزينة مستقلة، بل أودعها بيته وهو على الطريق العام، ولم يجعل على بيته حراسة، ولم يكن متيقظاً، فنوافذه مفتوحة وأبوابه مشرعة، فمرة من المرات تسلل بعض اللصوص وسرقوا شيئاً يسيراً من هذه الثروة، فلم يلتفت إلى ذلك، ولم يحتط لثروته، بل ترك الأبواب مفتوحة بعد أن كانت النوفذ مفتوحة، فكثر اللصوص وعظمت السرقات، فماذا فعل؟ أزال النوافذ، وخلع الأبواب، حتى كادت كل الثروة أن تنتهب وتسرق، وحينئذ وضع يده على وجهه متحيراً متندماً، ناظراً في أمره كيف يحرس ثروته وقد ضاعت، وكيف يبقي ماله وقد سرق! أظنكم تعتقدون أن القصة خيالية، ولكنكم ستعجبون إن قلت إنها حقيقية، وسيزداد عجبكم إن قلت: إننا -إلا من رحم الله- قد فعلنا مثل ذلك، وإننا جميعاً يصدق فينا -إلا من رحم الله- أننا مثل ذلك الرجل، تركنا ثرواتنا نهباً لكل سارق، حتى إذا عظمت السرقات ووصلت إلى أعلى الدرجات وقفنا نفكر ونتساءل: كيف سرقنا؟ وكيف ذهبت ثرواتنا؟ وحتى الآن ما زال في أذهانكم تساؤلات كثيرة عن ذلك، ولعلي أزيل الغموض عندما أقول: إن الذي سرق منا ليس الأرزاق، بل الأخلاق! وإن الذي ضاع منا ليس الأموال، بل الأحوال! وإن الذي تضرر منا ليس الأبدان، بل الإيمان! لو تأملنا في هذه المعاني قليلاً وكنا صادقين لشعرنا جميعاً أنه قد سلب من إيماننا ومن ديننا ومن أخلاقنا كثير وكثير مما كنا عليه حريصون، ومما هو ثروة أعظم من كل ثروة، وقيمة أغلى من كل قيمة، فمتى نتنبه؟ هل نتنبه إذا جاءت الكوارث الكبرى، وإذا جاءت الحوادث العظمى، وإذا سمعنا بتدنيس المصحف الشريف بالأيدي النجسة، وبالأفعال القبيحة؟ وقد أشرت من قبل إلى شيء من ذلك، إلا أنني وجدت أن الأمر أخطر، وأن الضرر أعظم من أن يكتفى فيه بإشارة، أو أن يقال فيه ما قلناه فيما سبق من أننا فرطنا حتى كنا سبباً فيما يحل بنا، وفيما يحاك لنا، وفيما نقع فيه.

صور من التفريط الديني عند الأفراد

صور من التفريط الديني عند الأفراد

ضياع التربية عند كثير من المسلمين

ضياع التربية عند كثير من المسلمين ولعلي أشير بعد هذا الإجمال إلى شيء من التفصيل، أبدؤه بتفريط الأفراد من أمة الإسلام، ولو أردت أن أفيض لما انقضى حديثي هذا، لكنني أوجز في ومضات سريعة: أولها: التربية الضائعة: فأين نحن من الحفاظ على إيماننا، وسمت إسلامنا، ونضارة أخلاقنا في واقع بيوتنا، وفي سلوك أبنائنا، وفي مظاهر حياتنا، وفي صورة أسواقنا، وفي منظر شوارعنا، وفي كل لمحة وحركة وسكنة من حياتنا. أبناؤنا سلمناهم للشوارع تختطف أخلاقهم، وتركناهم لرفقاء السوق يسرقون حياءهم، ويفقدونهم تقديرهم واحترامهم، وتركناهم حتى أفسدوا فيهم نقاء الفطرة، وسرقوا منهم سمت الالتزام، ونهبوا منهم معاني الحياء، واختلسوا منهم صور الوضاءة والنقاء، وبعد ذلك لا نشعر بأن أمراً قد وقع، أو أن ضرراً قد حل، أو أن ثروة قد سرقت، لكنه لو سرق منا عقد ذهب بعشرة آلاف لبلغنا الشرطة واستدعيناها لتبحث عمن سرق هذا المبلغ الزهيد، دون أن نبحث عمن سرق الإيمان والإسلام والأخلاق، ونحتاط لهذه الأموال فنودعها في البنوك، أو نجعل لها الخزائن، أو نحفظها في الأماكن السرية، دون أن نحرص على حفظ أخلاق ودين أبنائنا، بل وأنفسنا أنفسنا!

فتح المجال للفضائيات المفسدة

فتح المجال للفضائيات المفسدة وهناك مظهر آخر في الوسائل المفسدة: قلت لكم: إن الرجل قد نزع النوافذ وخلع الأبواب، وكأنكم تقولون إنه بهذا يفعل فعلاً لا يعقل، ولكن كثيرين منا دون أن يفتحوا النوافذ والأبواب فتحوا القنوات الملهية المغرية المفسدة التي تغتال الحياء في النفوس، وتجرح الفضيلة في القلوب، وتحرف الفكر عن الاستقامة، ونحن الذين أدخلناها بأنفسنا، ونحن الذين اشتريناها بأموالنا، ونحن الذين ضبطناها وقسناها ووزناها بأيدينا، ونحن الذين استجلبنا المهندسين ليضبطوها لتحكم ضرباتها على قيمنا وثوابتنا، ولتحكم زعزعتها لإيماننا ويقيننا، فنحن الذين فعلنا فعل ذلك الرجل حتى تضاعفت المخاطر، وعظمت البلايا.

المقاييس الخاطئة عند كثير من الناس

المقاييس الخاطئة عند كثير من الناس وثالثة أتم بها ذلك الأمر، وهي المقاييس الخاطئة التي نقيس بها في أسرنا: فالدراسة أعظم وأكثر أهمية من حيث التطبيق الواقعي والسؤال والاستفسار ودفع الأموال من الصلاة والقرآن والمسجد وغير ذلك؛ لأن الدراسة يُسأل عنها، ويُصرف عليها، ويُنظر في نتائجها، أما الصلاة والقرآن والمسجد فلا تكاد ترد في سؤال ولا تخطر على بال إلا من رحم الله، وهكذا أصبحنا كحال ذلك الرجل، سرقت منا أعظم الثروات التي نملكها، فإذا سرق الأبناء والبنات وضاعت الأسر وحلت هذه الكوارث، فأي شيء يبقى بعد ذلك؟

تفريط الأمة في أراضيها وثرواتها

تفريط الأمة في أراضيها وثرواتها وأنتقل إلى صورة أخرى وهي صورة الأمة بمجموعها: فهناك الأراضي المغتصبة التي صحنا وانتفضنا وقت اغتصابها قليلاً، ثم نمنا وسكتنا بعدها كثيراً، حتى أصبحت اليوم تقاس بالأشبار، وتوزع بالأمتار، وتوضع على الطاولات، وتناقش في المؤتمرات، وتصبح جزءاً من المشروبات والوجبات. ثم بعد ذلك من الأراضي المغتصبة إلى الثروات المنتهبة، إلى المقدسات المدنسة، إلى السياسات المرتهنة، إلى العمالات الدنيئة، إلى المحاربات الوضيعة، حتى إن بعض بلاد الإسلام لا تحرك ساكناً ولا تنبس ببنت شفة حتى تأخذ التعليمات من الأسياد، بل إنها قد تجاوزت ذلك، وأصبحت هي الأداة المنفذة التي تقوم بحرب الإسلام في عقر داره، والتي تمتهن حملة الإسلام ودعاته وعلمائه في بلادهم وديارهم، والتي تقوم بتدنيس المقدسات والمساجد وغيرها في نفس بلاد الإسلام والعرب، ثم بعد ذلك يمكن أن نقول مثل ما قال ذلك الرجل: أين ذهبت ثروتي؟ وكيف اعتدى عليها الأعداء؟ وكيف عرف اللصوص طريقها؟ فنحن الذين مهدنا، ونحن الذين أعددنا، ونحن الذين ساعدنا، بل نحن الذين نفذنا وفعلنا إلا من رحم الله. ولعلي حينئذ -وأنا أصل إلى هذه النقطة- أجد أني رسمت صورة سوداء قاتمة، أو إن شئتم فهي صورة مخيفة مرعبة، وهل ذلك مقصد؟ إنه مقصد لأمر واحد فقط: نريد أن نشعر أنفسنا بأن الخطر حقيقي، وأن السرقات قد كثرت، وأن الثروات قد ضاعت، فإن لم نشعر بذلك فلن نغلق أبواباً، ولن نسد نوافذ، ولن نحكم احتياطاً، ولن نأتي بحراسة، ولن نقوم بشيء مهم لنا هو أساس حياتنا، إنه ديننا، إيماننا، إسلامنا. ماذا كان العرب قبل الإيمان؟ وماذا كانت الجزيرة قبل الإسلام؟ وأي قوم كان أولئك؟ لا يعرف أحد لهم ذكراً، ولا يسطر لهم التاريخ في صفحاته سطراً، فما الذي جعلهم قادة الدنيا، وسادات العالم، ومعلمو البشرية؟ وما الذي جعلهم يأتلفون من شرق ومن غرب، ومن أسود وأبيض، ومن كل اللغات والثقافات؟ إنه دين الله، إنه الإسلام العظيم، إنه الإيمان واليقين، إنه لا قيمة لأمة لا دين لها، ولا قيمة لمجتمعات لا مبادئ لها، ولا قيمة لحضارة لا أخلاق لها، إن الذي يتخلى عن دينه، عن معتقده، عن أخلاقه، عن مبادئه؛ قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

كيفية تحصين الأفراد والبيوت والمجتمعات من الأخطار

كيفية تحصين الأفراد والبيوت والمجتمعات من الأخطار نوجه الدفة إلى تدارك الأمر، وإلى تحصين أنفسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا: أولاً: لابد أن ندرك هذه الحقيقة، وهي أن الحياة دين وعقيدة، وإيمان وإسلام، وليس في الحياة تجارة ولا مال ولا زوجة ولا أبناء ولا علاقات ولا صلات، إنها قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك حياة إيمان وإسلام واعتقاد، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] إنه توجيه رباني، ومثله قوله جل وعلا: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم:43 - 45]، فهذه هي حقيقة الحياة. {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43] أي: يتفرقون وينقسمون، {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] ثم الجزاء بالحسنى لمن آمن وعمل الصالحات، والجزاء بالسخط والعذاب لمن أبى ذلك وأعرض عنه. قال السعدي في تفسير قوله جل وعلا: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ): أقبل بقلبك، وتوجه بوجهك، واسع ببدنك لإقامة الدين بجد واجتهاد، وقم بوظائفه الظاهرة والباطنة، وبادر زمانك وحياتك وشبابك من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله. فتأمل هذه الكلمات: أقبل بقلبك، واسع ببدنك، وتوجه بوجهك، أي: كل حياتك مرتكزها ومحورها ومربط فرسها دينك وإيمانك واعتقادك. وقال ابن عطية في تفسيره: إقامة الوجه هو تقويم المعتقد، والقوة على الجد في أعمال الدين، والمعنى: اجعل قصدك ومسعاك للدين، أي: لطريقه ولأعماله واعتقاداته. وقال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138] إن أمة الإسلام لها صبغة، ولها سمت، ولها مزية، إنها أمة إيمان وإسلام ودين يصبغ حياتها في كل شيء بدءاً من خفقة القلب، ومشاعر النفس، وخطرة العقل، وكلمة اللسان، وحركة الجوارح، إلى علاقات المجتمع، وإلى جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والعسكرية، وغيرها، ذلك هو سمت الإسلام وحقيقة الإيمان، وكم من أمة قد ضيعت دينها، وحُرف من قبل أحبارها ورهبانها، وأعلنوا في دساتيرهم أن أديانهم وراء ظهورهم وإن كانوا يقدمونها في واقع التطبيق العملي في زماننا الحاضر. ودعك من قوم يرددون مقالهم، ويكتبون في صحفنا، ويظهرون على شاشاتنا، ويتصدرون في مؤتمراتنا ليقولوا لنا: دعوا الدين في المساجد واجعلوه في تمتماتكم وأذكاركم ودعواتكم! وخلوا بيننا وبين الدنيا العريضة الواسعة نسرح ونمرح فيها بلا خطام ولا زمام ولا إيمان ولا إسلام، ولا أحكام ولا تشريعات ولا حلال ولا حرام! ودعوا المرأة تأخذ حريتها، أي بالفسق والفجور والمجون! ودعوا الاقتصاد يتحرر من قيد الدين ليكون رباً وقماراً وغشاً وخداعاً! ودعوا السياسة تنطلق من مبدأ المصالح لتكون خيانة ونفاقاً ومؤامرة! ودعوا الحياة كلها لتصبح أكثر شيء فساداً وأعظمه ضرراً، وأشده خطراً، وأكثره ضياعاً لحقوق الإنسان، وحقوق الأديان، وحقوق الأبدان! فأول أمر في تدارك الخطر أن نعرف موقع الدين في حياتنا، وموقع الإسلام والإيمان من قلوبنا ونفوسنا.

عداوة الكفار للمسلمين متنوعة ومبنية على العقيدة

عداوة الكفار للمسلمين متنوعة ومبنية على العقيدة وهناك مسألة ثانية وهي: ما الذي يجمع الأعداء حولنا؟ وما الذي يوجه السهام نحو صدورنا؟ وما الذي يجعل المؤامرات تحاك لنا؟ أتراها ثرواتنا؟ أتراها عقولنا المبدعة واختراعاتنا المتكاثرة؟ إن كان شيء من ذلك فهو قليل نادر، لكن الحقيقة جلية واضحة ساطعة، صورها النبي صلى الله عليه وسلم تصويراً بديعاً في حقيقتها حين قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها). إنها صورة من هذا التكالب، تكشف الآيات القرآنية عن حقيقته في صورة مطردة وحقيقة دائمة؛ قال عز وجل: {َولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] فصدقوا القرآن وأيقنوا به، فقوله: (لا يزالون) فعل مضارع يدل على الاستمرار والدوام، فهم: (لا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ) فلا تظنوا أن وقتاً سيمر وهو وقت للسلام كما يقال، وليس بالضرورة أن تكون المقاتلة منازلة في الميدان بالحرب والقتل، فإن مقاتلة قد وقعت وأدمت في إيماننا وإسلامنا أكثر؛ وذلك عبر وسائل الإعلام، ومناهج التعليم، ودسائس السياسة وغير ذلك. وقوله: (ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) أي أن تلك هي الغاية، فلو أعطيت (10%) من التنازلات فستظل المطالبات، وستظل الاعتداءات (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ)، أي: حتى يصل الأمر إلى أن يكون قلبك قلبهم، وعقلك عقلهم، وهواك هواهم، وعداؤك عداءهم، وولاؤك ولاءهم، وبراؤك براءهم، كما قد وقع من أبناء ملتنا في صور كثيرة نراها ونعرفها. وقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [البقرة:217] أي: من وصل إلى هذه المرحلة فأي خسارة خسر؟ وأي أمر في حياته وقع؟! {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] انتهى كل شيء، فمن باع دينه باع حياته ودنياه وأخراه، ومن هان عليه دينه هانت عليه قيمته، وهانت مكانته، وهانت قوته أمام أعدائه؛ لأن أي أمة أو رجل أو إنسان بلا مبدأ ولا قيمة ولا معتقد يستهان به ويذل مهما كان عنده من أسباب القوة المادية. قال السعدي في تفسيره عند هذه الآية: هذا الوصف عام لكل الكفار. وقال القاسمي: المقصود تحذير المؤمنين منهم -أي: من الكافرين- وعدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور. فكم نرى ممن يغتر بأن هناك أموراً كثيرة نتفق فيها، ونجتمع عليها، وتقربنا من أعدائنا، وغير ذلك مما تسمعون.

أهمية معرفة حقيقة دين الإسلام وما يجب نحوه

أهمية معرفة حقيقة دين الإسلام وما يجب نحوه ثم أنتقل إلى أمر مهم، وهو أمر التعريف، أن نعرف حقيقة ديننا، فديننا وإسلامنا ليس كغيره من الأديان، وليقل غير ذلك من شاء وكيف شاء، وليعدوا ذلك عنصرية أو يعدوه شيئاً من الأشياء التي يذمونها، فإن بين أيدينا كتاب الله عز وجل يخبرنا بأن الإسلام هو الدين المرتضى، قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]. ويخبرنا الله عز وجل أن الإسلام هو الدين المقبول فقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]. ويخبرنا بأن الإسلام هو الدين القيم فقال: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة:36] أي: المستقيم، ويخبرنا عز وجل بأنه الدين الحق فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33]. ويخبرنا بأنه الدين الخالص فقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]. وأنه الدين الخاتم فقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]. فإسلامكم أعظم وأكمل وأشرف وأبقى؛ لأن الله عز وجل اقتضت حكمته ذلك، فختم به الرسالات، وختم بمحمد صلى الله عليه وسلم النبوات، وختم بالقرآن الكريم الكتب التي أنزلها للخلق أجمعين.

أهمية تعليم الأبناء العقيدة الصحيحة

أهمية تعليم الأبناء العقيدة الصحيحة وأضيف إلى هذا أمراً آخر، وهو التوريث: فما الذي نورثه لأبنائنا؟ وما الذي نعلمه لهم؟ وما الذي نعتني به في شأنهم؟ قال عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، إن أعظم ما تعطيه وتعنى به، وتنتبه له، وتحرص عليه، وتتابعه وتقيمه، وتنميه وتزيده؛ هو الدين، (وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) رسل الله، أنبياء الله، وصوا بالدين والإيمان والإسلام، وورثوه لأبنائهم، وعنوا به، وذلك ما كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فما الذي كان في آخر حياته من الكلمات والألفاظ؟ هل أوصى بالزوجة والأبناء؟ أو بالثروات والأموال؟ أم كان يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) ويقول: (لا تتخذوا قبري عيداً) إلى آخر نفس، كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]؟ فهذا سعد بن الربيع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، وبعد أن أصيب عند آخر لفظة من حياته كان يقول: (بلغوا قومي: أنه ليس فيهم خير قط إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم عين تطرف) استولى الإيمان والدين على القلوب فنطقت به الألسنة في أحرج اللحظات وأحرج المواقف، بل في وداع الدنيا واستقبال الآخرة. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يظهر الإسلام في أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب التمسك بالدين

وجوب التمسك بالدين ثم ننظر فنرى أموراً كثيرة، منها الأصل الأصيل المهم، وهو التمسك بالدين: إن الأمر الذي أنزله الله في كتابه، وبعث به رسوله، والدين والشرع الذي ارتضاه لنا لا لنجعله قولاً على الألسنة، ولا لنجعله مصاحف نزين بها الأبنية والأمكنة، إنما ليكون ديناً نطبقه في واقعنا، ونمارسه في حياتنا، ونحققه في علاقاتنا، ونقيم عليه كل شيء نعمله أو نتركه في حياتنا، قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:43 - 44]. وتأملوا اللفظ القرآني: (فَاسْتَمْسِكْ) ولم يقل: فأمسك، وكذا قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:170] (يمسكون) أي: بقوة وبشدة وبحرص وبعناية وبصدق وبإخلاص، وبكامل التوجه في حياتهم، فليس صوراً ظاهرية، ولا مناظر شكلية، ولا مقالات لفظية، بل حقائق إيمانية، وممارسات عملية، ومبادئ ثابتة لا تنفصم عراها، ولا تنحل قواعدها المتينة، قال عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]. إنه لابد من المفارقة والمباينة، فلا نجمع مع الإيمان كفراًًً، ولا مع الإسلام غيره؛ لأن الإسلام هو الدين الكامل القيم المرتضى الحق الخالص، كما بينت آيات القرآن الكريم، فهل نحن كذلك في واقعنا؟ وهل هذا متجلٍ في حياتنا؟ وهل هو الذي يظهر فيما يعنى به في واقعنا؟

وجوب التحصن من الأخطار

وجوب التحصن من الأخطار الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه، ومن أعظم التقوى تعظيم أمر الدين والإيمان واليقين في القلوب والنفوس والسلوك والوقائع والحياة كلها، ولعلي أختم بنقطتين مهمتين: الأولى بعد الذي ذكرناه أيضاً: التحصين: فلا تتركوا الأبواب مفتوحة، ولا تتركوا النوافذ مشرعة، ولكن حصنوا إيمانكم، وحصنوا أخلاقكم، وحصنوا بيوتكم، وحصنوا أفكاركم قبل أن تُغزوا في كل ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته). وفي هذا المعنى جاء منهج متكامل في القرآن، ففي شأن العقيدة وقاية وحماية وتحصين؛ قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، وقال سبحانه: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخر} [الإسراء:22]. وفي أمور التربية النفسية وقاية أيضاً وحماية وحصانة، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. وفي الأمور الخلقية قال عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، ولم يقل: لا تفعلوا الفواحش، بل قال: (لا تَقْرَبُوا) ومثل ذلك: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] أي: لا تأتوا دواعيه، ولا تقتربوا مما يوردكم فيه، وما يؤدي إليه. وهكذا نجد ذلك أيضاً في الأخلاق الاجتماعية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] إلى آخر ما هو مذكور في ذلك. وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المحذرة المصدرة بقوله (إياكم)، كقوله: (إياكم والدخول على النساء!) وقوله: (إياكم والجلوس في الطرقات!)، وقوله: (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث)، فكل تحذير هو تحصين من أمر قد يقع، فمن لم يأخذ بالحذر وقع في خطر.

الاطمئنان بوعد الله

الاطمئنان بوعد الله وأخيراًًً: لابد من رسالة نختم بها، وهي رسالة التطمين: فلنطمئن لا بشخصنا، بل لأن الله عز وجل قضى بأن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يرفع رايته، فإن لم يكن بنا فسيكون بغيرنا، وإن تخلينا: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. فخذ التطمين من قوله سبحانه: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3]، فلن يستطيعوا له استئصالاً وإن فعلوا ما فعلوا، ولن يستطيعوا عليه غلبة وإن تقووا بما تقووا، لكن المطلوب منا ما ذكره سبحانه في تتمة الآية: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [المائدة:3] فاجعلوا خشية الله في قلوبكم أعظم من خشية الدول العظمى، والمؤسسات الدولية، والأنظمة العالمية وغيرها، فحينئذ تكونون أثبت وأقوم، وأقدر على مواجهة كل خطر، قال عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] فاطمئنوا، لكن الطمأنينة وعد الله بفعل البشر الذي يقدره، فلابد من بذل كل غالٍ ورخيص حفاظاً على ديننا، وغيرة على حرماتنا، ونصراً وانتصاراً لمقدساتنا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وأخلاقنا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وحسن أقوالنا، وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وارفع درجاتنا، وامح سيئاتنا. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه وأنت راضٍ عنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم اللهم بدداً، ولا تغادر اللهم منهم أحداً، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اقذف اللهم الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين، اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين المعذبين المشردين، والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، والحمد لله رب العالمين.

الانتخابات البلدية مسائل ورسائل

الانتخابات البلدية مسائل ورسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول ديننا الإسلامي، ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتنوع وتختلف باختلاف الزمان والمكان، وإن إعانة المرشح الصالح في الانتخابات، وإقصاء الفاسد عن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعلى المترشح أن يتقي الله في المسئولية المناطة به، وفي الأمانة التي تحملها، وعلى الناخبين أن يراعوا توافر الشروط الشرعية في المرشح وعلى ضوئها يكون التأييد أو الإقصاء.

أهمية المنبر في توجيه الناس وإرشادهم

أهمية المنبر في توجيه الناس وإرشادهم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً ويمحو الله به عنا وزراً ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فحديثنا متعلق بالانتخابات البلدية مسائل ورسائل حولها، وهذا الموضوع قد يقال على منابر المساجد في خطب الجمعة وغيرها، فما علاقة منبر المسجد وخطبة الجمعة بمثل هذا؟! وأي صلة لهما؟! كما قد يجول في خواطر بعض الناس، أو كما هو اعتراض بعض آخر، وهنا أقول: خطبة الجمعة تُعنى بكل أمر يتصل بشأن الناس وقضاياهم وحوائجهم، وهذا هو جوهر نفعها وفائدتها وحقيقة قوتها وتأثيرها، وهذا مدخل أولي.

شمولية الإسلام لكل جوانب الحياة

شمولية الإسلام لكل جوانب الحياة وأمر ثان مهم: هو تأكيد وتجلية حقيقة شمولية إسلامنا العظيم، لكل جوانب الحياة فلا يصح قصره على أسس الاعتقاد وأحكام الفقه في تفصيلات العبادات، بل هو معني بكل شأن من شئون الحياة، معني بأن يوجه الناس ويبين لهم حكم الله جل وعلا في معاملاتهم المالية الاقتصادية وفي شئونهم الزوجية الاجتماعية، وفي أحوالهم القضائية العدلية، وفي كل باب من أبواب الحياة، كما قال الحق سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ} [المائدة:3]، وكما عبر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن شمول ما جاءهم به وما أرشدهم إليه في أدق الأمور وأصغرها فضلاً عن جليلها وأكبرها، كما روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة) أي: حتى قضاء الحاجة، وكما قال أبو ذر رضي الله عنه: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما) فذلك هو الإسلام العظيم في كل شأن من شئون الحياة يبينها ويفصلها ويظهر جوانبها المختلفة. وأمر ثالث: وهو حسن الإرشاد والتوجيه في أي مسألة تحدث للناس وفيها خواطر وحوائج يريدون فيها بياناً للحكم أو تفضيلاً لأمر على أمر أو كشفاً لشبهة، وحري وجدير أن يكون ذلك من دور المسجد ومن أمانته ورسالته. وقد قال الشاطبي رحمه الله: الشرع جاء ليقيم أمر الدنيا وأمر الآخرة، وإن كان قصده بإقامة الدنيا للآخرة فليس بخارج عن كونه قاصداً لإقامة مصالح الدنيا حتى يأتي فيها سلوك الآخرة. فليس في ديننا دنيا منعزلة عن الدين أو دين ليس له شأن بالدنيا، فذلك أمر لا يصح في الإسلام، بل هو مناقض لأصوله وقواعده ومخالف لحقيقته وتاريخه، وهو أساس ومقصد أعظم لمن يريدون إضعاف الإسلام وأهله بالفصل ما بين دينهم واعتقادهم وأحكامهم وتشريعاتهم وبين مسالك حياتهم، فلتمتلئ المساجد بالمصلين ولتعج أجواء الفضاء بهم تالين وذاكرين، ثم يكونون في الاقتصاد مرابين وفي الاجتماع مختلطين وغير ملتزمين بحجاب ولا غيره، ذلك هو غاية ما يريده أعداء الإسلام وبعض المسئولين من أبناء المسلمين ممن اختل فهمهم أو اعوج سلوكهم وفتنوا بغيرهم. إذاً فنحن مدخلنا إلى ذلك مدخل أصيل نتحدث فيه ونتناوله، وربما يكون لنا به أحقية أكثر من غيرنا؛ ذلك أننا نريد دائماً وأبداً أن نكون كما ينبغي، وأن يكون هذا المنبر أخلص قصداً وأنزه مسلكاً وأرشد رأياً وأصوب قولاً فيما يعود إليه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

مشروعية الانتخابات

مشروعية الانتخابات وقفتنا الأولى في مشروعية هذه العملية، وهنا مسائل: أولها: أن هذه الانتخابات وغيرها إنما هي وسيلة لغاية، فقد تكون اليوم على هذا النحو في سبعة أجزاء، وقد تكون من بعد في عشرة، وقد يكون الأمر في أشخاص عدتهم كذا ثم يكونون كذا، فهي وسيلة، والقاعدة تقول: إن للوسائل أحكام الغايات ما لم تناقض شرعاً أو يكون فيها محرم. والغاية لمثل هذا الأمر هو أن يكون من بين الناس من يؤدي أدواراً مهمة كما هو معلن وكما هو مراد، وأولها: تحسين الأداء والعمل الذي تقوم به هذه البلديات، ونحن نعلم -ولا إشكال في وضوح ذلك وبيانه- أن من أكثر الجهات التي يشتكي منها الناس وقد يعانون من خدماتها وقد يكون فيها من التجاوزات ما فيها هذه البلديات، وهذه المشاركة -مما هو ظاهر فيها ومعلن عنها- تهدف إلى تحسين الأداء. وثانيها: أنها تهدف إلى الضبط والمراقبة ومنع ما قد يكون من خلل أو تجاوز أو تغيير لحق أو تأخير له ونحو ذلك، وهذا أيضاً أمر مهم وغاية محمودة ينبغي الحرص عليها. والثالث: توصيل حوائج الناس وقضاؤها والتعجيل في تحقيق مطالبهم، ذلك أن الذين ينتخبون ليسوا محسوبين على الوظائف المعتادة التي يستند فيها الموظف إلى تعيينه دون التفات إلى مصالح الناس، وأول مهمة هؤلاء أنه ينبغي أن يسمعوا أصوات الناس، وأن يسمعوا مشكلاتهم، وأن يكونوا ساعين لهم وأجراء عندهم ووكلاء عنهم في حقيقة الأمر؛ لأن هذه هي حقيقة الولاية في الإسلام، حتى الولاية العظمى -أي: ولاية أمر المسلمين- إنما ولي أمر المسلمين فيها وكيل عنهم في إقامة الدين وسياسة مصالح الدنيا، وإنما هو أجير عند الأمة يقوم بما كلفه الله عز وجل إياه لتحقيق مصالح الأمة، فإذا كانت هذه هي الغايات المحمودة من حسن الأداء والعمل ووجود الرقابة والضبط، وكانوا أجراء عند الناس ووكلاء عنهم في الحرص على مصالح الناس وتحقيقها، فالوسيلة حينئذٍ تأخذ حكم هذه الغاية في جوازها وفي مشروعيتها وفي استحبابها. ثاني تلك المسائل: أن مثل هذا بالنسبة للناس هو لون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن قلنا: إن هناك خللاً أو فساداً أو تقصيراً وجاءت وسيلة يمكن من خلالها أن نقوم هذا الخلل أو نكمل ذلك النقص أو نقوم هذا الاعوجاج فلا شك أن هذا مطلب في حق كل مسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل سمة المؤمنين في المجتمع المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]، بل جعل سمة الأمة كلها مرتبطة بذلك، كما في قوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. فهذه وسيلة لك ولمن يصل إلى ذلك الموقع ليؤدي هذه المهمة ويتقي الله سبحانه وتعالى، فلا يرى منكراً إلا ويمنعه بقدر جهده وطاقته، ولا يرى خيراً إلا ويسعى إلى إنفاذه وإقراره ونشره وإقامته بين الناس. الثالث: أن هذا الانتخاب شهادة، فإن قيل لك: إن هذا موقع من المواقع ومنصب من المناصب يتنافس فيه عشرة من الناس ونريد منك أن تشهد شهادة لله عز وجل لمن ترى أو تعرف أنه أقدر على قيامه بالواجب في هذه المهمة والمسئولية، فالشهادة حينئذٍ مطلوبة، والمؤمن لا يشهد إلا بالحق، وإذا قصر عن الشهادة في وقت يحتاج فيه إلى شهادته فترتب على غياب شهادته إقرار لباطل، أو تقديم لفاسد أو نحو ذلك فإنه قد يكون آثماً بهذا؛ إذ سكت عن حق وكتم شهادة، وكلنا يعلم ذلك في قوله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140]، والله جل وعلا يقول: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283]، فاشهد بالحق، وقل بما يغلب على ظنك أنه الصواب، وتحر الإخلاص، وتنزه عن أن يكون لك مقصد غير إقرار الحق والنطق به والشهادة به، كما قال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]. فقوله تعالى: (أقيموا الشهادة لله) أي: ابتغاء وجهه ومرضاته، لا لمصلحة ولا ميل إلى من لك عنده مصلحة. فانتخابك شهادة فلا ينبغي لك أن تكتم الشهادة وأنت قادر على إنفاذها، وأنت تعلم أن إنفاذها يكون فيه خير.

كلام العلامة ابن باز في شأن الانتخابات

كلام العلامة ابن باز في شأن الانتخابات إن مقالات أهل العلم في هذا الشأن من علماء الأمة المعاصرين وأقوالهم كثيرة، فقد قال الشيخ ابن باز رحمه الله عن الانتخابات التشريعية أو المجالس النيابية إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله. إذاً فهذه ومضات ظاهرة واضحة للمشروعية، بل وفي الندب إلى ما فيه أمر بمعروف ونهي عن المنكر وشهادة بالحق، وتحقيق لغايات فيها مصالح للناس وقضاء لحوائجهم.

رسائل موجهة لمن يدلون بأصواتهم

رسائل موجهة لمن يدلون بأصواتهم الرسائل نوجهها لمن يدلون بأصواتهم ولمن يرشحون أنفسهم قبل ذلك، يقول الحق سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام في مدين حكاية عن شعيب: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].

على المسلم أن يتقن ما أنيط به من عمل ومسئولية

على المسلم أن يتقن ما أنيط به من عمل ومسئولية وثمة مسألة أخرى تقال هنا، وهي الإتقان، فليس أداء الواجب بأدنى الدرجات، بل ينبغي الحرص فيه على أعلاها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما روت عائشة رضي الله عنها: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) فينبغي لمن يتصدى لذلك أن يعلم أنه لا يلزمه القيام بالواجب فحسب، بل الإتقان فيه والحرص على أعلى المراتب، وحسبنا ما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عندما تولوا المسئوليات الكبرى، فقد تولى أبو بكر الخلافة وقال قولته المشهورة: (وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) وقوله: (إنما وليت بقولكم ورأيكم واجتماع كلمتكم) وفيه إشارة إلى أن قول أهل الحق والإسلام في أمر يكون به مثل ذلك. وعمر رضي الله عنه كان يفعل ويفعل ويفعل ثم يقول: (والله لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله لم لم تسو لها الطريق؟!) إن كنت تريد أن تتصدى لمسئولية عامة فتذكر هذه الأمثلة، وتذكر الذين سهروا ليلهم ونهارهم وكان أمر المسئولية يؤرق نومهم ويقض مضاجعهم إخلاصاً لله ورعاية لمصالح الناس، واستشعاراً للمسئولية وحرصاً على الإتقان. نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعاً لطاعته ومرضاته، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم وفقنا للصالحات واصرف عنا السيئات، واغفر لنا ما مضى وما هو آت، وأنزل علينا الرحمات وأفض علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات وارفع لنا الدرجات، وامح عنا السيئات وكفر عنا السيئات برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداةً مهديين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم ألفِّ على الحق قلوبنا، وثبت على طريقه أقدامنا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا نادمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم الطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمأسورين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم ردهم على أعقابهم خائبين، نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ عليها سلمها وإسلامها، وأمنها وإيمانها، ورزقها ورغد عيشها، اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تول علينا شرارنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. وفق اللهم ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تقديم المرشح نفسه من خلال برنامجه الانتخابي خلاف الأولى وليس محرما

تقديم المرشح نفسه من خلال برنامجه الانتخابي خلاف الأولى وليس محرماً إن الانتخاب أو التصويت هو أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وشهادة ينبغي أن تقوم بالحق، وأن يكون فيها تقوى الله سبحانه وتعالى، وأما وقد جاء في هذه الوسائل ما يقدم فيها المرء نفسه ويذكر للناس ما يعرف ببرنامجه أو ما يريد أن يفعله لهم، وقد تكون هناك صور أخرى أنسب أو أوجه منه، فإنا نقول: هذه الصورة في ذاتها ليست محرمة، وإن كانت النصوص قد يكون فيها ما يدل على أن هناك ما هو أولى، إلا أن قول الله سبحانه وتعالى في قصة يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فيه إشارة إلى أن من وجد في نفسه كفاءة لأمر يرى أنه يحقق فيه للمسلمين مصلحة فلا بأس أن يتقدم له، وأن يذكر ما عنده فيه، فإن يوسف عليه السلام لما علم ما علم من شأن الرؤيا التي أراه الله إياها ورأى أن للناس مصالح وهو قادر عليها قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] فطلب الولاية، وكذلك بين ما لديه من قدرات فقال: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، ومن هنا فإن الجمع بين هذا وهذا يرجى أن يكون واضحاً، وأنَّ ذكر ما يعمله الإنسان أو ما عنده من علم إنما هو باب من الأبواب التي فيها اجتهاد بين الجواز أو المنع عند بعضهم، أو رؤية غير ذلك أولى، لكن الأمر المهم في وجوب ذلك أو جوازه هو أن لا يكون مظنةً أو مدخلاً إلى الغرور والاغترار والإعجاب بالنفس والاستكبار أو طلب الشهرة بين الناس ونسيان المقصد الأعظم، وهو أنه يريد أن يقوم بواجب وأن يؤدي أمانة وأن يتحمل مسئولية، وأن يكون وكيلاً عن الناس في تحقيق مصالحهم. فلا يلتفت المرء عن مثل هذا لمثل ذاك، فإن من فعل فإنه أساء -ولا شك- وأخطأ، ولذلك ينبغي أن ندرك أن من يتصدى لذلك فإن عليه أن ينتبه إلى الأمانة، فإن كل مسئولية صغرت أو كبرت فهي أمانة، وينبغي أن نتذكر قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. وأن يعلم أن الأمانة العظمى ومثلها الأمانات الأخرى مسئول عنها، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، وأن ندرك أيضاً أنه يؤدي واجبه، وأنه بعد ذلك مسئول بين يدي الله سبحانه وتعالى عما استأمنه الله عليه وعما ولاه الله إياه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). وكذلك أن يدرك المسئولية وأنها عظيمة، وأن الله سبحانه وتعالى قال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: مرتهنة بعملها إن أحسنت أعتقت نفسها وإن أساءت أوبقت نفسها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) إما أن يعتقها من النار ومن العذاب بأن يؤدي الواجب ويحفظ الأمانة ويقوم بقدر استطاعته بما ينبغي عليه القيام به، وإما أن يفرط فيوبقها ويلجمها بالإثم ويستحق بذلك العقاب.

أن يكون الاختيار مبنيا على أساس إسلامي

أن يكون الاختيار مبنياً على أساس إسلامي أول رسالة أن يكون اختيارنا مبنياً على أساس إسلامي ومنهج قرآني وهدي نبوي، فقد قالت الفتاة: (إن خير من استأجرت القوي الأمين) قال السعدي في تفسيره: أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة. وهذان الوصفان ينبني عليهما الإنجاز في كل من يتولى أمراً من الأمور في إدارة أو غيرها، فإن الخلل يكون بفقدهما أو فقد أحدهما، وأما باجتماعهما فإن العمل يتم ويكمل، فلابد من أن ننظر إلى من يقدر وإلى من يظن أنه يستطيع أن يقوم بالمهمة على وجه حسن، وأن ننظر إلى ديانته وأمانته وصدقه وإخلاصه فيما نرى وفيما نجتهد؛ لأن من لا يقصد وجه الله عز وجل ويخلص له قد يُفتن وقد يَفتن، وقد ينصرف إلى حظ نفسه، وقد يغلب مصالحه، وقد يضيع أمانته ويفرط في مسئوليته، فينبغي أن ننتبه لذلك جميعاً.

مقصود الولاية العظمى إقامة الشرع

مقصود الولاية العظمى إقامة الشرع ورسالة ثانية توجه للجميع، فما المقصود من هذه المسئولية أو المهمة؟ بل ما المقصود مما هو أعظم منها وهو الولاية العظمى؟ إن مقاصد الإسلام في كل ولاية هي إقامة الدين ورعاية المصالح في الدنيا، فكل ولاية ومهمة الجزء الأساسي في غايتها هي مصالح الناس ورعاية أمور دنياهم، وإقامة الحق والشرع فيهم. قال ابن تيمية رحمه الله: فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربةً يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إلى الله بطاعته وطاعة رسوله أفضل القربات. ثم تكلم عن واقع مهم، وهو قول مطرد في المجتمعات، قال: إن الناس انقسموا إلى قسمين: الأول: من اتخذ الولاية لحظ نفسه فاستعملها في مصالحه وفي تحصيل المال، وضيع أمور الناس. وقسم آخر لما رأى الولاية والسلطان اقترنا في كثير من الصور بالاستئثار بالمال والاعتداء على الحقوق وتضييع المصالح رأى أن لا يكون له في ذلك نصيب وأن ينقطع عنه وينعزل. قال: وكلا السبيلين غير محمودٍ، بل ذكر أن هذين السبيلين هما سبيلا المغضوب عليهم والضالين من الأمم، فاليهود أخذت المال، وجعلت السلطان حظاً للمال وللفساد في الأرض، وغيرهم انقطعوا وانعزلوا أو جعلوا انقطاعهم وانعزالهم إلى الصوامع وإلى البيع وتركوا أمور الناس وشئون الحياة. قال: وسبيل الحق بينهما، وهو أن يأخذ المسلم من هذه الولايات ما يعتبره أمانة يحملها ومسئولية يؤديها فيقوم فيها بالصلاح والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال رحمه الله: إن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لأجل ذلك وبه أنزل الكتب وأرسل الرسل. وقال أيضاً: وجميع الولايات إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل ولاية السلطان، والصغرى مثل ولاية الشرطة، ودون ذلك مثل ولاية المال أو ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة، فكل ولاية هي ضرب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الدين ورعاية مصالح الدنيا. ولذلك ينبغي أن ندرك هذا المعنى فيكون للذي ينتخب نية في أنه يسهم في هذا الأمر إحقاقاً للحق وتقديماً له ورعاية للمصلحة، وأن يعرف من يرشح نفسه أنه إنما ينتدب لمهمة يتقرب فيها إلى الله، ويخلص فيها له سبحانه لا لحظ نفسه، ولا لشهرته أو جاهه أو غير ذلك.

الولاية في الإسلام لا تعطى لمن يطلبها

الولاية في الإسلام لا تعطى لمن يطلبها وهنا -أيضاً- رسائل أخرى تبين لنا عظمة ديننا من جهة، وتبين لنا ما ينبغي أن نكون عليه من جهة أخرى، وهي أن الولاية في الإسلام -كما هو معلوم- لا تعطى لمن يطلبها، ولا ينبغي أن يستشرف لها من ليس أهلاً لها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال بصريح حديثه: (إنا لا نعطي هذا الأمر من سأله) وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي ذر المشهور: (يا أبا ذر! إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها). فليست المسألة أن نسارع إلى أمر نظنه هيناً، إنها أمانة عظيمة، ومسئولية جسيمة ومهمة دقيقة، ومن أخلص فيها كانت له عبادة جليلة، ومن فرط فيها وأساء وأفسد ربما كانت له سمة ذميمة وإثماً عظيماً، نسأل الله عز وجل السلامة. ومن هنا نجد التوجيهات النبوية في هذا الشأن وهي تدلنا على أمور كثيرة مهمة، منها: ما الذي ينبغي لمن يقوم بمهمة أو يتولى مسئولية؟ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم! من ولي من أمر المسلمين شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئاً فرفق بهم فارفق به) وهذا يدلنا على الواجب المطلوب لكل مسئول من أعلى مسئول إلى أدنى مسئول، وأنه إنما هو أجير وخادم للناس وراع لمصالحهم، وفي الحديث: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وجاء -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً وهو يعلم أن في المسلمين من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) رواه الحاكم في مستدركه وصححه، وسكت عنه الذهبي. إذاً فالمسألة دين وأمانة، نسأل الله عز وجل أن يعيننا في كل أمورنا أن نقصد وجه الله وأن نتابع شرع الله، وأن نقتفي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نجتهد في إصابة الحق، وأن نتناصح به وبالصبر.

الاستيعاب والاقتباس في الدعوة

الاستيعاب والاقتباس في الدعوة موضوع الاستيعاب والاقتباس في الدعوة موضوع مهم جداً؛ لأنه يوسع دائرة الدعوة ويكثر الراغبين في حملها والتفاعل معها، ولأن أمر الدعوة أمر عظيم، فهو ميراث النبوة، والمهمة التي شرف الله عز وجل بها هذه الأمة، وهذا الموضوع له أسباب وفوائد وضوابط وأسس يجب معرفتها ومراعاتها حتى لا تختلط الأمور عند الأخذ بها.

مقدمة عن أهمية موضوع الاستيعاب والاقتباس في الدعوة

مقدمة عن أهمية موضوع الاستيعاب والاقتباس في الدعوة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى في كل آن وعلى كل حال، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه. أما بعد: فعنوان هذا الدرس: (الاستيعاب والاقتباس في الدعوة). وهو موضوع من المواضيع الدعوية التي لها أهميتها فيما نحتاج إليها في الاستفادة من الدعوة، وتوسيع دائرتها، وتكثير الراغبين في التزامها وحملها والتفاعل معها، فإن أمر الدعوة إلى الله عز وجل أمر عظيم، هو وراثة النبوة والسير على هدي سلف الأمة، وهو المهمة التي جعل الله عز وجل شرف هذه الأمة مكنوزاً فيه، كما قال سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وكما شرف الله عز وجل أصحاب الدعوة وأربابها وحملتها والناطقين بها والرافعين للوائها بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ولذا فإن تناول هذا الموضوع وغيره من الموضوعات، إنما هو لأهمية الدعوة، سيما في وقتنا المعاصر وفي بيئتنا الحاضرة، وكثير من الموضوعات المتعلقة بالدعوة هي اجتهادات قابلة للأخذ والرد، ومحتملة للصواب والخطأ، وهي في كثير مما تستخلص منه تجارب واجتهادات ناشئة عن علم وبصيرة، وعن ممارسة وتجربة، وهذا الموضوع هو عبارة عن رءوس أقلام؛ لأن التفصيل فيه يحتاج إلى تطويل، خاصة فيما يتصل بالأمثلة المتعلقة بالواقع المعاصر، وخاصة إذا استجبنا لما قد يطلبه الإخوة من إجابة على بعض التساؤلات في وقائع معينة، أو في صور ومشكلات يمرون بها ويتساءلون عنها، ولذلك سوف يكون ما نجمله إن شاء الله عز وجل معيناً على الفهم والتطبيق في أمثلة أخرى، وفي ممارسات كثيرة متعددة.

أسباب الحديث عن موضوع الاستيعاب والاقتباس في الدعوة

أسباب الحديث عن موضوع الاستيعاب والاقتباس في الدعوة إن الحديث عن مثل هذا الموضوع على وجه الخصوص له أسباب كثيرة، من أبرزها:

السبب الأول: الانفتاح والإقبال الكبير والشديد من الأمة نحو الالتزام بالدين

السبب الأول: الانفتاح والإقبال الكبير والشديد من الأمة نحو الالتزام بالدين إن الانفتاح والإقبال الكبير والشديد الذي تشهده الأمة الإسلامية في مجتمعاتها في شرق الأرض وغربها نحو الالتزام الإسلامي، والرغبة في خدمة هذا الدين، والحرص على العلم به والفقه فيه، والالتزام العملي بموجباته وأحكامه، فنحن نرى اليوم إقبالاً عجيباً، لا يوجد أحد ولا جهة ولا مجتمع ولا دولة يكون سبباً فيه، وإنما هي ظروف وعوامل متعددة ومختلفة ساقتها أقدار الله عز وجل وعنايته سبحانه وتعالى ورحمته، بعد أن كان هناك شرود وبعد عن دين الله عز وجل، فصارت -بحمد الله عز وجل- هناك صحوة وأوبة إلى هذا الدين العظيم. وهذا الإقبال أصبح أكبر بكثير من الجهود التي تبذل في مجال الدعوة، فإن الصحوة قد سبقت الدعوة، فإذا بكثير من العقول تستنير وتطلب العلم والفقه والفهم، وإذا بكثير من القلوب تستضيء وتطلب النعمة والإيمان والهدى والاستقامة قبل أن تصلها جهود الدعوة بالكلمة المسموعة أو المقروءة، أو بالدعاة الذي يجوبون البلاد والديار، وهذا السبق لم يكن سبقاً عادياً أو محدوداً، بل كان سبقاً كبيراً ومنتشراً، فلذلك لابد من الحديث عن الاستيعاب لهذه الجموع الغفيرة المقبلة على الخير الراغبة في هذا الدين ونصرته وتأييده وحمل رسالته ونشر دعوته في كل مكان، ولا شك أن الناحية النظرية تقصر كثيراً عن الناحية العملية في مسألة الاستيعاب الذي سأذكر مرادنا منه والنقاط التي سأتعرض لها ضمن هذا الموضوع.

السبب الثاني: التنوع والاختلاف

السبب الثاني: التنوع والاختلاف وذلك الإقبال الكبير يشمل أنماطاً مختلفة من البشر، وأنواعاً متباينة من التفكير، وأناساً أتوا من بيئات مختلفة، ومن أنماط من التربية أو التعليم متباينة، فهذا التنوع والاختلاف لابد من أن يثير عندنا التساؤل الذي نطلب له إجابة عملية قبل أن تكون نظرية، وهو: كيف نتعامل مع هذا التنوع؟ فنحن اليوم نشهد إقبالاً من الأعاجم والعرب، ومن الأميين والمتعلمين، ومن أصحاب المهن العلمية وكذلك أصحاب التخصصات الأدبية أو العلوم الإنسانية، نشهد إقبالاً في صفوف الرجال والنساء، في صفوف الصغار والكبار، لم تعد القضية محدودة في فئة معينة يمكن أن يرسم لها برنامج محدد، وأن تصاغ لها لغة تناسبها، بل صار الأمر -بحمد الله عز وجل- أوسع وأشمل، وأكثر تنوعاً واختلافاً، مما يستدعي أن يكون هناك مجال وحاجة ملحة للتفكير في هذا الاستيعاب.

السبب الثالث: المنافسة بين الدعوة الإسلامية والدعوة الشيطانية

السبب الثالث: المنافسة بين الدعوة الإسلامية والدعوة الشيطانية إن المنافسة في الساحة الاجتماعية في ديار المسلمين ليست بين إسلام وإسلام، وإنما التنافس بين الدعوة الإسلامية والدعوة غير الإسلامية، فهناك دعوة العلمنة التي تريد منك أن تحافظ على مكتسباتها التي كابدت وخسرت من أجلها خلال عقود من السنوات طويلة، وهناك دعوات التغريب التي تريد أن تلحق المجتمعات الإسلامية بالمجتمعات الغربية، وتجعل طبيعة حياتها وتفكيرها يسير في هذا الاتجاه، وكل صاحب فكرة أو دعوة يسعى بكل جهده من الجهد العقلي والجهد الفكري والجهد الإعلامي والجهد المادي ليسحب البساط من التيار الخيِّر الذي سرى -بحمد الله عز وجل- في الأمة الإسلامية اليوم، وهو تيار الأوبة الإسلامية والصحوة الإيمانية بحمد الله سبحانه وتعالى. ولذلك لا يمكن لأرباب الدعوة الإسلامية أن يتألفوا القلوب، وأن يرشدوا العقول دون أن يطوروا أساليبهم، ودون أن يفكروا في اجتهاداتهم، وأن يراجعوا حساباتهم؛ ليستطيعوا أن يكونوا أكثر قرباً من المسلمين والمجتمعات الإسلامية من أولئك الأشرار، وليكونوا أيضاً أكثر إقناعاً للناس وترغيباً لهم في هذا الحق والخير الذي تخفق به قلوبهم وتطمئن إليه نفوسهم، ولذلك لابد لنا من أن نتحدث عن الاستيعاب والاقتباس في الدعوة، عل هذا الحديث يثير تفكيراً متواصلاً وتجارب متتابعة تزيد من قوة الدعوة وقدرتها على كسب مزيد من المسلمين إلى صفوفها وإلى رحابها الواسعة الخيرة.

حقيقة الاستيعاب

حقيقة الاستيعاب الاستيعاب: هو القدرة على اجتذاب الناس واستمالتهم للدعوة والخير. ولابد من أن نعلم أن المسلم مهما شرد وغرق في أوحال المعصية، ومهما تلوث عقله بكثير من الشبهات فإن بذرة الخير في قلبه ما تزال موجودة وإن كانت مخبوءة، ولذلك ليس من مهمتنا أن نئد هذه البذرة، وأن نطمس قليل الضوء الذي فيها، بل مهمتنا أن نزيل الركام من حولها، وأن نوسع الطريق لها لتشق بضيائها القليل طريقها نحو القلب والنفس، فتملأ الجوانح بنور الإيمان بإذن الله عز وجل.

نماذج من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستيعاب والاقتداء به

نماذج من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستيعاب والاقتداء به علينا أن نحسن الدعوة وأساليبها وطرائقها لنستميل القلوب والعقول بصورة نظرية قوية، وبصورة عملية أقوى منها، وحسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً وقدوة في هذا الشأن؛ لأن المصطفى عليه الصلاة والسلام تعامل مع الصغار والأطفال، وتعامل مع الشيوخ والكبار، وخاطب الرجال وأقنع النساء، وسلَّم له الموافق والمخالف، واستمال بحجته عقول المعرضين والمعاندين، ودمغت أدلته حجج المغالطين والمرائين وأصحاب الشبهات والمغالطات. لقد كان في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أنموذج الداعية الذي يستوعب كل صنف من أصناف البشر في كل حالة من حالات الحياة عبر كل ظرف من ظروف الزمان والمكان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام مثالاً يقتدى به، فلقد اشرأبت إليه الأعناق، وأحبته سويداء القلوب، وتعلقت به الأمة كلها، حتى إن مخالفيه شهدوا له بالحق والعدل والفضل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان الداعية الكامل الذي ينبغي أن يحتذى ويقتدى به. فهذا على سبيل المثال ثمامة بن أثال، وقد كان على كفره، فأسره بعض المسلمين واقتادوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فربطه في المسجد عليه الصلاة والسلام لينظر إلى هذا المجتمع المسلم كيف يؤدي صلاته وعبادته، وكيف يسجد لربه ومولاه، وكيف يطيع رسوله وقدوته صلى الله عليه وسلم، وكيف تمتزج صفوفه وتلتحم، وكيف تأتلف قلوبهم وتعتدل، وكيف يمثل نموذجاً للمجتمعات البشرية على أرقى مستوى يمكن أن يعيشه الإنسان في هذه الأرض، وإذا بهذا البصر لذلك الكافر، وبذلك العقل لذلك المعرض، وبذلك القلب لذلك الذي حرم من نور الإيمان يفكر ويشتغل ويتدبر، ثم يخاطبه النبي عليه الصلاة والسلام فيقول له: (أما آن لك يا ثمامة أن تسلم؟) فيقول ثمامة: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن ترد المال نعطك. ثم بعد ذلك أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يقيم عليه سيفاً ليقطع رقبته، ودون أن يثير له رعباً ينخلع له قلبه، ودون أن يمارس عليه ضغطاً يرغمه على أن يقتنع بما لا يقبله عقله ولا منطقه، بل ترك له بعد هذا الأسلوب الدعويّ المؤثر الخيار، فإذا به يخرج من المسجد فيذهب إلى أقرب مكان فيغتسل، ثم يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلن إسلامه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتحول إلى معين ناصر للدعوة الإسلامية، ويمنع الميرة عن قريش. وكذلك الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، جاء إلى مكة وسبقت إلى أذنه الدعايات المغرضة، والحملات الإعلامية المشوهة أن لا تسمع محمداً صلى الله عليه وسلم ولا تجلس إليه؛ لأنه يفرق بين المرء وزوجه، ولأنه يسفه أدياننا وتراثنا وآباءنا وأجدادنا. وظلوا به كذلك حتى نجحوا نوعاً ما، لكنه نجاح هزيل لا يعتمد على قوة الإقناع، نجحوا إلى أن وصل نجاحهم أن أخذ كرسفاً -أي: قطناً- ووضعه في أذنيه ليصم أذنه عن سماع محمد صلى الله عليه وسلم، وكما نقول: حبل الكذب قصير. ثم إنه فكر بعقله وقال: أنا رجل من عقلاء الناس أعرف الكلام صوابه وخطأه، وأعرف الشعر نظمه ونثره، فلماذا لا أسمع فإن وجدت خيراً عرفت، وإن وجدت شراً أنكرت؟! فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما هي إلا كلمات يسيرة حتى دخل الإيمان قلبه، وأقنعت الحجة عقله، وانقلب من فوره إلى مسلم لا يقبل بعلاقة مع زوجه ومع أبيه إلا أن تكون علاقة بمقياس هذا الدين، ووفق حقيقة التوحيد. وهكذا سهيل بن عمرو الذي جاء يفاوض في صلح الحديبية بغطرسة الكفر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم). فيقول سهيل: لا، ولكن اكتب: باسمك اللهم. فيغض النبي صلى الله عليه وسلم الطرف؛ لأنه يريد أن يسحب الحجج الشكلية الواهية، وأن يبتعد عن المعارك الجانبية الكاذبة ليخلص إلى جوهر الموضوع، قال سهيل اكتب: باسمك اللهم. فقال لـ علي: (اكتب: باسمك اللهم)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لو كنا نعلم أنك رسول الله لما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله). وفي بعض الآثار أن علياً رضي الله عنه أبى أن يكتب من غيظه لتعنت المشركين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أصر عليه، وفي بعض الآثار والروايات أنه قال لأصحابه: (أشيروا على مكانها. فلما أشاروا إلى موضعها مسحها عليه الصلاة والسلام بيده) وهذا يمثل لنا قمة القدرة على ضبط النفس لأجل استيعاب الموقف وإقامة الحجة وإعلاء الراية. وهكذا في مواقف شتى أختمها بحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي نعلم من قصته لما صلى وعطس في الصلاة، ثم حمد الله وسط الصلاة، ولم يكن يعرف النهي عن الكلام في الصلاة، قال: (فجعلوا يحدون النظر إلي -يعني: الصحابة- قال: فقلت -على طبيعته وسليقته في أثناء صلاته-: واثكل أمياه! مالكم تنظرون إلي؟! قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم فعلمت أنهم يسكتونني فسكت، فلما قضيت الصلاة دعا بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي فوالله ما نهرني ولا كهرني ولا ضربني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده خيراً منه قط، إنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس). وهكذا أمثلة كثيرة جداً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الاستيعاب عند الناس؛ لأنه ليس كل الناس يستوعبون الأمر كاملاً، ولا يأخذونه على تمامه، فقال عليه الصلاة والسلام: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله).

القواعد الأساسية المهمة للاستيعاب

القواعد الأساسية المهمة للاستيعاب من أجل أن يكون هناك استيعاب صحيح -بإذن الله عز وجل- فهناك أمور مهمة وقواعد أساسية ينبغي أن يدركها العاملون في مجال الدعوة على وجه الخصوص.

القاعدة الأولى: الناس مراتب

القاعدة الأولى: الناس مراتب يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)، فلم يكن كل الصحابة مثل أبي بكر وعمر، بل كان فيهم كثيرون ليسوا على تلك المراتب، فينبغي أن نعلم أن في الناس أصحاب همم عالية ومراتب سامقة، وأن منهم من هو أضعف من ذلك، وأن منهم من هو أدنى مرتبة، وقد ذكر الله لنا أن من الناس من هو سابق في الخيرات، ومنهم مقتصد، ومنهم ظالم لنفسه، ولذلك ينبغي -لكي نستوعب كل المسلمين في إطار الدعوة- أن ننظر إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف استوعب كل المجتمع المسلم، بما فيه من أعراب أجلاف ذكر الله وصفهم في القرآن الكريم، وبما فيه من نساء عجائز ليس عندهن عقول مفكرة ولا نظرات ثاقبة، ولكن عندهن قلوب مؤمنة وعقول مسلمة، ولذلك ورد في الحديث الصحيح بروايات مختلفة في شأن نزول القرآن على سبعة أحرف (أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل فقال له: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف واحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن في أمتي الرجل الكبير، والمرأة العجوز، ومن لا يفقه في دين الله -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- فنزل جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف). إذاً لابد من أن نعرف أن منازل الناس تتفاوت بتفاوت أفكارهم وهممهم وحماسهم وقوة عزائمهم، فينبغي لنا أن نسير بسير الضعيف، وكما قيل: سيروا بسير أضعفكم. وكما قيل: الضعيف أمير الركب. هذا من حيث النظرة العامة، أما عندما نطلب مهمات خاصة وأموراً ذات حساسية كبيرة وقضايا ذات أهمية خاصة فلابد من أن نطلب لها الأكفياء الذين عندهم من المؤهلات ما يناسبها، أما أن أطلب من الرجل العامي المسلم الضعيف الذي لم يتلق تعليماً عريضاً، ولم يحفظ من القرآن والسنة والفقه شيئاً كثيراً فإنني أحمله ما لا يطيق، فإذا حملته ما لم يطق أدبر وولى، وإذا لم أستوعبه خسرته، وخسرت كذلك الطاقة الدعوية الموجودة عنده التي كان ينبغي أن تستثمر وأن يستفاد منها. ولقد كانت امرأة عجوزٌ على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم تقم الأذى من المسجد، فلما ماتت وهي امرأة عجوز ليس لها تلك المنزلة العالية غضب لها النبي عليه الصلاة والسلام حين لم يؤذنوه حتى يشهد دفنها عليه الصلاة والسلام.

القاعدة الثانية: القدرة على استثمار الطاقات ومعرفة الاحتياجات

القاعدة الثانية: القدرة على استثمار الطاقات ومعرفة الاحتياجات لابد من أن يكون عند أرباب الدعوة قدرة على استثمار الطاقات ومعرفة بالاحتياجات، فليس من الحكمة بحال من الأحوال ولا من الفطنة أن نطلب من كل الناس أن يكونوا خطباء مفوهين، أو كتاباً مبدعين، أو علماء فقهاء، بل ينبغي أن نعرف أن هناك حاجات كثيرة، وأن هناك طاقات معينة لابد من أن توضع في مكانها المناسب لها، فليس من الحكمة أن آتي إلى طبيب مسلم أحب هذا الدين ورغب في نصرته فأصر عليه أن يكون خطيباً أو معلماً أو شيخاً معمماً، فإن هذا قد لا يكون مناسباً له، ولابد من أن نعرف أن الاحتياجات هي احتياجات الحياة كلها، فالأمة المسلمة تحتاج إلى الذي يجيد الخط، كما تحتاج الذي يصلح البناء، كما تحتاج الذي يكون ممن يكثر سواد الأمة فحسب، فالكل يمكن أن يؤدي دوراً، أما إذا قلنا: ليس إلا هذه الأدوار فإننا سنخسر كثيراً من الطاقات.

القاعدة الثالثة: اعتماد التدرج في السياسة الدعوية والتربوية

القاعدة الثالثة: اعتماد التدرج في السياسة الدعوية والتربوية بعض الدعاة بمجرد أن يستشعروا عاطفة حارة من المقبلين على الخير يبدءون في إعطائهم مهمات كبيرة، وإلقاء كثير من التبعات عليهم ظناً أن هذه الطائفة تستطيع أن تتحمل التبعات وأن تقوم بالمهمات، كلا، فلابد من أن نعطي للزمن حظه، ولابد من أن نعطي للتدرج منزلته وأهميته، وأن نسير الهوينى شيئاً فشيئاً ومرتبة مرتبة، فإن الأمر الذي يأتي سريعاً يذهب سريعاً، والعاطفة المقبلة على الخير إذا زدناها اشتعالاً ربما تهب عليها ريح لا تلبث أن تطفئها، ولا يعود لها بعد ذلك اشتعال من جديد.

القاعدة الرابعة: معرفة الواقع معرفة دقيقة

القاعدة الرابعة: معرفة الواقع معرفة دقيقة إن الذي يدرك هذا الواقع ويعرف أحوال الناس وما يؤثر في بيئتهم يستطيع أن يعرف أفكارهم، ويستطيع أن يلتمس الأعذار لما قد يكون في أذهانهم من الشبهات، أو في سلوكياتهم من الأخطاء، ويستطيع أن يدرك أن هناك عللاً معينة لو تم علاجها لصلحت أحوال الناس، أما الذي يريد الكمال والتمام فإنه يفصل قوالب جاهزة إما أن يدخل الناس فيها ويحشرهم فيها حشراً ويقسرهم عليها قسراً، وإما أن تبقى هذه القوالب فارغة والناس بعيدون عن الدعوة والخير وبعيدون عنه, فصار منفراً وليس مرغباً، وهذا أمر مهم جداً، ولذلك لابد من أن نعرف أن اقتحام العقول والنفوس أصعب بكثير جداً من اقتحام المواقع والثغور.

الصفات المؤهلة للداعية في الاستيعاب

الصفات المؤهلة للداعية في الاستيعاب أنتقل إلى صفات تتعلق بالداعية ليكون مؤهلاً للاستيعاب.

الصفة الأولى: الفقه في الدين

الصفة الأولى: الفقه في الدين لابد من أن يكون الداعية عالماً فقيهاً بدين الله سبحانه وتعالى؛ لأن الداعية يتصدى للناس الذين يلجئون إليه لحل مشكلاتهم، ويعرضون عليه تساؤلاتهم، فينبغي أن يكون عنده حظ من العلم والفقه، وأعني بالفقه ما هو أدق وأشمل من العلم، فإن العلم كمحفوظات قد تكون كثيرة، لكن العلم كاستنباطات قد يكون قليلاً عند كثير ممن يتصدرون في ميادين الدعوة فيأتون بالنصوص ليلقوا بها في أوجه الناس، أو ليصدروا أحكاماً في التكفير أو التبديع أو التفسيق، أو غير ذلك من أساليب التنفير، دون أن يكون عندهم بصر بكليات هذا الدين ومقاصد الشريعة، وتغير الأحكام بتغير الظروف والأحوال، وما يتعلق بذلك وفق ضوابط شرعية ووفق أصول علمية مقررة عند أهل العلم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، والله عز وجل يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من الآفات الكبرى في المجتمعات أن يقل أهل العلم والبصيرة، ويتصدر غيرهم فيضلون ويضلون، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، فإذا ذهب العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وهذه زلة عظيمة؛ لأن الذي ليس له فقه وبصر بهذا الدين يضل فئاماً من الناس، نسأل الله عز وجل السلامة.

الصفة الثانية: الصلة بالله عز وجل

الصفة الثانية: الصلة بالله عز وجل إن الداعية المقطوع الصلة بالله لا يفلح ويحرم التوفيق والتسديد؛ لأن مشكلات الناس ومعاناة الدعوة أمر لا يمكن النجاح فيه بمجرد العلم ولا بالخبرة والتجربة، بل أكثر أسباب النجاح مخبوءة في التوفيق الإلهي, وحسبنا قول الله سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة:111] فلم يؤمنوا بحجة عيسى ولا بفصاحته وبيانه وبرهانه فحسب، بل كان الأساس هو أن الله سبحانه وتعالى قذف في قلوبهم حب الخير واستقبال الهداية، كما قال الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فمن أراد أن يرزق القبول عند الناس، وأن يلهم الصواب فيما يقول وفيما يعمل، وأن يسدد إلى التوفيق في الأمور ووضعها في مواضعها فإنه لابد من أن يكون موصولاً بالله عز وجل بالليل والنهار، بالذكر والدعاء، وبالصلاة والعبادة، ويعلم أن كل أمر لا يمكن أن يكون له نجاح إلا من خلال هذا التوفيق الإلهي الذي مصدره الصلة الدائمة الحسنة الصحيحة بالله سبحانه وتعالى.

الصفة الثالثة: الصبر والحكمة

الصفة الثالثة: الصبر والحكمة إن مسألة استيعاب الناس ليست مسألة هينة، فهذا يريد أن يأخذ جواب سؤاله، وذاك يريد أن يأخذ حل مشكلته، والآخر يريد أن يأخذ الرأي في معضلته، وهذا يريد وقتاً خاصاً، وذاك يريد لقاءً موسعاً، والآخر يريد دعوة عامة، وهذا يريد احتفاء في مناسبة، وأمورٌ كثيرة جداً قد وقع مثلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تنافس الصحابة في أن يأخذوا مواعيد خاصة ومقابلات شخصية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل النهي والتذكير للصحابة رضوان الله عليهم عن الأثر السلبي لهذا، فامتنعوا بعد ذلك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده صبر عجيب، تأخذه المرأة العجوز التي ربما لا نرى اليوم لها قيمة واعتباراً، وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل البشر ورأس الدولة وإمام الأمة، تأخذه -كما ورد في الأحاديث الصحيحة- فتقوده إلى أي سكة شاءت فتخلو به حتى يقضي حاجتها، أما الذي يتبرم بالناس ويضيق بهم ذرعاً ولا يحتملهم، ولا يريد أن يعطيهم من وقته، ولا أن يبذل لهم شيئاً من مشاعره، ولا أن يحسن كيفية استقبالهم، وكيفية الاعتذار منهم إذا أراد الاعتذار فإنه لا يمكن أن يستوعب الناس، بل في الغالب أن الناس ينفرون منه على غرار ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أضاع دابته، فجعل الناس يريدون أن يعيدوها له، فهذا يسوقها من هنا، وهذا يصيح بها من هنا، فلو أنهم خلوا بينه وبينها لتلمس لها شيئاً من القوت فاستطاع أن يتألفها وأن يأخذها، ولذلك في الناس كثيرون من أصحاب الحاجات، وفي الناس كثيرون من أصحاب الجهالات، ولابد للداعية الذي يريد أن يستوعب من أن يكون واسع الصدر، وأن يكون عظيم الصبر، ولذلك الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وجاء في وصف الناجين من الخسران: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. والحكمة -أيضاً- مطلوبة، فإنه قد يضيق الوقت، وقد لا يمكن بذل الجهد، لكن لابد من أن يكون هناك الحكمة التي يخلص بها الداعية مما يطلب منه ولا يستطيعه في صورة مؤدبة وحكيمة، فقد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام حكيم بن حزام فسأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه أي: طلب حاجته، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصده ولا يمنع عنه عطاءه؛ لأنه يريد أن يكسب القلوب وأن يتألفها، وأن يجعل القلوب تتعلق بالداعية الذي يمثل الدعوة ويمثل القدوة، بل قال له عليه الصلاة والسلام: (يا حكيم! إن المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه) كلمات مؤدبة وموجهة ومربية، فقال حكيم -وقد كان حكيماً رضي الله عنه وكان لبيباً تغنيه الإشارة عن العبارة- قال: (والله لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً يا رسول الله) يعني: لا أسأل أحداً بعدك شيئاً، فلما جاء عهد عمر وأراد أن يعطيه من العطاء الذي له من حقه في بيت مال المسلمين قال: (لا أرزأ أحداً شيئاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأبى أن يأخذ عطاءه رضي الله عنه. فلابد من الصبر والحكمة عندما يجهل الجاهل، وعندما يخطئ السائل، وعندما يعترض المعترض، لابد من أن يكون مع الصبر حكمة تسدده وتصوبه.

الصفة الرابعة: التيسير المشروع للناس

الصفة الرابعة: التيسير المشروع للناس لابد من أن نعلم أن الناس في وقتنا المعاصر قد غلب عليهم الجهل، وضعفت عندهم العزيمة، وكثرت في أقوالهم وأفعالهم الأخطاء، وضلت بهم كثير من السبل، فهم كناقة شرود لابد من أن نتألفها، ومن التألف أن نأخذ بالأمر اليسير المشروع، ولا يقصد بالتيسير التفريط مطلقاً، بل كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فالذي لا يريد اختيار التيسير كأنه لا يريد اختيار ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً وأبا موسى عندما بعثهما إلى اليمن فقال: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا) ولعمري فهذه الوصية الجامعة منه صلى الله عليه وسلم من موافقات الاستيعاب لكل داعية، سيما في مجتمع جديد، ولكم صد اختلاف أهل الخير أو الدعاة إلى الخير كثيراً من الناس عن الإقبال على الخير والارتباط به ولكم صد التنفير دون التبشير! ولكم صد التعسير دون التيسير! فلذلك لابد من التيسير والائتلاف.

الصفة الخامسة: الخلطة والمعاناة

الصفة الخامسة: الخلطة والمعاناة إن الذي يعيش في أبراج عالية ويريد أن يصلح المجتمعات من خلال الصحف، ومن خلال الأخبار المقروءة، ومن خلال الكتب المؤلفة لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون قادراً على استيعاب الناس، فلابد من أن يخالطهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في سنن الترمذي: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم). قال الرافعي الأديب رحمة الله عليه في وصف الذي يعتزل الناس: لماذا يعتزل؟ ولسان حاله يقول: إنه يعتزل لما في المجتمعات من فتنة وفساد وكذا. قال الرافعي: ولعمري إن اعتزاله لرذيلة الرذائل. ماذا سنستفيد من هذا الاعتزال؟ هل ستصلح به الحال؟ بل كما قال: لم نعرف صدقه ولا أمانته ولا سريرته وهو معتزل بين أحجار وكهوف لا يتعامل مع الناس، فيخبرون وعده إذا وعد، وصدقه إذا قال، ونجدته إذا استنجد به. ولذلك لابد للدعاة من أن يخالطوا الناس، وأن يعرفوا معاناتهم في حياتهم اليومية، وفي مناهجهم التعليمية، في وسائلهم الإعلامية، وفي مشكلاتهم الاجتماعية، وفي عاداتهم وتقاليدهم، عندئذ يمكن من خلال المخالطة والمعاناة أن يكون الداعية بتوفيق الله عز وجل قادراً على أن يلمس الجراح، وأن يضع عليها نقاطاً من الدواء الذي يكون فيه الشفاء بإذن الله عز وجل.

الصفة السادسة: السماحة والكرم

الصفة السادسة: السماحة والكرم قد يأتيك السائل فيكفيه منك بسط الوجه والكلمة الطيبة ولو لم تعطه شيئاً، وقد يقبل سائل على من يعطيه شيئاً كثيراً ولكنه مقطب الجبين وليس على لسانه كلام حسن، فهذا لا يمكن أن يكون له تأثير في النفوس ولا استمالة في القلوب. وإنما يستعبد الناس الإحسان، كما قال الشاعر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان فلابد من سماحة وطلاقة وجه، وحسبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى مفتاح القلوب، وإلى السلاح الذي يكسر الحواجز والأبواب حول النفوس التي غلفتها الأهواء عندما قال: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، فما أحسن ذلك الرجل الذي تلقاه فتلقى ابتسامته تشرق كأنها شمس النهار، فيدخل السرور على قلبك، ويبدد ما علاك من الهموم، ويمسح عنك ما قد خالطك من الأحزان والأرزاء، ولا شك أن الداعية يلقى عناء كثيراً ومشكلات ومواعيد وكذا فيتبرم ويضيق، لكنه يكظم غيظه، ولا يبدي للناس إلا السماحة والكرم، فإذا جاءه الناس كان بيته مفتوحاً، وإذا أتاه السائلون كان ماله مبذولاً، وإذا استشاره المستشيرون كان نصحه جاهزاً ومبذولاً، فلابد من أن يكون على هذا النحو؛ لأنه إن كان كذلك استمال القلوب وارتبط الناس به.

الصفة السابعة: النجدة والتضحية

الصفة السابعة: النجدة والتضحية إن مجرد البسمة والكلمة الطيبة لا تغير في الواقع شيئاً، إن الفقير المعدم لا يكفيه أن تسرد له الأقوال والنصوص في الصبر والاحتساب للأجر عند الله عز وجل، سيما عامة الناس وعموم المجتمعات لا يمكن أن تخاطب بمثل هذا، إن الذي يجد ألم الجوع في بطنه يحتاج إلى اللقمة في فمه، وإن الذي يجد أثر الإرهاب والخوف على نفسه وحياته يحتاج إلى من يؤمنه، وإن الذي يشكو ويتلوى من المرض يحتاج إلى من يعالجه، فمن يتقدم؟ إنه هو الذي يكسب القلوب. ونحن نعلم أن أعداء الله عز وجل من النصارى واليهود وغيرهم قد دخلوا إلى كثير من ديار المسلمين عبر هذه الأبواب الثلاثة: باب الجهل، والفقر، والمرض، واستغلوا حاجة الناس فقدموا لهم الخدمات، وقدموا لهم معها الدعوات. ونقول: إن الدعاة أولى الناس بهذا من الأعداء، هذا إذا أرادوا أن يستوعبوا وأن يؤثروا. إذاً على الدعاة أن يكونوا أصحاب النجدات والتضحيات والمروءات، والمسابقة إلى تقديم الخدمات في كل المجالات، ولذلك لو نظرنا إلى بعض آثار هذا الإقبال على الدعوة والخير والإسلام سنجد أن من أسبابه أن الدعوة والدعاة وأن أهل الخير والصلاح وجد الناس -عندما خافوا- بعض أمنهم في هؤلاء الدعاة، ووجد الفقراء -عندما احتاجوا- سد حاجتهم في أموال الدعاة، ووجد الناس عندما مرضوا نجدتهم وإعانتهم من أرباب الصلاح والخير والدعوة والرشاد، ولذلك توجه الناس -بحمد الله عز وجل- توجهاً طيباً نحو الخير بإذنه سبحانه وتعالى وتوفيقه.

حقيقة الاقتباس وتعلقه بالاستيعاب

حقيقة الاقتباس وتعلقه بالاستيعاب لابد من أن نعرف أن لهذا الاستيعاب أهميته الكبرى، ولعل من أهم قضايا الاستيعاب مسألة الاقتباس. والاقتباس: هو استغلال الجوانب الحياتية والعلوم المادية في خدمة الدعوة واحتياجات المجتمعات الإسلامية. إن هذا الدين الكامل الشامل جاء صالحاً لكل زمان ومكان، وجاء متواكباً مع كل جديد نافع، ليس فيه ما يتعارض مع علم صحيح، ولا مع خير يسوقه الله عز وجل للناس في هذه الحياة الدنيا، ولذلك من أهم أبواب الاستيعاب الاقتباس، وكما أشرت في أول الحديث فإن كل الموضوعات فيها حاجة إلى تفصيلات، ولكن حسبنا التأصيل والتذكير بالأصول المهمة التي يمكن أن تنبه على غيرها، وأن يستفاد منها في مجالات أخرى أكثر.

تعريف الاقتباس وحكمه وأهميته

تعريف الاقتباس وحكمه وأهميته الاقتباس: هو أخذ الجزء من كل للاستفادة منه، ويقول أهل اللغة: اقتبس من النار أي: أخذ منها شعلة أو قبساً لينتفع به. وعندما نتأمل سنجد أن هناك علوماً كثيرة، وأن هناك انجازات كثيرة، وأن هناك نجاحات كثيرة حققها غير المسلمين، أو غير أرباب الدعوة الإسلامية، فهل من حرج أن يقتبس أهل الدعوة من هذه الجوانب الخيرة والعلوم النافعة ليطوعوها لخدمة الدعوة وينتفعوا بها؟ الجواب لا حرج؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد اقتبس والتمس مما ينفع الأمة في مجالات الوسائل والتبليغ للدعوة والتأثير في حياة الناس وتقديم حلول المشكلات شيئاً كثيراً عظيماً، وجاء من بعده من أصحابه، فكانت أبواب الاقتباس والانتفاع أوسع وأوسع، سيما في عهد الخليفة العادل الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه دون الدواوين، وأنشأ ما لم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور المسلمين العامة، ومن المصالح المرسلة التي يحتاجون إليها، والتي ينتفعون بها دون أن تكون متعارضة مع دين الله عز وجل، ولا مخالفة لنص شرعي، ولا لقاعدة كلية من قواعد هذا الدين العظيم، ولذلك جعل دواوين للجند، فجعل هناك جيوشاً نظامية وكتب أسماء أفراد الجيوش لتصرف لهم الرواتب، وجعل هناك نظاماً للبريد، وجعل هناك أنظمة أخرى كثيرة، وأوجد أنظمة للعس والمراقبة الليلية، وأوجد أشياء كثيرة مما تحتاجه الأمة، واقتبس هذا مما كان في الأمم من حوله، ومما أدى إليه اجتهاده مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم أجمعين. إذاً لابد أن ندرك أن هناك حاجة ماسة للاقتباس في مجالات الدعوة، وأن الدعاة الذين يمارسون العمل الدعوي والتوجيه للمجتمع عبر كل صورة من الصور، وخلال أية وسيلة من الوسائل يحتاجون كثيراً إلى أن ينتفعوا وأن يقتبسوا ممن ليسو على ملة الإسلام؛ لأنه كما ورد في الحديث: (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)، وهذا حديث مرسل من رواية زيد بن أسلم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الترمذي وغيره، لكن المعنى فيه واضح وصحيح وصريح أن الإنسان المؤمن ينبغي أن يكون كيساً فطناً يستفيد من كل شيء حوله ما دام أنه ليس هناك ما يمنع من ذلك شرعاً.

أسس الاقتباس

أسس الاقتباس

الأساس الأول: الاقتباس من أمور الدنيا وأسباب المعاش

الأساس الأول: الاقتباس من أمور الدنيا وأسباب المعاش نحن لا نقتبس أي شيء، فإن عندنا ديناً كاملاً لا نحتاج في أمر عقيدتنا ولا أمر عباداتنا ولا تشريعاتنا وأحكامنا إلى أن نقتبس من شرق أو غرب، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديداً في هذا الباب، ليعلم الأمة أن عندها ما يغنيها في أمر دينها، ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب يحمل صحفاً من التوراة غضب عليه الصلاة والسلام وقال لـ عمر: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي) فأمر عقيدتنا وأمر عباداتنا وأمر تشريعاتنا وأحكامنا لا مجال للاقتباس فيه أبداً، ولا مجال للاجتهاد مع نص، ولا مجال للأخذ من غير مصدر هذا الدين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن فيما نحتاج إليه من أمور الدنيا من أسباب المعاش والحياة، من المستجدات والاختراعات والمبتكرات فالباب في هذا واسع، فما احتجنا إليه نقتبس منه، وتاريخ الأمة عريض وواسع في هذا المجال في كل الفترات التاريخية التي مرت بها الأمة الإسلامية، سيما في عهد الدولة العباسية، وإن كان هناك نماذج وصور للاقتباسات التي كانت وبالاً على الأمة؛ لأنها خرجت عن هذا القيد، وذلك عندما أمر المأمون وغيره من خلفاء بني العباس بترجمة الكتب اليونانية وكتب الفلسفة والكلام والمنطق التي تتحدث عن الحقائق الكونية والقضايا العقدية الإلهية، حينها حصل الاضطراب والخلط والفتنة في الدين، والانصراف عن المعتقد الصحيح؛ لأن الاقتباس كان من بشر، بحيث تركنا ما أعطانا إياه رب البشر سبحانه وتعالى، فلذلك أول قيد لهذا الاقتباس حتى لا نشذ ولا نخطئ: أن لا نقتبس إلا فيما فيه حاجة دنيوية، أما الدينية فلسنا في حاجة بعد قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].

الأساس الثاني: الاقتباس وفق الحاجة

الأساس الثاني: الاقتباس وفق الحاجة نقول: نحن نحتاج في مجال الدعوة للاقتباس من علوم الإدارة، لكن لا نأخذها بغثها وسيمنها وبخيرها وشرها وبسهلها وصعبها، بل نأخذ بعد علمنا بالحاجة ما يوافق حاجتنا فحسب؛ فإن الإنسان بصير بنفسه عالم بما يحتاج إليه، ولذلك لابد من هذا الجانب.

الأساس الثالث: فهم الاقتباس وتطويعه لخدمة الدعوة

الأساس الثالث: فهم الاقتباس وتطويعه لخدمة الدعوة نحن نعلم أن في الإدارة أموراً كثيرة نافعة، فيها قضايا وموضوعات عن التخطيط وإدارة الوقت والتنظيم وتفويض المسئوليات، وكيفية اتخاذ القرارات، وأمورٌ أخرى كثيرة جداً، لكن ينبغي أن نحسن فهم هذا الأمر حتى نعرف كيف نجعله خادماً للدعوة نافعاً لأربابها وأهلها، وإذا كنا نريد أن نطور الدعوة فلابد من أن نأخذ الأساليب الإدارية من كتب الإدارة، لكن لا نخاطب بها الناس قبل فهمها؛ لأننا إذا لم نفهمها نحن لم يفهمها الناس، ولم نستفد منها نحن ولم يستفد منها الناس. إذاً لابد من أن نفهم وأن نهضم هذه الأساليب الإدارية حتى نخرج النتيجة في صورة عملية تنفع الدعوة ويستفيد منها الناس.

الأساس الرابع: ضرورة إعطاء التخصص أهميته في الاقتباس

الأساس الرابع: ضرورة إعطاء التخصص أهميته في الاقتباس إنه ليس هناك مجال في عصرنا الحاضر للعشوائية، ولا للنية الطيبة، ولا لمجرد الاكتفاء بالصلاح، بل هذا منهج قد ذكره لنا أسلافنا، وقد روي عن مالك وغيره أنه قال: أدركت سبعين ممن يستسقى بهم -أي: لصلاحهم وعبادتهم وزهدهم- كلهم لا يؤخذ منه الحديث، يقال: ليس من أهله. فهؤلاء أصحاب صلاح وتقوى وعبادة، لكن لا نأخذ منهم الحديث؛ لأنهم ليسوا متخصصين في علم الحديث، ليسوا حفاظاً، ولم يضبطوه لم يتفرغوا له، ولذلك أضرب مثلاً قد يكون طريفاً لكنه في صميم المسألة، أقول: عندما تعرض لك مسألة فقهية قد ترجع فيها إلى إمام المسجد، وعندما تحتاج إلى مشكلة اجتماعية قد تستشير فيها إمام المسجد، ولكن ما رأيك في رجل تعطلت سيارته وشكا إلى صديق له هذه المشكلة فقال له: اذهب بها إلى المهندس. قال: لا، لكن -إن شاء الله- سأعرضها على إمام المسجد. فقال الصديق: يا أخي! إمام المسجد ليس عنده علم بهندسة السيارات، فقال: لا. إن إمام المسجد رجل طيب صالح. قلنا: صلاحه ليس له تأثير في هذه المسألة، ولا شك أن هناك تأثيراً للصلاح بالجملة، لكن التخصص له دور، فإذا أردنا أن نقتبس من علم الإدارة فلنأت بأهل علم الإدارة المتخصصين من أهل الخير والتقوى ليفيدونا وليبينوا لنا هذا العلم، وما يمكن أن نستفيده منهم، وإذا أردنا أن نستفيد من الإعلام ووسائله وطرائقه فلابد من أن نأتي بمن يعرف الإعلام، أما أن يكون الداعية هو الذي يفهم كل شيء ويعرف كل علم فهذا الذي أظنه لم تنجبه لنا النساء في عصرنا الحاضر، إلا من رحم الله، وإن وجد أمثال هؤلاء الذين يجمعون كثيراً من المزايا فإنهم قليلون، بل أقل من القليل. نعم هناك عند بعض الناس عقول نيرة وملكات متميزة، لكن هؤلاء قلة. إذاً لابد من أن نعطي التخصص أهميته ودوره، ولا يمكن أن يفتي الداعية مريضاً في مرضه كما يفتي الناس الآن في أمور لا يعرفونها، تجد الإنسان يشكو من مرض فيستفسر من أي شخص، فيقول له ذلك الشخص: نعم هذا المرض قد سبق وأن مرضت به وأعطاني الطبيب كذا وكذا فخذ هذا الدواء. فهذه فتوى جاهلة؛ لأنها لا تعرف مجال العلم، ولا تتأسس على مبدأ التخصص. لذلك إذا أردنا أن تنتفع الدعوة فعلينا أن نستفيد من أرباب التخصصات.

الأساس الخامس: العناية بالضوابط الشرعية والسياسية الدعوية

الأساس الخامس: العناية بالضوابط الشرعية والسياسية الدعوية ليس لنا أن نستفيد وأن نقتبس وفق ما نحتاج ووفق ما نرى أنه ينفعنا دون ضوابط، بل نحن قوم محكومون بشرع الله، وعندنا قواعد كلية وأصول فقهية وأدلة شرعية، لابد من أن نعلم أن كل شيء لابد من أن يمر عبرها وخلالها، فإن أجيزت فبها، وإن لم تجز فلا ولا كرامة، ولذلك بعض المتحمسين الآن في مجالات الدعوة يريدون أن يستفيدوا من ملكات ومجالات كثيرة، كالإعلام، أو الإدارة، أو النظم الأمنية، أو النظم العسكرية أو كذا، لكن لا يضبطون الأمور بالضوابط الشرعية، فعلى سبيل المثال: قد يكون لكل شيء تأثير، فقد يكون للرسم تأثيره، أو للنحت تأثيره في مسألة من المسائل أو على جانب من الجوانب، أو على بعض فئات من الناس الذين يحبون هذا الأمر، فهل يمكن أن نقتبس هذا وأن نستفيد منه دون أن ننظر في حكمه الشرعي وأن هناك من النصوص ما يمنع منه ويحرمه؟ A لا.

الأساس السادس: التأصيل الشرعي

الأساس السادس: التأصيل الشرعي لابد للدعاة الذين يستفيدون من المتخصصين أو المتخصصين الذي يلجون إلى مجالات الدعوة من أن يصنفوا ويكتبوا مباحث حول هذه العلوم في ضوء الشرع، وفي ظلال التأصيل الشرعي، وهناك كثير من المجالات والكتب والبحوث التي تخدم هذا الجانب، لكن ما تزال قاصرة ودون المطلوب، أعني بذلك أننا ينبغي أن نقدم للدعاة ولمجتمعات المسلمين إعلاماً مؤصلاً تأصيلاً شرعياً، وإدارة منضبطة مستفيدة من الخبرات والتجارب والعلوم، لكنها أيضاً مؤصلة بأدلتها الشرعية.

المحاذير المتعلقة بمسألة الاقتباس

المحاذير المتعلقة بمسألة الاقتباس هناك محاذير في مسألة الاقتباس يجب التنبيه لها، وقد أشرنا عندما تكلمنا عن الأسس أن هناك أموراً قد تكون فيها أخطاء.

تضخم الحاجة إلى الاقتباس

تضخم الحاجة إلى الاقتباس بعض الناس يقول: الدعوة تحتاج إلى الإعلام. ويضخم هذا الأمر، حتى كأنه يريد أن نصبح إعلاميين وأن نصبح مذيعين وصحفيين، وتنتهي كل الدعوة إلى فئة من الإعلاميين فحسب! أقول: هذا التضخيم ليس أمراً مقبولاً، والمبالغات عموماً ليست مقبولة؛ لأن المبالغات هي عبارة عن تضخيم، والتضخيم مثل الأورام السرطانية، ورم غير حميد يتضخم فيغطي جانباً آخر فتضيع أهميته وتقل في مقابل هذا التضخيم الزائد، وهذا التضخيم من حيث الاقتباس ينشأ عن جانبين: الجانب الأول: جانب التخصص، فالذي يكون متخصصاً في الإدارة -على سبيل المثال- يقول لك: لا يمكن أن ينجح أي عمل دعوي إلا أن يأخذ بعلوم الإدارة. بل هذه قضية منتشرة على مستوى العلوم كلها، فصاحب علم الجيولوجيا يقول لك: علم الجيولوجيا هو الأساس. وأهل الكيمياء وأهل الفيزياء كذلك، أما صاحب الرياضيات فيقول لك: لا يمكن أن تصعد إلى القمر، ولا أن تغوص إلى الأرض، ولا أن تضرب في القتال إلا بالرياضيات. فكل صاحب تخصص يجعل كل الدنيا لا يمكن أن تتحرك إلا في ضوء تخصصه. الجانب الثاني: الجانب العاطفي، فهناك عاطفة صادقة في الرغبة في التطوير والتحسين في وسائل الدعوة، ولذلك تطلب من منطلق العاطفة دون أن تعطي الأمر قدره وحقه. ونقول: لو استجبنا لهذا التضخيم فأخذنا بجانب الإدارة والإعلام والأساليب الأمنية والعسكرية المتاحة والتجارب الموجودة دون أن نعطي الأمر حقه وقدره المطلوب فإننا سنضيع ما هو أهم، ألا وهو أساس الدعوة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلم الشرعي والتربية الإيمانية والتقويم السلوكي، أما تلك الأمور فإنما هي اقتباس لتكميل هذه المسيرة الدعوية لا أقل ولا أكثر.

تحكم العلم المقتبس بطريقة الدعوة وأساليبها

تحكم العلم المقتبس بطريقة الدعوة وأساليبها بعد أن جئنا واقتبسنا من الإدارة وجدنا أن الإدارة تقول لنا كذا وكذا وكذا وكذا، وأصبحنا عبيداً لعلم الإدارة، وأنه لا يمكن أن نمارس الدعوة إلا بما تحكم به هذه العلوم الإدارية وقوانينها، كأنها قرآن منزل من عند الله، وهذا -للأسف- يوجد في صفوف الدعوات وضمن الاجتهادات الدعوية، وهو خطأ ينبغي الحذر منه.

المزالق في المخالفات الشرعية ومخالفة الأولى

المزالق في المخالفات الشرعية ومخالفة الأولى عندما نقتبس لابد من أن ننضبط بالشرع وأن نراعي الأولويات.

المحاولة المتكلفة للتأصيل الشرعي

المحاولة المتكلفة للتأصيل الشرعي بعض الناس إذا اقتبس شيئاً وأخذ به يرى أنه لابد من أن يأتي له بدليل، وإذا لم يجد دليلاً يطابق -ولو من بعيد- ما اقتبسه فتراه يطوع الدليل لغرض ما استقر عليه الحال من أمر الداعية أو الدعوة، وهذا خطأ كبير ومزلق خطير. وأضرب مثالاً الذين يريدون أن يبرزوا الجانب العلمي في الآيات القرآنية، وأن القرآن أخبر عن حقائق علمية سبق القرآن في ذكرها وبيانها قبل أن يكتشفها العلم الحديث، نعم هناك كثير من هذه الأمثلة، مثل خلق الإنسان من نطفة وعلقة ومضغة مخلقة وغير مخلقة، لكن قد تكون هناك حقائق أو نظريات ليست بثابتة ولم تثبت بعد، فيأتي بالنص أو الدليل القرآني ويقول: هذا المقصود به كيت وكيت. مع أن الدليل لا يدل عليه أو الآية لا تشير إليه، فهذا أنموذج قد يقع أيضاً في مسألة الاقتباس في مجالات الدعوة.

فوائد الاقتباس

فوائد الاقتباس ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي: فوائد الاقتباس. حتى نرى لماذا هذا الاقتباس.

التكامل والشمول في صناعة الحياة

التكامل والشمول في صناعة الحياة إن الاقتباس هو أحد روافد التكامل والشمول في صناعة الحياة، فنحن نوقن أن هذا الدين شامل لكل مناحي الحياة، وكامل في كل احتياجات البشر، فلذلك لا يمكن أن يكون هناك أمر نافع لا يصطدم مع الشرع ولا يتعارض مع الفطرة إلا وله حظ ونصيب في هذا الدين، يقول عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] فينبغي أن نأخذ بالاقتصاد ونظرياته الحديثة وأساليبه التي هي خاضعة لحكم الشرع ولا تتعارض معها، كذلك أساليب الإعلام وكيفية نقل الأفكار والتأثير على المجتمعات والتنبه للشائعات ومكافحة هذه الشائعات، كل تلك الأمور لها أساليب علمية، فعندما نأخذ بها نبين للناس أن هذا الدين شامل كامل في اقتصاد واجتماع وسياسة وجند وجيوش، وكل مجالات الحياة التي يعيشها الناس.

الاستثمار للطاقات والتوزيع للأعمال

الاستثمار للطاقات والتوزيع للأعمال لا يوجد الشخص الذي يجيد كل شيء، فلابد من أن نعطي للاقتصادي مهمة الاستثمار الإسلامي، ولابد من أن نعطي الإعلامي مهمة تبليغ الدعوة عبر وسائل الإعلام، ولابد من أن نعطي الإداري فرصة ليعطينا الأطر التنظيمية التي يمكن أن تساعد على ضبط الأمور وتحسينها، وضبط الاتصالات وتنظيمها.

استيعاب أصحاب التخصصات من العلوم المقتبسة

استيعاب أصحاب التخصصات من العلوم المقتبسة لماذا نجعل أهل الطب والهندسة والإدارة والإعلام نهباً لأهل العلمنة والكفر والتغريب؟ لماذا نجد قلة من المسلمين في مجال الإعلام، وقلة من الاقتصاديين البارزين المسلمين الملتزمين؟ لأن الفترات التي سبقت لم يكن فيها للدعوة ولا لحركتها في الحياة اهتمام وعناية باقتصاد وإدارة وكذا، فلم يكن هؤلاء الناس مستوعبين إلا ضمن الأطر العلمانية والكفرية أو التغريبية، ولذلك أثروا في الأمة تأثيراً سلبياً كبيراً، عبر الإعلام وعبر الطب وعبر الهندسة، واليوم لابد من أن يتحول هذا التأثير إلى تأثير إيجابي إسلامي عبر الهندسة والطب والصحافة والإعلام، ولن نستوعب هؤلاء الناس إلا إذا أقررنا بأهمية هذه العلوم والاقتباس والاستفادة منها، وانظر إلى النقابات المهنية عندما تسلم أمرها أصحاب الدعوة وأرباب الالتزام الإسلامي كيف انطوى تحتهم كل أرباب المهن من الأطباء والمهندسين، ورأوا فيهم نموذج القدوة والعفة عن أكل المال العام، والخبرة في مجال التخصص والعمل الميداني المؤثر في واقع المجتمع، فكسبت الدعوة مكاسب عظيمة، ربما لم تكن تكسبها بمجرد الخطب ولا الكتب ولا المقالات، وإنما عبر هذه الأعمال الدعوية من خلال العلوم المقتبسة.

إبراز مزايا الإسلام لغير المسلمين

إبراز مزايا الإسلام لغير المسلمين إن إبراز مزايا الإسلام لغير المسلمين مهم جداً؛ لأن غير المسلمين عند بعضهم صور شوهاء عن الإسلام، منها أن الإسلام محصور في العبادات، وأنه لا يقبل ما استجد من أمور الحياة، ولا يوجد فيه منهج للناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فهذا الاقتباس وتطبيقاته العملية يبرز صورة الإسلام في تكامله وشموله لغير المسلمين.

التأكيد العلمي والقناعة الواقعية لشمول الإسلام

التأكيد العلمي والقناعة الواقعية لشمول الإسلام كثيراً ما نقول للناس: الإسلام شامل لكل شيء. لكنهم يجدون في مجتمعاتهم اقتصاداً ربوياً غير إسلامي، ونقول لهم: الإسلام يشمل كل شيء. ولكنهم يجدون إعلاماً لا يمت للإسلام بصلة في مجتمعاتهم، ونقول لهم: في الإسلام نظام في الحكم كامل رفيق شامل نافع محكم. ولكنهم يجدون مجتمعاتهم تحكم بغير شرع الله عز وجل، فإذا تم الأمر للدعوة وفي المجتمعات الإسلامية واقتبست كل ما ينفع للمجتمعات من هذه العلوم بدا للناس التطبيق العملي في هذا الجانب.

الفروق بين الاقتباس في العمل الإسلامي الدعوي وبين غيره

الفروق بين الاقتباس في العمل الإسلامي الدعوي وبين غيره هناك من يقتبسون من أرباب الأحزاب، أو من أصحاب الدعوات الهدامة والأفكار المشبوهة، وفي المقابل هناك من يقتبسون من أهل الدعوة، لكن هناك فرق شاسع وبون كبير بين المسلم الداعية وأصحاب الخير وبين غيرهم في الاقتباس.

الفرق الأول: الميزان الصحيح للمقتبسات والأفكار والآراء

الفرق الأول: الميزان الصحيح للمقتبسات والأفكار والآراء إن العمل الإسلامي لديه المنهج الأصيل الذي يقيس ويزن به كل الأعمال والمقتبسات والأفكار والآراء، ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الفرق الثاني: التوفيق الإلهي لأتباع المنهج الرباني

الفرق الثاني: التوفيق الإلهي لأتباع المنهج الرباني إن السائرين على طريق الله الراغبين نشر دعوة الله يوفقهم الله ويسددهم، ويبعدهم عن الخطأ والمزالق الوخيمة، ويوفقهم إلى إصابة واستخلاص ما يكون نافعاً ومفيداً.

الفرق الثالث: سرعة التذكر والعودة إلى الحق مباشرة

الفرق الثالث: سرعة التذكر والعودة إلى الحق مباشرة إن الداعية المسلم إذا أخطأ رجع إلى الحق، وإذا رأى أنه لم ينجح في أمر وأنه تجاوز الحد في مسألة، فإنه أواب رجاع مستغفر منيب، ومصحح ومقوم لمسيرته من جديد.

الفرق الرابع: رصيد الفطرة الإنسانية

الفرق الرابع: رصيد الفطرة الإنسانية إن بعض الأحزاب والأفكار لا يهمها إلا مصالحها الذاتية، ولو داست على كل القيم والمبادئ، بل ولو طمست الفطرة الإنسانية والمعاني الإنسانية البشرية في نفوس الناس.

الفرق الخامس: انفراد الدعاة بالاستفادة من الربط بين الإيمان وبين العلوم المقتبسة

الفرق الخامس: انفراد الدعاة بالاستفادة من الربط بين الإيمان وبين العلوم المقتبسة إن الربط بين الإيمان والعلوم المقتبسة لا يستفيد منه إلا أرباب الدعوة. وأحسب أن فيما ذكرت إشارة للفكر، ليكون هناك إمعان للنظر وإعمال للفكر وتجربة وممارسة لتوسيع دائرة الاستيعاب للدعوة، وتوسيع دائرة الاقتباس النافع من العلوم والمجالات الحياتية التي تنفع الدعوة، وتفيد أمة الإسلام والمسلمين، ولعلي أذكر مثالاً يمكن أن نرى فيه ملامح معينة لبعض العلوم، أو لبعض المسائل التي تذكر في علوم الإدارة أو غيرها، دون أن يكون هناك اعتساف للنصوص.

مسألة التكليف بالمهمات في العمل الإداري وجوانبها في حديث معاذ

مسألة التكليف بالمهمات في العمل الإداري وجوانبها في حديث معاذ جاء في حديث معاذ رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، وماذا قال له عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في آخر الحديث؟ قال: (وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). نستنبط من هذا الحديث مسألة التكليف بالمهمات في العمل الإداري وجوانبها: أولاً: لابد من معرفة المهمة والبيئة المحيطة بها. ثانياً: لابد من إعطاء بعض التعليمات في خطوات التنفيذ. ثالثا: لابد من التحذير من عوائق النجاح. وهكذا نجد هذا في حديثه صلى الله عليه وسلم، حيث بين له البيئة التي سيأتي فيها حتى يعرف مهمته وطبيعته، وذلك بقوله: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب)، وأعطاه وسائل التنفيذ وهي التدرج بأن يبدأ بالعقيدة، ثم بالصلاة، ثم بالزكاة، ثم بين له عوامل ومحاذير ينبغي تجنبها حتى لا تفشل مهمته، فقال: (إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). وستجد كثيراً من الأمثلة يظهر لك فيها أن ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من الغناء والكمال ما أنت في غنية غيره، لكنك تستفيد من هذه العلوم في كيفية فهمك لها من خلال هذه النصوص الشرعية. عسى الله أن يوفق لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فاطمة الزهراء

فاطمة الزهراء فاطمة رضي الله عنها هي بنت رسولنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان يحبها حباً شديداً، ويؤثرها على كثير من أحبابه، وهي سيدة نساء أهل الجنة، وهي زوجة علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، وأم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وفي سيرتها من صبرها واحتمالها وفضلها ومكانتها ما يدعو المسلمين جميعاً -خاصة النساء- إلى الاقتداء بها والتأسي بشخصيتها رضي الله عنها وأرضاها.

فوائد الحديث عن سير الأعلام

فوائد الحديث عن سير الأعلام بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، أكرمنا بالإيمان وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، والصلاة والسلام على نبي الإسلام خير الأنام، أفضل من صلى وصام، وعلى آله وصحابته الذين عرفوا بسلامة القلوب وصحة الأفهام، واشتهروا بالنجدة والإقدام، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر. هذا موضوع نفتتح به سلسلة مواضيع، وعنوان هذه السلسلة (شباب كانوا أئمة الهدى)، وفاتحتها الخيرة -إن شاء الله- هذا الموضوع: (فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة). ولا شك أن الحديث في سير الأعلام له فوائد عظيمة، وهذه مقدمتنا الوجيزة تختصر هذه الفوائد في ثلاثة جوانب: الأول: إبراز القدوات السامية الصحيحة التي يجدر بنا أن نجعلها خطوات نتأسى بها، ونترسم خطاها بدلاً من القدوات الزائفة الزائغة. ثانياً: شحذ الهمم العالية؛ فإن في السير سبقاً عظيماً، وتنافساً شريفاً، وقدوات بلغت مراتب عالية، فمتى ما قرأنا هذه السير، ووقفنا عندها؛ شحذت منا هممنا الضعيفة، ورفعت معنوياتنا التي يعتريها كثير من الوهن أو الخلل. الثالث: الإلمام بالمعارف المتنوعة؛ فإن السير تتضمن علوماً مختلفة، فقد تمر فيها ومضات من الحكمة، وقد يمر فيها صور من الجرأة، وقد تتجلى فيها ملامح من الحياء، وقد تمر فيها فوائد من تفسير أو فقه أو أصول أو غير ذلك، فهذه فوائد عظيمة جدير بنا أن نعنى حينئذ بمطالعة السير، وليس أعظم ولا أنفع من سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فاطمة رضي الله عنها وجوانب الحديث عنها

فاطمة رضي الله عنها وجوانب الحديث عنها حديثنا عن فاطمة رضي الله عنها حديث عذب، يرقق القلوب، ويذكر بالمعاني الإيمانية اللازمة لنا، ونحن نمر هاهنا مروراً وجيزاً بقدر ما يتسع له المقام، ونبدأ بمحطات مختلفة: أولها: الحسيبة النسيبة. وثانيها: الوليدة الجديدة. وثالثها: الزوجة الأثيرة. ورابعها: الشبيهة الحبيبة. وخامسها: الصابرة العظيمة. ثم نقف وقفات لابد منها مع الأفهام الخاطئة والأفكار الزائغة التي تفسد علينا كثيراً من هذه المعاني الفاضلة والآثار الحميدة.

حسب فاطمة ونسبها

حسب فاطمة ونسبها أولاً: الحسيبة النسيبة. عمن نتحدث؟ من هذه الشخصية التي نتجاسر على أن نذكرها، ونمر على سيرتها، ونشنف الآذان بذكرها، ونعطر الأنوف بعبق ريحها الطيب الأخاذ، ونملأ القلوب بمعاني الإيمان في مواقفها العظيمة ومآثرها الجليلة؟! من هذه الشخصية والناس يبحثون عن الأحساب والأنساب؟! فهل ثمة حسب أو نسب يمكن أن يضاهي ما لـ فاطمة رضي الله عنها؟ فمن أبوها؟! إنه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، حسب الشرف، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله نظر إلى بقايا العرب والعجم فمقتهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فاصطفى العرب، واصطفى كنانة من العرب، ثم اصطفى قريشاً من كنانة، ثم اصطفى بني هاشم من قريش، ثم اصطفاني من قريش، فأنا خيار من خيار من خيار) ذلك هو صلى الله عليه وسلم. وأما حسب الدين فمن مثله عليه الصلاة والسلام؟ قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. وأما حسب الخلق فحسبك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فمن مثل أبيها صلى الله عليه وسلم؟! وإن جنحنا إلى أمها فـ خديجة بنت خويلد، وما أدراك ما خديجة بنت خويلد؟! أم المؤمنين، وأول أزواج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يجمع معها غيرها، ولم يتزوج إلا بعد وفاتها، ومن هي في حسبها وشرفها ديناً وخلقاً ونسباً؟ هي الشريفة المعروفة في حسبها ونسبها رضي الله عنها، وأما حسب الدين فهي أول من آمن بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، هي أول من تلقى خبر الوحي، هي أول من كان المثبت المعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جاء يرجف فؤاده فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. جاء جبريل عليه السلام إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول له: (إذا أتتك خديجة فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) رواه البخاري والترمذي. هي واحدة من قلائل النساء الكمّل في هذه الدنيا؛ لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا خديجة ومريم بنت عمران وآسية زوج فرعون). وفضائلها كثيرة جداً، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد). وروى البزار والطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين). ولننظر إلى زوج فاطمة فارس الفرسان، أول المسلمين من الفتيان، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب الفارس المغوار الشجاع البطل الهمام الكمي رضي الله عنه وأرضاه، قال أبو رافع (أول من أسلم من الرجال علي، وأول من أسلم من النساء خديجة) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). قال الذهبي رحمه الله في مقدمة ترجمة فاطمة رضي الله عنها: سيدة نساء العالمين في زمانها، البضعة النبوية، والجهة المصطفوية، بنت سيد الخلق رسول الله أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشية الهاشمية، أم الحسنين رضي الله عنها وأرضاها. ونعيش هذه المعاني وقد خفق بها قلب إقبال الشاعر الكبير فقال: نسب المسيح بنى لمريم سيرة بقيت على طول المدى ذكراها والمجد يشرق من ثلاث مطالع في مهد فاطمة فما أعلاها هي بنت من هي زوج من هي أم من من ذا يداني في الفخار أباها هي ومضة من نور عين المصطفى هادي الشعوب إذا تروم هداها ولزوج فاطمة بسورة هل أتى تاج يفوق الشمس عند ضحاها أسد بحصن الله يرمي المشكلات بصيقل يمحو سطور دجاها في روض فاطمة نما غصنان لم ينجبهما في النيرات سواها فأمير قافلة الجهاد وقطب دائرة الوئام والاتحاد ابناها هي أسوة للأمهات وقدوة يترسم الفجر المنير خطاها لما شكا المحتاج خلف رحابها رقت لتلك النفس في شكواها جادت لتنقذه برهن خمارها يا سحب أين نداك من جدواها فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها رضي الله عنه وأرضاها.

ولادتها ولقبها

ولادتها ولقبها ثانياً: الوليدة الجديدة. ولدت رضي الله عنها -كما ذكر ابن سعد في الطبقات- وقريش تبني البيت، وذلك قبل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار في ترتيب بنات النبي صلى الله عليه وسلم أن زينب الأولى، ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم، ثم الرابعة فاطمة الزهراء رضي الله عنها. وقال ابن حجر في الإصابة: ولدت فاطمة والكعبة تبنى، والنبي ابن خمس وثلاثين سنة، وبهذا جزم المدائني. قال ابن حجر: وهي أسن من عائشة بخمس سنين. وأما الزهراء فهو وصف لم يذكر في شيء من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكنه ذكر في تراجمها غلبة لهذا المعنى الذي هي أشبه به رضي الله عنها، قال صاحب التاج: والزهراء: المرأة المشرقة الوجه، والبيضاء المستنيرة المشربة بحمرة، والزهراء: البقرة الوحشية. ومعلوم أنهم يضربون بها المثل في الجمال، كما قال قيس بن الحظيم: تمشي كمشي الزهراء في دمث الـ ـرمل إلى السهل دونه الجرف قال: الزهراء كذلك السحابة البيضاء التي تبرق وتستنير بذلك البرق. فهذه ولادتها رضي الله عنها، فهي أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه كما سيأتي ذكره.

خطبتها رضي الله عنها

خطبتها رضي الله عنها ونمضي إلى صورة واسعة هي أوسع الصور فيما ورد من ترجمة فاطمة رضي الله عنها الزوجة الأثيرة ليكون درساً للآباء والأمهات والبنات وللأمة كلها كيف يكون الزواج، وكيف يكون المهر، وكيف تكون الحياة، وكيف يكون تدبير الأمور، ونحن اليوم نعاني ما نعاني من هذه المشكلات التي أورثت خللاً في المجتمعات، والتي ساعدت على شيوع المعاصي وكثرة السيئات، وقللت من الحصانة والعفة وغير ذلك مما نعلمه. أما خطبتها فقد كانت -على ما رواه ابن سعد في الطبقات- بتدرج وببيان لمكانها ومقامها رضي الله عنها، فقد روي أن أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أبا بكر! انتظر بها القضاء) وخطبها عمر فقال له: (انتظر بها القضاء) ثم قال بعضهم لـ علي: اخطب فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: بعد أبي بكر وعمر؟! فذكروا له قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطبها فزوجه النبي إياها. وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن حجر بن عنبس قال: (خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي: هي لك يا علي؛ لست بدجال) أي: لست بكذاب. قال الشراح: وذلك أنه قد وعد علياً بها قبل خطبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين. والنبي صلى الله عليه وسلم شاورها واختار لها علياً ربيبه الذي تربى في حجره وعلى نظره، وكان علي يقول: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع سنين لا أصلي إلا أنا وهو. يعني: قبل أن يفشو الإسلام، وقبل أن تظهر الجماعة، وقبل أن يكون دار الأرقم وغير ذلك. يقول ابن سعد في الطبقات: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فاطمة: (إن علياً يذكرك -يعني: يخطبك- فسكتت؛ فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم). وفيما جاء أيضاً في خطبة علي رضي الله عنه ما رواه بريدة أن نفراً من الأنصار قالوا لـ علي رضي الله عنه: اذكر فاطمة واخطبها، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حرضه نفر من الأنصار، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما حاجة ابن أبي طالب؟ قال: ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحباً وأهلاً، لم يزده عليهما، فقال: ورجع، فقال له الرهط: ما قال لك؟ قال: ما زاد أن قال: مرحباً وأهلاً. قالوا: يكفيك من رسول الله إحداهما، أعطاك الأهل وأعطاك المرحب، فلما كان بعد أن زوجه قال: يا علي! إنه لابد للعروس من وليمة).

زواجها رضي الله عنها وأرضاها

زواجها رضي الله عنها وأرضاها تلك كانت خطبتها رضي الله عنها وأرضاها، وعندما تزوجها علي -كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب- كان عمرها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وكان عمر علي واحداً وعشرين عاماً على الصحيح في هذه الروايات، وكان هذا الزواج في رجب بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقدمه المدينة بنحو خمسة أشهر، ثم بنى بها -أي: دخل بها- بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من بدر، وأخطأ من قال: إن البناء كان بعد يوم أحد؛ لأن القصة فيها أن حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم نحر شارفين في وليمة عرس علي رضي الله عنهما. فهذه قصة زواج فاطمة رضي الله عنها، فكيف جهزت؟ وما كان مهرها؟ وكيف كانت وليمتها؟ وكيف كان بيتها وجهازها؟ ثم كيف كانت عيشتها ومسيرتها في حياتها؟ أما المهر فالروايات متكاثرة في أنه عندما خطب علي رضي الله عنه وتقدم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والله ما لي من شيء. فقال: وكيف؟ قال: فذكرت صلته وعائدته علي -يعني: فضل النبي عليه الصلاة والسلام عليه- فتجرأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما تصدقها؟) أي: ما تعطيها من المهر؟ فمن هذه الممهورة؟ ومن هذه المخطوبة؟ هي بنت محمد صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما عندي ما أصدقها) ليس عند علي مهر، قال: (ولم يكن يومئذ صفراء ولا بيضاء)، لا ذهب ولا فضة عند علي ولا عند غيره إذ ذاك في أول الهجرة وفي مطلع الشدة حين كان المسلمون في شدة كبيرة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أين درعك الحطمية؟)، وهي درع أعطاها له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر، و (الحطمية): نسبة إلى بطن حطم بن محارب كانوا مشتهرين بصناعة الدروع، وقيل: الحطمية التي تحطم السيوف، وقيل: الثقيلة الحصينة. قال: (أين درعك الحطمية؟ قال: هي عندي يا رسول الله، قال: أصدقها إياها، فباعها بأربعة وثمانين درهماً فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها بلالاً وقال: اجعلوا ثلثيها في الطيب، وثلثاً في المتاع)، وهذا من فقه النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بطبائع النساء، أمرهم أن يجعلوا ثلثيها في الطيب وثلثاً في المتاع واللباس وغير ذلك، فهذا كان مهر سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها وأرضاها، فما بال من يغالون في مهور بناتهم؟ أيظنون ذلك منقبة وشرفاً؟! أيظنونه تعظيماً لمقام بناتهم؟! لو كان ذلك كذلك لكان الأحق به بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد توليت عقد نكاح فذهبت أكتب هذا العقد لأصحابه، فرأيت عقداً قبله والمهر مسطور فيه بمائة ألف، فقلت: يا للعجب! وما ينفع ذلك أو يفيد؟! ونرى أننا بهذا نسد كثيراً من أبواب الحلال ونفتح أبواباً ونيسر طرقاً للحرام، وقد نكون بذلك آثمين، وقد يكون الآباء في هذا ممن يعضلون بناتهم، وممن يكون عليهم وزر في هذا إذا فاتها قطارها، وتأخر عنها حظها من بعد، فهذه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مهرها.

جهازها وأثاث بيتها رضي الله عنها

جهازها وأثاث بيتها رضي الله عنها أما جهازها فقالت أم أيمن: وليت جهازها، فكان فيما جهزتها به مرفقة من أدم -من جلد- حشوها ليف، وبطحاء مفروشة في بيتها. هذا هو الفراش الوثير الذي كان في بيت فاطمة رضي الله عنها. وقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، وقد جاءوا بهذا التراب والحصى ليفرش في هذا البيت كأنما هو توطئة، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث مع فاطمة بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحائين وسقاء وجرتين، فكم هي هذه الثروة عظيمة؟ وكم هي موجودة في هذا البيت الذي كأنما هو قصر عامر؟ وهو كذلك عامر بالإيمان والتقوى، وما كان حشو فراشهما ووسائدهما إلا الليف، بل قد ورد في صداقها أنه كان لهم جلد لخروف، إذا ناموا جعلوه على جهة الصوف، وإذا احتاجوه لفوه من جهة الجلد، وهذا يدلنا على البساطة. ورواية أم أيمن المذكورة رواها الطبراني وإسناده رجال الصحيح. لننظر إلى هذه المعاني، فمن كانت هذه مقدمتها في خطبتها وفي مهرها وفي جهازها فأي شيء تكون عيشتها؟ وعلى أي صورة تكون حياتها؟ هل فيها مثلما عند نسائنا حيث لابد أن يكون المسكن فيه كذا من الغرف، ولابد أن يكون فيه غرفة للنوم، وأخرى للطعام، وثالثة للجلوس، ورابعة لكذا وكذا، وخامسة لكذا؟ وكأنما يريد أن يسكن في جنة قبل جنة الآخرة، ولا نقول هذا -ونحن نعرف أوضاع الحياة الاجتماعية- تحريماً له، لكن إذا وجد ما يقتضي التنازل عنه مما هو خير في جمع بين زوجين صالحين فالعاقل من يصنع ذلك، ويتأسى بخير خلق الله عليه الصلاة والسلام، ولتكن ابنته في شرفها وفخرها أنها كان لها أثر من فاطمة أو غير فاطمة من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأين كان سكنها وكيف عاشت؟ في رواية ابن سعد في الطبقات عن أبي جعفر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل منزلاً، فطلب علي منزلاً حتى يسكن فاطمة فيه، فأصابه مستأخراً عن النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً عنه، والنبي لم يكن يحب بعد فاطمة عنه أبداً، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت فاطمة فقال: (إني أريد أن أحولك إلي تكونين قريبة مني. فقالت: كلم حارثة بن النعمان أن يتحول) وكان بيته قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم، فأرادت أن يتحول لتأتي مكانه، فقال عليه الصلاة والسلام: (قد كلمت حارثة وقد تحول عنا حتى استحييت منه) يعني: أكثر من واحد يريد الجوار وهذا ينتقل. فسمع حارثة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك تحول فاطمة إليك، وهذه منازلي وهي ألصق بيوت بني النجار بك -أي: أقربها- وإنما أنا ومالي لله ولرسوله، والله -يا رسول الله- للمال الذي تأخذ أحب إلي من الذي تدع، هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فتحولت إلى جوار أبيها عليه الصلاة والسلام.

فاطمة وعلي رضي الله عنهما ومكابدة الحياة

فاطمة وعلي رضي الله عنهما ومكابدة الحياة خذ هذه اللوحة المعبرة المؤثرة في هذه الحياة الزوجية: أقبل علي ذات يوم على فاطمة ودخل وهو منهك متعب مجهد من طبيعة الحياة وشدتها وكسب العيش وكده، فقال: والله! لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، والسانية: البعير الذي يستقى به الماء، كان علي يسقي الماء عن طريق الناقة وأحياناً بنفسه، قال: قد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه. انتصر المسلمون في معركة، وكان عند الرسول صلى الله عليه وسلم سبي، فقال: اطلبي منه خادماً؛ فأنت ابنته أقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه. فذهبت فاطمة إلى أبيها عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما جاء بك يا بنية؟) قالت: جئت لأسلم عليك. واستحيت أن تذكر حاجتها، وقد قالت عندما قال علي ذلك: وأنا قد طحنت في الرحى حتى مجلت يداي. والمجل: هو ثخن الجلد ووجود البثور فيه، وذلك من كثرة ما كانت تطحن الشعير رضي الله عنها وأرضاها، فلما ذهبت إلى أبيها استحيت أن تذكر حاجتها فرجعت، فقال علي: كلمتيه؟ قالت: لا. فأخذها علي وذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: والله -يا رسول الله- لقد سنوت حتى اشتكيت صدري. وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي، قال: وقد أتى الله بسبي وسعة فأخدمنا. فماذا قال القدوة العظمى صلى الله عليه وسلم؟ قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانها)، فهناك أولويات، فهذان يريدان خادماً، وفي المسلمين من أهل الصفوة من لا يجد طعاماً، قال: (والله! لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم). لكن هل قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تغمره الرحمة والشفقة على ابنته وفلذة كبده؟ بلى كان ذلك في نهار ذلك اليوم، وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم في مسائه وليله يأتي إليهما، ويطرق عليهما بابهما، وقد دخلا في كسائهما، وعليهما غطاء إن غطيا الرأس بدت الأقدام، وإن غطيا الأقدام بدا الرأس. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأرادا أن يقوما فقال: (مكانكما. ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ فقالا: بلى يا رسول الله! فقال: كلمات علمنيهن جبريل: تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا ثلاثاً وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم). قال علي: فما تركتها منذ سمعتها، فقال ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟! قال: ولا ليلة صفين يا أهل الطرق! أي: أهل الفتن. فذكر علي ذلك في محافظته على ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم. وانظر إلى هذه الصورة: علي يشقى، وفاطمة تتعب، والسبي موجود، والأمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يريد لأحب أحبابه وأقرب المقربين إليه ما هو الأفضل والأكمل، لا يريد خادماً في الدنيا، وإنما خداماً في الجنة، يريد عمران الدار الآخرة قبل عمران هذه الدار، ولذلك صرفهما إلى عبادة، لكن في قلبه من الشفقة والرحمة ما جعله لا ينسى طلبهما، ولا ينسى أنما قاله لهما ربما أدخل إلى نفوسهما شيئاً من هم أو غم، فمسح ذلك بقدومه عليهما، وإيناسه لهما، وتقديمه الخير لهما عليه الصلاة والسلام. وهناك صورة أخرى لنرى ما يدور في بيوتنا من المشكلات بين الزوجات وأمهات الأزواج، حتى أصبح هذا الباب باباً تسطر فيه الأقلام، وتمثل فيه التمثيليات والمشاهد كما نسمع، بل وتضرب فيه الأمثال. فهذه رواية ابن عبد البر يذكرها في الاستيعاب عن ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال: قال علي لأمه: اكفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخدمة خارجاً وسقاية الماء والحطب، وتكفيك العمل في البيت والعجن والخبز والطحن. وهذه صورة من بر الأم ورحمة الزوجة وألفة الأسرة الواحدة بعيداً عن الخصومات والنزاعات والمكائد التي تحفل بها كثير من البيوت من خلال ما يتسرب إلينا من الأفكار الدخيلة، والمضامين التي تبث عبر كثير من الوسائل والطرق مكتوبة ومرئية ومسموعة ونحو ذلك. هذه ومضات من الحياة الزوجية لتلك الزوجة الأثيرة رضي الله عنها وأرضاها، وأحسب أن فيما نذكره من العبرة ما يغني عن كثير من التعليق والتفريع من كلامنا وقولنا، فحسبنا بهذه العظيمة الشريفة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان مهرها درعاً، وأن كان فراشها أدماً حشوه ليف، وأن كان تجهيز بيتها سقاءين ورحائين، وأن كانت معيشتها أن تخدم بنفسها وأن تقوم بحق زوجها رضي الله عنها وأرضاها.

شبهها بالنبي صلى الله عليه وسلم ومكانتها في قلبه

شبهها بالنبي صلى الله عليه وسلم ومكانتها في قلبه كانت فاطمة شبيهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً وهدياً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه وأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها) رواه أبو داود في السنن. وفي رواية عند البخاري في الصحيح تخبر فيها عائشة بما كان من آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: (إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعاً لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب بها وقال: مرحباً بابنتي). وفي حديث مسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني) رواه البخاري في الصحيح، والبضعة: القطعة من اللحم. وفي رواية من هذا الحديث في الصحيح أيضاً: (مضغة مني)، وفي رواية حذيفة: (شدنة مني) أي: قطعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عليه الصلاة والسلام ينص على ذلك ويذكره، وكانت عائشة رضي الله عنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبصر الشبه وتدرك المقام وتعرف الصلة وتعرف وتدرك خفقات قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته الحبيبة الأثيرة رضي الله عنها. وهذا ابن عباس رضي الله عنه يروي أن المصطفى عليه الصلاة والسلام دخل على علي وفاطمة رضي الله عنهما وهما يضحكان، فلما رأيا النبي عليه الصلاة والسلام سكتا، فقال لهما عليه الصلاة والسلام: (ما لكما كنتما تضحكان فلما رأيتماني سكتما؟! فبادرت فاطمة فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، قال هذا -تعني علياً -: أنا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فقلت: بل أنا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقال: يا بنية! لك رقة الولد، وعلي أعز علي منك)، وهذا من بديع قوله وفصيحه ومن حسن مأخذه عليه الصلاة والسلام، (لك رقة الولد وعلي أعز علي منك)، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وفي رواية مسور الأخرى: (فاطمة شدنة مني يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها، وإنه تنقطع يوم القيامة الأنساب إلا نسبي وحسبي) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والحديث رجاله ثقات كما ذكره الهيثمي في المجمع. وعن عمران بن حصين قال عمران: (إني لجالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت فاطمة فقامت بحذاء النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: مقابلة له- فقال: ادني يا فاطمة فدنت دنوة، ثم قال: ادني يا فاطمة. فدنت دنوة، فقال: ادني يا فاطمة. فدنت دنوة حتى قامت بين يديه، قال عمران: فرأيت صفرة قد ظهرت على وجهها، وذهب الدم من شدة الجوع وشظف العيش. قال: فبسط النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه ثم وضع كفه بين ترائبها -أي: عظام صدرها- فرفع رأسه وقال: اللهم! مشبع الجوعة، وقاضي الحاجة، ورافع الوضعة، لا تجع فاطمة بنت محمد. قال عمران: فرأيت صفرة الجوع قد ذهبت عن وجهها وظهر الدم، ثم سألتها بعد ذلك فقالت: ما جعت بعد ذلك يا عمران) رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عتبة بن حميد وثقه ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات. وهذا يدلنا على مكانتها ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وحسبنا بذلك منقبة وفضيلة وشرفاً وعزاً وكرماً لا يدانيها فيها غيرها كما سيأتي في تعليل ذلك، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني -وقد رواه ابن عبد البر في الاستيعاب- قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من غزو أو سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يأتي فاطمة، ثم يأتي أزواجه) لم؟ لأنها وحيدة بناته التي بقيت رضي الله عنها وأرضاها. وهذا ابن سعد في الطبقات يروي عن ابن أبي ثابت قال: كان بين علي وفاطمة كلام -أي: شيء من الخلاف- فدخل النبي عليه الصلاة والسلام فألقوا له شيئاً فاضطجع عليه، فجاءت فاطمة فاضطجعت من جنب، جاء وعلي فاضطجع من جنب، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ويدها فوضعها على سرته ثم أصلح بينهما، وخرج عليه الصلاة والسلام، فقيل: دخلت وأنت على حال وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك! قال: (وما يمنعني وقد أصلحت بين أحب اثنين إلي) رضي الله عنهما وأرضاهما. هكذا كانت فاطمة رضي الله عنها شبيهة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبيبة إلى قلبه، وكانت مضرب مثله، ومضرب المثل لا يكون إلا في العزيز القريب الأثير، ألم يقل عليه الصلاة والسلام: (يا فاطمة بنت محمد! اعملي لا أغني عنك من الله شيئاً)؟ لم يخصها بالذكر؟ لقربها وحبها. ألم يقل عليه الصلاة والسلام يوم قصة المخزومية: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)؟ إنه يدل على تعظيمه ومحبته لها عليه الصلاة والسلام. وذكر ابن حجر في الإصابة عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: كانت فاطمة أصغر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأحبهن إليه، سئلت عائشة رضي الله عنها -كما روى الترمذي في سننه بسند حسنه- فقيل لها: (أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة. قيل: فمن الرجال؟ قالت: زوجها. إن كان كما علمت صواماً قواما). وتكلم الذهبي في السير على صحة هذا الحديث، وإن كان قد حسنه الترمذي ورواه الحاكم وصححه. وفي حديث بريدة: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي. قال إبراهيم النخعي: يعني: من أهل بيته. ورواه الترمذي كذلك.

أسباب فضل فاطمة وخصوصيتها التي امتازت بها رضي الله عنها

أسباب فضل فاطمة وخصوصيتها التي امتازت بها رضي الله عنها ولعلنا نتساءل هنا: لماذا كانت لـ فاطمة هذه الخصوصية التي حظيت بها رضي الله عنها وأرضاها؟ هناك إجابة طويلة، لكن لابد من ذكرها مع الإيجاز.

معنى كنيتها الفريدة رضي الله عنها وأرضاها

معنى كنيتها الفريدة رضي الله عنها وأرضاها الأمر الأول: لأن لها كنية فريدة، وليس المقصود الكنية وإنما معناها، فكنيتها التي ذكرها الذهبي وابن حجر وغيرهما من العلماء هي (أم أبيها)، ولا أعرف أحداً من النساء كنيتها أم أبيها، فهي ابنته ولكنها تكنى بأنها أم أبيها، فلم كان ذلك كذلك؟ لأسباب كثيرة. فـ فاطمة رضي الله عنها أصغر بناته، وكان بعض بناته قد تزوجن، فبنتاه الأوليان كانتا متزوجتين من ابني أبي لهب عم النبي عليه الصلاة والسلام، تزوجا بهما في الجاهلية قبل الإسلام، وزينب مزوجة من أبي العاص بن الربيع، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة، فكانت تشهد ما يلقى النبي عليه الصلاة والسلام من الأذى والصد والإعراض من قريش، وكانت معه عليه الصلاة والسلام في هذه المواقف كما سيأتي معنا، وبعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة لم يكن قد دخل بـ عائشة فمن كان يخدمه؟ ومن كان في بيته يقوم بشأنه؟ ومن كان يعد طعامه؟ ومن كان يهيئ له أحواله؟ إنها ابنته أم أبيها رضي الله عنها وأرضاها، ولذلك كانت قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت بهذه الكنية الفريدة.

امتداد نسل النبي صلى الله عليه وسلم عن طريقها رضي الله عنها

امتداد نسل النبي صلى الله عليه وسلم عن طريقها رضي الله عنها الأمر الثاني: الذرية الحبيبة، فإنه قد قضت حكمة الله عز وجل أن ينقطع نسل بنات النبي صلى الله عليه وسلم الأخريات، وألا يبقى أبناؤهن، فلم يبق نسل متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ونعلم كيف كان النبي يحب الحسن والحسين، وكيف كان يحني ظهره فيرتحله الحسن والحسين فيقول: (نعم الراكبان أنتما، ونعم الجمل جملكما)، وعندما جاء الحسن والنبي يخطب في المسجد فعثر في مرطه نزل النبي عليه الصلاة والسلام من منبره وأخذه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو الحسن والحسين إلا بـ (ابني)، وكانا يدعوانه: (يا أبتي)، فـ فاطمة رضي الله عنها أبقت لنبي الله عليه الصلاة والسلام بفضل الله جل وعلا من يقول له: أب، ومن يقول هو لهم: أبناؤه.

صحبتها الطويلة لأبيها صلى الله عليه وسلم

صحبتها الطويلة لأبيها صلى الله عليه وسلم الأمر الثالث: الصحبة الطويلة؛ فإن أخواتها من بنات رسول الله عليه الصلاة والسلام تتابعت وفاتهن وتقدمت، وبقيت هي مع النبي صلى الله عليه وسلم دهراً طويلاً، رقية ماتت وشغل بها عثمان في يوم بدر، وأم كلثوم توفيت بعد ذلك في العام الثامن أو التاسع من الهجرة، ولم يبق إلا فاطمة رضي الله عنها، فصحبت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتوفي ولفظ أنفاسه الأخيرة إلى الرفيق الأعلى وهي في هذه الحياة رضي الله عنها وأرضاها، فهذه صفحة من صفحات حياتها في شبهها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه إياها.

صبرها رضي الله تعالى عنها على البلاء

صبرها رضي الله تعالى عنها على البلاء يوجد الكثير من المناقب لـ فاطمة رضي الله عنها، لنرى قدوة للنساء، فالمرأة اليوم من أدنى عارض تجزع وتصيح وتتراجع ولا تكاد تحتمل شيئاً، أما فاطمة فهذه محطات من الابتلاء مرت فيها بنجاح منقطع النظير. كلنا يعرف القصة الشهيرة المروية في السيرة لما ائتمر أبو جهل ومن معه من سفهاء قريش في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إذا سجد فضعوا سلا الجزور على رأسه وهو ساجد، وقام أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ففعل ذلك، فلما نمى إلى فاطمة الخبر -وهي التي كانت في بيته عليه الصلاة والسلام- تحركت -وكانت صغيرة في السن- فذهبت فألقت ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ونظفته وطيبته، فما رفع رأسه من السجود إلا بعد أن فعلت ذلك. لقد كانت ترى صناديد قريش وهم يتعرضون له عليه الصلاة والسلام بالأذى القولي والفعلي وتحتمل ذلك، وترى في صبر النبي عليه الصلاة والسلام قدوتها وأسوتها رضي الله عنها وأرضاها. ثم بعد ذلك كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حصار الشعب الظلوم، عاشت ثلاث سنوات من أشد وأقسى السنوات التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والمسلمين الذين معه حتى أكلوا ورق الشجر، وحتى قرحت أشداقهم، ولقد روى سعد رضي الله عنه أنه ذهب يتبول قال: فإذا أنا أسمع قعقعة فأخذتها فإذا هي شنٌ -يعني: قطعة من جلد- فأخذتها فغسلتها فدققتها فسففتها فكانت قوتي أياماً. هكذا كانوا وكانت فاطمة البنت الرقيقة الصغيرة الفتية في عمرها، وإذا كان قد تزوج بها علي وهي بنت خمس عشرة سنة في المدينة فكم كان عمرها إذ ذاك؟! كانت صغيرة رضي الله عنها وأرضاها، فصبرت واحتملت ومرت بهذه الظروف العصيبة وشظف العيش وشدته تتأسى بأبيها عليه الصلاة والسلام. ثم من بعد ذلك كان فقد الأم العظيمة في عام سماه أهل السير (عام الحزن)، فقد كان من أشد ما مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أن فقد زوجته خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها الحبيبة إلى قلبه المواسية له المؤازرة والمساندة له عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك عظيماً على أصغر البنات التي لم تكن تزوجت بعد وهي فاطمة رضي الله عنها، فصبرت واحتسبت ومضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم من بعد كانت هناك محطة رابعة في معاناة الهجرة الحزينة، فيوم هاجر رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يصحب معه بناته، ثم من بعد أرسل أبا رافع مولاه فأخذ زينب وفاطمة رضي الله عنهما، فلحق بهم الحويرث الأشقى فنخز بعيرهما وآذاهما فسقطتا من عليه وقد وهت أجسادهما، وكانتا ضعيفتين، وهذا هو الذي أعلن النبي عليه الصلاة والسلام عنه وعن نفر معه يوم فتح مكة أن يقتلوا ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، وذلك لما فعل هذا الشقي ببنات رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومضت هذه الفتاة في ريعان شبابها تحتمل كل هذه الصعاب بإيمان عظيم وصبر جليل واحتساب للأجر عند الله سبحانه وتعالى، ومواصلة على الطريق دون جزع ولا تراجع ولا تضعضع ولا ضعف بحال من الأحوال. ثم ماذا بعد ذلك؟ لقد كان موت الأخوة والأخوات، فإخوانها جميعاً ماتوا إبراهيم والقاسم أبناء النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أخواتها واحدة إثر الأخرى وهي تشيع وتدفن رضي الله عنها وأرضاها، والحزن يملأ قلبها فينصب على يقينها وإيمانها، فإذا بها ترضى بقضاء الله وقدره، لكن ذلك أمره عظيم. وقد ورد في بعض الروايات أنها شهدت أحداً، وكان لها شيء من المشاركة، ورأت ما رأت مما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم شج رأسه ودميت قدماه ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). ثم كان المصاب الأعظم الذي لم تتماسك بعده حتى أدركتها منيتها وحانت وفاتها، ذلك الحدث هو فقد الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، يوم قالت فاطمة رضي الله عنها عندما زارت النبي صلى الله عليه وسلم: واكرباه! فقال عليه الصلاة والسلام: (لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة). ثم لما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: واكرب أبتاه، إلى جبريل ننعاه، جنة الخلد مأواه. ثم لما دفن عليه الصلاة والسلام قالت لـ أنس -كما في الصحيح-: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! وفي بعض الروايات أنها ما رئيت مبتسمة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. وسنذكر الآن بعض فضائلها وما جاء في هذه القصص العظيمة، فكانت صابرة رضي الله عنها صبراً عظيماً يدلنا على ما ينبغي أن تتحلى به النساء المؤمنات من الصبر والاحتمال فيما يتعرضن له في طاعة الله سبحانه وتعالى والثبات على هذا الدين، لا أن يكون ذلك برقة وضعف وخور كما نرى، نسأل الله عز وجل السلامة.

فضائلها رضي الله عنها وأرضاها

فضائلها رضي الله عنها وأرضاها فضائل فاطمة رضي الله عنها كثيرة، ففي الصحيح من رواية عائشة: (كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها رحب بها وقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن يساره، ثم سارها -أي: أسر إليها كلاماً- فبكت -رضي الله عنها- ثم سارها مرة أخرى فضحكت، فقالت عائشة: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين؟! ما قال لك؟ قالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لها عائشة: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني المرة الأولى فأخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة وأنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري؛ فإنه نعم السلف أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني ثانية فقال: يا فاطمة! أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟ قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت). وفي رواية في لفظ آخر: (لما رآها استبشر وتهلل، فسارها فبكت ثم ضحكت، فقالت عائشة: ما رأيت كاليوم أقرب فرحاً من بكاء) ثم سألتها. وفي رواية ثالثة: أن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كنت لأرى هذه -تعني فاطمة - لأعقل نسائنا فإذا هي امرأة من النساء، أي: أنها كانت تظنها ذات جلد، فلما رأتها تضحك وتبكي قالت: هذه امرأة من النساء ليس عندها شيء مختلف، فلما علمت بذلك عرفت. وفي رواية: (فبكيت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة وأنك أول أهلي لحوقاً بي؟! فضحكت) وهذا عند البخاري ومسلم، وكان الأمر كذلك كما سيأتي في وفاة فاطمة رضي الله عنها. وهذا الحديث روي بروايات كثيرة، منها رواية الترمذي وفيها: (أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت). وفي رواية حذيفة عند الترمذي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (هذا ملك نزل من السماء لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي وأن يبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) أخرجه الترمذي وحسنه. وعندنا رواية في الفضائل -وسيأتي ذكرها باختصار فيما هو من الشبهات والأخطاء- هي رواية عند البخاري ومسلم، وكذلك عند أبي داود والترمذي من حديث مسور بن مخرمة في قصة علي بن أبي طالب حين خطب بنت أبي جهل يريد أن يتزوجها على فاطمة، قال: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: (إن فاطمة مني، وأنا أتخوف أن تفتن في دينها. ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس، ثم قال: وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً، ولكن -والله- لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً). وفي الرواية الأخرى قال: (فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني، يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها). وهذا الحديث أيضاً من فضائلها رضي الله عنها وأرضاها. ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وفاطمة سيدة نسائهم إلا ما كان من مريم بنت عمران). والروايات كثيرة في فضائلها رضي الله عنها، ومما ذكره الترمذي أنه قال عليه الصلاة والسلام في شأن قصة إرادة علي خطبة بنت أبي جهل: (إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم؛ فإنها بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وقفات من شبهات المغرضين

وقفات من شبهات المغرضين

وقفة مع شبهة هجرها لأبي بكر رضي الله عنه في قضية الميراث

وقفة مع شبهة هجرها لأبي بكر رضي الله عنه في قضية الميراث وقفة مع الأوهام الخاطئة ومع الأفكار الزائغة التي تشوه علينا هذه الصورة المشرقة الوضاءة في سيرة وتعامل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهناك بعض الأوهام التي أخذها بعض الناس مآخذ تبعد عن فهم حقيقة إيمان الصحابة وفضيلتهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن ذلك ما هو مشهور في الحديث الصحيح عند البخاري أن عائشة روت أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيها سألت أبا بكر ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة) فغضبت فاطمة وعاشت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، والحديث عند البخاري في الصحيح، وقد أورده بألفاظ مختلفة كثيرة، وبعض الناس أخذوا هذا مآخذ شتى، وجعلوا ذلك خصومة بين أبي بكر رضي الله عنه وفاطمة رضي الله عنها، وبين عائشة رضي الله عنها وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وما فقهوا فقه الإيمان، وما عرفوا كيف كان أولئك النفر من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن قد عرفنا ما روت عائشة في فضائل فاطمة وما كانت تلمحه وتدركه من شبهها برسول الله عليه الصلاة والسلام ومحبته لها عليه الصلاة والسلام. وأما هذا فقد ذكر العلماء فيه -بإيجاز- أنه أخذ فيه أبو بكر بسنة وحكم النبي صلى الله عليه وسلم، وأن فاطمة كانت متأولة، فقد كانت تظن أن هذا الحديث لا يدخل فيما أفاء الله عليه من الأراضي كأرض فدك وخيبر وغيرها، ولم يكن من فاطمة رضي الله عنها إلا ما كان من حزنها على أبيها؛ فإنها لم تمتنع عن أبي بكر فحسب، بل كانت بعيدة عن الناس وعن مؤانستهم بسبب حزنها الشديد على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كانت أول أهله لحوقاً به كما ذكر عليه الصلاة والسلام. والروايات يذكرها ابن حجر ويبين معانيها في الفتح، فقد ذكر أن فيما رواه أحمد وأبو داود أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله؟ قال: بل أهله. قالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه جعلها للذي يقوم من بعده)، فرأيت أن أرده على المسلمين. قالت: فأنت وما سمعته. قال: فهذا لا يعارض ما في الصحيح من صريح الهجران، ولا يدل على الرضا، ثم ذلك فيه لفظة منكرة، وبعد ذلك ذكر رواية الشعبي عند البيهقي أن أبا بكر عاد فاطمة -أي: زارها- فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك. قالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم. فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت. قال ابن حجر: وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح، وبه يزول الإشكال في جواز تمادي فاطمة في هجر أبي بكر، وقال بعض الأئمة: إنما كان هجرها انقباضاً عن لقائه والاجتماع به، وليس ذلك من الهجران المحرم، فإن شرطه أن يلتقيا فيعرض هذا ويعرض هذا، وكأن فاطمة لما خرجت رضي الله عنها من عند أبي بكر رضي الله عنها تمادت في اشتغالها بحزنها ثم بمرضها، وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: (لا نورث)، ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسك أبو بكر بالعموم رضي الله عنه. فهل في مثل هذا الفقه ما يثيره أولئك القوم من هذه الفتن والمحن التي يجترءون بها على مقام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذمون من ثبت في القرآن مدحهم والثناء عليهم. ونحن نعرف في هذا أقوالاً كثيرة، حتى إن ابن حجر رحمه الله أفاض فيها وذكرها، ومن ذلك في هذا السياق ما ذكر في الصحيح -أيضاً- أنه لما ماتت فاطمة رضي الله عنها دفنها علي ليلاً لم يؤذن بها أبا بكر. فقالوا: ذلك خصومة، وذلك لئلا يصلي عليها أبو بكر وغير ذلك. لكن ماذا قال أهل العلم؟ قالوا: كان ذلك بوصية منها لإرادة الزيادة في التستر، ولعله لم يعلم علي أبا بكر بموتها لأنه ظن أن ذلك لا يخفى عليه، وليس في الخبر ما يدل على أن أبا بكر لم يعلم بموتها ولا صلى عليها. وعلي بايع أبا بكر وكان الناس قريباً منه، ورجع إلى المعروف رضي الله عنه وأرضاه بعد موت فاطمة وأعلن بيعته، ولم يكن في تركه للبيعة قبل موتها شق عصا ولا مخالفة، ولا إبطال لهذه البيعة، لكنه احترم شعور فاطمة وحزنها، وانشغل بها حتى قضى الله ذلك الأمر، قال المازري رحمه الله: العذر لـ علي في تخلفه مع ما اعتذر هو به أنه يكفي في بيعة الإمام أن يقع من أهل الحل والعقد، ولا يجب الاستيعاب. ولا يلزم كل أحد أن يحضر عنده ويضع يده في يده، بل يكفي التزام طاعته والانقياد له بألا يخالفه ولا يشق العصا عليه، وهذا كان حال علي، فلم يقع منه إلا التأخر عن الحضور عند أبي بكر، وقد ذكر سبب ذلك. وأما رواية البخاري أن ذلك كان كراهية حضور عمر، قالوا: لأن عمر كان رجلاً صلباً شديداً، فخشوا من أن تكون المعاتبة وشدة القول في الأخذ والرد، وهم كانوا يريدون المصافاة، حتى إنه لما أراد أن يذهب قيل له: لا تذهب إليهم. فقال: وما عساهم أن يفعلوا بي! وقال علي رضي الله عنه في سياق هذا الحديث كلاماً نفسياً رضي الله عنه وأرضاه، وقال أبو بكر كلاماً نفيساً كذلك، فتشهد علي -أي: قال: أشهد ألا إله إلا الله- واستفتح الكلام فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر. وفي شرح ذلك قالوا: إن علياً كان يرى أن بعض الأمور كان ينبغي أن يشهدها ويستشار فيها، وأبو بكر رضي الله عنه كان يرى جزم الأمر والإسراع فيه؛ لئلا لا ينفرط الحبل، وعلي شغل برسول الله عليه الصلاة والسلام وبـ فاطمة من بعده، فلم يكن إلا ذلك. قال علي رضي الله تعالى عنه: وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً. قال الراوي -كما في البخاري -: حتى فاضت عينا أبي بكر بكاءً رضي الله عنه، فلما تكلم قال: والذي نفسي بيده! لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيه عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعته. فقال علي لـ أبي بكر: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر الظهر رقي على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر، ثم تشهد علي فعظم حق أبي بكر وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به، ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً فاستبد علينا فوجدنا في أنفسنا. فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت. وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع المعروف. فهل في هذا النص ما يقوله القائلون وما يرجف به المرجفون وما يقوله الذين أفسدوا على الناس مقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يكون عليه حالهم؟! إن كان الناس يبرءون أنفسهم من مثل هذه الشحناء فكيف بأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! بل كيف بالصفوة المباركة من المقربين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

وقفة مع شبهة منع النبي صلى الله عليه وسلم عليا عن زواج ابنة أبي جهل

وقفة مع شبهة منع النبي صلى الله عليه وسلم علياً عن زواج ابنة أبي جهل وقفة ثانية في هذه الأوهام والأخطاء، ففيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم). قال النووي رحمه الله: قال العلماء: في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بكل حال وعلى كل وجه، وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً وهو حي عليه الصلاة والسلام، وهذا بخلاف غيره، فلما كان ذلك يؤدي إلى إيذاء فاطمة وذلك يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم حرم من هذا الوجه. أو لم يكن ممكناً الجمع بينهما من هذا الوجه، قال النووي: وقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لـ علي بقوله: (لست أحرم حلالاً، ولا أحل حراماً) ولكنه نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين: إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيهلك من آذاه، فنهى عن ذلك لتمام شفقته على علي وعلى فاطمة. والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة. وقيل: هذا كان بسبب الغيرة، وهو مذكور أيضاً، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (إني أخشى أن تفتن في دينها) أي: بسبب غيرتها؛ لأنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي ابن عمها رضي الله عنهما، ولذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين هذا، فترك علي خطبتها لئلا يؤذي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وثبت أن علياًَ لم يتزوج معها غيرها، بل ولم يتسر بغيرها من السراري أو الإماء حتى توفيت رضي الله عنها وأرضاها. هذا موجز ما ذكره النووي، وقد أفاض -أيضاً- القرطبي في شرح مسلم والمازري والقاضي عياض في هذه المعاني بنفس هذا المعنى أو قريباً منه. وهذه المسائل عند أهل السنة والجماعة وأهل الإيمان والتقوى واضحة لا تلتبس، إلا عند الزائغين والمنحرفين الذين نسأل الله عز وجل أن يسلمنا من طرقهم، وأن يجنبنا مسالكهم، وأن يهديهم إلى سواء السبيل والصراط المستقيم؛ فإن الثلم والذم لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام معارضة لكتاب الله عز وجل ولما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ذم لهم حتى ولو لم يكن ذلك في النصوص، فلئن كان ذلك كذلك فأي قوم كان هؤلاء؟ وكيف عن لهم أن يكونوا من أصحاب النبي وحملة الدين ثم يكونوا على هذا الذي يصور من فرقتهم وخلافهم وكيد بعضهم لبعض ونحو ذلك؟ وكيف يمكن أن نفهم وندرك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تزوج أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه؟! وكيف ندرك هذه العلاقات العظيمة والمآثر الكريمة والأقوال الجليلة في مدح بعضهم بعضاً، وثناء بعضهم على بعض، ومعرفة بعضهم حق بعض، حتى قال سعد -وهو حديث مشهور- ثلاث لـ علي تمنيت لو أن لي واحدة منها، وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أما أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) وذكر كذلك قوله صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) فهذا كله معروف شائع بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومقامهم وحالهم يدلنا على أنهم أليق بذلك وأجدر به، وإن كنا اليوم نعيب الإنسان إذا كانت له خصومة مع صديق أو حبيب أو قريب، ونرى في ذلك جفاء في طبعه، ونرى في ذلك سوءاً في خلقه؛ فكيف ينسب ذلك إلى صفوة الخلق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف ينسب إلى أبي بكر وهو الذي يبكي عندما يذكر أبناء وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهو الذي جعل نفسه قائماً بأمر الأمة كلها عموماً وأمر أهله صلى الله عليه وسلم خصوصاً! وكيف بـ عمر رضي الله عنه الذي كان يعطي أمهات المؤمنين أكثر ما يعطي من العطاء الذي يوزعه للمسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور معلوم ثابت في الصحيح. فلاشك أن هذا من زيغ الفكر، ومن ظلمة القلب، ومن انحراف النهج والقصد، ومن الفتنة التي ينبغي لكل مسلم أن يبرأ منها، وأن يجتنبها، وأن يحذر الناس منها، وأن يدعو إلى غيرها، وأن ينبه الواقعين فيها، ونحن -بحمد الله عز وجل- في قلوبنا من الإيمان واليقين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتعظيم والإجلال لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يكون وقاية لنا من ذلك.

وفاة فاطمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها

وفاة فاطمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها وقفتنا الأخيرة في وفاة فاطمة رضي الله عنها، وما أدراك ما وفاتها؟! توفت -على الصحيح- بعد ستة أشهر من وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي يوم وفاتها نادت مولاتها أم رافع، وجاءت بماء فاغتسلت أحسن اغتسال، ثم لبست أحسن ثيابها، ثم طلبت أن يكون فراشها في وسط بيتها، ثم اضطجعت واستقبلت قبلتها وقالت: كأني مقبوضة. فما لبثت أن قبضت روحها إلى خالقها وبارئها رضي الله عنها وأرضاها، وكان ذلك وهي ابنة ثلاثين سنة على الصحيح، كما روى ذلك عبد الله بن محمد بن الحسن. وقد صلى عليها العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في قبرها علي والفضل رضي الله عنهم أجمعين، وكانت فاطمة رضي الله عنها هي أول من وضع له القباء من نساء المسلمين؛ لأنها كانت رضي الله عنها حيية تحب الستر، فكانت في حديث مع أسماء تقول لها: هؤلاء النساء عندما يكفن يكون الثوب فوقهن فكأنه يصف أجسادهن! فقالت: لقد رأيت شيئاً عند أهل الحبشة. وذكرت لها أنهم يضعون جريداً فيرفعون به عن جسم المرأة، فلما ماتت فاطمة رضي الله عنها صنع بها ذلك، فكانت أول امرأة في الإسلام فعل بها ذلك. ومضت إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الصبر والاحتمال والقرب من رسول الله عليه الصلاة والسلام، والنموذج المثالي للمرأة المسلمة الصابرة المحتسبة، والزوجة الوفية العاملة البارة بزوجها الوفية لعشرتها، وكان لها أعظم الفضل فيما أكرمها الله عز وجل به من الأبناء الذين كان لهم أثر عظيم وبر كبير ومنفعة، حتى ذكر النبي عليه الصلاة والسلام من مناقب الحسن والحسين ما هو معلوم. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبلها في عباده الصالحين، وأن يجعلها في أعلى عليين، وأن يجعلها قدوة لنساء المسلمين، وأن يلحقنا بها وبأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على خير ما يحب ويرضى سبحانه وتعالى من الإيمان والتقى والهدى، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الوقعة التي أعطي فيها علي الدرع الحطمية

الوقعة التي أعطي فيها علي الدرع الحطمية Q هل أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الدرع الحطمية لـ علي رضي الله عنه في غزوة أحد؟ A القول بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاها لـ علي رضي الله عنه بعد غزوة أحد غير صحيح، بل أعطاه إياها بعد غزوة بدر؛ ولذلك استشكل بعض الناس: كيف نحر حمزة شارفين في وليمة عرس علي رضي الله عنه؟

حكم القول للعروس: جمع الله بينكما كما جمع بين علي وفاطمة

حكم القول للعروس: جمع الله بينكما كما جمع بين علي وفاطمة Q ما حكم القول للعروس: جمع الله بينكما كما جمع بين علي وفاطمة؟ A لا أعرف لذلك أصلاً، والذي ذكر في الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (إذا أخذت زوجك فلا تصنع شيئاً حتى آتيك)، وأم أيمن هي التي تولت الجهاز، فجاء صلى الله عليه وسلم فسلم فردت أم أيمن فقال: (أين أخي؟) قالت: كيف أخوك وزوجته ابنتك؟! (قال: ذلك يكون) يعني: هو أخي في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين علي يوم آخى بين المهاجرين والأنصار، فلم يكن لـ علي أخ من الأنصار، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو أخاه. ثم لما جاء دعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء، قيل: توضأ فيه، وقيل: مج فيه. ثم سكب منه على علي وفاطمة ودعا لهما وبرك عليهما -أي: دعا لهما بالبركة-، ثم قال لـ علي: (خذ أهلك وزوجك).

التخفيف في نفقات الزواج لسد حاجة الأمة

التخفيف في نفقات الزواج لسد حاجة الأمة Q هل من باب الأولويات التوفير والتخفيف في نفقات الزواج لنسد الثغرات الكثيرة في جراحات الأمة؟ A هو كذلك، فلم يسرف الناس في هذا والمسلمون اليوم في كرب وضنك وحاجة شديدة؟! وكثير من المال الذي يصرف في غير مكانه قد يكون في كثير من الأحوال إثماً يسجل على صاحبه، وبعض الناس يقولون: هي ليلة العمر، وبعض الناس يقولون غير ذلك، فنقول: ما جاوز حد الاعتدال فهو سرف، وما كان فيه إثم أو حرمة فهو حرام في ذلك اليوم وفي غيره، في تلك الليلة وفي غيرها.

الاقتداء ببيت علي رضي الله عنه

الاقتداء ببيت علي رضي الله عنه Q أيكون بيت علي رضي الله عنه أنموذجاً لبيوت المسلمين؟ A نعم، هو أنموذج ينبغي أن يقتدى به.

حكمة عدم مجيء الأولاد للنبي صلى الله عليه وسلم من غير خديجة من الزوجات

حكمة عدم مجيء الأولاد للنبي صلى الله عليه وسلم من غير خديجة من الزوجات Q هل ورد بيان لحكمة عدم مجيء الأولاد للنبي صلى الله عليه وسلم من غير خديجة رضي الله عنها؟ A كذا قدر الله عز وجل.

حكم اختصاص فاطمة رضي الله عنها بمكانتها العالية عند أبيها

حكم اختصاص فاطمة رضي الله عنها بمكانتها العالية عند أبيها Q لم خصت فاطمة بتلك المحبة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم من بين أخواتها، وهل كان ذلك قبل موتهن أو بعده؟ A الغالب أنه بعده، والغالب أنه لقربها منه، ولكونها امتدت في حياتها معه ذلك الوقت كله، فكان من هذا ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام من فضائلها، ولأخواتها أيضاً من الفضائل ما قد ذكر في نصوص أخرى، لكن فضل فاطمة قد اشتهر؛ لأنها بقيت إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي أبقى الله عز وجل ذريتها ليكون امتداد نسب النبي عليه الصلاة والسلام من فاطمة رضي الله عنها.

الحل العملي لطالب الزواج وحكم الزواج المبكر

الحل العملي لطالب الزواج وحكم الزواج المبكر Q هناك من يطلب الدعاء بأن ييسر الله له الزواج؛ وما حكم الزواج المبكر؟ A الدعاء مبذول، ولكن نقول: على الناس جميعاً أن يسعوا في ذلك سعياً عملياً صحيحاً، وأن يكونوا بالفعل قائمين بهذا، وأما الزواج المبكر فنقول: هو خير كله، وابحث في سير الأصحاب وفي سير الأئمة والعلماء فإنك ستجد ذلك ظاهراً وواضحاً لا يحتاج إلى دليل.

شبهة بناء النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي ابنة ست سنين

شبهة بناء النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي ابنة ست سنين Q بعض الناس عندهم شيء من الشبهات المعاصرة حيث يقولون: كيف نقول للناس: إن النبي عليه الصلاة والسلام عقد على عائشة وهي ابنة ست، وبنى بها وهي ابنة تسع؟ A كيف لا يصلح أن نقوله لغير المسلمين وهم يصنعونه سفاحاً، ويصنعونه جريمة، ولا يقبلون أن يكون نكاحاً! وقد كان ذلك مشهوراً في بيئة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون مستغرباً الآن، لكنه في وقته لو كان مطعناً أو كان سبباً للذنب لما تأخر المشركون والكافرون الذين يتربصون برسول الله عليه الصلاة والسلام الدوائر في ذمه وفي التشنيع عليه، وما نقل لنا عنهم في ذلك مقالة.

الجمع بين قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ) وإخباره صلى الله عليه وسلم ببقاء نسبه يوم القيامة

الجمع بين قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ) وإخباره صلى الله عليه وسلم ببقاء نسبه يوم القيامة Q ما معنى قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون:101] مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنساب يوم القيامة ستنقطع إلا نسبه صلى الله عليه وسلم؟ A قال عليه الصلاة والسلام: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئاً)، ولكنه عندما قال: (إلا نسبي)؛ فإنه يخبر عما أخبره الله سبحانه وتعالى به من غيب في شأن من اتصل به نسبه، وهي فاطمة رضي الله عنها، وقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة، والنبي يخبر بالوحي عليه الصلاة والسلام، فليس لأحد أن يقول كيف ذلك أو لم ذلك؟ فهو عليه الصلاة والسلام يبلغ أمر الله سبحانه وتعالى ووحيه.

حكم قول: (فاطمة صلى الله عليها وسلم)

حكم قول: (فاطمة صلى الله عليها وسلم) Q أحد الأعلام عندما يذكر فاطمة بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام أو أحد أبنائها يقول: صلى الله عليها وسلم فما حكم ذلك؟ A ما أعرف هذا، ولا يصح أن يقال هذا، فالصلاة والسلام لا يجوزان استقلالاً إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز لغيره بالتبع، فيقال: اللهم صل وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ومن اتبعهم وعلينا معهم. فلا بأس بذلك، وأما الصلاة استقلالاً فهي من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام، وقوله: (اللهم صل على آل أبي أوفى) قالوا: هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، قال شيخ الإسلام أبو زكريا الأنصاري: ويمنع منه استقلالاً لئلا يكون تشبهاً بأهل البدع. فلا يقول: عن فلان من الصحابة أو فلانة من الصحابيات عليه الصلاة والسلام أو عليها السلام استقلالاً؛ لأنه صار شعاراً لأهل البدع، فيجتنب ذلك.

مجموع ما روته فاطمة رضي الله عنها من أحاديث

مجموع ما روته فاطمة رضي الله عنها من أحاديث Q كم روت فاطمة رضي الله عنها من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ A روت ثمانية عشر حديثاً، وروى عنها ابناها، وروى عنها علي رضي الله عنه، وروت عنها عائشة رضي الله عنها، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.

موقف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من تقديمه فاطمة وحبه لها

موقف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم من تقديمه فاطمة وحبه لها Q هل كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يشعرن بالغيرة حين يقدم فاطمة عليهن؟ A لما نزل قول الله سبحانه وتعالى في شأن أهل البيت: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بمرط مرحل -أي: كساء- ثم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، ثم بسط عليهم الكساء وقال: (اللهم! هؤلاء أهل بيتي، فأحب من أحبهم، وأبغض من أبغضهم). رواه مسلم. والمقصود به من كان معه، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! وأنا منهم. قال: (إنك على خير كثير) فالنبي عليه الصلاة والسلام يعطي كل أحد حقه، ويؤنس النفوس، ويذكر الفضائل، ولا ينبغي أن يشتغل الناس بقولهم: لماذا لم يكن هذا كذلك؟ فهل نحن الذين نعرف أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي كان يبلغ الوحي وما ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام؟! والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقول من ذلك شيئاً لميل نفس أو لهوى في نفسه عليه الصلاة والسلام، بل هو المعصوم صلى الله عليه وسلم من كل ذلك، وهو يبلغ عن الله سبحانه وتعالى، ولذلك ينبغي لنا أن نبقى مع النصوص، فإنه لا عصمة إلا بما هو من كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما أشكل من ذلك فمن كان يعرف الحقائق والقواعد الكلية قاده ذلك إلى بصيرة تجعله مصيباً للحق غير مجانب له أو ذاهب إلى إفراط أو إلى تفريط، فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، ولو كان مثل هذا مما يجتنب لما أورده البخاري في صحيحه، ولما أورده مسلم في صحيحه، ولو كان الحال كما يقول أولئك القوم: إن أهل السنة لا يحبون آل البيت فلم ذكر أهل السنة مثل هذه النصوص؟ ولم ذكروا هذه الفضائل؟ ولم ذكروا هذه القصص التي فيها بعض ما قد يكون شبهة؟ إنما نقلوا وأثبتوا وبينوا ما كان عليه أولئك النفر الأخيار الأبرار الأطهار من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين نبرئهم مما نبرئ منه أنفسنا، فهم من باب أولى في ذلك الأمر.

موقف فتيان الصحابة من تقديمه صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين وحبه لهما

موقف فتيان الصحابة من تقديمه صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين وحبه لهما Q هل كان الفتيان يشعرون بالغيرة عندما كان صلى الله عليه وسلم يقدم الحسن والحسين؟ A إن أوضاعنا وأحوالنا وخلل نفوسنا وطبيعة حياتنا أصبحت تسيطر علينا، وننظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وكأنه لا يدرك أنه نبي الأمة كلها، وكأنه لا يفيض على أمته كلها مما عنده من الخير. لكنه جد الحسن والحسين، وليس جد ذلك ولا ذاك، ألم يكن الناس غير النبي عليه الصلاة والسلام يحبون أحفادهم حباً أكثر من غيرهم من أبناء الناس؟ أفليس الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً في هذا؟ ثم عندما يخبر بهذا فهو معصوم يخبر عن وحي الله سبحانه وتعالى. وإنما ما كان من حياتنا أو ما هو من طبيعة أحوالنا وتغيراتها قد يجعلنا نضطرب في مثل هذا الأمر، ونسأل مثل هذه الأسئلة! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ونرضى. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما نسمع، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل القول حجة لنا لا علينا، وأن يملأ قلوبنا بالإيمان، وأن يجعلنا مقتفين لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم مستمسكين بسنته متبعين لآثار أصحابه رضوان الله عليهم. ونسأله سبحانه وتعالى أن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قضية فلسطين بعد العراق

قضية فلسطين بعد العراق منذ عقود والمسلمون يبكون ليلهم ونهارهم، ولم يستطيعوا الخروج بنتيجة ولو يسيرة في قضية فلسطين، فأروقة السياسة ودهاليز المباحثات ميعت القضية وضيعت المصطلحات، وما زالت كذلك مع الأيام في ازدياد، ولا ندري إلى أي مدى ستصل، وها هي قضية العراق تفتح أبوابها لتكون قضية أخرى كسابقتها كل هذا من أجل ضمان أمن دولة المسخ المصطنعة على أرض الإسلام، دولة إسرائيل المزعومة.

قضية فلسطين في عقيدة الأمة الإسلامية

قضية فلسطين في عقيدة الأمة الإسلامية الحمد لله، الحمد لله رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، له الحمد سبحانه وتعالى؛ خلق فسوى وقدر فهدى، وجعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، وجعل الدائرة على الكافرين؛ له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الجراح كثيرة، ولكننا نعلم أن بعضاً أخطر من بعض، وجرح القدم ليس مثل جرح في البطن، وليس هذا مثل جرح في الرأس، ولا يمكن أن تقاس هذه الجراحات كلها بجرح في القلب يوشك أن يكون سبباً للوفاة، قال ابن القيم رحمه الله: (الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل)، نشرق ونغرب، نتحدث عن جرح نازف هنا أو هناك، نتحدث عن مأساة في العراق أو عن مشكلة وقضية في الشيشان، ونذهب يمنة ويسرة لكن قضية القلب، قضية الأثافي، ومحور الصراع، وقطب الرحى، وملتقى المعارضة والمواجهة الدينية العقدية، والصراعات الحضارية الثقافية لابد لنا دائماً وأبداً أن نعيد القول فيها ونزيد، ولابد أن ندرك عظمة أهميتها. والقضية الأكثر خطراً، والأعظم أهمية: قضية فلسطين وبيت المقدس ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى الذي فتحه الصحابة ورووه بدمائهم في سبيل الله، هذه القضية الفلسطينية التي ما يجري شيء في واقعنا المعاصر إلا وله صلة بها، وهي أساس فيه؛ حتى مأساتنا القريبة التي تحدثنا عنها وزدنا القول فيها إنما هي حدث ضخم كبير طريقه وجسره إلى قلب الأمة في أرض فلسطين. ولعل كل عاقل يدرك بجلاء ووضوح ما هو جلي رأي العين، ودويه ملء الآذان فيما يجري الآن؛ فقضية فلسطين مرتبطة دون فاصل زمني ودون تباعد سياسي، ودون مغالطات أو مداورات بين ذلك الحدث العظيم وما يدبر ويضغط على تحقيقه في أرض فلسطين، ودعك من هذه الأسماء التي تدور هنا وهناك، ولسنا في مقام هذا المنبر نتحدث عن الأحداث كنشرة إخبارية ولا عن الوقائع كتحليلات سياسية؛ فمنطقنا عقيدة إيمانية، وحديثنا آيات قرآنية، وأخبارنا أحاديث نبوية، وتقريرنا وقائع تاريخية، وشواهدنا حقائق واقعية. ينبغي أن ندرك تلك الحقائق أولاً، وأن نعيها، وقد قلناها من قبل ولكنه لابد من إعادتها وتكرارها، لأننا لا ينبغي أن ننصرف إلى بنيات الطريق، ولا ينبغي أن ننشغل بالجراح الجانبية مهما عظمت وننسى الجرح الأكبر؛ إنه ليس من العقل أن نفرغ جهودنا لعلاج الأقدام وجروحها، أو البطون وشقوقها أو غير ذلك وننسى علاج القلب الذي إن وقف نبضه فلن يجدي شيء بعد ذلك. قضيتنا الأولى قضية إيمان وعقيدة، إنها ليست قضية أرض وطين ومفاوضات سياسية، ولا قضية دول وسلطة ذاتية وغير ذاتية؛ إنها قضية آيات قرآنية؛ قبلة المسلمين الأولى التي توجه إليها النبي صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام نحو ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]، فخاض في ذلك اليهود -عليهم لعائن الله- منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إما أن قبلتك الأولى صحيحة فانصرفت إلى باطل، وإما أنها ليست صحيحة فكنت على ضلال، فأنزل الله سبحانه وتعالى ما يرد مقالتهم، ويبطل إرجافهم، وثبت أهل الإيمان على أمره سبحانه وتعالى. ومن بعد ذلك كانت تلك البلاد مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسري به من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى ليصلي بالأنبياء إماماً، ثم يكون عروجه إلى السماء منها عليه الصلاة والسلام، ليدل ذلك على وراثة الإسلام لكل الرسالة والأديان، وعلى إمامة المصطفى صلى الله عليه وسلم لسائر الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، وليظهر أن الإسلام هو الدين الأحق بأرض النبوات، وتاريخ العقائد والديانات الربانية الإلهية بعد أن تنكر لها وجحد رسلها، وحرف كتبها اليهود -عليهم لعائن الله- وضل في الضلال من كان كذلك من النصارى. ثم من بعد ذلك الفضيلة الثابتة الدائمة التي لم ترتبط بتاريخ ولا بوقت بعينه: (لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى)، إنها استثناءات قالها سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، إنه تعبد شرعه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، إنه دين لا يملك أحد تغييره ولا تبديله، وفي حديث أبي ذر في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول بيت بني لله عز وجل؟ فقال: البيت الحرام، قيل: ثم أي؟ قال: بيت المقدس)، فنحن عندما ننظر إلى هذه الأصول، نعرف أن هذه هي الأرض التي باركها الله عز وجل، وجاءت الآيات تترا في كتاب الله تبين ذلك: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، وهي الأرض المباركة التي يبقى ويظل لها صلتها وارتباطها بالإسلام إلى آخر الزمان وإلى قرب قيام الساعة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد مسند أبيه، والطبراني بسند رجاله ثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم إلا ما أصابهم من لأوى -أي: من أذىً وضر في تلك المواجهات- قالوا: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أحاديث شتى، وأخبر أن: (عمود الكتاب رفع، قيل: أين ذهب به يا رسول الله؟ قال: إلى بلاد الشام). مرة أخرى أيها الإخوة! تلك آيات تتلى، وأحاديث تروى هل تنسخها السياسية القذرة؟ هل تنسخها المفاوضات الدنيئة؟ هل ينسخها الرجال الأقزام؟ إن رضينا بذلك فإننا نرضى لأن ننسخ جزءاً من إيماننا وعقيدتنا، وأن نلغي حقائق مذخورة مكتوبة محفورة في كتاب ربنا وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فلننتبه لذلك ولننظر اليوم إلى صفحات التاريخ المشرقة ونحن نعرفها، لكننا نريد أن نقول: إن هذا القرآن والسنة كانت ملء قلوب أسلافنا؛ فعرفوا كيف يتوجهون على مراد الله، وعلى منهج الإسلام، وعلى درب الجهاد، وعلى طريق العزة، وعلى إقامة الحق ورفع رايته. يوم فتحها عمر رضي الله عنه فتحاً عظيماً ليس في التاريخ له مثيل، فتح قوة الإيمان أمام أباطيل الكفر وانحرافاته، فتح قوة الحق أمام أراجيف الباطل وظلماته، فتح قوة الحضارة أمام الهمجية، وفتح نور الإسلام أمام تلك الظلمات العظيمة، فتح العدالة التي ألغت الظلم، فتح السلم الذي عم بخيره الناس جميعاً، وكانت معاهدة عمر التي أثبتت سماحة الإسلام، وأظهرت ترجمته العملية في واقع الأمة الإسلامية، وكانت تلك الصورة الحضارية العظيمة لأمة الإسلام يوم كانت على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن بعد ذلك جاء تحرير صلاح الدين بعد عقود وقرون متتالية فجدد ذلك العهد الأول، وأثبت أن منهج الإسلام لا يتغير، وأن الحقائق فيه لا تتبدل، وأن أراجيف اليوم إنما هي كذب وافتراء روجته وسائل الإعلام الصهيونية، ورددته -وللأسف- وراءها وسائل الإعلام العربية والإسلامية، وراجت تلك الفتن والأباطيل، وأصبحت اليوم من المسلمات، حتى نظرنا اليوم فإذا بنا نرى العقد ينفرط حبة حبة، ويوشك -إلا من رحمه الله- ألا يبقى فيه حبة. منذ سنة 48 ضيعوا وضيعت الأمة شطراً من القدس، ولحقها الباقي في 67، وتوالى من بعد ذلك ما يراد له أن يضيع في دهاليز السياسية والمفاوضات عبر تلك الألاعيب والأحاييل التي تضيع حق الإسلام والمسلمين في أرضهم وديارهم، بل في عقيدتهم ودينهم.

مفارقات بين ساسة الإسلام وساسة اليهود

مفارقات بين ساسة الإسلام وساسة اليهود نرى المفارقة العجيبة بين الذين يتصدرون لهذه القضية باسم العروبة والإسلام، وبين اليهود -عليهم لعائن الله-، إنهم في كل حركة وسكنة، وفي كل تصريح وكلمة، وفي كل جولة ومفاوضة يعلنون حقائقهم الدينية، ويعلنون واقعهم المفروض، ولا يفرطون بشيء، والآخرون يتراجعون خطوة بعد خطوة بعد خطوة، حتى لم يعد لهم شيء إلا الهاوية التي في حقيقة الأمر قد وقعوا فيها وتدنسوا بوحلها شاءوا أم أبوا، انظروا إلى الفروق العجيبة بين تلك التراجعات والتنازلات وبين ما كان يصر عليه اليهود ليس عندما قامت دولتهم الغاصبة بل قبل ذلك. زعيم الصهيونية هرتزل في عام 1902 تقدم بطلب للسلطان عبد الحميد العثماني رحمه الله آخر الرجال والحكام الشرفاء الأطهار الذين وقفوا بقامة الإسلام وعزة الإيمان، وثبتوا على مواجهة مطامع اليهود وتدنيسهم، تقدم اليهودي الصهيوني الأكبر طالباً إنشاء جامعة في القدس، وقال في طلبه: إنها ستنشر العلم بين أبناء بلاد الشام بدلاً من أن يسافروا إلى بلاد أخرى، ويتعرضوا لتأثيرات الثورات والأفكار وغير ذلك، فأبى الخليفة المسلم المؤمن الغيور. وما إن جاء الانتداب البريطاني وقبل أن يستتم، وقبل أن يبدأ في حقيقة الأمر، وقبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية جاءت هذه الجامعة عام 1918 وأسسها اليهود، وافتتحها وأصر على حضورها بلفور؛ صاحب الوعد المشهور؛ الذي أعطى فيه ما لا يملك لمن لا يستحق، وجاء ليقول في ذلك الزمان قبل أن تقوم الدولة الغاصبة بعقود من الزمان: (إنه يأمل أن تصبح هذه الجامعة مركز إشعاع سياسي وقومي للحركة الصهيونية في جميع منطقة الشرق الأوسط من سيناء إلى سوريا إلى شرق بغداد إلى مدى أوسع من ذلك)، قاله ذلك الصهيوني اليهودي قبل أن نسمع ونعي ما يدور اليوم من هذه الأحداث، وتشابك الأرض والبقاع، وما وراء ذلك عظيم! ثم انظروا إلى سياسة اليهود التي قبلها: الضعفاء أو الأذلاء، أو الخونة يوم جعلوا قضية القدس في كل جولة من الجولات تؤجل وتؤجل دون أن يطالبوا بتأجيل أي تغيير في واقعها، حتى أصبحت اليوم وقد امتلأت بالمستوطنات اليهودية، وقد منعوا وخربوا كل أملاك المسلمين والعرب، وأغلقوا أكثر المؤسسات، حتى صارت أو أرادوا ويريدون أن تصير يهودية صرفة ليس فيها للعرب والمسلمين إلا نسبة قليلة، ويكون الحل في آخر الأمر هو الاستفتاء على انضمامها لتلك الدولة أو تلك الدويلة، وينتهي الأمر إلى أن تكون نصوص القرآن والسنة وتاريخ الأمة ومصيرها مرتبط بألسنة اليهود ليقولوا: نعم أو لا، وذلك مسلسل واضح معروف. وللأسف الشديد نرى أن أعداءنا يبذلون له، لا ينسونه أبداً، منذ أول رئيس لدولة الكيان الصهيوني الغاصب، وهو يقول: (إن قضية القدس قضية إرادة عسكرية)، ويوم جاء المندوب السامي أو مندوب المفاوضات في ذلك الوقت ليعرض خطوة من خطوات السلام -التي لم نكن نسمع عنها إذاك- وقال: ينبغي أن يكون للعرب في القدس نصيب، فجاءه الجواب من وزير الخارجية: إن حكومة إسرائيل -اللعينة- شعرت بالامتهان البالغ بسبب اقتراحكم الخاص بمستقبل القدس، ذلك الاقتراح الذي نرى فيه شراً مستطيراً، ففكرة تسليم القدس للعرب يمكن أن تساعد على تسوية سلمية لا تزول بالخاطر إلا إذا تجاهل المرء تاريخ المشكلة وحقائقها، وهي الروابط التي تربط اليهود بالمدينة المقدسة، والدور الفريد الذي قامت به القدس في ماضي اليهود وحاضرهم، وهم يعلنونها عاصمة أبدية لدولتهم لا تقبل المفاوضات، وفي كل انتخابات لابد أن يعلن من يتصدر فيها مثل هذا الإعلان، ومع ذلك ما زالوا يقولون هذه الأسماء المختلفة.

وقفة مع أبناء المقاومة

وقفة مع أبناء المقاومة إن الجهاد الذي يجري ماض في طريقه لن يوقفه أو يؤثر فيه دهاقنة السياسة مهما أوتوا من الذكاء، ولا أرباب الفنادق والمؤتمرات، إنما الذي أربك خطط الأعداء، وأقض مضاجعهم، وجعلهم يحركون الآلة العسكرية الضخمة في هذه الحروب الهائلة ليصلوا إلى تركيع الجميع، وليفرضوا على الجميع قضية واحدة هي همهم الأكبر اليوم كيف توقف المقاومة الجهادية المسلحة في وجه اليهود عليهم لعائن الله؟ كيف يسخر الجميع لهذا الغرض؟ كيف توظف جميع القوى والتجمعات والمجتمعان والدول والمؤسسات لتحقيق هذا الهدف؟ كيف يركع الجميع ليؤمن الرمز الوحيد والعمل الوحيد الذي صارت وأصبحت تخشاه قوى الصهيونية ومن يحالفها من الصليبيين؟ إنه وقد ثبت هذا بالواقع المعاش في الحدث القريب في العراق -وفيما قبله- لم تعد هناك خشية من دول ولا من جيوش، ولا من مقاومة اقتصادية، ولا مواجهة إعلامية، ولا مجابهة حضارية، ولكن العملة الصعبة، والرقم الذي خرج عن المعادلة، والصوت الذي شذ ونشز عن هذه الفرقة كلها هو: صوت المقاومة الإسلامية الجهادية الباسلة، فهل نسيناها؟ وهل نظن أن طي صفحتها سيحقق ما يزعمونه من السلام؟ وهل يكون فيه أثر ونفع وفائدة لأمة الإسلام أو للعرب أو للشرق الأوسط كما هو المسمى الجديد؟ يريدون الدولة اليهودية أن تدخل في هذا النسيج بلا تمييز في الدين، ولتدخل في هذا النسيج الشرق أوسطي بلا تمييز في اللغة، ولتدخل في هذا النسيج بلا أي صلة بالتاريخ، وذلك أمره خطير! وهنا لابد أن نذكر أمرين مهمين لكي يكون الوعي بهذه الأمور عظيماً وكاملاً: أولهما: وقف المقاومة: إن وقف المقاومة كما قال أبناؤها وأبطالها: أمر مستحيل بالنسبة لهم، إنه أمر موتهم أو حياتهم، إنه أمر وجودهم أو عدمهم، إنهم قد قرءوا القرآن وعرفوا حقائقه، وقرءوا التاريخ وعرفوا سننه وقضاياه، ثم عرفوا واقع اليهود اليوم الذين كذبوا كما كذب أسلافهم، وغدروا كما غدر أسلافهم، وما زالوا يمارسون أبشع أنواع الجرائم على سمع الزمان والدول والمجتمع كله دون أن يتحرك ساكن، ودون أن يجف حبر ما يقال من هذه القرارات الدولية التي تطبق -كما هو معروف- بمكيالين، بل أقول بمكيال واحد؛ لأنه لا مكيال آخر غيره. القضية الثانية الخطيرة هي: قضية التطبيع؛ التطبيع الذي هو رفيق السلام، أو عربونه، أو شرطه الأول؛ إنه الاختراق الثقافي العقدي الديني، إنه كما وقع فيما سبق مما لم يكن مخفياً، ومما لم يكن بعيداً في زماننا هذا، قد وقع وأزيلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وغيرت الخرائط الجغرافية؛ لتكون المناهج وفق النظرة الصهيوينة الصليبية الاستعمارية، وذلك قد وقع فيمن وقع وطبع، فهل يراد لذلك أن يعم؟ تلك هي النظرة الخطيرة التي ينبغي الالتفات إليها. وأمر آخر وهو: التدمير الاقتصادي والهيمنة المالية التي يتقنها اليهود، والتي قد فعلوا بموجب تلك القرارات والاتفاقيات ما هو ظاهر للعيان مما يدل على عظمة خطورته. أضف إلى ذلك ما وراء ذلك من الاختراقات الأمنية، ومعرفة ما في داخل المجتمعات العربية والإسلامية؛ لئلا يكون هناك من بعد أي قدرة على أي عمل أو فعل، وهي تلك الأهداف التي يرمي إليها ذلك التطبيع. وأخيراً: التوطين لأبناء الأرض الذين شردوا ليستقروا في تلك البلاد التي هم فيها، أو ليهجروا إلى بلد واسع شاسع فيه ثروة نفطية، وفيه اليوم هيمنة استعمارية لتلف القضية، ولأن يكثر الصراخ وتصدع الرءوس بهؤلاء فليأكلوا وليشربوا، ولتنفق الدول عليهم، وليس هذا اليوم أيضاً؛ بل منذ أكثر من نحو عقد من الزمان عقد مؤتمر لشباب الشرق الأوسط -كما هو إعلانه- يجتمع فيه شباب من أرض فلسطين وغير فلسطين من بلاد العرب مع غيرهم من اليهود، مع بعض المجتمعات من بلاد الغرب؛ ليعطوا توصية للشباب وآمالهم وطموحاتهم المستقبلية، إنه على المجتمع الدولي أن يقوم بمهماته ومسئولياته الإنسانية تجاه هؤلاء المشردين في الأرض، وينبغي أن يخيروا في الاستيطان، وأن ينقلوا من تلك المخيمات غير الإنسانية لتوفر لهم أسباب الحياة المادية، ولتطوى الصفحة بعيداً عن الأرض التي انتزعها اليهود غصباً بالقوة العسكرية، وحيلة بالشراء والممارسات الاقتصادية، وهذه القضية اليوم هي قضية المسلمين الأولى كما كانت من قبل، فلعلنا نعي وننتبه إلى ذلك. نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بحقائق ديننا، وأن يعرفنا بالمخاطر التي تحدق بأمتنا، ونسأله جل وعلا أن يصرف عنا وعن أهل الإسلام في كل مكان الشر والضر؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

دور المسلمين في قضية فلسطين

دور المسلمين في قضية فلسطين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنين! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، ولعل قائلاً -أيها الأحبة- يقول: ولم مثل هذا الحديث مرة أخرى؟ أقول: أولاً: حتى لا ننسى الحقائق والثوابت الإيمانية والعقدية الإسلامية. ثانياً: حتى لا ننشغل ببنيات الطريق وحدها، وحتى لا ننصرف كل مرة إلى جهة يوجهنا إليها الأعداء بجرح نازف جديد، ولا نقيم على الجرح الأكبر في مقامنا ومرابطتنا. ثالثاً: أن قضية اليوم وحادث الساعة وحديث الوقت لم يعد العراق على الحقيقة، وإنما هو هذه القضية، وما يحاك لها، وما يضغط به على جميع الدول والمجتمعات والشعوب، وتأتلف عليه الدول كلها، وتجتمع عليه الاتحادات والمؤسسات الدولية التي ليس فيها -وللأسف الشديد- للعرب ولا للمسلمين ذكر ولا دور، وكأن تلك البلاد ليست بلادهم، والقضية ليست قضيتهم، والشعب والأمة ليس لهم به صلة ولا سبب ولا نسب، فهل رأيتم في تلك اللجان دولة عربية أو إسلامية؟ إنها من الشرق والغرب واليهود، وممن يصنعون ما يشاءون ويدبرون، وعلى الآخرين أن ينفذوا! رابعاً -وهو المهم-: ما هو دورنا وواجبنا؟ وكثيراً ما نؤكد على هذا، وكثيراً ما قد زدت وعدت في أمر مهم وهو دور الحكام والأمراء، ودور الدعاة والعلماء، دورهم عظيم، وواجبهم مهم، وعليهم ما عليهم، وفي تقصيرهم ما فيه، لكنني أقول: ما دوري ودورك؟ وهل سيعفو الله سبحانه وتعالى عنا أو لا يسألنا إذا فرط أولئك أو قصر هؤلاء؟ إننا مسئولون كل بحسبه، وأول هذه الواجبات: الوعي الصحيح، والإدراك التام، والمعرفة الحقة لهذه القضايا. الثاني: التوعية بها ونشرها وجعلها حديث المجالس والالتفات إلى ذلك دائماً وأبداً. الثالث والمهم: المقاومة السلبية، وأعني بها أن نكون صخوراً صلبة عصية على كل هذه المؤامرات، وألا نكون متقبلين لها، أو راضين بها، أو مروجين لها أو مسهمين في تحقيقها، ولو بغض الطرف، ولو بالإشاحة عنها، أو البعد عنها؛ إن الأمة الإسلامية اليوم في حالة عظيمة من حالات الوعي بخطورة أعدائها واستهدافهم لدينها، ولقوتها الاقتصادية، ومقوماتها الحضارية، بل ولوجودها كله، وقضية العراق كانت نموذجاً لفت الأنظار إلى ذلك، وكثر الحديث فيه على جميع المستويات السياسة والإعلامية والشعبية، ثم كاد أو عاد الحديث مرة أخرى ليخفت ونرجع إلى الانشغال بالطب والجراح والمساعدات على أهميتها. ثم أيضاً هذه المقاومة السلبية تعني ألا نكون سبباً في تقوية أعدائنا بأي وجه من الوجوه ألا نكون سبباً في تقويتهم اقتصادياً أو سياسياً أو إعلامياً، ونستطيع أن نفعل في ذلك الكثير، وبأيدينا أن نقاطع ونمانع، وأن نوجه ونوعي ونكشف ونفضح هذه الأمور بكل ما نؤتى من أسلوب وقدرة وحكمة حتى نشعر بذلك الانتماء. الأمر الرابع والأخير: المقاومة الإيجابية، ونعني بها العمل، والعمل تتنوع أساليبه بدءً من الدعاء والتعاون والتعاطف مع إخواننا في أرض فلسطين، ومروراً بدعمهم الاقتصادي والمالي لتثبيتهم، وإعانتهم على الثبات في وجوه أعدائهم؛ يكفي أيها الإخوة أن أشير إشارة واحدة إلى أن المقيمين في القدس لا يسمح لهم بأن يرمموا بيوتهم، ولا أن يصلحوها، ولا أن يغيروا فيها شيئاً، ومن أراد أن يبيع بيته يعطى أضعافاً مضاعفة من المال، ومن أراد أن يخرج يساعد على ذلك؛ فإن الأوضاع الاقتصادية التي تحيط بهم عصيبة جداً؛ فكيف لا نثبت هؤلاء مجرد تثبيت ليبقوا في أماكنهم، وأن يأكلوا ويشربوا ويعيشوا هناك في تلك المواقع ليكونوا على أقل تقدير شوكة في حلوق اليهود -عليهم لعائن الله- وهذا من أقل القليل؛ فضلاً عما يمكن أن يكون وراء ذلك، والحديث ذو شجون وذو حزن أليم، ولكنه من قدر الله الذي يوقظنا وينبهنا؛ لأن قضية القدس وفلسطين والمسجد الأقصى فيها خير كثير، وما ازدياد التآمر -بإذن الله- إلا مزيداً من اليقظة والوعي في الأمة، إنها قضية توحد الأمة وتمنع فرقتها، إنها تجمع قواها في اتجاه صحيح تجاه أعدائها بدلاً من أن توجه القوى فيما بينها، وإنها وراء ذلك تحيي من معاني الإيمان والإسلام والوحدة الإيمانية والإسلامية ما هو كفيل بأن يكون فيه خير كثير. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصرف عنا السوء والبلاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرد كيد الأعداء؛ نسألك اللهم أن تجعل إيماننا في قلوبنا عظيماً، ويقيننا في نفوسنا راسخاً، اللهم اجعلنا أوثق بما عندك من كل شيء في أيدينا، اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل اللهم لنا إلى سواك حاجة، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم وفقنا للاستمساك بكتابك ولاتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك متبعين، ولآثار الصحابة والسلف الصالح مقتفين، وللجهاد في سبيلك عاملين، وللبذل في نصرة دينك باذلين يا رب العالمين! اللهم استخدم جوارحنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين، اللهم اجعلنا عباداً لك مخلصين، وجنداً في سبيلك مجاهدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم واجعلنا من ورثة جنة النعيم يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك باليهود ومن حالفهم يا رب العالمين، اللهم عليك بهم أجمعين، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين. اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، يا قوي يا عزيز يا متين، أنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم ثبت خطوتهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تجعلنا لنصرة الإسلام والمسلمين من العاملين، وأن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر ذو القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وأقم الصلاة {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

معالم العصمة عند وقوع الفتنة

معالم العصمة عند وقوع الفتنة لقد ظهر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الفتن العظام التي محصت الناس فتبين المؤمن فيها من المنافق، والصالح من الطالح، والسعيد من الشقي، فتمايز الناس بأعمالهم وأوصافهم التي ذكرها حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وهناك مخارج ومعالم من أخذ بها اعتصم من الفتن، ونجا من مقت الله سبحانه وتعالى، وغضبه وعقابه.

كثرة الفتن وظهور علامات الساعة

كثرة الفتن وظهور علامات الساعة الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعظم عطاؤه، وعم نواله، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافةً أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وهدانا به من بعد الضلالة، وأرشدنا من بعد الغواية، وأعزنا من بعد الذلة، وكثرنا من بعد القلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن (معالم العصمة عند وقوع الفتنة) أمر مهم، وموضوع خطير نحن في أمس الحاجة إليه مع تعاظم البلية وتفاقم الرزية، وكثرة الاختلاف والتنابذ والتنابز بالألقاب، والتباعد والتجافي في الآراء، والافتراق والانقطاع في الصفوف، وغير ذلك مما نمر به ونشهده، نسأل الله سبحانه وتعالى العصمة من الفتنة، وإنه جل وعلا قد قدر الفتنة والابتلاء، والفتنة ابتلاء وامتحان واختبار، ثم صارت تطلق على كل مكروه أو كل ما يئول إليه الأمر من المكروه والسوء والشر والفساد، نسأل الله عز وجل السلامة، وقد اقتضت سنة الله سبحانه وتعالى وقوع الفتن وجريان المحن تمحيصاً للإيمان، وتمييزاً للصفوف، وابتلاء يصدق به الصادقون، ويظهر به الكاذبون، ويفتن به وينصرف عن الحق المنافقون، وقد قال سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. قال ابن كثير في تفسيره: هذا استفهام استنكار. أي: هذا السؤال على صيغة الإنكار، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان، وقال السعدي رحمه الله: سنته تعالى وعادته في الأولين وفي هذه الأمة أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر، وأن يسلط الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل ونحو ذلك من الفتن التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة وفتنة الشهوات المعارضة للإرادة، فمن صدق وثبت فأولئك هم المؤمنون. ثم بين عاقبة هذا الابتلاء، فقال رحمه الله: فمن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكاً وريباً، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات دل ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه. وكم نرى مَنْ تحير شكاً في الثابت المقطوع به من دين الله، بل من غير وبدل وصار مخالفاً مخالفةً واضحةً تامةً للمقتضى الظاهر البين مما جاء في آيات الله وثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنه ينبغي أن يعلم أن الإيمان ليس كلمةً تقال، وإنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، والفتنة هي الدالة على أصل الإيمان، وهي سنة الله جل وعلا الجارية، ونحن لا نشك أبداً في أننا في زمن فتنة وأحداث عظيمة وجليلة، لكننا عندما ننظر بنور الله، وعندما نستهدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكشف لنا حقائق الأمور، وتبدد ظلمات الشبهات، ونعزف بإذن الله سبحانه وتعالى عن إغراء الشهوات، ولعلنا نصف واقعنا المعاصر وحالتنا الراهنة التي يتكالب فيها الأعداء وتفترق فيها الآراء ليس بوصف من عندنا، ولا بقول من زماننا، وإنما بما ذكره المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففيما صح عند الشيخين من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وصف به أواخر الزمان قال عليه الصلاة والسلام: (يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج. قيل: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل). فهل ترى صورةً أوضح وأدق من هذا التعبير في وصف أحوالنا اليوم في تقارب هذا الزمان واختصاره -كما يطلقون عليه اليوم أنه أصبح كقرية صغيرة- وقبض العلم بموت العلماء، وذهاب المخلصين الصادقين منهم إلا من رحم الله؟ ولقد ظهرت الفتن واشتهرت كما ذكر الشراح، فتأتي فتنة عظيمة ترقق التي قبلها، وفتنة في الشرق تنسي فتنة الغرب، وفتنة في عقر الدار بعد فتنة في نائي الديار، حتى يرى الإنسان هذا الظهور والاشتهار والكثرة رأي العين، لا يحتاج إلى بيان، ولا إلى شرح. (ويلقى الشح) أي: يغرس في النفوس. وكم نراه ظاهراً! والهرج والقتل ما أدراك ما هو؟! وكم أعداده؟! وما هي أسلحته الفتاكة؟! وما هي جرائم القوى العظمى التي تتولى كبره وتنأى وتحمل عقابه وإثمه إنسانياً ودينياً؟ ثم كذلك ننظر إلى ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في صورة توضيحية أكثر، كما ورد في الصحيح عند البخاري ومسلم أيضاً من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أشرف على أطم من الآطام فقال لأصحابه: هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر) أليس قطر المطر يصيب كل شيء كل قطعة من الأرض وكل مكان من الأمكنة؟ وذلك من كثرة الشيوع وعموم البلوى بمثل هذه الفتن، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسى كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) رواه مسلم في صحيحه. والله لكأنا نرى ذلك رأي العين، نرى من اسمه اسم المسلمين وسمته سمتهم، ثم نرى حاله ومقاله وفعله لا يختلف عن فعل الكافرين، بل ربما كان أشد، ولأجل أي شيء يفعل ذلك؟ لا ترى سبباً، ولا تستطيع أن تبحث عن علة إلا أمر يتلعق بدنياه، حفاظاً على روحه، أو رعاية لمصالحه، أو حفظاً لمطامعه، أو خوفاً على شيء من عرض هذه الدنيا. قال الحسن البصري في تعليقه وبيانه لهذا الحديث -وهو من أفصح البيان وأوضحه-: يصبح الرجل محرماً لدم أخيه وعرضه وماله ويمسي مستحلاً له. أهواء تعبث، ومصالح تحكم، ودين يضوي، وإيمان يرق، ويقين يضعف، نسأل الله عز وجل السلامة. ثم يقول الحسن رحمه الله عندما ذكر قوله: (يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل): فو الله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً، وأجساماً ولا أحلاماً، فراش نار، وذباب طمع، يغدون بدرهمين، ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز. (والله لقد رأيناهم) من القائل؟ الحسن البصري، في أي زمن؟ في زمن التابعين، مع وجود بعض الصحابة الغر الميامين، (والله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً، وأجساماً ولا أحلاماً) ثم بين حالهم، أفلسنا نرى من ذلك ما هو أظهر وما هو أشهر وما هو أكثر وما هو أخطر؟ بلى والله، ومن لم ير ذلك فربما لم تكن له عين بصيرة، نسأل الله عز وجل السلامة.

الآيات ووصفها الجلي للطوائف المعاصرة

الآيات ووصفها الجلي للطوائف المعاصرة لنتأمل هذه الومضات الإيمانية القرآنية التي تبين الافتراق بين المؤمنين الصادقين وبين المنافقين الزائغين والكافرين المعتدين الظالمين، والتي تبين كيف تمحص الفتن الناس، وكيف تظهر مكنونات ما في قلوبهم، وتخرج دخائل نفوسهم، وتظهر خواطر عقولهم، وتكشف ذلك في فلتات ألسنتهم، وفي كثير من أحوالهم وأفعالهم. قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، بمجرد الابتلاء اليسير والمحنة العارضة نجد من ينسلخ من دينه ويتجرد من إيمانه، ويمسخ حتى من فطرته وخلقه، لأي شيء؟ لأجل عذاب دنيوي، أو لأجل رهبة بشرية، وينسى عذاب الآخرة، وينسى قوة الله رب الأرباب وملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ينسى أن أمر الله جل وعلا بين الكاف والنون، وأن كل قوى الأرض لا يمكن أن يكون لها أثر ولا ذكر ولا خبر إذا أراد الله سبحانه وتعالى إفناءها، وإذا أراد الله عز وجل ردها في نحور أربابها، وإذا أراد الله عز وجل أن تكون شقوة لمن يأخذون بها ويؤذون بها ويعتدون بها. وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]. أليس هذا حالاً نراه؟ أليست هذه صورة ينبغي أن تمتلئ قلوبنا رهبة وخوفاً من أن نكون من أربابها أو أن نكون من أصحابها؟ إنها الفتن التي تقلب القلوب، وتعبث بالآراء، فإن لم تكن لنا عصمة من الله فسنضيع مع الضائعين، ونزيغ مع الزائغين، ونهلك مع الهالكين. نسأل الله عز وجل أن يعصمنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينجينا، وأن يجعلنا أوثق بما عنده مما في أيدينا. إننا إذا تأملنا وجدنا حالاً تصوره الآيات يشبه حالنا اليوم وقد تكالب علينا الأعداء، وقد اختلفت آراء الأولياء والأحباء، بل تضاربت مصالحهم، بل وقد تهيأت أسباب ظهور صراعهم وعدائهم، وصارت جلية واضحة. أي شيء في كتاب الله يصور لنا ذلك؟ قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141]، سبحان الله! كأن الآيات تنطق بألسنة كثير ممن يقع منهم ذلك في هذا اليوم {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]. قاعدة مطردة، نفي مؤبد، هذا كلام رب العالمين (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) أين هم؟ إن وجدوا فلن يكون للكافرين عليهم سبيل، قد تكون جولة، ولكن الدولة تعود إلى أهل الحق إلى قيام الساعة. ولكن كثيراً من الناس لا يوقنون، وعند الشدة لا يثبتون، وذلك هو أثر الفتنة التي يقضيها الله عز وجل، فإن ثبت الثابت واعتصم بالله عز وجل فيوشك عما قريب أن تنكشف الغمة، وأن تفرج هذه الملمة، وأن يكون للناس من ورائها خيرٌ عظيم وفرج كبير ونصر عظيم، ولكن كثيراً من الناس لا يوقنون، ولكن كثيراً من الناس لا يصبرون ولا يثبتون، نسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك، وعندما نتلو هذه الآيات نجد ما بعدها مباشرة: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].

معالم العصمة من الوقوع في الفتنة

معالم العصمة من الوقوع في الفتنة من مواقف المنافقين أنهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أي شيء أوضح من بيان أن هذه المواقف هي مواقف النفاق الذي لا يصدق معه الإيمان؟ إنما يكون ظاهراً لا باطناً، وإنما يكون صورةً لا حقيقة، وإنما يكون مداهنةً لأغراض وليس صدقاً كما هو الأصل في هذا الإيمان، ولسنا نريد أن نفيض الحديث عن الفتنة، فإنها مما يراه الناس ويعرفونه، لكننا نريد أن نقف مع معالم العصمة من هذه الفتنة والنجاة من هذا الهلاك والخروج من هذا المأزق، سيما وأن الأحداث تتوالى، وأن البلايا تتعاظم، والله عز وجل قد من علينا بكثير مما نحتاج إليه، ونحتاج إلى التبصر به حتى نسلم بعون الله عز وجل، وهذه بعض المعالم:

الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر الأول: الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. قال الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل شأنه وثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً، يريد بذلك تعالى ذكره: تمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله. وقال ابن كثير: وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ. يعصمون من الخطأ إذا ائتلفوا واتفقوا، وينجون من الآراء الزائغة والمواقف الحائرة والمواقف الخاطئة كذلك، والله سبحانه وتعالى قد بين ذلك في آيات كثيرة: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، عندما تأتي الفتن وتشتد المحن نجد الناس يلجئون ويفزعون إلى ما يظنونه مستمسكاً ومستعصماً وملاذاً، فبعض الناس يرجع إلى قوى من قوى أهل الدنيا وإن كانت قوىً كافرةً باغيةً ظالمة، يلتمس الأمن في ظلالها، والحماية في جوارها، والنصرة في طريقها أو في مسيرها، وذلك من أعظم الزيغ وأشد الفتنة، وأكبر الارتداد عن دين الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل السلامة. والله جل وعلا يبين أنه لا عصمة إلا لمن اعتصم به، يقول سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:146]، وغير أولئك لا ينجون، وغير أولئك لا يصيبون، وغير أولئك لا يكون لهم ما يقع به أمنهم من الخوف، ولا نجاتهم من الهلكة. لا بد أن نتأمل في هذه الآيات وفي غيرها، وكذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175]، لا شك أن المسائل مختلطة، وأن الأمور محيرة، فكيف تنكشف الطريق؟ وكيف يعرف المسار؟ وكيف تنجلي الغمة؟ وكيف تكشف الظلمة؟ إنه لا كشف إلا بنور الوحي، ولا بصيرة إلا ببصيرة الإيمان، ولا معرفة إلا بمعرفة اليقين، فكلما اعتصمنا بكتاب ربنا اعتصاماً حقيقياً عن وعي وإدراك، وعن إيمان ويقين، وعن ثبات وصبر فإن ذلك هو العون الأساسي.

تقوى الله

تقوى الله الأمر الثاني: تقوى الله، ونعني التعلق الذي يزداد عند الفتن والمحن، والذي يعظم عند اشتداد الكرب والبلاء، مع أن كثيراً من الناس إذا ازدادت الشدة ذهلت عقولهم، وفزعت قلوبهم، فانصرفوا عن حياض التقوى، وخرجوا من دائرة العبادة، ولم يكن ذلك دافعاً لهم لمزيد من التعلق، وللإكثار من الارتباط بالعبادة والطاعة؛ لأن الناس في وقت الفتن يذهلون وينشغلون بأمور أنفسهم، وينصرفون كثيراً عن أمور تعلقهم بطاعة ربهم وعبادته سبحانه وتعالى، أليس قد قال الحق جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]؟ كن مع تقوى الله وسوف تجد -بإذن الله عز وجل- كل عسير يسيراً، وكل صعب سهلاً، وكل مغلق مفتوحاً، وذلك وعد الله القاطع الذي لا يتخلف بإذن الله عز وجل. وتأمل كيف يبين النبي صلى الله عليه وسلم أثر العبادة في وقت الفتنة على وجه الخصوص، وفي ذلك أحاديث كثيرة عندما تتأملها تدرك أنه كلما زادت الفتنة ينبغي أن تزيد من العبادة والطاعة، هذا حديث معقل بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العبادة في الهرج كهجرة إلي) رواه مسلم، وفي رواية أخرى عند الطبراني -وهي صحيحه-: (عبادة في الهرج أو الفتنة كهجرة إلي) قال الشراح: لما كانت فتنة الدين كانت النجاة منها في زمنه صلى الله عليه وسلم الهجرة إليه وإلى دار الإسلام لتثبيت الإيمان وإعلاء رايته، والعبادة لله عز وجل، فلما كانت الفتن بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كان المنجى هو العودة إلى العبادة والطاعة، والاستكثار منها، فهي هجرة من المعاصي إلى الطاعات، ومن الفتن إلى الثبات، ومن كل سوء إلى كل خير بإذن الله سبحانه وتعالى، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السجدة في زمن الفتنة تعدل الدنيا وما فيها، وكم نرى من الناس انصرافاً وذهولاً، فكلما اشتد الخطب زاد الشرود والبعد والغفلة عن الطاعة والصلة بالله سبحانه وتعالى.

دعاء الله جل وعلا

دعاء الله جل وعلا الأمر الثالث: دعاء الله جل وعلا، وقد يكون ذلك مندرجاً فيما قبله، لكن التفصيل مهم، وذكر الآحاد والأفراد مهم، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، أفليس وقت المحن هو وقت الدعاء الخالص الذي ينطرح فيه المؤمنون بين يدي الله؟ أليس رسولنا صلى الله عليه وسلم قد ضرب لنا المثل في سيرته في كل شدة ومحنة؟ كانت يداه الكريمتان مرفوعتين تضرعاً إلى الله، وعيناه تذرفان تبتلاً وخضوعاً وتضرعاً إلى الله، وقلبه يخفق، ولسانه ينطق، إنها صورة لا بد أن تعظم وأن تكثر في حياتنا الذاتية عموماً، وعند هذه الفتن خصوصاً. والله سبحانه وتعالى بين لنا أثر الدعاء، وبينه لنا في سير الرسل والأنبياء، كما في قصة آدم وزوجه: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، عندما وقعت الفتنة بالأكل من الشجرة كان المخرج الدعاء والتبتل والتضرع لرب الأرض والسماء، فكان الفيض، وكانت التوبة، وكانت النعمة من الله سبحانه وتعالى على آدم. وفي قصة يونس عليه السلام نعرف جميعاً ماذا كان يقول في جوف الحوت، وماذا كان دعاؤه وذكره الذي كان سبباً من أسباب تفريج همه وكربه ونجاته مما ألم به: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وفي مثل هذا الدعاء إقرار بالخطأ، واعتراف بالذنب، ورجاء وابتهال، وتضرع بطلب السلامة من الآثار الوخيمة، ولذلك ورد كذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللفظة {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] قال عليه الصلاة والسلام: (لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) رواه الترمذي في السنن. ومن الدعاء الاستغفار، وهو من أسباب النجاة، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]. والإكثار من الذكر، كما في قصة يونس: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]، والله سبحانه وتعالى جعل لنا أنواعاً من ذكره ودعائه والتبتل إليه من اعتصم بها وأدمن عليها وأكثر منها حيي الإيمان في قلبه، وعظمت التقوى في نفسه، وانكشفت البصيرة في عقله، وأصبح له من نور الله ومن اعتصامه به ومن دعائه له ومن تضرعه إليه ما يفيء به إلى خير كثير بإذن الله. ومن ذلك الاستعاذة والتعوذ من هذه الفتن وشرورها وضلالها وزيغها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) رواه مسلم. وقال ابن مسعود رضي الله عنه في هذا التعوذ: لا يقولن أحدكم: إني أعوذ بالله من الفتن؛ فإنه ليس أحد منكم إلا وهو مشتمل على فتنة: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن. نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من مضلات الفتن، وأن يصرفنا عنها، وأن يفيء بنا إلى الحق والثبات، والاعتصام بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

الصبر والثبات

الصبر والثبات من معالم العصمة من الفتنة الصبر والثبات، ولا بد من ذلك، فإنها محن لا بد أن تصيب بالأذى، ولا بد أن يشعر بما فيها من البلاء، ولكن الصابرين بإذن الله عز وجل تكون لهم الغلبة والمخرج السالم البريء من أثر وخيم على إيمانهم ويقينهم، أو على سلوكهم وأخلاقهم، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:155 - 157]. هذه آيات ناطقة بأثر هذا الصبر في مثل تلك المحن والبلايا، وقد قال جل وعلا: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120] لا يضرنا كيد الكائدين، ولا ظلم الظالمين، ولا عدوان المعتدين، وأهم شيء أن لا يضرنا في ديننا واعتقادنا وإسلامنا وثوابتنا والتزامنا شرع الله سبحانه وتعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر). وقال في دلالة هذا الصبر عند المحن: (يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر)، ومن هذا الصبر -كما ذكر العلماء- الصبر بكف اللسان، والمنع من الخوض في الفتن من غير بصيرة وعلم وبيان، ونحن نعلم أن كثيراً من القول في مثل هذه الأحوال باندفاع وعواطف ومجاراة لمن يقول ويخوض مع الخائضين إنما تعظم به الرزية، ويكثر به الاختلاف، وتعظم به الحيرة والاضطراب، وكثير من ذلك ليس له أساس يثبت، وإنما هو محض هذه الاضطرابات والاختلافات، وكذلك التنابز بالألقاب، والاختلاف بين الناس يعظم أثره بما يكون من قول اللسان في هذه الفتن، حتى عظم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك على وجه الخصوص في الفتنة، كما روى عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تكون فتنة تستنظف العرب) أي: تستوعبهم هلاكاً، (تكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف) رواه أبو داود وابن ماجة في سننهما، وأحمد في مسنده بسند صحيح. (اللسان فيها أشد من وقع السيف) وذلك أمر مهم.

الإيمان بالولاء والبراء

الإيمان بالولاء والبراء ولعلنا نختم هذه المعالم بحقائق الإيمان وأباطيل الكفر، ومعرفتها في ضوء هذه الثوابت، فإننا نعرف من حقائق الولاء والبراء، ومن حقائق معرفة الظلم والاعتداء، ومن حقائق وجوب نصرة أهل الإيمان والإسلام، ومن حقائق الولاء لهم والبراء من أعدائهم ما ينبغي أن لا يتغير؛ لأن آيات القرآن لا تتغير، ولأن الحقائق الإيمانية الثابتة المقطوع بها لا تتبدل، والله عز وجل قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1]. وبين الله سبحانه وتعالى لنا حقيقتهم فقال: {إِِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]. وقال سبحانه وتعالى لأهل الإيمان وضرب لهم مثلاً وعبرة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [الممتحنة:4]، وهذا أمر واضح ميزانه، وتفريقه هو الإيمان والكفر، من آمن بالله رباً، وبرسوله صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً فهو الذي نواليه، ومن برئ من ذلك، بل وحاربه وعاداه فنحن أعداؤه إلى يوم الدين، بدل من بدل، وغير من غير، سيما إذا اجتمعت حقائق أخرى من الظلم والبغي والعدوان؛ فإن الله عز وجل قد بين ذلك بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9]. وأولئك قوم قد عرفنا أنهم أصحاب كل قتال لأهل الإسلام في كل ميدان، قد شهدت بذلك أدغال إفريقيا، كما شهدت به مواطن الضياء التي يزعمون في أوربا، كما شهدت به مواقع شرق وغرب كثيرة، ولا ننس أنه لا بد لنا من معلم مهم، وهو النظر الشامل الكامل في الأحداث، فإنها ليست قضيةً واحدة، وإنها ليست مسألةً عارضة، وإنها ليست مصلحةً عابرة، وإنما هي قضية شاملة، ومواجهة كاملة، نحن لن ننسى، ولا يمكن أن ننسى، ولا ينبغي أن ننسى قضيتنا الأولى في حرب أهل الإسلام والإيمان مع اليهود وأحلافهم من الصليبيين والنصارى، وقضية فلسطين ليست مما يجري ببعيد، بل هي أساسها وجوهرها، وهي هدفها وغايتها، وهي طريقها ومعبرها، ينبغي أن ندرك حقائق كلية شاملة، لا أن نسير مع السائرين، إن تحدثوا غرباً نظرنا غرباً، ولم يكن لنا إلا الغرب، وإن جاءوا شرقاً ذهبنا معهم، واهتممنا بما يقولون وما يفعلون، وننسى أن وراء ذلك الحقائق الثابتة والتاريخ الذي تشهد له ليست الأيام ولا الأعوام بل العقود والدهور والقرون، ولذلك ينبغي أن نعرف ذلك وأن نحرص عليه. وأخيراً لا بد من الحرص فيما بيننا على أن نكون على قلب رجل واحد، وأن نسد أبواب الفتن والاختلاف التي تعظم الفرقة وتزيد الفتنة، حتى نبرأ بإذن الله عز وجل، وتنكشف الغمة، وتنجلي هذه الملمة، ولا بد لها من أن تكون كذلك، وليس لها من دون الله كاشفة. نسأل الله عز وجل أن يرد كيد الكائدين، وأن يدفع شرور المعتدين. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهلك الظالمين، وأن يقصم ظهور الجبارين، وأن يرينا فيهم عجائب قدرته وعظيم سطوته. اللهم! زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، ورد كيدهم في نحرهم، واجعل بأسهم بينهم، واشغلهم بأنفسهم، اللهم! اجعلهم عبرةً للمعتبرين، اللهم! لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم! اجعل عدوانهم بدايةً لضرهم، وبدايةً لشرهم، وبداية لما يعود عليهم بالأذى والهلاك بإذنك يا رب العالمين. نسألك -اللهم- أن تعيذنا من شرورهم، وأن تبرئنا من كيدهم، نسألك -اللهم- أن تحبط كيدهم، وأن تبطل مكرهم، وأن تجعل الخلف فيما بينهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار. نسألك -اللهم- أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم! خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، ووفقنا لطاعتك ومرضاتك يا رب العالمين. اللهم! اجعلنا بكتابك معتصمين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم مستمسكين، ولآثار السلف الصالح رضوان الله عليهم مقتفين، اللهم! اجعلنا أوثق بما عندك مما في أيدينا، اللهم! لا تجعل لنا إلى سواك حاجة، واجعلنا -اللهم- أفقر الفقراء إليك، اللهم! أغننا بفضلك عمن أغنيته عنا، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجةً يا رب العالمين، اللهم! إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن ترفع بفضلك كلمة الحق والدين، وأن تهلك رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم! رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى والمأسورين والمحاصرين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! فرج همهم، ونفس كربهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم! زد إيمانهم، وعظّم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادةً لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنةً لهم في الدين. اللهم! اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك -اللهم- من شرورهم، اللهم! أنزل بأعدائك بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم! انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين، وفي كشمير، وفي الشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت خطوتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم! أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، يا قوي يا عزيز يا متين. اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانةً صالحةً تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

فوائد الفضائل

فوائد الفضائل لا تزال منح الله تعالى تتوالى على العباد في كل أيام السنة، ومع هذا فقد جعل الله لهم مواسم يزدادون فيها من الطاعة، ومن أعظم تلك المواسم والمنح الحج؛ إذ فيه يوم عرفة الذي يكفر الله بصيامه ذنوب عامين، وأما الحجيج فلهم عند الله ما هو أعظم، فالله يخرج أهل الموسم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، هذا مع ما يحيط بهذا الموسم من الطاعات والقربات العظيمة لله سبحانه وتعالى.

خصائص أيام عشر من ذي الحجة

خصائص أيام عشر من ذي الحجة الحمد لله جعل العديد من الفضائل في هذه العشر، ووعد فيها جل وعلا بجزيل الأجر، وجعلها فرصة لتكفير الخطايا ومحو الوزر، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من البركات، وما أوسع من الرحمات، فله الحمد جل وعلا ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى ومنار التقى، وشمس الهداية الربانية، ومعلم الرحمة الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فالفضائل التي يسوقها الله جل وعلا لنا في أيام الدهر من نفحات الرحمات، ومن أبواب البركات، ومن مضاعفة الأجور والحسنات، ومن محو الخطايا والسيئات، هذه الفضائل لها فوائد عظيمة، بها تحيا القلوب، وتنشط النفوس، وتدكر العقول، وتستقيم الجوارح، وبها كذلك -من فضل الله عز وجل- تكون الفرصة للمراجعة والمحاسبة وللتقويم والاستدراك على مستوى الفرد والأمة كلها. وهذه الفضائل لابد لها أن تغير في حياة المسلم المسار والمنطلق الذي قد يغفل عنه في بعض الأحيان، وقد ينحرف عنه في أحيان أخرى، وقد يستبدل غيره به في أحيان ثالثة، فتأتي هذه المواسم لترده إلى المنطلق الصحيح المنطلق من شرع الله عز وجل، وإلى الغاية الصحيحة، وهي ابتغاء رضوان الله عز وجل، وإلى المسلك والنهج الصحيح، وهو اتباع خطا وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم نحن في حاجة إلى الاعتبار من هذه الفضائل. إن أيام العشر هي التي أقسم الله عز وجل بها مجتمعة، وببعض أيامها منفردة، كما في قوله جل وعلا: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1 - 3]، روى جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر)، رواه الإمام أحمد والنسائي في تفسيره، والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. تأمل هذا الإقسام العظيم من الرب العظيم سبحانه وتعالى بالعشر كلها، وبيوم منها وهو يوم عرفة، وبيوم آخر وهو يوم النحر. وحسبك بهذه الأيام المفردة أيام فضيلة عظيمة، وأيام اختصاص جلي، فهذا يوم عرفة يوم أقسم الله به في قوله: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3]، روى أبو هريرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة)، رواه الترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. وتأمل كذلك الفضل الذي اختص به ذلك اليوم في أصله وفي العبادة التي فيه، فقد روى أبو قتادة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن صيام يوم عرفة أنه قال: (إني لأحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والسنة التي بعدها) فما أعظمه من يوم يكفر الله جل وعلا به بفضله ومنِّه ذنوب عامين كاملين، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عباداً من النار من يوم عرفة)، ويوم النحر يوم الحج الأكبر، كل هذا الفضل والتعظيم والإجلال يمر بالمؤمن دون أن يعتبر به ويدكر، سيما وأن هذه الأيام تدخل فيها الفريضة العظيمة، فريضة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، فيجتمع مع فضل وأجر عظيمين وتعظيم وإجلال كبيرين جليلين فريضة وشعيرة على مستوى الأمة كلها، فالصوم يؤديه المسلمون فرادى أو مجتمعين في كل مكان، وفي كل أرض، والصلاة يؤديها المسلمون جماعات صغيرة هنا وهناك في كل مكان، إلا الحج فإنه لا يؤدى إلا باجتماع حجاج المسلمين جميعاً، وليس في أي مكان، بل في البقاع المقدسة في رحاب بيت الله عز وجل، وفي المناسك المختلفة من عرفات إلى منى ومزدلفة وغيرها. إذاً فكل هذا الفضل وهذا الفرض يمر بالمسلم دون أن يدكر ويعتبر، ودون أن يكون هذا الادكار والاعتبار ذا أثر عظيم عميق ممتد يستمر ويدوم، ولا يكون كسحابة صيف عابرة. ولعلنا قبل أن نلج في مثل هذه الفوائد نقف وقفة مهمة، إذ إن هذه الفريضة فرضت على المسلم مرة في العمر، فكأن أثرها وفضلها وما يبقى للمؤمن في قلبه وفكره وحياته وحاله وسلوكه منها يكفيه الدهر كله إن أداها على الوجه المطلوب، وإن فقهها بالصورة الصحيحة، وإن امتزجت في أدائها مشاعره قلباً ونفساً وروحاً وفكراً وصوتاً وجوارح، فإنه حينئذ يخرج منها بصياغة جديدة في الحياة تجدد إيمانه وتؤكد إسلامه، وتصحح مساره بإذن الله عز وجل، ومن لم يحج فإنه لا يعدم الفضل والأجر، كما نعلم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث المشهور المحفوظ من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري في صحيحه. فهل نرى صيغة أبلغ في وصف الفضل وأعظم في بيان الأجر من هذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذن كل هذا الذي يمر بنا، والخير الذي يساق إلينا في كل عام وفي كل موسم من مثل هذا العام كيف يكون لنا منه استفادة حقيقية؟

معالم من شعيرة الحج

معالم من شعيرة الحج لعل وقفاتنا هذه تكون تذكرة لنا جميعاً حتى نأخذ من هذا الموسم على وجه العموم، ومن فريضته وشعيرته على وجه الخصوص ما لعله ينفعنا في سائر أحوالنا وأوقاتنا وأعمالنا بإذن الله عز وجل.

التذلل لله عز وجل والالتجاء إليه

التذلل لله عز وجل والالتجاء إليه إن فضل الله عز وجل عندما يسوقه إلينا ورحمته عندما يفتح أبوابها ويشرعها بين أيدينا فإن ذلك فضل من الله عظيم يوجب التذلل له، والتضرع إليه، والإنابة إليه، والانكسار بين يديه، والإقرار بفضله، والشكر لنعمه، والاستحضار لعظمته، والتأمل والتدبر فيما ساقه الله جل وعلا لأهل الإيمان والإسلام، وذلك كله من الأمور العظيمة التي نشعر بها في كل موسم من مواسم الفضل والأجر؛ إذ نتذكر فنفيء إلى الله، ونبكي على ما سلف وما مضى من التقصير والتفريط، ونندم على ما ارتكبنا من المحرمات، وما اقترفنا من السيئات، ونشعر بتفريطنا وتقصيرنا ونتذكر واجبنا تجاه خالقنا سبحانه وتعالى. ولعل هذا المعلم المهم ينبغي أن يكون حياً في القلوب في كل وقت؛ لأن فضائل الله جل وعلا وإن كانت في هذه المواسم العظيمة في العام كله فإن فضائله في كل يوم وليلة وفي كل لحظة، أليست فضائل الصلوات الخمس -مما هو معلوم ومعروف- تطهر وتكفر الذنوب مرة بعد مرة؟ أليس الله عز وجل ينزل كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا بقي الثلث الأخير من الليل فينادي عباده: (هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه. وذلك الدهر كله)، أليست هذه الفضائل متجددة في كل وقت وآن؟ أليس حرياً بنا أن نرفع أكف الضراعة في كل وقت، وأن نسكب دموع الندامة في كل ليل، وأن نلهج بذكر الله عز وجل وشكره والإقرار بفضله ونعمته في كل لحظة وآن؟ ألسنا نستيقظ في كل صباح فنقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا؟ ألسنا ننغمس في نعم الله، ونغرق في فضله في كل لحظة وسكنة، في كل كلمة لسان نستطيع نطقها، وكل نفس تمتد به حياتنا وتسير به أيامنا، وكل خطوة نمضي بها إلى مصالحنا، وكل رزق يفيضه الله علينا لنتدبر أمورنا، ولنكسب معاشنا؟ أليس ذلك كله مما ينبغي أن تستغل فيه هذه المواسم العظيمة لنخرج بالفوائد المستمرة الممتدة الطويلة التي لا تكون عابرة، ثم نعود من بعد الذكر إلى الغفلة، ومن بعد التذلل إلى التكبر، ومن بعد الإنابة إلى الإعراض؟ ينبغي لنا أن نحول هذه المواسم إلى تغييرات حقيقية في واقع حياتنا؛ لأن الله جل وعلا إنما ساقها إلينا لأجل أن تقومنا مرة بعد مرة، ولأن تصبح بعد ذلك مدداً وعوناً على طاعة الله مستمراً وتذكيراً وتوجيهاً دائماً، وتقويماً وتهذيباً لكل خطأ يقع من الإنسان، فما أحرانا أن نستحضر معنى التذلل لله والالتجاء إليه، كما نتذكر ذلك في المشهد العظيم في يوم عرفات، يوم يجتمع الحشد الهائل والجموع الغفيرة على ذلك الصعيد، كلهم متذللون منكسرون خاضعون باكون راجون خائفون طامعون في رحمة الله، ومستعيذون من غضب الله ومن سخط الله.

الاتباع والاقتداء

الاتباع والاقتداء إن هذه الشعيرة على وجه الخصوص، وهذه الأيام التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لمن نوى فيها الأضحية: (فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً) عندما قال لنا هذه الفضائل صرنا نحرص على فعل الخيرات، لم؟ لأننا نتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ونقتدي به، وفي الحج قال: (خذوا عني مناسككم)، ووصف الصحابة حجته في كل حركة وسكنة كأنما نحج اليوم بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا من أمره شيء، أين وقف، وكيف مشى، وكيف طاف، وماذا قال، وما الذي خطب به، كل أمره جلي واضح كالشمس في رابعة النهار، فهل كان ذلك فقط في هذه الفريضة، أم أنه في كل أحواله عليه الصلاة والسلام، في معاملته مع زوجه وأبنائه أو أحفاده، ومع أصحابه وأصدقائه، ومع خصومه وأعدائه، وفي كل أحواله؟ فأين نحن من معلم الاقتداء والاهتداء ونحن نراه في هذه الأيام دقيقاً وظاهراً وجلياً عند الحجاج وعند غيرهم من الذين لا يحجون؟ فإنهم يترسمون الهدي النبوي، ويأتون به على ما أشار وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الأضحية التي يأتي حديثنا عنها إن شاء الله. إذاً فلم لا نجعل هذا مساراً مهماً وطريقاً واضحاً نسير في إثره كما سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، وعندما وصف الله عز وجل الصحب الكرام وأتباعهم وصفهم بهذا الاتباع الذي كانوا فيه على سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي لنا أن نأخذ من هذه الفضيلة العظيمة في هذه الأيام الجليلة وهذه الفريضة العظيمة هذا المعلم المهم في حياتنا، ثم نعود إلى ذوات أنفسنا.

التذكر والاهتداء

التذكر والاهتداء لئن كان لنا مع الله تذلل والتجاء، ولنا مع رسوله صلى الله عليه وسلم اتباع واقتداء فإن لنا مع أنفسنا تذكر واهتداء، تذكر فيه المراجعة والمحاسبة، والتصحيح والتقويم، والعزم والحزم الذي يقود إلى الطاعات، وينجي -بإذن الله عز وجل- ويخلص من المعاصي والسيئات، إلى متى تكبلنا ذنوبنا؟ إلى متى تقيدنا خطايانا؟ وإلى متى تلجم وجوهنا وأفواهنا أمواج الشهوات والشبهات؟ إلى متى ونحن مستسلمون والمواسم تمر فلا تكون الذكرى التي تخرجنا من غفلة إلى ذكر غير منقطع، ومن ضعف إلى عزيمة قوية لا تتضعضع ولا تضعف ولا تتراجع بإذن الله عز وجل، لقد كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يعظ الموعظة تتغير بها المسارات، ويقول الأمر والحكم فيتم إنفاذه في الوقت والحال، ويتذكر الناس لأنهم يعلمون أن الخطاب الرباني والهدي النبوي موقعه عند المؤمن عظيم وجليل، ولذلك عندما تحدث النبي مع بعض أصحابه وأخبر عن حل الذهب والحرير للنساء وحرمته على الرجال كان من القوم رجل في يده خاتم من ذهب فخلعه وطرحه من وقته ولحظته، وعندما قام القوم قيل له: خذه فانتفع به. قال: ما كنت لآخذه وقد طرحته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. هكذا يكون التذكر مباشرة يؤدي إلى الاهتداء، والعمل الذي يمتثل فيه الإنسان أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، والأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن كثير يحتاج منا دائماً إلى مثل هذا التذكر والاهتداء، ومرة أخرى في ذوات أنفسنا إلى التفكر والارتقاء، وهي مسألة مهمة، التفكر في حقيقة الدنيا، وصلتنا بها، وانشغالنا بها، وتعلقنا بها، هذه الدنيا هل تساوي فضائل هذه العشر على سبيل المثال؟ هذه الأيام العمل الصالح فيها هو الأحب إلى لله عز وجل، فهل تساوي الدنيا يوماً يكفر سنتين؟ هل تساوي فريضة يخرج بها العبد من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟ ما بال الموازين قد اختلت؟ ما بال الأثمان قد أصبحت على غير المقياس الصحيح؟ فكأن الدنيا اليوم في واقع حياة الناس أرجح من الآخرة، وكأن نعيمها وشهواتها ومالها وما فيها من هذه الخيرات أعظم عند كثير من الناس من صلوات وركعات ودعوات، بل أعظم في واقع الأمر من فرائض وشرائع مما هو من شرائع الإسلام ومن فضائله العظام، إذاً هذا أمر جدير بالاعتبار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]. هذا المقياس والميزان القرآني، كل متاع الدنيا ليس بشيء، وغاية وصفه أنه قليل، أي: دون أن يكون له أثر يذكر، أو مقياس أو مقام أو وزن يمكن أن يقارن بما في الآخرة. وحسبنا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) كل الدنيا لا تعدل جناح بعوضة، ولو عدلت جناح بعوضة لم يسقِ كافراً شربة ماء، هي أدنى من جناح البعوضة، فهل البعوضة عند أحدنا لها قيمة؟ وهل جناحها معروف أو منظور حتى يكون له قيمة؟ لقد ضربها النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة عظيمة في حقيقة الدنيا، فعندما مر بجدي ميت أسك -أي: مقطوع الأذن- قال: (من يشتري هذا بدرهمين؟ من يشتري هذا بدرهم؟ ثم قال: والله لهوان الدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم)، وقال: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها)، وهذه الفريضة أين يقضيها الناس؟ هل يقضونها في الدور والقصور، أم في الخيام والعراء؟ ماذا يأخذون من دنياهم؟ قليل من الملابس، وشيء من الزاد على قدر الأيام، فإذا انتهت أيامهم تركوا كل شيء وراءهم، ورجعوا إلى ديارهم، وانتقلوا إلى دورهم، وارتحلوا إلى المكان الذي هيئوه وإلى الدنيا التي أسسوها، ذلك هو درس الحج الأعظم في حقيقة الدنيا والآخرة، وهذا درس الأيام الفاضلة التي نرى فيها الفضل والأجر أعظم من الدنيا وما فيها.

التوحد والولاء بين المسلمين

التوحد والولاء بين المسلمين أخيراً بالنسبة لأمتنا بعد ذواتنا أمر مهم، وهو التوحد والولاء، التوحد بين أبناء الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يضرب لذلك أمثلة كثيرة، فنقول: (مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)، وعند البخاري في الأدب المفرد: (المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى)، إلى ما هو معلوم من هذه الأحاديث، أمة تجتمع من كل صقع، وبكل لون، ومن كل لغة، على صعيد واحد، بهتاف واحد، ومشاعر واحدة، وخطوات ومسار موحد، ثم بعد ذلك تفترق صفوفها، وتختلف قلوبها، وتتنافر نفوسها، وتتباعد آراؤها، أنى يكون ذلك؟ إن مثل هذه الأيام العظيمة والفريضة الجليلة أعظم ما ينبغي أن نخرج به من فضلها هو هذا التوحد والولاء لأهل الإيمان والإسلام {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، ينبغي أن ندرك أن الإيمان والإسلام لا يتحققان فقط بمجرد أداء الصلوات والزكوات فحسب، وإنما بالاصطفاف وراء أمة الإسلام، والنصرة لها، والولاء لأهلها، والبراء من أعدائها، والتخلص والتبرؤ من كل جاهلية وكفر وشرك يخالف أمر الله عز وجل {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، ذلك هو فضل الله عز وجل بهذا الإيمان والإسلام، حول المفترقين إلى مؤتلفين، والمختلفين إلى متفقين، والمتناثرين إلى متوحدين، حول أمة في بقاع الأرض وأصقاعها المختلفة إلى أمة واحدة لا تفصلها الحدود، ولا تحول بينها الحواجز، كان قائلها يقول الكلمة فتتجاوب الأمة من أقصاها إلى أقصاها، ويوم صاحت امرأة: (وا معتصماه)، سير الخليفة جيشاً أوله عند العدو وآخره عند المسلمين وانتصر لها، ويوم صاحت امرأة في بني قينقاع وفي سوقهم تنتصر انتصر لها محمد صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام، وأخرجوا اليهود الذين فعلوا تلك الفعلة النكراء. وهكذا ينبغي لنا أن ندرك أن حقيقة الانتماء للأمة الإسلامية وللإيمان والإسلام ينبغي أن يكون بالقلب والنفس والفكر مرتبطاً بهذه الأمة، يحزننا ما يحزنها، ويؤلمنا ما يؤلمها، ويفرحنا ما يفرحها، ولا نكتفي بحدود المشاعر، بل نتقدم لتحقيق معنى الولاء بعد المحبة بالنصرة بكل وسيلة ممكنة، وذلك من دروس هذه الوحدة في الفضيلة والفريضة. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعوج أنفسنا، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يمن علينا في هذه الأيام الفاضلة بتعظيم الأجر، ومحو الوزر، وإدراك الفضل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أحكام الأضحية

أحكام الأضحية إن أيام العشر موسم التقوى، وفريضة الحج زادها التقوى، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]. وهنا مسألة أحب أن أعيد التذكير بها، وهي أن لكل موسم فضل وأجر ينبغي أن لا يمر دون ادكار واعتبار مما يدوم ويستمر، ولا تكن مواسمنا مواسم عمل ثم انقطاع، وذكرى ثم غفلة، وتقدم ثم تأخر؛ فإن ذلك يدل على فقه ضعيف، وعزم كليل، وتأثر يسير لا ينبغي أن يكون مع توالي فضائل الله جل وعلا، ومع دوام واستمرار تلك المواسم. ومن فضائل هذه الأيام ومن شعائرها الأضحية، وهي عبادة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جل وعلا: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، كما صح أنه (ضحى بكبشين أملحين أقرنين) فذبحهما بيده عليه الصلاة والسلام، وهذه الأضحية سنة مؤكدة يكره للقادر عليها تركها، وقد قال بعض أهل العلم بوجوبها، والجمهور على أنها سنة مؤكدة من استطاعها فينبغي له أن يبادر إليها، وأن لا يتأخر عنها، وهي ذبح شاة أو التقدم بسبع بدنة أو ناقة. والذبح مقصود في هذا، وهو أفضل من أن تخرج القيمة أو أكثر من القيمة؛ لأن هذه هي عبادة الوقت، ولأن الفضيلة إنما تكون في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو في هذا الوقت ذبح ونحر عليه الصلاة والسلام، ولم ينفق المال وقد كان عليه الصلاة والسلام منفقاً وجواداً كالريح المرسلة، ولكنه في ذلك الوقت وفي تلك الشعيرة واقتداء بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام ذبح ونحر وضحى عليه الصلاة والسلام، ولذلك فالتضحية والذبح هو الأفضل، ومن أراد أن يتصدق بمال فليزد من المال بعد أن يقوم بهذه الشعيرة العظيمة، والأضحية للأحياء، وتجوز عن الأموات تبعاً كما تجوز عن الأموات استقلالاً إذا كانت وصية من الوصايا التي أوصى بها الميت وله مال يقضيها، وكذلك يمكن للإنسان أن يضحي عن نفسه، ثم يدعو بالأجر له ولأهله ولمن وراءه، كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما ضحى فقال: (بسم الله! اللهم تقبل من محمد، ومن آل محمد، ومن أمة محمد)، وهكذا ينبغي لنا أن ندرك هذا المعنى، بمعنى أن الأضحية عن الفرد وأجرها بدعائه وبفضل الله عز وجل يعم. ولا يصح أن يشترك اثنان في أضحية واحدة، بمعنى أنهما يدفعان قيمتها شراكة، بل إذا دفعا القيمة كانت الأضحية عن أحدهما، ويدعو بعد ذلك له ولصاحبه أو لأهله بما شاء، فالله عز وجل فضله عظيم، ويعم بالأجر والثواب من دعي له بذلك إن شاء الله تعالى. ووقت الأضحية بعد أداء صلاة العيد من يوم النحر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم بعد ذلك ننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك -أي: قبل الصلاة- فإنما هو شيء قدمه لأهله وليس من النسك في شيء). وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ذبح قبل الصلاة فليعد)، ولذلك فإن موعدها بعد أداء الصلاة، ويمتد إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، فهي مدة واسعة تشتمل على أربع ليال وثلاثة أيام، وهذا فيه مزية وفائدة ليعم النفع والأثر المطلوب لتلك الفريضة والشعيرة، وهكذا نجد المقصود من هذه العبادة أموراً كثيرة يتعلق بعضها بالذي يضحي وبعضها بعموم الأمة ومن ينتفع بمثل هذه الأضاحي. أما المضحي فإنه يتقرب إلى الله عز وجل بالأضحية، وذلك تنويع، فأنت تتقرب بصلاة، وبإنفاق مال، وبالذبح الذي هو من أشهر أنواع القربات في فعل الإنسان، فكثيراً ما يذبح للطواغيت أو للأصنام أو لغير ذلك، فجعل هذا تضحية لله عز وجل ليتقرب العبد لله بمثل هذا، كما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وقال بعض أهل التفسير في النسك: هو ما ينسكه الإنسان ويضحي به لله عز وجل. وفيه كذلك اقتفاء أثر إبراهيم الخليل عليه السلام في استسلامه لأمر الله، وأن الله عز وجل فداه بذبح عظيم، وفيه بالنسبة لأهل الإسلام إظهار شعائر الإسلام، فاليوم نرى كل هذه البهائم تجمع في كل بلاد الإسلام، وليس في مواطن الحج فقط، بل كل أهل بلد يهيئون أضاحيهم، حتى إذا جاء ذلك اليوم رأيت الذبح والنحر والدماء التي تنهر لله عز وجل، وذلك مقصد من إظهار الشعائر وتعبد الأمة وتقربها لله سبحانه وتعالى. ثم من بعد ذلك إفاضة الخير وتعميم الطعام واللحم لمن لا يستطيع أن يحصل عليه وللفقراء والمساكين، ليكون العيد حينئذ -بإذن الله عز وجل- توسعة وفرحاً، كما قال صلى الله عليه وسلم عن أيام يوم النحر ويوم التشريق: (أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)، وهذا فيه إظهار لشعائر الإسلام، وسد لحاجات المسلمين، ومنع للأبواب التي يدخل منها غير المسلمين على فقراء المسلمين في بقاع الأرض فيقدمون لهم طعاماً وشراباً ومعه فتنة وانحراف وزيغ وضلال، ولذلك ينبغي لنا أن نحرص على أداء هذه الشعيرة وهذه السنة الفاضلة، وأن نبادر إليها، وأن نوصلها إلى كل أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في سياق حديثه عنها: (كلوا وأطعموا وادخروا)، وذلك هو الذي يقول به أهل العلم، فيسن للإنسان أن يضحي بيده؛ لأن هذه عبادة وقربة، فإن استطاع أن يفعل بنفسه فذاك، وإلا فلو فعل غيره نيابة عنه فلا حرج، ثم يأكل منها ويهدي ويتصدق، ولو أنه تصدق بها كلها جاز، ولو تصدق بأكثرها وأبقى له جزءاً منها جاز، ولو أكل أكثرها وتصدق بالجزء الأقل منها جاز، ولكن الأجر يقل، وكل هذا واسع، ومن استطاع أن يجمع بين هذا وذاك فهو خير، وهذه من فضائل الله، ومن أعمال هذا الوقت. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن ييسر لنا ولإخواننا المسلمين في كل مكان مشاعر ومناسك الحج في أمن وأمان وسلم وسلام وراحة ويسر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. اللهم! إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم! اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين، اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم! فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين، اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، ووفق -اللهم- ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.

ألف باء في مواجهة الأعداء

ألف باء في مواجهة الأعداء أعداء الإسلام يكيدون للإسلام منذ أن بزغ فجره، وظهر نوره، ولم يكلوا ولم يملوا، ويستخدمون في ذلك شتى الوسائل والطرق، والمؤسف أن كثيراً من المسلمين في غفلة عن هذا، فتراهم يعلمون بهذه المكايد وهم نائمون، ويرون خبثها وهم غافلون، فأصبح المسلمون لقمة سائغة تنهش منها الكلاب، وتجتمع حولها الفئران والجراد، فيجب على المسلمين قاطبة أن يصحوا من نومهم، وأن يستيقظوا من غفلتهم، كي يواجهوا الأعداء، وعليهم أن يبدءوا بالأهم فالأهم.

فائدة معرفة الخطوات التي يواجه بها الأعداء

فائدة معرفة الخطوات التي يواجه بها الأعداء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فاعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فقد كانت الأحداث القريبة موضع اهتمام وتفاعل وتعلق، ثم عندما انقضى من هذه الأحداث ما هو مباشر في العدوان رأينا أن كثيراً من الناس انصرف تفكيرهم عن مثل هذه القضية، ولم يعد لنفوسهم تأثر أو تعلق، وربما مضوا إلى حياتهم كأن لم يكن شيئاً. والواجب ألا يكون الغالب على أحوالنا: ردود أفعال مؤقتة، وانفعالات نفسية عارضة، وحيرة وتردد، وهدوء ورجوع بعد كل حدث وبعد كل قضية. وهذه بعض الخطوات العملية التي لابد أن نأخذ بها، وقبل الشروع في ذكرها أود أن أبين مدى وحدود هذه الخطوات التي نتحدث عنها وفائدتها، فأقول مستعيناً بالله جل وعلا: الأمر الأول: ما نتحدث به يخصنا نحن؛ فهو يتعلق بي وبك وبهذا وذاك، بعيداً عن الدوائر التي لا نملك الآن أن يكون لنا تغيير فاعل فيها، وبعيداً عن الجهات التي عليها مسئوليتها، وعليها واجباتها، وليس من مهمتنا أن نوزع التهم، وأن نجعل التقصير هنا وهناك ثم لا ننظر إلى أنفسنا، ولا نعرف تقصيراتنا، نحن ندرك أن هناك خللاً وقصوراً عند الحكام والأمراء، وأن هناك ضعفاً وقلة في أداء المهمات كما ينبغي عند الدعاة والعلماء، ولكن لا ينبغي أن نقول: هؤلاء قصروا، وهؤلاء فرطوا، ثم نقعد بدون عمل إما بإحباط ويأس، وإما بعدم مبالاة واكتراث، وإما بعدم استشعار للمسئولية ومعرفة للدور. فمن هنا لابد أن يكون هناك مصارحة ومناصحة واضحة تخصنا مباشرة، وتتوجه إلينا بعيداً عما قد نتعلل بأننا لا نستطيعه أو لا نحسنه. الأمر الثاني: التنبيه على أن الانتفاع بالأحداث، والاستفادة من المصائب والمشكلات لا ينبغي أن يكون مؤقتاً غير دائم، ولا ينبغي أن يكون ظاهرياً غير راجع إلى الأصول والثوابت والمرتكزات والمنطلقات. الأمر الثالث: أن كثيراً من الناس ينظر إلى الأمور الكبيرة، ويرى أنه لا قبل له بها، ولا يوجه إلى أمور يستطيع أن يأخذ بها وأن يعملها، فلعلنا بهذا الحديث أن نسد مثل هذه الثغرة بعون الله سبحانه وتعالى. الأمر الرابع: ألف باء، وألف باء كما تعرفون هي حروف الهجاء، والمقصود: أننا نريد أن نبدأ بالأصول، وبالأشياء والقواعد والأركان الأساسية، حتى لا يقول قائل عندما نتحدث الآن: لم تتحدث عن هذا ونحن نعرفه؟ فأقول: إن كنا نعرفه فهل نحن قائمون به؟ وهل نحن مداومون عليه؟ وهل نحن متواصون فيما بيننا بالحفاظ عليه؟ فكثيرة هي الثغرات وأوجه القصور التي نقع فيها، ليس تجاه أمور من النوافل أو التطوعات أو الزيادات بل كثيراً ما تكون في الفرائض والأركان والواجبات.

معرفة الجوانب الفكرية في مواجهة الأعداء

معرفة الجوانب الفكرية في مواجهة الأعداء نشرع بعون الله سبحانه وتعالى مستعينين به سائلينه التوفيق والسداد في ذكر بعض الجوانب الفكرية في مواجهة الأعداء: أولاً: الجانب الفكري: ونعني به جانب التصور والاعتقاد والمعرفة للحقائق والمبادئ، وصورة ما يحيط بنا في هذه الحياة، وكيف نزن الأمور، وكيف نقوّم الأشخاص، وكيف نتخذ المواقف، وكيف تتضح لنا الرؤية، حتى نأخذ بما هو واجب ولازم ونافع ومفيد في مواجهة ما يحل بنا من الخطوب والأحداث. فنقول: لابد لنا من أمور كثيرة، منها:

أهمية تصحيح الخلل عند بعض المسلمين

أهمية تصحيح الخلل عند بعض المسلمين معرفة الخلل وطريقة العمل أساس فكري لابد من توضيحه، فكثيرة هي الأسئلة التي دارت بخواطر الناس: ما الذي يجري بنا؟ ولماذا حل بنا ما حل بنا؟ وما هي الأسباب ونحن أمة الإسلام؟ ولم حل ذلك ونحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟! لابد أن نوقن بمعرفة هذه الأمور من خلال آيات القرآن، وتوضيحات سنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، هذا تحليل وتعليل قرآني لابد من التسليم به، ومعرفة أن ما جرى وما يجري إنما هو من أثر فساد الناس وكثرة الذنوب، فلما وقع بالصحابة ما وقع في يوم أحد -وكان ثقيلاً على النفوس، شديداً على القلوب، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم الصفوة المختارة من أصحابه- قالوا مقالتهم كما جاء في قوله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] فرد الله عليهم: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. ولو أننا أخذنا هذا المبدأ بكل قوة ووضوح وصراحة ومواجهة لكان لنا من إصلاح أحوالنا أثر كبير وتغيير ظاهر، ويكفينا أن نذكر بعض أقوال علمائنا في بيان الآثار المتولدة عن بعض الذنوب والمعاصي من بعض الأفراد، فكيف إذا تعاظم ذلك وكثر وعمَّ وساد وانتشر وفشى في الأمة إلا من رحم الله؟! قال ابن القيم: من آثار المعاصي والذنوب: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الحق، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال، يقول: وكل هذه تتولد عن المعصية والغفلة من ذكر الله كما يتولد الزرع من الماء. فإذا كان هذا في هذا الباب، فكيف بنا لا نلتفت إلى ما نحن فيه من غفلة عظيمة ومن معاصٍ كثيرة؟! يقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. ولو رجعنا إلى أسلافنا لرأينا كيف كان الشعور عندهم بأثر المعاصي في دقيق الأمور وجليلها، كما جاء عن ابن مسعود -وهو يروى مرفوعاً وموقوفاً-: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، كانوا يرجعون كل شيء يحصل من الخلل إلى خللهم فيما نسوا من أمر الله، أو فيما اجترءوا عليه من حدود الله، ومن مقالات السلف: إن أحدنا ليجد أثر الذنب في خلق زوجته ودابته. وقد علمنا كثيراً من تعليلهم وتحليلهم لأسباب ما يحل بهم، وأنه بأثر ذنوبهم.

الصراع بين المسلمين وأعدائهم مستمر إلى قيام الساعة

الصراع بين المسلمين وأعدائهم مستمر إلى قيام الساعة ليس هناك جولة واحدة ولا ميدان واحد إذا كُسرنا فيه أو هُزمنا فيه فقد انتهى الأمر، كما رأينا من أحوال بعض الناس وما في نفوسهم من إحباط ويأس، أو فيما لهم من انشغال وانصراف عن مهمات الأمور وعن الانشغال بأحوال المسلمين. وما أحسن قول القائل في تعبيره عن استمرارية هذه المواجهات، وأنها ليست في مرحلة ولا في ميدان واحد: قطفوا الزهرة. قالت: من ورائي برعم سوف يثور. قطفوا البرعم. قالت: غيره ينبني في رحم الجذور. قلعوا الجذر من التربة. قالت: إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور. كامن ثأري بأعماق الثرى. وغداً سوف يرى كل الورى: كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور. تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور. أي: أنه لابد من اليقين بمواصلة المواجهة بين الحق والباطل، وأنه لابد أن تكون النفوس مهيأة لذلك وعالمة به من خلال وضوح رؤيتها وفق نهجها واعتقادها. إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا. فالريش قد يسقط من أجنحة النسور. والعطش الطويل لا يخيفنا. فالماء يبقى دائماً بباطن الصخور. هزمت الجيوش إلا أنكم لم تهزموا الشعور. قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور. فستظل الجذور إذا بقيت العقائد والمبادئ والتصورات، ومن هنا لابد لنا من إحياء هذه المعاني والتواصي بها.

وضوح الرؤية والبصيرة في الدين من أهم الأمور

وضوح الرؤية والبصيرة في الدين من أهم الأمور وضوح الرؤية وقوة العصمة: ونعني بذلك أن نكون على بصيرة من ديننا، وبينة من أمرنا، وقوة في اعتقادنا، ورسوخ في يقيننا، ولا يكون عندنا شك من أمرنا، ولا حيرة في ثوابتنا، ولا تذبذب في أصولنا، ووراء ذلك كله أن نعرف كل ما يحيط بنا، وكيف نتعامل معه. يقول الحق سبحانه وتعالى في بيان شافٍ وفي آيات متوالية توضح لنا هذه الحقيقة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:104 - 106]، ثم يأتي النداء من بعد: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:108 - 109]. وهذه الآيات العظيمة فيها بيان هذه الحقيقة المهمة، يبينها قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) فإن شكك الناس في ثوابتنا وعقائدنا وتصوراتنا، وإن كان عند بعضهم حيرة، وإن كان غير المسلمين يعارضون عقائدنا ويخالفونها، وإن كانت الأمم والمجتمعات لا تعرفها ولا تدري ماهيتها، ولا تعتقد بصحتها، فكل ذلك لا يضرني، قال سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وزيادة تثبيت وزيادة توضيح: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ثم زيادة في هذا التثبيت والتوضيح: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي: في كل الأحوال والاضطرابات والمخالفات والمعارضات ابق على نهجك القويم، وتصورك الصحيح، واعتقادك السليم، ويقينك الجازم دون أدنى شيء من التردد، ومن هنا يأتي هذا الوضوح؛ ليكون هو الفيصل الفارق بين المؤمن المعتقد اعتقاد الحق وبين غيره، كما قال سبحانه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، وتكون الرؤيا واضحة لنا؛ لأن العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين ولو بعد حين، لا يتغير ذلك ولا يتبدل بما تتغير به الأحوال والظروف المحيطة، بل نوقن بهذا يقيناً جازماً، كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57] فلئن أصيبت الأمة في مرحلة من الزمان بنكبات وهزائم فلا يعني ذلك أن هذا نهاية المطاف، بل نوقن من خلال هذه الرؤية الواضحة والقوة الإيمانية الجازمة أنها إنما هي مراحل وابتلاءات، وأن وراءها بعد ذلك ما يحقق الله به وعده، وينجز لعباده نصره، إذا هم أخذوا بالمهم من اتباع الأوامر واجتناب النواهي وتغيير الأحوال على وفق مراد الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

الجوانب العملية في مواجهة الأعداء

الجوانب العملية في مواجهة الأعداء ثانياً: الجانب العملي، وكما أشرت في مقدمة الحديث نحن نتحدث في ألف باء، أي: في الأصول والأسس؛ لأن هذه الأصول والأسس قد اعتراها الضعف، وجرى فيها النقص، وعظمت فيها الغفلة، فنحن في حاجة إلى مراجعتها. والمقصود بالجانب العملي: توجيهات وتذكير بأعمال لابد من الأخذ بها.

الدعاء وأثره في نزول النصر

الدعاء وأثره في نزول النصر لابد من استدامة الدعوات، فنحن سمعنا الدعاء يتكرر في المحاريب عند وقوع الكارثة، وعند حلول المصيبة، ثم الآن كأنما الألسن قد عجمت عن الدعاء، وكأنه لا يكون الدعاء إلا إذا كان في الصلاة وإذا كان في القنوت وإذا كان وراء الإمام، فهل نحن ندعو الآن بما ينبغي أن ندعو به من نصر الإسلام والمسلمين، ومن تثبيت إخواننا المسلمين؟! وهل انتهت قضية المسلمين في العراق؟! وهل انتهت من قبل قضيتهم في أفغانستان؟! وهل انتهت من قبل أكثر من نصف قرن في فلسطين وفي كشمير؟ وهل توقفت المواجهات في الشيشان؟ وهل وهل؟! نحن كأنما نشتغل بهذه الأمور المواجهة والمباشرة؛ فإن جاءت تحركنا بقدرها، واستيقظنا بحسبها، ثم عدنا إلى نومنا وغفلتنا وإعراضنا عن تعليق قلوبنا بربنا، ورفع أكفنا إليه، ودوام استمدادنا منه، وعظمة تضرعنا وذلنا وخضوعنا بين يديه سبحانه وتعالى. ولا شك أننا نعلم ونوقن أن السلاح البتار الفتاك عند أهل الإيمان والاعتقاد الجازم هو الدعاء الخالص لله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي أن نغفل عن قوة هذا السلاح وأثره، ولقد كان -يوم كان الناس أهل إيمان وأهل صدق وحسن صلة بالله- سلاحاً يظهر أثره مباشرة، وكلنا يعلم أن سعداً كان مجاب الدعوة، فقد جاء رجل وتكلم بين يديه في طلحة والزبير، فنهاه، فلم ينته، فدعا عليه، قال الراوي: فجاء جمل كأنما يشم الناس حتى عمد إلى هذا الرجل فبطش به وقتله! أي: استجاب الله دعوة سعد رضي الله عنه. وسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة ادعت عليه امرأة زوراً وبهتاناً وافتراءً أنه أخذ شيئاً من أرضها، فلما ووجه بذلك، قال: كيف يكون هذا، وأنا أعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة)؟ ثم دعا فقال: (اللهم إن كانت كاذبة وهي تعلم أنها كاذبة، فأعم بصرها، واقتلها في دارها). فوقع الأمر كما دعا رضي الله عنه وأرضاه. وكانت في قصص المواجهات والقتال أيضاً أحوال وسير عظيمة، منها: دعاء البراء بن مالك الذي قال له الصحابة في يوم اليمامة بعد أن اشتد وطال الحصار الذي ضربوه على مسيلمة وأصحابه: أنت من قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فادع الله لنا، فدعا وقال: (اللهم امنحنا أكتافهم، وانصرنا عليهم الغداة)، فما انتهى اليوم إلا بنصر عظيم للإسلام وأهله!

التقرب إلى الله بالصيام له أثر في نزول النصر

التقرب إلى الله بالصيام له أثر في نزول النصر الصيام من أفضل الطاعات، فزد من الصيام والتقرب إلى الله عز وجل بذلك؛ فإنه ضرب من العبادة ولون من التربية والتزكية، وسبيل من أسباب القوة في الإرادة والعزيمة، فضلاً عن قوة الطاعة والاستجابة ومغالبة النفس وأهوائها، ونحن نعلم فضائل الصيام وآثاره، وما ينبني عليه من أثر في أجر الدنيا وفي ثواب الآخرة، والأمر في هذا واضح جلي.

فضل الإنفاق في سبيل الله عز وجل

فضل الإنفاق في سبيل الله عز وجل أيها المسلم! أكثر من الإنفاق في سبيل الله عز وجل؛ فإن ذلك من نصرة الدين، ومن تقوية المسلمين، ومن مواجهة المعتدين، وإذا لم تسخ نفوسنا بالإنفاق في سبيل الله لنصرة دين الله فكيف نزعم أنه يمكن أن نجود بأنفسنا؟! الجهاد الأعظم بالنفس لابد أن تكون النفوس مهيأة له بكثير من الأسباب والأحوال، فمن لم يستطع مجاهدة نفسه للقيام بالطاعات وأداء الفرائض، ومن لم يغالب نفسه في شهوتها في هذا المال وتعلقها به، فكيف يجود بنفسه؟! نحن نعرف الآيات الكثيرة التي تقرن جهاد النفس بالمال، بل وتقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم)، والله سبحانه وتعالى يقول: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38]. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع) وهي سمات نعرف أننا واقعون فيها، فإذا دعينا في الملمات، وعند حصول الكوارث، وعند نزول البلايا تحركنا وأنفقنا شيئاً من أثر العاطفة المتأججة المؤقتة العارضة، ثم بعد ذلك نعود إلى ما نحن فيه! خاطبوا أنفسكم، وحاسبوها اليوم: كم من المال تنفق باستمرار ودوام؟! مواجهتنا مع الأعداء ليست عارضة ولا عابرة، ومقارنة ما ننفقه في مقابل ما ينفقونه -للأسف الشديد- مقارنة محزنة ومؤسفة، فالتنصير -الذي يسمونه التبشير- نعلم من الإحصاءات الموثقة أن هناك نحواً من أربعة آلاف وستمائة قناة وإذاعة أعدت للقيام بنشر النصرانية، وتبث بلغات أكثر من أن تحصر وأن تحصى، ويُطبع من الإنجيل -رغم ما فيه من التحريف- لا أقول: الملايين ولا عشرات الملايين بل مئات وآلاف الملايين، وقد طبع بأكثر من ستمائة لهجة ولغة! وما ينفقونه في كل عام أكثر من أن يحصى، ونحن نوقن بقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، لكن كيف نواجه أعداءنا ونحن لا ننفق مثلهم؟ هذه صورة من صور ضعفنا، وصورة من أسباب هزيمتنا، ومن أسباب بلائنا؛ لأننا لا نصنع كما صنع الصحب رضوان الله عليهم، فقد كانوا في كل ملمة بل وفي غير الملمات ينفقون إنفاقاً عظيماً جداً، كان الإنفاق أمراً فوق الزكاة وفوق الواجب، وكانت صدقاتهم لا تنقطع دائماً وأبداً، حتى كان من لم يجد يكتسب حتى يجد ما يتصدق به، كما ورد في الصحيح عن بعض الصحابة من الفقراء قال: (كان أحدنا لا يجد ما يتصدق به، فكان أحدنا يتحمل الحمالة لا يريد بها إلا أن يجد ما ينفقه في سبيل الله) أي: حتى لا يحرم نفسه من الأجر والثواب، فقد كانوا يتسابقون إلى الإنفاق؛ لأنهم يعلمون أن ذلك من أسباب قوة دين الله سبحانه وتعالى.

الطاعة يستنزل بها النصر

الطاعة يستنزل بها النصر لابد من كثرة الطاعات، ونحن نعلم أن استنزال النصر إنما يكون بحسن الصلة بالله، والتقرب إليه، وإعلان البراءة من معاصيه، ومخالفة أمره سبحانه وتعالى، وهذا أمر مهم نحتاج إليه، فننادي بنداء نوجهه إلى أنفسنا جميعاً: حافظوا على أداء الصلوات، وعلى وجه الخصوص فرائض الصلوات، كما قال عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله) رواه مسلم، ونحن نعرف هذا، ولكنني أقول: هل كل الناس يؤدي هذا؟ ألسنا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من آخر ما يُحل من عرى هذا الدين الصلاة؟ ألسنا نعرف أن من شبابنا ومن شيباتنا من يترك الصلاة فلا يؤديها مطلقاً، أو يؤخرها ويجمعها، أو لا يلتفت إليها؛ ويجعلها آخر موضع في اهتماماته؟! وأولئك منا وفينا ومن بيننا، ثم لا ننظر إلى أثر ذلك، ولا نلتفت إلى أن بسببه يقع كثير مما قدره الله عز وجل من البلاء والفتنة، نسأل الله عز وجل السلامة! عباد الله! احرصوا على شهود الجماعات؛ فإن المساجد تشكو إلى الله قلة المصلين في كثير من الأوقات والأحوال، بل وفي كثير من البلاد ما هو أعظم وأكثر مما في بيئتنا ومجتمعاتنا، والله عز وجل يقول: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:31]، ويقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، ويقول: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3]، ويقول: {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} [الحج:35]، وكل ذلك خطاب بصيغة الجمع. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي تعرفونه في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أثراً نحب أن نلفت أنظار الجميع إليه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا -يعني: صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- وما يتخلف عنها -أي: الجماعة- إلا رجل معلوم النفاق) رواه مسلم. فلو طبقنا هذه القاعدة التي كانت سارية المفعول عند الصحابة لصلحت أحوالنا، فكم منا في مجتمعاتنا من يصدق عليه وصف النفاق؟! كم هم المتخلفون عن الصلاة في الجماعات، السائرون في الغي واللهو الشهوات؟! هؤلاء لم يلتفت نظرهم إلى حديث أبي هريرة عند البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، فآمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم). وهذه أمور موجودة لا نحتاج إلى إفاضة القول فيها، لا سيما صلاة الفجر، تلك الفريضة التي رحم الله من يؤديها اليوم جماعة، وأصبح من يصليها جماعة يشهد له بأنه أعظم الناس إيماناً، وأكثرهم صلاحاً، وأجلهم فضلاً، وأعظمهم مرتبة، وهي من الفرائض التي لابد لكل مسلم أن يحافظ عليها، ولكن صار الحفاظ عليها فرقاناً بين إسلام والتزام، وبين تفريط وتضييع، والله عز وجل يقول: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] أي: تشهده الملائكة. وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون عند صلاة الفجر والعصر)، وترفع الملائكة شهادتها لمن يشهدون الصلاة، فكم من مسلم لا يحظى بتلك الشهادة، ولا يكتب في تلك الصحائف، ولا يدرج اسمه في تلك التقارير المرفوعة إلى علام الغيوب سبحانه وتعالى؟! ثم نقول بعد ذلك: ما الذي جرى؟ وما الذي حصل؟!

إصلاح النفس

إصلاح النفس وننتقل في الجانب العملي إلى خطوات ثلاث مهمة: الخطوة الأولى: أصلحوا أنفسكم. الخطوة الثانية: ربوا أبناءكم. الخطوة الثالثة: ادعوا مجتمعاتكم. وفي كل واحدة من هذه الخطوات الثلاث ثلاث نقاط نذكرها بإيجاز؛ حتى نوجه الأمر إلى أنفسنا، ونبدأ بالأخذ بهذه الخطوات العملية، فإنها مقدمة لما بعدها، ومن كان فيها عاجزاً فهو عن سواها أعجز. الخطوة الأولى: ميدان النفس، لابد أن يعتنى بإصلاحها، وهذا أمر مهم وأساس متين وبداية أساسية.

أهمية العمل في إصلاح النفس

أهمية العمل في إصلاح النفس لابد من التحول من الكسل إلى العمل، فكثيرون منا أخلدوا إلى الراحة، وأصبحوا يستثقلون أدنى درجات الحركة والنشاط فيما هو من الفرائض والواجبات، فضلاً عما هو فوق ذلك من السعي في مصالح المسلمين، والعمل على الإصلاح والتغيير، والتنادي إلى البر، والتعاون على البر والتقوى، وهذا -وللأسف الشديد- نادراً ما نجده، بينما نجد كدحاً وجداً وسبقاً وحثاً في مجال حياتنا الدنيوية، وكسبنا المادي، وطلبنا للترقي المعنوي، وغير ذلك مما نرى الناس يبذلون فيه عامة وقتهم، ومعظم جهدهم، وخالص فكرهم، ولا يكون لإسلامهم وإيمانهم وأحوال أمتهم مثل هذا الاعتناء والاعتبار والأخذ بالأسباب المهمة، والله عز وجل دعانا للعمل بجد وبعزم وبحزم، وجعل العمل هو المناص فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105]، وعندما دعينا للعمل دعينا بصيغ عظيمة، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، فهذه كلها صيغ تدلنا على أن الكسل والخمول لا موقع له ولا مكان له في صفة المسلم الحق، فكيف إذا كان المسلم في زمن ضعفت فيه الأمة، وذهبت هيبتها، وضاعت قيمتها، وتسلط عليها أعداؤها؟! إن الكسل حينئذٍ يكون جريمة عظمى، ويكون صورة من صور موات القلوب والنفوس، نسأل الله عز وجل السلامة.

دور العلم في إصلاح النفس

دور العلم في إصلاح النفس لابد من إصلاح النفس من الجهل إلى العلم، فأمة الإسلام اليوم كثير من أبنائها لا يعرف دينه، ولا يقرأ قرآنه، ولا يطالع حديث وسنة وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل كثير من أبناء الإسلام اليوم يعرف عن سقطة الناس وسفلتهم أكثر مما يعرف من أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا ينبغي أن نستعجب ونستغرب مما يحصل إذا رأينا كيف أصبحت النفوس ضعيفة من كثرة جهلها بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر شيخ الإسلام أن النفس بطبيعتها يغلبها الهوى، وينبغي لكل أحد -كما قال- أن يعرف أن النفس جاهلة ظالمة، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح. فكيف يكون العلاج؟ قال: لابد من علاج الجهل بالعلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم. قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، وكل الأنبياء استعاذوا من الجهل، وليس المقصود بالجهل مجرد عدم العلم، بل هو عدم الالتزام والعمل بهذا العلم كما هو معلوم. فلنطالب أنفسنا جميعاً بأن نعظم ونزيد ونواصل الصلة بكتاب الله مداومة على تلاوته، وإحساناً لترتيله، وتأملاً وتدبراً في معانيه، واجتهاداً في الأخذ بأحكامه والتحلي بآدابه، وحرصاً على نشره وتعليمه والدعوة إليه، وذلك فيه من الأثر والخير ما فيه.

أهمية الذكر في إصلاح النفس

أهمية الذكر في إصلاح النفس لابد من الانتقال من الغفلة إلى الذكر، فالنفوس غلب عليها الران، والقلوب اشتدت فيها القسوة، وأظلمت النفوس من كثرة ما تركت من الطاعات والواجبات، ولابد في إصلاح النفس من هذا التذكر؛ فإن أحوالنا اليوم تدعو إلى لفت النظر؛ فإن نفوسنا كأنما هي في نوم بلا يقظة، وتسويف بلا حزم، وابتلاء بلا اعتبار، وكأن القلوب قد عميت، وكأن النفوس قد ركعت، كثير منا في عقول سادرة، وألسن لاغية، وآذان للباطل مصغية، فلا الآيات تُتلى، ولا الأحاديث تُروى، وربما تُتلى وتُروى ولكنها لا تجد آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية، ولا أنفساً متقبلة، ولذا لابد أن ننتبه، قال ابن كثير رحمه الله في قوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]: أي: لا توضع الموعظة في غير أهلها الذين لا يعتبرون ولا يتذكرون بها، والله سبحانه وتعالى قد وصف الغافلين وصفاً ينبغي أن نحذر منه، وصفاً يخلع قلب كل مسلم، ويجعله ينتبه ويرتاع حتى لا يكون من أهل هذا الوصف، وهو قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فهل يرضى أحدنا أن يكون كالأنعام، وأن يكون كأنه لا قلب ولا عين ولا أذن له؛ لأنه لم يعتبر؛ ولأنه لم يتذكر؛ ولأنه ما زال غافلاً؛ ولأنه ما زال في الغي سادراً؛ ولأنه ما زال بالشهوات منشغلاً؛ ولأنه ما زال في الملذات منغمساً؟! هذه صورة -للأسف الشديد- تعمنا إلا من رحم الله، وإذا تذكرنا تذكرنا بقدر الحادث الذي مر، وبقدر النكبة التي مرت ثم عدنا من بعد ذلك إلى غفلتنا لنستمر في نومنا وغينا دون أن نجعل من هذه الأحداث محطات تغيير وأسباب تحول حقيقي دائم نحو ما ينبغي أن تكون عليه أحوالنا، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعتبر بها. كان أسلافنا من أصحاب القلوب الحية، والنفوس المطمئنة ذات التأثر العظيم، ولذلك نسمع من أقوالهم، ونعرف من أحوالهم إذا قرأنا سيرهم ما يلفت نظرنا إلى هذا المعنى، رأى بعض الناس الخوف في وجه أحد السلف فسألوه فقال: ذكرت ليلة صبحها يوم القيامة، وكما قال قائلهم: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. فأديموا المحاسبة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعتبروا بالأحداث الجارية، قال عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]، فهذه صفة قد ذم الله بها أولئك القوم من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن نهجه سبحانه وتعالى، فما بالنا نجعل ذلك من صفاتنا وخلالنا؟! نسأل الله عز وجل السلامة.

تربية الأبناء

تربية الأبناء الخطوة الثانية: ربوا أبناءكم، ونحن نعرف أن الخلل الواقع في شبابنا وشاباتنا إنما هو بتفريط الآباء والأمهات، فمن هم هؤلاء الشباب والشابات الضائعون؟ إنهم أبناء لهذا أو لتلك، إنهم إخوان لأولئك وهؤلاء، إنهم في آخر الأمر لمن فرط في حقهم، ولم يقم بأداء الواجب تجاههم، ذلك الواجب الذي نعرفه من قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ونعرف ذلك من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، فهل قمت بواجبك؟ وهل أدبت أبناءك وربيتهم؟ استمع لما ذكر بعض أهل التفسير في هذه الآية: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) قال مجاهد: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله. وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه. وقال الضحاك: حق على المسلم أن يعلم أهله وقرابته وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه. وذلك هو ما ينبغي أن نكون عليه.

وصايا في كيفية تربية الأبناء

وصايا في كيفية تربية الأبناء نذكر بإيجاز شديد ثلاث وصايا في تربية الأبناء: الأولى: اقتربوا منهم، وكونوا قدوة لهم؛ فإن أعظم فساد الأبناء من فساد قدوات الآباء والأمهات، إذ كيف تريده أن يصلي الفجر وأنت لا تصليها إلا وقد أشرقت الشمس؟! وكيف تريده أن يكون من جيل القرآن وأنت لا تكاد تتلو القرآن، ولا تمس المصحف إلا من عام إلى عام؟! وكيف تريد الأم أن تكون ابنتها محجبة مصونة عفيفة وهي ليست كذلك؟! فكم في أحوالنا ما هو سبب في فساد أبنائنا! أفليس جدير بنا أن نصدق مع الله، وأن نتحمل الأمانة والمسئولية التي جعلها الله في أعناقنا؟ الثانية: علموهم، ورغبوهم في العمل الصالح، ولابد من التعليم، فإن لم تكن أنت فارغاً فهيئ له من يعلمه القرآن، وهيئ له من يذكره ويتلو عليه القرآن، ويسرد عليه السيرة، واجعل لأبنائك من الاهتمام بتعلم الدين أعظم من الاهتمام الذي نراه من الناس في تعليم الأبناء اللغة الإنجليزية والفيزياء والرياضيات؛ حيث يأتون لهم بالمدرس تلو المدرس، وينفقون المال تلو المال، وغير ذلك ليس مهماً عندهم، وليس له موضع اعتبار، وليس موضع مسئولية، وهذه قضية خطيرة! الثالثة: تابعوهم، وقوموهم في المسير، ولابد من هذا حتى تحصل التربية الكاملة.

إصلاح المجتمعات

إصلاح المجتمعات الخطوة الثالثة: إصلاح المجتمعات، ليس في إسلامنا: أنا والطوفان من بعدي، وليس في إسلامنا فهم خاطئ قد حذر منه الصحابة الكرام منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، أي: لا تفهموا الآية فهماً خاطئاً، فتظنوا أن قيامكم بأمر أنفسكم وأدائكم لفرائضكم يكفيكم، فلا تأمرون أحداً، ولا تنهون أحداً، بل أردف هذه الآية بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم)، فينبغي أن ندرك خطورة ترك إصلاح المجتمع، إن المنكرات فاشية وظاهرة، وكأن الألسن قد خرست، والعيون قد عميت، والأيدي قد شلت، وهذه قضية خطيرة! فما بال القلوب لا تتأثر؟ وما بال الوجوه لا تتمعر؟ وما بال الألسن لا تحذر وتنذر؟ وما بالنا وقد أصبح في أحوالنا ما قد بلغ مرتبة خطيرة؟ فقد تحول المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، بل ربما نجد صاحب المعروف يستتر بمعروفه، ولا يكاد يرفع به رأسه، وصاحب المنكر معلن به ومجاهر، والناس يستحيون أن يقولوا له كلمة، أو أن يذكروه بموعظة، أو أن يبينوا خطأه وظلمه وفساده، وهذه قضية خطيرة! والله سبحانه وتعالى قد بين مغبتها، وحذر منها، ولابد أن ننتبه إلى العقوبات الناجمة عن ذلك، كما قال جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] وفي قراءة: (لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال ابن تيمية: قراءتان صحيحتان، ومعناهما ليس فيه تعارض؛ فالظالم هو المرتكب للمنكر، وغير المرتكب غير ظالم من وجه، ويمكن أن يكون ظالماً إذا ترك الواجب في الإنكار على المنكر، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه سبب لمحق البركة، وسبب لوقوع البلايا والرزايا.

كيفية إصلاح المجتمعات

كيفية إصلاح المجتمعات لابد من التركيز على الجوانب المهمة التي نحتاج إليها في إصلاح مجتمعاتنا، ومنها: أولاً: تغيير الفرقة إلى ألفة، فأعظم بلايا أمتنا فرقة صفوفها، وتباعد آرائها، واختلافها في أمرها، ولم يحل بنا ما حل بنا من تمكن أراذل الناس وشراذمهم من اليهود -عليهم لعائن الله- إلا من هذه الفرقة والنزاع والشقاق التي تسلط بها علينا أعداؤنا، وهذا ميدان جهاد عظيم، قال السعدي رحمه الله: الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة واتفاق الكلمة مهم قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:62 - 63]، ثم قال: فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل، وهو تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية، وفي جمع أفرادهم وشعوبهم، وفي ربط الصداقات والمعاهدات بين حكوماتهم بكل وسيلة، ومن أنفع الأمور أن يتصدى لهذا جميع طبقات المسلمين: من العلماء والأمراء والكبراء وجميع الأفراد، وهذا أمر مهم. ثانياً: تحويل الفساد إلى إصلاح، فكل فساد ومنكر لابد أن ننهى عنه، وأن نذكر بضرره، والقضية ليست في الأمور المشتبهة، بل نحن نتحدث عن أمور أحكامها صريحة واضحة، يعلمها أكثر المسلمين من الدين بالضرورة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)، فنحن نريد أن نأمر بالحلال البين، وننهى عن الحرام البين. أليس الربا حراماً بيناً؟! وهل يحتاج أحد فيه إلى فتوى لهيئة من كبار العلماء أو لمجمع فقهي؟! ألسنا نعرف الوعيد الشديد الذي لم يرد له مثيل في قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]؟! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا أنه سبعون باباً، وأدناه مثل أن يزني الرجل بأمه، والعياذ بالله! وهكذا ما نراه من التبرج والسفور والاختلاط، وحرمتها جلية واضحة دون أن يكون هناك هذا التوجه للتغيير والتذكير، قال الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، فإن بقيت قلة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فالله يحفظ بها كثيراً من الخير، ويديم بها كثيراً من المعروف، وينقل بها الصلاح والخير جيلاً عبر جيل بإذنه سبحانه وتعالى. قال السعدي في هذه الآية: وفي هذا حث للأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يحيون به الموتى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى، والله سبحانه وتعالى قد بين ذلك. ثالثاً: تحويل الإعراض إلى إقبال، فالإعراض عن الله وأوامره لابد أن يتحول إلى الإقبال على طاعة الله، والقيام بفرائضه، والأداء لواجباته، والسعي إلى الاستكثار من هذه الخيرات والتطوعات، ولابد من تذكير؛ فإن الحث والتذكير يحصل به من الاعتبار والتعلق بالأجور المذكورة في النصوص ما يعين على فعلها، ولكننا نغفل عن هذا؟

خطوات مهمة قبل مواجهة الأعداء مباشرة

خطوات مهمة قبل مواجهة الأعداء مباشرة نختم هذه الخطوات وهذه المسائل بمسألة مهمة، وهي: مواجهة الأعداء مباشرة، ولسنا نعني بذلك القتال والجهاد؛ فإنه ماض إلى يوم القيامة، وحكمه معروف، وليس ذلك إعراضاً عن أهميته، أو عن أثره العظيم، ولكننا نعلم أننا مقصرون فيما هو قبله، فنذكر بالمقدمات فنقول: هاهنا جملة من الأمور والتوصيات المهمة التي لابد لنا منها:

أهمية معرفة الأمور والحذر من العواقب قبل مواجهة الأعداء

أهمية معرفة الأمور والحذر من العواقب قبل مواجهة الأعداء ثانياً: معرفة وحذر، لا جهل وخدر، لا يزال بعض الناس اليوم يصدقون مقالات الأعداء، ويروجونها بيننا بألسنة تنطق بلغتنا، ونحن نعرف أن كثيراً من المسلمين ليس عندهم من الوعي والإدراك ما يبين حقيقة وخطورة الأعداء، وبعضهم يظن أن العداء إنما هو في هذه الصورة فحسب، أو أنه في هذا الميدان وحده، أو أنه في تلك البلاد وحدها، ولا يعرف الحقائق القرآنية، والكواشف النبوية التي تبين هذه الصورة الحقيقية للأعداء، قال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]، وقال سبحانه: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] والآيات في هذا كثيرة؛ أخبر الله سبحانه وتعالى بها، وبينها جل وعلا في مواقف كثيرة مما جاء سرده ووصفه في كتابه سبحانه وتعالى، وبين الحق عز وجل كل الصور التي تختلف من قول اللسان وإضمار القلب، وكشف أهل النفاق الذين يرددون مقالات الأعداء، ويجوسون في صفوف الأمة، بما يريدونه منها، وما يسعون إلى النيل منها بواسطة هؤلاء، والله عز وجل قد بين كيف يكون لأولئك من أثر سلبي، فبين الحق سبحانه وتعالى في شأن ووصف المنافقين ما هو ظاهر في قوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، وما بينه سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4]، ثم قال الله سبحانه وتعالى في آخر هذه الآيات: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4]. والحذر واجب، والانتباه والالتفات إلى هذه الحقيقة مهم، ولابد لنا منها حتى ندرك هذه المخاطر. قال القرطبي رحمه الله: في هذا الحذر وجهان: أحدهما: احذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم. والثاني: احذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.

الدعوة عزة وهداية

الدعوة عزة وهداية أولاً: الدعوة عزة وهداية لا ذلة وغواية، ونعني بذلك: أن نحافظ في مواجهة أعدائنا على عزة نفوسنا، وإن كسرنا أو هزمنا في ميدان مادي أو في بلد بعينه أو في زمن بعينه أو نحو ذلك؛ فإن الإنسان المؤمن لا يُهزم في عزته وفي قوة إيمانه وفي عزيمته الماضية، كما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم بعد غزوة أحد. وربعي بن عامر مثل حي قوي في هذا المعنى؛ فإنه دخل إلى أبهة الملك عند الفرس فلم يشغله ذلك، ولم ينبهر به، ولم يوقع في نفسه شيئاً من الضعف أو الاستعظام لأعدائه، بل قال قولته الشهيرة عندما سئل: ما الذي جاء بكم؟ فقال: (لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). وبهذا الموقف هو يعلن عن بيان قدرته على المواجهة والثبات، ويغزو بذلك عقول القوم وقلوبهم، فإن أولئك الأعداء كانوا مثل الذين نعرفهم اليوم في ضلال وضياع وحيرة وشك، وكثيرٌ منهم على فساد وظلم وفجور وعهر وفسق، وكثير من الشعوب التي تحت هذه القيادات الظالمة الجائرة المجرمة يحتاجون منا أن ندعوهم إلى الله عز وجل، ويحتاجون أن نتمثل الإسلام، ونعتز به، والذي لا يعتز بدينه لا يعزونه، والذي لا يحترم مبدأه لا يحترمونه. اليوم نرى بعض المسلمين قد ذلت نفوسهم وكأنما هم أقزام أمام أعدائهم، وقد انبهروا بهم، بل بعضهم قد يعظمهم تعظيماً يوحي لك أنه يرى أن الحق والخير والصواب والهدى إنما هو عندهم، وهذه قضية خطيرة لابد من الالتفات لها. ونقف وقفات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة؛ لنعرف أهمية هذا الجانب: في أعقاب أحد، وبعد انجلاء غبار المعركة بقليل جاء أبو سفيان منتشياً مفتخراً، جاء وهو يسأل: هل فيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هل فيكم أبو بكر؟ هل فيكم عمر؟ فسكتوا عنه، ثم أجاب عمر، فأراد أبو سفيان أن يبين أن انتصاره العسكري أو المادي هو انتصار عقدي مبدئي أخلاقي حضاري، فقال: اعل هبل، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما تجيبونه؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، ثم قال: العزى لنا ولا عزى لكم، فجاء A ( الله مولانا ولا مولى لكم)، ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وجاء A ( لا سواء؛ قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة)، وفي ذلك الوقت كان المسلمون في كسرة وشبه هزيمة في تلك الجولة، وكان منهم من استشهد، وكانت الحيرة قد ضربت في صفوفهم، لكن ذلك لم ينل من عزتهم، ومن شموخهم بدينهم؛ حتى لا يستطيعوا أن يقفوا ويثبتوا، وأن يبينوا ويوضحوا ويغيروا أفكار الآخرين، ويبدلوا آراءهم، بل بقوا أعزة، والناس يتساءلون: كيف هذا ضعيف قد هزم، ولا يزال مستعلياً، ولا يزال مفتخراً؟! إن هذا يلفت الأنظار، ويجعل الآخرين يفكرون أن هناك سراً، وأن هؤلاء الناس عندهم مبدأ قوي أصيل. نحن نعرف أن الكافرين يحتاجون إلى دعوة، وبعض المسلمين يقيمون في بلاد الكفر مثل أمريكا وغيرها، وتجد بعضهم -وخاصة مع هذه الأحداث- ربما أصبح يتوارى بدينه، ويريد ألا يظهر إسلامه، وليس هذا من باب المداراة المطلوبة في كثير من الأحوال، ولها صور شرعية، بل بعضهم قد بلغ به الأمر مبلغاً أخطر من ذلك. ونذكر بما وقع للصحابة رضوان الله عليهم عندما هاجروا إلى الحبشة، وكانوا غرباء بعداء، وجاء عمرو بن العاص ومن معه يريدون أن يؤلبوا النجاشي عليهم، فجاء بهم النجاشي ليسمع منهم، فأي شيء قالوا؟ هل قالوا: نحن قلة قليلة دعونا نعطيهم من القول ما يريدون، وغيروا وكونوا دوبلماسيين، وأعطوا صورة تنم عن الحضارة، واعترفوا -كما يقولون- بالرأي الآخر؟ ماذا قال جعفر رضي الله عنه؟ لقد قال كلمات فيها العزة، وفيها الدعوة والهداية، فكان من قوله رحمه الله: (كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لنعبد الله وحده سبحانه وتعالى، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، ونهانا عن الفواحش) إلى آخر ما قال. ثم قال عمرو بن العاص الداهية المحنك في اليوم التالي: لآتينهم بما يبيد خضراءهم، فجاء إلى النجاشي وقال: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً! وعيسى عند النصارى بعد أن دخل التحريف إلى ديانتهم هو الله أو ابن الله، وعند المسلمين هو نبي، فجيء بهم ليسألهم! ماذا عندهم في هذا؟ وهي قضية فاصلة؛ لأنهم إن قالوا ما يخالفه فقد يكونون عند ذلك هالكين، فأي شيء قالوا؟ عندما سئل جعفر عن ذلك قال: نقول فيه ما قاله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (هو كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه)، فقال النجاشي: (ما عدا ما قلت عودي هذا)، فنخرت البطارقة لموافقة النجاشي للمسلمين، فقال: (وإن نخرتم). فانظروا إلى هذا الموقف كيف كانت فيه العزة، وكيف كان فيه نشر أنوار الهداية والدعوة، ولو أن المسلمين المعاصرين اعتزوا بإسلامهم لكان ذلك أعظم مواجهة لأعدائهم.

أهمية الإعداد لمواجهة الأعداء

أهمية الإعداد لمواجهة الأعداء ثالثاً: إعداد ومواجهة، لا إخلال ومداهنة، ولابد من المواجهة بإذنه عز وجل، الله عز وجل يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، والإعداد شامل لكل أنواع الإعداد: إعداد النفوس والأجسام، وإعداد العدة والعتاد، وإعداد الأمة توحيداً لصفوفها، وجمعاً لكلمتها، وإصلاحاً لأحوالها، والله سبحانه وتعالى قد بين لنا ما ينبغي أن نكون عليه، حتى لا نكون مداهنين لأعدائنا خوفاً منهم أو رغبة فيما عندهم، والناظر اليوم يرى أحوالاً عجيبة، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو الدول؛ فإن بعضاً من الدول تعلن أنها لا تعد، وأنها لا تواجه، بل إنها تسعى إلى مداهنة ومجاملة، وإلى شيء مما تظن أنها ترضي به أولئك الأعداء، ولم تفقه -رغم كل ما جرى ويجري- أنه لا يرضي أولئك إلا انسلاخ تام من الدين، وانقطاع كامل عن الأمة، وانبتات تام عن تاريخها؛ إنهم يريدون أن يهيمنوا ويسيطروا بكل ما تعنيه هذه الكلمة، وكل ما تشمله الهيمنة؛ في اقتصاد أو سياسة أو غير ذلك، ونحن نقول: لابد للأمة أن تأخذ بأسباب هذا الإعداد. وربما يقول الناس: إنها كلمة مطلقة، ونحن نقول: نعم، هي واسعة المدى، فما الذي فعلته فيما تملكه بيدك لتتوقى الأضرار والمفاسد والمخاطر التي يقدمونها لنا؟ لماذا ينتجون الأفلام المفسدة الفاسدة ونحن نشتريها بأموالنا، ونشاهدها، ونعرضها في قنواتنا على أبنائنا؟ أليس بإمكاننا أن نقطع هذا ونمنعه؟ لماذا يصنعون ونشتري دون أن نجتهد في أن نصنع ونكتفي بذواتنا؟! إن هذه القضايا الأولية مبدئية من جهة، وهي بداية لمثل هذا الإعداد؛ فإن كان أحدنا لا يريد أن يتخلى عن نوع بعينه من شراب أو طعام دون أن يستشعر أن ماله يعود لأولئك الصهاينة أو لأولئك الصليبيين أو لأمثالهم؛ فكيف يقول بعد ذلك: إنه يريد أن يكون مواجهاً لأعداء الله؟! لابد للأمة أن تأخذ بكل أسباب الاكتفاء الاقتصادي والاستقلال السياسي، ومما يعين على هذا التكامل فيما بين الأمة عموماً، ونحن نستطيع أن نحقق تكاملاً جزئياً فيما بيننا. ولا شك أن من هذه الصور في الإعداد ترك الترف والسرف واللهو والعبث؛ لأن هذا ليس من الإعداد. إن الأمة اليوم ينبغي أن تكون أمة جد واجتهاد، وأمة حزم وعزم، وأمة قوة وشدة؛ إذ لا مجال للرخاء والارتخاء، ولا مجال لكثرة الملهيات والمغريات، فما زلنا إلى اليوم نرى أنه قد عادت كل وسائل الإعلام إلى ما كانت عليه وربما أشد، وما زلنا نرى الرقص والغناء والطرب والكرة المستديرة هي الشاغل الأكبر والمقصود الأعظم، وكأنما ليس للأمة من اهتمام أو فائدة أو شيء تنشغل به إلا مثل هذه الأمور، فكيف يمكن أن تكون أمة الإسلام في مواجهة عدو أو في مرحلة مواجهة، وهي تنشغل بهذه المساحات العريضة الواسعة الذي نراه في شتى الميادين، وكأنما قد اختصر المجد والتقدم في رنة نغم، وركلة قدم، وجرة قلم، دون أن تكون هناك صور البناء والجد الحقيقية؟! لماذا تغيرت بعض هذه الأحوال قليلاً ثم عادت وكأن شيئاً لم يكن؟! إن الأمة لم تستيقظ رغم كل هذه الكوارث والنكبات التي ما زالت قائمة، بل هي متوالية، بل ربما هي كل يوم مشتدة أكثر فأكثر، والناظر في الأحوال يعلم ذلك، وما يجري في فلسطين، وما يجري في غير فلسطين كالعراق واضح بين، والناظر يرى كيف تفرض الأمور! وكيف تغير! وكيف تدار الرحى على الإسلام والمسلمين، وعلى الثابتين على الدين القائمين على مواجهة أعدائهم، ومع كل هذا ما زلنا نقول: إننا في مراحل، وكأنما قد انتهت مخاطرها، أو خفت حدتها، أو أصبحت نوعاً من الأمور المعتادة التي لا نحتاج فيها إلى تذكر وانتباه. حين نذكر بمجمل هذه القضايا لأننا نجد أنفسنا ملزمين بها، ونجدها أمانة في أعناقنا، وواجباً على كواهلنا، فإن نحن قصرنا فيها كنا من أسباب ضعف الأمة، وكنا من أسباب حلول البلاء، وكنا من أسباب ارتفاع الرحمة، وكنا من أسباب ابتعاد النصر، فإن كل ذلك مربوط بسنة الله عز وجل، وسنته لا تحابي أحداً، ولذلك ينبغي أن نجتهد في كل هذه المعاني التي ذكرناها، ويذكر كل الناس وكل أفراد الأمة -من العلماء، والأمراء، وأصحاب الأمر والنهي- بواجباتهم، فإن لم يقوموا بذلك فليس ذلك عذراً لك، فإن الحجة قائمة عليك، وإن المسئولية بين يدي الله فردية، وإن الله سائلك عن كل ما استرعاك من رعية، وكل ما أعطاك من إمكانية، وكل ما رزقك من العمر، وكل ما أعطاك من الطاقات والإمكانات، ونحن نعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه: ما عمل به، وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه)، فلن يسألك الله عز وجل عن حاكم وإن قصر إلا في دائرة ما تستطيع به من الإصلاح، ولا عن عالم وإن غفل إلا فيما تستطيع به أن تقوم بواجبك، لكن السؤال الأعظم لك ولي هو فيما هو تحت يدك، في الفريضة التي تركتها، وفي الواجبات التي قصرت فيها، وفي الملهيات التي انشغلت بها، وفي المنكرات التي ارتكبتها، وفي الأمانات التي ضيعتها، وفي المسئوليات التي لم تقم بها، وهذا هو المبدأ، وهذه هي البداية، وهذا هو ألف وباء حتى نصل إلى الياء، فلا تقفزوا في المراحل؛ فإن كثيراً منها بعضه مترتب على بعض، ومن وراء ذلك وقبله وبعده ومعه لن يغير أحد شرعاً من شرع الله، ولا حكماً من أحكام الله، ولن يبطل أحد كائناً من كان شريعة الجهاد الماضية بحديث النبي عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، ولكننا نقول: سيروا على الطريق من أوله إلى آخره، وخذوا بالأسباب من جميع جوانبها، واحرصوا على التعرض الصحيح لنصر الله سبحانه وتعالى؛ حتى يأذن الله جل وعلا بصلاح قلوبنا، وتغير أحوالنا، ووحدة صفوفنا، وقدرتنا على مواجهة أعدائنا، وهزيمتهم بإذنه سبحانه وتعالى عاجلاً غير آجل، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

نصر الإسلام مسئولية على الجميع

نصر الإسلام مسئولية على الجميع Q هل يأثم الفرد على هزيمة الإسلام والمسلمين؟ وما دور الفرد في النصر؟ A هذا هو موضوع حديثنا الذي تحدثنا به، وكان كله منصباً في هذا الباب، وأؤكد مرة أخرى أننا نريد أن نواجه أنفسنا بكل وضوح وصراحة.

سبب ضرب الأمثلة بشباب الصحابة رضي الله عنهم

سبب ضرب الأمثلة بشباب الصحابة رضي الله عنهم Q ضربت الأمثلة بشباب الصحابة، فلماذا لم تضرب لنا أمثلة في زماننا هذا؟ A نقول: الأمثلة كثيرة، والخير في أمة محمد باق، لكن تلك الأمثلة تتميز بعدة مزايا: أولاً: أنها أمثلة قد جمعت من أسباب وصور الكمال أكثرها. ثانياً: أنها أمثلة قد احتف بها ووضح فيها ارتباطها بأصالة المنهج في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: الأمثلة هي الأمثلة، وليس بالضرورة أن يكون المثال هنا أو هناك، ولماذا نقول: إنه إذا ضربنا الأمثلة بالصحابة فنحن نتكلم عن تاريخ مضى لا يمكن تكراره، ولا تمكن إعادته؟ هذا ليس بصحيح؛ فكل مثال قديماً كان أو حديثاً له أثره، ونحن إذا أردنا أن نسرد الأمثلة فالتاريخ كله -عبر مراحله المختلفة- لم يخل من رجال كانوا رجال صدق وإيمان، وإسلام وقوة وعزة في كلما مر بهم من الخطوب والأحوال، وهذا أمره واضح بين.

مواجهة الأعداء مسئولية الجميع

مواجهة الأعداء مسئولية الجميع Q المواجهة مع العدو ستجر حتماً إلى المواجهة مع الأنظمة والحكومات، ألا تعتقد بأن أقل ضرر أن يترك الأمر على أولياء الأمر وعليهم الوزر والخطيئة؟ A نحن معاشر المسلمين والشعوب في كثير من الأحوال مع كثرة هذه المشكلات أصبحنا ننفس عن أنفسنا بالنقد الدائم على الحكومات والدول والمسئولين، ولا يعني ذلك أن هؤلاء براء، وأنهم ليسوا مفرطين ومقصرين، لكننا لا نقول ذلك حتى نبرئ أنفسنا من المسئولية، بل كلٌ في رقبته وعنقه مسئولية وأمانة لا تبرأ بمثل هذا. وعندما نقول ذلك على سبيل الإصلاح والدعوة ينبغي أن يكون بوسيلته الصحيحة، وليس هكذا كلاماً وجعجعة في الهواء وصراخاً في وسائل الإعلام لا على هدي ولا على منهجية ولا بطريقة ولا بآلية يصل بها الأمر إلى ما قد يرجى به الخير والإصلاح. ونقول كذلك: هل يمكن أن يصلح الحكام والأمراء وتبقى الرعية فاسدة فيكتمل الأمر؟ لا، بل هي حلقات لابد من اكتمالها، فإن لم تكمل ما بيدك وما هو تحت أمرك، وما هو في طاقتك وقدرتك؛ فكيف تكمل غيره؟! ولكننا نقول أيها الإخوة: ينبغي ألا نكون عاطفيين ومندفعين، وينبغي أيضاً ألا نكون بعيدين عن الوعي والإدارات، وعن معرفة الحقائق والمخاطر، وعن معرفة الأسباب والمسببات، ولكن كل ذلك يحتاج إلى بصيرة ووعي وحكمة، والأمور العظيمة الكبيرة لا ينبغي أن ينفرد بها آحاد الناس ليقرروا فيها، ولينفذوا فيها ما رأوه من القرار دون أن يعرفوا كثيراً من الجوانب المحتفة بها، والأمور اللازمة لها، ودون أن يتشاوروا مع غيرهم؛ لأن هذا الأمر لا يخصك وحدك، بل يخص الأمة؛ فإذا صنعت صنيعاً كنت فيه مخطئاً ربما جررت على غيرك وعلى أهل الإسلام ما يكون أعظم وأكثر ضرراً مما أردته من الإصلاح، فهذه مسألة مهمة. ثم أيها الإخوة! نحن أيضاً علينا واجب، وندرك أن كل الحكام والأمراء والمسئولين هم من بني البشر، وهم في أصلهم على إسلام وإيمان، فلم لا يكون لنا أمل في أن تكون هذه الأحداث كما أيقظتنا نحن من غفلة أن توقظهم، وأن يكون هناك أسبابٌ تؤخذ حتى يتكامل الإصلاح من جوانبه كلها؟ نحن نعرف أن أعداءنا يريدون أن يلعبوا على الحبلين، وأن يشقوا الصفوف؛ لأن الفرقة -حتى ولو كانت لها بعض الأسباب الصحيحة- لو شاعت وكثرت في المجتمعات بالمهاترات والمخاصمات والمعارضات والاعتراضات؛ شغلت بها الأمة، وكان بأسها بينها، وصارت أحوالها متعارضة داخل صفوفها، ولا مصلحة في هذا، ولا خير في هذا إلا لأعدائنا، فينبغي أن نكون أصحاب فطنة وتفويت للفرص على أعدائنا، ونتقي ونترك شيئاً من الشر لأننا لا نريد أن يكون ما هو أعظم منه، وهذه مسألة مهمة. فهل ترون هذه الأزمات التي تمر بالأمة بداية للخلافة الإسلامية التي بشر بها النبي عليه الصلاة والسلام؟ أقول: إن نحن أخذنا بما تذاكرنا به الآن، وبدأنا بالتغيير الصحيح فإن الله عز وجل وعد وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، لكننا إن بقينا على ما نحن عليه فذلك هو الخطأ. وأقول متفائلاً ومستبشراً: لابد أن نشيع في أنفسنا الأمل بإذن الله عز وجل، فالخير في أمة الإسلام، واليوم تيقظت كثير من العقول، وحيت كثير من النفوس، وارتفعت كثير من العزائم، وسمت كثير من الهمم، وتنادى الناس إلى الخير، وتواصوا به، ونحن نريد أن نجعل هذا دائماً ومستمراً وزائداً ونامياً حتى يكون فيه -بإذن الله عز وجل- بشارات، ونحن اليوم في خير كثير لم يكن ليحصل لولا ما قدر الله من هذا الأمر وهذه الأحداث، فهل أحد يشك اليوم في عداء الأعداء؟ وهل أصبحت هناك غشاوات ما زالت تعمي العيون أم أنها قد أصبحت عارية مكشوفة واضحة؟ أنى لنا ذلك؟ وكيف حصل ذلك؟ وكيف يمكن أن يصل إلى هذا؟ قبل ذلك كنت تقول: هؤلاء الكفار يفعلون أو هؤلاء خطيرون، ويقول لك القائل: يا أخي! أنت مبالغ، وأنت لا تعرف، وأنت تتكلم كثيراً، واليوم بحمد الله قد تغير كثير من ذلك، وفي هذا خير، وما يجري به قدر الله لابد أن نوقن أن فيه الخير، فنلتفت إلى هذا القدر ليكون لنا فيه نفع، كما قال عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).

الدعاء مطلوب في كل وقت

الدعاء مطلوب في كل وقت Q لماذا الدعاء في القنوت كان جائزاً عند الحرب والآن ليس جائزاً؟ A نقول: ليست هذه هي المسائل، ولا تعرض بهذه الطريقة، ونحن نعلم أن أمتنا في جملتها في بلاء، ليس اليوم بل من قبل خمسين عاماً وستين عاماً وهي في بلايا، وفيها نوازل، فهل يكون الدعاء دائماً؟ لكن إذا تجددت نازلة جاء الدعاء، وإذا خفت نازلة لا يعني أنه إذا لم ندع في القنوت في كل يوم فإننا لا ندعو ولا نقنت، بل ربما نقنت في الفريضة، وإذا لم يقنت الإمام فهل يعني ذلك أن الدعاء توقف؟! هذه قضية مهمة، وقد ذكرتها، وأقول: نحن لا ندعو دعاءً دائماً متواصلاً بما ندعو به في أحوال الكرب والشدة من لجوئنا إلى الله، ومن استنصارنا على أعدائنا به سبحانه وتعالى. فلابد أن نديم الدعاء، سواء في صلواتنا أو في خلواتنا أو في جلواتنا أو في مجالسنا، ولابد أن نجعله دائماً وأبداً؛ حتى يكون ارتباطنا بالله عز وجل وطيداً وقوياً ودائماً، وليس مؤقتاً وعارضاً بحسب ما يحصل؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في توجيهه لـ ابن عباس: (تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، ونحن لا ندعو إلا إذا اشتدت الأمور وعظمت الخطوب، وإذا جاءت أوقات فيها شيء من الهدوء والسكينة نسينا الدعاء، ونسينا التعلق بالله سبحانه وتعالى، وهذا من الخطأ.

قضية المسلمين واحدة في كل مكان

قضية المسلمين واحدة في كل مكان Q هل ضاع العراق من أيدينا؟ وهل سلبت بغداد منا؟ A لم الآن نركز على هذا السؤال؟ ألا ينطبق هذا السؤال على فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى؟ ألا ينطبق هذا على أفغانستان؟ ألا يسري هذا على كل المواقع حتى البوسنة والهرسك؟ عندما هدأت الأحداث في البوسنة نسيناها، فهل انتهت قضيتها؟ وهل تحسنت أحوال المسلمين فيها؟ وهل انتهت مشكلاتهم؟ كلا! ولكننا نحن في فترات ماضية كنا دائماً نُضرب -كما يقولون- على أقفيتنا، ثم بعد ذهاب حرارة تلك الضربة ننتبه، ونرفع رءوسنا، ونمشي وكأن شيئاً لم يكن، فأقول: الأحداث اليوم قد جاءت عظيمة ضخمة سافرة كاشفة عن أنيابها، واضحة في مقاصدها، ولعلها تكون داهية أصبحت اليقضة بعدها أوسع وأقوى، ولئن قال هذا السائل مثل هذا السؤال، فنقول: إذا دامت الغفلة، ولم يحصل الإصلاح والتغيير والجد والنشاط والعزم والحزم ربما يأتي سؤال بعد فترة من الزمان تطول أو تقصر ويكون السؤال عن بلد غير البلد، وعن مدينة غير المدينة، وإذا لم نغير أحوالنا قد يصل الحال إلى مثل هذا الذي يقوله السائل وأكثر منه. نسأل الله عز وجل أن يبرم لأمتنا أمر رشد؛ يعز فيها أهل طاعته، ويذل فيها أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. ونسأله عز وجل لأمتنا وحدة من بعد فرقة، وعزة من بعد ذلة، وقوة من بعد ضعف. ونسأله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا معتصمين بكتابه، متبعين لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مقتفين لآثار أسلافنا رضوان الله عليهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

قصص عن الإسلام في إفريقيا

قصص عن الإسلام في إفريقيا جميلة هي تلك القصص التي تحكي انتشار الإسلام في أصقاع الأرض، وبها نستشعر عظمة نعمة الله عز وجل علينا، وفي الاتجاه الآخر يتضح مدى تفريط أهل الإسلام في الدعوة إليه بأبسط أمور الدعوة وأيسرها، فضلاً عن أعلاها وأفضلها مما هو في الإمكان.

جهود التنصير في إفريقيا

جهود التنصير في إفريقيا الحمد لله، الحمد لله الكبير المتعال؛ ذي العزة والجلال؛ المتفرد بصفات الكمال؛ المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدى، وإليه المرجع والمآل؛ نحمده سبحانه وتعالى شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله؛ اصطفاه الله عز وجل من خلقه، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين وسيد الأولين والآخرين، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً عمياً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته؛ فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هذه قصص عن الإسلام في أفريقيا نستشعر بها عظمة نعمة الله عز وجل علينا، ويتضح من خلالها مدى تفريطنا وتقصيرنا في القيام بواجبنا تجاه ديننا؛ هذه القارة السوداء -كما تسمى- رصدت المسيحية النصرانية ليس عشرات ولا مئات بل آلافاً من الملايين لتنصيرها، وجعلت لذلك إمكانات هائلة ضخمة، ويكفي أن نعلم أن الإنجيل مترجم إلى نحو ستمائة لغة ولهجة من لغات دارجة لا يعرفها إلا أصحابها من أهل القبائل والقرى البعيدة النائية، وقد رأيت بعيني نسخاً من الإنجيل مطبوعة بالحروف اللاتينية على اللغات واللهجات المحلية، وإذا أضفنا إلى ذلك الجهود الإعلامية الضخمة في عموم التنصير، لوجدنا أن هناك أكثر من أربعة آلاف وستمائة قناة تلفزيونية وإذاعية خاصة لنشر المسيحية والتنصير، وإذا أضفنا إلى ذلك فإنا نجد آلافاً من الدعاة إلى النصرانية يشرقون ويغربون، وتكاتفت وتعاظمت جهودهم في هذه القارة الإفريقية السوداء، وإذا مضينا سنرى مصداق قول الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، وسنرى تصديق قوله جل وعلا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، وسنرى نور الإسلام يبدد الظلمات مع تقصير المسلمين وتفريطهم، ومع ندرة وقلة دعاتهم، ومع تبدد وضعف جهودهم!

قصص مبشرة بانتشار الإسلام

قصص مبشرة بانتشار الإسلام أشرع في ذكر بعض قصص عرفتها أو لامستها من خلال زيارات ميدانية، جوزيف رجل نصراني نشأ في ظلال الكنيسة التي تعطي طعاماً لبطون جائعة فارغة، وكساء لأجساد ناحلة عارية، ودواء لأجساد سقيمة بالية، وخدمات تجعلهم لا يملكون إلا أن تخفق قلوبهم بالشكر والحمد لمن يقدم لهم ذلك، ثم بالموافقة والمتابعة له؛ وقد تقدم هذا الرجل في النصرانية، وبلغ شأواً عظيماً حتى بعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليحصل -وقد حصل- على درجة الماجستير في علوم اللاهوت والكنيسة، وفي أثناء دراسته تلك وبحكم التخصص كان يمر على موضوعات فيها مقارنة بين الأديان، ويقرأ من الكتب ما لا يجد فيه سطراً أو كلمة تذكر الإسلام بخير مطلقاً؛ وغريزة البحث ومعرفة بعض أسباب التناقض في تلك الديانات المحرفة قادته إلى أن يبحث أكثر عن الإسلام بنفسه، وبتوفيق من الله جل وعلا لم يكن ثمة من تقدم له بدعوة، ولا من أهداه كتاباً، ولا من ناظره في مسألة، وإذا بنور الحق يبدد ظلمات الظلم، وإذا به يدخل الإسلام ويعلن إسلامه ويشهره؛ لتسلب منه سيارته، ويقطع راتبه، وتلغى امتيازاته، ويصبح اليوم لا يملك مالاً يدرس به أبناءه، وله الآن ولدان في بيته لا يخرجان للدراسة والتعلم، أي شيء صنع هذا الرجل؟! ورغم كل هذه الظروف قد نذر نفسه أن يدعو في داخل الصفوف المسيحية الكنسية من أبناء جلدته وبلدته، وإذا به يدخل في الإسلام المدير العام للمناهج في الكنيسة، المسئول الأول عن التعليم المنهجي للكنائس المختلفة يدخل في الإسلام بدعوة قسيس سابق حائز على درجات علمية عالية في تخصص اللاهوت الكنسي، ويمضي وراء ذلك وإذا به يكتسب من هؤلاء واحداً إثر واحد، وهو إلى اليوم هذا لا يملك ما يدرس به أبناءه بعد أن كانت عنده من الامتيازات والحظوة ما عنده!! وأحسب أنني في غنىً عن التعليق، وسأزيدكم من ذلك الكثير والكثير. وهذا جونماريبوبو قسيس نصراني أفريقي، وصل إلى مرتبة رئيس الأساقفة في بلد أفريقي، يقول: من خلال المقارنة في بعض الأبحاث العلمية، ورؤيته للمظاهر التي يؤديها المسلمون في صلاتهم وبعض عباداتهم ومناسباتهم قال: وجدت أن عقلي يدعوني، وقلبي يوافقني، ونفسي تطاوعني أن هذا الإسلام هو الحق؛ فأسلم وأشهر إسلامه، ومنذ إسلامه إلى يوم الناس هذا أسلم على يديه نحو خمسة آلاف إنسان من أولئك الذين اجتالتهم عن الحنيفية السمحة وأصل الفطرة تلك الجهود التنصيرية التبشيرية العظيمة، ما الذي جرى له بعد أن كان رئيساً للأساقفة؟! حيكت حوله المؤامرات، ونفذت الكنيسة في أثناء سفره خارج بلاده حرق منزله، ومات في هذا الحريق توءمان من أبنائه، ثم بعد فترة أعيد إحراق منزله، وتعرض للقتل ثلاث مرات، وهو يقول في آخر كل هذه المعاناة: أنا أشعر براحة واطمئنان لأنني أستشعر الآن أن الله معي. ألا يدلنا ذلك على الحقيقة العظيمة في قوة هذا الدين، وأنه الحق والفطرة والعقل والرشد والهداية؟ ألا يكشف لنا ذلك كم من أمثال هؤلاء من لم تتيسر له الأسباب، وقصرت جهود المسلمين وعجزت عن أن تقول لهم كلمات، أو أن تقدم لهم صفحات، أو أن تسمعهم بعض الآيات؛ ليكون هذا القدر اليسير كافياً في بيان الحق لهم، وإنارة الطريق أمامهم! ونزيد قصة أخرى من بلد أفريقي ثالث، يقول هذا الرجل: خدمت المسيحية بكل ما أستطيع، وتدرجت في السلم الكنسي حتى وصلت إلى المراتب العليا في الكنيسة، وكنت محباً للقراءة والاطلاع، ولا يقع في يدي كتاب متعلق بالإنجيل إلا قرأته، ثم قرأت في كتاب إنجيلي محاربة للإسلام، ووجدت فيه: هل الإسلام دين سماوي أم لا؟ إنهم يشككون في أن الإسلام دين من عند الله أو لا، فينكرون كتابه، وينكرون رسوله، وينكرون وحيه، قال: فقادني ذلك إلى البحث، وبدأت أنقب: هل الإسلام دين سماوي أو لا؟ حتى أسلمت وكتبت دراستي عن إسلامي وأسبابها، وكشفت التناقضات التي وقفت عليها من خلال البحث العلمي في التوراة والإنجيل، وما يدور في تلك الكنائس، وأخرجت دراستي هذه ونشرتها، وبينت حقيقة المعلومات الخاطئة المحرفة في الكتب الإنجيلية عن الإسلام، وحينئذ وقعت له ما وقعت من الأمور، وقد دعا إلى الإسلام، وأدخل في دين الله الحق نحواً من مائتي نفس. وهكذا سنجد العجائب ونرى الآثار، ولو مضينا لوجدنا أكثر من هذا، لكننا نقول: إذا كان الحق بذاته يقنع، وإذا كان النور بطبيعته يضيء، فما بالنا لا نقدم الحق، ولا نأخذ النور لنوصله إلى الناس؟! خذوا هذه القصة العجيبة، وقد رأيت أصحابها الذين لامسوها وعايشوها. مدرسة إسلامية أقامها بعض الغيورين من الدعاة في بعض المناطق التي بيوتها من الطين، وأهلها في غاية الفقر، ولهم أصول مسلمة، لكنهم مضيعون لإسلامهم، هذه المدرسة تضم مائتين وخمسين طفلاً في المرحلة الابتدائية، عندما بدأت المدرسة كانوا يسألون الطلاب في أول الدوام في الساعة الثامنة: هل صليتم الفجر؟ فلم يكن أحدهم يعرف الفجر، ولا يعرف أن أهله أو أسرته تصلي، فكانوا يعلمونهم الوضوء، ويصلون بهم جماعة في هذا الوقت المتأخر كل يوم، فكانت المدرسة برنامجها يبدأ كل يوم صباحي بالوضوء وأداء صلاة الفجر؛ لغرض التعليم والتنبيه، وبعد ذلك وبأيام وأسابيع يسألون: من أدى الفجر؟ فإذا بخمسة أو عشرة قد بدءوا يصلون ويعرفون من التعليم، ليست هذه هي القصة، كان بجوار هذه المدرسة سكن رجل رأى هذه المدرسة، وبعد فترة من الزمن وهو مجاور لها يراقبها ذهب بابنه وقال: أريد أن يكون ابني طالباً في مدرستكم، لماذا؟ قال: لأني رأيتكم تحرصون على النظافة والناحية الصحية، وتقومون بأمور رياضية تليق وتصح أبدان الأطفال، ثم رأيت انتظام المدرسة وجوها التربوي العام؛ وهو لا يعرف شيئاً عن هذا، وعندما أرادوا تسجيل ابنه وسألوه عن اسمه واسم ابنه، وجدوا أنه قسيس نصراني، وعندما قالوا له: هذه مدرسة إسلامية! قال: أريد ابني أن يتعلم فيها؛ لأني أرى فيها من الخير ومن النظام والانتظام ما أشعر أن فيه الخير، وسجل ابنه -وهو مسيحي نصراني- في مدرسة إسلامية؛ لأن النصرانية لا تعني لهم شيئاً في حقيقة الأمر، ولا تعني اعتقاداً راسخاً ولا يقيناً جازماً، وإنما هي بعض الضلال وبعض الأعمال التي أساسها الخدمات والإعانات، ونحو ذلك.

قصص مثيرة حول اضمحلال الإسلام في قلوب أهله

قصص مثيرة حول اضمحلال الإسلام في قلوب أهله أنتقل بكم إلى جانب آخر لعله يصيبنا بالحزن والأسى، ولكنه يواجهنا بالحقيقة المرة، أقوام ربما كانت في كثير من الأحوال أصولهم إسلامية، وهم في هذه البلاد ناطقون بالعربية، يفعلون أموراً أعلم أن بعضكم قد لا يصدقها ولكنها حقيقة واقعة: في بعض تلك المناطق النائية والقرى البعيدة أقام أحدهم حفلاً ومأدبة بقدر جهودهم وطاقاتهم وأحوالهم؛ فلما سأل الدعاة عن المناسبة؟ قيل: هذا يوم سابع لمولود، فهي بما نفهمه نحن كأنما هي وليمة العقيقة، وعندما سألوا وجدوا أن أم هذا الوليد لا زوج لها، وهذا معروف عند أبيها، وعند كل قبيلتها، ولا يجدون في ذلك غضاضة ولا إثماً ولا حرجاً ولا شيئاً يعتبرونه عيباً على أقل تقدير، ثم بعد السؤال وجدوا أن هذا المولود هو الخامس من هذه المرأة، ويعملون له الوليمة في اليوم السابع على سنن من آثار قديمة للعقيقة، ولا يرون في ذلك شيئاً! ولقيت رجلاً مرت به حادثة مشابهة، دعي إلى وليمة فلم يجب، ثم لقي والد الفتاة في اليوم التالي فسألهم عن الوليمة، فأجابه بالحقيقة، قال له: ألا تعرف أن هذا يعد زنا؟! قال: بلى! قال: فكيف تصنع هذا؟! قال: كلنا كذلك؛ ولا أحد منا يعيب ذلك، ونحن سائرون على ذلك! بل وهذه قصة رأيت من شهدها، وسمعت منه مباشرة: أحدهم مقر عمله في مدينة، وأهله في مدينة أخرى، يكتسب رزقه وعيشه، وله أكثر من عامين لم يرجع إلى بلده وإلى أهله، وفي يوم جاء يوزع بعض الحلوى على زملائه في العمل، وعندما سألوه عن السبب أو المناسبة؟ قال: رزقت بمولود! وهو غائب منذ عامين عن أهله، ويعرف أن هذا المولود ليس منه، ويفرح به ويوزع ويعلن، وهو في عاصمة بلاد إسلامية عربية أفريقية!! إن هذه الأحوال تقودنا إلى أن نفكر: هل نحن غير معنيين بذلك؟ هل لا تلحقنا المسئولية عن هذه الأحوال وعن بلد أو منطقة مثل جنوب السودان فيها نحو خمسة وستين في المائة من الوثنيين الذين لا يعرفون ديناً سماوياً، وبعضهم يعبد الشمس، وبعضهم يعبد القمر؟ يقول رجل من أوغندا أسلم ويحكي قصته: إننا في أوغندا لا دين لنا -أي: في مناطقهم وثنيون-، هناك من يعبد الشمس، وهناك من يعبد القمر، ولقد كنت أفكر في أن هذه الأمور غير صحيحة، وأعتقد أن هناك إلهاً أكبر من الشمس والقمر، زار عاصمة لبلد عربي إسلامي، وسأل عن الإسلام وأسلم، وهو يقول بكلمات جميلة مشرقة: كأنني ولدت من جديد، رأيت النور لأول مرة في حياتي، كنت أعيش في ظلم وضلال وكفر، وأصبحت أعيش في نور وهداية وطمأنينة وسلام بعد أن نطقت بالشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. كم من مثل هذا لم يتسن له ذلك، وما زال يعيش الصفة التي وصف بها حياته في ظلم وكفر وجهل وبعد عن الدين، والحق أننا مسئولون عن تبليغ دين الله.

واجبنا تجاه القارة الأفريقية

واجبنا تجاه القارة الأفريقية علينا أن نعظم المسئولية تجاه أنفسنا؛ لأنني أعلم أن كثيرين سيقولون: وماذا عسى أن نفعل؟ وربما يقول البعض: لسنا علماء أو لسنا دعاة، فأقول: ألا تعرف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ ألا تعرف أن تتكلم عن الإسلام الذي تمارسه؟ ألا تعرف أن قراءة الفاتحة ونحوها لا يعفيك من هذا الباب؟ وأذكر هنا بعضاً من الأرقام حتى نقارن ونرى أن بإمكاننا فعل شيء: كفالة داعية مسلم يذهب إلى بعض تلك المناطق، وقطعاً بعون الله وتوفيقه يكون له من الأثر في إسلام الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ما لا يمكن تصوره في كثير من الأحوال، كم يحتاج هذا الداعية في البلاد النائية والظروف الصعبة: سبعمائة وخمسون ريالاً في الشهر. تكاليف مدرسة كالتي ذكرت لكم خبرها بما فيها من إطعام الطلاب؛ لأنهم لا يجدون طعاماً، ولا يملكون مالاً، وتوفير أوراق ودفاتر وأقلام ومراسم ونحو ذلك في العام الكامل لمائتين وخمسين طالباً: ثلاثة وعشرون ألفاً وشيئاً، أليس هذا المبلغ يدفع في هذه الأيام وضعفه في ليلة واحدة في عرس من الأعراس، ويتلف من الطعام ما قد يكون به هداية أقوام وفئام من الناس وتعليم أجيال من هؤلاء الأطفال المحرومين من هداية القرآن ونور الإسلام؟! لقد دخل النصارى إلى هذه الفئات بالتعليم، وأخذوا أبناءهم وعلموهم وهم جهال، وجعلوهم يدرسون إلى المراحل الثانوية بل الجامعية بل والعالية في البلاد وفي خارجها. تكلفة كفالة تعليم طالب في المرحلة الثانوية لعام كامل: ثمانمائة وخمسة وستون ريالاً، أظنكم تعلمون أن أية مدرسة ابتدائية خاصة في أدنى مستوىً في بلادنا لا يستطيع الطالب أن يدرس فيها إلا بألفين أو ثلاثة آلاف على أقل تقدير، وهذه رسوم مع الإعاشة والكفالة الشاملة. والطالب الجامعي كفالته ألفان ومائتان وخمسون ريالاً. لا أقول هذا لنذكر الأرقام ولكن لندرك أن مثل هذا المال نحن قادرون على بذله من جيوبنا أو ممن حولنا، وأننا نستطيع أن نقدم شيئاً منه، ويكون له من الأثر العظيم ما لعله على أقل تقدير يخفف عنا المسئولية والأمانة التي هي منوطة بأعناقنا وواقعة على كواهلنا. نسأل الله عز وجل أن يبرم لهذا الدين أنصاراً يرفعون رايته، ودعاة يحملون أنواره، وأن يسخرنا لنصرة دينه وإعلاء رايته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

بشائر من بلاد الغرب

بشائر من بلاد الغرب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه؛ وإن من تقوى الله أن نسعى ونبذل في الدعوة إلى الله، وأن نشارك فيها ونسهم ولو بألسنتنا وأقوالنا، ولو بأموالنا وجهودنا، ولو بأوقاتنا وأفكارنا؛ فإن الله عز وجل سائلنا عن ذلك، وإن نعم الله عز وجل علينا التي يجب علينا شكرها عظيمة، فقد منَّ الله علينا بإيمان وإسلام وعلم ومعرفة ومساجد كثيرة يذكر فيها اسم الله، وأحوال مادية أقل ما يقال فيها: إن فيها الكفاف، وفوق ذلك بين أيدينا من الوسائل والكتب والأشرطة والإذاعات ما نستطيع أن نستفيد به وننتفع منه كثيراً، ثم نحن لا نفكر مجرد تفكير في دورنا في خدمة ديننا وفي واجبنا في شكر نعم الله سبحانه وتعالى علينا، وليست هذه القصص والأنوار التي تشرق في القلوب في أفريقيا بل في أعماق أوروبا المتحضرة، وفي أعماق أمريكا وغيرها وهي شهادات ناطقة حية على قوة هذا الدين، وعلى صلاحيته وفطريته وقوة حجته، وعلى انطباعه وانطباقه على ظروف الحياة المختلفة والمستجدة، فلئن كان البعض قد يقول: إن الأفارقة في أحوال تعليمية ومادية ومعيشية يمكن أن تكون جالبة لهم إلى الإسلام فما نقول في الأوروبيين والأمريكيين وعندهم تعليم كامل ومادة كثيرة ورزق ورغد عيش وافر فما بالهم أيضاً يدخلون في الإسلام؟ قصة واحدة أذكرها من فنلندا رأيت صاحبها ولقيته وتحدثت إليه: شاب دون العشرين من عمره مسلم اسمه: ميكائيل، مقبل على الخير، وحضر معنا دورة علمية فيها محاضرات إسلامية, وكان يترجم له؛ فسألته عن قصة إسلامه؛ فأخبرني أنها قصة امتدت سبع سنوات، كان له زميل في المدرسة صومالي مهاجر إلى تلك البلاد، وانظروا كيف يسوق الله الخير؟ وكيف تجري أقداره؟ قال: وكان زميلاً لي في فصل المدرسة، وكان بحكم أنه جديد ضعيف في الدراسة يحتاج إلى مساعدة، فكنت معه على مدى سبع سنوات أساعده في الرياضيات والفيزياء والكيمياء واللغة وغير ذلك، وتوطدت بيننا أواصر الصلة والصداقة والصحبة، وكانت نقاشات تدور بيننا عن الدين وعن الإسلام، وإذا به يذكر أنه يصلي ويتوضأ وأنه يتطهر ونتناقش في ذلك، وزدت بعد ذلك قراءة في ترجمات معاني القرآن حتى أسلمت على مدى سبع سنوات. شاب في عمر العشرين والشباب هناك غارقون حتى آذانهم في الشهوات والملذات؛ فسألته عن ذلك وقلت له: كيف كان تأثير تحول الإسلام في حياتك، وربما كانت لك حياة سابقة فيها وفيها؟ فعجبت حينما ذكر لي أن له أسرة فيها شيء من المحافظة الأخلاقية، وقال: كنت لا أشرب الخمر، ولا أحضر الحفلات المختلطة مطلقاً، وبقيت بفضل الله له فطرة سوية، وهكذا ستجد في كل مكان ما يدل على عظمة هذا الدين، ولكنه كذلك من جهة أخرى يكشف عن تفريط وتقصير المسلمين، وأنهم يستطيعون لو خدموا دينهم أن يفعلوا الكثير بدلاً من أن يتراشقوا بالتهم ويختصموا فيما بينهم، أو يبددوا أموالهم في السرف والسفه فيما ليس وراءه طائل، بل مما قد يكون عليهم فيه مغبة ومذمة. وأذكر معلومة مهمة إحصائية من الأمم المتحدة قبل نحو ست سنوات على وجه التحديد تقول فيها: إن أعلى الديانات التي تكتسب أشخاصاً جدداً هي ديانة الإسلام، وليس هذا في كل عام تقريباً لكن تلك الإحصائية تقول: إن الدين الذي يليه هو المسيحية، والفارق بينهما ستة أضعاف، أي: أنه إذا دخل في المسيحية ألف فالداخلون في الإسلام ستة آلاف مع تقصير وتفريط في المسلمين، ومع اجتهاد وجهد وبذل كبير في النصارى كما ذكره بعض من أسلم ممن بلغ مراتب عالية في الكنيسة. وأختم مقالنا بقول الأسقف السابق جوهن سبرت من جنوب أفريقيا وقد أسلم يقول: من المؤسف حقاً أن الجهود التنصيرية لا تشكو أي نقص تنظيمي أو حركي أو مالي أو معنوي، وهذا ما نفتقده عند دعاة الإسلام فضلاً عن المصاعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذا لا بد أن نتحمل مسئوليتنا، وأن نخدم ديننا، وأن نبذل لدعوتنا. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لذلك، وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وألا يجعلنا من المقصرين. ونسألك اللهم أن تجعلنا دعاة لدينك، وجنداً في سبيلك، ونسألك اللهم أن تحسن ختامنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، ومن جندك المجاهدين، وأن تكتبنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين! اللهم وفقنا للصالحات، واصرف اللهم عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا رب الأرض والسماوات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم رد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، وفرق كلمتهم، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار أنزل بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك ورعايتك وعونك لعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى والجوعى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم. اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اختم لنا بخير، واجعل عاقبتنا إلى خير، وابعثنا على خير يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذو القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

أخطار تهدد البيوت بالانهيار

أخطار تهدد البيوت بالانهيار من سنن الله عز وجل أنه جعل بيت الإنسان سكنه وراحته ومستقره، ولهذا يجب بناء هذا البيت بناءً وثيقاً مترابطاً، ولا يكون كذلك إلا إذا كان مبنياً على طاعة الله عز وجل، والبعد عما حرم الله، فيجب على كل مسلم أن يحرص على أهل بيته، وأن يجنبهم الأخطار التي تفسدهم، ومن تلك الأخطار أخطار الخادمات والسائقين، فيجب الاستغناء عنهم قدر الاستطاعة، ومن ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يتقي الخلوة المحرمة مع هؤلاء في خاصة نفسه وفي عموم أهل بيته.

سلبية انتشار ظاهرة الخادمات

سلبية انتشار ظاهرة الخادمات الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا الدرس بعنوان: (أخطار تهدد البيوت بالانهيار)، وهذا الموضوع يتناول عدة قضايا كل منها لها أهمية كبرى، وهي قضية حية وظاهرة بينة في الأسر والبيوت، وسينتظم الحديث في أربع قضايا أو أربع مشكلات وأخطار: اثنتان منها بشرية، واثنتان غير بشرية. فالأول يتعلق بالعنصر النسائي والمتمثل في المربية والخادمة، والثاني يتعلق بالعنصر الرجالي والمتمثل في السائق أو الخادم، والثالث يتعلق بالهاتف، والرابع يتعلق بالفيديو، وهذا التخصيص أو التنصيص لا يدل على أن هذه هي فقط المشكلات أو الأخطار، ولكن هذه أبرزها, وفي نفس الوقت تندرج تحتها أخطار أخرى، وسر أو غاية الحديث في مثل هذه الأمور أن هناك أخطاراً يقع فيها الناس من حيث لا يشعرون. وثانياً: أنهم قد يعرفون أن هذه الأمور أخطاء، ولكنهم لا يدركون حجم خطورة آثارها وما يترتب عليها من مشكلات؛ إذ يرون الأمر الكبير سهلاً يسيراً، ولا يلتفتون إلى النتيجة إلا في وقت متأخر، ويفاجئون بأن المقدمات التي استسهلوها وظنوها يسيرة إذا بها تنتهي إلى نتائج كبيرة ووخيمة. وثالثاً: أن هذه المشكلات –للأسف- لا تخص أصحابها الذين يجهلون بها أو الذين يعرفونها ولا يدركون أخطارها, بل هي بصورة مباشرة أو غير مباشرة تمس الآخرين الذين عندهم نوع من الحرص والإدراك لخطورة هذه المشكلات؛ فإن المجتمع اليوم لم يعد منفصلاً، ولم يعد بالإمكان أن يكون الإنسان بنفسه أو بأسرته قادراً على تأمين جميع جوانب الاحتكاك والاختلاط بالآخرين؛ فإن وسائل الاتصال وإن القضايا الاجتماعية تفرض نفسها أحياناً، وتمس البعيد عنها شاء أم أبى، ومن هنا فإن لهذه القضايا أهميتها الكبرى من هذه الوجوه الثلاثة التي أشرت إليها بإيجاز. ونبدأ في القضية الأولى، وهي قضية العنصر النسائي في البيوت، والمتعلق بالمربية والخادمة، ولوجود التقارب والتداخل بين المربية والخادمة نتحدث عن الموضوع بغير انفصال، بمعنى: نتحدث عن وجود العنصر النسائي الغريب أو المستخدم في البيوت، وأول ما أشير إليه أن هذه الظاهرة لم تعد قضية محدودة، بل هي في الحقيقة تكاد تكون متجسدة وحاصلة في أغلب الأسر والبيوت، فإن الإحصاءات والدراسات تدل على هذا، فقد نشرت جريدة (المسلمون) في العدد الثالث بعد الثلاثمائة في دراسة إحصائية أن عدد المربيات في دول الخليج يبلغ مليوناً ونصف المليون مربية، ويقصدون بالمربية مسمى المربية التي هي مخصصة لتربية الأطفال، وهي أعم من الخادمة. وفي دراسة إحصائية أخرى نشرت في مجلة (المجتمع) تقول: إن عدد الخادمات في الكويت يبلغ مائة وثمانين ألف خادمة، ليشكل هذا العدد عشرة في المائة من مجموع السكان، ويعطي معدلاً أن لكل ثلاثة أفراد من مجتمع الكويت خادمة واحدة، ويشكل معدل ثلاث خادمات للأسرة الواحدة! وعند تعميم هذه الإحصائيات -كما سيأتي في بعض الدراسات أثناء الحديث- سنجد أن القضية بحجمها الكبير في الحقيقة تثير الرعب حتى في مجالات أخرى؛ إذ إن بعض دول الخليج أيضاً في دراستها الإحصائية ذكرت أن المستخدمين مع المستخدمات مع العاملين يزيدون بنسبة لا بأس بها، أي: تزيد نسبتهم عن عدد السكان الأصليين بنسبة مئوية لا بأس بها، فيصبح أهل البلد أو أهل المجتمع الذين من المتوقع أنهم في غالبهم تجمعهم ديانة الإسلام في هذه الجزيرة ولغة العرب والحرص على الأحكام الشرعية يصبحون أقلية في مجموع هذه الأخلاط التي سيأتي ذكر جنسياتها ولغاتها ودياناتها المختلفة! فإذاً القضية ذات حجم كبير، وذات أثر خطير لما يترتب عليها من هذه الجوانب.

أسباب استخدام الخادمات

أسباب استخدام الخادمات في قضية الخادمات نتعرض أولاً إلى أسباب استخدام الخادمات، ولماذا الخادمات في البيوت؟ ثانياً: المخاطر المترتبة على ذلك في الناحية العقدية، ثم في الناحية الأخلاقية, ثم في الناحية الثقافية والتربية الأسرية, والنقطة التي تلي هذه المخاطر المتعلقة بالمجتمع. إن الأسباب مبنية أو مستخلصة من الدارسات الميدانية الاجتماعية التي نفذت بصورة رسائل علمية أو التي كانت - أيضاً- بتكليفات رسمية؛ فإن مكتب التربية لدول الخليج العربي وكثير من الصحف والمجلات والجامعات تستشعر أو استشعرت أهمية هذه القضية، فكلفت بدراسات, ومن ذلك أن مكتب التربية كلف كل دولة من الدول بإجراء دراسة ميدانية إحصائية, ثم جمعت هذه الدراسات من جميع الدول، وجعل لها نوع من الجمع والتصنيف، بحيث تعطي صورة متكاملة للظاهرة في دول الخليج العربي.

الانشغال بالمظاهر الفارغة

الانشغال بالمظاهر الفارغة السبب الخامس: الانشغال الفارغ بالمظاهر والعادات الاجتماعية، فإن المرأة تقول: إنها مشغولة. وليس عندها عمل، لكنها مشغولة بالزيارات، وبالاتصالات الهاتفية التي تمتد إلى الساعات، وبالذهاب إلى مشغل الخياطة، وبالاعتناء ببرامج التخفيف، وبحضور الأعراس، وكلما تزوجت واحدة أو ماتت واحدة أو ولدت واحدة في شرق الأرض أو غربها لابد من أن تذهب لزيارتها، فإذاً هي مشغولة, وبالتالي لابد من أن يكون هناك من يقوم بالعمل بدلاً عنها، بينما حقيقة هذه المشاغل كلها مشاغل فارغة لا يمكن أن تزاحم المهمة الأولى للمرأة في بيتها في رعاية زوجها وتربية أبنائها وحفظ بيتها، وهذه الناحية الاجتماعية والمظاهر الاجتماعية تجعل المرأة مشغولة، وتجد بعض النساء تقول: إنها مشغولة لمدة أسبوع أو لمدة شهر متقدم لهذه المواعيد وهذه السخافات التي -للأسف- طغت في بعض صور ومظاهر الأسر والمجتمعات، وأصبحت أولويات لا يمكن التنازل عنها، بل هي التي تكون مقدمة، وغيرها إما أن يصرف، وإما أن يلتمس له تأجيل أو نحو ذلك، أما هذه فلا يمسها التأجيل، ولا يمكن أن يطالها الإلغاء، ولا يمكن أن يكون فيها أية صورة من صور التنازل. وهذا السبب -أيضاً- يتعلق بالرجال؛ فإن الرجل أيضاً يقول: إنه مشغول. فهو دائم السفر، ودائم الزيارة لأصحابه، ودائم الحضور في المجالس والمقاهي والسمر ولعب الورق وغير ذلك، وعنده المواعيد التي ليس فيها إلا القيل والقال، وبالتالي هو منشغل، وإذا أراد أن يسد الباب على زوجته بعدم تحقيقه للمطالب أحضر السائق وأحضر الخادمة، فإن لم يكفها أتى بثانٍ وثانية، حتى يسكت الجميع ويتفرغ هو لأشغاله المهمة مع أصحابه الفارغين، وهذه المظاهر –للأسف- موجودة في صفوف بعض الرجال.

عمل المرأة خارج المنزل

عمل المرأة خارج المنزل السبب السادس: عمل المرأة خارج المنزل، حيث إن المرأة تكون موظفة مدرسة أو طبيبة أو نحو ذلك، وسيأتي الحديث عن هذا لاحقاً، وفي بعض الدراسات أثبتت أن ستين وسبعة من عشرة في المائة في بعض العينات سبب إحضار الخادمة فيها هو أن المرأة تعمل، بينما بعض الدراسات -مثل دراسة أجريت في البحرين- تقول: إن عمل المرأة ليس سبباً أساسياً في وجود الخادمة، بل هو سبب عارض. أي: ليس هو الأساس. وهناك دراسات أخرى في مناطق أخرى تدور على أنه ربما يكون أول وأهم الأسباب.

وجود الظروف الطارئة

وجود الظروف الطارئة السبب السابع: الظروف الطارئة وغير المعتادة، ووجود الحاجة الحقيقية. وهذه الظروف الطارئة هي مثل مرض المرأة، كأن تمرض الزوجة بحيث لا تستطيع أن تقوم بمهمات المنزل أو تعجز بمرض مقعد أو نحو ذلك، أو لو جود حاجة حقيقية من كثرة الأعمال والأعباء, كأن يكون البيت كبيراً والأولاد كثيرين، والوضع الاجتماعي فيه كثير من الدعوات والمناسبات، ويتردد عندهم أقارب كثيرون ونحو ذلك، أي: وجود حاجة حقيقية يظهر من خلالها أن المرأة لا تستطيع أن تقوم بهذا العبء وحدها، وتحتاج إلى إعانة، وليس نوعاً من الاستبدال الكلي أو الكامل.

ضعف الاهتمام بمراعاة الأحكام الشرعية

ضعف الاهتمام بمراعاة الأحكام الشرعية السبب الأخير: ضعف الاهتمام بمراعاة الأحكام الشرعية، أو الجهل بها، وقد يأتي أي سبب من الأسباب السابقة، لكن لو كان حريصاً على مراعاة الشرع لفكر في الأضرار الشرعية، ولنظر قائلاً: هل هناك مخالفات شرعية؟ وهل هذا يجوز؟ لكن عدم وجود المراعاة للأحكام الشرعية، وعدم الاحتفاء بها، حتى عدم المعرفة بها -أيضاً- هو من الأسباب التي تجعل الناس يتساهلون ولا يدققون أو يتحرجون أو يمتنعون عن مثل هذا. فهذه جملة من الأسباب التي تستدعي وجود الخادمة, وبغض النظر عن أي سبب من الأسباب فإننا نناقش هذه الخادمة وقد وجدت في المنزل, ولأي سبب أتت لا يهمنا، لكنها الآن موجودة في المنزل وفي الأسرة، فما هي المخاطر المترتبة على وجود الخادمة أو المربية؟

محاكاة الآخرين

محاكاة الآخرين السبب الرابع -وهو من أخطر الأسباب-: المحاكاة الزائفة للآخرين، والمظاهر الاجتماعية الكاذبة، فكما أنه لابد من أن يكون ديكور المنزل جميلاً، وأن يكون في الصالون النجف كذلك لابد من أن يكون في البيت الخادمة، حيث أصبحت عبارة عن مظهر تماماً مثل بقية أجزاء الديكور ولو لم تكن هناك حاجة، فلماذا يكون عند فلانة خادمة وفلانة ليس عندها خادمة؟! أو الأسرة تقول: لماذا آل فلان عندهم خادمتان ونحن ليس عندنا أي خادمة؟! فلابد من إكمال هذه الصورة. وهناك دراسات تدل على أن هذا السبب يحظى بنسبة عالية في مسألة الاستعانة بالخادمات، فهناك دراسة من هذه الدراسات في دول الخليج تدل على أن استقدام الخادمات مرادف للوجاهة الاجتماعية، ولا يرتبط باضطرار المرأة إلى العمل خارج المنزل، أي: ليس السبب هو أن المرأة تعمل، بل لمجرد الوجاهة الاجتماعية، بل إن بعض الاستفتاءات دلت على أن أربعين في المائة من أولياء أمور الأسر جعلوا الخادمة سبباً من أسباب ظهور الأسرة بمظهر لائق، فهذا رب الأسرة هو الذي يأتي بالخادمة، وليس هو الذي يحتاج إليها؛ لأنه ليس هو المناطة به أعمال المنزل حتى نقول: هو يحتاج إليها. بل هو المستغني، ولو قيل: إن هذه النسبة في النساء أو في ربات البيوت لكانت معقولة، لكن النسبة في الرجال الذين يقولون: إن وجود الخادمة سبب من أسباب الظهور بمظهر لائق للأسرة. وهذه مسألة -للأسف- أصيلة في كثير من البيئات والمجتمعات، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة.

الترف

الترف أول الأسباب -وهذه الأولية ليست أولية نسبة، وإنما أول سبب نذكره- هو الترف، وزيادة الرفاهية, وارتفاع مستوى المعيشة؛ فإنه معلوم أن المجتمع الخليجي بحكم البترول والطفرة التي يُعلم ما كان من شأنها واشتدادها خاصة في بداية التسعينات الهجرية أدت إلى حصول نوع من الارتفاع في مستوى المعيشة، والحرص على إبداء كل مظهر من مظاهر الترف والتنعم والترهل والاستمتاع بكل أسباب الراحة المتوهمة عند أصحابها, والذي يلاحظ هذه الظاهرة أو يريد أن يتأكد منها فإنه يجد أن القضية ليست فقط محصورة في طبقة الأغنياء، بل لما صار ارتفاع مستوى المعيشة يعم معظم القطاعات أو كثيراً من الأسر في هذه المجتمعات أصبحت هذه الظاهرة موجودة حتى في القرى والمدن الصغيرة، وأضرب لذلك أمثلة واقعية: ففي مدينة خليصة -على بعد ثمانين كيلو متر من جدة- وهي بلدة صغيرة ربما تسمى (بليدة) ولك أن تسميها تجوزاً مقارنة بالمدن الكبيرة قرية, لكن يفاجأ الإنسان حين يعرف أن هذا المجتمع الصغير الذي ربما ليس فيه مظاهر المدنية الكبرى التي تتضح في المدن يفاجأ بأن أكثر من ثمانين أو تسعين في المائة من البيوت فيها خادمات, بل إن كثيراً من الأسر عندها خادمتان. هذه الصورة أيضاً تجدها في كثير من القرى والهجر، حتى إن القضية أصبحت مسألة داخلة ضمن الاحتياجات والمصاريف المعتادة.

الانفتاح والاتصال بالمجتمعات الأخرى

الانفتاح والاتصال بالمجتمعات الأخرى السبب الثاني: الانفتاح والاتصال بالمجتمعات الأخرى، ونشوء مفاهيم مغلوطة ربما ساعد عليها المستوى التعليمي الثانوي والجامعي وما فوق ذلك, وأصبحت هناك أفكار من خلال الانفتاح على المجتمعات الغربية على وجه الخصوص التي عندها دور الحضانة, واستئجار المربيات, والحرص على الخادمات، وكذلك المجتمعات المتمسلمة في كثير من الديار الإسلامية التي لا تطبق شرع الله سبحانه وتعالى، والتي فيها كثير من الانحرافات. وأيضاً قررت هذه المسألة كقضية اجتماعية عادية، بل ربما تصور على أنها أمر لازم وحتم لا مفر منه, واتصال المجتمعات ببعضها جعل هذه القضية أيضاً أسهل وأقرب وأدعى لتصور الحاجة إليها والافتقار إليها من الأمر الحقيقي الذي هي عليه, بمعنى أن هناك تضخيماً لمسألة الحاجة إلى الخادمة أكثر من الحقيقة، وذلك من خلال الانفتاح والاتصال, وكذلك أحياناً مستوى الجامعيات والأمهات اللاتي يتلقين تعليماً عالياً ترى إحداهن أنه ليس من المعقول أن تكون حاملة لشهادة الماجستير ثم تقوم بأعمال الطبخ أو الكنس، بل لابد أن تكون حياتها متناسقة ومتناسبة مع هذا المستوى, فلابد إذاً من أن تترفع عن هذه الأعمال, وإذا ترفعت عن عنها فلابد من أن يقوم بها أحد غيرها أو أن تتولى ذلك الخادمة.

الاتكالية والكسل

الاتكالية والكسل السبب الثالث: التربية الاتكالية التكاثرية التكاسلية في المجتمع، والناشئة عن الأمرين السابقين، والتي تولد احتقار العمل اليدوي وممارسة المهن المنزلية, فإن التربية التي تولد من خلال هذه البيئة تنتج مثل هذا الاحتقار، فتجد أن المرأة تأتي من بيئة عندها خدم وحشم, فهي أصلاً متربية تربية فيها اتكالية واعتماد على الغير، وفيها تكاسل وعدم رغبة في العمل أو القيام بالواجب مطلقاً، فهذه النفسية هي التي تستدعي الحصول على الخادمة، وليست الحاجة الحقيقية، حتى إن الإنسان يجد بعض الأسر تشترط على الزوج قبل زواجه أن يوفر الخادمة؛ لأن ابنتهم لا تستطيع أن تتعب أو أن ترهق أو أن تقطع يدها في أثناء عمل المطبخ. وهذه الصورة نشأت في المجتمع حتى –للأسف- في الشباب، وليس فقط في الفتيات، فتجد أنه بحكم التربية الضعيفة الهزيلة لا يعتمد على نفسه، ولا ينطلق في العمل، ولا يأخذ الحياة بجد، بل هو دائماً في كسل وخور، ويحتاج دائماً إلى من يقوم عنه بالمهمات، ومن يؤدي عنه الواجبات.

المخاطر المترتبة على وجود الخادمة في المنزل

المخاطر المترتبة على وجود الخادمة في المنزل هناك مخاطر عديدة وواقعية جداً، كما سنذكر في بعض الحوادث, وأول هذه المخاطر وأهمها المخاطر العقدية المتعلقة بالعقيدة، والانحرافات عن العقيدة الإيمانية الصحيحة، فعندما نأخذ بعض هذه الدراسات نفاجأ بقضية خطيرة تتمثل في هذه الأرقام في الدراسات الخليجية التي أعطت أن اثنتين وأربعين في المائة من ديانة الخادمات هي الديانة المسيحية، وأن أربعاً وثلاثين في المائة هي الديانة البوذية، وأن تسع عشرة في المائة هي الديانة الوثنية، أي: لا دينية، وأن خمساً في المائة هن المسلمات من هؤلاء الخادمات! هذا في مجموع الدراسة الإحصائية لدول الخليج. وهناك فرق في بعض الدراسات، وسنذكر بعض الدراسات المتعلقة بالمملكة على وجه الخصوص, فالدراسة الخليجية هذه تذكر أن عدد سبعة وتسعين وخمسة من عشرة في المائة من هؤلاء الخادمات غير المسلمات يؤدين طقوسهن الدينية، ويحافظن عليها، ولاشك أن الواحدة منهن ستؤديها في البيت أمام الأطفال وأمام أهل البيت. وأيضاً في دراسة ميدانية أخرى خليجية دلت على أن ستين في المائة إلى خمس وسبعين في المائة من ديانات الخادمات ديانات غير سماوية، اي: ليست مسيحية ولا نصرانية مطلقاً. ثم الذي يعطي الخطر الأكبر من كل الأرقام أن خمسين في المائة من الأسر تعطي الإشراف الكامل على تربية الطفل لهؤلاء الخادمات، ونسبة واحد وأربعين في المائة من الأسر تعطي الإشراف الكامل لألعاب الأطفال وتسليتهم لهؤلاء الخادمات كاملاً، ونسبة خمس وعشرين في المائة من الخادمات في دراسة في الكويت ثبت أنهن يتحدثن مع الأطفال في قضايا الدين والاعتقاد، ويُلِّقنَّ الأطفال بعض هذه المعتقدات التي هي من ديانتهن، ولذلك قال أحد الباحثين: إن الطفل يتعلق بهذه الخادمة والمربية التي لا يرى غيرها، بل يراها ويجلس معها ويتحدث إليها أكثر من أمه وأبيه وأخته وأخيه، فلذلك هي عنده محل قدوة. يقول الباحث: فكل ما عنده من مشاعر وقيم ومهارات وخبرات–يعني: يتعلق بها- فهي معلمته وملهمته، وسكنه الجسدي والنفسي، وكل شيء في حياته. ولو لم نتعرض في هذه القضية إلا لهذه الأرقام لكفى أن نتصور ما هي النتائج المترتبة على مثل هذا الأمر. وأما بعض الإحصائيات المتعلقة بالمملكة فإن عدد ثمانية وستين وثمانية من عشرة في المائة من جنسيات الخادمات من الأندنوسيات، وإن لم تكن كل هذه النسبة من المسلمات، ولكن -أيضاً- كون الخادمة مسلمة إنما هو بالهوية، فهي لا تعرف الإسلام ولا تلتزم به، وعلى هذا تبقى المخاطر كما هي وإن كانت أقل أو أخف مما يثبت.

خطر الخادمات على الجوانب الأسرية

خطر الخادمات على الجوانب الأسرية الخطر الرابع: ما يتعلق بالناحية الأسرية, فإنها أيضاً تشكل مخاطر على الأسرة بشكل عام بعيداً عن هذه الجوانب التي أشرنا إليها, ومنها: انعدام الشخصية في الطفل، فيصبح الطفل معتمداً اعتماداً كلياً على الخادمة، ولا ينشأ شخصية يمكن أن تعتمد على نفسها. ومنها: ضعف العلاقات الأسرية بين الأفراد، فكل فرد من أفراد الأسرة له علاقة واعتماد على الخادمة أكثر من الآخرين, فالزوج يتعامل مع الخادمة أكثر من معاملته مع زوجته, والزوجة تتعامل مع الخادمة أكثر من تعاملها مع زوجها, والابن يتعامل مع الخادمة أكثر من تعامله مع أبيه ومع أمه, فإنه يسألها عن الذين ذهبوا والذين حضروا، ومن هو موجود، ومتى خرج، ومتى دخل، ويسألها إذا أراد طعاماً أو شراباً, ويسألها إذا أراد أي أمر من الأمور، وبالتالي تتقطع الأواصر بين الأسرة، وتصبح هذه الخادمة هي الوسيط، حتى إن الخادمات أصبحن يقمن بحل المشكلات بين الزوج والزوجة، أو بين الأبناء والآباء، وإذا غضبت البنت فإن الزوجة أو الأم توسط الخادمة حتى تهدئ البنت وترضيها ونحو ذلك، وأصبحت الخادمة هي المحور الأساس في الأسرة, وبالتالي تستطيع أن تمارس الدور بقوة, بل بالفرض أحياناً وبالتهديد الإجباري بالرضوخ لأوامرها والاستجابة لها, لا سيما إذا كان عندها من المواقف والأحداث ما تمسكه وتهدد به المرأة أنها قد تكشفها أمام زوجها, أو الزوج أن تكشفه أمام زوجته، أو الابن أو البنت ونحو ذلك من الأمور. وكذلك إثارة المشاكل قد تتولد بسبب الخادمة بين الزوج والزوجة, فهو يقول لزوجته: لماذا الخادمة أحسن منك؟ وهي تقول له: أنت دائمًا تنظر إلى الخادمة. فصارت الخادمة هي مسار الخلاف والنزاع باستمرار, وربما لو أخرجت لكانت بمثابة نزع فتيل الاشتعال. والنقطة الأخيرة في مسائل الخادمات: ما يتعلق بالتأثير على المجتمع، فالقضية ليست قضية الأسرة كما أشرت, وإنما القضية أنه داء قد يعم الآخرين, من ذلك انتشار الجريمة وفواحش الزنا على وجه الخصوص، فإن الخادمات يمارسن الفواحش، سواء مع السائقين أو مع العاملين أو مع الراغبين، ويبعن أعراضهن بثمن بخس، كما يحصل في كثير من الوقائع، فإن وجودهن بلا أزواج وبلا ضوابط إيمانية أو ضوابط أخلاقية يجعلهن بمثابة سوسة تنخر في كيان المجتمع كله. ومن الجرائم أيضاً السرقة، فكم نسمع أن خادمة سرقت, وأن خادمة نهبت، ويحصل بذلك كثير من المشكلات. وتتدرج الجرائم فتصل إلى حد القتل, وكم قرأنا عن خادمة جاءت على أهل البيت عن بكرة أبيهم وذبحتهم واحداً واحداً! لأنها تعرف وقت نومهم, وتعرف مفاتيح أبوابهم, وتعرف مواطن ضعفهم، لأنها قد يكون لها غرض في سرقة أو غرض في انتقام أو نحو ذلك. وفي مسألة المجتمع إفساد الذوق العام, وتحطيم العرف الشرعي, فيمكن أن تجد في الأسرة أن البنت تتحجب ولا تختلط, لكن الخادمة نوع آخر, ونجد أيضاً نساءً في الشوارع أو في الأسواق قد يتحجبن، لكن نجد المرأة بجوارها خادمتها ليست متحجبة, وهذا نوع من التحطيم للعرف الشرعي وللآداب الشرعية, ونوع من إفساد الذوق العام في الظواهر الاجتماعية في الأسواق وفي المجتمعات وفي المناسبات وغير ذلك من الأمور. وقد أطلنا في هذا الجانب لأنه أكثر الجوانب حيوية, وأكثرها خطورة في نفس الوقت.

خطر الخادمات على الثقافة والتصورات واللغة العربية

خطر الخادمات على الثقافة والتصورات واللغة العربية الخطر الثالث متعلق بالثقافة والتصورات، خاصة في اللغة، ففي الإحصائيات التي أجريت على دول الخليج ذكرت أن ثمان في المائة فقط من الخادمات لديهن إلمام باللغة العربية, والبقية ليس عندهن هذا الإلمام, فتجد العجمة سرت إلينا من لكنة الخدم, وأصبح كثير من الأسر يستخدم الكلمات من اللغة الهندية أو اللغة الأندنوسية، وأصبحنا نذكّر المؤنث ونؤنث المذكر, ونخلط خلطاً عجيباً لأجل أن نتفاهم مع هؤلاء. وهذا لا شك أنه يغير الذوق عند الإنسان, ويغير ملكته وقدرته على القراءة والاستيعاب؛ لأن هذه الانحرافات لها أثر في القضية التعليمية، خاصة عند الصغار، فالصغير ينحرف تماماً في هذا الجانب، ويصبح فهمه للغة وتفاعله معها وقراءته واستفادته من قراءته في اللغة ضعيفاً في هذا الجانب. وكذلك من الناحية المتعلقة بالجانب الفكري والثقافي، فما تقرؤه الخادمة، وما تتابعه من الاهتمامات في القدوات والفن والقصص الماجنة ونحو ذلك ينعكس بصورة أو بأخرى على الأطفال والأسرة.

المخاطر العقدية المترتبة على تعلق الطفل بالخادمة

المخاطر العقدية المترتبة على تعلق الطفل بالخادمة وعندما نريد أن نضع بعض النقاط لهذه المخاطر المتعلقة بالعقيدة خاصة في سن الطفولة فإن أول هذه المخاطر تتركز في عقيدة الولاء والبراء, فإن الطفل والصغير ينشأ على حب الكفار, وربما تعظيمهم والثناء عليهم, والنظر إليهم على أنهم هم المقدمون وهم الأفضلون؛ لأنه يرى ذلك من خلال تعلقه بهذه الخادمة أو المربية. الأمر الثاني: تلقين مبادئ هذه الديانات المختلفة والمنحرفة للأطفال, وذلك في صور شتى كثيرة، وبعض النسب من الجنسيات تذكر أن (1. 5) من الخادمات في منطقة الخليج من الجنسية الإنجليزية يعملن مربيات وخادمات، ومن المتوقع أن الإنجليزية ليست ذات حاجة، بمعني أنها لم تأت لتخدم لأنها تريد أن تأكل لقمة العيش مثل التي تأتي من جنوب شرق آسيا أو من أدغال أفريقيا أو نحو ذلك, بل إن الدراسة تقول: إن هؤلاء الخادمات أكثرهن حاملات للشهادات الجامعية، وعندهن مؤهلات تربوية, لكن هؤلاء النساء والخادمات بشكل مباشر يقمن بمهمة التنصير التي سأذكر أنها هدف مهم جداً من خلال إيجاد فكرة الحاضنات ودور الرعاية والحضانة والتربية للأطفال، خاصة مع وجود التكامل في إخراج المرأة للعمل, ثم تضييعها, ثم انتزاع الأطفال وتربيتهم، فيفسد المجتمع والأسرة, وتدمر من كل العناصر؛ لأنها كذلك تجد أن عنصر الشباب والشابات لهم أيضاً ما يصرفهم، كما سيأتي في مسألة الهاتف والفيديو. وفي دراسة أجريت في المملكة العربية السعودية ذكرت هذه النتائج من الناحية العقدية: الأمر الأول: كثر عند الأطفال الاحتفال بأعياد الميلاد والمناسبات التي تتعلق بديانات الكفار، فإننا نجد كثيراً من البيئات –للأسف- تجد فيها أن الابن يتعلق بعيد الميلاد وبعيد المسيح ورأس السنة ونحو ذلك، لما يتلقاه من هذه المربية أو الخادمة، وإذا كانت الأسرة مساعدة على ذلك فهذا شر وشر، وإذا كانت لاهية فإن الخادمة تستطيع ممارسة هذه الأمور مع ربيبها في غرفتها, وتأتي له بالشمعة، وتمارس كل شيء؛ لأن الأهل غائبون أصلاً لا وجود لهم، وللأسف نجد أن هذه ظاهرة مشاهدة في المجتمع, فإنك تجد بعض المطاعم الآن لها قسم مخصص للأطفال, وتجد أنه مخصص لأعياد الميلاد، ولبعض الحفلات التي يدعو فيها الطفل زميلته أو زملاءه ليقيم لهم حفلة, ويكون الحضور لهؤلاء الأطفال ومن معهم من الخادمات, وقد رأيت هذا بعيني في بعض هذه الأماكن. فإذاً التعود على شعائر الكفر وأعياد الكفر لا شك أنه نوع من انتزاع الولاء والبراء, ونوع من التلبس بانحرافات عقدية ظاهرة. الأمر الثاني في هذه الدراسة: وجود عدم الحرص والجدية على أداء الصلوات في أوقاتها, والتسيب والتفريط فيها، وعدم الاهتمام بها إلى درجة ضعيفة جداً. الأمر الثالث: الحرص على مشاركة الخادمات في الاستماع للبرامج الأجنبية، والقراءات في الكتب الدينية. الأمر الرابع: إثارة أسئلة وجدل حول القضايا الدينية، ولا شك أن هذه القضية خطيرة جداً، فإنه قد ذكرت جريدة (الهدف) رغم انحرافها في عام ألف وأربعمائة وعشرة من الهجرة مقالاً قالت فيه: أطفال يعبدون النار أمام البوتجازات أو الغاز؛ لأنهم يتأثرون بالخادمات الوثنيات اللاتي يقدسن النار، فيأتي الأهل فيجدون الطفل وهو أمام الموقد وهو يؤدي طقوس العبادة لهذه النار! وهذا أمر نتج عن تحقيقات صحفية واقعية. وهكذا إثارة قضايا الجدل في الدين: لماذا هذه الصلاة؟! ولماذا هذا الحجاب؟! ولماذا هذا الدين؟! ولأي شيء تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟! خاصة بالنسبة للطفل الصغير، فإنه على أقل تقدير يشكك في هذه العقائد، بينما لو كانت الأسرة مسلمة محافظة فإنها تسعى إلى أن تلقن هذا الطفل العقيدة السليمة، بدءاً من الأذان في أذنه عند ولادته ليسمع كلمة التوحيد، وتحنيكه إلى آخره، فينبغي أن تغرس فيه هذه المعاني، وليست مهمتها أن تتركه، بل ينبغي أن تغرسها فيه، لكن أن تتركه لتغرس فيه معانٍ وعقائد كفرية مخالفة لهذا الدين فإن الأمر يتحقق فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) فهؤلاء تركوه للخادمة لتهوده أو لتنصره أو لتمجسه أو لتخرجه من دينه وتشككه في حقائق هذا الإيمان. الأمر الخامس في الانحرافات العقدية: تحليل الحرام وتحريم الحلال، فإن التلقين الذي يحصل يجعل الطفل أو الصغار يحللون الاختلاط، ولماذا يكون حراماً؟! ويحللون الخمر، ولماذا تكون حراماً؟! وأتكلم عن بيئات الخليج بشكل عام؛ لأن الدراسة أيضاً تشمل بعضها, وهذه كلها صور من الانحرافات العقدية. وأذكر نصين: أحدهما متعلق باليهودية, والآخر متعلق بالنصرانية: ففي (برتوكولات حكماء صهيون) نص على أن من أساليب اليهود وإفسادهم للمسلمين وصرفهم عن دينهم -كما يقولون- إشاعة الانحراف والخلل العقائدي عن طريق ما يقول عنه النص: هذه الأعمال التي أغراهم بها وكلاؤنا ومعلمونا وقهرماناتنا في البيوت الغنية. والقهرمانات هن المربيات, ولك أن تتصور أو أن تعرف أنه كلما كانت الأسرة راقية في المستوى المادي كلما كان عندها من الخدم أصحاب التطور الحضاري وأصحاب الشهادات العالية من يكونون أقدر على تثبيت هذه الانحرافات العقدية وغرسها في الأطفال وفي الأسرة, وكذلك يكون في غالب البيئات المترفة التي هي أبعد عن التعلق بأبنائها, ونرى أن الطبقات العالية في المجتمع من أصحاب الأموال والثراء, ومن أصحاب الوجاهة, وربما من أصحاب السلطة يسلمون أبناءهم الذين هم أمل المستقبل في إدارة دفة الأمور وفي تولي كثير من المناصب يسلمونهم لهؤلاء الخادمات ليقمن بهذه العملية التدميرية المسخية للعقائد. وهذا نص بالنسبة للنصرانية أو للمبشرين: يقول أحدهم: يجب أن نؤكد في جميع ميادين التبشير جانب العمل بين الصغار وللصغار, وترانا مقتنعين لأسباب مختلفة بأن نجعله -أي: هذا العمل- عمدة عملنا في البلاد الإسلامية؛ لأن الأثر المفسد في الإسلام يبدأ باكراً جداً. يقولون: إن الإسلام يفسد به الأطفال، أي أن المسلمين يفسدون أطفالهم بهذا الإسلام منذ صغرهم, فإذا كان الصغير الذي لا يعقل يقول: (لا إله إلا الله) ويقول: (الله أكبر) وإذا قلت له: من أين جاءك هذا؟ قال: من الله. من أعطاك هذا؟ قال: الله. فإن هذا الفساد -في نظرهم- يبدأ مبكراً، من أجل ذلك يجب أن يحمل الأطفال الصغار إلى المسيح قبل بلوغهم الرشد, وقبل أن تأخذ طبائعهم أشكالها الإسلامية. إذاً المسألة واضحة في هذا الجانب, والخطر عظيم جداً, ليس الخطر متعلقاً بالصغار في الحقيقة, بل إن الخطر -أيضاً- متعلق حتى بالكبار من الشباب والشابات, خاصة في ظل وجود الفراغ العلمي، بحيث تجد كثيراً من هؤلاء لا يعرفون دينهم, ولا يعرفون الحقائق الإيمانية عن يقين وعن وضوح، بحيث إنه يمكن أن تكون الشبه التي تطرح والتساؤلات التي تلقى تثير عندهم الريبة, وتزعزع عندهم المسلمات العقدية, بل إنه تنشأ هناك ظاهرة موجودة في الأسر حتى عند أرباب الأسر من الرجال والأزواج, وهي موضوع حرية التدين وإخاء الأديان, فيقول أحدهم: أنا عندي خادمة مسيحية, وعندي سائق بوذي, والحقيقة أن لهم أخلاقاً جميلة, وتعاملهم جميل, وهذه كلها ديانات, ولكل إنسان أن يأخذ الدين الذي يراه, وليس هناك مانع في مثل هذا, والأديان كلها واحدة, والأديان قضية شخصية. وهذا لا شك -أيضاً- أنه انحراف عقدي؛ لأن فيه أن لا يوقن الإنسان بأن الإسلام كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وأن لا يوقن بأن هذا الدين فحسب هو الدين الخالد الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى لعباده وللناس أجمعين, وأن بقية الديانات السماوية علاها التحريف حتى غدت في كثير من نصوصها كفرية, فهذا الاعتقاد عدم وجوده في المسلم هو نوع من التميع في الاعتقاد, بل نوع من الانسلاخ من حقائق أساسية في هذه العقيدة الإيمانية, إضافة إلى الحب والولاء لهؤلاء الكفرة من الخدم أو الخادمات.

خطر السائقين والخدم على الأسرة والمجتمع

خطر السائقين والخدم على الأسرة والمجتمع أنتقل إلى النقطة الثانية، وهي قضية السائق أو الخادم, والأسباب هي نفس الأسباب السابقة في الغالب، أعني موضوع الترف والمحاكاة وما يلحق بذلك, وانشغال الأب ونحو هذه الأسباب, والمخاطر أيضاً فيها نوع من التقارب, لكن هنا اختلاف، فهناك العنصر النسائي مع الرجال, وهنا العنصر الرجالي مع النساء. فمن هذه المخاطر خلوة السائق بالنساء من زوجة أو بنت أو غيرها, وكثرة الخلطة؛ فإن بعض صور التفريط تجعل السائق أكثر اختلاطاً بنساء البيت من الأب مع بناته, ومن الزوج مع زوجته, فالسائق يعرف ذوقها في الألوان، ويعرف مزاجها في الاستيقاظ والنوم، ويعرف تحب من الأطعمة ونحو ذلك، فيستطيع أن يلبي هذه الاحتياجات ويستحوذ على قلب المرأة، والمرأة مخلوقُ ضعيف، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فهي تسترقها الكلمة العذبة, ويستمليها التصرف الجميل, وأحياناً تظهر التصرفات على أنها نوع من المجاملات العادية, فقد يهدي للبنت أو للزوجة, أو يثني على مظهرها, فهو الذي يذهب بها إلى مكان التجميل, فإذا خرجت يقول لها باللهجة العامية أو بلهجته المتكسرة: أنت اليوم جميل. أو نحو ذلك، فيلفت نظرها, فتسمع منه ما لا تسمعه من زوجها، وكثرة الخلطة تؤدي إلى أن يكون هناك سبب وتهيئة لحصول الفاحشة والجريمة, وهذا يقع أحياناً. النقطة الثانية في خطورة السائق أنه يعلم ويجمع الأخبار, ويتستر ثم يضغط, وقد يستفيد من هذه الأحوال، فهناك انحرافات, وهناك تجاوزات, حيث قد تخرج المرأة بغير أذن زوجها، والذي يوصلها هو الخادم، فيعرف المكان الذي ذهبت إليه، وقد تقوم البنت أحياناً عندما يوصلها إلى مكان بعمل معين، وهو يشاهدها, بل هو الذي يرافقها، وللأسف فهناك بعض النساء يرافقهن السائقون إلى داخل المحلات التجارية, فالمرأة تشتري وهو الذي يحمل, فيعرف ما أشترت من ملابسها، ويعرف أخص ما تحتاج إليه من كل الأمور، فيطلع على هذا, ويطلع على بعض العلاقات وبعض المخالفات, وبعض الأمور يتستر عليها, وقد يكون وسيط سوء، كما قد تكون الخادمة كذلك في تسهيل الأخطاء والفواحش. وأيضاً قد يستخدم هذا لأسلوب الضغط ليحظى هو أيضاً بهذه الجريمة أو الفاحشة، عياذاً بالله سبحانه وتعالى، وهذا أيضاً يقع؛ لأنه يطلع على ما لا يطلع عليه غيره. النقطة الثالثة: وقوع الفواحش خارج إطار الأسرة, وذلك بين الخدم والخادمات, وشيوع هذا الأمر، حتى ترتب عليه عدم الاهتمام بهذا الجانب. النقطة الرابعة: عدم الاهتمام بالأحكام الشرعية, فكأن هذا السائق رجل من فصيلة أخرى من غير فصيلة بني آدم، ومن غير جنس البشر, فالمرأة تتكشف أمامه, وتنبسط معه, وتتحدث إليه, وقد تضع يدها على ظهره, وقد تصافحه, وقد تمزح معه وتظنه شيئاً آخر, وما هو إلا رجل فيه فطرة الله التي أودعها في كل إنسان, ويقع مثل هذا الأمر. وهكذا الجرائم التي أشرت إليها من السرقة والقتل والفاحشة التي تقع سواءً في مجتمع الأسرة أو في المجتمع العام هي أيضاً داخلة في هذا الإطار.

الأسباب التي تجعل من الهاتف مشكلة

الأسباب التي تجعل من الهاتف مشكلة القضية الثالثة: قضية الهاتف, وما أدراك ما الهاتف -كما يقولون-! فهناك نقاط نحتاج إلى إيجازها بشكل محدد حتى لا نغفل النقاط، وإن كان نغفل التفصيل فيها, فما هي الأسباب التي تجعل من الهاتف مشكلة؟ أولاً: عدم التربية الأخلاقية الإيمانية، فهناك تسيب وعدم التزام من أفراد الأسرة مما يسهل هذا. ثانياً: عدم التوعية، فإنه قد تكون الفتاة متربية أو الفتى متربياً، لكن لا يوعيان ببعض المخاطر وبعض المزالق وبعض ما ينشأ عن هذه الأجهزة من أمور لا يفطن لها. ثالثاً: عدم المتابعة والمراقبة، لأنه حتى بعد التربية والتوعية قد يحصل الخطأ مرة, فلابد من أن يكون هناك تنبيه ولفت نظر وتذكير وموعظة, أما الغفلة فإنها تجر شيئاً وراء شيء آخر. رابعاً: تأثير الإعلام والمجتمع، لأن هذا التأثير يصل بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الأفراد، فيتعلقون بالهاتف من الوجه السلبي الذي سيأتي ذكره. ثم هناك أسباب عملية في حصول المشكلات الناتجة من الهاتف. الجانب الأول: من هذه الأسباب -ولعله من أولها وأخطرها-: التبريرات الوهمية في الاستخدام الخاطئ للهاتف, فمثلاً: يتصل الشاب بخطيبته، وينبسط معها بحجة أنها خطيبته أو أنه يريد أن يخطبها, أو يريد أن يتصل بواحدة ليتعرف عليها ومن ثم يختبرها ويفحصها وبعد ذلك يخطبها ويتزوجها, فهو له مقصد شريف, وأحياناً قد تكون مثل هذه الأمور بحسن نية، وإن كانت من جهة الشباب يغلب عليها سوء النية ومن جهة الفتيات -في بعض الأحيان إن لم يكن في أكثرها- يغلب عليهن الغفلة وحسن النية. ومن هذه التبريرات الوهمية التجربة, فالشاب يسمع عن المعاكسات وكذا, فإذا جاء اتصال يقول: لماذا لا أجرب؟! وهذا نوع من حب الاستطلاع، ونوع من هذه التبريرات, وكذلك أيضاً تقول الفتاة: أنا في البيت وهو بعيد، فلماذا لا أعطيه كلمتين وآخذ وأعطي معه حتى أرى ماذا يمكن أن يكون؟ ثم لا يعلم الإنسان أن هذا بمثابة الشبكة التي تصيد السمك. ومن التبريرات الوهمية أيضاً قصد النصح والوعظ, فقد تتصل واحدة فيقول: دعني أذكرها وأعظها وكذا. وإذا به يقع، وقد وقع هذا في تجارب عملية. فهذا الجانب الأول, وهو التبريرات الوهمية. الجانب الثاني: التساهل في الاستخدام, فهناك استخدامات مطلوبة, فقد تضطر المرأة إلى الاتصال –مثلاً- بجهة معينة أو بأسرة معينة, فيرد رب الأسرة، فتطلب زوجته أو تطلب ابنته أو نحو ذلك, وهذا الأمر يحصل, لكن التساهل يحصل أنه إذا رد رب الأسرة تقول له: كيف الحال؟! وهل أنتم طيبيون؟! وكذا، أو تتصل هي لتقضي غرضاً معيناً, أو تتصل بالمستشفى لتسأل عن موعد العيادة, أو تتصل وتوسع دائرة الاتصال، وهذا التساهل يعود على كثرة الاتصال بين الرجال والنساء؛ مما قد يقع به بعض الخطأ والخلل. الجانب الثالث من الأسباب العملية -أيضاً- وجود أرقام هاتفية خاصة لكل فرد أو لبعض أفراد الأسرة, فهناك رقم للفتاة, ورقم للشاب, ورقم للزوجة, أو على الأقل بعضهم يكون عنده رقم خاص, وهذا سبب مهيئ لحصول بعض المشكلات والمفاسد. الجانب الرابع: عدم التدقيق في المكالمات وطبيعتها من ربات وأرباب الأسر، فالمكالمة الليلية التي تأتي بعد منتصف الليل لابد من أن تثير الريبة, فما هو الأمر الجلل الذي يستدعي هذا الاتصال؟! وما هي القضية المهمة التي تدفع إلى المهاتفة في مثل هذا الوقت؟! وهذا السبب أيضاً الغفلة عنه توقع في بعض هذه المشكلات. وهكذا الوسائل التي يقع بها تبادل الأرقام لغرض حصول المعاكسات أو الفتنة, والتغرير بالمرأة على وجه الخصوص, فهناك وسائل كثيرة، من هذه الوسائل: أولها: العشوائية. أي: أن ينتقي أي رقم عشوائي ليجرب من يرد عليه, وأحياناً يحفظ هذا الرقم بالكتابة, أو يكون عنده الهاتف الذي يعيد الرقم مسجلاً على الشاشة، بحيث يضبط هذا الرقم مع المكالمة أو مضمونها. النقطة الثانية: استخدام أرقام للأقارب والمعارف، فإن كثيراً من المشكلات ثبت أن الذين يعاكسون فيها هم من العالمين والعارفين بهذه الأسر ومن فيها وما فيها, وبحكم هذه المعرفة تستخدم هذه المعلومات لنوع من الضغط أو التخويف, أو أحياناً تستخدم كنوع من إثارة حب الفضول والاستمرار في المكالمات. النقطة الثالثة: الأسواق وما يرمى فيها من الأرقام على الأسلوب المعروف, فهذا الأسلوب -للأسف- أصبح معروفاً ومنتشراً، ولم يعد يقوم به الشباب تجاه الشابات، بل حتى الفتاة يكون معها في حقيبتها عدة نسخ من رقم الهاتف لتوزعه على الرائحين والغادين، وهذا -أيضاً- للأسف ظاهرة موجودة. النقطة الرابعة -وهي من أخطر هذه النقاط على الإطلاق-: الزملاء والزميلات, فإن كثيراً من الشباب الذين يمارسون الانحراف من خلال هذا الهاتف يوصون ويعطون الأرقام لزملائهم، ويقول أحدهم لزميله: هذا رقم فلانة الفلانية. أو: هذا رقم واحدة تدرس في الجامعة. بحسب ما عنده من المعلومات, وكذلك الزميلات في المدارس يعطين زميلاتهن أرقاماً لفلان وفلان, مع التشجيع والتحريض والتعليم –للأسف- على أسباب المكالمات, وكيفية الإغراء، ونحو ذلك من الأمور!

المخاطر والمفاسد الناتجة من الاستخدام السلبي للهاتف

المخاطر والمفاسد الناتجة من الاستخدام السلبي للهاتف والأمر المهم في هذه الناحية بإيجاز -أيضاً- بعد ذكر أسباب المشكلة نظريًا ثم عملياً ثم بعض الوسائل هو: ما الذي يحصل من المفاسد والأخطار من هذا الهاتف نتيجة الاستخدام السلبي؟ لأن الاستخدام الإيجابي معروف أنه يقضي الحوائج. أول قضية: قضية ضياع الوقت فيما لا فائدة فيه ,بل فيما قد يكون أمراً محرماً, فطول المكالمات التي تقع -سواء بين النساء أو حتى ربات البيوت- ضياع للوقت, وغالباً ما يكون فيها الغيبة والنميمة, والقيل والقال, وأخبار فلانة وعلانة, وبني فلان وأهل فلان إلى آخر ذلك, وتستمر المكالمات ليس الساعة والساعتين, بل الثلاث والأربع، وكذلك المكالمات التي تقع بين الشباب والشابات والفتيان والفتيات أيضاً تستمر إلى ساعات طويلة, ويكون فيها من كلام الفتنة والإغواء والإغراء ما فيها, إضافة إلى أنهم يستخدمون جزءًا طويلاً من الأوقات في مساعدات, بمعنى أنه ليس بالضرورة أن يكون طول المكالمة هو الحديث, بل ربما يستخدم المسجل أو الراديو ليسمع الطرف الآخر أغنية, ثم يعلقان على الأغنية، أو نحو ذلك من الأمور, أو يكون جزءٌ من المحادثات صمتاً وتفكيراً وآهات ونحو ذلك، وهذا كله من الأسباب التي تؤدي إلى الفتن وإلى زيغ القلوب، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة. ومن المفاسد أيضاً حصول التعلق بالمحرمات والمعاصي, والقرب منها, واللهفة عليها, وهذا يحصل من خلال الاستمرار في هذه المكالمات والمعاكسات والمغازلات ونحو ذلك، فإنك تجد مثل هذا الأمر يستمرئه الإنسان شيئاً فشيئاً, ويقع منه أخطاء كبيرة تدريجياً، فهذا الجانب أيضاً تقع به الخطورة, فتجد الفتاة دائماً في الأحلام الوردية، وفي فتى الأحلام, وتبقى هائمةً مع معسول الكلام الذي هو عبارة عن نوع من الطعم الذي تصاد به, والخاسر الأول والأخير فيه هو هذه البنت أو تلك الفتاة المغررة الغافلة الساذجة. وكذلك أيضاً من القضايا الخطيرة ما يترتب على هذه المكالمات من أسباب عملية, على نسق قول القائل: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء وكذلك الإغواء، كما قال القائل: خدعوها بقولهم حسناء والصبايا يغرهن الثناء فهذا الإغواء والإغراء ينتج عنه أنه يطلب مقابلتها, وبعد المقابلة يطلب المصاحبة, وبعد المصاحبة يطلب المرافقة أو الخلوة الطويلة, ثم ينشأ عن ذلك ما هو معلوم في آخر الأمر من وقوع الفواحش نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة. وللأسف -أيضاً- أن الهاتف السيار الذي هو من النعم يستخدم استخدامًا سيئاً في هذا الجانب, فإن المكالمة تكون في السيارة, ثم يتم وصف المنزل, ويواصل: أنا في هذا الشارع عند هذه الإشارة، خذ يمينك، خذ يسارك. حتى يصل إلى الموقع فيقال: انظر إلى الدور الثالث، انظر إلى النافذة المفتوحة. وهذا يقع بالفعل, ويحصل منه كثير من المشكلات؛ لأنه يسحب ويجر من حيث يشعر هؤلاء أو لا يشعرون, والأسرة غافلة, والأب والأم في سهو ولهو, بل إن المشكلات تتضاعف حيث إنه تقع المشكلة في مقتل أكبر عندما تقع في هذا الأمر وفي هذه الفتنة ليست الفتاة وإنما الزوجة، فإذا بالزوجة تنحرف مع رجل آخر, وإذا بالزوج يتعلق بامرأة أخرى, وتقع فوضى من التحلل والانحراف وحصول الفاحشة والجرائم بما لا يمكن أن يتصوره الإنسان عندما لا يسد هذا الباب. أيضاً من القضايا التي تقع في هذه المكالمات ما يقع -أيضاً- من الإغراء أو من حصول الأمر الذي يسهل الفواحش ويجعلها هينة سهلة, فتجد أن بعض هذه المكالمات تستخدم فيها كل الألفاظ البذيئة والعارية والمكشوفة, بل إنها ربما تبلغ مبلغاً يكون فيه من الأوصاف ما لا يكون إلا في المعاشرة بين الرجل وزوجته. وأيضاً من الأسباب الخطيرة استخدام المكالمات في الحصول على المطالب، فإن بعض الناس وبعض هؤلاء الشباب -خاصة المنحرفين والمحترفين في نفس الوقت- يسجلون هذه المكالمات, ثم يهددون بها الفتيات الغافلات, مثل التي تقول: أجرب في أول الأمر. فإذا بها تجد أن المكالمة مسجلة, ثم يتصل مرة أخرى ويسمعها صوتها، ومن غفلتها أو من خوفها أو من رهبتها من أهلها تبدأ الأمور تختلط على هذه الفتاة, وتقع في ما لا تحمد عقباه. وأيضاً تستخدم هذه الأشرطة -وللأسف الشديد- كنوع من أشرطة الإغواء والأغراء بشكل عام, وكأنها شريط فيديو فاحش أو نحو ذلك؛ لأن فيها تسجيلات أحياناً بذيئة, وقد رأيت ذلك وسمعت بعضاً منه ممن أخبرني به وأتى به إلي, وللأسف أنه في بيئاتنا ومجتمعاتنا وفي مدينتنا ليس في غيرها. ومن هذه المفاسد والأخطار إثارة المشكلات العائلية، حيث يسبب استخدام الهاتف -في مثل هذا خاصة- في إثارة المشكلة بين الرجل والمرأة أو الأبناء والبنات, وذلك من خلال بعض المعلومات التي يعرفها, سواء أكان قريباً أم من المعروفين, أم من خلال التدرج في الاتصالات الهاتفية، ثم يجد الصد أو يجد المنع, فحينئذ يتصل بالرجل ويقول له: إني أعرف زوجتك. أو: اتصلت بها أو ذهبت معها. أو نحو ذلك, أو يفتعل قضية غير صحيحة، لكن لها بعض الأسباب، كما يستخدم أيضاً في الغفلة أحياناً عندما يتصل متصل, فتظن المرأة أنه صوت أخ لها أو قريب لها, فتأخذ معه في الحديث ولا تنتبه, وتعطيه بعض المعلومات, ثم يبدأ يستخدم هذه المعلومات مرة أخرى في سبيل تدمير الأسرة, خاصة حينما يكون هناك عداء أو قصد لهذا الضرر, فإنك تجد أن الهاتف واستخدامه السيئ يصل بهذه القضايا إلى حد الطلاق, بل إلى حد وقوع الجرائم التي تصل إلى جريمة القتل. فهذا الأمر يقع به كثير من المخاطر كما أشرنا وأوجزنا, فالقضية تترتب على أن هذا الاستخدام ينبغي أن يكون موجهاً ومنضبطاً ومراقباً من قبل رب الأسرة, وأن لا تكون تلك الأسباب التي أشرنا إليها مما فيها دفع إلى الخطأ والأخطار أو تهيئة لها متروكة العنان. وربما كان في الحديث مزيد من التفصيلات والتفريعات, لكن الوقائع في هذا كثيرة جداً, ونجد أن الأمهات والآباء -لا سيما إذا كانوا كباراً في السن- تنطوي وتنطلي عليهم حيل الأبناء التي تعلموها –وللأسف- من الزملاء ومن المدارس ونحو ذلك, فالابن يتكلم مع البنت، ويذكر الضمائر, ويكون معروفاً بين الاثنين أنه يقول لها: كيف حالكَ؟ فتعرف أنه قد جاء أحد إلى مكان الولد, والبنت تؤنث حينما تتحدث مع الرجل, فتخاطبه مخاطبة الزميلة، ويكون الآباء والأمهات غافلين. ولقد جاءني أحد المصلين مرة يشكو أنه ليس مقيماً مع أهله, بل هم في مكان آخر, فإذا به عندما زارهم في أحد المرات وجد أن بعض أخواته متعلقة بالهاتف بنوع من المعاكسات والاتصالات غير المحمودة, فأراد أن يتحقق، فاكتشف وسجل, فوجد أن المفاسد قد تغلغلت، فلما نصحها قالت: هذا صديقي! وماذا يكون في أن أكلمه في الهاتف؟! فلما شكا للأم قالت له: إذا أردت أن تزورنا بدون مشاكل فحياك الله, أما أن تسبب مشاكل فلا، فالبنات طيبات, وليس عندهن مشكلة، وأنا دائماً معهن, وما رأيت منهن سوءًا قط. وأصبح هو المتهم وهو المخطئ، وهذا يقع –وللأسف- كثيراً.

حكم اتخاذ الخدم والسائقين

حكم اتخاذ الخدم والسائقين هناك إيجاز في فتاوى العلماء بالنسبة للخدم والسائقين أحيل إليها, فقد أفتى كثير من العلماء والمشايخ بعدم جواز استخدام واستقدام الخادمة غير المسلمة, كما ذكروا أن الحجاب المفروض على الخادمة وكذلك أمام الخادم هو نفس الحجاب الشرعي, وليس هناك أي تساهل أو تفريط, وكذلك ذكروا عدم جواز اجتماع دينين في أرض الجزيرة على وجه الخصوص, وغير ذلك من الفتاوى الكثيرة المنشورة، وأكثرها مجموع في رسالة (الفتاوى الاجتماعية) المتعلقة بالأمور الاجتماعية, ففيها مجموعة من الفتاوى لفضيلة الشيخ: عبد العزيز بن باز وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، وفيها كثير من القضايا المتعلقة بهذه الجوانب, ونكتفي بهذا القدر، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لمرضاته والابتعاد عن معصيته ومخالفته. والحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم- وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

العشر الأواخر فضائل ومسائل

العشر الأواخر فضائل ومسائل من حكمة الله عز وجل أن فاضل بين مخلوقاته، ففضل بعض البشر على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، وفضل بعض الأزمنة على بعض، ومن تلك الأزمنة التي فضلها الله عز وجل: العشر الأواخر من رمضان، فإنها أفضل ليالي السنة، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فينبغي لكل مسلم أن يستغل هذه العشر في طاعة ربه عز وجل ومحاسبة نفسه وتزكيتها وتهذيبها.

السر في تحديد العشر الأواخر للاعتكاف

السر في تحديد العشر الأواخر للاعتكاف الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فحديثنا عنوانه: (العشر الأواخر تأملات وتوجيهات). وهذا الحديث نحن في حاجة إليه، ولعل أول ما أبدأ به أن أسأل: لماذا نقول: العشر الأواخر؟ وماذا في هذه العشر؟ وأي خصيصة لها؟ وبالتأمل نجد هناك أمرين مهمين أساسين: أولهما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وسنته في الاعتكاف؛ إذ كان اختصاصها بهذه العشر ظاهراً، وزيادته صلى الله عليه وسلم من العبادات فيها على عبادته الكثيرة المضاعفة في شهر رمضان. والأمر الثاني هو ليلة القدر التي جعلها الله عز وجل في هذه العشر. وسوف نقف مع الأمر الأول، وهو سنة الاعتكاف وبعض حكمها وأسرارها. فالاعتكاف مدته هي عشرة أيام من العام، أي: عشرة من ثلاثمائة وستين أو خمسة وستين يوماً، وليس هذا مقصوداً طبعاً بذاته، ونجد أنها نسبة تعادل تقريباً (2. 5%)، فكأنما هذه الأيام هي زكاة الأيام، كما أن في المال زكاة، فلنا ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوماً نخلط فيها دنيا بأخرى، وإن كان المنهج الإسلامي لا يفرق بين دنيا وأخرى، فكلها لله، ولكننا نخلط فيها أعمالاً من كسب العيش مع أعمال من التعبد، لكن هذه العشر تكون خالصة لله سبحانه وتعالى. والانقطاع فيها عن الدنيا تام، والانشغال بالخالق عن المخلوقين كامل، ومن هنا جاء تميزها وجاء فرق ما بينها وبين سائر الأيام، فهذا وجه من الوجوه، وهو وجه زكاة الأيام، ولو تأملنا فسنجد أننا في هذا المعنى نحتاج إلى المزيد من الشعور بتقصيرنا تجاه عبادة الله سبحانه وتعالى، ونحن نرى اليوم أن هذه العشر التي واظب النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف فيها وثبت أنه أعتكف مرة عشرين نرى أن الذين يحرصون على إقامة هذه السنة في جملة الأمة قلة تتزايد، لكنها ليست الكثرة الكاثرة، وكأن العشر -رغم أنها قليلة بالنسبة لبقية العام- ما زالت النفوس وما زالت مشاغل الدنيا وما زالت متطلبات الحياة تضيق فلا تتسع لها، وتشغل فلا تتاح الفرصة لاغتنامها في طاعة الله عز وجل وحدها دون مشاركة غيرها، هذا هو الوجه الأول.

السر في الاعتكاف في العشر الأواخر

السر في الاعتكاف في العشر الأواخر وأما الثاني فما السر في الاعتكاف الذي هو في حقيقته انقطاع عن الخلائق واتصال بالخالق سبحانه وتعالى؟ ذكر ابن القيم رحمه الله أن الذي يؤثر في القلب -أي: تأثيراً سلبياً- أربعة أمور: الأول: كثرة الشراب والطعام. الثاني: كثرة الكلام. الثالث: كثرة المنام. الرابع: كثرة مخالطة الأنام. وقال: وكلها علاجها في رمضان، ثم ذكر ذلك فقال: الصيام علاج كثرة الشراب والطعام، والقيام علاج كثرة المنام، وتلاوة القرآن والإمساك عن القول بالباطل علاج كثرة الكلام، وبقي علاج مخالطة الأنام، فيأتي علاجه في هذه العشر التي ينقطع فيها الإنسان عن سائر الخلق أجمعين ليتفرغ لطاعة رب العالمين، فلا يسمع اللغو ولا الغيبة ولا النميمة ولا الشجار ولا الخصام ولا الشتائم المقذعة، ولا يسمع أمور الدنيا وكلامها وأسبابها وأحداثها، فهي أيام لله عز وجل خالصة.

مضاعفة الجهد قرب النهايات

مضاعفة الجهد قرب النهايات الوجه الثالث أن الخواتيم قرب الانتهاء تؤذن بأن المؤسم سينقضي، وأن فضيلة الشهر وفضيلة الأجر ومضاعفة الأجر وفضيلة محو الوزر توشك أن تنتهي، ولذلك فلابد في آخر كل زمان له موسم من مضاعفة الجهد فيه أكثر لاستدراك ما فات، ولمزيد من الاغتنام لما بقي، وذلك معروف في حياة الناس؛ فالطلاب عند قرب الاختبارات يضاعفون الجهد في القراءة والمذاكرة، ويتركون بعض أمورهم وطعامهم وشرابهم وزيارتهم وبعض ما اعتادوه؛ لأنه لم يعد هناك وقت يمكن الجمع فيه بين الاثنين، ولذلك يؤخرون هذا، ومثل هذا مواسم التجارة المختلفة، فإن لكل بضاعة موسماً، وأهل الموسم إذا جاء الموسم وأوشك أن ينتهي فإنهم يواصلون ليلهم بنهارهم، ولا يكون هناك وقت للدوام، ولا يكون هناك وقت للراحة، ويتعاقبون أحياناً على متاجرهم؛ لأن الوقت -أيضاً- يوشك أن ينتهي، وإذا انتهي فلن تكون الفرصة سانحة لمزيد من تحصيل تلك الأرباح التي يطمحون إليها.

فرصة المراجعة والمحاسبة في الاعتكاف

فرصة المراجعة والمحاسبة في الاعتكاف الوجه الرابع -أيضاً- في الاعتكاف أن الإنسان في دنياه منشغل، ووقته الذي يتدبر فيه ويتفكر ويراجع ويحاسب يكاد يكون قليلاً، وإن وجد وقتاً من ذلك فإن كر الأيام يعود عليه بالنقض والإبطال، فتبقي هذه الفرصة مضاعفة في تأثيرها على هذا الجانب، أي: جانب المراجعة والمحاسبة. فقد أحاسب نفسي في يومي وليلتي، وقد أحاسبها في أوقات مختلفة، لكن ظروفاً عظيمة لا تتهيأ للمراجعة والمحاسبة بمثل ما تتهيأ في هذه العشر الأواخر، وفي المعتكف على وجه الخصوص، وكم نحن في حاجة إلى المراجعة والتأمل في كل أمورنا! أمورنا مع الله عز وجل من طاعة وعبادة وذكر ودعاء إلى آخره، وأمورنا مع أسرنا من زوجاتنا وأبنائنا؛ فإن لنا صلة بهم وتوجيهاً لهم وتربية لهم، وكل ذلك موضع نظر. وهكذا صلتنا بأمتنا اهتماماً بأمرها وتفقداً لأحوالها وعملاً في نصرتها وبذلاً لأجل دفع العدوان عليها، وكل ذلك محتاج إلى التدبر والتأمل، ولذلك ففي هذه العشر فرصة، فهي فرصة عظيمة فيها خصائص كثيرة، ومن هذه الخصائص: أولاً: أن هذه المراجعة تتم في بيوت الله، وهي حينئذ تحتف بالبركة، ويكون فيها من التوفيق ومن التسديد ما لا يكون في غيرها. ثانياً: أنها تكون والإنسان منشغل بعبادة وطاعة، فهو ما بين تلاوة وصلاة وذكر ودعاء، متقلب بين هذه الطاعات، فحينئذٍ يكون استحضاره لتقصيره عن هذه الطاعات وإفراطه في المعاصي أعظم وأظهر. ثالثاً: أنه يكون أعظم رجاءً في رحمة الله؛ لأنه في بيت من بيوته ومتلبس بطاعته، فتكون غلبة حسن ظنه بالعفو والمغفرة أكبر وأرجى وأقوى من أي وقت يحاسب فيه نفسه، فإننا أحياناً نحاسب أنفسنا ونتذكر نقصنا وقصورنا، ثم يغلبنا شيطاننا ونبقى نتساءل: ما هو الحل؟ وهل يمكن أن يكون هناك استئناف؟ وهل يمكن أن نغير؟ وهل يمكن أن يغفر لنا؟ وكل هذه خواطر تأتي فتضعف المحاسبة، لكنها في هذه العشر وفي هذا الاعتكاف بالعكس، حيث يقول الإنسان: ما دمت قد غيرت الآن فسأغير، وما دمت الآن في حال على هذه الصفة فسأستغفر، وسيقبل مني بإذن الله عز وجل، فحينئذٍ تؤتي هذه المحاسبة ثمارها الكثيرة من التأمل.

حال النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر

حال النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر الواقع الذي نسترشد منه والهدي الذي نقتدي به هو هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهذه العشر كانت لها مزية خاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روت عائشة في الحديث المشهور قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان أيقظ أهله، وأحيا ليله، وشد المئزر) وهذه الثلاث لا أود أن أطيل في شرحها، لكن كل واحدة منها له جانب فيه دلالة من الدلائل. فقولها: (أيقظ أهله) فيه إشارة إلى أن الواجب المنوط بكل واحد منا لا يتعلق به وحده، ولا يقتصر عليه وحده، بل يشمل الدائرة الأوسع، وأقربها وأولاها الأهل، فقد ورد عند أبي داود في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله امرأ قام من الليل فأيقظ أهله، فإن لم تستيقظ نضحها بالماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها، فإن لم يستيقظ نضحته بالماء) وذلك دليل على أن الذي يجمع بين الزوجين والذي يجمع بين الأهل إنما هو التواصي بطاعة الله عز وجل والحرص عليها، وهذه مسألة مهمة، وكثيراً ما نرى الرجال يملئون المساجد بالصلوات والاعتكاف، ونرى في الوقت نفسه أبناءهم يملئون الأسواق باللهو والعبث، فأين هم من أبنائهم؟! أو نرى زوجاتهم يملأن الأسواق في أمور لا تحمد، أو في أمور هي دون المطلوب، فأين أزواجهن عنهن؟! وذلك هو ما يشير إليه هذا الحديث التي عبرت فيه عائشة رضي الله عنها عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وقولها: (وأحيا ليله) قال العلماء: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحيي ليله منذ بعثته، ومنذ أن نزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] والنبي عليه الصلاة والسلام عندما أخذ بهذه السنة فهي في حقه فريضة لن يتركها، وكان لا يترك عليه الصلاة والسلام قيام الليل في سفر أو حضر، إلا ما ثبتت به السنة، كليلة مزدلفة وغير ذلك، فما معنى قولها: (أحيا ليله)؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان يحيي ليله فصلى بصلاته أناس، وهكذا في الليلة الثانية وفي الليلة الثالثة، ثم لم يخرج إليهم في الليلة الرابعة، وصلى وحده لئلا تفرض عليهم، قال أهل العلم في بيان ذلك -كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات-: إنه صلى الله عليه وسلم كان في رمضان وسائر الأيام يخلط ليله قياماً بنوم، فيصلي وينام، لكن في هذه العشر كان لا ينام الليل مطلقاً، وهذه هي المزية، أي أنه كان يحيي الليل كله، وسنته عليه الصلاة والسلام في غير هذه العشر أنه كان ينام ويستيقظ، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من رغب عن سنتي فليس مني) وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، ثم ينام سدسه في آخر الليل قبل الفجر لينشط عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر. وقولها: (وشد المأزر) شد المأزر هنا كناية تشتمل على أمرين، وذكر العلماء أن أحد هذين الأمرين هو اعتزال النساء اعتزالاً كاملاً، مع أنه في ليل رمضان يجوز مباشرة النساء، كما قال الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] لكن النبي صلى الله عليه وسلم حين اعتكف في المسجد وتفرغ للطاعة والعبادة اعتزل النساء، ومن مبطلات الاعتكاف ومفسداته معاشرة الأزواج، بل حتى ما دون المعاشرة. ومن جهة أخرى يقال في كلام العرب: شمر عن ساعد الجد أو شمر عن المئزر. إذا جد واجتهد وبلغ الغاية القصوى في البذل والعمل، وهذا مقصود أيضاً في هذا الباب من أبواب الخير التي ندبنا إليها بفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام.

اعتكاف المرأة في المسجد في رمضان

اعتكاف المرأة في المسجد في رمضان وقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم واعتكف نساؤه أيضاً، وهذا فيه مشروعية اعتكاف المرأة المسلمة، والخلاف واقع بين أهل العلم، والصحيح أنه يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد إذا كان فيه مكان يناسب اعتكاف المرأة، ولا يكون فيه شيء مما يضرها أو يضايقها، وقال بعض أهل العلم: إن اعتكافها في بيتها أفضل باعتبار أن الاعتكاف سنة، والسنن عموماً -بل أداء الفريضة- للمرأة في بيتها مشروع ومندوب كما هو معلوم.

المكوث في بيت من بيوت الله عز وجل بنية الاعتكاف والعبادة

المكوث في بيت من بيوت الله عز وجل بنية الاعتكاف والعبادة وثمة مسائل نشير إلى بعضها أيضاً في شأن الاعتكاف، فمن ذلك نية المكث في بيت من بيوت الله عز وجل بغرض العبادة، وهذا له شروط أساسية: أولها: النية، والثاني: أن يكون الاعتكاف في المسجد، فلا يعتبر الماكث في بيته للطاعة والعبادة -وإن كان يفعل مثلما يفعل في المسجد- أنه معتكف؛ لأن الاعتكاف في المسجد هو مظنة القيام بالفرائض التي لا تكون في بيته أو في أي مكان، فكيف سيؤدي فرائض الصلوات؟ وكيف سيحافظ على مسألة اجتماع المسلمين وتوحدهم وتجمعهم على تعبدهم وطاعة ربهم سبحانه وتعالى، وكذلك فيه اللزوم؛ لأن العكوف في المكان هو اللزوم والإقامة، بمعنى أن النية والبقاء في المسجد وعدم الخروج منه هو تتمة شرط الاعتكاف؛ لأنه اعتكاف على وجه خاص ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا يخرج إلا لحاجة، والحاجة قضاء الحاجة أو طعام وشراب لابد له منه، ويقتصر على القليل منه؛ لأن بعض الناس يعتكف ويخرج للطعام والشراب فيغيب الساعات ويذهب إلى هذا المكان وإلى ذلك المكان، أو يذهب ويخرج لأي غرض فيأخذ منه أعلاه لا أدناه، فيكاد يكون قد قصر كثيراً في اعتكافه، بل قال العلماء -على خلاف بينهم-: إنه لا يخرج لشهود أو لتشييع الجنائز؛ لأن تشييع الجنازة سنة، وهو -أيضاً- في سنة، وهي مؤكدة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره من غير المعتكفين سيشيعون. فهذه مسألة مهمة.

بعض الأمور التي يتم بها الاعتكاف

بعض الأمور التي يتم بها الاعتكاف من الأمور المهمة التي يتم بها الاعتكاف والتي هي من دلائل لزوم المسجد ترك البيع والشراء، فلا يبيع ولا يشتري؛ لأن هذا محظور في المساجد، وهو -أيضاً- في الاعتكاف محظور بوجه آخر. ومنه اعتزال النساء، ويدخل في هذا كل ما يتصل بتحقيق العكوف واللزوم على العبادة والاقتصار عليها، ولذلك قالوا: من المكروه أن يتحدث في أمور الدنيا وأن ينشغل بها، وذلك أمر معلوم فيه هذا المعنى، بل قد قال بعض أهل العلم: إنه في الاعتكاف يترك إقراء القرآن -يعني: تعليم القرآن- ودروس العلم، فلا ينشغل إلا بالطاعة الذاتية التي يقوم بها بنفسه من الدعاء وتلاوة القرآن والذكر والصلاة، ويستكثر من ذلك، وينشغل بنفسه مع ربه، ولا ينشغل مع الناس فيما قد يكون من الأمور التي هي معروفة ومعهودة، وهذا الأمر فيه دلالة على هذا المعنى. وحكم الاعتكاف أنه سنة مؤكدة مستحبة، وليس واجباً قطعاً؛ لأنه فعله النبي عليه الصلاة والسلام وواظب عليه وتابعه عليه نساؤه وأهل بيته ولم يأمر به.

الشروط المطلوبة في المعتكف

الشروط المطلوبة في المعتكف والمعتكف لابد له من شروط، منها: أن يكون مسلما ومميزاً، وأن يكون في أثناء أدائه للعبادات حريصاً على الطهارة، خاصة الطهارة من الحدث الأكبر؛ لأنه لا يجوز له اللبث والمكث في المسجد إلا إذا كان على طهارة، واشتراط المسجد هو الصحيح؛ لحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يدخل إليها رأسه وهو معتكف فترجله) ولو أن الخروج من المسجد لمثل هذه الحاجة جائز لفعله النبي صلى الله عليه وسلم.

شروط المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف

شروط المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف والمسجد الذي يصح فيه الاعتكاف اشترط له أكثر العلماء أن يكون مسجداً تقام فيه الجماعات؛ لأنه لو كان مسجداً من المساجد التي على طريق السفر أو لا يصلى فيها الجماعة فإنه لا يعتبر فيه الاعتكاف ولا يعتد به؛ لأن المعتكف لم يؤد الجماعة، ولأنه نوع من الترهب أو صورة من صور اعتزال المسلمين، لذلك لابد من أن تصلى فيه الجماعة، وبعض هذا قد دلت عليه بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كما وردت به بعض كتب السنة.

مدة الاعتكاف في العشر الأواخر وفي غيرها

مدة الاعتكاف في العشر الأواخر وفي غيرها المدة المخصصة للاعتكاف في العشر الأواخر تبدأ من مغرب يوم العشرين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في ذلك الوقت إلى معتكفه، فلا يخرج إلا إذا دخل شهر شوال، أي: إذا رؤي هلال شوال وثبت انتهاء رمضان. فهذه هي العشر التامة الكاملة. أما مدة الاعتكاف في أي وقت من الزمان فكثير من العلماء قالوا: لابد من أن يكون الاعتكاف يوماً وليلة. أي أن أقله يوم وليلة. وأجاز بعضهم أنه يعتكف أي وقت متى نوى ذلك، بمعنى: لو أنه دخل إلى صلاة الظهر ونوى أن يبقى في المسجد إلى صلاة العشاء فهو في هذا معتكف، وهذا على خلاف بين العلماء كما ذكرنا. والعلماء الذين قالوا بأن أقله يوم وليلة إنما قصدوا اليوم والليلة لأن التفرغ ولزوم العبادة لابد من أن يكون له صورة واضحة، وذلك في أنه قطع أمره وحياته وتفرغ للعبادة، فيوم وليلة يكون قد عطل عمله وعطل صلته بأهله، فيوم وليلة يصدق فيه مثل ذلك.

رحمة الله عز وجل أمة الإسلام بليلة القدر

رحمة الله عز وجل أمة الإسلام بليلة القدر وأما بالنسبة لليلة القدر فوقفتنا الأخيرة معها بعد أن ذكرنا الاعتكاف، ففي ليلة القدر عدة أمور: أولها: رحمة الله عز وجل ومنته على أمة محمد عليه الصلاة والسلام بأن جعل لها ليلة هي خير من ألف شهر، وقد ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (أري أعمار الناس قبله -أي: الأمم السابقة- فكأنه تقاصر أعمار أمته، فرأى أنهم لم يبلغوا من العمل ما بلغته أمم سابقة، فأعطاه الله عز وجل ليلة القدر خير من ألف شهر) روى هذا الحديث الإمام مالك في موطئه.

ارتباط الخير بصلاح العباد

ارتباط الخير بصلاح العباد والأمر الثاني أن الله سبحانه وتعالى جعل تنزل الخير مرتبطاً بصلاح العباد، ورفعه مرتبطاً أيضاً بما يقع منهم من الخلل، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصحابة وكان اثنان قد تلاحيا -أي: تخاصما- وعلت أصواتهما في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (كنت أريت ليلة القدر -يعني: تحديدها على وجه التخصيص- فتلاحا فلان وفلان من الناس فرفعت) أي: رفع تعيينها. وهذا ينبهنا إلى أن ما نقع فيه من المعاصي والأخطاء يصرف عنا بقدره من رحمة الله عز وجل ونعمته، فلنحذر من ذلك.

الحكمة في إخفاء تعيين ليلة القدر

الحكمة في إخفاء تعيين ليلة القدر الأمر الثالث: إخفاء ليلة القدر حكمته ظاهرة، وهي أن يبقى الناس يجدون في الطاعات، ويتحرون الليالي والأيام في العشر كلها بغية تحديد ليلة القدر، ولو كانت محددة لتفرغ الناس في ليلة القدر وعملوا كل ما عندهم من جهد وطاعة، وربما كسلوا وفتروا في بقية الأيام والليالي، فالله عز وجل من رحمته أن جعل خفاء ليلة القدر تنشيطاً لعباده في عبادته؛ حتى يعظم أجرهم ويزداد فضله سبحانه وتعالى عليهم، وهذا أيضاً واضح.

تحديد ليلة القدر

تحديد ليلة القدر هناك أحاديث دلت على أن ليلة القدر في العشر الأواخر، وأنها في الوتر من العشر الأواخر قطعاً، وأما ما ورد بعد ذلك فهناك أحاديث كثيرة ورد فيها ما يشير إلى أنها في ليلة الثالث والعشرين، أو الخامس والعشرين، أو الحادي والعشرين، أو السابع والعشرين، وقد ورد الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام من رواية ابن عمر رضي الله عنها قال: (إن رجالاً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أُروا ليلة القدر في المنام -يعني: رأوا أن هذه هي ليلة القدر- فقال عليه الصلاة والسلام: إني أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) وهذا حديث صحيح رواه الخمسة إلا الترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام -أيضاً- في حديث آخر من رواية عائشة: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) وهذا عند البخاري ومسلم. وفي رواية ابن عباس قال عليه الصلاة والسلام: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى)، وغير ذلك مما ذكره عليه الصلاة والسلام في هذا. وقد ورد -أيضاً- في بعض آثار الصحابة أن بعضهم غلب أو رجح أنها في ليلة السابع والعشرين، كما جاء عن أبي بن كعب رضي الله عنه.

فضل ليلة القدر

فضل ليلة القدر وهكذا نجد في نعمة الله عز وجل في ليلة القدر أنه جعل عز وجل أجرها وثوابها خيراً من ألف شهر من جهة، ومن جهة أن الله عز وجل يغفر فيها من الذنوب والخطايا ذنوب العام كله، وذلك بفضله عز وجل ما اجتنبت الكبائر، كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وهذا فضل من الله عز وجل عظيم.

أهمية الجد والاجتهاد في العشر الأواخر

أهمية الجد والاجتهاد في العشر الأواخر وهنا أنتهي إلى مسألة التوجيه والتوصية والتذكير: أولاً: اعقد العزم والنية على أن تكون هذه العشر الأواخر غير العشرين التي سبقت من رمضان، أي: غيرها في العمل والجد والاجتهاد وتفريغ الأوقات. الأمر الثاني: اعقد النية على أن تكون هذه العشر الأواخر خيراً من العشر الأواخر بالنسبة لك في رمضان الذي مضى، فحاول أن تزيد وأن تفعل وأن تهيئ من الأسباب ما لم يكن في رمضان الذي مضى بالنسبة لك. الأمر الثالث -وهذا أؤكد عليه كثيراً-: فرغ نفسك للعشر، وليس بالضرورة الآن التكلم عن الاعتكاف، ومعنى ذلك: أن ما تريد شراءه فاشتره قبل العشر، وما تريد قضاءه فاقضه قبلها، وبعض أشغالك أنجزها حتى لا تزاحم العشر؛ لأنها عشر في العام فقط، فهي عشرة أيام من ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، ومع ذلك نزاحمها بشراء حذاء أو بشراء ثوب، وكأن الأيام قد قلت، وكأنه لا يصلح الشراء إلا في هذه الأيام، وليس هذا لك وحدك، بل لك ولأهلك جميعاً. وأظن أننا جميعاً نتفق على أن الإجماع منعقد بلا خلاف على أنه يجوز الشراء في غير العشر الأواخر، وهذا أقوله على سبيل المداعبة، لكنه صحيح؛ لأن بعض الناس حاله كأنه لا يجوز أن يشتري إلا في العشر الأواخر أو في ليلة العيد، كما نسمع من بعض الناس، ولذلك يكثر أهل الأسواق من مواصلة العمل إلى قبيل الفجر أو إلى الفجر، ويكثر زحام الناس في الأسواق في هذه العشر، وهذا -والعياذ بالله- من سوء العمل ومن سوء الحال، نسأل الله عز وجل السلامة. ففي الوقت الذي تفتح فيه أبواب الرحمة والمغفرة ويدعونا رسولنا عليه الصلاة والسلام بسنته للطاعة وغير ذلك نحن نعرض عن هذا كله، أو بعضنا يعرض عن هذا كله، ويكون على غير هذه الحال!

أهمية الحرص على الاعتكاف بقدر الاستطاعة

أهمية الحرص على الاعتكاف بقدر الاستطاعة الأمر الرابع: لنحرص على الاعتكاف ولو لمدة لا تشمل العشر كلها؛ لأن بعض إخواننا لديهم أعمال ووظائف لا يستطيعون أن يتركوها، وهم موظفون ليسوا أصحاب أعمال وأرباب أعمال حتى يفرغوا أنفسهم، لكن أقول: افعل أحد أمرين: الأول: اعتكف ولو لم يبق إلا يومان من آخر الشهر؛ حيث إن بعض الشركات تعطي إجازة آخر يومين أو آخر ثلاثة أيام، فاحرص على أن تعتكف ولو يومين أو ثلاثة لتنال أجراً، وما لا يدرك جله لا يترك كله. الأمر الثاني: من لم يستطع فليعتكف في كل يوم أكثر الوقت الذي ليس في عمله، فليخرج من عمله إلى المسجد، وليبق في المسجد إلى اليوم التالي، بمعنى: أن يبقى في المسجد -مثلاً- من بعد الظهر أو العصر عندما ينتهي عمله فيعتكف ويصلي التراويح، ويبقى في المسجد إلى الفجر، ويأكل ما تيسر له من السحور، ويصلي الفجر، ثم ينام قليلاً، ثم يذهب إلى عمله، فكأنه معتكف؛ لأنه في ضرورة في العمل الذي يجب عليه أداؤه لأصحاب العمل، وهذه صورة على أقل تقدير من الناحية الإيمانية والتعبدية يحصل فيها خير كثير؛ لأن بعض الناس يجد فرصة للاعتكاف ويبقى في بيته، وبالتالي يبقى كحاله في سائر أيامه في غير العشر، وهذا ما لا ينبغي أن يكون عليه الإنسان.

أهمية محاسبة النفس في العشر الأواخر

أهمية محاسبة النفس في العشر الأواخر الأمر الأخير الذي أحب أن أشير إليه أن عليك أن تهتم بجانبين اثنين في هذه العشر وعند الاعتكاف: جانب المراجعة والمحاسبة الإيجابية، أي: أن تقول: ما مضى فات وإن شاء الله تعالى سيغفر. وتهيأ لمزيد من البذل والعمل بشكل أفضل بإذنه سبحانه وتعالى. والأمر الثاني: أن يأخذ الإنسان لنفسه حظاً من هذه العشر فيما يتعلق بحال نفسه في قلبه ونفسه وفي روحه وفي حال أمته فيما يمكن أن يبذله وأن يعمله لنصرة هذا الدين ونصرة هذه الأمة بكل حال من الأحوال، فلعل بعض هذه الخواطر والتأملات تكون نافعة لنا ومذكرة. نسأل الله عز وجل كما بلغنا أول الشهر أن يبلغنا العشر، وكما وفقنا فيه للقيام والصيام أن يوفقنا لمزيد من الطاعة والعمل والبذل، وأن ييسر لنا ما يتيسر وما نوفق له من الاعتكاف وكثرة الطاعة والعبادة، وأن يجعل هذه العشر عشر ختام يغفر بها الذنب، وتقال بها العثرة بإذنه عز وجل، وأن نكون فيها من العتقاء من النار. ونسأله عز وجل أن يجعلنا ممن يوافي ويوافق ليلة القدر ويعظم له الأجر ويمحى عنه الوزر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم وسلم- على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

بين العزائم والهزائم

بين العزائم والهزائم يا لله ماذا تفعل الهمم العالية بأصحابها! وإلى أي مقام توصلهم! فمازال أصحاب العزائم القوية يترقون من منزلة إلى منزلة حتى وصلوا إلى محبة الله ورضوانه، وهذه غاية ما يتطلع إليه ذوو النفوس الزكية، والعزائم الأبية، إلا أن هذه العزيمة لا يتحصل عليها المرء إلا إذا كانت لديه نية صادقة، وقطع عن نفسه كل العوائق التي تعوقها.

النفس بين قوة العزيمة ومرارة الهزيمة

النفس بين قوة العزيمة ومرارة الهزيمة الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، له الحمد سبحانه وتعالى أن وفقنا بالإسلام إلى الطاعة، وهدانا بالإيمان إلى الاستقامة، وأمدنا من اليقين بالقوة، ووفقنا بالإسلام إلى العزيمة الصادقة والهمة العالية. له الحمد سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وعلى صحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

أين الخلل

أين الخلل أيها الإخوة المؤمنون! في مثل هذه الأيام من كل عام يدور بالخواطر والعقول، ويجيش في المشاعر والنفوس، ويتغير إلى حد ما في واقع الأحوال والأعمال شيء في واقعنا العام، وفي حال كل فرد منا، فنحن مع هذا الموسم العظيم، والفريضة الجليلة، والأيام المباركة، والعبادات الصالحة، نعزم عزائم وننوي نوايا ونجدد عهوداً، ونحدث في عقولنا ونفوسنا صوراً مشرقة وضيئة لصفحات قادمة جديدة، ولا أظن أحداً منا لن يمر به مثل ذلك، سواء من حج وعظم أمله في مغفرة ذنوبه، وبداية صفحة جديدة، أو من لمن يحج واغتنم ذلك الموسم العظيم، والعشر الفاضلة، بصيام وقيام وذكر وإنفاق وطاعة وأضحية وتقرب إلى الله عز وجل. لكن السؤال هنا: كم من همة علت ثم سفلت؟ وكم من عزيمة أبرمت ثم نقضت؟ وكم من صحيفة جديدة فتحت ثم أغلقت؟ ما القصة إذاً؟! هل نحن نكذب؟! وعلى من نكذب؟! هل نكذب على أنفسنا؟! فمثل هذا غباء، أم نكذب على الخلق؟! فإن هذا هو عين الرياء، أم نكذب -عياذاً بالله- على الله؟! فإن هذا هو محض الافتراء. ما القصة إذاً؟! لا أظن أحداً عندما عزم تلك العزائم ونوى تلك النوايا كان كاذباً، بل كان في أعظم لحظات صدقه، وأصفى لحظات تجرده، وأصدق لحظات إخلاصه، ما الأمر إذاً؟! هل نحن جاهلون لا نعرف وجوب الفرائض أو لا نعرف حرمة المنكرات؟! هل نحن لا نعرف فضيلة الأعمال في الصفوف الأولى أو في الصلوات أو في الإنفاق والزكوات! هل منا أحد يجهل هذه الأصول العامة التي تحرك إيمان القلوب، وتبعث همم النفوس، وتمضي الأعمال في واقع الحياة؟ أظن أن أكثرنا -إن لم يكن كلنا- لا يجهل مثل ذلك، فأين المكمن والخطر؟ وأين الداء والمرض؟ وما بالنا نمضي ثم نتوقف؟ ونتقدم ثم نقهقر؟ سؤال أعتقد أنه الآن وضح في أذهانكم، وتشوقنا جميعاً إلى أن نبحث عن إجابته، وإلى أن نعرف العلة، وهنا سنعرف الأمر، والفرق بين العزائم والهزائم. كيف تمضي العزائم إلى آفاقها السامية، وإلى ذراها العالية، ولا تعود هزائم تضعف بها الهمم، ويتضعضع بها اليقين، وتزوي بها شمعة الإيمان في القلوب. هنا أمر مهم، وهنا مكمن خطر عظيم، أحسب أنه بالنسبة لنا هو الداء الدوي، ومكمن والخطر الخفي، إنه ضعف العزيمة والإرادة، إنه الكسل والخور والعجز، إنه الاستسلام للضعف والراحة والدعة، إنه الركون إلى الدنيا والاغترار والانشغال بها، إنه قطعاً ليس جهلاً؛ فنحن بحمد الله نعرف الأحكام الأساسية، من واجبات ومحرمات ومن فضائل الأعمال وما يقابلها من رذائل المنكرات، إذن فهنا وقفتنا المهمة بين العزائم والهزائم.

كمال الإنسان بهمة ترقيه وعلم يهديه

كمال الإنسان بهمة ترقيه وعلم يهديه يقول ابن القيم رحمه الله: كمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين: 1 - همة ترقيه. 2 - وعلم يبصره ويهديه. علم تقع به البصيرة، وتتضح به طريق الهداية، لكن ذلك لا يكفي، فإن الطريق واضحة، وإن المعالم ظاهرة، لكن العزائم ضعيفة خائرة، والهمم باردة فاترة، فلا تبعث حينئذٍ قوة للحركة ولا عزيمة للمضي، ومن هنا لابد من همة ترقي بعد علم يهدي. وهنا كذلك يبين ابن القيم رحمه الله: أن الهمة مبدأ الإرادة، وأن أعلى الهمم في باب الإرادة أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله والوقوف على مراده الديني الأمري، فمن فعل ذلك فإنه يريد الله ويريد مراده، وحينئذٍ تحصل الفائدة الأولى وهي التوجه الصحيح إلى الغاية المنشودة. ومبدأ كل طريق تسلكه أن تعرف الغاية التي تنتهي إليها، والطريق الموصل إلى هذه الغاية، ومن هنا فإنه لابد لنا أن ننتبه إلى ذلك، ونحن ندرك تماماً أن إيجاز القول في هذا جاء في كتاب الله في آيات كثيرة، من أظهرها قول الحق سبحانه وتعالى في بيان حقيقة هذه الحياة كلها: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. إذاً لابد أن نوجه الغاية، ونحدد المسار الواضح في قول الله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، تلك هي الغاية: محبة الله وطلب رضوانه، وتلك هي الطريق التي رسمها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فنحن نترسم خطاه، ونتبع سنته، ونعرف طريقته، ونترسم منهجه، وندرك كيف عالج أدواء القلوب، وأمراض النفوس، وضلال وزيغ العقول، وانحراف المشاعر والعواطف، واختلال العلائق والروابط. ثم أمضي مرة أخرى لنرى المكمن الذي نتحدث عنه، وهو ضعف الهمة والعزيمة، ذلك أنّا إذا بدأنا شيئاً لم نمش فيه خطوات حتى نتوقف أو نتراجع، إن هذه المسألة متعلقة أولاً بالبواعث النفسية القلبية، بالإيمان واليقين، بالمحركات والعواطف الإيمانية شوقاً إلى الله، وصدقاً في التعامل معه، وقوة في الثقة به والاعتماد عليه والتوكل عليه، تلك هي المشاعر الأولى.

مدى أثر النية في استنهاض الهمة

مدى أثر النية في استنهاض الهمة يقول الغزالي رحمه الله: (النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحداً، وهي حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يقدمه لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه، وكل عمل لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة، لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلابد وأن يعلم، ولا يعلم ما لم يرد، فلابد له من إرادة، ومعنى الإرادة: انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض إما في الحال وإما في المآل). ذلك فهم دقيق، إن خفايا النفوس والقلوب تكمن في هذا الأمر، فإن صدق الإيمان، ورسخ اليقين، وخلصت النية، وجدت الهمة والعزيمة المرتبطة بالغاية الصحيحة، وهي رضوان الله عز وجل، والمؤسسة على العلم الصحيح من كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ اكتملت أسباب المسيرة الصحيحة بهمتها العالية، وعزيمتها الماضية، ومنهجيتها الواضحة، كما كان على ذلك رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام. نحن نرى في سيرهم، وفي سير كل المؤمنين إلى عصرنا هذا فكيف نرى الشوق إلى طاعة الله، كيف نرى الصبر والثبات على دين الله، كيف نرى الهمة والعزيمة في طاعة الله، أين وقود ذلك؟ إنه هذه المشاعر الإيمانية التي مبعثها القلب، بدءاًً من همة تتوجه نحو الله عز وجل ورضوانه، وإرادة تريد الإقدام في إنفاذ الأمر واجتناب النهي، حتى يكون لنا ذلك السمت الذي يتقدم ولا يتأخر ولا ينقص، ونسأل الله أن يعيننا عليه، والإنسان قد يصاب بالعجز إذا ضعف يقينه، ولكنه إذا تعلقت نفسه وأيقنت بمقابلة ربها في الآخرة اختلف الأمر. كيف تنفق المال وتتخلى عنه إذا عظم يقينك بأنك تلقاه يوم القيامة أضعافاً مضاعفة؟! كيف تترك راحتك وتقوم ليلك وتضني جسدك إذا علمت أن ذلك يكون لك خيراً في دنياك وأخراك؟! إذا عرفت الأجور والثواب، إذا عرفت البركة والتوفيق، إذا عرفت الهدى والتسديد، إذا عرفت كل هذه الثمرات تحركت همتك وانبعثت، ولذلك ينبغي لنا أن نعلق القلوب بالآخرة حتى نصل إلى مرتبة الإيمان كما كان الصحابة، لقد جادوا بأنفسهم وأرواحهم طلباً لحياة خالدة لا تنقطع، تركوا نعيم الدنيا لنعيم لا ينفذ. وكان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يبيت اليوم واليومين والثلاثة ولا يوقد في بيته نار، وكان لو شاء لدعا أن يحيل الله له الصفا والمروة ذهباً، ولكنه قال: آكل يوماً وأجوع يوماً؛ لأن ما عند الله أعظم، {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل:96]، يوم نحرر هذه المعادلة تحريراً علمياً ونترجمها إلى شعور نفسي يستولي على القلب والنفس، فحينئذٍ يكون انطلاق عظيم بإذن الله سبحانه وتعالى. ثم ننظر كذلك إلى أمر الدعاء والاستعانة بالله عز وجل، فإن الإنسان ليس له من أمر يحققه إلا بعون الله عز وجل: إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده

عوائق في الطريق

عوائق في الطريق ولنعرف العوائق في آخر كلمة في هذا المقام، إنها كما أوجزها ابن الجوزي رحمه الله بقوله: (رؤية الهوى العاجل، والتسويف بالتوبة، ورجاء الرحمة). ورجاء الرحمة ليس فيه شيء، لكنه دون معرفة العقوبة، رؤية الهوى العاجل، أي: رؤية الشهوة واللذة بمشاعر الهوى والمحبة، فإنها تعمي البصر والبصيرة عن الأخطار والأضرار في تلك المعاصي. إن الشهوة تدعو إلى ممارسة الفاحشة بالزنا عند من ينظر إليها بالهوى، فلا يراها إلا جمالاً مشرقاً، ولذة جميلة، وهوى ومحبة رائعة، لكنه ينسى حينئذٍ -وقد غشي على بصره- الأضرار النفسية والقلبية والشرعية والعقوبات، وكأنه لا يعرفها مع أنه يعرفها. لذلك فإن رؤية الهوى العاجل خطر، فانظر في كل شهوة ولذة إلى ما وراءها، وإلى صورتها الحقيقية في دين الله عز وجل، بل وفي واقع حياة الإنسان وفطرته السوية. ثم كذلك تسويف التوبة وتأخيرها، فإنه لو حضر العقل لحذر من آفات التأخير، فربما هجم الموت قبل التوبة. وأخيراً بالنسبة لرجاء الرحمة فالمقصود به مع نسيان العقاب، والله جل وعلا قد بين أنه هو الغفور الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم، فالله الله ونحن في هذه الأيام المباركة، وبعد هذه الفريضة العظيمة، وهذا الموسم الجليل، وقرب انتهاء عام وابتداء عام أن نجدد النية والعزيمة، ونصدق الله عز وجل في أن نغير أحوالنا إلى الأفضل والأحسن، وأن نقوي عزائمنا وهممنا، وأن نعزم على ألا نستسلم لضعفنا وكسلنا، وأن نحيط أنفسنا وإيماننا بسياج منيع مباعدةً للمعاصي والمنكرات، والترفع والتورع عن الشبهات، بل وكثير من المباحات. أسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يحفظ إيماننا ويزيده ويعظمه، وأن يرسخ يقيننا ويثبته، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يوفقنا للطاعات، وأن يصرف عنا الشرور والسيئات. اللهم إنا نسألك أن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن تلهمنا الرشد والصواب، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا اللهم من الظلمات إلى النور. اللهم اجعل لنا من نور الإيمان ما يكشف الشبهات، واجعل لنا من محبة الطاعات ما يقوي العزائم والهمم، واجعل لنا اللهم من معرفة مغبة وأثر الذنوب ما يصرفنا ويبعدنا عنها يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وهذب أخلاقنا، وحسن أقوالنا، وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وأمح أوزارنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين، اجعل لهم اللهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم استر بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد: الله صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام أصحاب الحضوة الرفيعة والمقام الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين. اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

بين يدي الحملة الوطنية

بين يدي الحملة الوطنية إن الحملات الدعائية والإعلامية والثقافية ضد الإسلام وأهله قد بلغت مبلغها، فحاربت الفضيلة، ونشرت الرذيلة، ولا مخرج من هذا كله إلا بالالتزام بشرع الله، والتأدب بآداب الشرع الإسلامي الحنيف، وعلاج الأمراض والمشاكل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتم ذلك إلا بالإخلاص والتعاون والالتزام بالشرع.

وقفات في معالجة الأمراض وحل المشاكل

وقفات في معالجة الأمراض وحل المشاكل الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعم نواله، وظهرت حكمته، واتسعت رحمته، له الحمد سبحانه وتعالى، لا رادّ لقضائه، ولا مانع لعطائه، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، نحمده جل وعلا حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد جل وعلا ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! كلنا يسمع في هذه الأيام عن حملة عامة ومؤتمر كبير حول قضية الإرهاب، وأعلم أن كثيرين من الناس يقولون: قد سمعنا كثيراً، وكان مما سمعنا مبالغات وخلط في بعض الأمور، وإن ثمة حاجات أخرى كثيرة نحتاج فيها إلى العلم والبصيرة، وهذه وقفات بين يدي هذه الحملة. ولا شك أن رسالة المسجد أوسع وأشمل، بحيث تعنى بكل ما تحتاجه الأمة، وما يجد في واقعها، وما يكون مسبباً لأي عارض أو مشكلة فيها، وكما أسلفت من قبل فإن لسان المنبر أصدق قولاً، وأخلص قصداً، وهو من جهة أخرى أنأى عن مغالطات إعلامية، أو مزايدات سياسية، أو ضغوطات اقتصادية، أو غير ذلك. ولعلنا -ونحن ندلي بهذه الوقفات- نسأل الله عز وجل أن تكون خالصة لوجهه الكريم من جهة، ونافعة لنا جميعاً ولأمتنا من جهة أخرى، فإن ما سأذكره يصلح أن يكون نبراساً لنا ولكل فرد منا في حياته العامة، وفي معالجته لمشكلاته ونظرته إليها.

المصارحة والمناصحة لا المزايدة والمبالغة

المصارحة والمناصحة لا المزايدة والمبالغة وأول ما أبدأ به: المصارحة والمناصحة لا المزايدة والمبالغة: فإننا في أوقات المحن، وفي ظروف الفتن نحتاج إلى مصارحة ليس فيها مغالطة، وإلى مناصحة ليست مغطاة بالمجاملة، إذ في مثل هذا يتجلى موقف الإخلاص، ويظهر موقف الثبات، وتتجلى أحياناً صور غير مرغوب فيها، وليست بنافعة في واقع الحال من المزايدة والمنافقة والمجاملة في غير موضعها؛ لأن المسلم في أول الأمر وآخره إنما ينطلق من إخلاصه لله، وابتغائه لرضوان الله، وموافقته لنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصده للمصلحة العامة للمسلمين، وذلك ما ينبغي أن يكون، وذلك ما نعلمه من ديننا، وما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه العظيم الذي يحفظه أكثر الناس: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم). سمت دائم، وصفة غالبة، وخصيصة ظاهرة لمجتمع الأمة الإسلامية، قوم يتناصحون بالحق والصدق والعدل، وبالأسلوب الذي فيه الحكمة، ومراعاة الظروف والأحوال، لا يغشون كما قال الحسن: المؤمنون بعضهم لبعض نصحة، والمنافقون بعضهم لبعض غششة، يغشون ولو بنفاق، ويغشون ولو بمغالطات ومزايدات ومبالغات، وذلك ما لا يكون من المسلم. ولعل لنا وقفة مع حديث جليل عظيم رواه غير واحد من أهل السنن من رواية ابن مسعود رضي الله عنه، ومن رواية أبي الدرداء، ومن رواية زيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة بألفاظ مختلفة متقاربة: عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم) وفي رواية أخرى: (لا يغل عليهن صدر مسلم، مناصحة أولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائهم) وفي رواية الدارمي: (والنصيحة لكل مسلم). وهذا حديث عظيم في علاج كل قضية تعرض لك حتى ولو كانت فردية في دائرتك أو أسرتك: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم) أي: إذا وجدت لديه لم يدخل إلى قلبه حقد ولا خيانة، فلا يكون حينئذٍ منتصراً لنفسه، ولا معتدياً على غيره، ولا خائناً لدينه أو أمته، ما هي هذه الثلاثة يا رسول الهدى؟ قال: (إخلاص العمل لله) وذلك هو سبب النجاة، فإن الإخلاص طريق الخلاص، وإن التجرد مطية التقرب، وإن أحداً يشرك في عمله غير الله يحرم من التوفيق شيئاً كثيراً، وقد ورد حديث قدسي عن رب العزة والجلال أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فمن أراد غير وجه الله عز وجل من ظهور إعلامي، أو لفت نظر لبروز شخصي، أو منافقة ومداهنة لمصلحة يقصدها، فذاك لا يوفق لعلاج وحل أشكال، كما أنه في غالب الأحوال يحرم من التوفيق والهدى والبصيرة؛ لأن الإخلاص هو المؤشر والقائد الذي يسدد الأعمال، ويصوب الأقوال، ويسدد الآراء بإذن الله عز وجل، وهو الذي يجرد الإنسان من هوى نفسه وحظها؛ ليكون حينئذ أقرب إلى إصابة الحق، وإدراك الصواب بإذنه جل وعلا. والنصح لولاة أمر المسلمين، وذلك لأن هذا معقداً من معاقد الخير والصلاح في الأمة، وتلك المناصحة بأساليبها الشرعية، وبطرائقها التي سرى وجرى عليها أئمة المسلمين، ومن خلال من يحسن ذلك ويتقنه من أهل العلم، ومن أهل الحل والعقد، لكنها قضية مهمة، حتى من تسلم منبراً كهذا أو غيره من المنابر عبر الصحافة أو الشاشات أو الإذاعات يجب عليه أن يخلص في قوله، وأن يسدي النصح كاملاً بأسلوبه الصحيح، ومنهجيته الشرعية المنضبطة، فإن أحداً سيما في أوقات يكون فيها بعض الإشكال أو الفتن أو المحن لا يحتاج إلى مزيد من المغالطات أو المجاملات بقدر حاجته إلى وضع النقاط على الحروف، وإلى بيان الحق بالأسلوب المعتدل المتوسط، الذي كان يقول به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعرض في وقت يحسن فيه التعريض، ويصرح في وقت يصلح فيه التصريح، ويعالج الأمر بكل ما يؤدي إلى حصول المقصود ومنع المفاسد. ونلحظ كذلك من بعد ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم: (ولزوم جماعتهم) وهنا لا نقول همسة، بل صرخة لكل من يرى اعوجاجاً ويريد تقويمه، أو خطأً ويريد تصويبه، فليدرك أنه لا ينبغي أن يخرجه نقده ولا نصحه ولا ظنه بأنه يأمر بمعروف أو ينكر منكراً، وأن ذلك ينبغي أن يكون منضبطاً بلزوم جماعة المسلمين، وعدم الخروج عنها، وعدم شق صفها، وعدم إثارة البلبلة والفتن فيها، فإن رأى أن منكراً ينكره، أو قولاً يقوله قد يحصل به مثل ذلك، وتعظم به الفتنة، وتكبر به الشقة، ويستعدى به أعداء الإسلام على أهل الإسلام، فإن إمساكه عن ذلك النهي عن المنكر هو الواجب الشرعي في حقه، لأنه إذا عظمت المفاسد وقلت المصالح يجب الإمساك عن ذلك الفعل. وإن المؤمن لا يندفع مع دوافع طبعه، ولا مع ردود فعله، ولا مع عواطف نفسه، إن أخذته الحمية أو الغيرة الإيمانية والإسلامية فليعلم أنه منضبط بضابط الشريعة الإسلامية، وكم كان من مواقف الصحابة والسلف رضوان الله عليهم ما أمسكوا به عن أمور كانوا يرون أن إنفاذها موافق للشرع، لكنه في وقت وحال معين قد يكون مترتباً عليها أعظم مما يراد من المصالح فتركوه، بل إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قد سن ذلك وشرعه، وبينه كما في الصحيح عند البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن قومك حديثو عهدهم بإسلام لنقضت الكعبة، وأعدت بناءها على بناء إبراهيم، وجعلت لها بابين) وقد بوب البخاري على هذا الحديث: باب ترك الأمر مخافة أن يؤدي إلى ما هو أعظم منه، واستنبط ذلك ابن حجر وغيره من العلماء، فإن الرسول ترك ذلك لأنه سيؤدي إلى أمر أعظم من تحقيق تلك المصلحة. وغير ذلك قد قال به أهل العلم كالإمام أحمد في أحاديث الأئمة، وكالإمام مالك في أحاديث الصفات، وكالإمام محمد بن الحسن في الغرائب، أمسك بعضهم حتى عن رواية الأحاديث لعامة الناس إذا كان الوقت يسبق فيه إلى الأذهان أفهام خاطئة، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله: أن ذكر القول في غير موضعه مما يترتب عليه الفهوم والأعمال الخاطئة ضرب من ضروب البدع، واستشهد بقول علي رضي الله عنه في الصحيح: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!)، وقول ابن مسعود رضي الله عنه عند مسلم في الصحيح: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة). وهذه كما قلت صرخة لا همسة لكل من تحمله الغيرة والحمية على الإسلام وأهله أن يعرف أن الأمر ليس باختياره، وأنه لا بد أن ينضبط بهذا الضابط، وهذا الضابط يجمع الأمة ولا يفرقها، ويوحدها ولا يضعفها، ويجعل الإصلاح من داخلها وليس من خارجها، ومن شق عصا الطاعة وفرق الجماعة فإن الخلل في فعله والضرر من إصلاحه أعظم، وتترتب عليه من المفاسد ما الله سبحانه وتعالى به عليم.

الرفق والحكمة لا العنف والشدة

الرفق والحكمة لا العنف والشدة الثاني: الرفق والحكمة لا العنف والشدة: فإن معالجة الأمور تقتضي ذلك، وإنه ليس ينفعنا أن نعظم الصراخ، وأن نجدد الهجوم على من نرى خطأه، وإنما كيف نتأتى للأمور من طرقها السليمة والصحيحة، فإن الرفق مظنة الحكمة، وإن الحكمة مع الرفق يمكن أن تكشف نوراً تكون به البصيرة، وتعرف به الحقائق، وتلتمس وتكتشف به الأسباب، وأما الفورة والحماسة مع السرعة والشدة غالباً ما تفوت كثيراً من هذه المصالح، وكثيراً مما نحتاج إليه في مثل هذه المواقف، والله جل وعلا قال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، وذلك بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أنه من ظلم فله الحق أن ينتصر لنفسه، لكن الآية ختمت بذلك، وقال السعدي في تفسيره معلقاً: صبر على ما ينال من أذى الخلق، وغفر لهم بأن سمح لهم عما يصدر عنهم. {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] أي: من الأمور التي حث الله عليها وأكدها، وأخبر أنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزم والهمم وذوي الألباب والبصائر، فإن ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل من أشق شيء عليها، والصبر على الأذى، والصفح عنه ومغفرته، ومقابلته بالإحسان أشق وأشق، ولكنه أنفع في الوقت نفسه. وهذا المعلم الأعظم الذي هو قدوتنا المثلى عليه الصلاة والسلام يدخل عليه بعض اليهود ويسلمون عليه سلاماً مغموساً فيه حقدهم، فيقولون: (السام عليك -بدلاً من السلام عليك، ويقصدون: الموت لك- فيرد المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: وعليكم، ثم إذا بـ عائشة بعد خروجهم تبدي غيظها وتتكلم، فيطالبها الرسول عليه الصلاة والسلام بالهدوء والرفق، فتقول: يا رسول الله! ألم تسمع ما يقولون لك؟! فيقول: يا عائشة! أما سمعت ما قلت لهم؟ قلت لهم: وعليكم) وكان هذا من هدوئه وحكمته صلى الله عليه وسلم، ثم قال في هذا الحديث لـ عائشة: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله). وفي رواية البخاري أيضاً من حديث عائشة: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)، وعند مسلم من رواية عائشة أيضاً: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه)، والحديث عند الترمذي أيضاً من رواية أبي الدرداء: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير)، وذلك يدلنا على أن الرفق والأناة مفضية إلى القدرة على التركيز والإدراك والتفكير الصائب المتزن الذي يقع به بإذن الله عز وجل الوصول إلى الحق والصواب. وجاء من حديث عائشة عند مسلم أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، كأمر المدرس مع تلاميذه إن أخطئوا وأراد تقويمهم، فإن أخذ بالرفق والحكمة كان ذلك زيناً له، وسمة تزيده إجلالاً واحتراماً عندهم، فإذا طاش واندفع مع دواعي طبعه فإن ذلك يظهره في صورة غير محمودة لمعلم ومربٍ لتلاميذه، ومثل ذلك في الأب مع أبنائه، ومثل ذلك في المسئول مع مسئوليه، ومثل ذلك في الراعي مع الرعية، فإن الرفق عظيم يعالج الأمور ويحسمها. ولا يعني الرفق ترك العقوبات لمن استحقها واستوجبها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا جمع بين هذا وهذا، فكان يرفق، ولكن إذا بلغت الحدود وأقيمت الشهادات أنفذ حكم الله سبحانه وتعالى، وقبل ذلك كان يقول: (ادرءوا الحدود فيما بينكم، فأيما حد بلغني فقد وجب)، قبل أن تصل إلى الحاكم الشرعي في أمور من المعاصي ربما لا تعظم بها المفاسد، يمكن أن يكون الوعظ والتذكير والتوبة كافية في ذلك، أما إذا بلغ الأمر إلى الحاكم فإنه لابد أن يقيم الحكم، وأن ينفذه؛ لأن حكم الله لا بد من إنفاذه، وذلكم أمره ظاهر وبين.

المرجعية والواقعية لا الفوضوية والمزاجية

المرجعية والواقعية لا الفوضوية والمزاجية ومسألة ثالثة مهمة: المرجعية والواقعية لا الفوضوية والمزاجية: إننا عندما نتناول أي شأن من الشئون ونحن أمة إسلام، ونحن في بلد فيه منبع الإسلام ومهبطه، ونحن في بلاد الحرمين على وجه الخصوص؛ لا ننطلق إلا من مرجعية ثابتة، وهي مرجعية إسلامنا وديننا، كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ودستورنا ينص على ذلك ويقدمه، فلسنا معنيين بأن نوافق من في شرق الأرض وغربها إذا كان قولهم يخالف صراحةً كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا أردنا أن نتحدث عن الإرهاب ونعرفه فلن نعرفه من مصادر شرقية أو غربية، بل ننظر إلى ما بين أيدينا من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وننظر إلى تاريخ أمتنا لنعرف كل شيء من خلال هذا المنطلق الصحيح، وأن ننظر إلى الواقع كما هو، دون أن نتأثر بالمبالغات والمغالطات، وحينئذ يتوفر لنا ما لا يمكن أن يتوفر لغيرنا، تتوفر لنا العصمة في أمرين اثنين: عصمة النصوص الشرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعصمة إجماع الأمة إذا اجتمعت على أمر تستنبطه من كتاب ربها وسنة نبيها، فإن أمة محمد لا تجتمع على ضلالة، ولكننا إن أخذنا من هنا وهناك، ويأتينا كاتب ليقرر علينا شيئاً تقرره دوائر غربية أو شرقية فإن ذلك لا يكون مظنة إصابة الحق ومعرفته، بل كثيراً ما يختلط بما يختلط به من أمرين اثنين واضحين: أن القوم لهم منطلقات ومرجعيات ليست مثل التي لنا من جهة. وأن لهم أهواء وأغراضاً ومقاصد تخالف وتعارض مصالحنا من جهة أخرى. وذلك ما ينبغي أن نفطن إليه، وأن نحرص عليه، ولا يأتينا أحياناً من يبعد به الأمر فنجده وهو يعارض ويخالف أموراً قد ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يدرك أنه قد أتى أمراً عظيماً، وارتكب خطراً كبيراً؛ لأننا إذا وصلنا إلى ألا نلتفت إلى هذه المرجعية العاصمة، فإن أمراً خطيراً يقع في خلالنا، ويجوس في ديارنا. وبعد العصمة الكمال، فإن الكمال في شرع الله عز وجل، كما قال الحق جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فنحن بحمد الله لدينا في كل أمر أسس وأصول وقواعد وضوابط تجعلنا من خلال نظرنا فيها، ومن خلال اجتهاد أهل العلم فيها على قدرة وبصيرة أن نصل إلى الحق في كل جانب من الجوانب. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

التعاون والتكامل لا التناقض والتآكل

التعاون والتكامل لا التناقض والتآكل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن. وإن من الأمور التي نذكر بها أيضاً في هذا المقام: أمر التعاون والتكامل لا التناقض والتآكل؛ فإننا في هذه المسألة نحتاج إلى المدرس في مدرسته، وأستاذ الجامعة في جامعته، وخطيب المنبر في مسجده، وكاتب الصحافة في صحيفته، ومقدم البرنامج في إذاعته أو قناته. فإذا حصل التكامل وشيء من تبادل الأدوار في ذلك حصل بذلك خير كثير، وإذا كان التراشق بالتهم متبادلاً، أو هذا يبني وذاك يهدم أو العكس، فإن أموراً من الخير كثيرة تفوتنا، وإنه ينبغي لنا في حقيقة الأمر أن نتبصر ونستبصر، وأن نتبادل الرأي والفكر، والمعلومة الصحيحة، بعيداً عن مناهج قد تؤدي إلى شيء من الاختلاف والخلاف فيما بيننا، وإننا دائماً وأبداً نحتاج في ذلك إلى ما ذكرناه في الحديث الأول: إخلاص النية لله، والصدق والمناصحة، والحرص على الألفة والوحدة والجماعة، فإن وجد ذلك وجدنا أننا يمد بعضنا يده إلى الآخر، ويمكن أن يتنازل عن شيء مما قد يكون في ذهنه أو رأيه إذا رأى أن غيره أرجح، أو ربما يكون أصوب، أو ربما يكون مثله أو أدنى منه لكن في تقديمه مصلحة، أو ربما يكون الرأي عندي صحيحاً لكن الناس لا يقبلونه مني وقد يقبلونه من ذاك، فليقل به غيري؛ فإن إصابة الحق وإرادته هي الأولى والأكمل. ونحن نعلم أننا بحمد الله عز وجل في مجتمع إسلامي، والناس فيه يصغون بقلوبهم قبل آذانهم لمن يتحدث إليهم بلسان الدين، وبآيات الله، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا مزج مع ذلك بما هو منشور وشائع من أقوال وحكم وآراء مختلفة فإن ذلك يزيد إلى الخير خيراًَ، ونحن نعلم أن لسان المتحدث باسم العلم والدعوة والخطابة لسان تصغي إليه القلوب والآذان، فمن هنا ينبغي لنا أن نخلص في ذلك، وأن نجتهد في إصابة الحق في البحث وتحريه، والنظر في الأدلة ومراميها ودلالاتها، ومعرفة الواقع وإشكالاته وحقيقته، وذلك ما نهدف إليه بإذن الله عز وجل.

الدقة والتخصيص بعيدا عن الفوضى والتعميم

الدقة والتخصيص بعيداً عن الفوضى والتعميم وثمة نقطة أخرى أيضاً تتعلق بأمر الدقة والتخصيص بعيداً عن الفوضى والتعميم، فإنه إن وجد خطأ من أستاذ واحد أو معلم، فهل من الحكمة أن نقول: إن المعلمين فاسدون أو مخطئون؟ وإن وجد سطر في كتاب واحد فيه ملاحظة فهل من الحكمة أن نقول: إن الكتاب كله خاطئ؟ إن بعض ما ينشر في وسائل الإعلام من التعميم يفسد ولا يصلح، ويضر ولا ينفع، وهو مخالف للطريقة الصحيحة، والمنهجية الصائبة، وإن الله سبحانه وتعالى في كتابه عندما ذكر الكفرة والفجرة كان يستثني, وذلك الاستثناء منهج يدل على أن الحكم لا يعمم في كل أحد، فإن الناس يختلف بعضهم عن بعض، فإذا وجد خطيب أخطأ في طريقة عرضه لموضوع ما وجدنا من يشن الهجوم على الخطباء، ويطالب بأن يكفوا عن الحديث في هذه الموضوعات، وألا يخوضوا فيها، سبحان الله! فأي خوض إذاً يكون؟ وبماذا يتحدثون؟ ومن يخطب في الناس؟ ألا يتحدث الخطيب عن أمورهم وشئونهم وهمومهم وحاجاتهم؟ ألا يتحدث عن واقعهم ومشكلاتهم وما يحصل في مجتمعهم؟! وذلك كذلك كما أخبرت به من قبل في غير ما حديث. ثم إننا في هذا التعميم يحصل لنا استعداء وشيء من المواجهات، ومن ثم فإن كل خطيب رأى خللاً لا ينبغي أن يشن الحملة على كل أحد من منبره، إننا في وقت نحتاج فيه إلى التروي، وإلى الرفق الذي ذكرناه، وإلى التكامل والتعاون، وإلى أن نكون مخلصين لله أولاً، ومناصحين لأمتنا جميعاً من حكامها إلى محكوميها، وإلى كل فرد منا فيما بيننا، ومحتاجين أيضاًَ إلى اللحمة والوحدة والألفة؛ لأننا في وقت نعرف وندرك يقيناً أن أعداء الإسلام يتربصون الدوائر بالمسلمين عموماً، وبهذه البلاد خصوصاً، ويريدون أن يجوسوا خلال الديار بواسطة الإصلاح المزعوم، من خلال إصلاح اقتصادي يحول بين الناس وبين الالتزام بشرع الله عز وجل، أو إصلاح اجتماعي يراد به تحلل المرأة واختلاطها بالرجال على أي وجه من الوجوه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يلزمنا كتابه، وأن يثبتنا على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم أحسن ختامنا، وتجاوز عن سيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وهذب أخلاقنا، وحسن أقوالنا، وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وامح أوزارنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أفض علينا الخيرات، وأنزل علينا الرحمات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وامح عنا السيئات، برحمتك يا رب العالمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنهم طغوا وبغوا، وتجبروا وتكبروا، وأذلوا عبادك المؤمنين، واغتصبوا بلاد المسلمين، وانتهكوا حرماتهم يا رب العالمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وخذهم اللهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم اشف فيهم صدور قوم مسلمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين والمضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج كربتهم، اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

آلام وآمال وأعمال

آلام وآمال وأعمال إن الناظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم تعتريه الآلام والآمال؛ تعتريه الآلام لما يحل بالأمة من قتل وتشريد وانتهاك وإذلال، وتعتريه الآمال لما يراه من عودة كثير من المسلمين إلى دينهم، وانتباههم من غفلتهم وسباتهم، لكن هذا لا يكفي، بل لابد من العمل لهذا الدين، والعودة إليه عودة صحيحة، فإنه هو الطريق الوحيد لعزة الأمة وكرامتها.

الانتفاضة الفلسطينية آلام وآمال

الانتفاضة الفلسطينية آلام وآمال الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، فهو جل وعلا أهل الحمد والثناء، وله الحمد في الآخرة والأولى، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، نحمده جل وعلا حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغواية. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا جميعاً اتباع سنته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! قد عزمت على أن أتحدث عن الانتفاضة الجهادية المباركة في أرض فلسطين المسلمة، من جوار المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ذكرى هذه الانتفاضة المباركة قد قضت خمس سنوات من الجهاد والسير في مناوأة أعداء الله، وهي تستقبل في هذه الأيام عامها السادس ثابتة الخطا، سائرة على المنهج، واثقة بنصر الله سبحانه وتعالى. وتذكرت تلك الصور والمآسي والمصاعب التي يعاني منها أبناء الأقصى من اليهود عليهم لعنة الله، وتلك الجرائم والفضائع التي تعبر عن الحقد الأسود، وعن الجريمة المستقرة في النفوس، وعن طبيعة تلك القلوب والأفكار والعقول التي أخبرنا الله سبحانه وتعالى عنها بوصف موجز بليغ دقيق في معناه فقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] وقدموا على المشركين؛ لأنهم أبلغ عداءً، وأكثر حقداً، وأسوأ ممارسة ضد الإسلام والمسلمين؛ ولذلك لا تمر هذه الذكرى حتى يستحضر المسلم صوراً من المعاناة الشديدة القاسية التي يلقاها إخواننا في تلك الأرض المقدسة الطاهرة صغاراً وكباراً، رجالاً ونساء، أطفالاً وشيوخاً، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، إنها معاناة لا تتوقف لحظة من اللحظات، ولا ثانية من الثواني، تلك المعاناة التي تكسر فيها الأطراف والعظام بالأحجار، تلك المعاناة التي تشمل مئات الآلاف من السجناء والمعتقلين، ومئات الآلاف من الأطفال الذين يحصدهم رصاص الغدر والعدوان، والنساء اللائي أجهضن في حملهن، واللائي اعتدي على أعراضهن، وغيرها وغيرها من الصور التي نسمعها دائماً، بل التي نراها في أحيان كثيرة ماثلة أمام العيان، فنجد هذه الصور الفضيعة التي تشمل كل ألوان الحرب من تضييق في الرزق، ومن حرمان من العمل، ومن إبعاد عن الأرض، ومن تفريق للأسرة، ومن تهجير وتغريب، ومن سجن وتعذيب، وكل هذه الصور التي تمر بإخواننا هناك حصادها كبير جداً، وآثارها ضخمة جداً، إن هذا الحصاد كما تجمله بعض هذه الأرقام يشكل صورة ينبغي للمسلم ألا ينساها، لقد قتل أكثر من ألف وثمانمائة وخمسين نحسبهم شهداء عند الله سبحانه وتعالى، (15%) منهم من الأطفال دون سن الرابعة عشر، وأكثرهم ما بين الرابعة عشر والعشرين من الشباب الذين في ريعان الزهور، لقد باعوا أنفسهم وأرواحهم لله، ونذروا وقتهم وجهدهم للدفاع عن دين الله، وبذلوا كل جهدهم للدفاع عن مقدسات المسلمين وعن كراماتهم، ثم إن هناك مائة وثلاثين ألفاً من المعتقلين، ومائة وأربعين ألفاً من الجرحى والمعاقين، وألفين وتسعمائة وخمسين بيتاً هدمت وهجر أصحابها، وثلاثة وستين ومائة من المبعدين، وغير ذلك من ألوان التضييق النفسي والحربي بكل صورة من صورها، ونعلم أن الذي يمارسها هم اليهود الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.

حقد الهندوس على المسلمين

حقد الهندوس على المسلمين وقد كان العزم أن يستفيض الحديث عن هذه المآسي، وعن هذه الآلام، ولكن بدأ في الأفق غبار تراب يتصاعد، ودخان لهب جديد في أرض من بلاد الله فيها مائة وعشرون مليون مسلم، إنها أرض الهند التي سمع الناس وتناقلت الأنباء خبر هدم مسجدها الأعظم والأقدم المسجد البابري الذي له أكثر من ثلاثمائة وخمسين سنة، والذي أسس على التقوى وعلى الإسلام، وما تزال الدوائر الهندوسية تتربص به الدوائر منذ عام خمسة وثمانين وثمانمائة وألف، أي: منذ أكثر من مائة عام وهم يسعون لهدمه، ثم هدموه على مرأى ومسمع من كل الدنيا، وهي تشهد ذلك بأنظارها عبر الشاشات، وتسمعه بآذانها عبر الإذاعات، ولكن لا ملب ولا مجيب! إنها صورة أخرى من الآلام المحزنة، ومن المآسي المفزعة التي تصب على المسلمين، وقد يكون الخبر عند كثير من الناس أنه مسجد هدم وانتهى الأمر، ولكنها عداوة أصيلة دائمة يتشابه فيها الهنود مع اليهود؛ لأن الكفر ملة واحدة، قال عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ولذلك لم تكن هذه الجريمة إلا إحدى أكبر الجرائم التي يمارسها أولئك الكفرة ضد أبناء الإسلام والمسلمين في تلك الديار. إنها حقائق وجرائم كثيرة، فقد تم قبل ذلك هدم نحو ثلاثين مسجداً في (عليغره) في الهند، ونحو عشرة مساجد أخرى في حيدر أباد، وقتل في هذه المشكلات وفي هذه الجرائم مئات من المسلمين، وهكذا في هذه المؤامرة الأخيرة التي وقعت، فقد تضافرت فيها قوات الشرطة الهندية التي كانت تتفرج على مائة ألف من الهندوس المتعصبين الكفرة المجرمين وهم يعملون معاولهم في هدم المسجد وقبابه حتى تركوه أثراً بعد عين، وما تركوا فيه لبنة على لبنة، والشرطة تنظر إليهم! ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل القضية أوسع؛ فالاضطرابات والاعتداءات على المسلمين مع هذا الحدث مستمرة متوالية، وقد قتل ألف من المسلمين في (بومباي) وحدها، وحرق نحو مائة طفل مسلم في ولاية (بوجراد) في الهند أيضاً، واعتدي على مصانع المسلمين ومتاجرهم في منطقة (محمد علي روس بومباي)، وما تزال السلطات الهندية تفرض حظر التجول حتى لا يتحرك المسلمون ولا يخرجوا من بيوتهم، وحتى يتمكن أعداؤهم من كسر متاجرهم وتدميرها وحرقها، والصراخ يعلو، والصرخات تتوالى، والجرائم تتابع، والدماء تنزف، والرقاب تقطع، وتشكل هذه المأساة صورة يعاني منها مائة وعشرون مليون مسلم يشكلون أقلية في تلك البلاد الكفرية. ومع ذلك عندما علت هذه الصورة تنامى إلى الأسماع أزيز الطائرات أفواجاً إثر أفواج، ثم مشاهدة الجنود أرتالاً إثر أرتال من القوى الأمريكية والغربية التي جاءت لإنقاذ البلد العربي المسلم الإفريقي الذي يشكل المسلمون فيه نسبة مائة في المائة، هذا البلد الإفريقي الذي يعد وحيداً في كونه لا يوجد فيه غير المسلمين، وتهبط هذه القوات وقد استبطن في الأرض ليس آلافاً ولا عشرات الآلاف بل مئات الآلاف ممن حصدتهم المجاعة، وحصدهم رصاص البغي والاختلاس والعدوان على مرأى من الدول العربية والإسلامية، وعلى مدى عام كامل وأكثر، فليست أيام قليلة، ولا أشهراً عديدة، بل أكثر من عام كامل والمأساة تتكرر، ويبلغ القتلى والموتى مئات الألوف، ويبلغ المرضى أكثر من ذلك، ويبلغ المهاجرون أكثر من ذلك، وتتجسد أمامنا صورة أخرى من صور المآسي التي تمر بالمسلمين في كثير من الديار، ولن تنسينا هذه المآسي معسكرات الاعتقال، وقنص الأطفال، واغتصاب النساء، وذبح الرقاب وحزها، وتهجير المسلمين في أراضي البوسنة والهرسك.

الفرج مع الكرب

الفرج مع الكرب إنها آلام وآلام وآلام شديدة فضيعة، ولكن هل نذكر هذه المآسي لنذرف الدمع، وحق لنا أن نذرف بدل الدموع دماء؟ وهل نذكرها لنرفع الصرخة والبكاء أو لنلطم الخدود؟ إنما نذكرها لنحيي الإيمان في القلوب، ولنعيد أنفسنا إلى منهج الله عز وجل، ولنعرف حقيقة أعداء هذا الدين، ولنستيقن بقول الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]. ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] فهل نوقن بهذه الآيات التي نتلوها كثيراً ولا نتدبر ولا نتأمل في معانيها إلا قليلاً؟ وهل نؤمن بأن نصر الله سبحانه وتعالى يوشك أن يأتي به سبحانه وتعالى إذا تحققت في الأمة شروط هذا النصر؟ إنه ينبغي لنا ألا يدب اليأس في قلوبنا؛ لأنه: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة، ولذلك كلما اشتدت قبضة الظلم، وكلما علت راية الكفر والطغيان، كلما كان ذلك مؤذناً بإذن الله عز وجل بفجر يوشك أن ينبثق بعد هذا الليل الطويل؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد وعد، ووعده الحق، وقد ذكر سنته، وسنته لا تتخلف، فقال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ويقول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] ولكنه لا ينصر إلا أولياءه، ولكنه لا ينصر إلا أتباعه، ولكنه لا ينصر إلا دعاته، ولكنه لا ينصر إلا من يجاهدون في سبيله، ولكنه لا ينصر إلا من يخلصون له، ومن يخضعون لعظمته وجبروته، ومن يتبرأون من كل حول وقوة إلا حول الله عز وجل وقوته. إن هذه الآلام الفضيعة القاسية يكمن فيها نفسها كثير من الآمال المشرقة الوضيئة التي تلوح في الأفق، فهذه الآمال تبعث الحيوية في النفوس المؤمنة والعزيمة في القلوب المسلمة؛ إنها آمال حقيقة ليست مجرد أوهام، وليست مجرد أحلام نداعب بها العواطف والخيالات، ولكنها آمال صادقة، فانظروا إلى أرض فلسطين اليوم فسترون أن مساجدها تكتظ بشبابها وشبانها، وانظروا إلى أطفال الحجارة فستجدون أنهم يحملون حجارتهم بيد ومصاحفهم باليد الأخرى، لقد خرج إلى الساحة اليوم أصحاب الأيادي المتوضئة، والجباه الساجدة، والشفاه المسبحة. واسمعوا إلى الصيحات: إنها: الله أكبر، الله أكبر، خيبر خيبر يا يهود! جيش محمد سوف يعود! لقد تغيرت لغة الكلام، لقد تغيرت صورة العمل، لقد تغيرت قبل ذلك أهواء النفوس وحقائق الإيمان في القلوب، إنها أوبة صادقة إلى الله سبحانه وتعالى، إنها أمثلة مشرقة ترى فيها الطفل الصغير وهو يلقن الأمة كلها درساً في الثقة بنصر الله، وفي المضي على منهج الله، وفي الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ ليلقن المتخاذلين والمتكاسلين والخائفين والواهمين درساً عملياً تتحدث فيه الأفعال دون الأقوال، إنها مدرسة تنبئ أن جيل القرآن وأبناء المساجد هم الذين سيكون على أيديهم بإذن الله عز وجل تنزل النصر ورجوع العزة وديمومة الوحدة لهذه الأمة الإسلامية بإذن الله عز وجل. وهكذا في أرض الهند التي يعاني كثير من المسلمين فيها من الجهل، لكنهم جعلوا صدورهم فداءً لمساجد الله وبيوت الله عز وجل، خرجوا يحمون مقدسات المسلمين، لكنهم ظلوا رغم هذه الهجمات الشرسة التي ينادي فيها الهندوس بإعادة تسعمائة مسجد إلى معابد هندوسية، والتي هدموا فيها عديداً من المساجد، والتي مارسوا فيها كثيراً من الجرائم، والتي يسعون فيها بالقوة لتغيير المسلمين وصدهم عن دينهم، مع ذلك يثبتون ثبات الجبال الرواسي، وتنتشر فيهم -بحمد الله- حركة علمية طيبة، وتبدأ فيهم روح عزة إسلامية قوية؛ إنها المحنة التي تنتج في أفنائها وفي أعطافها المنحة الربانية؛ إنها المنحة التي يصل فيها المسلمون إلى حد الضعف الشديد الذي يستشعرون معه صدق حاجتهم لله سبحانه وتعالى، ويرون أنه لا سبيل لهم ولا نجاة إلا أن يعلنوا الصلح مع الله، وإلا أن يسألوا النصر من عند الله سبحانه وتعالى. وهكذا صور أيضاً تتكرر في أرض البوسنة والهرسك التي كان أبناؤها خمسين عاماً تحت الشيوعية الحمراء في تغريب وتجهيل وحرب، ثم إذا بهم مع ذلك -من فضل الله عز وجل- يأوبون اليوم إلى دين الله، وتتحجب نساؤهم، ويصلي رجالهم، ويدعو مجاهدوهم، وإذا بهذا النبض الإسلامي يتكاثر ويتعاظم في كل موقع محنة، وفي كل مكان مظلمة تقع على المسلمين؛ لأن هذه سنة الله سبحانه وتعالى.

الآمال المشرقة في الأحداث المؤلمة

الآمال المشرقة في الأحداث المؤلمة في هذه الصورة المشرقة آمال عظيمة نراها في هذه الصحوة الإسلامية والأوبة الإيمانية التي جعلت الناس يقبلون على الخير، ويساهمون في بناء المساجد وإعمارها، ويبادرون إلى الإغاثة والإعانة، ويحيون مع المسلمين في كل مكان، ومع آلامهم وآمالهم تتجاوب أصداء صرخات الهند وصرخات البوسنة وصرخات فلسطين فإذا بها تملئ آذان المسلمين في كل مكان، وإذا بها تحيي قلوبهم، وتبين لهم حقيقة العداء في هذه المعركة التي تدور رحاها على المسلمين لا لشيء ولا لسبب ولا لجرم اقترفوه إلا لشيء واحد بينه الله عز وجل بقوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] إلا لأنهم مسلمون موحدون؛ فإذا كنت مسلماً فسترى العذاب وسوف تواجه العجب العجاب، ولأنك مسلم ستموت غماً وهماً واضطهاداً واضطراباً، وستسأل كل أهل الأرض عدلاً وتنتظر الجواب ولا جواب! يسوءك أن ترى الطاغوت يعلو ويحني المسلمون له الرقابا لأنك مسلم ستزور سجناً وتنهبك السياط به نهابا إذا قرعت يمناك باباً سمعت الفحش يسرع والسبابا وسوف تعض من ألم بناناً وسوف تشف من جوع ترابا فإما أن تكون كما أرادوا وإما أن ينزلوا بك العقابا إنها قضية واضحة؛ قضية الحرب على الهوية الإسلامية؛ فإنه يشرق الأمل عندما تتحقق هذه الهوية في القلوب، وينطلق بها الصغار قبل الكبار في مواطن وبلاد الإسلام شرقها وغربها، فالطفل أوقد جمرها في أرض فلسطين، كما قال الشاعر: الطفل أوقد جمرها يا معشر والنسوة انطلقت أسوداً تزأر قد أقسم الشعب اليمين مجاهداً الله فوق الظالمين وأكبر كل المساجد والمآذن أقسمت حتى الحجارة رددت والمنبر قسماً ونور الحق في جبهاتنا قسماً لباكية تأن وتزأر قسماً لنار الثأر في أحشائنا ولكل طفل في الظلام يهجر قسماً لأرض قد سرى لها أحمد قسماً لقدس يستغيث ويجأر والميت المذبوح يسلخ جلده والعين تفقأ والعظام تكسر والشيخ يُسحب في الشوارع باكياً ودم العذارى صارخاً يتفجر لأحطم الكف التي عاثوا بها وأزلزل القدم التي تتبختر فالشعب يا شامير مرٌّ لحمه والشعب يا رابين حقداً يقطر هات الهراوي والبنادق واضربوا رأسي وصدري والسواعد كسروا والله لو سملوا العيون بخنجر والله لو هدموا البيوت وأنذروا بعيون طفلي سوف أبصر موطني وبكف شبل سوف ينبت خنجر هيهات أن ننسى فلسطين التي باتت تعشعش في القلوب وتحضر يا أمتي هذي فلسطين التي جرحت وراحت في الدجى تعصر لا تتركوها للدخيل فإنها تستصرخ الثوار أن يتحرروا إنها الآمال التي ينبغي أن نتفاعل معها، وأن نتأثر بها، وأن نؤدي دورنا فيها؛ فإن الآلام وحدها لا ينبغي أن توقفنا، ولا أن تقف عثرة في طريقنا، وإن الآمال وحدها ينبغي ألا تكون أحلاماً وأوهاماً، بل ينبغي لهذه الآلام ولتلك الآمال أن تعقبها الأعمال، فإنه لا يكفي الأمل ولا يغني الألم، بل لابد من العمل؛ فالله نسأل أن يوفقنا لنصرة دينه، وأن يحققنا باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

العزة والمستقبل للإسلام

العزة والمستقبل للإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الشعور بمآسي المسلمين والتألم بآلامهم، ومشاركتهم في آمالهم، ونصرتهم فيما يقومون به من جهاد وعمل في سبيل الله سبحانه وتعالى، وإن هذه الآمال التي تنطلق هي آمال صادقة حقيقة يؤكدها وعد الله سبحانه وتعالى، ويخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار) ويخبرنا عليه الصلاة والسلام في قوله: (ما من بيت مدر، ولا شعر إلا ويدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل؛ عزاً يعز الله به الإسلام والمسلمين، وذلاً يذل به الله الكفر والكافرين) إنها نصوص وإنها دلائل قطعية تأتينا من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يتسرب اليأس إلى نفس المؤمن الصادق والمسلم الحق، ولا يفت في عضده عداء المعتدين، ولا كيد الكائدين، ولا مؤامرات المجرمين؛ لأنه مع الله سبحانه وتعالى، ونحن نرى اليوم -بحمد الله- هذه الأوبة والجيل الذي نذر نفسه لله سبحانه وتعالى، ونرى بادرة عظيمة، وأملاً مشرقاً في راية الجهاد التي ترفع في أنحاء مختلفة من ديار المسلمين، ترفع لينطوي تحتها كل من يحب الله ورسوله، وكل من يريد أن يدافع عن دين الله، وكل من يسعى لرفع راية الله، وكل من يريد أن يمنع العدوان على حرمات الله سبحانه وتعالى، إنها راية الجهاد قد حملها الصغار والكبار، وسار بها النساء والرجال، إنها راية الجهاد التي انطلقت في أفغانستان، وتنطلق اليوم في كشمير، وترفع في البوسنة، وما تزال وما يزال نبضها قوي في فلسطين، ويحدثنا عنها حال الإنسان المسلم الصادق وهو يرى في هذا الجهاد ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، عندما ذكر فضيلة الجهاد وأجره الذي لا يعادله أجر، وبين أنه يكون خاصاً بالمجاهد الجاهد، والمجاهد الجاهد هو الذي يلتذ بالجهاد، ويعشقه ويحبه، ويتوق إليه ويشتاق إليه، وحاله كما قال الشاعر: وحبي للجهاد يفوق حبي لأوطاني ونصر الدين همي ومرضاة الإله ببذل روحي ومرضاة الإله تزيل غمي ومرضاة الإله بحرب كفر وبغض الكفر في لحمي ودمي

كيفية المخرج من الآلام والمآسي التي تمر بالأمة

كيفية المخرج من الآلام والمآسي التي تمر بالأمة الآمال المشرقة ينبغي أن تعقبها أعمال، وقد يقول قائل: تكثرون من الحديث عن المآسي، ولا يكون هناك حديث عن المخرج والعمل؟ فأقول: كل بيده عمل، وكل في عنقه واجب، وكل مناط به مسئولية، وأول ذلك وآكده ذلك النداء القرآني العجيب الفريد الذي لو تحقق في الأمة لما كانت على هذه الحال من الذلة والضعف والهوان، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، إنه تحرير الإيمان وتجريد الإخلاص، وتعظيم التقوى في القلوب لله سبحانه وتعالى، فهل نحن على صدق في إيماننا؟ وعلى يقين من إيماننا؟ وعلى التزام بإسلامنا؟ قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]، فهل القلوب متآلفة؟ وهل النفوس متآخية؟ وهل تحقق في الأمة قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]؟ وهل تحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف المسلمين ووحدتهم: (يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم)، وقوله: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) إنه لابد لنا أن نعلن الصلح مع الله عز وجل، وأن نبذل كل ما في وسعنا لنستنزل نصر الله سبحانه وتعالى، إنه إعلان صادق للإيمان الحق واليقين الراسخ بوعد الله سبحانه وتعالى، وتأكيد لحقائق هذا الإيمان بالولاء والبراء الشرعي، إنه ولاء لعباد الله المؤمنين وعداء للكفرة من أعداء الدين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] إنها المسألة المهمة التي تميز المسلم وتبعث فيه عزته، وتبين له أصالته حتى لا يكون تبعاً لشرق ولا لغرب، ولا ذنباً لقوي ولا صاحب سلطان، وإنما عزته بإسلامه، وإنما قوته بإيمانه، وإنما استنجاده واستغاثته بالله سبحانه وتعالى، ثم إعلان لاستقامة المسلم على تقوى الله عز وجل، تلك التقوى التي تقتضي منه أن يأتي بأوامر الله سبحانه وتعالى، وأن يجتنب نواهيه، فطهروا البيوت من المحرمات، وطهروا الألسنة من الأقوال الفاحشة، وطهروا الآذان من السماع المحرم، وامنعوا العيون من النظر الآثم، وطهروا الأموال من الكسب الخبيث، وأصلحوا أحوالكم يصلح الله سبحانه وتعالى حالكم؛ إنها معادلة لا يمكن أن تتخلف، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. إنها النعمة التي منَّ الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم حينما ألف بين قلوب أصحابه مهاجرين وأنصاراً، وأوساً وخزرجاً، وعبيداً وأحراراً، وأغنياء وفقراء، فكلهم كانوا قلباً واحداً، ونفساً واحدة راضية، وأمةً واحدة متماسكة، فينبغي أن نملأ القلوب بالحب للمؤمنين، والمودة لهم، وإحسان الظن بهم، والتماس العذر لهم، والرغبة في الخير لهم، والسعي لكل ما من شأنه أن يؤلف بين القلوب، ويوحد بين الصفوف، وينبغي أن نعلن الحرب على المفاسد الاجتماعية الأخلاقية المحرمة، وينبغي أن ننكر المنكر، وأن نأمر بالمعروف بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالأسلوب الذي يحقق حصول الخير وانتفاء الشر بإذن الله عز وجل. ثم لابد كذلك أن نحيي هذه المعاني الإيمانية في كل مجلس وفي كل لقاء ومع كل أحد، وأن نجعل ألسنتنا لاهجة بذكر الله عز وجل، وبذكر حكمة الله عز وجل، وسنة الله عز وجل، وأن نذكر أخبار المسلمين ومآسيهم وأحوالهم لكل من حولنا، فنحن نجلس المجالس الطويلة وليس فيها إلا القيل والقال، والغيبة والنميمة، والتحدث عن الأموال والعقارات والسيارات، وكأنه لا شيء يشغلنا، وكأنه لا همَّ نحمله، وكأنه لا جرح ينزف في نفوسنا وفي أبداننا، وكأننا نغفو ونلهو ونلعب ولا ندري ما يحاك حولنا، ولا ما يدبر لنا، ولا ما يحل بإخواننا، فلماذا لا نتحرك هذه الحركة حتى نبقي معنى الإيمان حياً في القلوب، وحتى نبقي معنى النصرة للمسلمين حياً في النفوس، وحتى لا يركن الناس إلى الدنيا، وحتى لا يغفلوا فيحق قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]؟! فينبغي أن نسعى بالعمل؛ لأن حال الأمة اليوم هو من أعظم أسباب هزيمتها وضعفها وهوانها وغياب كلمتها: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود فهذه الحال ينبغي أن تغير، ولا تغير إلا بتغيير القلوب والنفوس، فعلينا أن نبدأ بالإخلاص والإيمان الصادق، وأن نبدأ بالعمل الخير الصالح، وأن نهجر المفاسد والمعاصي، وأن نكون ألسنة دعوة، وأن نكون نماذج حق تمتثل هذا الدين، وأن نساهم بعد ذلك ببذل أموالنا وببذل جهودنا لنصرة إخواننا المسلمين في كل مكان، بل حتى ببذل أرواحنا، وبالمشاركة الشعورية والمعنوية؛ فإن هذا مما يحيي معاني الإيمان والإسلام في الأمة، ومما يسر إخواننا الذين يلاقون العذاب والاضطهاد في كل مكان، ولابد مع ذلك كله أن نحيي معاني العلم الشرعي الذي يبصر الإنسان المسلم بحقيقة ما يحتاج إليه في هذه الدنيا، ويعرفه الأحكام التي ينبغي أن يتبعها، ويعرفه الأحوال التي ينبغي أن يكون عليها، كما يعرفه الحقائق التي تدلس عليه، والأوهام التي تلقى في طريقه، فإنه إن كان عالماً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميز بهذا بين الحق والباطل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح أوضاع الأمة

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إصلاح أوضاع الأمة إن الأوهام لا تعيش في وجود الحقائق، وإن الظلمات لا تبقى عندما يكون هناك النور والضياء، فينبغي أن نسعى لمثل هذا الأمر والعمل، وأن نشيع الخير والذكر، وتلاوة القرآن، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودروس العلم، ومحاضرات الخير، والدعوة إلى الإصلاح؛ لأن هذا مما يقوي رجوع الأمة إلى دينها واستمساكها بنهج ربها، إنها أعمال كثيرة لا ينفك عنها واجب مسلم مطلقاً، فلا يقل أحد: ليس علي واجب، وماذا أصنع؟ إن إصلاحك لنفسك ولأسرتك، ومنعك للمنكرات في بيتك وفي بيئتك إنما هو تقديم سبب من أسباب النصر الذي يتنزل على المؤمنين، إن العيب فينا؛ إن كثيراً من أحوال المسلمين في كثير من بقاع الأرض هي السبب الأساسي والرئيسي الذي وقع به عليهم هذا البلاء في كثير من بلاد الإسلام والمسلمين، أليست كثير من بلاد المسلمين لا تحكم شرع الله، وتعلن الحرب ببعض المفاسد الظاهرة على الله سبحانه وتعالى، وتتبع في ولائها وبرائها منهجاً لا يرتبط بدين الله سبحانه وتعالى؟! هذه هي الأسباب التي ينبغي أن نعالجها، ولا تقل: لا أستطيع، فإنك تستطيع، فإذا وجد أن أمراً معيناً في نفسك وأهلك عجزت عنه فأنت عما سواه أعجز، فإنها أوهام يحوكها الشيطان في عقولنا لنتقاعس، ولكن الواجب لا يمكن أن يكون بعيداً عن كل إنسان بذاته في نفسه ومن ولاه الله سبحانه وتعالى أمرهم، فإذا صلحت هذه الأحوال أوشك -بإذن الله عز وجل- أن تصلح حال المجتمعات والأمة الإسلامية كلها، ولذلك ليست القضية في القوة، وليست القضية في السلاح، ولا في كثرة عدد المسلمين، وإنما هي قوة الإيمان أولاً، ثم قوة التلاحم والتماسك والأخوة الإسلامية والرابطة العقدية الإيمانية ثانياً، ثم بعد ذلك وجود أسباب الإصلاح والعمل الجاد بدلاً مما كانت ولا تزال عليه صور بعض المجتمعات الإسلامية، قال الشاعر: تركنا كتاب الله بحراً ونستقي غديراً كما يسقي من البئر مائح رمينا وراء الظهر سنة أحمد تركنا هداها وهو كالبدر لائح وها نحن نستجدي من الغرب شمعة فلا الغرب معط ولا الشرق مانح مدابغ للتبشير في كل مركز من الوطن المكلوم وهي ذبائح مساجدنا تبكي الشباب من الجفا وغصت بهم دور الخنا والمسارح مدارسنا ماجت بكل ملوث يصاب بعدواه الحجا والجوارح فكثيرة هي مظاهر الانحراف في مجتمعات ودول الإسلام في شرق الأرض وغربها، ولذلك ينبغي أن نئوب إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نعمل جاهدين على إقامة الإسلام في نفوسنا، وبيئاتنا، ومجتمعاتنا، وأن نكون عوناً على ذلك بإذن الله سبحانه وتعالى، والفجر -بإذن الله- قادم، وإرهاصاته ظاهرة، ولكنها محن يبتلي الله بها المؤمنين ليميز الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، إنها فتن الابتلاء، قال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] أي: حتى تظهر المعادن الأصيلة، والمعاني النبيلة، وتتميز الصفوف من العناصر الدخيلة، ومن المنافقين وأصحاب الأهواء والمنافع؛ إنها محن تحيي الإيمان بإذن الله، وتدفع إلى الوحدة بإذن الله، وتقود -بإذن الله عز وجل- إلى نصر قريب، أليس الصبح بقريب؟! فهذا هو الأمل الذي ننتظره، والأمل يحتاج إلى عمل، فلابد أن ننظر في الآلام إلى الآمال، ولابد أن تقودنا الآمال إلى كثير وكثير من الأعمال، والله أسأل أن يلطف بإخواننا المسلين في شرق الأرض وغربها. اللهم إنك العالم بالسرائر، والمطلع على الضمائر، اللهم قل الناصر، واعتز الظالم، وأنت المطلع الحاكم، بك نعتز عليهم، وإليك نهرب من بين يديهم، مال الناس إليهم، وتوكلنا عليك في إنصافنا منهم عليك، وتوكلنا في إنصافنا منهم عليك، ورفعنا ظلامتنا إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك، اللهم سدت الأبواب إلا بابك، وانقطعت الأسباب إلا أسبابك، اللهم قل الناصر، وعز المعين، وكثر الظالم، وبغى الأعداء، اللهم فأنزل على المؤمنين نصرك المبين، اللهم ثبتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم رحمتك بإخواننا المضطهدين والمعذبين، اللهم رحمتك بالمسلمين المشردين والمبعدين، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم، اللهم ثبتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم ثبتهم على الدين، وارزقهم الإيمان واليقين، اللهم اجعلهم ممن يرضون بقضائك، وممن يثقون بنصرك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تؤلف بين قلوب المسلمين، وأن تصلح ذات بينهم، وأن تزيل منهم أسباب الشحناء والفرقة والبغضاء. اللهم ألف على الحق قلوبنا، اللهم ألف على الحق قلوبنا، اللهم ألف على الحق قلوبنا، واجمع على نهج الصراط المستقيم آمالنا وأعمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفق ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم وفق ولاة المسلمين لكل ما تحب وترضى، اللهم وأبعدهم عما لا تحب ولا ترضى. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك حياة السعداء، وعيش الأتقياء، وموت الشهداء برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء نجاة وعافية، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تنزل علينا الرحمات، وأن تفيض علينا البركات، وأن تضاعف لنا الحسنات، وأن ترفع لنا الدرجات، وأن تقيل لنا العثرات، وأن تمحو عنا السيئات، وأن تغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، ووحد كلمتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ودمر الكفرة وسائر أعداء الدين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم يوماً قريباً أسودَ، يا قوي! يا عزيز! يا منتقم! يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! نكس وجوههم، وأذل أعناقهم، ونكس راياتهم، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، يا منتقم! يا جبار! يا عزيز! اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين! واجعل خير أعمالنا خواتمها يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! والحمد لله رب العالمين.

البدايات والنهايات

البدايات والنهايات لكل بداية نهاية، والسعيد من كانت بدايته ونهايته على وتيرة جيدة من الخير والصلاح، فعلى المرء المسلم أن يجتهد في أن تكون بدايته حازمة جادة على طريق الخير والفلاح حتى النهاية، ومن ذلك اجتهاده في اغتنام شهر رمضان، وفي الاستكثار من الأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل، وله في ذلك قدوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم.

طبيعة البدايات والنهايات

طبيعة البدايات والنهايات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، له الحمد سبحانه وتعالى على ما وفق من الطاعات وما صرف من الشرور والسيئات. نحمده سبحانه وتعالى ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. ونصلي ونسلم على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة. أما بعد: فهذا هو درس الجمعة الرمضاني الأول، يأتي في يوم الجمعة غرة شهر رمضان المبارك عام خمسة وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة، وعنوانه: البدايات والنهايات. ونحن في بداية رمضان، وستمر الأيام والليالي ونصل إلى النهاية، كما هو شأن الحياة لكل حي بداية ونهاية. ومقصودنا في هذا الحديث أن نجلي طبيعة البدايات والنهايات، وأن نعرف ما تستحقه البداية وما تتطلبه النهاية؛ لكي نستعد لذلك الاستعداد اللائق واللازم، ودائما تترافق البدايات مع همة وعزيمة، وهذا هو الأصل. فمع بداية العام الدراسي يبدأ الطلاب بداية قوية بنشاط وحيوية وقوة، ثم عند النهايات تشتد العزائم وتتجدد الهمم مرة أخرى باعتبار أن النهايات فيها الخواتيم وفيها النتائج وفيها الثمرات، فلذلك نجد الطلاب يكسلون أحيانا فيما بعد البداية، فإذا قربت النهاية وجاء الاختبار شمروا مرة أخرى عن ساعد الجد، وابتدءوا تدارك ما فات، وضاعفوا من البذل؛ لكي يحققوا أحسن ثمرة وأفضل نتيجة، وعمر الإنسان كذلك قد يكون في مبدئه ومقتبله قوة ونشاط وحيوية، ثم تمر به الفترات، فإذا اقتربت نهاية العمر وقربت الخاتمة تجددت مرة أخرى عند أكثر الناس همتهم في الخير ومراجعتهم للنفس وتصحيحهم للخطأ، وتداركهم للنقص وتوبتهم عن الذنب واستغفارهم لما سلف. وهذه طبائع الأمور حيث تبدأ بقوة، ثم تدرك المرء الغفلة، ويحيط به الكسل، فإذا شارف الوقت على الانتهاء عاد مرة أخرى إلى التدارك، وهنا وقفتنا التي نفصل فيها بعضا من طبائع البداية والنهاية.

كيفية بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم

كيفية بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ولنأخذ في ذلك القدوة المثلى رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولنأخذ بعض البدايات لنرى أن البدايات طبيعتها الشدة والصعوبة والقوة، وأن الأمر إذا أردت أن يكون جيداً وأن يكون السير فيه حثيثاً فلابد أن تكون بدايته وانطلاقته قوية؛ لأن كل أمر يبدأ بكسل وفتور، أو يبدأ بتقصير وتفريط؛ فإن مآله إلى انقطاع. وكثيراً ما نرى -كما يقولون- الكتاب من عنوانه، والأمور من بداياتها، فلو جئنا في أول العام وأول يوم في الدراسة لوجدنا أن نصف الطلاب غائبين، فمعنى ذلك: أن هؤلاء الطلاب وهذه الدراسة سيكون أمرها -كما يقال- في خبر كان، لكننا لن نجد ذلك غالباً، بل نجد أن الطلاب منتظمون كلهم أو معظمهم في أول يوم، ثم يحصل بعد ذلك التفريط والتقصير. ولذلك البداية لابد أن تكون جادة، ولابد أن تكون قوية، ومن قدر الله عز وجل أنه جعل البدايات تكتنفها الصعوبات حتى تتهيأ لها النفوس. وأنقل هنا مثالاً جديراً بالتأمل والتدبر والاعتبار من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم: وذلك في أول مرة نزل فيها الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يظن البعض أو يتصور أن المرة الأولى لابد أن تكون هينة خفيفة، ثم تتدرج بعد ذلك في قوتها وثقلها وصعوبتها، ولكننا نجد الأمر على غير ذلك؛ لأن البدايات الضعيفة لا تؤهل إلى مسيرة قوية. فكيف نزل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما عند البخاري وغيره أنها قالت: (كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء؛ فكان يتحنث الليالي ذوات العدد في غار حراء حتى نزل عليه جبريل وهو في غار حراء، قال عليه الصلاة والسلام: فأخذني فغطني - أي: ضمني ضماً شديداً- حتى بلغ مني الجهد -أي: المعاناة والمشقة والصعوبة- قال: ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]) فالرسول عليه الصلاة والسلام كان وحده في الغار، وبمجرد قدوم كائن أو إنسان غريب في تلك الخلوة كان كافياً أن يكون مخيفاً، ثم إذا به يخاطبه، ثم إذا به يضمه ويشتد عليه، وليس مرة واحدة ولا اثنتين بل ثلاث مرات؛ لماذا؟ لأن الذي سيأتي ثقيل؛ ولأن الذي سيتلى عظيم؛ ولأن الرسالة جسيمة والأمانة ضخمة والمسئولية هائلة. ولذلك كان لابد أن تكون البداية قوية وفيها شدة؛ لتكون متناسبة مع طبيعة البدء وقوة الانطلاق واستشعار عظمة المسئولية والأمانة؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فلا يمكن للقول الثقيل أن يأخذه الضعيف، ولا يمكن للمهمة العظيمة أن يحملها الرجل الضئيل، ولا يمكن للغايات السامية أن يسير فيها الكسالى واللاهون والعابثون. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم هو الذي اصطفاه الله جل وعلا وهيأه لهذه المهمة وصنعه على عينه، ثم جاءت البداية بهذه القوة والشدة.

كيفية بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة

كيفية بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وهناك بداية أخرى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: وهي بداية استئناف الدعوة الإسلامية وإنشاء المجتمع المسلم في المدينة المنورة. وكانت بدايتها الهجرة، وكانت الهجرة خطباً عظيماً وحدثاً جليلاً وصعوبة كبيرة ومخاطر عظيمة وطريقاً شائكة؛ فقد اجتمع وتآمر كفار قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليمنعوه من الخروج إلى المدينة كما هو معلوم، والنبي عليه الصلاة والسلام اختار وقتاً في شدة الحر والظهيرة، وخرج واتجه إلى الجنوب بدل أن يتجه إلى الشمال، وبقي في غار ثور ثلاث ليال، وسار وأدركه سراقة بن مالك، ومشى وقتاً طويلاً، وكان الطلب يلحقونه، وكان ذلك بعد أن عانى أصحابه في هجرتهم، فكانت مشقة تلاها بعد ذلك فرج عظيم، وبدء إقامة دولة الإسلام، وإنشاء المجتمع المسلم. وهكذا نرى بدايات كل أمر فيه قوة وشدة وأمانة عظيمة، وكذلكم كان فعله عليه الصلاة والسلام عندما وصل المدينة؛ فقد بنى المسجد أولاً، وآخى بين المهاجرين والأنصار ثانياً، وعقد المعاهدات مع اليهود ثالثاً، فأحكم الأمر من أوله، وصحح المسار من بدايته، وأخذ الأهبة على تمامها وكمالها، وهيأ الأمر بكل ما يحتاج إليه من البداية حتى لا ينفرط الأمر، ولا يصبح المراد بعد ذلك بعيد المنال.

حال النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية

حال النبي صلى الله عليه وسلم في النهاية وأما إذا جئنا إلى صورة ختام حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد مرت به سكرات الموت عليه الصلاة والسلام، واشتدت عليه، وكانت تعلوه الرحضاء، وكان يمسح ويقول: (إن للموت لسكرات). وكان عليه الصلاة والسلام يلقى من ذلك شدة، وكان في تلك الشدة يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم! لا تجعلوا قبري عيداً)، ما زال متعلقاً بأمانته ومهمته ودعوته ورسالته؛ لم يذكر زوجة ولا ولداً ولا مالاً ولا تركة، وإنما ذكر الدين والعبادة والوصية لأمته عليه الصلاة والسلام وهو في أشد اللحظات وأشد الكربات.

أهمية الحرص على فضائل الأعمال في شهر رمضان

أهمية الحرص على فضائل الأعمال في شهر رمضان ونحن اليوم في بداية هذا الشهر، وستمر بنا نهايته إن طالت الأعمار وكتب الله لنا الحياة، وتأتينا في هذه البدايات كل أحاديث وآيات الفضائل والترغيب في هذا الشهر، وبيان أن أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وأن لله في كل ليلة عتقاء، وفيه مضاعة الأجر، وبيان صلة الصيام بالقرآن، وصلة الصيام بالشفاعة، وصلة الصيام بالجنة، وصلة الصيام بالرحمة، وصلة الصيام بصلة الرحم. كل هذه الفضائل تجتمع وتحتشد وتصطف في أول الشهر لتحقق أمرين اثنين أساسيين: أولهما: شحذ الهمة والعزيمة وإثارة الشوق والعاطفة لنيل كل هذه الفضائل والبركات والخيرات التي جعلها الله عز وجل مختصة بهذا الشهر الكريم. فنحن مع هذه البداية لن نعرج على كل الفضائل ومحاسن الأعمال وصالح الأقوال التي تختص بهذا الشهر الكريم؛ لأنها كثيرة جداً، وهي شاملة للإسلام كله ولأعماله وأركانه كلها؛ فنحن في هذا الشهر نؤدي فريضة الصيام، ونحن نصلي ونؤدي فريضة الصلاة، ونزداد من الصلاة مع الفريضة تطوعات، ونحن أيضاً نزكي ونقصد بزكاتنا شهر رمضان لإصابة الفضل والخير والأجر والثواب، ونحن نعتمر عمرة في رمضان كحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نأتي بكل الأمور، ونحن أيضاً في هذا الشهر نصل الأرحام، ونطعم الطعام، ونصلي بالليل والناس نيام. كل هذه الفضائل تحتشد أمامنا في البدايات لتقوي العزائم وتعلي الهمم، ولتجعل العزم أكيداً، والحزم جاداً من البداية، أما أن نقول: نبدأ بقليل ثم نكثر ونكثر فكلا، فإن البداية غالباً ولابد أن تكون الأعظم والأكبر، ثم قد يحصل الفتور، ويتداركه الإنسان في الآخر، كما سنذكر. والأمر الثاني: البدء بالقوة والأكثر، والحرص على الأعظم والأكبر: ولست مع من يرى أن الناس فيهم ضعف، وأننا في البداية نأخذهم بالأقل، فمثلاً: الذي يريد أن يختم القرآن ويقول: سأتلو في كل يوم جزءاً، ويأخذ بهذا الحد، فإن قصر عنه بعد ذلك فصار في يوم لا يقرأ جزءاً فما معنى ذلك؟ معناه: أن الشهر سينقضي وهو لم يختم، لكنه لو قال: إنه سيقرأ في كل يوم جزئين، ثم قصر عن ذلك فمرة قرأ جزئين ومرة جزءاً ونصفاً ومرة جزئين إلا ربعاً ومرة جزءاً وربعاً ومرة قصر إلى الجزء فإنه بكل حال سيصل إلى مراده قطعاً. ولو قال: سوف أصلي، وأقل القليل سأبدأ بركعتين من التراويح، ثم أزيد؛ فإنه إن طالت الركعتين سيلتمس الجواز، يعني: يصلي ركعة لو استطاع، لكنه لو قال: أصلي عشراً وقبل الفجر أصلي عشراً أخرى أو كذا فإنه إن قصر يكون تقصيره إلى أقل من ذلك. وهكذا ينبغي أن نفعل؛ لأن طبائع النفوس لا تأخذ بالجد وقتاً طويلاً، فقد تفتر من بعد، فإذا أخذناها بالراحة والقلة في البداية فنحن إلى ما هو أدنى وأقل واصلون ولا شك، فما الذي سيجبر هذا الضعف؟ نحن نبدأ أقوياء ثم نضعف، لكن إن بدأنا ضعفاء فالله يستر على حالنا ومصيرنا. وإذا بدأنا بقوة قد نضعف، فما الذي يدرك ضعفنا هذا؟ ستدركه النهايات، فعندما يقترب الشهر من آخره تأتينا أمور أخرى: أولها: أن هذا الموسم سينقضي، وإذا كنا في الأول نقول: الشهر ثلاثون يوماً، وإذا مضى يومان أو ثلاثة بقي ثمانية وعشرون أو سبعة وعشرون، فنحن إذا كنا في الخامس والعشرين -على سبيل المثال- فلن يبقى إلا خمسة أيام، فالعد التنازلي نهاية السباق، كما ترون المتسابقين يجرون يجرون في أول الانطلاق بقوة، فإذا كان السباق طويلاً نجدهم في وسطه وهم يخففون السرعة، فإذا قربت النهاية ولاحت لهم أطلق كل منهم كل طاقته ليصل قبل غيره، وليحقق المراد الذي لأجله سار تلك المسافة الطويلة، والمحروم منهم من يسقط ويقعد قبل النهاية، فإن كل الذي مضى له من العمل والجري لم يحصل له به أثر ونتيجة. وعندما تأتي النهايات تأتينا أيضاً رحمة من الله عز وجل، فقد خصت العشر الأواخر كما نعلم جميعاً بخصوصية فوق الخصوصية الرمضانية، فرمضان كله أجر وفضل، ومع ذلك جاءت العشر بعبادات أخرى خاصة بها كالاعتكاف، وبأجر خاص بها في ليلة القدر، وبأمور فعلية فعلها النبي عليه الصلاة والسلام فيها؛ لنجعل مرة أخرى النشاط يعود من جديد والقوة تعود مرة أخرى والهمة ترتفع، حتى إذا جاءت تلك الليالي زاد العمل فيها ليلاً ونهاراً، وانقطع الإنسان عن دنياه وعن مشاغلها، وعن أهله وزوجه؛ ليتفرغ لطاعة ربه ولعبادته ومناجاته سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: لم يبق إلا هذه الأيام القليلة والليالي المعدودة من هذا الموسم الذي تضاعف أجره، والعشر زاد فضلها، فكأنه يقول: هذا هو ختام السباق، فيشتد فيه عزمه، وتقوى فيه همته، وينشط في عبادته، ويكثر في كل أنواع الخير تلاوة وذكراً ودعاءً وصلاة وإنفاقاً لكل ما يستطيع. وبين البداية والنهاية يأتي الوسط، فإن كان ضعيفاً كان الأمر هيناً، ولكننا نرى في أحوالنا سوءاً ومخالفة، منها ما أشرت إليه بأن الناس يبدءون بضعف، وإذا بدءوا بضعف فهم إلى الضعف بعد ذلك أكثر، وبعضهم يقول: نبدأ بالتراويح بالأقل فالأقل، ثم نزيد قليلاً فقليلاً، وأنا أتبعه وإن كنت لا أقتنع بذلك؛ لأن الناس يستثقلون في الوسط ما لا يستثقلونه في البداية. ولكن الأمر الأدهى والأمر هو ما يكون من حال الناس في آخر الشهر، فبدلاً من أن يجددوا سيرة القوة وأن يدركوا نهاية المدة وأن يضاعفوا الجهد والطاقة، نجدهم يكثرون اللهو والصفق في الأسواق، وتتواصل الأسواق ليلاً ونهاراً، ويفرغ الناس أحسن وأغلى وأثمن الأوقات وأفضل اللحظات والساعات ليقضوها في التسوق والبيع والشراء وفي أمور أقل ما يقال فيها: إنها تضيع الأعلى وتأخذ بالأدنى.

وصايا لاغتنام رمضان

وصايا لاغتنام رمضان

أهمية المشاركة في أعمال الخير

أهمية المشاركة في أعمال الخير وصية رابعة: استعن بالله عز وجل في أن تشارك إخوانك في مثل أعمال الخير: فربما تقرأ ختمة لنفسك، وربما تقرأ أيضاً ختمة مع أهلك أو مع بعض زملائك أو مع بعض أهل المسجد، فإن هذا التعاون أحياناً يقوي عزمك، ويجعلك إذا ارتبطت بغيرك حريصاً على الالتزام، ولا يجعل للشيطان أو للنفس وضعفها عليك فرصة في أن تتخاذل أو أن تكسل، وهذا من أسباب الإعانة كذلك.

أهمية الدعاء

أهمية الدعاء الأمر الرابع هو: كثرة الدعاء من أول الشهر بكل خير من الأعمال الصالحة التي تريدها لنفسك، وتريد أن تحصل عليها وتأخذ بها وتلتزمها وتؤديها على أكمل وجه بإذن الله عز وجل. ويقابل ذلك الدعاء لله عز وجل بأن يجنبك ويخلصك من كل ما تكرهه لنفسك، وما أنت مقر بأنه من صور القصور وألوان الضعف، فهذه فرصة من الفرص العظيمة؛ لأن هناك اختصاصاً في الصيام بالدعاء كما نعلم، فينبغي أن نحرص على ذلك. فإذا بدأنا بهذه البداية القوية يوشك إذا جاءت النهايات أن يتضاعف فيها عملنا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أن كانت البدايات ضعيفة فيوشك أن تكون النهايات كذلك. نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد والهدى والرشاد، ونسأله عز وجل أن يقوي عزائمنا في طاعته، وأن ينهضنا إلى كل خير وبر وإحسان، وأن يشغلنا في هذا الشهر الكريم بكل أبواب البر والإحسان، وأن يصرف عنا كل أسباب الغفلة والنسيان؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

التعرف على فضائل الأعمال في رمضان

التعرف على فضائل الأعمال في رمضان في هذه البدايات لابد أن نجتهد جميعاً في أن نلم ونقرأ ونستمع إلى جل الفضائل والمحاسن في هذا الشهر، حتى لا يغيب عنا منها شيء، وحتى تكون كل واحدة منها كأنها مسعر حرب في قلوبنا ونفوسنا. فإن وجدنا القرآن وجدنا فضائله في رمضان، وإن وجدنا الإنفاق وجدنا فضائله في رمضان، وإن وجدنا الذكر والدعاء وجدنا فضائله في رمضان، وهكذا إن وجدنا صلة الرحم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في الخير في رمضان، فكان أجود من الريح المرسلة، وكان أكثر ما يصلي عليه الصلاة والسلام في رمضان، وكان أكثر ما ينفق في رمضان، وكان أكثر ما يتفقد الناس في رمضان، وكان أكثر شيء في كل جانب من الجوانب في رمضان. فينبغي لنا أن نحرص على معرفة هذه الفضائل، وأن نقرأها، وأن نستمع إليها حتى تحمسنا وتشجعنا، وحتى نتذكر أخذ كل باب من أبواب الخير. ونحن أحياناً في رمضان نقتصر على بعض الأبواب دون بعض، فالناس يؤدون فريضة الصيام، وهو فريضة الوقت؛ وأكثرهم يكثرون من التلاوة ومن الصدقات، وينسون أن هناك أبواباً من الخير كثيرة. فهناك أبواب الذكر وكثرته، وأبواب الدعاء وخشيته، وأبواب تفقد الناس وصلة الرحم، وأبواب أخرى مختلفة متعددة متنوعة في كل جانب من جوانب الطاعات. والأمر الثاني: أن الذي نأخذه في البدايات هو الأعلى فالأعلى؛ فإن قصرت عنه ذكرت نفسك أنك قصرت فطلبت مرة أخرى العودة إلى ذلك الأعلى، ولا تبدأ بالأدنى؛ فإنك إن دنوت لم تشعر بالدنو، وما تزال تدنو وتدنو حتى تعود إلى حال لا ترضاها لنفسك في مثل هذا الموسم العظيم وهذا الشهر الفضيل.

أهمية الصرامة والشدة في محاسبة النفس

أهمية الصرامة والشدة في محاسبة النفس ثم أوصي كذلك بعد معرفة الفضائل وبعد الأخذ بالأعلى فالأعلى: أن يكون هناك نوع من الصرامة والشدة في محاسبة النفس، فلا تنزل من الأعلى الذي تحده لنفسك حتى لا ينقص الأمر شيئاً فشيئاً، فإن قررت أن تقرأ جزءاً فلا ترض بجزء إلا آية؛ لأنك إن قبلت بقصور آية قبلت من بعد بتقصير آيتين، وسهل عليك تقصير الثلاث، ولم يكن عندك مانع في تقصير الأربع، ويمر عليك تقصير الخمس وأنت غير مكترث، وهكذا. فحاسب نفسك، وكل نقص عما أردته وعزمت عليه تداركه مباشرة في وقته وآنه حتى لا تسمح لنفسك بأن تهبط وتهبط وتهبط، ثم تضعف وتضعف وتضعف، وهذه أيضاً وصية ثالثة.

الالتجاء إلى الله

الالتجاء إلى الله الله عز وجل خالق الخلق أجمعين، وبيده مقاليد الأمور ومفاتيح الفرج، ولا يقع شيء إلا بعلمه وحكمته وإرادته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وإن ما يحل بالمسلم خاصة وبالمسلمين عامة هو بإرادة الله عز وجل، إما بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وإما تمحيصاً لهم وابتلاء، فمن نزل به هم أو غم أو ابتلاء فليلجأ إلى الله عز وجل، وليرجع إلى ربه ومولاه، وليعلم أنه لا يرفع الضر والبلاء إلا الله سبحانه وتعالى وحده.

أهمية الالتجاء إلى الله عز وجل

أهمية الالتجاء إلى الله عز وجل الحمد لله لا مانع لعطائه ولا راد لقضائه، ولا كاشف لبلائه، هو في كل خير يرتجى، وإليه من كل شر المشتكى، وإليه الملتجأ، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، نحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير، دعانا إلى الطاعة والإيمان، وكره لنا الكفر والفسوق والعصيان، ووعدنا عند الاستجابة بالجنان، وتوعد عند المخالفة بعذاب النيران. وأشهد أن محمداً عبده رسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين, وختم به الأنبياء والمرسلين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا جميعاً اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن الالتجاء إلى الله وسيلة عظمى من وسائل مواجهة المصاعب، وعدة كبرى في مقابلة المصائب، وإن المؤمن الموصول بخالقه ومولاه يعلم أنه إذا أراد إنجاح أمر أو دفع ضر فلابد له من الرجوع إلى خالقه ومولاه، وإن هذه الحياة مليئة بالمصاعب والمصائب، وإن سنة الابتلاء في هذه الحياة الدنيا لأهل الإيمان ولأهل الصلاح والخير من بني الإسلام هي سنة ينبغي أن تقترن عند المؤمنين بصدق الالتجاء، وإخلاص الدعاء، والثقة برب الأرض والسماء، فإن الإنسان المسلم في هذه الحياة يواجه كثيراً من البلايا والرزايا بوصفه فرداً، ربما كان ذلك في نفسه وفي همه وغمه، وربما كان ذلك في رزقه وأثاثه وماله، وربما كان ذلك في بدنه وصحته وعافيته، وكذلك تواجه الأمة الإسلامية ألواناً شديدة من البلاء، وصروفاً عديدة من العناء، وهي كذلك تبتلى ليمحص الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وليميز الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه في جهنم جميعاً، فهذه سنة من الله سبحانه وتعالى ماضية. ونرى اليوم ألواناً من المواجهات التي يواجه بها المسلمون ما يقدر الله عليهم من البلاء، وينسون كثيراً صدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، ويغفلون عن مفتاح الفرج وعن أسباب السعادة والهناء، وعن أسباب السلامة من الشقاء، ذلك أن الصلة بالله قد ضعفت، وأن الإيمان في القلوب قد تضعضع، وأن البعد عن الله قد مضى فيه كثير من الناس شوطاً بعيداً، فلم تعد عندهم حاسية المؤمن الذي لا تصيبه شوكة ولا يعترضه عارض من أمر يسير أو كبير إلا توجه إلى الله، وعلم أن في ذلك ابتلاءً من الله، وأن الفرج والنصر والعافية والصحة والرزق من الله، ونحن اليوم نرى في حياتنا الفردية وفي حياة أفراد المسلمين صوراً كثيرة من هذه الابتلاءات.

كيفية مواجهة المسلم ما يحل به من الهم والغم والمصائب

كيفية مواجهة المسلم ما يحل به من الهم والغم والمصائب إنك -أخي المسلم- قد يركبك الهم، ويتضاعف عليك الغم، وتضيق نفسك، ويتحشرج صدرك بسبب بعض المشكلات والمعضلات، فاعلم -أخي المؤمن- أنه ليس لها من دون الله كاشفة، وكثير من الناس يمرون بظروف مادية صعبة، فأبواب الرزق في وجوههم موصدة، وأحوالهم المادية صعبة، وربما كانوا في شظف من العيش مع كثرة الاحتياج وقلة ذات اليد، فاعلم -أيضاً- أخي المؤمن يقيناً وواقعاً وسلوكاً ومنهجاً أن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق، وأنه سبحانه وتعالى بيده إجراء النعم، وبيده لحكمة وابتلاء إمساكها، قال عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، فينبغي أن ندرك هذه الحقيقة، وأن نتعامل معها التعامل الإيماني؛ لأننا نرى الأمر أعظم في أحوال الأمة، فعندما نرى أحوال إخوان لنا في البوسنة والهرسك، أو في كشمير، أو في فلسطين، أو في الصومال أو هنا أو هناك نرى صوراً عجيبة من البلاء، ونرى صوراً شديدة من العناء، فينبغي أن تكون درساً عظيماً يسوق الأمة إلى خالقها، ويدفعها إلى الالتجاء إلى ربها؛ لأنه سبحانه وتعالى قد علمنا هذه الحقائق في القرآن الكريم، وتجسدت لنا حية ناطقة شاهدة بصدق هذا المنهج في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ} [الأنعام:17]، وقال: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، فلو استقرت هذه الحقيقة في قلب كل مؤمن ورسخت رسوخاً قوياً لما وجدنا ذلك التذمر الذي نسمعه من كثير من الألسنة، وذلك التبرم بالقضاء والقدر، وذلك الالتماس لتفريج الكربات بارتكاب المعاصي والمحرمات، فإذا ضاقت أسباب الرزق لجأ الناس إلى الرشوة، وإلى السرقة، وإلى استخدام الحرام وسيلة لكسب الأرزاق، فإن عورضوا في ذلك قالوا: سدت أمامنا الأبواب، وانقطعت الأرزاق. ونسوا أن الله سبحانه وتعالى هو الرازق وهو الوهاب، ونسوا أنهم بذلك يرتكبون ما يستوجبون به سخط الله سبحانه وتعالى، وكم تجد مضطراً قد وقعت به أو حلت به نازلة أو مصيبة يذهب شرقاً وغرباً، ويمر بهذا وذاك، ولا يلتفت قلبه، ولا يتأمل فكره في أن يرفع يديه إلى السماء، وأن يذرف دمعة تذلل وخضوع وتضرع لله سبحانه وتعالى القائل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]. هكذا يعلمنا الله عز وجل أن هذا البلاء وأن هذه الأقدار تعظم صلتنا بالله، وتؤكد ثباتنا على طاعة الله وحرصنا على رضوان الله سبحانه وتعالى.

أحوال كثير من المجتمعات الإسلامية في مواجهة المصاعب

أحوال كثير من المجتمعات الإسلامية في مواجهة المصاعب خلل كبير في مجتمعات المسلمين اليوم؛ لأنهم يلتمسون تفريج كرباتهم ومواجهة المصاعب التي تحل بهم أو تواجههم بأساليب وطرق ووسائل بعيدة عن الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41]، حتى الكافر والمشرك عندما يجد أن كل الأسباب انقطعت، وأن كل الأبواب انسدت تستيقظ فطرته، ويتحرك قلبه، ويعلم أنه ليس لها من دون الله كاشفة، فالكافر المشرك في اضطراره يرفع بصره إلى السماء، ويخفق قلبه بالتذلل والخضوع لله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه فطرة إنسانية بشرية تنجلي عند هذه المصائب والمصاعب، فما بال المسلم وما بال فئام من أمة الإسلام تمر بهم المصائب والنكبات فما تسوقهم إلى الله، بل تزيدهم بعداً عن الله، وتزيدهم إعراضاً عن الله، وتزيدهم محاربة لله، فإذا ضاقت أبواب الرزق أخذوا الربا، وإذا ضاقت أبواب الرزق ارتكبوا الزنا، وفعلوا كل ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى؟! أفيكون حال الكافرين المضطرين خيراً من حال المسلمين فيما يقدر الله عليهم من البلاء؟!

كل وسيلة وسبب هي بقضاء الله عز وجل وقدره

كل وسيلة وسبب هي بقضاء الله عز وجل وقدره يعلمنا الله سبحانه وتعالى أن كل وسيلة وسبب بتقدير الله عز وجل، فإذا تعلق العبد بالأسباب على أنها مؤثرة بنفسها ونسي رب الأرباب ومسبب الأسباب لم يقع له قصده، ولم يحقق مراده؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد قال -كما في الحديث القدسي الشريف-: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} [الإسراء:56]، فاذهبوا إلى شرق الأرض وغربها، والتمسوا النصرة من أعداء الله عز وجل كافرين مشَرِّقين أو مغَرِّبين فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً، فلن يتغير حالكم ما لم تغيروا حالكم مع الله، ولن يتغير وضعكم ما لم تعودوا وتئوبوا إلى الله، قال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا} [الإسراء:56]. وقد قص الله عز وجل أنباء الأمم من قبلنا وبين لنا أحوالهم في مثل هذه الأمور التي تتكرر عبر الأيام والدهور، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43]، ألم نر في أحوال الأمة ما يصدق هذا الحال؟ فقد نزل بهم البلاء ليلتجئوا إلى الله عز وجل فزادوا إعراضاً، وغرهم الشيطان فارتموا في أحضانه، وتفرقوا في سبله، وركبوا مناهجه، وساروا في طرائقه إعراضاً عن الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:94 - 95]. إن أحوال الأمة اليوم في أفرادها وفي بعض بيئاتها ومجتمعاتها تعتبر أي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى منطوية في ثنايا تلك المحن وفي صور تلك النقم؛ لأن الأمة قد شردت بعيداً عن منهج الله، وغفلت كثيراً عن تذكر الله، فساق الله عز وجل لها هذه الأقدار، وقدر عليها هذه البلايا؛ حتى تئوب إلى رشدها، وترجع إلى ربها، وترتبط بخالقها، وذلك في أحوال الفرد وأحوال الأمة.

وجوب التعلق بالله عز وجل ودعائه في جميع الأحوال

وجوب التعلق بالله عز وجل ودعائه في جميع الأحوال تذكر -أخي المسلم- حالك كم مرت بك من مشكلة، وكم واجهتك من معضلة، وانظر إلى ما فعلت فيها، هل اتقيت الله عز وجل في حلها؟ وهل تورعت عن أن يكون في سبيلك إلى دفع الضر عنك أذى لغيرك أو ارتكاب لحرام؟ وهل صدقت في التجائك إلى الله سبحانه وتعالى وأخلصت له وتذللت بين يديه، وعرفت ما سلف من تقصيرك، وما سبق من ارتكابك للمحرمات، فجعلت هذا البلاء تجديداً للولاء مع الله سبحانه وتعالى؟ إن الأحوال التي تمر بنا في هذه الأيام وفي هذه الأوقات تذكرنا دائماً بقضية المشكلات وقضية المعضلات التي تواجهنا، وكيف نتخلص منها أو نلتمس لها سبيل النجاة. فانظر إلى هذه الأمثلة القرآنية التي تتنوع في شتى نواحي الحياة، فإن سدت عنك أبواب الرزق أو ضاقت عليك ذات اليد، أو انعدمت حيل التماس الأسباب فيما بين يديك فاستمع إلى قول الله جل وعلا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] أي: تتضرعون وتلتجئون وتدعون وتبكون حتى تعود لكم نعمه، وحتى تنصرف عنكم نقمه. فكيف تلتمس بنعم الله وباستخدام نعم الله طريقاً إلى معصيته، أو ارتكاباً لما حرم سبحانه وتعالى؟! فإذا نزل بك المرض فارجع إلى الله عز وجل، وكم يعاني الناس اليوم من أمراض ما سمعنا بها في الأولين، وأهل التقدم العلمي التكنولوجي الذين يفاخرون ويطاولون ما وصلوا إلى معرفة سببها وكنهها، فضلاً عن أن يعرفوا علاجها ودواءها، وهي بلاء من الله لهذه البشرية لما أعرضت وجحدت وتنكرت وكفرت وأسرفت، وبلغت غاية لم تبلغها الجاهلية الأولى، فإذا مرضت وأخذت بالأسباب فلتكن الأسباب أسباباً، ولا تكن غايات؛ فإن بعض الناس إذا مرض اليوم ذهب إلى الطبيب وهو غير شاكٍ مطلقاً أن الشفاء بيد هذا الطبيب، وربما إذا لم يجد حلاً في ذلك أشار عليه بعض الناس إشارة تتضمن خطراً في مضمونها، ويقولون له: اذهب إلى فلان الطبيب؛ فإنه مجرب، وما من مريض إلا ويشفى على يديه. سبحان الله! فأين الله سبحانه وتعالى؟! وأين تعلقنا بالله؟! وأين صدق التجائنا إلى الله سبحانه وتعالى؟! أفما نرى في هذه الأمراض والأدواء عبراً؟! أفما نرى في فشل الطب في كثير من الأسباب صوراً من هذا العجز البشري الذي ينبغي أن يفتقر به الناس إلى رب الأرباب سبحانه وتعالى؟! قال عز وجل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:83 - 84]، إنها معادلة سهلة واضحة، وقع به الضر، ونزل به المرض وأقعده سنوات، فكان العلاج هو ذلك الالتجاء الصادق والدعاء الضارع والإخلاص الذي أظهره لربه ومولاه، والأدب الذي تكلم به: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، فاستنزل الرحمة من السماء، ورُفِعَ -بإذن الله عز وجل- البلاء، فهذا هو طريق الشفاء. وفي أمر النفس وما يعتريها من الضيق والكرب لمخالفة الناس أو لاستهزائهم، أو لبعض ما يواجهون به الإنسان من المشاكل والعراقيل يقص الله عز وجل علينا قصة يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]، هذا هو الطريق {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، إنه اعتراف وتذلل وخضوع، ودعاء وابتهال والتجاء، فكانت العاقبة: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]. وما أكثر الظلم في هذه الأعصر! وما أكثر المظلومين المقهورين الذين لا يجدون من ينتصف لهم، ولا من يرد عنهم الظلم، ولا من يأخذ لهم حقهم! فينبغي أن لا ينسوا الحكم العدل سبحانه وتعالى، وينبغي أن لا ينسوا قاصر القياصرة، وكاسر الكياسرة، ومغرق فرعون، ألا وهو الله سبحانه وتعالى جبار السماوات والأرض، فليستنصروا بالله على من ظلمهم، وليستنصروا بالله على من قهرهم، فقد قص الله علينا قصة نوح عليه السلام فقال عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10 - 14]، هكذا جاءت الاستجابة لما كان العبد على منهج الله، وصدق في التجائه إلى الله سبحانه وتعالى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ لما بعثه إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ففي أيدينا سهام نافذة وأسلحة فتاكة نغفل عنها، ونلتمس الذلة والدنية في ديننا، فربما ظلمنا ظالم فتنازلنا لأجل مفاداة ظلمه عن ديننا، أو عن أخلاقنا، أو عن بعض شرفنا وكراماتنا، فأين استعلاؤنا بالإيمان؟! وأين شموخنا بالإسلام؟! وأين ثباتنا على الحق؟! وأين التجاؤنا إلى الله سبحانه وتعالى؟! وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليملي للظالم -أي: يمهله- حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم تلا قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]). أفنحن في شك من آيات ربنا ومن أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم؟! ولذلك تنوعت هذه الأسباب، وإذا جاء القهر فهذا هو الطريق، وإذا أرادت الأمة النصر فهذا هو الطريق: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]. كذلك يرسم الله عز وجل لنا الفرج والنجاة في كل الأحوال التي تمر بنا من ضيق في الصدر، أو قلة في الرزق، أو بلاء في البدن، أو قهر في المعاملة، أو ظلم في المواجهة، أو هزيمة في المعركة، كل ذلك يدفع -بإذن الله- بصدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى. فاللهم! إنا نسألك أن ترزقنا كمال الإخلاص لك، وصدق الالتجاء إليك، وعظمة التوكل عليك، وكبر الثقة بك يا رب العالمين.

وجوب استمرار الصلة بالله عز وجل

وجوب استمرار الصلة بالله عز وجل أخي الكريم! أوصيك ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى ملازمتها والثبات عليها في حال السراء والضراء، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ معاذ: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، فينبغي أن نبقى على الصلة بالله، وعلى الطاعة لله، وعلى ابتغاء رضوان الله، حتى إذا جاءتنا المحن ومرت بنا الفتن ينبغي أن تزداد صلتنا بالله، لا أن تخرجنا هذه الفتن أو تلك المحن عن منهج الله سبحانه وتعالى، فنلتمس النجاة بعيداً عن طاعة الله، فإن ذلك أمر لا يمكن أن يأتي بالنجاة، كما قال الشاعر: تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس فمن أخذ طريقاً غير طريق الله فإن مغبته ونهايته في الدنيا قبل الآخرة سيئة، وإن آخرته -والعياذ بالله- شر من دنياه؛ لأنه نسي خالقه وربه ومولاه الذي قدر عليه البلاء ليدفعه إلى صدق الالتجاء ويوجهه إلى إخلاص الدعاء حتى يفرج عنه كربه ويزيل غمه ويوسع رزقه ويرفع عنه مرضه، فإنه سبحانه وتعالى بيده الضر والنفع، وبيده العطاء والمنع، فينبغي أن نوقن بذلك حقيقة، وأن تتعلق به القلوب صدقاً، وأن يمارس في واقع الحياة سلوكاً. نقول ذلك لأن كثيراً من الأسباب المادية قد قضت حكمة الله عز وجل أن تعطل أو تكون ضعيفة هزيلة حتى تعود الأمة عودة صادقة إلى الله سبحانه وتعالى. فلنتذكر في أحوالنا الفردية ماذا نصنع إذا مرت بنا ضائقة مالية، أو حلت بنا مشكلة مرضية، أو وقعت لنا مشكلة نفسية، فهل نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى أو لا؟ وهل نؤخذ بالأسباب؟ وهل نحن نوقن أننا نبتغي بهذه الأسباب فعل ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ونرجو منه جل وعلا أن يجعل للأسباب تأثيرها؟ فهل نحن عن ذلك غافلون أم له متذكرون وبه عاملون؟ إن كثيراً من أحوالنا التي تمر بنا تشهد أننا غافلون، فكم يمر بنا كثير من ذلك، ونسمع كثيراً من الأقاويل، ونرى كثيراً من الأفعال، ويروج ذلك ربما في بعض الصور الإعلامية ونحن في غفلة، وإذا سئل أحدنا قال: إنه لم يكن إمامي طريق إلا هذا، ولم أجد سبيلاً إلا فعل هذا، فكيف يمكن أن أحل هذه المشكلة؟ وكيف يمكن أن أبعد هذه الضائقة؟! ونحن قد أشرنا من قبل إلى إن ارتكاب الحرام إن فرج هماً أو وسع ضائقة فذلك ظاهر، ولكن يبقى بعد ذلك في القلب سواد وظلمة، ويبقى في الصدر ضيق وحشرجة، ويبقى في النفس قلق واضطراب، ويبقى في الفكر تشويش وتضليل، ويبقى من بعد ذلك خاتمة سيئة، نسأل الله عز وجل السلامة. فالالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى هو قدر هذه الأمة يسوقها الله سبحانه وتعالى إليه، نقول هذا لإخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي الشيشان، وفي فلسطين، وفي كشمير، وفي غيرها من البقاع؛ فإنهم قد انقطعت بهم السبل، وتخلى عنهم العالم شرقه وغربه، وتنكرت لهم مواثيق العدل الزائفة، وتخلت عنهم أنظمة العالم الجائرة، ومع ذلك كان ذلك فيه خير لهم، فليلتجئوا إلى ربهم، وليعلموا أنه إن سدت أبواب الأرض فقد فتحت أبواب السماء، وإن تخلى أهل الأرض فإن الله سبحانه وتعالى قد وعد بالنصر لمن نصره، كما قال عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. إن إخواننا في فلسطين وهم يواجهون ظلم اليهود وإجرامهم وتعديهم على أراضيهم وانتهاكهم لأعراضهم، وما يعانيه إخواننا في البوسنة والهرسك من معتقلات واعتقالات وقتل وتشريد، وانتهاك أعراض وغير ذلك من الفظائع والمصاعب الكبرى إنما ذلك سوق للمسلمين ليلتجئوا إلى الله سبحانه وتعالى، ويتضرعوا إليه، ويخبتوا إليه، ويعودوا إلى حسن الصلة به، وإلى تمام الاستقامة على منهجه، ولعل ما يحصل في العالم اليوم على مستوى الأمة الإسلامية هو نوع من المخاض والابتلاء الشديد الذي تدرك فيه الحقائق واضحة، وتتجلى أمامها الموازين على حقيقتها من غير زيف ولا بهرج حتى توقن بالحق الذي علمها الله إياه، والآيات التي جعلها الله عز وجل قرآناً يتلى إلى قيام الساعة، فغفلنا عنها، وضيعتها الأمة في واقع حياتها، لعل هذه الأحداث تكون سائقة لجميع الأمة الإسلامية أفراداً ومجتمعات ودولاً وأمماً إلى الله سبحانه وتعالى. أدعوك يا رب مضطراً على ثقة بما وعدت كما المضطر يدعوك أدرك بعفوك عبداً لم يزل أبداً في كل حال من الأحوال يرجوك فإخواننا في تلك البلاد عجزنا نحن وعجز غيرنا عن نصرتهم، وتخاذل عنهم الأعداء الحقيقيون المدعون للعدالة المزيفون للحقائق، فهنا لجئوا إلى الله سبحانه وتعالى فأنزل عليهم فرجاً من عنده، وربما كان هذا الفرج غير ظاهر، لكنه في حقيقته حاصل، ولو تأملت في واقعهم وفي حالهم وفيما انتهت إليه أحوالهم لرأيت في ذلك خيراً كثيراً، فقد ملئوا المساجد، وتحجبت النساء، وكثر الدعاء، وصدقوا الإخلاص لله عز وجل، ولكن لكل أمر ثمن، ولكل قدر حكمة، فينبغي أن نؤمن بقضاء الله وقدره، وأن نثق بقوة الله ونصره، وأن نكون على يقين أن العاقبة للمتقين، ينبغي أن نوقن بذلك، وأن يكون ذلك ظاهراً في تصرفاتنا؛ لأننا نرى كثيراً من الناس كلما مرت بهم مشكلات عادية من مشكلات الحياة اليومية تصرفوا تصرفات لا يمكن أن تكون هي التصرفات الإسلامية المطلوبة، والمطلوب من المسلمين جميعاً -خاصة عند الأزمات- أن يجعلوا أملهم في الله تعالى، وأن يصدقوا ربهم لأن يلتجئوا إليه، وأن يتقربوا إليه بأنواع القربات، كقيام الليل، والصدقة، والدعاء، وصلة الرحم، والإكثار من نوافل الصوم خاصة الأيام الفاضلة كيوم عرفة الذي يكفر الله تعالى بصيامه سنة ماضية وسنة لاحقة، وكذلك صيام شهر الله المحرم، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم:- (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)، فهذا الشهر فيه من الفضائل والأعمال الفاضلة الخير الكثير، ففيه الصيام، وفيه صيام تاسوعاء وعاشوراء أو ما بعده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فلما سأل عن ذلك قالوا: يوم نجا فيه الله عز وجل موسى عليه السلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (نحن أحق بموسى منهم، خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله ويوماً بعده) وفي رواية: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)، فالكمال صيام التاسع والعاشر والحادي عشر، والوسط صيام العاشر وقبله يوم أو بعده يوم، ولو أفرد العاشر لعذر أو لحاجة فإنه لا حرج في ذلك، لكنه يكون قد خالف السنة، فإن كان ذلك لاضطرار فلا حرج إن شاء الله تعالى. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للصالحات، وأن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات والمسابقين إلى جنة عرضها الأرض والسموات. اللهم! إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً. اللهم! خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، ووفقنا لما تحب وترضى. اللهم! اهدنا، واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين. اللهم! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم! اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم! ثبت لنا على طريق الحق الأقدام، وأحسن بالصالحات الختام برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، ومن أرادنا وأراد المسلمين بخير فوفقه لكل خير يا رب العالمين. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم! رد كيدهم في نحورهم، واجعل بأسهم بينهم، ودمر قوتهم وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم. اللهم! لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار. اللهم! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين. اللهم! إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والثكالى واليتامى في كل مكان يا رب العالمين. اللهم! إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جائعون فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فأسكنهم. اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم! عجل لهم فرجهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين. اللهم! اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا ارحم الراحمين. اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم! أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك، وارزقهم بطانة صالحة تحضهم على الخير وتحثهم عليه، وتمنعهم عن المنكر وتردعهم عنه يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى يا رب العالمين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الفتح معالم ومواقف

الفتح معالم ومواقف كان فتح مكة حدثاً هاماً في أسبابه ونتائجه ودروسه، ففيه بيان أحوال الكفار في عدم احترامهم للعهود ونقضهم لها، وفيه بيان بعض آثار الحلف بين المسلمين مع غيرهم من الكفار كما أن فيه درساً مهماً عظيماً وهو الإعداد المادي والمعنوي اللازم من قبل المسلمين مع ثقتهم بنصر الله عز وجل لهم.

مواقف ودروس بين يدي الفتح

مواقف ودروس بين يدي الفتح الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تضاعف الحسنات، وبعفوه تمحى السيئات، له الحمد جل وعلا يسمع من حمده، ويعطي من سأله، ويزيد من شكره، ويطمئن من ذكره، نحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فنسأل الله عز وجل أن يتقبلنا في عباده الصالحين، وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، ونسأله جل وعلا أن يشرح صدورنا لطاعته ومرضاته، وأن يقبل بنا على الطاعات والعبادات دائماً وأبداً في سائر الأيام والليالي؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. وحديثنا عن (الفتح مواقف ومعالم) لأننا في هذا التاريخ نستذكر الفتح الأعظم الذي من الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم أن فتح مكة في العام الثامن من الهجرة النبوية الشريفة في شهر رمضان المبارك، وفي اليوم الثامن كان مبدأ مثل هذا الحدث العظيم. والحق أننا لا نريد أن نمر على تفاصيل هذا الحدث وما جرى فيه من السيرة النبوية العطرة، غير أننا نقف في بعض المواقف التي نستجلي منها معالم الفتح والنصر لأمتنا في عصرنا الحاضر؛ لأن هدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته هي المعلم الدائم الذي نستنير به في ظلمات حياتنا، والذي نرى فيه معالم الطريق إلى مرضاة ربنا، والذي نأخذ منه المنهج الصحيح لمواجهة الأخطار ومقارعة الأعداء في واقع حياتنا، فإن الله جل وعلا قد من علينا بأن جعل القرآن والإسلام ممثلاً تمثيلاً كاملاً عظيماً في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأرشدنا إلى ذلك ووجهنا إليه كما في قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. وأرشدنا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يبين أن كل شيء في حياته للاقتداء فقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقال: (خذوا عني مناسككم) وروي عنه: (إنما أنسى لأسن) وغير ذلك كثير. ونحن اليوم في هذا الواقع الذي تعيشه أمتنا محاطة بأعدائها مخذولة إلى حد كبير من قبل أبنائها، وفيها من التقصير والتفريط إضافة إلى الضعف والهوان ما فيها نحتاج دائماً وأبداً إلى أن نرجع إلى معين السيرة العذب لننهل منه فنروي ظمأ قلوبنا وفهومنا، ونوجه مسيرة حياتنا بإذن الله عز وجل.

صلح الحديبية هو سبب فتح مكة

صلح الحديبية هو سبب فتح مكة مواقف شتى في هذا الفتح الأعظم، ولعل أول موقف نشير إليه إشارة سريعة لأنه سابق لهذا الفتح بوقت غير قصير، لكنه مرتبط به وممهد له، ذلك هو أن سبب فتح مكة هو الإخلال من قريش بعهد صلح الحديبية، وصلح الحديبية وضعت فيه الحرب أوزارها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشرة أعوام، وكان سلماً وهدنة، وهنا لمحة مهمة في جوانب كثيرة، لكننا نختصرها في أن القتال والجهاد بحد ذاته ليس هو الغاية في الإسلام، وإنما هو وسيلة لتحصيل المقصد الأعظم والغاية الكبرى، وهي نشر الإسلام وتبليغ دعوته وإقامة الحجة على الخلق ببلاغه، فإن تم ذلك بغير جهاد فبها ونعمت، وإن صد الكفار وأعرض المعرضون واعتدى المعتدون فإن الجهاد وسيلة من وسائل كسر ذلك الطوق وإزالة تلك العوائق، ومنع الذين يصدون عن سبيل الله من الحيلولة بين الناس وبين الاستماع إلى دين الله ومعرفة شرع الله سبحانه وتعالى ودينه. ولعلنا نشير هنا إلى أن الذين دخلوا في الإسلام ما بين الحديبية وفتح مكة -أي: ما بين ذي القعدة من العام السادس إلى رمضان من العام الثامن- كانت عدتهم أكثر من الذين أسلموا قبل ذلك في الأعوام كلها كما هو معلوم في أحداث السيرة، حيث كان الذين جاءوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في الحديبية أربع عشرة مائة، أي ألفاً وأربعمائة، والذين قدموا معه إلى فتح مكة كانوا عشرة آلاف. وإننا نعلم كذلك أن أجلاء من كبار الصحابة رضوان الله عليهم كان إسلامهم فيما بين الحديبية وفتح مكة، من أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم من أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم.

نقض قريش للعهد سبب لفتح مكة

نقض قريش للعهد سبب لفتح مكة الموقف الثاني: هو أن سبب هذا الفتح هو نقض قريش للعهد وممالأتها لبكر على خزاعة الذين كانوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نقضوا العهد برئت ذمة النبي صلى الله عليه وسلم من الوفاء لهم بعد نقضهم، وجاءت العلة والتحلة لرسول الله عليه الصلاة والسلام بأن يتوجه إلى مكة فاتحاً وإلى قريش معاقباً لها على نقضها لعهدها. والفائدة المهمة لدينا هنا في وقتنا المعاصر هي أن أهل الشرك والكفر لا يوفون بذمة ولا يثبتون على عهد، وذلك أمر مطرد، ودلت عليه الآيات، ونطقت به أحاديث السنة، ولإن كان قد يكون ذلك في بعض الأحوال فإن له أسباباً وأعذاراً أخرى لا تتصل بصدق الوفاء بالعهد، ونحن نعني بذلك العهود والمواثيق التي تكون بين غير المسلمين وبين المسلمين كأمة في أمور عظيمة وفي مسائل مهمة. وهذا أمر مهم جداً أن يكون لدى المسلمين فيه بصيرة وبصر وعلم ووعي؛ لأن من الناس من ركنوا إلى غير المسلمين، وأسرفوا في حسن الظن بهم، بل وجعلوا من سماتهم وصفاتهم وأخلاقهم ما عظموهم به على أهل الإيمان والإسلام، وربما بالغوا في ذلك مبالغات عظيمة، والذي يشهد لنا به الواقع اليوم -خاصة من اليهود عليهم لعائن الله كما وصفهم الله عز وجل في القرآن- أنهم أشهر من نقض العهود، وأكثر من أخلف الوعود، وإننا نرى في واقعنا اليوم وفيما كتبوا من عهود ومواثيق ومعاهدات ومؤتمرات أن شيئاً منها لم يكن له حظ في الواقع، وليسوا هم وحدهم بل كل أعداء الإسلام على حقيقة هذا الأمر، سيما أصحاب الحكم وأصحاب القوة والبطش في هذه البلاد والحكومات غير المسلمة فإنها لا تفي لمسلم بذمة ولا تقيم له عهداً، وقد قال الله سبحانه وتعالى في شأن ذلك: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] أي: حلفاً ولا يميناً ولا ذمة وعهداً. وذلك أمر ينبغي أن يكون راسخاً في قلوب المؤمنين وفي أفهامهم، وذلك يدعوهم إلى أمرين: إلى وفائهم بعهودهم؛ لأن الوفاء بالعهد من سمات أهل الإيمان والإسلام، ولكن -أيضاً- إلى يدعوهم يقظتهم وتنبههم إلى عدوهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر مغازيه كان دائم التنبه إلى ما يمكر به أعداؤه، ويرصد تحركاتهم، ويجمع أخبارهم حتى لا يصاب على حين غرة، وحتى لا يعرض أهل الإسلام لفتك الأعداء، وذلك شأن الإمام الذي ينصح لرعيته والوالي الذي يقوم بواجبه ويؤدي حق الله عز وجل وحق دينه وحق رعيته فيما ولاه الله سبحانه وتعالى من أمر.

حكم التحالف مع غير المسلمين فيما لا يتعارض مع الإسلام

حكم التحالف مع غير المسلمين فيما لا يتعارض مع الإسلام ومسألة أخرى تنظم في هذا أيضاً، وهي جواز التحالف مع غير المسلمين فيما لا يتعارض مع الإسلام وفيما يحقق مصلحة الإسلام، وفيما لا يقع به مضرة على المسلمين ولا تنازل عن أحكام الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية -وهو الذي كان سبباً لفتح مكة- كانت قد دخلت خزاعة في عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حليفة له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل خزاعة عيبة نصحه، أي: يثق بهم لما علم من صدقهم في جوانب تعاملهم معه، فعاهدهم وحالفهم، وكانوا معه عليه الصلاة والسلام. إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون عن ضعف أو ذل أو هوان للمسلمين، ولا ينبغي أن يكون فيه إعطاء دنية في الدين، ولا ينبغي أن يكون ذلك على حساب مصالحهم وتحقيق أمور دينهم، فضلاً عن أن يكون ذلك تغييراً في أساسيات وثوابت من شرع الله عز وجل، سواء ثبتت في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ونحن نرى اليوم من يحتجون بالآيات القرآنية، لكنهم لا ينزلونها تنزيلها الحقيقي الصحيح، ولا يطبقونها التطبيق العملي الذي كان أنموذجه الأمثل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61] لكن الله جل وعلا يقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين في سيرته مثل ذلك، فهذه مواقف بين يدي الفتح، أي: قبل بلوغه.

موقف قريش بعد نقضها لعهد الحديبية

موقف قريش بعد نقضها لعهد الحديبية الموقف الثالث هو موقف عظيم يكشف لنا عن مسألة مهمة نحتاج إليها، وهي أن قريشاً عندما وقع منها نقض العهد بإعانتها لبكر على خزاعة ومدها بالسلاح -وفي بعض الروايات أن بعضاً من قريش شاركوا في القتال- علمت أن هذا الأمر سوف يكون سبباً في أن النبي صلى الله عليه وسلم ينصر من حالفوه وهم خزاعة، فأرسلت قريش أبا سفيان إلى المدينة ليحول بين ذلك النقض الذي نقضته قريش وبين ما يترتب عليه من نصر النبي عليه الصلاة والسلام لخزاعة، فذهب أبو سفيان في مفاوضة يريد فيها من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعتذر عما وقع، وأن يمدد الصلح مرة أخرى لعشر سنوات قادمة، فلما قدم إلى المدينة أراد أن يستشفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن هذا الأمر الذي أحدثته قريش أمر عظيم لا يجرؤ أبو سفيان أن يخاطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم. فذهب أول ما ذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يريده أن يكون وسيطاً له حتى يدخل به على الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يحدثه في أمر الاعتذار عما وقع والتجديد لما مضى من العهد، فأبى علي رضي الله عنه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم على أمر لا نعلمه، ووالله لا أكلمه في ذلك. وكان قبل ذلك أو بعده -على اختلاف في روايات السيرة- قد مضى أبو سفيان إلى أم حبيبة بنته، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليها طوت الفراش عنه، فقال: أرغبت بي عنه، أم رغبت به عني؟ يعني: هل طويت الفراش لأنه لا يليق بي فستأتيني بأحسن منه، أم أنك طويت الفراش لأنه لا يصح أن أجلس عليه؟ فقالت له: إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك امرؤ كافر، ولما رأى ذلك، قال: لقد أصابك بعدي شر يا بنية! وذهب إلى أبي بكر فرده كذلك، ثم ذهب إلى عمر، وكان خطأ فادحاً من أبي سفيان أن ذهب إلى عمر، وعمر هو من هو في شدته على المشركين والكافرين وعلى أعداء الإسلام أجمعين، فقال له: أتستشفع بي إلى رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به. فعلم أبو سفيان أنه لا أمل له في ذلك فرجع. وهنا أمر مهم، هو أن المسلمين على قلب رجل واحد، وأن رأيهم وقولهم مرتبط بقيادتهم التي تمتثل لدينهم وترعى مصالحهم، ولذلك كلهم أعرض عن أبي سفيان، ولم يجد أبو سفيان مدخلاً ينفذ به في المسلمين، بل وجد الأبواب كلها موصدة محكمة، ولم يستطع أن يدخل من عاطفة قرابة مع ابنته، ولا من عاطفة صداقة مع بعض الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ووجد أن الأمر محسوم وأنه لا مجال لشيء من ذلك.

خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيوشه إلى مكة

خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيوشه إلى مكة وأما الموقف الرابع فهو من المواقف المهمة أيضاً في واقعنا المعاصر: ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما مضى إلى فتح مكة دعا القبائل، وحث المسلمين على أن يخرجوا معهم، فخرجوا في جمع عظيم لم يخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله مثله قط، بل ربما لم تشهد الجزيرة مثله قط، وقد مضى إليهم في نحو عشرة آلاف، وصف القبائل كل قبيلة مع بعضها، وكل قبيلة لها زعيمها ولها رايتها، وعندما جاء إلى فتح مكة وعسكر خارجها، وأضرم جيشه النيران بالليل، وجاء أبو سفيان في حماية العباس بن عبد المطلب، والعباس -أيضاً- ممن أعلن إسلامه فيما بين الحديبية وفتح مكة، والروايات تقول: إنه أسلم قبل ذلك، لكن لم يكن هناك عمل ظاهر من العباس يعلن به إسلامه إلا في هذه الفترة. فجاء بـ أبي سفيان يردفه معه، وكان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن استعرض الجيش، وكان الجيش يمر كتيبة كتيبة، وقد حبس أبا سفيان في بطن الوادي حتى يرى هذا الاستعراض العسكري العجيب، فكانت القبائل تمر وأبو سفيان يسأل: من هؤلاء؟ فيقول العباس: هؤلاء مزينة. من هؤلاء؟ هؤلاء أسلم إلخ، فقبائل العرب كلها قد كان الإسلام قد فشا فيها ودخل في أبنائها، وأبو سفيان ينظر بتعجب وبرهبة وبشيء من التعظيم والإجلال، وهو ما يزال يرى هذه الفرق والكتائب تتابع، حتى مرت الكتيبة الخضراء، وكان جنودها يلبسون الدروع ويلبسون الأقنعة، لا يرى منهم إلا العيون من أحداقها، وكان ذلك قصد من الرسول عليه السلام، فلما رأى أبو سفيان هؤلاء قال: من هؤلاء؟ قال له العباس: هؤلاء كتيبة المهاجرين والأنصار من جند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان كلمة عظيمة، قال: والله ما لأحد بهؤلاء قبل! أي: هؤلاء لا يمكن أن يواجههم أحد، فهذا جيش لا يمكن أن يثبت ولا أن يصمد أمامه ولا أن يواجهه أحد، والهدف الأعظم هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يدخل الرعب في قلوب كفار قريش حتى يهزموا هزيمة نفسية، وحتى لا يقاتلوا ولا يواجهوا، تعظيماً من النبي صلى الله عليه وسلم لحرمة البيت، وحفاظاً على حرمة مكة المكرمة. وهنا نستحضر قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] فامتلاك المسلمين للقوة أمر مطلوب، لا لمجرد الدفاع عن أنفسهم، بل لإرهاب أعدائهم حتى يكون ذلك توطئة لأمور عدة، من أهمها أن لا يفكروا في العدوان على الإسلام وأهله، ولذلك ذكر الفقهاء أن من واجبات الإمام أن يغزو بالمسلمين ولو في كل عام مرة، ومن واجباته تأمين الثغور، لماذا؟ قالوا: لأنه إذا لم يكن ذلك كذلك تجرأ الأعداء فاعتدوا على بلاد المسلمين، وانتهكوا بيضة الإسلام وأهله. ومن هنا نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين في هذا الموقف أن المسلمين لا تعوزهم القوة، ولكن هنا نقطة مهمة، وهي أن القوة عند أهل الإسلام مأمون شرها وضررها، فلا تستخدم إلا فيما يحقق الخير والمصلحة العامة للخلق، حتى وإن كان فيها قتل وقتال فإنها تقتل الأشرار، وتقتل البغاة، وتقتل المعتدين، وتقتل الذين يجترئون على دين الله عز وجل، وتقتل الذين يصدون الناس عن دين الله عز وجل، فلماذا نرى في عالم اليوم أن القوة محرمة على المسلمين وأنها مملوكة لغيرهم، مع أن غيرهم قد أثبت الواقع أنه استخدمها في كل ما هو محظور ومحرم، لا في ديننا وإنما في الشرائع والأنظمة التي يقولون: إنها دولية أو عالمية. وهذا كله ثابت في واقع الناس، ولكن حقيقة الأمر أنّ المراد أن لا يكون عند المسلمين قوة يستطيعون بها الامتناع من عدوهم ومواجهة خصومهم، فضلاً عن أن يكون ذلك سبباً في إرهابهم لأعدائهم أو قدرتهم على الانتصار عليهم. ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بأسباب القوة والقتال في صور شتى، ومنها أنه بعد فتح مكة استعمل في الطائف لأول مرة ما عرف بعد ذلك بالمنجنيق، وهي الآلات التي تقذف الحصى، أو تقذف كتلاً من النيران إلى مسافة تبلغ الحصون التي كانت في ذلك الوقت، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأسلحة، لماذا؟ لأخذه بأسباب القوة وحصول المقصود والغاية، وهذا أمر مهم، فنحن قد قلنا من قبل: إن الواقع يثبت لنا أن العدوان وأن القتلى وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وهدم البيوت وكل المحرمات في الأعراف الدولية -كما يقولون- فضلاً عن الأحكام الشرعية عندنا إنما وقعت بكثرة كاثرة في قديم التاريخ وحديثه، وفي واقع اليوم من قبل غير المسلمين، وإن وقعت من المسلمين فإن نسبة ذلك لا تذكر بالنسبة لما وقع من غير المسلمين، سواء في ذلك العدوان الذي نعلمه لعقود متطاولة في فلسطين، أو العدوان قريب العهد على أفغانستان والعراق، أو العدوان السابق لذلك في البوسنة والهرسك، أو في غير تلك البقاع المختلفة، فإنا واجدون ذلك كذلك واضحاً وبيناً.

الثقة بنصر الله عز وجل

الثقة بنصر الله عز وجل الأمر الأخير الذي نختم به والذي نحتاج إلى أن نتدبر فيه ينقسم إلى قسمين، وكلاهما متعلق بعقيدة المؤمن ويقينه: الأول منهما: الثقة بنصر الله عز وجل، واليقين بتحقيق وعده، قال الله عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقال جل وعلا: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] كل هذه الوعود صادقة لا تتخلف، إنما الذي يتخلف فعل المسلمين، فلا تأتيهم حينئذ تلك الوعود؛ لأنهم لم يأتوا بالشروط. ولقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في مكة عشرة أعوام، وظل بعد ذلك يجاهد ويكابد المشاق أعواماً أخرى، وخرج من مكة مهاجراً ومطارداً، وخرج لا يملك شيئاً من الدنيا، وكل المؤشرات المادية كانت في غير صالح المسلمين. ولو قسنا ذلك بالزمن لرأينا أنه عليه الصلاة والسلام خرج من مكة مهاجراً طريداً وعاد إليها فاتحاً عزيزاً بعد ثمانية أعوام، فما هي في عمر الزمان؟ إنها مدة قصيرة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك مالاً ولا يملك سلاحاً، والمسلمون في ذلك الوقت قلة لا يؤبه لها، والأجواء المحيطة بهم والقبائل التي من حولهم كلها على الكفر والشرك. ثم لم يكن النصر في هذا العنصر المادي بقوة المسلمين أو كثرة جيوشهم، بل ما فتحوا مكة إلا بعد أن فتحوا قلوباً كثيرة وعقولاً كثيرة، ودخل في الإسلام من القبائل ومن الناس أعدادٌ هائلة عظيمة، وبعد العام الثامن في العام العاشر عندما حج النبي عليه والسلام حجة الوداع كان معه ما يزيد على مائة ألف نفس من أصحابه الذين حجوا معه. لقد فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم القلوب والعقول قبل أن يفتح البلاد والدور والحصون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. فنحن -إذاً- لابد من أن نعظم اليقين بنصر الله عز وجل، خاصة في هذه الظروف، فبعض الناس اليوم يقول: كيف سينتصر المسلمون؟! أمريكا الدولة العظمى في العالم والأمم المتحدة ضدهم، والأسلحة عابرة القارات! كأن بعض الناس نسوا أن هناك قرآناً يتلى، ونسوا أن هناك سنناً، ونسوا أن هناك قوة عظمى وهي قوة الله عز وجل القائل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. وفي يوم الأحزاب اجتمع على المسلمين شدة الجوع وشدة الخوف وشدة البرد، وجيش المشركين يحيط بهم من كل جانب، وقريظة نقضت العهد، وأصبح المسلمون محاطين من كل جانب، وليست عندهم حيلة ولا قوة، فما الذي جرى؟ يقين بنصر الله، فكبر النبي عليه الصلاة والسلام وبشر أصحابه بالنصر، ثم جاءت الريح فأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وقلعت الخيام، وطردت أولئك الكفرة والمعتدين {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، وبعدها قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اليوم نغزوهم ولا يغزونا)، فلم يكن النبي عليه الصلاة والسلام عندما خرج من مكة وهو مهاجر طريد عنده أدنى شك في أنه سينصر بإذن الله، وأن كلمته ستعلو، وأن دينه سينتشر، وأن رايته ستخفق، وأن دولته ستعم بقاع الأرض كلها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن ديني سيبلغ ما زوي لي منها). فنحن اليوم في حاجة إلى أن نزيل هذا الوهن الذي سرى إلى النفوس، واليأس الذي تسلل إلى القلوب، واستعظام قوة الخلق ونسيان قوة الخالق، ونقول للذين أصبحوا اليوم يفتون في العضد ويقولون لنا: كونوا واقعيين، فماذا تريدون أن تفعلوا؟ وماذا يفعل هؤلاء الفلسطينيون في فلسطين؟ إنهم يزهقون أرواحهم، ويسفكون دماءهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم، ثم لم ينجزوا شيئاً. نقول: سبحان الله! ننسى قوة الله عز وجل، وننسى قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وننسى كيف نصر الله رسوله في يوم بدر، وكيف نصر المسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام! بل إلى قريب من عهدنا هذا في حرب رمضان التي انتصر فيها المسلمون على اليهود في أول هذه المعارك. فلماذا نغفل عن ذلك كله؟! درس الفتح يعلمنا أن الدائرة تدور وأن الأيام تتوالى، وأن الأعوام تكر، وأن العاقبة للمتقين، وأن النصر للمؤمنين ولو بعد حين.

النصر ليس مدعاة للكبر

النصر ليس مدعاة للكبر الأمر الثاني المصاحب لما سبق أن نصرنا لا يؤدي إلى كبر، وأن نصرنا لا يقود إلى خيلاء، وأن نصرنا لا يؤدي إلى فتنة النفوس بالإعجاب، ولا إلى الطغيان الذي يكون مع المنتصرين من غير أهل الإيمان والإسلام. لما دخل النصارى بيت المقدس عام اثنين وتسعين وأربعمائة من الهجرة قتلوا في داخل المسجد وفي أنحائه نحواً من سبعين ألف نفس، حتى خاضت ركب الخيل في الدماء. وفي يوم دخول التتار إلى بغداد قتلوا نحو ثمانمائة ألف نفس، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف نفس. كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، واستحر القتل بأهل بغداد أربعين يوماً حتى سالت ميازيب البيوت من دماء المسلمين، وحتى بلغ نتن الجيف من أرض بغداد إلى بلاد الشام، وذلك هو طغيان النصر. لكن انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دانت له مكة التي استعصى عليه أهلها، مكة التي كان أهلها أشد الناس إيذاءً له، مكة التي كانت مؤلبة ومحرضة عليه للقبائل، ولكل الأعداء الذين سعت قريش إلى أن تجعلهم في صفها ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، دخل عليه الصلاة والسلام مطأطئاً رأسه تواضعاً لله عز وجل، وفي بعض الروايات: (حتى مست لحيته ظهر دابته) عليه الصلاة والسلام، دخل وهو المنتصر لا في نشوة المنتصر، بل في ذلة العابد الحامد لربه سبحانه وتعالى، ولذلك لم تطغ نفسه، فلم يأت بالناس ليقص رقابهم ويسيل دماءهم، بل عفا عنهم، وجاءه من هرب كـ حكيم بن حزام وغيره، وجلسوا بين يديه يلتمسون عفوه فوجدوا نفسه سمحة بذلك، إلا من كان عدواً لله ولرسوله، من اجترأ على دينه أو سب وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم، فأولئك بضعة نفر في أعلى روايات السيرة أنهم تسعة أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأمر بقتلهم ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة. لكن جمهور أهل مكة ما أصاب أحداً منهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام ضر، ومكة نفسها ما هُدِم فيها بيت، ولا قلعت فيها شجرة، ولا أضرمت فيها نار، تلك هي انتصارات الإسلام، ولعلنا نستحضر يوم السابع والعشرين من شهر رجب في العام السابع والثمانين بعد الخمسمائة من الهجرة يوم دخل صلاح الدين منتصراً إلى بيت المقدس في يوم جمعة، ولعلنا نتذكر الخطبة التي خطبها القاضي الفاضل، وكلها تذكير بفضل الله، وإقرار بنعمة الله، واعتراف بضرورة شكر الله، ولعلنا نعرف صنع صلاح الدين الذي قضى دهراً طويلاً من عمره مرابطاً في جهاده في سبيل الله.

الحج إيمان وإسلام وإحسان

الحج إيمان وإسلام وإحسان الحج شعيرة عظيمة من شعائر الله عز وجل، وفي الحج تتجلى مراتب الدين كلها في أبهى صورها وأحسنها، ففيه تتجلى مظاهر الإسلام والإيمان، وتظهر فيه حقيقة الإحسان التي هي أعلى مرتبة في الدين.

عظمة الحج

عظمة الحج الحمد لله الذي جعل الإيمان أماناً وأمناً، وجعل البيت مثابةً للناس وأمناً، وجعل حجه فريضة، وتعظيمه شعيره، والصلاة فيه فضيلة، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما ضاعف من الحسنات وما محا من السيئات، وعلى ما جعله لنا من أيام دهرنا من النفحات، وله الحمد سبحانه وتعالى ملء الأرض والسموات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن الحج إيمان وإسلام وإحسان، ونحن إذ نقترب من تلك الأيام المباركة والفضيلة الجليلة نذكر أنفسنا بجماع هذه الأمور العظيمة، وجماعها الدين كله، كما ورد بذلك حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، فأجابه ثم قال: (ذلك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). موسم الحج موسم عظيم لتقوية الإيمان وزيادته، وموسم عظيم لتحقيق الإسلام واستسلامه، ومدرسة كبرى لتعلم الإحسان في معاملة الله عز وجل واستشعار مراقبته، وأي أمر أعظم عند المسلم من أن يقوى ويزيد إيمانه، وأن يتحقق إسلامه واستسلامه، وأن يكون في رتبة الإحسان في تعامله مع ربه سبحانه وتعالى؟ وكل ذلك يجده المسلم في هذه الفريضة العظيمة والشعيرة الجليلة. إن الحج إيمان؛ لأن هذا الإيمان بما اشتمل عليه من تصديق القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح يتجلي بوضوح في هذه الفريضة، بل وكل معاني الإيمان العظيمة من محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتضرع إليه، والخضوع له، والاستكانة إليه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وغير ذلك من أعمال القلوب ومشاعر النفوس تتجلى في هذه الفريضة بدءاً من الانطلاق والتوجه إليها، بل بدءاً من معناها، فالحج في لغة العرب هو القصد، والحج في اصطلاح العلماء من أهل اللغة القصد إلى من يعظم. وهو في مصطلح الشرع: قصد مكة والمناسك في زمن مخصوص لأداء مناسك مخصوصة. فعندما ينوي الحاج حجه ويهيئ أمره تنبعث في نفسه وقلبه المشاعر، فقلبه معلق بالله، وغايته مرتبطة برضاه، ومشاعره متوجهة إلى بيته الحرام وإلى حماه سبحانه وتعالى، وذلك مبعث إيمان في قضية التوحيد والإخلاص لله عز وجل، قال عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، إنها كلمات موجزة من كلام الحق جل وعلا، فهذه شطر آية تشتمل على المعاني العظيمة إيماناً وإسلاماً وإحساناً، فقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196] أي أنه ليس مجرد أداء، بل هو إتمام وإتقان وإتيان بأركان وواجبات وسنن، مع حضور القلب وتحرك المشاعر وبذل المال وجهد البدن وانتقال من حال إلى حال، كل ذلك ضرب أو لون أو صورة مجتمعة تؤدي معنىً من معاني الإتمام والإتقان المأمور به في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فإن اللام لام اختصاص، وهي تدل على أنه ليس من قصد، ولا من نية، ولا من توجه إلى الله سبحانه وتعالى إلا ابتغاء رضاه جل وعلا؛ إذ ليس هناك شيء في القلب ولا شعور في النفس يتوجه لغير الله، بل هو محض توحيد كامل، ونبع إخلاص صافً لا يشوبه شائبة رياء ولا توجه أو تعلق بغير الله سبحانه وتعالى. وفي الآية الأمر بالإخلاص في النسك، وإتقانه لله بكل شيء، بالمال لله، والجهد لله، والانتقال والتعب لله، والنية والقصد لله، والشعور والعاطفة لله، والدعاء والخضوع لله، والحركة والسكون لله، والدمعة والعبرة لله، كل ذلك لله. وفي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] معنىً إيماني عظيم ينبغي أن يستشعره الحاج وغير الحاج؛ لأن المسلمين جميعاً في هذا الموسم يشاركون -وإن لم يحجوا- في الفضائل التي في العشر الأوائل، وما فيها من ذكر وتذكير ببعض أعمال الحجاج، وما في الموسم كله من هذه المعاني، وتأمل فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه من حديث أنس رضي الله عنه قال: (حج النبي صلى الله علي وسلم على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال عند إهلاله: اللهم! حجةً لا رياء فيها ولا سمعة)، رواه الطبراني وسنده صحيح. ليست المظاهر ولا الأشكال، وليست الإمكانيات ولا الأموال هي الميزان، فقد حج سيد الخلق صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة قد تساوي أربعة دارهم أو لا تساوي، ثم بين أن المقصد الأعظم هو تجريد القصد لله، وتحرير الإخلاص لله، فقال: (اللهم! حجةً لا رياء فيها ولا سمعة).

تحقق التوحيد في أعمال الحج

تحقق التوحيد في أعمال الحج يذكرنا بتحقيق هذا التوحيد كل عمل من أعمال الحج، فأنت في الحج تقصد بيت الله الواحد، وتطوف حول كعبته المعظمة التي تتوجه إليها، فأنت في الحج لا تدعو ولا تتضرع ولا تتوسل إلا لله الواحد، وأنت لا تنطق بلسانك إلا التوحيد، بل تصدع به وتجعله يتردد في أجواء الفضاء: لبيك اللهم لبيك، (لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، فتأمل هذه التلبية وهي تؤكد نفي كل شريك. وتؤكد التعلق التام بالله عز وجل توحيداً وإخلاصاً وقصداً وتجرداً، وذلك أمر تتواطأ فيه مشاعر القلب مع كلمات اللسان مع حركات الجوارح في جموع الطائفين والساعين بين الصفا والمروة، والواقفين على صعيد عرفات، والمفيضين إلى مزدلفة، والمقيمين بمنىً، والناحرين والذابحين لهديهم، إذ كل حركاتهم تدل على هذا التوحيد، وتشير إلى هذا الإخلاص، وتحيي في القلب المعاني الإيمانية العظيمة، أليس من أعظم معاني الإيمان محبة الله؟ ألست قصدت بيته وتركت بيتك؟ أليس التوجه إليه وتخليص الدنيا وراءك فيه إعلان أن أمره وقصده أحب إلى نفسك وأعظم في قلبك من كل شيء آخر؟ أليس هذا تحقيقاً للمحبة بمعنىً قلبي يعضده سلوك عملي وتحرك جماعي وظهور لهذا على مستوى الأمة كلها؟ أليس من أعظم المعاني الإيمانية الخضوع والخشوع والتذلل والاستكانة؟ فهل يرى أحد أن مثل هذا يمكن أن يتحقق بأكثر من تحققه في يوم عرفة، يوم يقف الناس بلا رسوم ولا أشكال، بلا مظاهر وبلا مفاخر، يقفون حاسري الرءوس، رافعي الأيدي، ساكبي العبرات، مطأطي الأعناق خضوعاً لله عز وجل وطلباً لرضاه.

مظاهر الإيمان في الحج

مظاهر الإيمان في الحج إن أعظم مشاعر الإيمان في التذلل والاستعانة والاستغاثة بالله عز وجل تحيا وتقوى وتعظم وتظهر وتتجلى في القلب في مواقف الحج العظيمة كلها، والتوحيد والإخلاص يتكرر، فعندما ترقى الصفا أو ترقى المروة يأتيك حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يكبر متوجهاً نحو البيت ويقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) يجلي هذا المعنى، ويرفع به صوته، ويكرره في ذكره. وجاء من حديث عائشة رضي الله عنها في يوم عرفات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير ما قلت أنا والنبيين من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير). وورد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه جده قال: (كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة: لا إله إلا الله)، إنه التوحيد والإخلاص والإيمان قولاً وحالاً وعملاً، ومظهراً فردياًً، وصورة جماعية على مستوى الأمة، وذلك ما نراه ونشهده ونتذكره ونعتبر به من هذه الفريضة. ومن دلائل الإيمان تعظيم الله عز وجل، وتعظيم قدره، وتعظيم ما له سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى والصفات العلى. ومن أعظم صور التعظيم الإيماني ما في هذه الفريضة العظيمة، ألست ترى التعظيم في هذا القصد والتوجه؟ فأنت تتوجه إلى مكان، ثم إذا بك محرماً لا تأتي محظورات الإحرام -وإن كانت مباحة قبل إحرامك- تعظيماً لهذه الفريضة، وتعظيماً لله جل وعلا، ثم أنت على صورة من مراعاة الأدب ومراعاة الحرمة في بيت الله عز وجل وفي الأماكن المقدسة، إنه تعظيم وأي تعظيم! حيث تعظم به الله عز وجل الذي أمرك بهذا التعظيم، كما في قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وقوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، ذلك التعظيم الذي نعظم فيه الله عز وجل في هذه الفريضة هو من أجلى وأعظم مواقف الإيمان، فأنت تعظمه وتستشعر عظمته حين ترى الخلائق والحجاج مجتمعين على صعيد عرفات كلهم بألسنة مختلفة، وبمطالب متعددة، يسألون الله عز وجل، فتستحضر الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه عن الرسول عليه الصلاة والسلام عن رب العزة والجلال، وفيه: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على صعيد واحد فسألني كل وحد مسألته فأعطيته إياها ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في اليم)، فأعظم بكرم الله عز وجل وجوده! وأعظم بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى! إنها عظمة متناهية تحيا في القلب وأنت تعيش في تلك الأماكن المقدسة، وفي تلك البقاع المطهرة، وفي تلك المناسك المعظمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بتعظيمها، كما في قوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]. إن الذي ينقض الحرمة معرض لعذاب الله عز وجل؛ لأنه يفسد حقيقةً إيمانية من مقاصد هذه العبادة العظيمة، وهي تعظيم الله عز وجل بتعظيم ما أمر بتعظيمه.

تعظيم الله عز وجل بتعظيم حرماته ومقدساته

تعظيم الله عز وجل بتعظيم حرماته ومقدساته إن من تعظيم الله عز وجل مراعاة ما حرم الله عز وجل في هذه البلاد المحرمة في بيت الله الحرام من تنفير الصيد، وقطع الشجر، فلا يجوز أن يفسد في الأرض، أو يفسد في حرم الله، أو يفسد في البلاد التي فيها حرم الله عز وجل، أو ينقض أمن الحجاج، أو يثير رعبهم، أو يعتدي على أرواحهم أو أموالهم، أو يجعل شيئاً من ذلك في هذه الفريضة بصورة أو بأخرى، فمن فعل هذا أو شيئاً منه فإنه متعرض لهذا التهديد والوعيد الرباني في قوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]. فالحفاظ على حرمة البيت والحرمين والحفاظ على بلاد الحرمين وحرمتها تعظيم لله عز وجل، وتعظيم لحرمات الله سبحانه وتعالى، وإشاعة للأمن الذي جعله الله عز وجل مزيةً للحرمين الشريفين، ومزيةً للبلاد المقدسة المحرمة، ومزية للشعائر والفرائض التي جعلها فيها، كما قال جل وعلا: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]، حتى كان أهل الجاهلية يرى أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يعرض له بسوء تعظيماً لحرمة الزمان والمكان التي أكدها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع عندما سأل عن الزمان والمكان والوقت، ثم قال: (ألا إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، إنها حرمة معظمة، يجب أن نعظمها لله عز وجل، وفاعل هذا محقق لمعنىً من معاني الإيمان. قال ابن القيم رحمه الله: لم يقدُر الله جل وعلا حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق عنده أولى من طاعة الله، فلله الفضلة من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله، وسواه مقدم عنده؛ لأنه المهم عنده. إن تعظيم الله عز وجل بتعظيم حرمة بيته، وتعظيم شعائره، وتعظيم المشاعر التي قدسها وأمر بتقديسها عز وجل وأمر أن نطهرها ونعظمها، ولذلك فمن كلام الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (يا أهل مكة! انظروا إلى بلدكم، ثم قال لهم: أتدرون من كان ساكناً في بلدكم هذه؟ ثم قال: كان فيها بنو فلان فأحلوا حرمتها فأُهلكوا، ثم كان فيها بنو فلان فأحلوا حرمتها فأُهلكوا. ثم عدد بطوناً من الناس، ثم قال: لأن أعمل بعشر خطايا في غيره أحب إلي من أعمل واحدة في مكة). وذلك من تعظيم حرمات الله، ومن استشعار وتحقيق معاني الإيمان، والأمر في ذلك ظاهر بين.

وجوب البراءة من الشرك والكفر والجاهلية

وجوب البراءة من الشرك والكفر والجاهلية ومن تحقيق الإيمان البراءة من الشرك قولاً وعملاً، وهذا القول والعمل جسده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعث أبا بكر والناس إلى الحج في العام التاسع ليبطلوا قبل حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم كل مظاهر الكفر والشرك والجاهلية، وأمر أن ينادى في هذه الحجة: (لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)، وكان صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة قبل ذلك بعام قد حطم الأصنام، وأزال رسومها، وأبطل كل صورها، وأنهى كل معالم الشرك والكفر، ثم جاء عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وقد زالت كل تلك المعالم، وأكد بعد ذلك أن مقتضى التوحيد البراءة من الشرك والكفر والجاهلية، كما بين ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدميْ، ألا وإن أول دم أضعه دمنا، دم ربيعة بن الحارث. ثم قال: ألا وإن كل ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، ألا وإن أمر الجاهلية موضوع)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من خطبة حجة الوداع، إنه إبطال لكل صورة من صور الشرك والتعلق بغير الله، أو التعظيم لغير الله، أو المحبة لغير الله سبحانه وتعالى.

تجلي حقائق الإيمان في مشاعر الحج

تجلي حقائق الإيمان في مشاعر الحج وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته إلى الناس يوم عرفة من يقول لهم: (كونوا على مشاعركم؛ فإنكم على إرث من إرث إبراهيم)، وقد كان أهل قريش في الجاهلية يقفون بعرفة وحدهم في غير موقف الناس، ويفيضون في غير مفاض الناس، فأراد أن يبطل ذلك، وأبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزلت به الآيات القرآنية، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، ليعلن النبي صلى الله عليه وسلم حقائق الإيمان ومسلمات التوحيد فضلاً عن ذلك الفعل بالقول وبالمشاعر التي أشرنا إليها، والتضرع والمناجاة والخشوع والسكينة والتذلل من أجل صفات الإيمان، وهي منظورة ظاهرة في هذه الفريضة، بدءاً من الإهلال بالحج والتلبية بها، ومروراً بالدعاء الضارع الخاشع طوافاً وسعياً، وفي موقف عرفات، وفي ما كان عند الإفاضة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام دعا يوم عرفات حتى غربت الشمس، ودعا بعد فجر مزدلفة حتى أسفر النهار، ودعا بعد رمي الجمرة الأولى والثانية، وكان يدعو بقدر سورة البقرة، فكان يلازم الذكر والدعاء والتضرع ومعاني الخشية والخوف والرجاء والأمل في الله عز وجل، وهذه هي المعاني الإيمانية العظيمة التي تجدها متبسطةً متجليةً متزايدةً في هذه الفريضة، وفي هذه المواقف العظيمة. فلله ما أعظم هذه الفريضة التي تحيي الإيمان وتقويه! وتأمل هذا المشهد الوصفي في جزء من حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر رضي الله عنه في وصف طواف النبي عليه الصلاة والسلام عند وصوله إلى مكة: (فبدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه من البكاء) صلى الله عليه وسلم، إنها مشاعر الإيمان المتدفقة، إنه ليس عمل بدن وزحام وإرادة انتهاء من الفريضة أو من العمل والنسك، بل هو حضور القلوب، وإحياء معاني الإيمان، حتى إنه عليه الصلاة والسلام عند استلام الحجر فاضت عيناه، فكيف به وهو يطوف، وهو يدعو، وهو يقف في عرفات، وهو يمر عليه الصلاة والسلام بتلك الأماكن والعرصات؟!

تجلي حقيقة الإسلام في مناسك الحج

تجلي حقيقة الإسلام في مناسك الحج إن في الحج موسماً عظيماً للتقوى، كما قال عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]، فالحج هو نبع الإيمان، وهو كذلك صورة الإسلام الحقيقية فالإسلام هو الاستسلام لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، بأن تخرج من هواك، وأن تخرج من راحتك، وأن تخرج من أمنياتك وشهواتك ورغباتك إلى أمر الله عز وجل وطاعته، وإلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). إن الإسلام استسلام لأمر الله، وإن كان فيه مشقة على البدن، أو فيه ثقل على النفس، أو فيه مغايرة ومخالفة لما في القلب من طبع، وكل ذلك يتجلى في حقيقة هذه الفريضة في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام في الموقفين العظيمين الجليلين: يوم جاء بزوجه وابنه الرضيع إلى الصحراء القاحلة الجرداء التي لا ظل فيها ولا ماء، ولا إنس ولا بشر، وتركهم وقفل عائداً، فكيف طاوعته نفسه؟ وكيف لم يخالفه قلبه؟ وكيف لم تدركه رحمته؟ وكيف لم تنازعه شفقته؟ إنه كان بشراً، وكان كذلك يحمل صفات البشر، لكن أمراً كان أعظم من ذلك كله في نفسه هو أمر الله، إنه استسلام ومضي مع هذا الأمر وإن خالف كل شيء في الحياة، فمضى عليه السلام، فاستوقفته زوجه قائلةً -وهي المؤمنة المسلمة-: آلله أمرك بذلك؟ فيهز رأسه دون أن يلتفت أن: نعم. فقالت: إذن لن يضيعنا. فمضى تاركاً أهله، إلا من قليل ماء وتمر، وتبقى المرأة ومعها رضيع، ليس لها حول ولا طول، لكن الإيمان العظيم، والإسلام التام، والاستسلام المحض جعل تلك القلوب تفيء إلى أمر الله، وتطيع أمر الله، ولا تلتفت إلى شيء سواه، فسعت بين الصفا والمروة، تبحث وتؤدي الواجب، وتأخذ بالأسباب، ويأتي الجواب في مكان آخر، وتأتي النعمة والفضيلة والفرج في مكان آخر، كانت تطوف بين الصفا والمروة وتفجرت زمزم من جهة أخرى، ثم بعد ذلك صار الناس والأفواج يأتون، وبهذا تحقق نداء الله تعالى لإبراهيم حين قال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، وتحقق دعاء الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، كل ذلك تحقق لما كان الاستسلام لأمر الله. ولما بلغ إسماعيل السعي رأى الخليل أنه يذبحه، كما قال عز وجل حاكياً عنه: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]، ولم يقل: أضربك. ولا: أهجرك. بل ((أذبحك)) فجاء الاستسلام والإسلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، ومضى المؤمنان المسلمان لأمر الله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:103 - 107]، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]، كل هذه المعاني ينبغي أن تتجلى في هذه الفريضة. ونحن نقف في عرفات في اليوم التاسع لأن الله أمر، ونرجم الحصيات سبعاً وليست عشراً أو دون ذلك لأن الله أمر، ونبقى هذه الأيام على وجه الخصوص، ولا نخرج من عرفات إلا بعد الغروب لأن الله أمر، ولا نذهب إليها إلا في ذلك اليوم لأن الله أمر، وكل ذلك نقول: إننا فيه مستسلمون لأمر الله. إنه تدريب عملي على حقيقة الاستسلام وبذل كل شيء لتحقيق هذه العبودية، فالمال يُبذل، والأهل والأولاد يسخرون إن جيء بهم، أو يقطعون ويهجرون إن تركوا خلفه، وكل شيء لا يحول ولا يمنع من أن يمضي المسلم لتحقيق إسلامه واستسلامه ومضيه لأمر الله، وأمر آخر في ذلك، وهو المتابعة والموافقة الدقيقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (خذوا عني مناسككم)، فالأقدام تلو الأقدام، والحركات خلف الحركات، والأوقات مراعية للأوقات، والصورة هي الصورة، حيث يحج الناس اليوم كما حج محمد صلى الله عليه وسلم من قبل أربعة عشر قرناً، دون اختلاف في شيء من الأمور مطلقاً، فأمة إسلام تسير وفق أمر الله، وتتابع هدي رسول الله، فما بالها في غير هذا الأمر من شئون الحياة، وفي غير هذه البقاع من بلد الله تخالف أمر الله، وتهجر أمر الله، وتتبع الأهواء، وتقدم الآراء، بل قد توافق الأعداء، وتسير على إثرهم مخلفةً وراءها حقيقة إسلامها في استسلامها لأمر الله واتباعها لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

حقيقة الإحسان في الحج

حقيقة الإحسان في الحج في الحج يوجد الإحسان، وهو مراقبة الله، فلا يكاد المرء يجد صورة يتحقق فيها المسلم المؤمن باستشعار مراقبة الله والحياء منه كما يكون في هذه الفريضة. فما أجلى وما أظهر هذه المعاني المهمة التي هي قوام الدين! إنه إيمان وإسلام وإحسان في هذه الفريضة لمن حجها ولمن أداها، ولمن تدبر فيها وفي معانيها. نسأل الله عز وجل أن يعظم إيماننا، وأن يحقق إسلامنا، وأن يرفعنا إلى درجة الإحسان، وأن يجعلنا نعبده كأننا نراه، فإن لم نكن نراه فإنه يرانا. اللهم! ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم! خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم! ألهمنا ذكرك، وأعنا على شكرك، ووفقنا لطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا -اللهم- ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين. اللهم! اجعل طاعتك أقوى عندنا وأعظم من أهوائنا، ومن شهواتنا، ومما نحتاج إليه في دنيانا. نسألك -اللهم- أن تعظم أمرك ونهيك في قلوبنا، ونسألك -اللهم- أن تجعلنا لهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا وأذلوا عبادك المؤمنين وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم! فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، أحصهم -اللهم- عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وزلزل -اللهم- الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين! اللهم! لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم! رد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم! اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم! أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين في أرض العراق وفي فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين، وثبت -اللهم- أقدامهم، ووحد رايتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأخلص نيتهم، وانصرهم -اللهم- على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم! احفظ على بلاد الحرمين أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها يا رب العالمين. اللهم! لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. اللهم! يسر للحجاج حجهم، اللهم! بلغهم مقاصدهم في يسر وأمن وأمان وسلام يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك أن تيسر لنا أمورنا، وأن تقضي حوائجنا، وأن تحسن ختامنا، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين. اللهم! أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. والحمد لله رب العالمين.

الهول الأكبر

الهول الأكبر كثيراً من الناس ما قدروا الله حق قدره، وما عرفوا أنه القوي الجبار الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومما يدل على قوته وعظمته سبحانه ما يحصل من زلازل وكوارث عظيمة، فيجب على المسلم أن يقف مع ذلك ويتأمل فيه، فإن لذلك دلالات وأسباباً، ومن ذلك أن الله عز وجل يبين لعباده عظيم قدرته وقوته، وأن المخلوق مهما عظم وقوي فإن الله أعظم وأقوى، ويجب أن نعلم أن هذه الزلازل والكوارث إنما هي بسبب الذنوب والمعاصي، فلنتب إلى الله عز وجل ولنرجع إليه.

الزلازل المدمرة والأمواج المهلكة

الزلازل المدمرة والأمواج المهلكة الحمد لله له جنود السماوات والأرض، لا يعجز قدرته شيء في السماوات ولا في الأرض، له الحمد سبحانه وتعالى هو القوي المتين، أمره بين الكاف والنون، إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على ما أفاض من النعم، وما صرف من الشرور والنقم، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وأرسله إلى الناس كافّة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوب غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديث الناس عن الهول العظيم، والزلازل المدمرة، والأمواج المهلكة، صورة مرعبة وهول مفزع، وأمر ليس لأكثر الناس به عهد سابق، أمر من الأمور الكونية القدرية التي لها عندنا معاشر المؤمنين فقه خاص ينبغي أن نؤكد عليه، وأن نذكر به، ليس وقوفنا مع الأمواج العاتية التي تبلغ ارتفاعاتها من عشرين إلى أربعين متراً فيما وقع، وفيما هو من الناحية العلمية تصل إلى نحو مائة متر في الارتفاع، وهذا معناه أن ارتفاعها يبلغ ارتفاع مبانٍ تصل إلى عشرات الأدوار. ثم فوق ذلك تدخل إلى اليابسة متجاوزة حدودها التي أمسكها الله عز وجل عنها طوال الأيام والأعوام التي لم يكن الناس يلتفتون إلى ذلك ولا يعتبرون به، تدخل إلى عمق اليابسة حتى وصلت في بعض المناطق إلى ثمانية كيلو مترات، وتضرب بقوة عاتية وتحمل صخوراً يصل وزنها إلى عشرين طناً، وتغمر الأرض بمائة طن من المياه لكل متر مكعب في الأماكن المواجهة لها، فهل يصدق الناس هذا لولا أنه كان رأي العين! ولولا أنه خلف وراءه أكثر من عشرين ومائة ألف قتيل في الإحصاءات القريبة، وعدداً مجهولاً من المفقودين، وأكثر من خمسة ملايين من المشردين، ومئات بل آلاف الملايين من الأموال والخسائر، هل حصل ذلك خلال عقد كامل؟ إنه حصل في سويعات من يوم أو يومين، ويمتد الهول إلى أماكن بعيدة في جنوب شرقي آسيا ليصل إلى جوانب من إفريقيا، ليقطع طولاً من المسافات شاسعاً، إذ إن هذه الأمواج تصل سرعتها إلى ثمانمائة كيلو متر في الساعة مقارنة بذلك سرعة الطائرات النفاثة، وهذه صورة مبسطة مما ينبغي أن تنقشع به الغشاوة عن الأعين، وأن يجلي كدر وصدأ القلوب من جديد، عندما تعم الغفلة وتضرب بسكونها وإلفها وعاداتها، فلا يلتفت عقل، ولا تنظر عين، ولا يتدبر قلب. إن هذه الحقائق قد سمعها الناس جميعاً، وربما عند بعضكم من تفصيلاتها أكثر مما قلت ومما قد أقول، لكن ما وراء ذلك؟ ما الذي ينبغي أن نلتفت إليه ونستفيد منه، ونحن قد سلمنا الله جل وعلا من كل هذا الهول العظيم، والخطب الجسيم، والدمار الكبير؟ فلننتبه! وإليكم هذه الوقفات:

عظيم قدرة الله تعالى

عظيم قدرة الله تعالى أولها: الانتباه إلى قدرة الله: فقدرة الله لا يعجزها شيء، قدرة لا يستطيع الخلق أن يتصوروها، ولا أن يعرفوا مدى حجمها، ولا أن يحيطوا بآثارها وما قد ينجم عنها، وذلك في حس المؤمن له آثار كبيرة، إن علمت أنه جل وعلا رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، وأنه كما قال جل وعلا: {وللَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:4]، وأنه كما قال جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] وأنه كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فما بالك تستمد القوة من غير قوة الله؟! وما بالك تخضع وتخاف وتذل لقوة الخلق والبشر؟! وأين هذه القوة؟! لو كانت على هذه السواحل الطائرات الحربية، والدبابات المدمرة، فهل ستقف أمام هذه القوة العاتية من زلزال في ثوان معدودات أو دقائق قليلة؟! ومن أمواج ماء البحر الذي نركبه ويركبه الناس كل يوم؟! ثم انظر وتأمل ما الذي يجري في واقع المسلمين وواقع الأمة اليوم، وقد خضعت الرقاب، وذلت الأعناق، وسلمت الديار؛ خوفاً من قوة تسمى: قوة عظمى، ولله جل وعلا القوة العظمى قال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] هو الذي بين لنا حقائق ذلك في كتابه: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74]. إن الذين ركنوا إلى قوى الأرض ما قدروا الله حق قدره، وما أيقنوا أن الله هو القوي العزيز: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44]. ونموذج قرآني واحد أقدمه ليكشف عن بعض هذه القوة عند قوم كانوا جبابرة في الأرض، وكانوا قد سخروا وذللوا كثيراً من أسباب الأرض حتى نحتوا الجبال، وجعلوا بيوتهم وقصورهم في أعماقها وبطونها، قوم كانوا يرون أنه ليس هناك من هو أقوى منهم، ولا من هو أقدر على مواجهتهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:15 - 16]. مستكبرون، مغترون بقوتهم، يقولون بلسان الكفر والفجور: من أشد منا قوة؟! كل قوى الأرض تخضع لنا، ونحن قادرون على البطش بها، وعلى الانتصار عليها، وينسون الذي خلق، والذي مكن من الأسباب، وأنه جل وعلا قادر على قهرهم، فأرسل عليهم واحداً من جنده في أيام وأحوال عارضة، فانتهى أمرهم، ودخلوا في سجل التاريخ مع الهالكين، لم يحتاجوا من قوة الله عز وجل إلا إلى نزر يسير لا يستطاع تقديره من قلته. وهكذا نجد القرآن يخبرنا بذلك ويبينه لنا لكننا نحن لا نلتفت ولا ننتبه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، تذكروا كل جبابرة الأرض، تذكروا كل قوى الطغيان في قديمها من عهد فرعون ومن كان معه وبعده، وفي حديثها من الدول العظمى التي سقطت من قريب، بعد أن كان ذكر اسمها يخلع قلوب الضعفاء والجبناء. وانتبه إلى هذه القوة العظيمة لتوقن أنها في أي لحظة من اللحظات قد يصيبك أثر منها، وقد يحل بك بلاء منها، فأين أنت من النجاة إلا بعصمة الله ورحمة الله، ويوم كان ابن نوح عند الطوفان غره عقله، وظن أن الأسباب المادية تنجيه، فقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ} [هود:43] وجاء A { لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43]، وانتهى به الأمر إلى أن غمر الماء الجبال العالية، وغمر كل شيء، فلم يبق ولم يذر، ولم ينج إلا النفر الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، وكانوا قلة قليلة. ذكر بعض أهل التفسير أن الذين آمنوا مع نوح واتبعوه في أقل رواية اثنا عشر رجلاً وفي أكثرها أربعون رجلاً، فانظروا إلى رحمة الله كيف استثنت قلة قليلة وأهلكت كثرة كاثرة كافرة فاجرة عاتية باغية ظالمة، وما ذلك على الله بعزيز.

هول الزلازل الدنيوية يذكر بأهوال يوم القيامة

هول الزلازل الدنيوية يذكر بأهوال يوم القيامة الأمر الثاني: أن هذا الهول الذي نذكره، وهذا الخطب العظيم الذي لا نكاد أن نتصوره، لا يعد شيئاً أمام الهول الأكبر الذي ساق الله لنا بعض أخباره، وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه في أحاديثه مما يشيب لهوله الولدان، فكيف نغفل عن ذلك وإذا جاء مثل هذا وجدنا خوفاً كبيراً، وذهولاً مثيراًً، وعجزاً تاماً، وحيرة كاملة. كلنا رأى كيف انخلعت القلوب، كيف طاشت العقول، كيف اضطربت الدول، كيف ماج العالم كله أمام هول واحد من أهوال الدنيا، فكيف بهول نهاية العالم وانتهاء هذه الحياة كلها وطي صفحتها؟! كيف بهول القيامة؟! كيف بهول الحشر؟! كيف بهول النشر؟! كيف بهول البعث؟! كيف بهول الوقوف بين يدي الله؟! كيف بهول المرور على الصراط؟! كيف بهول تكاثرت فيه الآيات وتعددت فيه الروايات؟! سبحان الله كم يسوق الله جل وعلا لنا العبر، وكم تذكر الآيات ذلك الهول ووصفه بصور تنخلع لها القلوب المؤمنة، وتجفل منها وتتذكر وتتعظ بها: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} [الطور:9 - 10] قال السعدي في تفسيره: وذلك لعظم أهوال القيامة، وفظاعة ما فيه من الأمور المزعجة، والزلازل المقلقة التي أزعجت هذه الأجرام العظيمة، فكيف بالآدمي الضعيف؟ {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:8 - 10] قال ابن كثير: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] أي: ذهب ضوءها، {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات:9] أي: انفطرت وتشققت، ووهت أطرافها، {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:10] أي: ذهب بها فلا يبقى لها أثر ولا عين. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:106 - 107]. وإذا مضيت وجدت الآيات في كل هذه الصور كثيرة وعظيمة، وهولها هائل، ومن أبلغ ما جاء فيها ومما ينبغي استحضار تذكره وتدبره: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] هول تنصرف فيه الأم الحنونة عن ابنها الرضيع، هول يجعل الأرحام تقذف ما فيها، هول لا يسأل فيه أحد عن أحد: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -كما صح عند البخاري وغيره- تستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (يبعث الله عز وجل الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، فقالت أم المؤمنين: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ -فطرة الحياء والإيمان أنطقتها- فقال صلى الله عليه وسلم: إن الأمر أشد من أن يهمهم ذلك) إنه أمر لا يبقى فيه للعقل انصراف إلى شهوة، ولا تفكير في لذة، إنه هول صوره حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). وهاهو صلى الله عليه وسلم يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الله تعالى). ألسنا نقرأ هذه الآيات؟! ألسنا نعرف المعاني والدلالات؟! فأين التذكر والاتعاظ والاعتبار؟! أين الإيمان الذي ضعف في القلوب؟ أين اليقين الذي تزعزع وتضعضع في النفوس؟ أين استحضار ذلك كما كان حاله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وأحنى جبهته ينتظر الأمر بالنفخ في الصور) الأمر أعجل من أن تبنى الدور وأن تؤثث القصور، وأن يتزاحم على الدنيا أهل الدثور. وقديماً قال بعض الحكماء: لو تأمل الإنسان في حاله لبنى داره على شفير قبره. تلك صورة من الهول الدنيوي الأرضي العابر تذكر المؤمنين بالهول الأخروي الذي ينبغي أن يهيئوا أنفسهم له، وأن يستحضروا دائماً هوله ليزجرهم عن المعاصي والسيئات، وليدفعهم إلى الطاعات والقربات، وليجعلهم دائماً في خوف من سخط جبار الأرض والسماوات، فإذا كان حدث واحد زلزل العالم كله، وقضى على الآلاف المؤلفة من الأرواح، وشرد الملايين من البشر، فأي هول يمكن أن يقارن بعد ذلك بالهول الذي جاءت به الآيات، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إنه لحري بنا أن نجعل هذه الحقائق في قلوبنا، وأن نتلو الآيات، وهي بالمناسبة من السور التي يكثر تلاوتها في الصلوات: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] فإننا قد نسمعها في كل يوم، أو على أقل تقدير في الأسبوع مرة أو أكثر، فأين القلوب المتعظة؟ وأين العقول المتدبرة؟ وأين الأحوال المتغيرة؟ وأين الاستقامة والإنابة التي ينبغي أن نلتفت إليها وننتبه إلى حقائقها؟!

وجوب تذكر نعمة الله عز وجل علينا

وجوب تذكر نعمة الله عز وجل علينا وثالثاً: تذكر نعمة الله. تعلمون أن أولئك القوم ناموا يوم سبتهم لا يلتفتون إلى شيء، وكانوا متنعمين وطاعمين وشاربين، فأصبحوا وهم في هول الكارثة، وأنت أيها الأخ المسلم في هذه الديار لم تصب بشيء، فهل نبقى متفرجين ومتناقلين للأخبار وربما ضاحكين وعابثين؟! أليست القنوات ما تزال تبث الرقص والغناء، وتأتيك نشرة الأخبار بالموت وبعده بالأرداف المهتزة، والصدور المترجرجة وغير ذلك؟! أليس هذا تناقضاً؟ كان الواجب علينا الاعتراف بنعمة الله، والشكر والحمد على نعمة الله، ولعلي هنا أستحضر الحديث العظيم الذي رواه سهل بن سعد عند الترمذي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)، هذه هي الثروة العظمى، لو أن واحداً من أولئك الذين أصيبوا قلت له: ماذا تريد لقال: لو كنت نائماً وليس عندي من الدنيا شيء إلا الأمن والأمان وإلا صحة الأبدان، وإلا كسرات من خبز يقوم بها صلبي؛ لكان ذلك خيراً. ونحن بحمد الله بتنا آمنين في أسرابنا وبيوتنا وعند أهلينا، وبحمد الله لنا صحة في أبداننا، وليس عندنا قوت يومنا فحسب بل أيامنا وشهورنا، بل ربما أعوامنا، فأين نحن من شكر نعمة الله، خاصة عندما نراها قد سلبت من قوم مؤمنين مسلمين أو كفرة غير مؤمنين؟ أليس أولئك قد حرموا ذلك؟ أليس أمنهم قد أصبح مهدداً بأرض ترجف من تحتهم، وماء يغمر بيوتهم وديارهم؟! أليست الآن أعظم خطورة يتحدث عنها هي خطورة الأمراض والأوبئة التي يخشى أن تفتك بأكثر مما فتكت به تلك الأمواج والفيضانات؟ أليست الأقوات والأرزاق والأثاث والرياش كلها قد انتهت إلى لا شيء في لحظات؟ ولو رأينا وسمعنا بعض ما كان في هذه الأحداث لرأينا عجباً وسمعنا هولاً، أين نحن من شكر نعمة الله عز وجل ونعمه علينا متوالية؟! أين نحن من شكر هذه النعم بالعمل {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13] أين نحن من قصد السبيل الصحيح إلى حفظ النعم وزيادتها؟ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. أين نحن من تذكر هذه النعمة؟ إننا لو تصورنا اليوم أن واحداً من قرابتنا المباشرين في تلك الأماكن، أليس شعورنا سيكون مختلفاً؟ ألسنا سنشعر بالخوف بقدر أكبر؟ ألسنا سنحس بالمأساة بصورة أعمق؟ ألسنا سندرك الهول بحجم أكبر؟ فما بالنا ونحن في بيوتنا وديارنا لا نتذكر هذه القدرة، ولا نتذكر هول يوم القيامة، ولا نستحضر النعمة العظيمة؟

عظيم نعمة الأمن والأمان

عظيم نعمة الأمن والأمان وهنا وقفة لا بد منها: نعمة الأمن والأمان، ونعمة رغد العيش وصحة الأبدان، فهي من أعظم نعم الله على عباده. ولعلنا لابد أن نشير إلى ما تحدثنا عنه مراراً: إن القتل والتفجير والتدمير الذي يجري إنما هو نقض لهذه النعمة، وكأنما يفعل هؤلاء ما يناقض حمد الله جل وعلا وشكره على نعمته، ولئن كان هذا الفعل ينبثق من تكفير فقد علمنا حكمه، ولئن كان ينبعث من مواجهة أو رد فعل فلا يجوز بحال أن يكون سبباً في قتل الأرواح فضلاً عن ترويع الآمنين، وفضلاً عن اختلال أوضاع البلاد والعباد، فهذا كله من الأمور المحرمة التي هي خرق لأعظم نعمة من نعم الله عز وجل وهي نعمة الأمن والاستقرار. ونحن في شهور الحج العظيمة، وفي قرب من الفريضة الجليلة، وفي أمان البيت الذي جعله الله عز وجل أماناً للناس حتى يؤدوا عبادتهم وهم في أمن على أرواحهم وأموالهم وأنفسهم، وكذلك ساق الله عز وجل النعم؛ ليكون الناس منصرفين إلى عبادتهم، وقد يسر الله لهم أرزاقهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يذكرنا بنعمه، وأن يوفقنا لشكرها، وأن يجعلنا ممن يستحضرون نعمه ويخافون من عذابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الذنوب والمعاصي سبب الكوارث والمصائب

الذنوب والمعاصي سبب الكوارث والمصائب الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد:

وجوب أخذ العظة والعبرة من هذه الكوارث

وجوب أخذ العظة والعبرة من هذه الكوارث أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن أعظم درس من هول هذه الحادثة لهو الاعتبار بأثر الذنوب والمعاصي، وهو أمر يطول الحديث فيه، ويأتينا بعض المسلمين وبعض من المتحدثين بلسان عربي مبين ليقولوا لنا: إنكم معاشر الدعاة المتدينين تربطون كل شيء بالمعاصي والذنوب، وهناك حقائق علمية وهناك قوانين أرضية تقول لنا: إن هذا حصل بسبب كذا وكذا، وإنه وقع هنا لأجل كذا وكذا، وأنتم تربطون كل شيء بالذنوب والمعاصي، فهل هذه هي أراضي الذنوب والمعاصي فحسب؟ وأين هذه الكوارث من ذنوب ومعاص أخرى؟ فنقول لهم: إننا لا نلتفت إلى هذه الأقوال، ونلتفت إلى قول رب الأرض والسماوات، وإلى كلام أهل العلم، وإلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، ونعرف باختصار شديد أن مثل هذه الأحوال هي عقوبات للمذنبين، وابتلاء للمؤمنين، وعبرة للناجين، ففيها من كل وجه فائدة قد تكون مختلفة عن الأخرى، وهذا قول أوجز به -لئلا أطيل عليكم- من كلام الشيخ ابن باز رحمه الله قال: إن للمعاصي والذنوب من الآثار القبيحة المضرة بالقلب والبدن والمجتمع، والمسببة لغضب الله تعالى وعقابه في الدنيا والآخرة ما لا يعلم تفصيله إلا الله سبحانه وتعالى، فهي تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في الماء والهواء والثمار والمساكن: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]. وإن فيما يقع من هذه الكوارث عظة وعبرة، والسعيد من وعظ بغيره، وبالجملة فإن جميع الشرور والعقوبات التي يتعرض لها العباد في الدنيا والآخرة أسبابها الذنوب والمعاصي. وإن من علامات قسوة القلوب وطمسها والعياذ بالله، أن يسمع الناس قوارع الأحداث، وزواجر العبر والعظات التي تخشع لها الجبال لو عقلت، ثم يستمرون على طغيانهم ومعاصيهم مغترين بإمهال الله لهم، عاكفين على اتباع شهواتهم، غير عابئين بوعيد، ولا منصاعين لتهديد، قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:7 - 8]، كما أن الاستمرار على معاصي الله عز وجل مع حدوث بعض العقوبات دليل على ضعف الإيمان أو عدمه: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96 - 97]. إن من الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا العظة والعبرة مما حصل، وأن يتوبوا إلى الله وينيبوا إليه ويحذروا من أسباب غضبه ونقمته، والله جل وعلا يقول: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65]، وقد بينت الآيات هولاً عظيماً فيما يجري به قضاء الله وقدره من العذاب والهول بحسب ما يكون من الذنب والمعصية، وحسبنا نموذج واحد يذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما كان رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)، وروى البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض). والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:96 - 99]، وذلك تذكير وعظة وعبرة نحتاج أن نتذكرها، وأن نوقن أنه ما وقع عقاب إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، فأقلعوا عن الذنوب وارجعوا إلى التوبة، عل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمته. ومن المهم أن نذكر أن كثيراً من هذه المناطق التي أصابتها هذه الكارثة هي من الشواطئ الساحلية السياحية التي بعضها معروف بأنه من أشهر أماكن الفسق والفجور والدعارة المعلنة على مستوى العالم، والله جل وعلا قد بين كل أنواع العذاب رابطاً إياها بالذنوب: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]. والابتلاء أمره مهم، وخطبه عظيم، والتذكير بذلك من الأمور المهمة، ودعك ممن لا يرون ذلك، ويفسرون بالماديات، ويظلون غارقين بالمعاصي والسيئات.

فضل الشهادة في سبيل الله على الموت في اللهو والعبث

فضل الشهادة في سبيل الله على الموت في اللهو والعبث وأخيراً: مسألة أحب أن أنوه بها، وهو الموت وفجأته. يقولون كما قال أهل الكفر: لم تغامرون؟ لم تعرضون أنفسكم للخطر؟ لم تجاهدون في سبيل الله وقد تموتون وتقتلون؟ لم تفعلون هذا وذاك؟ فجأة الموت كما بينها الحق سبحانه وتعالى في نداء لأهل الإيمان لئلا يكونوا كغيرهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:156 - 158]. كم هم الذين يقولون لنا مرة إثر مرة: لم يعرض أولئك الناس أنفسهم للموت والقتل؟ ونسوا قول الله عز وجل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أولئك قوم لم يذهبوا لقتال ولا جهاد ولا يعرفونه ولا يخطر ببالهم، ذهبوا إلى الشواطئ لكي يسبحوا ويلهوا ويلعبوا ويعبثوا، فجاءهم الموت إلى ديارهم، وبعضهم قادم من مسافات هائلة تاركاً وراءه أرضه ودياره. فهذا خالد بن الوليد الذي لقي الموت مئات من المرات في ساحات الجهاد، ومات على فراشه وهو يقول: ما في جسمي موضع شبر إلا وفيه طعنة سيف أو ضربة رمح، وهاأنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. تحية للأبطال الشهداء، وللمقاومين المجاهدين للأعداء في كل مكان، ولئن قتلتم أو متم فإن ذلك فيه مغفرة ورحمة خير من الدنيا وما فيها، وليخسأ الذين ما زالوا يعيشون في ذنوبهم خوفاً ورعباً، ويعظمون قوة غير الله عز وجل، حتى كان منهم ما كان. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب. اللهم إنا نسألك أن تنطق ألسنتنا بذكرك، وأن تملأ قلوبنا بحبك، وأن تسخر جوارحنا في طاعتك، وأن تسخرنا في نصرة دينك، وأن تجعلنا ممن ينصر الإسلام والمسلمين. اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم خالف بين كلماتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واشف صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم سلط عليهم جند السماوات والأرض يا رب العالمين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية يا قوي يا عزيز يا متين! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم وفقنا للصالحات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر لنا ما مضى وما هو آت. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم اصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

القدس قضية الأمة

القدس قضية الأمة لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على أعدائها، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، ويشهد لذلك ما قيضه الله من الانتفاضة في فلسطين، فهي تحمي مقدسات المسلمين، وتكبد العدو الخسائر في مختلف المجالات، رغم ضعف إمكانياتها المادية. والناظر بعين البصيرة، والمهتدي بالحق يوقن أن الجولة لصالح المؤمنين، وأن الله محيط بأعدائهم، ومنتقم منهم ولو بعد حين.

المقاومة في أرض الإسراء قلب الأمة النابض

المقاومة في أرض الإسراء قلب الأمة النابض الحمد لله الكبير المتعال ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدى وإليه المرجع والمآل، له الحمد سبحانه وتعالى وعد بالدفع عن عباده المؤمنون، وبشر بالنصر جنده المجاهدين، وكتب بالقطع أن العاقبة للمتقين، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وكما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، والذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأرسله كافة للناس أجمعين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً وأسمع به آذاناً صماً. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعنه، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا هذا نجدد به حديثاً سلف؛ لأنه لابد أن يكون حاضراً في الأذهان حياً في القلوب لما له من ارتباط وطيد بحقائق الإيمان والإسلام من جهة، وبوحدة المسلمين ورابطة المؤمنين من جهة أخرى؛ ولأنه كذلك يمثل قضية الوجود الإسلامي الإيماني في مواجهة العدوان الإجرامي الظلمي؛ ولأنه من جهة رابعة يمثل محور الصراع بين الحق والباطل، وبين الشر والخير، وبين المعاني والقيم الفاضلة، وبين الأضاليل والجرائم الفظيعة. حديثنا هو عن أرض الإسراء، وعن قلب أمتنا الإسلامية النابض بالمقاومة والجهاد، في مرور الذكرى الرابعة للانتفاضة الجهادية المباركة. ولا شك أن حدثاً مثل هذا لا يكون قد مر على الآذان والأذهان مرور الكرام، ولم يُربط بحقائق الإيمان، ولم يُستدل عليه بآيات القرآن، ولم يكن له صلة واضحة بما كانت عليه سيرة وسنة المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم.

أهمية النظر إلى الجانب المشرق

أهمية النظر إلى الجانب المشرق كثيرة هي الأمور التي تمر بنا وننظر إلى جانبها المظلم دون المشرق وإلى حقائقها الدنيوية المادية دون حقائقها الإيمانية المعنوية. فكم نحن في حاجة إلى أن تكون قلوبنا حية بالإيمان فلا تفقه إلا فقهه، ولا تزن إلا بميزانه، ولا تنظر إلا بعينه، بدلاً من أن نكون مستسلمين لذلك الكم الهائل من الزحم الإعلامي الزائف الذي ليس -في مجمله- مرتبطاً بالإيمان والقرآن والإسلام إن لم يكن محايداً وبعيداً عن ذلك، وهو يرجف بالقول الذي يعارضه ويلقي بالتهم التي تنقضه. ومن هنا فإن حديثنا هذا وإن كنا قد انقطعنا عنه فترة من الزمن؛ فإنه جدير دائماً وأبداً أن لا يرتبط بخطبة أو محاضرة أو حادثة؛ فإنه فعل اليوم المتكرر في كل ساعة ودقيقة وثانية.

خطأ النظر المتشائم نحو المقاومة الفلسطينية

خطأ النظر المتشائم نحو المقاومة الفلسطينية إننا نسمع أنه قد جرت هذه المقاومة الويلات والنكبات على أبناء فلسطين، وأوصلتهم -كما يقول بعض المحللين من أبناء العرب، بل من أبناء فلسطين- إلى ارتفاع نسبة الفقر من خمسة عشر وعشرين بالمائة قبل هذه المقاومة الجهادية إلى أربعين وخمسين بالمائة، وأوصلتهم إلى أرواح أزهقت، وبيوت هدمت، وأسر شتت، وغير ذلك، ثم إنها أوجدت الذارئع والأسباب والمبررات للعدو؛ لكي يجد مسوغاً عالمياً ومنطقاً دولياً فيما يقوم به من الإجرام والعدوان! ولست أدري ما سبب تكرر مثل هذا القول عبر السنوات المتتالية، ولم يعد أحد يفقه مثل هذا القول ويقبله إن كان حي القلب يقظ الضمير، راشد العقل عالي الهمة، حراً في نفسه لا يقبل الذل والضيم.

المقاومة والجهاد مصدر التفاؤل والعزة

المقاومة والجهاد مصدر التفاؤل والعزة

لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم لننظر في هذا المقام إلى الجانب الآخر، ولأبدأ ببعض الومضات من الحقائق القرآنية التي تكشف لنا صوراً أخرى غير ذلك الوهم المسيطر على قلوب الدنيويين، والمتاجرين من السياسيين، وعلى الغافلين الراكنيين إلى حياتهم. قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، إنها شطر آية، ولكن حقيقتها ثابتة، فأين ما نراه اليوم لننتقل إلى أرض العزة والقوة والمقاومة والجهاد، في زمن فيه غلب على كثير من المسلمين الذلة والخنوع والخوف والاستسلام. ولننظر لماذا حقق أهلنا إخواننا في فلسطين معادلة غريبة شاذة لا تفهم إلا بمقياس الإيمان، ومن أين جاءوا بهذه الشجاعة والقوة والبطولة؟ وكيف تسنى لهم هذا الثبات رغم قوة البطش وشدة العدوان وتوالي الجرائم، ومع ذلك يقفون برءوس مرفوعة وصدور مشرعة وأقدام ثابتة، وكلمات تعبر عن معاني القوة والعزة؟ إنها الآية القرآنية والسنة الربانية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. لقد وقع هناك تغير حقيقي يظهر في صور شتىً، بدءاً من الارتباط بالقرآن حفظاً لآياته وتلاوة لها وتدبراً لمعانيها، ومروراً بتربية المساجد التي تعلقت بها قلوب الشباب قبل الشيب والصغار قبل الكبار، وانتهاءً إلى التربية العظيمة للأمهات الفاضلات المربيات المجاهدات. وقد سمعت خلال الأيام الماضية ورأيت مقابلات مع ما فيها من حزن وألم، لكن فيها عظمة واستعلاء: فهذه أم فلسطينة كان لها سبعة أبناء لم يعد عندها واحد منهم مطلقاً؛ فواحد منهم قتل شهيداً، وستة في الأسر، وهي تقول: بقيت مفردة، لكني لا أضعف ولا ألين، بل أفتخر وأعتز بهم. ثم تلتفت إلينا وإلى الجميع لتقول: أين المسلمون؟ وأين العرب منا؟ بل تلتفت إلى من هو أدنى إليها وأقرب منها فتقول: أين المسئولون عنا في بحثهم عن معاناتنا ووقوفهم إلى جانبنا؟

بطولات إيمانية للانتفاضة الفلسطينية

بطولات إيمانية للانتفاضة الفلسطينية ثم لننظر إلى القدوات التي صارت تعلو هناك وترتفع، إنها ليست قدوات المغنين والمغنيات أو الراقصين والراقصات، أو اللاعبين واللاعبات، إنها قدوات الاستشهاديين والاستشهاديات، إنها قدوات يتحدث بها اليوم الصغير في سن السادسة والسابعة من عمره. لقد أصبحت البطولة شغفاً عظيماً وأملاً كبيراً وروحاً تسري في الدماء والعروق، لقد صار القوم على غير ما نحن عليه في ترفنا وغفلتنا وانشغالنا بدنيانا واستسلامنا الضعيف الخانع لواقعنا، ورضوخنا وذلتنا لهينمة وهيمنة أعدائنا. لقد كسروا الطوق البشري، وتعلقوا بالطوق الرباني؛ لقد نظروا إلى الحقائق في ضوء الإيمان فعرفوا أن الظواهر لا تغني شيئاً، وأن الحقائق وراء هذه الظواهر تكشف أن العاقبة للمتقين، وأن جندنا لهم الغالبون، وأن ذلك يُرى رأي العين لمن كان في قلبه يقين راسخ وإيمان صادق. إنها كذلك تمر عبر إسلامية النظرة في كل أمر من الأمور، فليس هناك من الأسباب المادية ولا من الحقائق الدنيوية ما يمكن أن يفسر به شيء من ذلك، ولذلك هم يفسرونه بالمعاني الإيمانية والسنن الربانية، وذلك ما نراه في واقع ذلك التغيير. ننظر إلى كثرة الناس في المساجد ودروس العلم ومسيرات البيارق في المسجد الأقصى، وعناية الناس بالعمل الخيري وتكاتفهم وتعاطفهم مع كل شهيد يستشهد كيف يخلف في أهله، فرغم شدة الظروف وقسوتها وعظمة الفقر وسعته، لقد تغيرت الصورة إلى صورة لن نقول إنها نموذجية؛ لكنها تحقق حداً من المعاني الإيمانية والإسلامية في صدق الإيمان وفي قوة اليقين، وفي التعلق بالله عز وجل والارتباط بمنهجه، وفي الاقتداء بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تجددت عندنا معانٍ غائبة في واقع حياتنا من إيثار الآخرة على الدنيا ومن التضحية والفداء في ميادين المعارك والجهاد، وذلك أمر ينبغي الالتفات له.

آثار العمليات الاستشهادية على اليهود

آثار العمليات الاستشهادية على اليهود

يخربون بيوتهم بأيديهم ويهاجرون منها

يخربون بيوتهم بأيديهم ويهاجرون منها وفي مقابل ذلك أيضاً جاء التغير عند القوم الذين يعادونهم من شذاذ الأرض وأفاكيها، وهم اليهود عليهم لعائن الله، لقد كانت أجيالهم الأولى أشد ارتباطاً بعقيدتها منهم وأكثر تضحية، وجاءت الأجيال المتتالية والمهاجرون الذين وعدوا بالنعيم والترف والثراء فتغيروا ولم يعد حالهم كحالهم الأول، وجاء ذلك أيضاً بسنة الله عز وجل كما قال: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، يخاطبنا الله فيقول: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: يا أصحاب العقول! انتبهوا والتفتوا إلى الحقائق. إنه أمر عجيب، فهذا جيش هو الخامس في العالم، وأمامهم من حيث الناحية المادية والعددية فئة قليلة، فهي لا تملك من أسباب القوة المادية شيئاً يذكر بالمقارنة مع عدوها، ولكن ما هي النتيجة؟ انظروا إلى هذه الآيات تصف لنا حال فئة من اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نقضوا العهود، وطعنوا المسلمين في ظهرهم، وأرادوا ارتكاب الجريمة العظمى بمؤامرتهم على قتل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد بنوا الحصون، وعندهم الأموال الطائلة، فهذه الآيات تصف ما كانوا عليه من أوهام الدنيا التي يعيشون فيها، بل إن القرآن يخاطب أهل الإيمان: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر:2]، أي: ما كان أحد يتصور ذلك؛ لما كان لهم من مقام طويل ومال وفير وعدد غفير ومجتمع مترابط منعزل عن غيره، قال سبحانه: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2]، أي: أنهم أخذوا أسباب القوة المادية بأعظم وأعلى صورها، ولكن: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2]. إن قدر الله غالب، وإن سنته ماضية، وإن نصره لعباده متحقق، وإن العاقبة للمتقين، ذلك ما تكشف عنه هذه الحقائق.

النتائج الإيجابية للعمليات الجهادية

النتائج الإيجابية للعمليات الجهادية ونحن ننظر إلى المواجهة غير المتكافئة فماذا نرى؟ يأتينا كثير من الناس ليرينا الجانب المظلم، ويقول: كم قتل من أبناء فلسطين! وكم هدمت من بيوتهم! وكأنه يمكن للناس أن يأخذوا حقوقهم من غاصبيها، وأن يستعيدوا كرامتهم من مهينيها دون أن يدفعوا ضريبة، ولكن يكفيهم أن يجلسوا على الطاولات، وأن يعقدوا المؤتمرات، وأن يأكلوا أشهى الوجبات، ثم يصدروا البيانات، وفي آخر الأمر يحققون الانتصارات. فمن من المغفلين يصدق أن هذا يمكن أن يقع في واقع الحياة؟ وكيف استطاع أولئك الشذاذ المجرمون المغتصبون لهذه الأرض أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه؟ لقد بذلوا أموالهم، وسفكوا في أول الأمر دماءهم، وتعاظمت معهم المعونة من قبل أوليائهم وحلفائهم، ولابد أن نوقن بأنه لا يمكن أن يكون تغيير ذلك بغير ذلك. لكننا ننظر إلى الجانب الآخر، إلى جانب العدو الذي تكبد خسائر لم يتكبد مثلها في الحروب التي خاضها كلها مع جيوش ودول كاملة ومنظمة، يكفينا أن نشير إلى بعض الإحصاءات المذكورة خلال هذه الفترة القصيرة، لقد وقعت ثلاث عشرة ألف وخمسمائة عملية جهادية منوعة، أوقعت في اليهود ألفاً وسبعة عشر قتيلاً وأكثر من خمسة آلاف جريح، وأوقعت فيهم بعد ذلك ما هو أفظع وأنكى وأشد. إنه ما أشارت إليه الآية: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2]، إنهم يعيشون خوفاً دائماً وهلعاً فضيعاً أقض مضاجعهم، وأذهب نومهم، وملأ العيادات النفسية بالمراجعين منهم.

مقياس النصر على اليهود واعترافهم به

مقياس النصر على اليهود واعترافهم به إن قضايا النصر لا تبدو في صورها المادية النهائية، بل هي في الحقيقة متدرجة، تبدأ بالقلق والخوف، ثم تمر بالحيرة والاضطراب، ثم تنتهي إلى الخور والاستسلام، وتلك المراحل هي التي تمر بها كل معركة ومواجهة. ولننظر إلى حالهم وواقعهم، ولننظر إلى الحقائق والأرقام، وقد سئل بعض اليهود فأجاب بما لا يجيب به بعض أبنائنا من العرب والمسلمين؛ حيث قيل له: ولكنكم تقتلون منهم أكثر مما يقتلون منكم، فقال: إن الأعداد في مثل هذه المواجهة غير موضوعية، لقد قتل من الأمريكان خمسون ألفاً وقتلوا من الفيتناميين ثلاثة ملايين، وخرجوا خاسرين، وقتل من الفرنسيين بضعة آلاف وكان شهداء الجزائر نحو مليون، ولكنهم كانوا منتصرين. وهكذا فإن القضية ليست قضية الأعداد والأرقام، ولكنها قضية القوة المعنوية والثبات، وما يوجد من طمأنينة تراها رغم كل هذا الهول في نفوس إخواننا الذين تركوا تعلقهم بالناس وربطوا حبالهم برب الناس، إنهم لم يعودوا ينتظرون اليوم منا حتى دعماً مادياً، وقد انقطع ذلك إلا ما رحم الله. ولم يعودوا ينتظرون منا اليوم دعماً سياسياً، ولم تعد هناك إلا البيانات والبيانات، فلم يعودوا ينتظرون أن يقف أحد إلى جوارهم في خندقهم. ولذلك ننظر إلى هذه المعاني، وننظر إلى قادة كبار عند الأعداء وهم يقرون بأن المعضلة كبيرة.

الأثر الاقتصادي للعمليات

الأثر الاقتصادي للعمليات أما الاقتصاد اليهودي فهو في تدهور مستمر، وأما البطالة فهي في زيادة مطردة، وأما السياحة فقد صارت أثراً بعد عين، وأما الأمن فإنه لم يعد متوفراً في أي شبر من تلك الأرض وأي بقعة منها، ولذلك نرى هذه الصورة واضحة تؤيدها اللفتة القرآنية الثالثة في قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، لقد جرح هنا وجرح هنا، وقتل هنا وقتل هنا، لكن هنا إيمان واحتساب وأجر وتكفير سيئات، كما قال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها عنه من خطاياه)، وذلك ما يؤمن ويوقن به إخوننا، وإذا كان هنا قتيل وهناك قتيل، لكن هذا شهيد وذاك إلى جهنم وبئس المصير. فاليقين لابد أن يكون راسخاً في نفوسنا وقلوبنا بموجب آيات ربنا وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم، وتلك قضية واضحة ظاهرة في قضايا الألم الذي يشعر به الطرف الآخر والعناء الذي يقاسيه والخوف الذي يسيطر عليه، حتى إنه قد ارتفعت نسب المراجعين للعيادات النفسية بنسبة خمسين في المائة في كل عام عن الذي قبله، وزادت نسبة البطالة بنسبة (4. 18%) في كل عام عن البطالة في العام الذي قبله، وزادت نسب أخرى كثيرة أوجعت العدو، ولولا ما يلقاه من دعم ويصب له من مال، ويقع له من خيانات وتقدم له من معلومات؛ لكان الأثر أكبر وأعظم، ولكنها إرادة الله سبحانه وتعالى. وهاهم يعترفون بذلك، والأرقام تشهد به، والحقائق تدل عليه، لقد أصبحوا -كما يقول بعضهم- في دائرة دموية مفرغة لا يمكن الخروج منها، وصار الناس لا يخرجون من بيوتهم خوفاً من العمليات الاستشهادية، والجمهور متعب ومرهق ومتشائم، وإسرائيل وقوتها لا تستطيع أن تفعل شيئاً.

الصدمات النفسية عند اليهود من جراء العمليات

الصدمات النفسية عند اليهود من جراء العمليات إن طريقة مواجهة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للانتفاضة لم تخفق فقط، بل إنها أدت إلى انتقال العمليات الاستشهادية إلى فصائل لم تتبنها من قبل، وحصلت إسرائيل على عكس النتائج التي راهنت على تحقيقها. تلك أقوالهم في صحفهم ومن قبل خبرائهم. والروح المعنوية مختلفة تماماً، فخمسون في المائة زيادة في استهلاك المهدئات والأدوية النفسية، وفي كل حادثة من تلك الحوادث والعمليات الجهادية يصاب أربعة أضعاف المصابين بما يعرف بالصدمة والخوف والهلع، ويراجعون المستشفيات، ويحملون في الإسعافات كما يحمل الذين أصيبوا بالجراحات. إن معدل الخوف في اليهود رصد من خلال دراسات علميه في أشهر ثلاثة متتالية قبل هذا العام وكانت النسب هكذا (57 %) ثم (68 %) ثم (78 %). والمال معبود اليهود، كما قال الله جل وعلا: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]. فهذا المال وهذا الاقتصاد الذي يضعف ويشتد ضعفه يؤذن بأمور كثيرة لصالح إخواننا في أرض فلسطين، وكأننا نرى في ذلك ما قاله الله سبحانه وتعالى: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97]، فإله اليهود كان عجلاً من ذهب، ويوشك هذا أن يتفجر فلا يبقى حينئذ أمر يبقيهم في ديارهم أو أرضهم، كما سنذكر، وكما هو واقعهم في هذه الوقائع. ونرى من جهة أخرى كيف هي النظرة التي تتغير عالمياً وكيف أصبح الرأي العام العالمي، وكيف تنظر الشعوب اليوم وتتكشف لها الحقائق، ويتكلم من كان صامتاً بأمور تكشف هذه الحقائق عن اليهود وظلمهم وبغيهم رغم ما يعارض به كل معترض ومنتقد في كل بقعة من الأرض. وهذه حادثة وقعت قبل مدة من إطلاق الصواريخ على اليهود، حيث تقول إحدى الساكنات في مستوطنة مغتصبة من هذه المغتصبات: نحن ندرس بجدية فكرة هجر هذه البلدة، وكنا في السابق نقول: هذا بيتنا ولن نتركه، أما الآن فنحن نفكر بالأولاد والتعليم والعمل، لقد تغير كل مجرى حياتنا؛ نحن نعيش في رعب دائم، فلا ندري متى سيسقط الصاروخ الثاني، وأين؟

تطور الانتفاضة الفلسطينية

تطور الانتفاضة الفلسطينية وعجيب هذا الأمر! لتنظروا كيف هي رعاية الله؟ وكيف يستطيع أولئك في ظل الظروف الأمنية والإرهابية والعدوانية أن يصنعوا صاروخاً حتى ولو كان صغيراً، وقد أطلقت نحو خمسمائة صاروخ خلال هذه الفترة من الانتفاضة فأقضت المضاجع. فانظروا إلى التطور العجيب الذي هو بالمقياس الواضح توفيق وإعانة من الله عز وجل! إنها انتفاضة من الحجر إلى مسدس، أو إطلاق نار إلى الصواريخ والقدرة على تدمير الدبابات الاسرائلية المحصنة، وذلك يدلنا على تحقيق موعود الله عز وجل في قوله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. إن من كان مع الله فالله معه، وإن من اعتمد على الله عز وجل فإن الله جاعل له مخرجاً وفرجاً، ومثبت قلبه ومطمئن نفسه، وجاعل له في كل مواجهة ما يعينه بها ويثبته فيها، وهذا أمره واضح وكثير.

حاجة الأمة إلى التعاون مع الفلسطينيين

حاجة الأمة إلى التعاون مع الفلسطينيين إننا لو مضينا مع هذه الحقائق لوجدنا أننا نحن الضعفاء الذين نحتاج إلى قوة، ونحن الذين نحتاج إلى أن نراجع معاني العزة في نفوسنا، ونحن الذين نحتاج إلى أن ننظر إلى الآيات القرآنية وأن نقرأ السيرة النبوية، وأن نعيد مرة أخرى ارتباطنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فيجب أن نفقه الدنيا وحقائقها في وضوء القرآن وثوابته؛ إن الإرجاف الإعلامي اليوم جعلنا على صور لا نريدها لأنفسنا، فصرنا مكانه لم يعد يعنينا شيء ولم نعد نلتف إلى القضية بقضها وقضيضها كما شغلنا عن ذلك بأمور أخرى كثيرة. وأحياناً ننظر إلى الجانب الذي تكرسه بعض وسائل الإعلام العربية والإسلامية من أن أولئك قوم قد هدمت بيوتهم وأزهقت أرواحهم وأسر آباؤهم فما بالهم يصنعون ذلك؟ ولماذا يختارون الطريق الشاق؟ ولماذا يسيرون في هذه الأشواك وليس هناك قدرة على النصر؟ ولماذا لا يتوقفون؟ ولماذا لا يؤثرون حياتهم الدنيا على هذا الجحيم الذي لا يطاق؟ فنحن نقول ذلك واليهود المعادون يقولون غيره، ويقولون: إن المقياس لصالح أخذ الأرض ضد المغتصبين والمحتلين. وأحياناً نكتفي بالحوقلة، وننسى أن نكون معهم بقلوبنا ودعائنا ومالنا وكل جانب من الجوانب، فعلينا أن نبقي هذه المعاني حية، فإنها محور الصراع. نسأل الله عز وجل أن يثبت إخوننا في أرض الإسراء، وأن يفيض على قلوبهم اليقين، وأن يثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، وأن يوفقنا وإياهم لنصر الإسلام والمسلمين. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

دعوة إلى ترك التثبيط واليأس

دعوة إلى ترك التثبيط واليأس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإنه لابد لنا أن نحقق إخوتنا الإيمانية لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وأن نحقق رابطتنا الإسلامية لقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم). ولابد لنا في الحقيقة أن نحقق ذاتيتنا وعقيدتنا بالنظر والتأمل والتدبر وفق حقائق القرآن وثوابت الإيمان، دون أن نتأثر بهذه الوقائع وما يتلوها من الأوهام والتحليلات. ولعلي أشير أيضاً إلى جانب آخر: وهو أن الذين يكثرون القول علينا من المآسي والنكبات التي حلت بإخواننا، ويبدون حزنهم على ذلك أو تأثرهم به، ثم يدعون إلى ترك المقاومة، وكأن تركها سيجعل العدو يقدم الورود بدلاً من الرصاص، نقول لهم: بدلاً من ذلك اجعلوا هذه المأساة محركة للآخرين، فأين نحن من بيوت هدمت؟ أين نحن من أسر لم يعد لها عائل لأن عائلها أسير أو شهيد؟ وأين نحن من نصرة إخواننا؟ بل أين الدول العربية؟ وأين الجيوش، وأين السياسات؛ وأين القيادات؟ فلمَ لا يقال ذلك؟ ولماذا يكون الحل هو عند أولئك الضعفاء الذين لا يملكون شيئاً من أسباب الحياة الدنيوية والمادية سياسية أو مالية أو عسكرية؟ ولمَ لا يكون لنا تواصل وصلة نحقق بها الأخوة الصادقة، ونحقق بها الرابطة الإيمانية الوثيقة، ونوقن بأن النصر مع الصبر، وأن سنة الله الماضية، وأن الله جاعل للمتقين فرجاً ونصراً، وأن الله يدافع عن الذي آمنوا؟! واعلموا كذلك أن بعضاً منا ممن نفسه قصير قد يقول: لقد طال الأمر، وتوالت السنون، وتجاوزت نصف قرن! ونقول مرة أخرى: لقد بينت لنا آيات القرآن شدة الأمر وصعوبته وطوله، وأنه مرهون بسنة الله عز وجل، كما قال سبحانه: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. فنحن نوقن بهذا القرب، ولا نعرف أمده ولا مدته، لكن الناظر رأي العين فضلاً عن فقه القلب ويقينه، يرى أن الأمور سائرة في طريقها المحتوم، وأن العاقبة للمتقين.

عاقبة الظلم وخيمة

عاقبة الظلم وخيمة كلنا يوقن بأن عاقبة الظلم والعدوان في سنة الله عز وجل وخيمة، كما أخبرنا الحق سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، وكما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. وكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ولكنه برهان لابد أن يقدم من أهل الإيمان، وثمن لابد أن يدفعه أهل الإيمان، وأهلنا هناك يدفعونه ويلقون أجره من الله عز وجل دنيا وأخرى. ولعلنا نجتهد أن ندفعه بكل وسيلة، وذلك بتحقيق انتمائنا لإسلامنا، والتزامنا بديننا، وترابطنا مع إخواننا، وتصحيح مفاهيمنا، وتسجيل وجهات نظرنا بما يتفق مع قرآننا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم. نسأل الله جل وعلا أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم معتصمين، ولآثار السلف الصالح مقتفين. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم أنطق ألسنتا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسخر جوارحنا في طاعتك، واستخدمنا لنصرة دينك، واجعلنا مسخرين في نصر الإسلام والمسلمين برحمتك وعونك وتأييدك يا رب العالمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس اللهم رايات الكفرة والمعتدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم اللهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، وزلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين؛ اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم انصر وأعن وثبت إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين وفي العراق وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، ووحد كلمتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم يا أرحم الراحمين! اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم احفظ لبلاد الحرمين أمنها وأمانها وسلمها وإسلامها يا رب العالمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليها يا سميع الدعاء. عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] , وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. والحمد لله رب العالمين.

الروح المعنوية عند الملمات

الروح المعنوية عند الملمات النبي صلى الله عليه وسلم قدوة يجب أن نقتدي به في كل شيء، ومن ذلك ما كان يلاقيه في الخطوب والكروب، فهاهو في غزوة أحد حين اشتدت به الملمات لم يتزعزع عن دينه، ولم يرضى بالدون وإن كان هو المغلوب، بل علم الصحابة كيف تكون الروح المعنوية عالية سامية مهما كان الخطب، فصلوات الله وسلامه عليه، وإذا كان الإنسان ينظر إلى المستقبل بإيمان ويقين، فإنه يعلم أنه وإن غلب أو اضطهد فإن العاقبة للمتقين، وأن الغلبة والتمكين لا تدوم إلا لعباد الله الصالحين.

دروس في قوة الروح المعنوية من غزوة أحد

دروس في قوة الروح المعنوية من غزوة أحد الحمد لله الناصر المعين، القوي المتين، وعد بالنصر عباده المؤمنين، وجعل لهم على إيمانهم الاستخلاف والتمكين، وجعل العاقبة للمتقين، وكتب الدائرة على الكافرين ولو بعد حين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. له الحمد سبحانه وتعالى ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بعثه الله رحمة للعالمين وأرسله إلى الناس أجمعين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز من بعد ذلة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].

الاستعلاء بالإيمان

الاستعلاء بالإيمان أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! بعد تعاظم الظلمة ينبثق الفجر، وبعد اشتداد العسر يأتي اليسر، وفي كل ملمة من الملمات ينزل فيض من الرحمات! ذلك ما ينبغي أن يستقر في نفوس المؤمنين، وأن يكون في قلوب المسلمين، وقد اشتد الخطب، وعظم الكرب، وتضاعف العدوان، وتعاظم الخذلان. وننتقل لنأخذ الدرس الأعظم، والمدد الأكبر، من القدوة المثلى، في السيرة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ننتقل زماناً إلى يوم السبت والأحد الخامس عشر والسادس عشر من شهر شوال عام ثلاثة من الهجرة النبوية الشريفة، وننتقل في المكان إلى جوار مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى ظلال جبل أحد، وساحة المعركة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم. وننتقل تحديداً إلى جانب الملمة وإلى الشق الثاني من المعركة يوم كانت الدائرة على المسلمين، واستدار خالد بن الوليد بقوة من الجيش، وأطبق المشركون على المسلمين من جانبيه، فاضطربت الصفوف، وطاشت بعض العقول، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وسال الدم على وجهه الشريف، وهو يقول: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم). وصرع أسد الله وأسد رسوله، ومضى إلى الله شهيداً بحربة وحشي، وقطعت يدا مصعب بن عمير، واندق الرمح في صدره، وخر لوجهه صريعاً شهيداً، ومضى إلى الله سعد بن الربيع وعبد الله بن عمرو بن حرام وثلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الخطب عظيماً، والحدث جسيماً، والحزن ممضاً، والكرب في النفوس قد بلغ مبلغه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستعلي بإيمانه، ويظهر شجاعته، ويلتف حوله قلة قليلة من أهل الإيمان يفدونه بأرواحهم، يجعلون صدروهم وظهورهم دروعاً له، ويعظم الكرب، ويشتد الخطب، ثم ينجلي شيئاً ما غبار المعركة.

إظهار العزة بالإيمان وقت اشتداد الكربة

إظهار العزة بالإيمان وقت اشتداد الكربة ونقف هنا وقفات مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف يبعث الروح المعنوية العالية في وسط الملمات وكيف ينير ضوء الأمل في وقت الشدة والكرب كيف يقوي ويعمق جذر الإيمان في النفوس؛ لتثبت الأقدام وترتفع الجباه، ويعظم الثبات بإذن الله عز وجل، وأمة الإسلام اليوم أحوج ما تكون إلى هذه الروح المعنوية، وإلى تعظيم الثقة بخالقها، وإلى ترسيخ اليقين في نفوسها في كل أحوالها، وفي سائر أقطارها، وفي أرض العراق وفلسطين على وجه الخصوص، وغيرها من ساحات الجهاد والفداء التي تعاظمت فيها قوى الشر والطغيان، وتألبت فيها الأحزاب، وعظمت البلية، وازدادت الرزية، وأثخن المسلمون بالجراح، ومضى منهم إلى الله شهداء! فأين إيماننا؟ وأين بالله عز وجل يقيننا؟ وأين صدق توكلنا على الله؟ ذلكم ما ننظره في هذه المحنة الشديدة، واللحظات العصيبة التي ألمت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى رأي العين تلك الصور المحزنة المؤلمة التي قدرها الله سبحانه وتعالى، وجاءت صولة وجولة للكفر، وانتشى أهله، وتعاظم افتخارهم، وظنوا أنهم قد بلغوا من الإيمان وأهله مبلغاً. روى البراء في تصوير ذلك الحدث أن أبا سفيان قائد المشركين الذي انتشى لتلك الجولة، وافتخر بتلك الصولة، أشرف على المسلمين بعد القضاء المعركة وهو يصيح بأعلى صوته: (أفي القوم محمد؟ ورسول الله يقول: لا تجيبوه، فيقول أبو سفيان: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فيقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، أفي القوم عمر بن الخطاب؟ فيسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعظم غيظ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لافتخار الكفر وأهله، فيقوم وقد ملأ الغيظ قلبه، والعزة نفسه، بعد أن قال أبو سفيان عند الصمت: إن هؤلاء القوم قتلى فلو كانوا أحياء لأجابوا! فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله! قد أبقى الله عليك ما يخزيك. فقام أبو سفيان وقال: اعل هبل، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: بم نجيبه يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فيقول أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فيقول المصطفى: أجيبوه، بم نجيبه؟ فيقول: الله مولانا ولا مولى لكم، فيقول أبو سفيان: الحرب سجال يوم بيوم بدر، فينطق عمر فيقول: لا سواء، قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة). تحدث العلماء في هذه الحكمة النبوية يوم قال: (لا تجيبوه) قالوا: لأن غيظ المشركين ما زال متقداً، وحماسهم للقتال ما زال مشتعلاً، فأراد أن يطفئ جذوة حماسهم، فلما استتم قوله، وظن أنه قد بلغ مراده لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إجابته، وابتدر له عمر بحميته وعزته، فجاء الجواب جملة بعد أن كان السؤال مفرقاً؛ ليكون رداً حاسماً، وإخراساً تاماً، وإذلالاً عظيماً، كما قال ابن القيم: كان الصمت إذلالاً له وتحقيراً لشأنه، وكان الجواب كبتاً له وإظهاراً لعزة الإيمان والإسلام. وأما حينما تحدث أبو سفيان عن المبادئ والقيم، عن الدين والعقائد، عن المحاسن والمآثر، لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلو للكفر كلمة، ولا أن يظهر له مبدأ، ولا أن ترفع له راية يظن بها أن فيه خيراً، فلما قال: اعل هبل، جاء A الله أعلى وأجل. لنا العزى ولا عزى لكم! الله مولانا ولا مولى لكم! ذلك ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يظهره من عزة مبادئ الإيمان. ولئن استشهد من الصحابة سبعون، وجرح سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولئن نزفت الدماء؛ فإن الإيمان والعزة في النفوس لم تزل متربعة لم تزل في الدماء جارية لم تزل تنبض بها العروق وتخفق بها القلوب ولذلك أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النحو الذي ليس فيه وهن في النفس، ولا يأس في القلب، ولا تشكك في النهج، ولا ضعف في الإيمان، ولا زعزعة في اليقين بحال من الأحوال.

الدعاء واللجوء إلى الله وقت المحنة

الدعاء واللجوء إلى الله وقت المحنة الموقف الثاني: وهو عظيم، ولعل كثيرين منا لا يعرفوه، ولم يمر بهم، فلنقف معه: روى الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي من حديث عبيد الله بن رفاعة الزرقي قال: (لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر جالساً من شدة ما أصابه في المعركة، وصلى الصحابة خلفه جلوساً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: استووا حتى أثني على ربي، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسالك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة -أي: يوم الفقر والفاقة- والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة والذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق)، رواه الإمام أحمد والبزار في مسنده، ورجال أحمد رجال الصحيح. درس عظيم في أن كل ملمة إنما تفريجها بالالتجاء إلى الله، وكل كرب إنما تنفيسه بالدعاء الخاشع الخاضع لله، وكل كسرة أو نكبة أو هزيمة إنما استمداد النصر من الله، وكل ضيق في النفس أو هم في القلب إنما تفريجه بحسن الثناء على الله، وعظمة الالتجاء إلى الله، في ساحة المعركة وغبارها لم ينقشع بعد، وقف على مشارف قبور الصحابة رضوان الله عليهم من الشهداء، وقال: (استووا! خلوا بيني وبين ربي أثني عليه). وانظروا إلى هذا الدعاء الخاشع، والثناء العظيم، ابتدأه الرسول الكريم بحمد الله، فالحمد له أولاً وآخراً، فلا يحمد على مكروه سواه سبحانه وتعالى، والحمد لله على كل كرب، وعلى كل غم وهم، فإن فيه خيراً، وإن من ورائه فرجاً، وإن من بعده يسراً، وإن في إثره نصراً. إذا ثبت الإيمان في القلوب، وعظم اليقين في النفوس. (اللهم لك الحمد كله)، ثم يثني الثناء الذي يبين أن لا أحد له من الأمر شيء؛ فلا قابض لما بسط، ولما مانع لما أعطى، ولا مبعد لما قرب سبحانه وتعالى، هو الذي يقدر الأقدار، وهو الذي جعل الأيام دولاً بين الناس، وهو الذي اقتضت حكمته أن يدال المؤمنون وأن يدال عليهم، هو الذي جعل ذلك في شأن خير خلقه صلى الله عليه وسلم، فكانت وقعة أحد وكسرتها، وكان الذي جرى حتى دمي الوجه الشريف صلى الله عليه وسلم! ثم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه إلى القضايا المهمة العظيمة: أن يحفظ الله الإيمان والإسلام، وأن يقي من الفتنة والانحراف، فإن أعظم نصر هو أن يبقى الإيمان قوياً في القلوب، والإسلام ظاهراً في واقع الحياة، وإن هدمت البيوت فوق رءوس أصحابها، وإن أزهقت الأرواح في بيوت الله، وإن قتل الصغار والنساء والشيوخ، فإن الإيمان والإسلام هو الأولى أن تعظم العناية به، وأن يعظم الخوف عليه، وأن يكثر الحزن، وذلك إذا ضعف في قلوب الناس إيمانهم، وإذا ذهب من واقع حياتهم إسلامهم، وإذا تشككوا في وعد ربهم، وإذا انسلخوا من نهج نبيهم صلى الله عليه وسلم. أما إن ثبتوا فقد ثبتهم رسول الهدى بمثل هذا الدعاء العظيم الذي أوجز في آخره الدعاء على الكافرين والمشركين والمعتدين، إنهم أقل وأدحر وأصغر من أن يطيل الدعاء عليهم، فإن رجز الله وسخطه وغضبه إن أصابهم منه أقل القليل لم تبق منهم باقية، ولم تقم لهم قائمة، والله سبحانه وتعالى قد قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، وتلك الوقفة الثانية التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم فيها أصحابه وأمته من بعده كيف تواجه الخطوب، وخاصة خطوب القتال، وبعض ما قد يكون من جولات فيها كسرة أو هزيمة.

إذكاء الروح المعنوية في الملمات

إذكاء الروح المعنوية في الملمات ثم لننظر إلى المثل الأعظم الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم عندما لقن المسلمين درساً عظيماً هو لهم أولى الدروس في وقتهم هذا، وفي محنتهم العصيبة التي يمرون بها الآن، إنه درس إبقاء الروح المعنوية في الملمات. هذا حديث ابن عباس يرويه الطبراني بسند صحيح يقول فيه: (لما انصرف أبو سفيان والمشركون عن أحد، وبلغوا الروحاء قالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، يا شر ما صنعتم، وأرادوا أن يرجعوا). كانوا يفكرون أنهم لم ينتصروا انتصاراً حقيقياً، فلم يقتلوا القيادة، ولم يأسروا نساءً ولا رجالاً! (فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب الناس أن يخرجوا، وانتدبوا للخروج إلى لقاء عدوهم حتى بلغوا حمراء الأسد، فبلغ ذلك كفار قريش فرجعوا ومضوا إلى مكة وهم خائفين). وروى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها في كلامها لـ عروة بن الزبير رضي الله عنه قالت: (يا ابن أختي! كان أبواك الزبير وأبو بكر ممن انتدب لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركون وخاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً كان منهم أبو بكر والزبير، وفيهم نزل قوله جل وعلا: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)) [آل عمران:172 - 174]، في أولئك النفر الذي كانوا طليعة القوم). أما كتب السيرة فتجمع أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأهل أحد، أن لا يبقى منهم أحد حتى يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلحقوا بعدوهم، وقال (لا يتبعنا أحد لم يشهد أحداً). فجاء جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام واستأذن أن يكون مع رسول الله وقال: (يا رسول الله! خلفني عبد الله -يعني: أباه- على بنيات له، وإني أريد أن أشهد معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم). وخرج المسلمون عددهم ثلاثون وستمائة رجل ما تخلف منهم رجل واحد، خرجوا والجراح تنزف دماءً، خرجوا والأرجل مصابة، والأيدي مقطعة، والجراح ما زالت عميقة غائرة، خرجوا يحملون في صدروهم إيماناً عظيماً، وفي قلوبهم عزة قعساء، خرجوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتمرون بأمره، ويسيرون وراءه لا يتخلفون عنه، يلتزمون أمر الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. روى ابن إسحاق في السيرة صورة من صور ما جسرى للصحابة الذين كانت جراحهم عظيمة وغائرة، قال ابن إسحاق يروي عن رجل من الأنصار من بني عبد الأشهل: (شهدنا أحداً أنا وأخ لي، فرجعنا حين رجع الناس، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج وطلب العدو، قلت لأخي: أتفوتنا غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: والله ما لنا دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحاً منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون). قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، ثلاثة أيام بلياليها ينتظر عدوه أن يرجع، فلم يرجع، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بالنيران فتضرم، قالوا: فكان يضرم خمسمائة نار حتى عظمت هيبة المسلمين في نفوس المنافقين واليهود داخل المدينة، وفي نفوس قريش التي جرت أذيال خيبتها إلى مكة، وفي نفوس العرب من حول المدينة جميعاً. إنها الروح المعنوية والهيبة الإيمانية التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكون لها في نفوس المؤمنين أثر سلبي، لئلا تضعف العزائم، ولئلا يدب اليأس، ولئلا يسري الوهن: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].

ترك الجهاد إلقاء باليد إلى التهلكة

ترك الجهاد إلقاء باليد إلى التهلكة إن حمقى اليوم من المغفلين ينظرون إلى مثل هذا الحدث الذي قد يكون له مشابه اليوم فيقولون: إنه ضرب من النزق، وصورة من التهور، ولون من إلقاء النفس إلى التهلكة. عجباً كيف يكون الاعتزاز بالإيمان والثبات على الإسلام وإظهار العزة والقوة لأعداء الله صورة سلبية مذمومة؟! وعجباً لنا عندما لا نتأمل في واقع الأمر وفي معاني الآيات على فقه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. حديث عظيم رواه الترمذي بسند حسن تعليقاً على قول الله جل وعلا: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، يرويه صحابي جليل من أعظم الصحابة المجاهدين الذين امتدت قبورهم حتى وصلت إلى آخر بقاع الأرض لتعلن عزة الإيمان وقوة الجهاد، يقول: (كنا في الصف في قتال الروم، وخرج من المسلمين رجل فحمل على الروم حملة، فقال بعض الناس: ألقى بنفسه إلى التهلكة -فنطق الصحابي الجليل الذي تربى في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر خبر اليقين، وبين البيان الشافي الذي ليس بعده بيان- فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدنا معه، حتى إذا نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم رجعنا إلى أهلنا وديارنا وزرعنا؛ فنزل قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فكانت التهلكة رجوعنا إلى ديارنا، وإقامتنا في زرعنا، وتركنا الجهاد). ذلك هو الفقه الإيماني الثابت عند أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك ننظر إلى غزوة أحد في شقها الأخير، وفي جانبها الذي قد يكون هو المظلم، لننظر إلى عظمة القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو يعلي من القوة المعنوية، ويعلي من العزة الإيمانية في الرد على أبي سفيان، وفي التضرع إلى الله، وفي الخروج العملي الذي يظهر القوة والهيبة الإيمانية. كم نحن في حاجة -معاشر المؤمنين جميعاً في كل بقاع الأرض- إلى أن ننزع من نفوسنا حب الدنيا وكراهية الموت، وأن ننزع من نفوسنا الضعف والاستعظام لقوة الأعداء، فإنهم أرذل وأحقر من أن يقارنوا بشيء أمام قوة ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى الذي قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، والذي قال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، والذي قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. تلك هي آيات الله، وتلك هي سنن الله، وتلك هي وعود الله، ونحن لسنا في شك من ديننا، ولا من وعد ربنا، فاللهم اجعل لنا من بعد العسر يسراً، واجعل لنا من بعد الهزيمة نصراً، واجعل لنا من بعد الكرب تفريجاً يا رب العالمين! أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

النصر والتمكين لأولياء الله المتقين

النصر والتمكين لأولياء الله المتقين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم الإيمان والتقوى الثقة بنصر الله، والثقة بوعد الله، وصدق التوكل على الله، وتعظيم اليقين بنصر الله، وإن الإنسان المؤمن لا بد أن يعيد على نفسه مثل هذه المعاني، وأن يمر على ذاكرته هذه المواقف من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم أن الحياة واحدة، وأن الموت كأس لا يشرب إلا مرة واحدة: فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا ذلك هو الذي ذكره لنا عملياً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شتى المواقف والمغازي التي جادوا فيها بأرواحهم ونفوسهم في سبيل الله، والتي مروا فيها بأحلك الظروف وأشدها وأصعبها، يوم تألب عليهم الأحزاب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]. ماذا قالوا؟ {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. ماذا فعلوا؟ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. ماذا فعل الله بعدوهم؟ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]. تلك هي الحقائق الإيمانية القرآنية التي ينبغي أن نعظم اليقين بها، ولسنا في شك من أمرنا، أما أعداء الله عز وجل وإن عظمت قوتهم، وإن كثرت أحزابهم، وإن توالت وتعاقبت مؤتمراتهم، فإنهم أدحر وأحقر من أن يقفوا أمام المؤمنين الصادقين، ويكفي أن نعرف أن منهم أعداداً من المنتحرين، وأعداداً من الفارين والهاربين، فضلاً عن الجرحى والمقتولين، وكلكم يرى ذلك بأم عينه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. لسنا في شك من كلام ربنا، ومن هذه المقاطع الصادقة قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، أي: وليأتينكم من الأمور والأخبار يقيناً ما ليس في أذهان أصحاب الوهن والضعف، الذين يبثون روح الخذلان ولا يبثون روح الإيمان. ينبغي لنا أن نعظم اليقين بنصر الله عز وجل، وأن نعلم أن موعوده بالنصر يحتاج أن نحقق شرطه الذي أراده منا: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ولقد وعد الله رسوله وأعطاه وعده: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح:21]، فبعد ذلك الصبر العجيب، واليقين العظيم، والتوكل الصادق في يوم الأحزاب، أعطاه الله فتحاً في يوم الحديبية، ونصراً مؤزراً في يوم الفتح، وظهوراً وإخراجاً لأعدائه في يوم خيبر، ثم انتصاراً شمل الجزيرة في يوم حنين والطائف، ثم خروجاً عن دائرة بلاد العرب لمقاتلة الروم في مؤتة، ثم استسلمت الأرض كلها لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يمت أبو بكر إلا والجيوش تقرع أبواب فارس والروم، ثم مضى الفاروق وكسب الإسلام انتصاراً في القادسية واليرموك وفي غيرها من المعارك العظيمة: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]. فاللهم ثبت إخواننا المؤمنين المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم املأ قلوبنا وقلوبهم بالإيمان واليقين، اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة، وأغننا اللهم بفضلك عمن أغنيته عنا يا رب العالمين! أغننا اللهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك. اللهم قل المعين الناصر، وكثر العدو القاهر، وليس لها من دونك كاشفة، فاكشف اللهم البلاء عن الأمة، وارفع اللهم الكرب والغمة، اللهم إنا نسألك أن تجعل لنا ولإخواننا المسلمين في كل مكان من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم زد إيماننا، وعظيم يقيننا، وثبت أقدامنا، وارفع رءوسنا، وعظم في قلوبنا عزتنا، اللهم إنا نسألك صدق التوكل عليك، وعظمة الإنابة إليك، وشدة الخوف منك، وعظمة الرجاء فيك، اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الإنابة إلا إليك، ومن الخوف إلا منك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك لأمتنا أن تبدلها من بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلها عزة، ومن بعد فرقتها وحدة برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وألهمهم الرشد والصواب، وألف بين قلوبهم، ووحد بين صفوفهم، واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم. اللهم يا رب العالمين نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم يا حي يا قيوم اجعلنا بكتابك مستمسكين، وبهدي نبيك صلى الله عليه وسلم معتصمين، ولآثار السلف الصالح مقتفين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل هذا البلد رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا، وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تحثه على الخير وتدله عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه يا رب العالمين! اللهم احفظ عليها سلمها وإسلامها، وأمنها وأمانها، وسعة رزقها ورغد عيشها، اللهم اصرف عنا كيد الفجار، واصرف عنا شر الأشرار، واصرف عنا اللهم شر طوارق الليل والنهار، يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم الطف بإخواننا فيما جرت به المقادير، امسح اللهم عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، جائعون فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فلم شعثهم يا رب العالمين! اللهم أعزهم بعزك، وانصرهم بتأييدك وحولك وقوتك عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الإسلام والمسلمين، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم نكس رايتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين! وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

الصفحات الأخيرة من حياة الصديق

الصفحات الأخيرة من حياة الصديق إنه أفضل مشير، وللحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم خير وزير، لقد كانت حياته حافلة بالعطاء والسخاء، والبذل والتضحية، والحزم والشدة في ذات الله، والحب والوفاء في حق المؤمنين إنه أبو بكر الصديق الذي ذاعت سيرته في الآفاق، وانتشر فضله بين الأحباب والأصحاب، ولم ينكر أحد منهم من ذلك شيئاً، وكان على رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي شهد له شهادة قطعت عنق كل منافق، وكانت غصة في حلق كل مبغض وفاسق.

شهادة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق

شهادة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق الحمد لله عالم السر والنجوى، كاشف الضر والبلوى، مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق،، وكاتب الآجال، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله رحمةً للعالمين، وبعثه إلى الناس أجمعين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! كنت أقلب بعض صفحات التاريخ أبحث فيها عما يفيد اتعاظاً واعتباراً، فوافيت حدثاً يوافق يومنا وتاريخه، صفحة قبله طويت في تاريخ أمة الإسلام، وفتحت فيه صفحة أخرى في سجلات العظمة الإيمانية، وصفحات القيادة الإنسانية، ذلكم الحدث كان وفاة رجل عظيم من هذه الأمة، وبعده في صباح اليوم الذي يليه كان استقبال الأمة لقائد عظيم آخر. ولا شك أن سير عظمائنا جليلة، غير أن عبر الوفاة كثيراً ما تكون أبلغ إذ مع آخر لحظات العمر، وفي آخر أنفاس الإنسان تتجلى خواطر نفسه، وتظهر حقيقته على وضوح وبينة من غير زخرفة أو بهرجة. ولعلي أبدأ حَدَثنا الذي كان في الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة بهذه الكلمات التي قالها أيضاً عظيم من عظماء أمتنا، يشهد فيها لفقيدنا العظيم بجلائل الخصال، وعظائم الفضائل فقال: (كنتَ أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غناءاً، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً وخُلقاً، وهدياً وسمتاً)، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، وجزاك الله عن رسول الله خيراً). ثم قال في شأنه وصفته: (كنتَ أقرب الناس إلى رسول الله، وأحبهم إليه، وصدقته حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقاً {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] يريد محمداً صلى الله عليه وسلم ويريدك، وكنت والله للإسلام حصناً، وعلى الكافرين عذاباً، لم تقلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل الذي لا تزعزعه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله. ثم قال في شأنه: (وكنت في نفسك متواضعاً وعظيماً عند الله، جليلاً في الأرض وكبيراً عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، والضعيف قوي عندك حتى تأخذ الحق له، اعتدل بك الدين، وقوي بك الإيمان، وظهر أمر الله، ولقد سبقت سبقاً بعيداً، وأتعبت من بعدك إتعاباًً شديداً، وفزت بالخير فوزاً مبيناً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله عز وجل قضاءه، وسلمنا له أمره، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك). أحسب أنكم قد عرفتم أن فقيدنا هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه، غير أني أحسب أن كثيرين منكم لا يعلمون أن هذه الكلمات الصادقة الناصعة هي كلمات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذلكم العظيم الذي يوجد في وفاته دروس عظيمة وجليلة؛ لأنه كان أعظم رجال مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأجل خريجيها، وأكثر الواردين إليها، والناهلين منها، والمنتفعين بها، والممثلين لها، والذين حملوا رايتها، وثبتوا على مبدئها حتى آخر نفس من الأنفاس.

قصة استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب وما فيها من الدروس

قصة استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب وما فيها من الدروس صفحات التاريخ تحكي لنا اللحظات الأخيرة التي انتهت فيها صفحة أبي بكر، وأشرقت من بعدها صفحة الفاروق عمر رضي الله عنه.

استشارة أبي بكر في استخلاف عمر

استشارة أبي بكر في استخلاف عمر لما ثقل على أبي بكر المرض واستبان له حال نفسه -أي: أنه موشك على الموت- جمع الناس إليه ثم قال لهم: (إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا ميت، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم في حياتي كان أجدر ألا تختلفوا من بعدي، فقاموا عنه، ثم لم يلبثوا من بعد حتى رجعوا إليه فقالوا: إنا نرى رأيك) أي: فوضنا الأمر إليك، وجعلنا الاختيار والترجيح لك، لما نعلمه عنك من صفاء نيتك، وعظمة إخلاصك وصدقك. فأي شيء فعل أبو بكر رضي الله عنه؟ لقد بدأ بالمشاورة رغم أنه قد مال ميله، ورأى رأيه، فطلب إليهم أن يمهلوه وقال: (أمهلوني حتى أنظر لله، ولدينه، ولعباده). لم يكن ينظر لنفسه ولا لحظها، ولا لأهله أو ورثته، لم يكن ينظر إلا لدين الله، ومصلحة عباد الله، ثم بدأ بالمشاورات فاستدعى إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم قال له: ما تقول في عمر؟ فقال عثمان رضي الله عنه: والله لا تسألني عن شيء من أمر عمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال: وإن كان كذلك! فأوجزها ذو النورين في كلمات؛ لتدلنا على عظمة أولئك الرجال، وصدقهم وإخلاصهم، وتجردهم من حظوظ أنفسهم، وترفعهم عن ميلهم إلى هواهم أو نظرهم إلى دنياهم، أوجزها كلمات خالدة فقال: (هو أفضل من رأيك فيه) وما أبلغ هذه الكلمات! ثم استدعى أبو بكر رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف وسأله ذلك السؤال، فقال: إنك أعلم به، فطلب منه الإفادة، فقال: (علمي أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا خيرٌ منه). تلك الكلمات الصادقة أعقبها أبو بكر باستشارة سيدٍ من سادات الأنصار أسيد بن الحضير رضي الله عنه فقال: (الله أعلم بالخيرة بعدك، فإنه يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خيراً من الذي يعلن، ولن يلي هذه الأمة أحدٌ أقوى منه). فكانت هذه الشهادات الصادقة المخلصة المترفعة قد عقدت عزم أبي بكر على المضي لما رآه من الاختيار لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فرغم ثقل مرضه وشدته، لم يكن له هم إلا في حال الأمة وحسن الاختيار لها.

خطبة أبي بكر وعهده بالأمر إلى عمر

خطبة أبي بكر وعهده بالأمر إلى عمر ثم احتمل على نفسه رضي الله عنه، وطلب في شيء من خفة المرض عليه أن يحمل على المنبر؛ ليخطب الناس ويكلمهم، ويعهد إليهم ويوصيهم، فقام متثاقلاً مريضاً، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه في آخر خطبة له سمعت منه، فقال فيما قال رضي الله عنه وأرضاه: أما بعد: أيها الناس! احذروا الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها غدارة، وآثروا الآخرة على الدنيا وأحبوها، فحب كل واحدةٍ منهما تبغض الأخرى، وإن هذا الأمر الذي هو أملك بنا لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ولا يصلح له إلا أفضلكم مقدرة، وأملككم لنفسه، وأشدكم في حال الشدة، وأسلسكم في حال اللين، وأعلمكم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن لما ينزل به، ولا يستحيي من التعلم، ولا يتحير عند البديهة، قوي على الأمور، لا يخور لشيء منها ضده بعدوان ولا تقصير، يرصد لما هو آتٍ عتاده من الحذر والعلم. أوجز الصديق تلك الخصال التي لابد منها في الرجال ليتسلموا مقاليد الأمور، ويحملوا هم الأمة، ويقوموا بأعباء الدين، ويحرصوا على سياسة الدنيا، إنهم الرجال الذين وصفهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه بهذه الأوصاف، ثم أوجزها بأن قال: (إنها ممثلة في الفاروق عمر رضي الله عنه). ثم كتب كتابه ووصيته لئلا يختلف المسلمون من بعد قوله، سجله كتابة بخط عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، يملي عليه وهو في مرض موته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم إلا خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت، ولا أعلم الغيب، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]).

دروس من قصة استخلاف أبي بكر لعمر

دروس من قصة استخلاف أبي بكر لعمر هذه صفحتنا الأولى في عهد الصديق للفاروق رضي الله عنهما، ووقفاتنا فيها كثيرة. أولها: أن القادة العظام أول ما يشغل بالهم، وأعظم ما يقلق راحتهم هو مصلحة أمتهم، ورعاية شئون رعيتهم، لم يكن أبو بكر في مرض موته يفكر في أبنائه، ولا في أسرته، ولا في أمواله، ولا في ثروته، كان همه هذه الأمة. الأمر الثاني: الصدق التام، والإخلاص الكامل، والتجرد المطلق الذي يكون القصد الأعظم فيه رضوان الله، والهدف الأسمى فيه رعاية مصلحة عباد الله، ذلك أن أبا بكر جمع فكره، وأمضى استشاراته، لا يريد بذلك إلا وجه الله وخير أمة الإسلام. الأمر الثالث: الخبرة بالرجال، ومعرفة أقدارهم، لا بأحسابهم ولا بأنسابهم، لا بأموالهم ولا بثرواتهم، لا بحظوظهم الدنيوية، ولا بسمعتهم بين الناس إلا بما فيه تقوى الله، والقوة في الأخذ بدين الله، والتحمل للمسئولية، والأداء للأمانة، عجم الصديق الصحابة، نظر فيهم وهم أخيار أبرار، وأقمار مضيئة، ونجوم مشعة، فانتقى وانتخب وتخير وتدبر، فجاء بهذا الاختيار العظيم الذي بينه في خطبته لرجل شديد في وقت الشدة، لين في وقت اللين، عادل منصف حريص على أن يضع الأمور في مواضعها، وذلك أمر مهم، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن من علامات آخر الزمان تضييع الأمانة، وعندما سئل عن معناها قال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). ولقد كان الفاروق من بعد أبي بكر الرجل المميز في معرفة الرجال، وانتقائهم على أساس إيمانهم وإخلاصهم، وتقواهم وخوفهم من ربهم، وعلى أساس قوتهم وأهليتهم، وكفاءتهم في القيام بمهامهم. ومن بعد ذلك أيضاً درس رابع في المشورة مع وضوح القضية، فكيف إذا كان الأمر ملتبساًَ. فهذا الصديق كان قد مال إلى اختيار عمر، ومع ذلك يستشير هذا وهذا وذاك، ويستطيب نفوس الناس، ويستخرج ما في عقولهم، ثم يعلن، ثم يكتب حتى يحكم الأمر من جميع جوانبه؛ رعايةً لمصلحة الأمة، وسداً لباب الفتنة، ومنعاً لأسباب الاختلاف، وقد كان فعله رضي الله عنه وأرضاه هو الفعل الذي عصم الله به الأمة، وزاد من قوتها وانطلاقتها، بعد أن أخمد حرب الردة، وبعد أن أمضى الجيوش إلى بلاد فارس والروم، استطاع عمر في لحظات من بعد وفاة الصديق رضي الله عنه أن يمضي الأمور دون نزاع، ولا خلاف ولا توقف. ومن بعد ذلك أمر خامس: وهو الصدق في أداء الأمانة والمشورة، كما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكما قالوها في هذه الكلمات المشرقة المنيرة، ولا يستشار إلا المؤتمن، ولا يؤخذ الرأي إلا من الصادق المخلص، وتلك ومضات كثيرة من صفحةٍ واحدة.

أبو بكر يرد ما أخذه من بيت مال المسلمين مدة خلافته

أبو بكر يرد ما أخذه من بيت مال المسلمين مدة خلافته أنتقل إلى صفحةٍ أخرى، في وفاة الصديق رضي الله عنه، فقد تقدم أنه عُني بشأن الأمة، فأي شيء كان شأنه رضي الله عنه في حال نفسه وأهله؟! دخلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أبيها في شدة مرضه، وهي ترى ثقل المرض عليه وشدته به، فتمثلت بقول الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر تقول: إنه إذا نزل الأمر فلا صارف له، فماذا قال الصديق في مرضه؟ كيف علق المؤمن العظيم على هذه الكلمات؟ وتأملوا ما يقول الصديق لابنته: (ليس كذلك يا أم المؤمنين، وإنما هو كما قال الله جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]) ذلك المعنى أبلغ وأقوى، وأصدق وأجرى على لسان الصديق رضي الله عنه. ثم قال لها: (يا عائشة! والله ليس أحد من أهلي أحب إلي منك، وكنت قد منحتك حائطاً وإن في نفسي شيئاً منه، فرديه على الميراث، قالت: نعم، فردته). ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: (أما إنا لمنذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا أنا مت فاقصدي بها إلى عمر بن الخطاب وأبرأ منهن). هذه الأموال التي بقيت لـ أبي بكر مما كان يصرف له من بيت مال المسلمين أجراً له على تفرغه لأحوال الأمة، فبقي من هذا المال عنده بصفته أميراً للمؤمنين عبد، وبعير، وجرد قطيفة لمسمى الوظيفة، فردها لـ عمر رضي الله عنه. فلما جاءت بها عائشة بكى عمر رضي الله عنه، وقال: لقد أتعبت من بعدك يا أبا بكر، ثم أخذها لبيت المال، فقال له عبد الرحمن بن عوف: (أتسلب عبداً حبشياً، وبعيراً ناضحاً، وجرد قطيفة لا تساوي خمسة آلاف درهم آل أبي بكر؟ قال: فما القول عندك؟ قال تردها عليهم، قال: والله لا يكون ذلك في ولايتي، ولا يبرأ منها أبو بكر قبل موته، وأردها عليه بعد موته)! وفي رواية أخرى أيضاً أن أبا بكر رضي الله عنه قال: (إن عمر رضي الله عنه لم يزل بي حتى أخذت من مال المسلمين) يعني بذلك أول ولايته، وذلك عندما أراد أبو بكر أن يمضي لعمله ليأكل قوت يومه، فقال له عمر: إلى أين؟ قال: إلى عملي، قال: وأمر المسلمين، ارجع ونكفيك من مال المسلمين بأن تأخذ قوت يومك وطعام أهلك، فيقول: (فإن عمر لم يزل بي حتى أخذت من مال المسلمين، وإنها ستة آلاف درهم -أي: في مدة خلافته- وإن بستاني وحائطي في مكان كذا يفي بها -يعني: يسدد قيمتها- فردوها على المسلمين، فلما جاءت لـ عمر رضي الله عنه، بكى مرة أخرى وقال: أما هذه فأنا ولي أمر المسلمين، وأردها على عيال أبي بكر، فهي حق لهم)!

أبو بكر يودع الدنيا

أبو بكر يودع الدنيا صحفة أخرى تبين لنا كيف يودع المرء دنياه، وكيف يستقبل أخراه، وكيف يجتهد على أن يخرج كفافاً من الدنيا، لا يحمل ما قد يكون فيه حساب أو عليه عقاب، بل يبرأ مما هو أقل من ذلك، ليكون أصدق في تبرئه من كل شبهة، أو من كل مال وعرض من الدنيا قد يكون بغير حق. ثم نرى كذلك ما سأل عنه أبو بكر رضي الله عنه في ذلك اليوم الذي قضى فيه نحبه: (أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الإثنين، قال: هو اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: كيف كفنتموه؟ ثم أوصى بكفنه في أثوابه، قالوا: إن عندك جديداً من الثياب! فقال: الحي أولى بالجديد). وقضى نحبه في يوم الإثنين، الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة، عام ثلاث عشرة للهجرة وهو يعطي الدرس والعبرة في رجل عظيم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يجعله في عليين، وأن يلحقنا به مع المخلصين الصادقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية النظر في سير السلف الصالح

أهمية النظر في سير السلف الصالح الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن. وإن من منابع التقوى النظر في سير أولئك الأصحاب المؤمنين الصادقين المخلصين، فإنها تزيد الإيمان، وتعرف بحقيقة الدنيا، وتربط بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتبين كيف يكون نظر المؤمن إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا، فإن بعضاً من الصحابة عندما أراد الصديق أن يمضي الأمر لـ عمر خافوا من شدته، أن يكون حازماً بما لا يتفق مع سياسة الأمة ضعيفها وقويها، وما قد يتغير من أحوالها، فقال بعضهم لـ أبي بكر رضي الله عنهم: (ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر فينا مع غلظته؟!) وهو لون من الحديث واللغة من منطلق الإيمان، لم يقولوا له شيئاً يعترضون به على ترجيح عقله أو على نظره أو غير ذلك، قالوا: (ما أنت قائل لربك) أي: هل ترى في ذلك إبراءً لذمتك؟ هل ترى فيه أنك غير مقصر تقصيراً ينالك به شيء من حساب ربك أو عقابه؟ فكان أبو بكر إذ ذاك مضطجعاً في مرضه فقال: (أجلسوني! فأجلسوه فقال: أبالله تخوفونني؟! ثم قال: خاب من تزود من أمركم بظلم، خاب من تزود من أمركم بظلم، لم أكن لأجعل آخر عهدي في أمركم ظلماً، ثم قال: أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك، ثم قال للحاضر: أبلغ من وراءك بما قلت) أي: أنه يعمل العمل وهو يوقن أنه إذا سئل عنه سيجيب بنفس الحال الذي هو عليه، يفكر في ذلك ويعد الجواب للسؤال. وهذه ومضات قليلة، من صفحات يسيرة، في آخر يوم من أيام الصديق أبي بكر رضي الله عنه، كيف إذا انتقلنا إلى الصديق وهو ينافح عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ويدفع عنه كفار قريش ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] فيضربونه، ويحرفون النعال في وجهه حتى يسقط مغشياً عليه، لا يعرف أنفه من وجهه من شدة الورم! كيف بنا إذا كنا مع الصديق والرسول يستأنيه ويستأخره في الهجرة حتى قال له: (الصحبة يا رسول الله؟ قال: نعم يا أبا بكر)؟! كيف بنا والصديق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، والمصطفى يقول: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)! كيف بنا والصديق تتنزل الآيات في شأنه وشأن أهله وابنته! كيف بنا والصديق يقول عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الأحاديث العظيمة الجليلة في مناقبه، ومن أعظمها: (ما لأحد علينا خلة، إلا ما كان من أبي بكر فإن له يداً لا تنسى) أو كما قال صلى الله عليه وسلم! لم لا نفتح هذه الصفحات؟ لم لا نقرأ هذه السير؟ لم لا نعيش مع أولئك القوم؟، لا لنرجع إلى التاريخ لا نتغنى به، ولكن لننتفع منه ونغير به واقعنا. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا هداة مهديين، واهدنا واهد بنا، واجعلنا من عبادك الصالحين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا اللهم من ورثة جنتك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة، أحسن اللهم ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وأن تبصرنا بعيوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم ول علينا خيارنا، ولا تول علينا شرارنا، اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ اللهم أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها يا رب العالمين. اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أراد الإسلام بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! امسح اللهم عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناًً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم ووفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحةً تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

الأمة بين عامين

الأمة بين عامين حري بنا وأمتنا اليوم تمر بأحلك الظروف وأشدها، وأقسى المواقف وأصعبها: من فرقة صفوفها، وتكالب أعدائها، وهوانها على خصومها، واستهدافها في أصل دينها؛ حري بهذه الأمة أن تكون لها مع المواقف العظيمة في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مراجعات ومحاسبات، وعبر وعظات، تصحح بها المسيرة، وتقوم بها المعوج، وتكمل بها النقص.

الهجرة هي الحدث الأعظم الذي كانت فيه الأمة بين مفترق طريقين

الهجرة هي الحدث الأعظم الذي كانت فيه الأمة بين مفترق طريقين الحمد لله، الحمد لله وسعت كل شيء رحمته، ونفذت في كل شيء قدرته، وأحاطت بكل شيء مشيئته، وتجلت في كل قدر حكمته، وعظمت على كل أحد نعمته، له الحمد كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءًً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى ومنار الهدى، أرسله الله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين وجعله سيد الأولين والآخرين، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعه واقتفى أثره ونهج نهجه إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأمة بين عامين، عام اليوم سيمضي، وآخر غداً سيأتي، وتمر الأيام وتتوالى الأعوام والعاقل من يدكر ويعتبر، ومن ينتفع ويستفيد، وما يمر مثل هذه الأيام إلا ويمر ذكر الحدث الأعظم الذي كانت فيه أمتنا بين مفترق طريقين، ليسا متناقضين ولا متعارضين بل هما متكاملان، طريق في الدعوة والإيمان، وطريق في الدولة والسلطان، مفرق الهجرة العظيمة التي غيرت مجرى تاريخ أمة الإسلام وتغير بها مجرى تاريخ البشرية كلها. حري بنا وأمتنا اليوم تمر بأحلك الظروف وأشدها وأصعبها، من فرقة صفوفها، وتكالب أعدائها وهوانها على خصومها، واستهدافها في أصل دينها وصميم معتقدها وأصالة مناهجها، وصبغة هويتها؛ حري بهذه الأمة أن تكون لها في مثل هذه المواقف مراجعات ومحاسبات وعبر وعظات تصحح بها المسيرة وتقوم بها المعوج، وتكمل بها النقص، وما من شك أن حديثنا عن الأمة لا يعفينا كأفراد أن نستمرئ ذلك ونحبه؛ لأنه لا يواجهنا بقصورنا ولا يحدثنا عن أخطائنا ولا يجابهنا بتفريطنا وتقصيرنا كلا وإنما حديثنا عن الأمة حتى تكون المسئولية شاملة لكل أحد، لا نلقي بها على الحكام والأمراء وهم في قمة المسئولية والمحاسبة، ولا نخصها بالدعاة والعلماء وهم في المراتب العالية من ذلك، بل تعم كل أحد صغيراً وكبيراً ذكراً وأنثى كل بحسبه، فكل امرئ مسئول وفي عنقه أمانة، على عاتقة مهمة ورسالة، حملها يوم حملها محمد صلى الله عليه وسلم، وحملها معه الصحب الكرام صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً في أحلك الظروف وأشدها، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، بذلوا لأجل حملها الأرواح والدماء وأنفقوا الأموال والثروات، وأجهدوا الأبدان والطاقات؛ لتعلو كلمة الله عز وجل.

الهجرة مهدت طريق الدعوة والإيمان والدولة والسلطان

الهجرة مهدت طريق الدعوة والإيمان والدولة والسلطان وقفات مهمة، أولها: الدعوة والإيمان والدولة والسلطان: معاشر المسلمين! هل إسلامكم ودينكم له غاية في هذه الحياة ليكون صاحب الحكم والسلطان لمجرد القهر والعدوان، أو لمجرد التحكم والتسلط؟ إن ديننا وأمتنا أمة دعوة وإيمان أولاً وآخراً، إن محمداً صلى الله عليه وسلم أوجزت آيات القرآن مهمته، وذكرت لنا وصفه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]. رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ليستنقذهم من الشرك إلى التوحيد، لينأى بهم عن الرذائل إلى الفضائل، ليغير مسارهم إلى وجهات شتى في هذه الحياة الدنيا لتكون لهم وجهة واحدة، هي ابتغاء رضوان الله وقصد الآخرة، ولذلك تأملوا في هذا المعنى:

الإيمان والدعوة هي الغاية من بعثته صلى الله عليه وسلم

الإيمان والدعوة هي الغاية من بعثته صلى الله عليه وسلم دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه وقبيلته وأهل مكة سراً وعلانية، جمعاً وأفراداً، سعى بكل الوسائل، فلما ضاقت السبل، وسدت الأبواب، وعتا الطغاة، وتجبر الجاهليون؛ هل ركن ليكون في دائرة نفسه، أم كانت دعوته وإيمانه أعظم شيء في حياته، وهي غاية وجوده ومهمته التي انتدبه الله عز وجل إليها وابتعثه في هذه الخليقة لأجلها، والتمس عليه الصلاة والسلام له ولأصحابه طرقاً يشقون بها المسار لتحقيق دعوة الله وإقامتها في هذه الحياة كما أراد الله سبحانه وتعالى! هيأ لأصحابه سبيل هجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الثانية، ثم مضى بنفسه عليه الصلاة والسلام إلى الطائف يبتغي قوماً يؤمنون بهذه الدعوة ويحملونها في قلوبهم وعلى أكتافهم ويصبغون بها حياتهم، ويجعلونها الهدف الأسمى والغاية العظمى التي يوظفون لأجلها الطاقات والجهود والأموال، بل ويبذلون من أجلها الأرواح والدماء، فوجد صداً وإعراضاً، فرجع عليه الصلاة والسلام لم تلن له قناة، ولم يفتر له عزم، ولم يدب إلى قلبه يأس، ولم يحصل في نفسه قنوط عليه الصلاة والسلام. كان يحمل بين جنبيه نفساً عظيمة، وهما ً كبيراً هو هم هذه الدعوة والإيمان كيف يغرسه في القلوب، كيف يوصله إلى العقول، كيف يخاطب به كل أذن، كيف يجلي حقيقته لكل عين وبصر وبصيرة؛ ولذلك مضى عليه الصلاة والسلام يلتمس المواسم، يمضي إلى القبائل، يعرض نفسه على هؤلاء وهؤلاء، يريد من يجعل الدعوة والإيمان راية حياته، حتى تهيأت الأسباب، وجاء نفر الأنصار الأوائل، وكانت بيعة العقبة الأولى والثانية، ما الذي كان فيها؟ (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم عليه من الله برهان) حديث عبادة بن الصامت في بيعة العقبة. وعندما جاء الصحابة يبايعونه ومقدمهم أسعد بن زرارة رضي الله عنه، قال أبو التيهان من الصحابة: تمهلوا أيها القوم، واعلموا أنكم تبايعون رجلاً على حرب الأسود والأحمر وعلى دمائكم وأرواحكم، فانظروا ما أنتم عليه مقبلون، فقالوا: أمط عنا، فوالله لا نقيل ولا نستقيل، (أن تحموني مما تحمون منه نسائكم وأنفسكم وأموالكم) فأعطوا على ذلك بيعتهم، قالوا: فما لنا يا رسول الله إن فعلنا ذلك؟ فلم يعدهم بعرض من الدنيا ولا بحكم ولا سلطان، ولا بملك ولا صولجان، وإنما قال: (لكم الجنة) راية عظمى، إخلاص متجرد، مقصد أسمى من الدنيا وما فيها ومن فيها، لم تتعلق القلوب حينئذ ببعض الدنيا، لم تتعلق بمتعها.

الدولة والقوة وسيلة لنشر الدعوة

الدولة والقوة وسيلة لنشر الدعوة وعندما وصلت الأمة لتكون الآمرة الناهية والحاكمة في بلاد شتى، لم تنس أنها أمة دعوة وإيمان، فسخرت دولتها وحكمها وقوتها وسلطتها لتكون في سبيل نشر الدعوة وإقامة الإيمان والذود والذب عن حياض الإسلام. فالدولة والقوة ليست غاية في حقيقتها؛ ولذلك ماذا فعل أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ أنزلوه في قلوبهم قبل أن ينزل في ديارهم، وأحلوه موضع الروح بين جنوبهم، قبل أن يحل في ديار أو بقاع، وجعلوا الإسلام والإيمان أعظم همهم وأوكد شغلهم، قبل أن ينظروا إلى عرض الدنيا أو إلى أرض يبسطون عليها سلطاناً، أو إلى غنائم يغتنمونها في تلك المعركة أو تلك الغزوة. ذلك معلم مهم في حياة أمتنا، ما الذي أخرج محمداً صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي استنفر أصحابه ليخرجوا من مسقط رأسهم وأرضهم ودورهم وبيوتهم وأموالهم وقراباتهم؟ إنه دين الله، إنها دعوة الله، إنها المقصد الأسمى الذي تدور عليه وحوله الحياة، ذلكم هو درس هذه الهجرة العظيمة.

تضحية الصحابة بكل ما يملكون في سبيل نشر الدعوة

تضحية الصحابة بكل ما يملكون في سبيل نشر الدعوة الدعوة لا بد أن تكون قوية صلبة لا يفتر أصحابها ولا يضعفون، ولا ييأسون ولا يكلون ولا يملون ولا يتوقفون ولا يسكنون، خذوا شرقاً فإن صدت الأبواب فغرباً، وامضوا شمالاً فإن وجدت العوائق فجنوباً، لا بد أن تحملوا دعوتكم وإيمانكم في أعماق قلوبكم، وفي أغوار نفوسكم، وأن تجري مع دمائكم في عروقكم، وأن تكون هي خواطر عقولكم، وكلمات ألسنتكم، يوم ذلك ستكونون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا في ذلك الوقت هم الأمة النموذجية المثالية بوجود القدوة العظمى عليه الصلاة والسلام، ووجود الصحب الكرام الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه وحمل دينه وتبليغ دعوته. وذلكم درس عظيم لا بد منه، إنهم في سبيل إمضاء هجرتهم لإقامة مجتمعهم وتشييد دولتهم، وقبل ذلك لإنفاذ دعوتهم وإظهار إيمانهم؛ جادوا بكل شيء، ولسنا بصدد ذكر قصص الهجرة فأنتم تعرفونها، فقد فرق بين أبي سلمة وزوجه أم سلمة وابنه عمر بن أبي سلمة، فما صد ذلك أحداً منهم عن أن يمضي لمراد الله عز وجل، ولطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولإحقاق وإعزاز دينه، وصهيب الرومي خلف ثروة حياته كلها وجهد أيامه ولياليه من المال والثروة ليمضي إلى دعوته وإيمانه، وليلحق بنبيه ورسوله وليعلي أمته ودعوته. وكذلكم كان من بعد آل جحش عبد الله وأهله وأخوه الضرير أبو أحمد، وأولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عندما بلغوا المدينة وأصابتهم حماها واشتد بهم المرض، ورأوا ما هو عظيم في الناحية البدنية، وجسيم في الناحية النفسية، من أرض تركوها وبلاد نشئوا فيها، وأموال خلفوها، إلى أرض ليس لهم فيها موطن ولا عمل ولا مال، فشق ذلك على النفوس، ودخلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أبي بكر وقد اشتدت به الحمى وهو يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وبلال اشتدت به الحمى فقال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل يتذكرون ديارهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك لهم في المدينة وأن يجعل فيها ضعفي ما في مكة من البركة، وأن ينقل حماها إلى الجحفة، فبرئت الأجساد، وتواصلت المسيرة.

حال الأمة إذا لم تكن دعوتها هي غايتها

حال الأمة إذا لم تكن دعوتها هي غايتها تلك أمة كانت دعوتها هي غايتها، وذلك هو الذي ينبغي أن تتذكره أمتنا اليوم، وقد فتنت بالعروش واشتغلت بالسلطان وتنافست على الملك، وجعلت ذلك أوكد همها وغاية قصدها، فضلت عن مسارها، وضيعت دعوتها وافتقدت رسالتها، وغيبتها تلك الأحداث كلها لتكون من سقط المتاع، ولتكون في ذيل قائمة الأمم تأثيراً وقيادة وريادة؛ لأنها لم تدرك أنها إنما وجدت في هذه الحياة لتقول: إنها أمة الإسلام ولترفع راية الإيمان، ولتعلم أن كل جدها وجهدها وقوتها وسلطانها وملكها ومالها إنما هو لإعلاء كلمة الله ولإعزاز دين الله، ويوم تفقد غايتها وتتخلى عن رسالتها فلن تكون لها عزتها ولن تعود لها قوتها، ولن تتبوأ في هذه الحياة الدنيا وفي هذه البشرية قيادتها وريادتها كما كان عليه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وأمة الإسلام على مدى تاريخها الطويل. وتأملوا ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة، والقلوب متشوقة للقائه، والنفوس متلهفة لتسخر كل جهدها وطاقتها وفق أمره وإرشاده، هل بنى قصر الحكم؟ هل شيد دار الإمارة؟ بدأ ببناء المسجد؛ ليعلق القلوب به وليربط الخلق بالخالق، وليقول لأمة الإسلام: كل أرض تدخلونها، وكل فتح تفتحونه، فابدءوا فيه بأن تؤكدوا صلتكم بالله عز وجل، فذلكم هو أساس وجودكم وهو سر قوتكم وهو ضمان وأمان استمراركم بإذنه سبحانه وتعالى. ثم ألف بين القلوب وآخى بين المهاجرين والأنصار، فآوى بلالاً، وآخى صهيباً، ونادى بـ سلمان في العالمين، وأخرج النموذج المثالي الفريد الذي ليس في البشرية كلها نموذج مثله، يوم نبذ كل الاختلافات في الأعراق والأنساب والقدرات والطاقات والملكات وجعلها كلها تحت لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يكن فرق بين أبي بكر التيمي ولا عمر العدوي ولا بلال الحبشي ولا صهيب الرومي، إنما كلهم أهل إيمان فضلهم بتقوى الله، عزهم بالبذل والتضحية لإعزاز دين الله، شرفهم ومناقبهم بحسب ما كان من دعوة الله عز وجل، المهاجرون إنما فضلهم بهجرتهم لذلك، الأنصار إنما فضلهم بنصرتهم لذلك، البدريون إنما هم أصحاب فضل وتقدم على الأصحاب لذلك. وهكذا معاشر الإخوة المؤمنين يوم يكون تفاضلنا ببذلنا لدعوتنا وبقيامنا بحق ديننا، يوم تكون المراتب بحسب ما يبذل المرء لدينه ولأمته ولرسالته؛ يومئذ لا يكون فينا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتصدر في الناس الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله! قال: (الرجل التافه يتكلم في شأن العامة)، إنما يتصدر الرجل ويتقدم بحسب ما يكون من بذله لدينه وأمته، الدين هو الهدف والغاية، والدين هو المنهج والطريق ذلكم ما تقرع به الهجرة آذاننا وعقولنا، كلما تجددت ذكراها وكلما انقضى عام وأتى عام.

من دروس الهجرة: التميز والاستعلاء لا التميع والاستخذاء

من دروس الهجرة: التميز والاستعلاء لا التميع والاستخذاء أمر ثان: التميز والاستعلاء لا التميع والاستخذاء: المسلمون في مكة المكرمة كانوا على إيمان في مجتمع كفر، وكانوا على خلق وفضيلة في مجتمع فسق وعهر، كانوا على توحيد في بيئة كفر وشرك، فهل سايروا القوم؟ وهل قالوا: لا قدرة لنا على أن نكون وحدنا شاذين؟ هل قالوا: لا بد أن نراعي الواقع ومقصودهم في هذه المراعاة المجاراة وليست المداراة؟ هل رأينا أو سمعنا في تلك الفترة رغم شدتها وهولها وقسوتها من ارتد عن دينه؟ أم سمعنا ما هو معلوم من قصة بلال الحبشي وهو يصدع في أجواء مكة: أحدٌ أحد، وقصة مصعب بن عمير، وقد منعت عنه الأموال فقاطعته الأم الرءوف وضغطت عليه فما لانت له قناة، ولا تغير له موقف؟ بقي أهل الإيمان متميزين بإيمانهم، مستمسكين بإسلامهم، لم ينجرفوا مع التيار، لم يسيروا ويوافقوا الناس، لم يقولوا: لا نستطيع؛ لأن قضية الإيمان والاعتقاد وثوابت الدين تهون لأجلها الأرواح والدماء، فكيف يكون ذلك التغير أو التبدل؟! ثم ما الذي أخرجهم في هجرتهم؟ إنما أخرجهم أنهم يريدون أن يكونوا مسلمين في كل شيء، أن يطبقوا إسلامهم في القضاء وفي الحكم وفي العلاقات والمعاملات الاجتماعية، لما كانوا في بلاد الكفر ما كانوا يستطيعون إلا أن يقيموا إيمانهم وإسلامهم في ذوات أنفسهم، فأرادوا أن يميزوا أمتهم ومجتمعهم بكل شرائع الإسلام، بكل محاسنه وخصائصه، فكانت هجرتهم ليقيموا الإسلام كاملاً في مجتمع بكل فئاته وطبقاته، وبكل ميادين حياته ومعاملاته، وذلكم هو الذي كان وراء هجرتهم الأولى والثانية إلى الحبشة. لم يكونوا هاربين أو خائفين، لم يكونوا منسحبين أو متخاذلين، حاشا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا كذلك، وإنما كانوا لدعوتهم ولطريقها ملتمسين؛ ولإقامة شريعتهم في كل جوانب حياتهم مبتغين، وذلك الذي ينبغي أن تدركه الأمة اليوم، صبغتهم صبغة أمة إيمان وإسلام، أرادوا أن تظهر في كل شيء بدءاً من أعماق قلوبهم وعقيدتهم المستكنة في نفوسهم، ومروراً بعبادتهم وفرائضهم وشرائعهم، ينشرونها في المساجد التي ينادى فيها للصلاة، ويقيمونها في كل الأحكام التي أقاموها حتى أقام النبي صلى الله عليه وسلم فريضة الحج على هدى الإسلام، وأبطل معالم الجاهلية كلها؛ حينئذ أكمل عليه الصلاة والسلام كل جوانب الحياة في نموذج متكامل. وما هي صبغة الأمة اليوم؟ إنها مستهدفة استهدافاً عظيماً بدءاً من العقيدة والإيمان، حيث يشكك اليوم في شرائع ثابتة قاطعة وأحكام منصوص عليها بآيات واضحة الدلالة وسنة واضحة المقصد، ثم بعد ذلك تمسخ الهوية حتى نتكلم بلسان غير لساننا ونفكر بعقل غير عقولنا، فما ترون اليوم ما تصنعه وسائل الإعلام: برنامج ينقل لنا حياة من فرنسا، وآخر ينقل لنا صبغة من بريطانيا، وثالث يترجم لنا واقعاً من أمريكا! وكلها كأنما تقول: كونوا على غير ما أنتم عليه، لا يكون لكم لون مميز ولا طعم معروف ولا رائحة مخصصة، كونوا همجاً رعاعاً تتبعون كل ناعق. إنهم يمسخون الهوية في كل جزء من جزئياتها حتى تتعلق القلوب بغير أهل الإيمان والإسلام، فيكونون هم القدوة وهم الأسوة وهم الذين ينظر إليهم بالإعجاب، وهم الذين تسري خلائقهم وسلائقهم في مجتمعنا حتى لا يعود لنا شيء نتميز به. أفلسنا نرى ونسمع ويدور الحديث ويعظم على هذه الأمور المخزية الفاضحة التي لا تنم إلا عن مقاصد سيئة، وإلا عن إرادة للإفساد وانحلال للأخلاق وانحراف في الأفكار، وتميع الأمة وذهاب شخصيتها في كل جوانب حياتها؟ وذلكم أمر تحتاج الأمة فيه إلى مفاصلة؛ لأنها اليوم يراد منها أو يكثر الحديث في بيئاتها ومجتمعاتها: أن تطور -أو في حقيقة الأمر- تغير مناهج تعليمها وتحدث وسائل إعلامها وتطور نظم حياتها الاجتماعية، يقولون لنا: لماذا أنتم منغلقون؟! لماذا لا يختلط نساؤكم برجالكم؟! لماذا والبشرية كلها قد أخذت بهذا؟! فهل يكون الحق ما عليه الكثرة وإن كانت مبطلة مفسدة، والكثرة في كتاب الله مذكورة في الجملة في سياق الذم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116]، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49]، إلى غير ذلك مما تعلمون. فينبغي لنا أن ندرك محوراً ومفصلاً عظيماً في حياتنا هو: تميزنا بصبغتنا وانفتاحنا على واقعنا من دون أن نذوب ومن دون أن نتغير فتنسلخ جلودنا، لن نكون يوماً أصحاب عيون زرقاء وبشرة بيضاء لنكون مثل ذلك الغربي أو ذلك الشرقي، فضلاً عن أن تكون قلوبنا وعقائدنا وإيماننا وهوانا وأمنياتنا وطموحاتنا على ما يعملون له ويروجون.

من دروس الهجرة: التخطيط والإعداد لا التفريط والإفساد

من دروس الهجرة: التخطيط والإعداد لا التفريط والإفساد وثالثة نقف عندها وقفة وجيزة: التخطيط والإعداد لا التفريط والإفساد: أمتنا اليوم يكثر فيها الحديث عن واقعها المؤلم؛ نحن أمة متخلفة تقنياً، تسمعون ذلك ويكرر عليكم صباح مساء، نحن أمة نلبس ما يصنعه غيرنا، ونركب ونأكل ونسير ونبني حتى كأننا عالة على كل أمم الأرض وليس عندنا ما نستقل به حتى في حياتنا المادية، ونحن، ونحن أين البحوث العلمية؟ أين التطور التعليمي الجامعي؟! أين كذا وكذا لكننا نسأل: هل هذا التلاوم أو هذا البحث يعقبه تخطيط طويل المدى، متشعب الجوانب، ووراءه إعداد وعدة وعمل وجد، حتى نغير هذا الواقع وفق سنة الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. لا بد من عمل، وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تأت فلتة عابرة، بل سبقها ما سبقها من محاولات وتجارب، ثم تهيئة كانت فيها دعوة مصعب بن عمير وكانت فيها بيعة العقبة الأولى، وكان فيما بينهما هذه الدعوة، وكان فيها تهيئة الأسباب وخروج الأصحاب وإعداد لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى إذا استحكمت الأمور وأتمت عدتها هيأ الله لها أسبابها ويسر لها تحقيق مرادها، فكان الأمر الذي تم هو نتيجة ذلك التخطيط والإعداد والعمل والجد المتواصل. وأمتنا اليوم تتلاوم ونجد أنها ما زالت في مجمل أحوالها لا تأخذ السبيل الحقيقي للتغيير الواقعي والعمل الجاد، أين نحن اليوم وما زال الإعلام لا يقدم لنا في هذه الفضائيات شيئاً يربي الشباب، ولا يعلم الجاهلين، ولا يذكر الغافلين، ولا يبين مواطن الضعف؟! إنما هو صراخ وجؤار أو دعاية وتسويق أو فساد وإفساد، ونرى ونسمع ونعلم من ذلك ما تعلمون، فهذه وقفة مهمة أيضاً فيما بين هذين العامين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا وأن يهيئ الرشد والهدى والتقى لأنفسنا. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

من دروس الهجرة: التعاون والتكامل لا التناقض والتخاذل

من دروس الهجرة: التعاون والتكامل لا التناقض والتخاذل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من اقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن. وأمور كثيرة هي التي نحتاج أن نتذكرها فيما بين عام وعام، ونتذكرها في كل وقت وآن، غير أن المناسبات أدعى للتذكير بهذه المهمات. ووقفة سريعة أيضاً مع التعاون والتكامل لا التناقض والتخاذل: إن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نموذج متكامل لتوزيع الأدوار، وتقسيم المهمات والأعمال، كيف هيأ النبي لأصحابه أن يتقدموه ويسبقوه؟! كيف استبقى أبا بكر رضي الله عنه ليكون رفيقه وصاحبه في هجرته؟! كيف هيأ أبو بكر ناقته ودابته؟! ثم كيف كانت الأدوار: الشباب كان يمثلهم عبد الله بن أبي بكر، ودوره في الهجرة أنه كان مراسلاً وناقلاً للأخبار، ومؤمِّناً للرسول عليه الصلاة والسلام وأبي بكر، والمرأة المسلمة أسماء كانت تأتي بالطعام والزاد، وذلك الذي كان راعياً يمر بالغنم ليعفي آثارها، وذلك الذي كان دليلاً يأخذ بالطريق، والنبي صلى الله عليه وسلم يختم الأمر، والصحابة هيئوه هناك، كل ذلك يدل عن أن لكل أحد دوراً، وعلى كل أحد مهمة، لا تقل: لن يصلح ذلك إلا أن يفعله هؤلاء أو هؤلاء، وماذا تفعل أنت؟! لو أن كل أحد فعل واجباً وأدى مهمة، وبادر إلى عظيمة من العظائم، أو مهمة من المهمات التي تنفع دينه وأمته؛ لرأينا حالاً غير هذا الحال. ما بال الناس اليوم وكل ينظر إلى الآخر، وكل يجيد إلقاء التبعة والقصور على غيره فيقول: هؤلاء مفرطون، وهؤلاء عصاة مقصرون، وهؤلاء ضالون ومفسدون، وهكذا، ماذا قلنا عن أنفسنا! أين نحن من واجبنا؟! أين نحن مما افترضه الله سبحانه وتعالى علينا؟! ولذلك لابد من العمل، وأن يكون هذا العمل متكاملاً، واليوم أمة الإسلام أقوى ما تكون إذا أخذت بهذا المبدأ، وهي بغيره أضعف: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا كم هي بحاجة اليوم أن تستخدم ما منحها الله عز وجل إياه من ثروة في مكان وقدرة بشرية في آخر، وتقدم علمي في بلد آخر، ولو كان لهذه الأمة اجتماع على أسبابها الدينية والإيمانية، ومعها أسبابها وقوتها المادية والدنيوية، فلن يقف في وجهها أمم الأرض كلها، ولا أمة عظمى أو دولة عظمى كما يقال، فنحن أمة الإسلام، عندنا الثروة العظمى والقوة العظمى بالإيمان والإسلام والمبادئ والشرائع والآداب والأخلاق، بالثروة والأعداد والقدرات والطاقات، لو أنها اجتمعت وتكاملت وكان بينها تناسق وتنوع لانتصرت. يؤسفنا أن نقول: إن أمماً لا تجمعها عقيدة واحدة ولا لغة واحدة، كالدول الأوروبية يتسع اتحادها لتشمل خمسة وعشرين بلداً، كل منها أو كثير منها له لغة وله ديانة وله نظم سابقة كثيرة، لكنها تجتمع وتأتلف لأنها ترى أن مصدر قوتها في مثل هذا التعاون والتآلف والتكاتف، فيأخذون حينئذ ثقلاً. ونحن أمة الإسلام أمة يتجاوز تعداد أبنائها ألفاً ونصفاً من المليار، وتتوزع في كل أقطار الأرض شرقاً وغرباً، وتملك ثروات الدنيا في معظمها، ثم بعد ذلك إذا هي شذر مذر! نقول هذا على مستوى الأمة، ولكني أذكر أن كل حديث عن الأمة هو حديث عني وعنك، فأين تكاملك وتعاونك مع أخيك؟! مع الذين يمكن أن تؤثر أنت وهم بإقامة عمل خير أو إقامة مشروع نافع، أين نحن؟! كل يغني وحده، كل يعمل وحده، بل كثيراً ما تتناقض أعمالنا، وبعضنا قد ترك العمل وبقي في دائرة طعامه وشرابه وزوجته وأبنائه، ويأتيك بنصوص يستشهد بها في غير موضعها: (عليك بخاصة نفسك)، (اعتزل الفرق كلها)، هذه نصوص إذا عظمت الفتن وكان قرب القيامة، ثم لا يستدل بها على أن تترك العمل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه: (إذا قامت القيامة، وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) أي: نبتة النخلة الصغيرة. وأخيراً: لابد من اليقين أن الهداية والولاية هي التي نحظى بها إن نحن قمنا بذلك، كما يسر الله لرسوله في الهجرة أخذ الأسباب، لكن حماية الله وولايته له هي التي سيرته وهيأت له الأسباب، وكلما خرم شيء مما أعده كانت رعاية الله وحمايته، فأمته إذا كانت لا تسير على منهج الله لا تنال هدايته وحمايته وولايته، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وإلا يكن ذلك كذلك؛ لا تكن هداية وولاية، بل يكون تسلط وغواية وضلالة، كما تسلطت الأمم علينا، وكما ضلت مسيرتنا: فمرة ننتمي لتجمع هناك، ومرة ننظم لتكتل هناك، ومرة نسير وراء الشرق، ومرة وراء الغرب، لأننا لم نحظ بهذه الهداية والرعاية والحماية الإلهية، لأننا ابتعدنا عن دين الله سبحانه وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهديين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاءًً وسائر بلاد المسلمين، واصرف اللهم عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بكل خير فوفقه لكل خير، ومن أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، زلزل الأرض تحت أقدامهم واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم وخذهم أخذ عزيز مقتدر يارب العالمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم اكفناهم بما شئت يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين في كل مكان يارب العالمين، اللهم فرج همهم ونفس كربهم، وعجل فرجهم وقرب نصرهم، وادحر عدوهم وزد إيمانهم وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يارب العالمين، اللهم ثبت أقدامهم، وأفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، ومن عليهم بحولك ونصرك وعزك وتأييدك يارب العالمين. عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً منهم ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الأمة المسلمة بين التميز والتميع

الأمة المسلمة بين التميز والتميع يجب على الأمة المسلمة اليوم أن تعرف عدوها معرفة حقيقية، من خلال فهم ما يدبره من مؤامرات ومخططات بشتى الوسائل والأساليب، فلابد أن تصحو من نومها، وتفيق من غفلتها، وتترسم خطى الأجداد في تميزهم وتفردهم، وما كانوا عليه من الفخر بدينهم والاعتزاز به، ومحاربتهم لدعوات التقارب والتميع، لما فيها من الذلة في الدنيا والآخرة.

الأمر بصيام يوم عاشوراء

الأمر بصيام يوم عاشوراء الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، ومن سأله مخلصاً أعطاه، ومن طلب الهداية منه هداه، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، له الحمد كثيراً طيباً كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، الذي أرشد الله به من الغواية، وهدى به من الضلالة، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأمة المسلمة بين التميز والتميع، قضية مهمة في واقعنا المعاصر، هل أمة الإسلام متميزة أو متميعة؟ متفردة أو متشبهة؟ مستقلة أو تابعة؟ مكتفية أو متسولة؟ اليوم والأحوال مضطربة، والرؤى غائمة، والأفكار حائرة، والقضايا متبلبلة؛ يجد المرء المسلم لزاماً عليه أن يؤكد حقيقة تفرد وتميز واستقلال واكتفاء أمة الإسلام؟ أليست هي أمة الكتاب المحفوظ إلى قيام الساعة؟ أليست هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين إلى قيام الناس لرب العالمين؟ أليست هي أمة الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان؟ إن هذه القضية مهمة ندخل إليها فيما نحن بصدده في هذا الوقت العظيم والأيام المباركة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صوموا يوم عاشوراء خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) وقد ذكر ابن حجر المراد من ذلك فقال رحمه الله: لما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام، أحب عليه الصلاة والسلام مخالفة أهل الكتاب. وقال بعض الشراح: وأقل أحواله الدلالة على الاستحباب. وروى مسلم في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لئن بقيت إلى قابلٍ لأصومن التاسع) فمات عليه الصلاة والسلام قبل ذلك. قال الشراح: ظاهره أنه كان يصوم العاشر، وهم بصوم التاسع، فمات قبل ذلك، ثم ما هم به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه، بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطاً له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح. وقال النووي رحمه الله: قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر وهم بصوم التاسع. وعند البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر -شهر رمضان). وعند مسلم في صحيحه بيان الأجر العظيم لصوم هذا اليوم العظيم، قال في حديث طويل عليه الصلاة والسلام: (وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله). وعن حفصة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: (أربع لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهن: صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة) رواه النسائي في سننه. ومما ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فإذا بيهود يصومون يوم عاشوراء، فلما سأل عن ذلك، قالوا: يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق بموسى منهم) وردت الروايات كما أشرنا بصيام يوم قبله أو بعده، معللاً ذلك ورابطاً إياه بمخالفة اليهود، وهنا مقصد من مقاصد الشرع كما ذكر ابن حجر وغيره من الشراح، فما حكمته وما علته، والأمر عبادة وطاعة، وصيام وقربة، وحمد وشكر لله تعالى؟ إن المقصد هنا تميز أمة الإسلام وتفردها بالكمال، وأنه ما من خير إلا وهي أحق به من غيرها. ومن هنا لما فعلوا هذا الفعل، وذكروه على سبيل الشكر لله عز وجل، بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أولئك الذين فعلوا ما فعلوا مع موسى عليه السلام من المخالفات والمعارضات التي قد قص الله علينا جزءاً كبيراً منها، وفعلوا مع غيره من الأنبياء ما فعلوا لا يغني عنهم هذا التمسح الظاهر، وهذا السمت المخادع من موافقة في جانب ومخالفة في جوانب أخرى، فأخبر عليه الصلاة والسلام أنا معاشر المسلمين أحق بموسى منهم، فنحن نؤمن به ونجله، ونقدره ونعظمه، كغيره من الرسل والأنبياء: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة:136]، نحن أولى بكل خير وحق وعدل، نحن أمة الإسلام التي أكمل الله لها الدين، وأتم عليها النعمة، ورضي لها الإسلام ديناً: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].

الأسباب التي من أجلها خالف النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في صيام عاشوراء

الأسباب التي من أجلها خالف النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في صيام عاشوراء قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود لأسباب كثيرة، وحكم عظيمة. منها: ألا يكون لأولئك القوم المتكسبون بدين الله، المتحايلون على شرائع الله مدخلاً لإثارة الشبهات، فإنهم يقولون: إنما فعلوا ذلك موافقة لنا، ومتابعة لنا، وليس عندهم شيء، وما جاءوا به إنما هو من آثار ديانتنا وكتبنا، فيبلبلون العقول والأفكار، ويروجون الشبهات، وذلك ديدنهم، بل بعد هذه الآيات قد أورد الحق سبحانه وتعالى قوله جل وعلا: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، لأنه لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم زماناً إلى بيت المقدس، وجعلها قبلته، ثم تحول قالوا مقالتهم: إما أن يكون على حق في الأولى فهو على باطل فيما قصد إليه من التوجه للكعبة، وإما أن يكون على باطل فأي دين هذا الذي يكون فيه الخلل والخطأ؟! فرد الله عز وجل عليهم أن ذلك أمر الله وهذا حكمه، وجعل ذلك تميزاً وتفرداً لأمة الإسلام. وإذا نظرنا فإنا واجدون حكماً أخرى: منها كذلك: بيان زيادة الفضل والمثوبة والأجر لأمة الإسلام بزيادة العمل الصالح. ومنها كذلك: منع تسرب الأثر السيئ للموافقة؛ لأن طبيعة النفوس إذا وافقت في أمر وآخر وثالث فإنها تميل بعد ذلك إلى موافقة عامة، وإلى تأثر كبير، فقطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر ذلك. وليس هذا في هذا الوجه فحسب، فقد روى أبو داود في سننه من حديث شداد بن أوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا في نعالكم خالفوا اليهود). وقصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود والمشركين وغيرهم قصداً كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: (خالفوا المشركين) في رواية البخاري، وفي رواية مسلم (خالفوا المجوس، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)، فقصد المخالفة لبيان التميز والتفرد، وأن الذي وقعت به المخالفة هو الكمال الأتم والأفضل؛ لأنه لا يكون في هديه صلى الله عليه وسلم وسنته إلا ما هو الأعظم في تعظيم الله عز وجل، والأفضل في عبادته سبحانه وتعالى. فإذا كان هذا المقصد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في هذا المقام وفي هذه الأيام نذكر بهذه السنة الجليلة العظيمة بصيام عاشوراء، ويوماً قبله أو يوماً بعده، وقد قال أهل العلم: إن صيام الثلاثة أرجح، وصيام التاسع والعاشر بعده، وإفراد العاشر وحده لمن لم يستطع درجة ثالثة، ولم يرد صيام العاشر والحادي عشر وحده، وإن كان فيه المخالفة؛ لأنه وإن كانت فيه المخالفة فإن القصد الأعظم إنما هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) عليه الصلاة والسلام.

وقفات مع آيات تظهر التميز والتفرد

وقفات مع آيات تظهر التميز والتفرد نحن قصدنا بيان أمر المخالفة التي تظهر التميز والتفرد، فوقفات مع قليل من الآيات، ولها نظائر كثيرة لمن تأمل وتمعن. يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104]، آيات واضحات، (لا تَقُولُوا رَاعِنَا) نهي عن لفظة بكلمة واحدة، ما جلالتها وخطورتها؟ ما أهميتها وعظمتها حتى تتنزل فيها آيات تتلى إلى يوم قيام الساعة؟! (لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا)، لم نبدل كلمة مكان كلمة؟ وهل هذا أمر جليل حتى يكون فيه مثل هذا التوجيه المصدر بالنداء الإيماني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟! استمع معي إلى ابن كثير في تفسيره وهو يجلي لنا ذلك، يقول رحمه الله: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا -وهذا لفظه بنصه- يعانون من الكلام ما فيه تورية؛ لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله! فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعنا، يورون بالرعونة، يقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة والطيش والخفة، ينتقصون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستهزئون به، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بذلك طعناً في الدين، فنهى الله عز وجل عن ذلك. قال ابن كثير: وكذلك جاءت الأحاديث بالأخبار عنهم بأنهم إذا سلموا إنما كانوا يقولون: السام عليكم، والسام: هو الموت، قال: والغرض أن الله نهى عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً. فهذه الكلمة لما كان فيها مدخل موافقة، ومزلة اختلال في المعنى، وإرادة إشاعة من اليهود -عليهم لعائن الله- نهانا الله عنها، وأمرنا أن يكون لنا غيرها حتى نتميز ونتفرد، وحتى نبتعد عن كل شبهة ورذيلة كان عليها أولئك القوم، بدلاً من (راعنا) قولوا: (انظرنا) وهي كلمة لا التباس فيها ولا اشتباه، كلمة مكان كلمة، ومع ذلك أمر الله عز وجل بها، وتنزلت بها آياته، فما بالكم بما هو أعظم من ذلك وأجل؟! قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: نهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سداً للذريعة؛ لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، فمطلوب منا أن نقطع الطريق على كل من يريد الإساءة إلى ديننا وإلى نبينا صلى الله عليه وسلم، ويقصد إلى ذلك بالطرق الملتوية، والأساليب المخادعة. ورد: (أن الفاروق عمر بن الخطاب وقعت في يده بعض صحف من التوراة، فحملها ليقرأ منها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحمر وجهه، ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! ويحك والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي). ما أغضبك يا رسول الله من صحف يقرؤها الفاروق الذي أخبرت أنه: (ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره)؟ أويخشى على الفاروق أن يتأثر بتلك الكلمات في تلك الكتب؟! كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في زمان التشريع، وبيان التأصيل للاعتقاد والمبادئ الإسلامية يقول: إن الكمال المطلق فيما آتاني الله عز وجل، وإن الرسل والأنبياء كما أخبر الله عز وجل قد أخذوا العهود والمواثيق على أتباعهم إن أدركوا يوم محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به ويتبعوه. وأنتقل بكم إلى آية أخرى أكتفي بها عن آيات كثيرة، يقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية العظيمة الجليلة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء:44 - 46] هذا هو وصفهم، وأنتقل بكم إلى بيان معاني هذه الآيات من كلام ابن كثير في تفسيره، يقول رحمه الله: يخبر تبارك وتعالى عن اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدعون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الآخرين عليهم السلام في صفة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً من حطام الدنيا. (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) يودون أن تكفروا بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) وهذا إخبار على سبيل التحذير. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) لا يريدون بكم خيراً، ولا يقصدون بكم حسناً، وهو أعلم بهم سبحانه وتعالى ويحذركم منهم. ثم بين وصفهم: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) يتأولون الكلام على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله؛ قصداً منهم وافتراءً، فالذين أولوا وغيروا مراد كلام الله عز وجل ما بالهم لا يغيرون المواثيق والقوانين وصيغ الاتفاقات والقرارات الدولية التي في كل يوم يصدر لها تفسير جديد وتأويل آخر؟ وذلك لا يستغرب على قوم حرفوا كلام الله عز وجل. ثم يقول الله جل وعلا: (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) سمعنا قولك -يا محمد- ولا نطيعك فيه، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم. (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي: اسمع كلامنا ولست بسامع، وذلك على سبيل التنقص والاستهزاء، اسمع ما نقول لا سمعت على سبيل الدعاء، وهذا استهزاء منهم واستهتار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين! بين ما أشارت إليه الآية السابقة: (وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) تحويراً وعطفاً للألسنة لتغيير الكلمات. (وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) ولذلك حذرنا الله عز وجل من هذا. ثم قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: وقال القاضي أبو محمد: هذه الآية تقتضي توبيخاً للمؤمنين على استنامة قوم منهم إلى أحبار اليهود في سؤالهم عن الدين أو في موالاة أو فيما أشبه ذلك. هذه وقفات وومضات مختصرات من آيات يوجد غيرها كثير، تبين أهمية قضية التميز والتفرد، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن التشبه والتحذير منه: (من تشبه بقوم فهو منهم) وكثرت النصوص والآيات والأحاديث المحذرة من تلك الموافقات هنا أو هناك، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما يكون من طائفة من أمته في آخر الزمان: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أي: فمن غيرهم؟

واقع المسلمين مع كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم

واقع المسلمين مع كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم هذه آيات الله عز وجل وكلامه، وهذه أحاديث رسولنا صلى الله عليه وسلم وسنته، وهذه المقاصد الواضحة الجلية، والعلل النصية الشرعية؛ أفيترك ذلك كله لألاعيب السياسة، أو لأضاليل الإعلام، أو لمتطلبات الاقتصاد أو لغير ذلك؟! لو تأملنا اليوم واقعنا فأي شيء نرى في تميز الأمة على المستوى العام في جانب السياسة؟! قضية السلام تقول لنا: كونوا كغيركم لا فرق بينكم وبينهم، بل غيروا كلمات ألسنتكم، وعدلوا مناهج دراستكم، وأصلحوا وسائل إعلامكم؛ حتى لا يكون هناك كلمة واحدة، بل ولا مصطلح واحد يؤذي القوم في مشاعرهم، أو يثير -كما يدعون- العنصرية والحزبية ونحو ذلك، وأي شيء يفعله اليهود الغاصبون المعتدون؟ تقوم الدنيا وتقعد، وتفتح المحاكم وتغلق، والعمل سائر كأن لا شيء في هذه الدنيا؛ لأن القوم يعملون ولا يتكلمون، ولأنهم يحسنون الظلم والعدوان ولا يعرفون معاني حقوق الإنسان، وإذا تأملت فإنك تجد مفارقة عظيمة بين ما يقوله أرباب السياسة من العرب والمسلمين في كلام يتبرءون منه من كل مقاومة، ويبرءون إلى الله عز وجل من كل مخالفة، ويتزلفون ويتقربون بكل موافقة، ويعطونهم كل تنازل ومداهنة، وأما أعداؤهم فلا تسمع منهم إلا مفاصلة، ولا ترى منهم إلا مقاطعة، وهم يعلنون صباح مساء كل ما هو من أصل دينهم، ومن طبيعة حقائق نفوسهم، ومن مصالحهم العليا التي يحرصون عليها ولا يفرطون فيها. أين تميز الأمة المسلمة اليوم في هذا الميدان المهم؟! ولو أردنا أن نفيض لرأينا من السنة في مواقف النبي عليه الصلاة والسلام، وفي مواقف الصحابة في كل المراحل وعبر تاريخنا، ما يدل على أن الأمة المسلمة لم تكن يوماً تعطي الدنية في دينها، ولا تبيع دينها لتشتري به ثمناً قليلاً، فتوافق من حذرها الله سبحانه وتعالى من سلوك طريقهم، وهم اليهود عليهم لعائن الله، الذين اشتروا بدين الله ثمناً قليلاً؛ وباعوا آياته لتحقيق مآربهم وشهواتهم وتسلطهم على الخلق والعباد أجمعين. وإذا جئت إلى ميدان الإعلام وما أدراك ما الإعلام! وهذه الفضائيات المتكاثرة تكاثر الجراثيم والبكتريا، أي شيء تبث علينا؟ هل تريدنا أن نكون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟! هل تذكرنا بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟! هل تبرز لنا القدوات في مصعب وخالد والمثنى والمقداد؟ ماذا تصنع بنا؟ تأتينا بمسخ من فرنسا، وتأتينا بقبح من بريطانيا، وتأتينا بعهر من أمريكا، ثم تبثه علينا، تريد أن تقول لنا: كونوا كهؤلاء، وصيروا مثلهم، أليس هذا درب واضح من دروب التشبه والموافقة والتشهير والإعلان والإذاعة والإشاعة لتلك الأخلاقيات والعادات والرذائل الاجتماعية عند القوم؟ كيف يجتمع شباب وشابات تحت سقف واحد أياماً وليالي، آكلين شاربين، مع الضحكات والعناقات والقبلات وغير ذلك؟ ثم يزعم أولئك أنهم عرب وأنهم مسلمون، وينفقون أموالاً من أموال المسلمين ومن كسبهم وهم من أهل العروبة والإسلام، نسأل الله عز وجل أن يهديهم وأن يكفينا شرهم. أي عقل هذا؟ أي فعل هذا؟ {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر:2] كأننا عدنا إلى حال اليهود نحن اليوم، بهذا الفعل نخرب أخلاقاً، وندمر عادات وأعرافاً، ونخترق حقائق الإيمان وثوابت الاعتقاد، ونذيب معالم الفضيلة والحشمة والحياء، بماذا؟ باختيارنا؟! نعم، بأموالنا؟! نعم، وللأسف بتشبهنا واقتدائنا بغيرنا، حتى في الفسق والفجور لم يكن عندهم قدرة أن يكونوا فاسقين إلا على سنن أسيادهم وقدواتهم من أولئك القوم شرقاً وغرباً. ولو جئت في ميادين أخرى لوجدت الأمر كذلك، انظر إلى أحوال الاقتصاد في بلاد الإسلام، والربا ضارب أطنابه في جل بقاعها، والمعاملات المحرمة من القمار الذي يذاع على تلك الشاشات الفضية، والمسابقات المتضمنة للرهان والقمار والمحرمات، أصبحنا كأن لا فرق بيننا وبين شرق ولا غرب، ولا يهود ولا نصارى، ولا مشركين ولا مجوس، أي شيء يريد هذا الإعلام وهذا الاقتصاد أن يجرنا إليه؟! أين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين أمة القرآن الكريم؟ أين أمة السنة المطهرة؟ أين أمة السلف الصالحين؟ أين أمة الأخلاق والفضائل؟ أين أمة المبادئ والعقائد؟ حري بنا أيها المسلمون أن ندرك الخطر وأن نجتنبه، وأن نحذر منه وأن نحذر غيرنا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا الشرور والآثار والمفاسد العظام، وأن يمن علينا بالتشبث بنعمة وشريعة الإسلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الوقوف أمام الباطل من ضروريات الدين

الوقوف أمام الباطل من ضروريات الدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن. وإن ما ذكرناه -معاشر الإخوة المؤمنين- من قصد المخالفة والتميز والتفرد، وما أشرت إليه من هذه الأحوال المخالفة في واقع أمتنا، لا نذكره تأييساً للنفوس، ولا تقنيطاً لها، لا من رحمة الله ولا من تغيير هذا الواقع، فإن الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وإننا اليوم مع تعاظم هذه الصور المنكرة، والتيارات الجارفة نرى بحمد الله يقظة في القلوب والعقول تؤدي إلى الاعتصام بدين الله كتاباً وسنة، وإلى التحرز من هذه الموجات التغريبية التي تجر الناس بعيداً عن حياض دين الله عز وجل، ولذلك إنما نقول هذا لنبعث الهمة على المخالفة، والقوة في الثبات في مواجهة التيارات التي تذيب وتغير كل خصائص أمتنا؛ لتنزعها وتجعلها مع القوم دون أن يكون لها أي أصالة، ولا أي قوة، ولا أي ثبات، ولا أي قدرة على التأثير الإيجابي في غيرها. ومن جهة أخرى نذكر بها لنحذر من خطر هذه الهجمة، وعدم التهاون فيها، وعدم النظر إليها على أنها ضروب من الأفكار، أو على أنها مشاريع للاستثمار أو نحو ذلك، فإننا لا نحسب أن العاقل المتأمل ينظر إليها إلا ويرى فيها قصداً لإماتة الغيرة، وإضعاف التميز في هذه الأمة بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، ثم كذلك لننظر إلى أمر مهم وهو عدم السماح باختلال الموازين، واختلاف المقاييس، فلا نوافق ما يشيع في الإعلام، ولا ما يتردد في أروقة السياسة، عن أولئك النفر الذين ما زالوا هم المعادلة الراجحة في واقع أمتنا اليوم في أرض فلسطين، من الثابتين يوم تراجع غيرهم، ومن القائمين بالحق يوم داهن الناس فيه وتخلوا عنه، ومن المتصدين لإعلاء كلمة الله عز وجل يوم ترك ذلك كثير من المسلمين، ومع كل مواقفهم العظيمة في وجه اليهود المعتدين الغاصبين الظالمين، في كل مواقف القوة والإيمان والجرأة؛ نرى من يتهمهم بأنهم انتحاريون، وبأنهم يضيعون مصالح الأمة، وبأنهم لا يقدرون ظروف السياسة، وبأنهم لا يعرفون أوضاع الاقتصاد، وبأنهم كذا وكذا، ويتداولون كلمات الإرهاب وغيرها من المصطلحات، فإذا بها تروج بيننا، وتتردد عندنا، ولا نكاد ندرك أهمية مواقفهم وأهمية وضرورة ووجوب إسنادهم وإعانتهم، فإنما هم صف متقدم في وجوه العدو الأكبر الذي يتربص بنا اليوم الدوائر من كل جهة، وعبر كل وسيلة وطريقة من سياسة واقتصاد وإعلام واجتماع وغيره، فينبغي لنا أن ننتبه لذلك، وأن نعرف لأولئك القوم فضلهم وأثرهم، وأن يكون لنا على أقل تقدير بأعماق قلوبنا وصادق دعائنا فضلاً عن نصرتنا بكل حال من الأحوال ما يثبتهم، وما يجعلنا أيضاً نعتز بذلك ونفتخر، ونرى نموذجاً إن كان الآخرون في أقصى الأرض وشرقها قالوا: إن الضغوط قد أجبرتنا على أن نغير أو أن نبدل هنا أو هناك، فما بال الذين هم في جوف المحنة وفي شدة القسوة ثابتون! ثبتوا فثبتهم الله عز وجل، ونصروا دين الله فنصرهم، وأصبحوا حجر عثرة تدور الأحداث كلها على مدار وعلى محور هو: كيف يتم التخلص من هؤلاء؟! وكل هذه الأراجيف والأحابيل والألاعيب السياسية والاقتصادية إنما تدور على هذا المعنى. فالله الله في دينكم! والله الله في أمتكم! والله الله في كتاب ربكم! والله الله في سنة نبيكم! والله الله في إخوانكم المجاهدين الثابتين على مواقع الثغور في أرض فلسطين وفي غيرها! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يارب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم أجمعين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

أنسام الإيمان ونفحات الرحمن

أنسام الإيمان ونفحات الرحمن لقد فرض الله سبحانه وتعالى الحج على عباده، وجعله ركناً من أركان الإسلام، فيه يغفر الذنوب والآثام، وبه نتذكر يوم الحشر والزحام، فلزاماً على من أراد الحج أن يتعرف على آدابه وسننه، وأحكامه وأركانه، حتى يقوم بهذه العبادة على أكمل الوجوه، وحتى ينال ثمارها الموعودة، ومقاصدها المرصودة.

وصايا قبل الحج

وصايا قبل الحج الحمد لله، الحمد لله الذي جعل الحج ركناً من أركان الإسلام، وعملاً تغفر به الذنوب والآثام، وطريقاً موصلاً إلى الجنة دار السلام، ومذكراً بحقيقة الدنيا وما فيها من الزينة والحطام، ومعلقاً القلوب بالآخرة، ومذكراً بيوم الحشر والزحام. أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، نحمده جل وعلا حمداً على كل حال وفي كل آن، فله الحمد في الأولى والآخرة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه رحمة للعالمين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هذه أنسام الإيمان ونفحات الرحمن تأتيكم في هذه الأيام المباركة ونحن نستقبل فريضة الحج العظيمة الركن الخامس من أركان الإسلام، ووقفتنا مع إيجاز القول في: حكم وأحكام الحج؛ عل ذلك أن يكون مبصراً ومذكراً ومعلماً لنا ومعيناً على أداء فرضنا.

إخلاص النية

إخلاص النية وأول ما يذكر قبل الحج وقبل الشروع في أعماله وأنساكه: أولاً: النية الخالصة: فجرد نيتك لله عز وجل، وخلص قصدك لمرضاته سبحانه وتعالى، ونق قلبك من شوائب الإرادات الأخرى والنوايا التي لا تكون خالصة لله عز وجل؛ فإنه سبحانه وتعالى يحب من الأعمال ما كان خالصاً، وكما ورد في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، فجرد نيتك وخلصها لله سبحانه وتعالى.

الوصية النافعة لأهله وذويه

الوصية النافعة لأهله وذويه ثانياً: الوصية النافعة: عليك أن توصي أهلك وذوي قرابتك ومن تخلفهم وراءك في بيتك ومع أهلك بالطاعة وتقوى الله سبحانه وتعالى، والإقلاع عن المعاصي. وأن توصي أيضاً بما يلزمك من إثبات الديون والتعريف بالحقوق ونحو ذلك مما يحسن بالمرء المسلم أن يكون موصياً به في كل وقت، ولاسيما عند السفر أو عند الذهاب إلى مكان بعيد، أو نحو ذلك مما يعرض للناس، فإن الوصية قد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها وأوصى بسرعة كتابتها. وهذه الوصية التي توصي بها أهلك مهمة جداً، فإنه من غير المنسجم مع التكامل المطلوب أن تكون ملبياً في عرفات، ورامياً للجمار لحرب الشيطان في منى، وأن تكون مضحياً لله سبحانه وتعالى في المشاعر المقدسة، وأنت تخلف في بيتك منكرات ومحرمات، ربما يلحقك بعض إثمها وشيء من وزرها؛ لأنها تقع في أهلك، وأنت الولي عليهم، والمكلف بهم والمسئول عنهم، فإن المسلم ينبغي أن يكون عمله منسجماً متكاملاً، فطاعة هنا ينبغي أن تقابلها طاعة هناك، وينبغي أن يحرص على كل الأمور المعينة على قبول الحج وتمامه، ومن ذلك أن يغير ويمنع كل المنكرات التي باستطاعته أن يمنعها، ومن آكد ذلك ما هو في بيته وفي أهله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته).

النفقة الطيبة

النفقة الطيبة ثالثاً: النفقة الطيبة: (فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وإن الكسب الحلال هو الذي ينبغي أن يحرص عليه المسلم لاسيما في هذه الأعصار التي اختلط فيها الحابل بالنابل، ودخلت شوائب الحرام وكثير من الشبهات في مكاسب الناس، فأولى به أن يحرص على ذلك. وأولى الأولويات في هذا أن يحرص على أن تكون النفقة في أعمال الفرائض وفي أعمال البر والإحسان من الكسب الحلال الخالص الطيب، حتى يكون ذلك مؤذناً بالقبول وألا يرد، كما ورد في الحديث الذي رواه الطبراني -وإن كان فيه ضعف- بأن الذي يحرم ويلبي وقد أخذ نفقته من كسب حرام يرد عليه: (لا لبيك ولا سعديك، نفقتك حرام، ومركبك حرام)، أو كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

الرفقة الصالحة

الرفقة الصالحة رابعاً: الرفقة الصالحة: فإنها معينة على معرفة الأحكام، ومعينة على استحضار المعاني الإيمانية التربوية في هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة، فإن المرء ينبغي أن يحرص على كل ما ينفعه في هذه الحياة الدنيا، وأن يحرص بشكل أكبر على ما ينفعه في أمور دينه في أثناء حياته الدنيا، وأن يحرص أكثر وأكثر على ما يصح به أداء فرضه والقيام بالواجب الذي لا محيد عنه. فينبغي أن يستعين بعد الله عز وجل بالرفقة الصالحة التي تعينه وتذكره إذا نسي، وتكون معه إذا ذكر، فتحيي معاني الإيمان في قلبه، وتشحذ عزمه وتقوي همته، وتذكره بالآخرة، وتعرفه حقيقة الدنيا، وينبغي ألا يصحب أهل اللهو والغفلة، فيكون في مواضع الذكرى وإذا بهم يسرحون به في أودية الدنيا، يكون في مواضع التذكر للآخرة وإذا به يغوص في أوحال الشهوات وفي الذكريات مع المحرمات، وغير ذلك من لغو الكلام وباطله مما ينبغي أن يتنزه عنه المسلم في كل حال وآن، وفي مثل هذه الأحوال والأوقات بشكل آكد، فهذه أمور ينبغي تذكرها.

الإحرام

الإحرام وأما أعمال الحاج فهي أولاً: الإحرام: وهو الركن الأول من أركان الحج.

سنن الإحرام

سنن الإحرام والإحرام له سنن ينبغي أن يتذكرها المحرم. منها: الاغتسال لهذا الإحرام، وكذا يسن الاغتسال للمرأة وإن كانت حائضاً أو نفساء كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عائشة رضي الله عنها، وكما أمر أسماء بنت عميس وقد ولدت أو نفست، فهذه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. السنة الثانية: التنظف بإزالة الشعر: بنتف شعر الإبط، وحلق شعر العانة، وتقليم الأظافر، ونحو ذلك من سنن الفطرة الواردة في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي سنة عنه عليه الصلاة والسلام. السنة الثالثة: التطيب قبل الإحرام؛ لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل إحرامه، ولحله قبل طوافه عليه الصلاة والسلام)، فإن التطيب قبل عقد النية سنة من السنن، وإن بقي أثر الطيب بعد ذلك فلا شيء فيه، فإن التطيب متى وقع قبل الإحرام فهو سنة لا حرج منه. والأمر الرابع وهو من الواجبات: التجرد من المخيط بالنسبة للرجال، والسنة أن يلبس إزاراً ورداءً أبيضين نظيفين، فإن هذا سنة، وإن لم يجد الرداء الأبيض فيلبس ما شاء على ألا يكون مخيطاً يفصل على العضو من أعضاء الإنسان، والمرأة لا تدخل في هذا الحكم، بل تلبس المخيط ولا شيء عليها في لبس المخيط، ثم ينبغي لها أن تتنبه لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، أي في حال إحرامها لحجها أو عمرتها، والقفازات هي التي تفصل لتلبس في الأيادي، والنقاب هو ما يكون مفصلاً ليكون غطاءً للوجه، وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كنا إذا مر بنا الرجال أسدلنا الخمار على وجوهنا) أي: أنها لا تنتقب ولكن إن اختلطت بالرجال غطت وجهها، ولا شيء عليها وإن مس هذا الخمار وجهها. ثم في أمور الإحرام: النية والإعلان بها سنة في هذا المقام، أن يعلن نيته ويحدد نسكه إن كان متمتعاً أو كان قارناً أو كان مفرداً، وإن كان ذا مرض أو ذا حاجة أو نحو ذلك اشترط في نيته وقال: (فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني)، ثم بعد ذلك يشرع في التلبية من وقت إحرامه. وهذه جملة من السنن وفي بعضها واجبات. وفيما يتعلق بالإحرام الذي ينبغي أن يكون بالنسبة للقادم بنية النسك حجاً أو عمرة، فينبغي أن يكون عند المواقيت المعروفة، ولا يجوز تجاوز هذه المواقيت من غير إحرام؛ فإن تجاوزها رجع إليها، أو إن أحرم بعدها لزمه في ذلك دم ليجبر ترك إحرامه في ميقاته.

معان عظيمة في الإحرام

معانٍ عظيمة في الإحرام والإحرام فيه معان عظيمة ودروس جليلة، فإنه ينبغي أن يذكر المؤمن بالتجرد لله عز وجل، وينبغي أن يذكر المؤمن بما ينبغي أن تكون عليه حقيقة علاقته بأمور الدنيا وعلائقها، فإنه كما يسهل عليه أن ينزع ثوبه وأن يتجرد لله عز وجل، فكذلك ينبغي أن يكون في قلبه وفي نفسه القدرة والعزيمة على أن يتخلى عن الدنيا وقتما يشاء امتثالاً لأمر الله عز وجل، وأن الدنيا يمكن أن يتخلى عنها ما دام الأمر في مرضاة الله سبحانه وتعالى. ثم يذكره بحقيقة الدنيا وبحقيقة ما ينتهي إليه عندما يموت وينتقل إلى الحياة البرزخية، فإنه لا يخرج من هذه الدنيا إلا بكفن يقارب ويشابه ذلك الإزار أو الرداء الذي يلبسه، فليتذكر المؤمن هذه المعاني العظيمة التي تعرفه بحقيقة الدنيا، وتربطه بالآخرة، وتبين له كيف ينبغي أن يكون فيما يطلبه الله عز وجل منه من أمور يتجرد عنها، ومن تضحيات يقدمها، ومن سبل يبذلها لنيل رضوان الله سبحانه وتعالى، وتحقق أدلة عبوديته.

محظورات الإحرام

محظورات الإحرام وهنا أيضاً تذكير آخر يتعلق بمحظورات الإحرام التي ربما يكثر سؤال الناس عنها ويغفل بعضهم عنها، ومن هذه المحظورات: أولاً: قص أو حلق الشعر أو إزالته بأي صورة من الصور: إذا أحرم المحرم وأعلن نيته؛ فإن هذا من محظورات الإحرام. والثاني: هو تقليم الأظافر أيضاً. والثالث: لبس المخيط بالنسبة للرجال، والنقاب والقفازين بالنسبة للنساء. وكذلك تغطية الرأس بملاصق يلاصق الرأس، والتطيب بعد الإحرام، وقتل الصيد، وعقد النكاح، فإن عقد النكاح للمحرم باطل، والمباشرة فيما دون الفرج، والأخير هو النكاح والجماع الذي يفسد ويبطل به الحج، فهذه محظورات الإحرام. فإن قص الشعر أو قلم الأظافر أو تطيب أو قص الرأس أو ما يلحق بهذه، فإن عليه فدية صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه لما آذاه هوام رأسه فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لعله آذاك هوام راسك؟ قال: نعم، قال: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك -أي اذبح- شاة لله عز وجل). وأما ما يتعلق بعقد النكاح أو الخطبة فإنها من محظورات الإحرام لكن لا فدية فيها، وإنما يلحق المحرم فيها الإثم، وأما المباشرة فيما دون الفرج فإنه إن أنزل وجب عليه ذبح بدنة، وإن كان دون ذلك كان عليه ذبح شاة أو بدنة أيهما وقع منه؟ وأما الجماع فإنه يبطل الحج، ويوجب عليه بدنة ويوجب عليه أن يحج مرة أخرى بدلاً من هذا الحج الذي فسد. ثم ينبغي أن يتذكر المسلم أن هذه الأمور من المحظورات تذكره بدقة الاستجابة لله عز وجل، فإن الناس في هذه الأوقات يكثر منهم السؤال عن تغطية الرأس، أو عن الطيب الذي قد يكون موجوداً في بعض المساحيق أو نحو ذلك، ويحرصون على التوقي والتجنب لكل ما قد يجرح إحرامهم أو يقدح في حجهم، وهم على ذلك حريصون، وعنه سائلون وبه مهتمون معتنون. لماذا؟ لو سألت أحدهم: وما في تغطية الرأس وأي شيء يضر فيها؟ لكنه يقول: إني ألتزم أمر الله، إني أحب وأحرص على ألا أخالف شيئاً من هذه الأمور، وهذا الأمر فيه تعويد وتربية على أن المؤمن ينبغي أن يستجيب لله عز وجل في دقيق الأمور وجليلها، وصغيرها وكبيرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وهكذا يتعلم المسلم هذا المعنى في كل منسك من المناسك، وفي كل خطوة من الخطوات.

أعمال يوم التروية

أعمال يوم التروية ثم نمضي إلى الشروع في الحج؛ لأن المحرم الذي أحرم أول أمره إن أراد التمتع فإنه يعتمر بطواف وسعي ثم يحل ثم يحرم مرة أخرى لوقت الحج، وأما المفرد فإنه يحرم لحجه فحسب. فهذا الإحرام يقع في الغالب لمن أراد اتباع السنة في يوم الثامن من شهر ذي الحجة وهو يوم التروية، فيمضي فيه الحجاج إلى منى ليس لهم في ذلك اليوم من عمل إلا المقام بمنى وهو مقام سنة لا واجب ولا فرض، ويصلون فيها الفروض الخمسة قصراً من غير جمع، ويكثرون من الذكر والدعاء والاستغفار والتوبة، وشغل الأوقات بالنافع من الأعمال الصالحات، والتفقه في الأحكام المتعلقة ببقية المناسك في الأيام التي بعده.

الوقوف بعرفة

الوقوف بعرفة فإذا كان يوم التاسع -وهو يوم عرفات- شرع الحجاج في التوجه إلى عرفات، والسنة أن ينزل بنمرة قبل الزوال، وألا يدخل عرفة إلا بعد الزوال متى تيسر ذلك؛ فإن لم يتيسر فإنه لا بأس أن يدخل عرفات ولو قبل الزوال، لكنه يصلي بعد الزوال صلاة الظهر والعصر قصراً مع التقديم لهما، ويستمع لخطبة الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خطب المسلمين في هذا الموقف خطبته العظيمة، وهي خطبة حجة الوداع التي ركز معالم الإسلام العظيمة فيها. وبعد هذا الوقت ينشغل العبد المؤمن في هذا اليوم العظيم الذي تجتمع فيه الحشود وتختلط فيه الأصوات وتتخالف فيه اللغات، ويكون كل المسلمين فيه على زي واحد في صعيد واحد، يبتغون مبتغىً واحداً وهو رضوان الله عز وجل ومغفرة الذنوب، فينبغي أن يشتغل بالذكر والدعاء، وأن يلح في الدعاء والتضرع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له). يوم عرفة الذي يغفر الله عز وجل فيه ذنوب العباد. يوم عرفة الذي يباهي الله عز وجل فيه بهؤلاء العباد ملائكة الرحمن سبحانه وتعالى. يوم عرفة الذي يدحر فيه الشيطان ويخزى لما يرى من تذلل العباد وتضرعهم لخالقهم ومولاهم سبحانه وتعالى. يوم عرفة الذي يذكر بيوم المحشر ويوم القيامة وانتظار الناس للفصل في يوم القضاء الأعظم بين يدي الجبار سبحانه وتعالى. يوم عرفة الذي يتذكر فيه الناس أنه لا مبتغى ولا غاية ولا شيء يشد القلوب، ولا يصرف الألباب، ولا يعلق الأبصار ولا ينطق الألسن إلا هو سبحانه وتعالى. يوم عرفة يوم يغتسل فيه العبد من ذنوبه وآثامه بإذن الله، ويغسل بدمعه كل ما سلف، بندم صادق لله، ويغسل عن قلبه كل الآثام والشهوات والشبهات بإخلاص العبودية لله، يوم تغتسل فيه الأمة من كل أسباب الفرقة التي فرقتها من وطنيات وقوميات ولغات وحدود فتجتمع على صعيد واحد لتقول: نحن أمة الإسلام، نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نحن أمة التوحيد، نحن أمة الآخرة التي تجعل الدنيا معبراً إليها وحرثاً وزرعاً لها، نحن أمة التضرع والعبودية والذلة لله، نحن أمة القوة المستمدة من الصلة بالله سبحانه وتعالى. يوم عرفة يوم عظيم من أيام الله عز وجل ينبغي أن تشتاق له القلوب، وأن تذرف له الدموع، وأن ترفع فيه الأكف، وأن تسجد فيه الجباه، وأن تتعلق القلوب والنفوس بالله سبحانه وتعالى. يوم عرفة ليس يوماً للأكل والشرب، ليس يوماً للحديث والكلام، بل هو يوم من أيام الله عز وجل ينبغي أن يخرج فيه الإنسان عن كل شيء يصرفه عن تعلقه بالله وتذكره وطلبه وابتغاء مرضاته، وخوفه وخشيته من عقاب الله، وتذكره يوم المحشر العظيم بين يدي الله. يوم عرفة يوم عظيم نسأل الله عز وجل أن يبلغنا إياه، وأن يغفر لنا فيه الذنوب والآثام، ومن لم يشهد يوم عرفة فإن الله جعل له من ذلك بعض عوض وشيء من عزاء، فإن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب عامين: عاماً قبله وعاماً بعده، فأي فضل عظيم مثل فضل هذا اليوم؟ نسأل الله عز وجل أن يسهل أمر الحجاج، وأن يتقبل منا ومنهم، وأن يتقبل من كل مسلم يبتغي رضوان الله عز وجل. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الدفع إلى مزدلفة والمبيت بها

الدفع إلى مزدلفة والمبيت بها الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والمصلحين والدعاة. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن موسم الحج هو الموسم الأعظم لزاد التقوى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]. ما زلنا في هذا الموقف العظيم في يوم عرفة، فإذا غربت شمس ذلك اليوم دفع الناس إلى مزدلفة، ويجب أن يبيتوا فيها إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر سن للحاج أن يكون إلى جوار المشعر الحرام، وأن يتوجه إلى القبلة بالذكر والدعاء والتضرع لله سبحانه وتعالى. وأما النساء والضعفة وذوي الحاجات فقد رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا من منى بعد منتصف الليل إذا احتاجوا إلى ذلك، وأما السنة فهي أن يصلي الفجر بمزدلفة، وأن يدعو ويذكر الله حتى يسفر الصبح جداً، أي: حتى يظهر بياض وضوء الصبح جداً.

الدفع إلى منى يوم النحر

الدفع إلى منى يوم النحر ثم يدفع إلى منى فيرمي جمرة العقبة من حصيات يأخذها من مزدلفة أو من منى، فإنه لا اختصاص للمكان بجمع الحصيات ولا يشترط أن يجمع حصيات كل الأيام كما يصنع بعض الناس، وإنما يأخذ سبع حصيات، فإن هذه الشعائر تعبدية وينبغي أن نلتزم فيها بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أيضاً معان تربوية ينبغي ألا نغفل عنها. فيرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم بعد ذلك يعود فينحر هديه إن كان متمتعاً أو قارناً، أو كان مفرداً وأراد التطوع، ويسن له أن يأكل من هديه ولو قليلاً، لقول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]. ولا يجوز الأكل مما يذبح فدية لجبر واجب أو لجبر محظور من محظورات الإحرام، فإن الفدية ينبغي أن تكون كلها لفقراء الحرم. ثم يحلق رأسه أو يقصره.

التحلل وطواف الإفاضة

التحلل وطواف الإفاضة ثم يمضي بعد حلقه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج، ويسعى بعده سعي الحج وهو الركن الرابع من أركان الحج، فإن كان قد سعى قبل يوم عرفة فإنه لا سعي عليه؛ لأنه يجوز تقديمه، وأما إن لم يكن سعى فإنه يسعى بعد طواف الإفاضة، والسعي لا يكون إلا بعد طواف صحيح، سواءً كان هذا الطواف سنة كطواف القدوم ويجعل بعده سعي الحج، أو كان واجباً، أو كان تطوعاً، أو كان ركناً؛ فإن السعي لا يقع إلا بعد طواف صحيح. فإذا فعل ذلك، أي: إذا رمى جمرة العقبة، وحلق أو قصر، وذبح هديه، وطاف طواف الإفاضة فإنه يكون قد تحلل تحللاً كاملاً، أما إذا فعل ثلاثة من هذه الأمور أو اثنين لمن لم يكن عليه هدي أو ذبح فإنه يكون تحلل التحلل الأول الذي يبيح له كل شيء من لبس المخيط والتطيب ونحو ذلك، ويبقى محظوراً عليه معاشرة النساء. وهذا ينبغي أن يتنبه له الناس؛ لأنهم قد يؤخرون بعض الأركان عن يوم النحر، وهذا لا شيء فيه، فإن الأيام الثلاثة كلها موضع للطواف وللسعي ولا شيء في ذلك بإذن الله عز وجل. وهذه الأعمال ترتيبها: أن يرمي جمرة العقبة، ثم يذبح هديه، ثم يحلق أو يقصر ثم يطوف، وإن قدم شيئاً وأخر شيئاً فلا شيء عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما سئل عن شيء قدم أو أخر في يوم العيد أو يوم النحر إلا قال: (افعل ولا حرج).

أعمال أيام التشريق

أعمال أيام التشريق ثم بعد ذلك يبقى له أيام التشريق الثلاثة؛ وليس فيها من عمل من أعمال وأنساك الحج إلا رمي الجمار في كل يوم ثلاث رميات، يبدأ بالصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى، ويسن له بعد رمي الأولى أن يتنحى قليلاً وأن يتوجه إلى الكعبة وأن يدعو الله عز وجل، وكذلك يفعل بعد الجمرة الوسطى، وأما الكبرى فإنه لم يثبت بعدها عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، وكذلك يفعل في اليوم الثاني، وهو يوم الثاني عشر. وقد رخص بعض أهل العلم عند الزحام الشديد أن يرمي قبل الزوال إذا احتاج إلى ذلك، والسنة الثابتة أن يرمي بعد الزوال؛ فإن أراد التأخر إلى اليوم الثالث فهو أفضل لتعظيم الأجر وزيادة الثواب إن شاء الله عز وجل؛ لأن الله قال: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، فإنه يجوز له أن يعجل ويجوز له أن يتأخر، فإذا تأخر ينبغي أن يرمي الجمار الثلاث في اليوم الثالث كذلك، وبذلك يتم حجه بإذن الله عز وجل، ويكون أدى الأركان الأربعة وهي: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، وسعي الحج، ويكون قد أدى أيضاً الواجبات من المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى ورمي الجمار، وهذه كلها ينبغي ألا يترخص فيها وألا يفعلها على جهل، فإن بعض الناس يرمي مرة واحدة للأيام الثلاثة في مكان واحد، أو يرمي بطريقة مختلفة حيث يبدأ بالكبرى قبل الصغرى وهكذا، فإن هذا كله قد يفسد عليه أداء واجب من واجبات الحج. وينبغي أيضاً أن يتنبه الحاج إلى المعاني الإيمانية والتربوية في هذه المناسك الكثيرة، فإن الذبح والأضحية قد مضى معنا في الجمعة الماضية وفي قصة إبراهيم خلال أسابيع سلفت ما فيها من المعاني التي يتذكرها المؤمن، من أنه ينبغي أن يتذكر استسلامه لله عز وجل، وأن أمره كله موكول إلى أمر الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وأن يتذكر أنه ينبغي أن يعود نفسه أن يضحي وأن يبذل كل شيء ما دام في سبيل الله عز وجل. ورجم الشيطان أو رجم الجمار تذكير واستعانة بالله على حرب الشيطان، متحقق من عداوته إياه، وعارف بترصده له في طريقه إلى طاعة مولاه، فينبغي أن نحقق هذه المعاني كلها، وأن نتذكر وحدة المسلمين.

وصايا أثناء أداء فريضة الحج

وصايا أثناء أداء فريضة الحج فينبغي أن نوصي أنفسنا أيضاً، وأن يتواصى الحجاج بأمور كثيرة في أثناء الحج، منها: أولاً: الحرص الشديد على استغلال الأوقات في الطاعات بالذكر والاستغفار أو الصدقة، أو إعانة الحجاج أو خدمتهم أو نحو ذلك، وينبغي ألا تكون الأيام أيام كلام ولغو باطل، أو أيام نوم وكسل؛ فإنها أيام مباركة وأيام موسم طاعة ومغفرة، فينبغي أن يغتنمها العبد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ثانياً: ترك المنكرات، فإن المنكرات في مثل هذه الأماكن وفي مثل هذه الأزمنة وفي مثل هذه الشعائر تكون أقبح ما يكون من العبد المؤمن، فكم ترى قبح الشتم واللعن الذي تراه من بعض الحجاج أو من بعض الموجودين في المناسك، وكم يكون قبح الآثام التي يرتكبها بعض الناس ولو عدوها من المكروهات، كالدخان أو الشيشة أو بعض ما يفعلونه ويرونه ويسمعونه ويمارسونه من أمور فيها نوع من المخالفة لأمر الله عز وجل. ثالثاً: ينبغي أن يتذكر الجميع الحرص على أداء الفريضة على وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً، ويأخذ الأهم فالأهم، فإن العزائم مطلوبة بإذن الله عز وجل والرخصة إنما هي للعذر؛ لأن بعض الناس يحب أن يأخذ الرخص، أو أن يجمع الرخص من كل المذاهب، ومن ترخص -أي: جمع رخص كل مذهب- فقد تزندق، كما قال بعض أهل العلم. ينبغي أن يكون في أمر عبادته جاداً آخذاًَ بالعزائم، فهذه عبادة وطاعة لله، فهذا أمر يطلع عليك فيه الله، وهذا أمر تقدمه لله، فهل إذا أردت أن تقدم لرئيسك في العمل أو لوالدك، أو لنحو ذلك، هل تقدم له مختصراً لما تقدم أو مجتزئاً له أو مسرعاً فيه؟! إنك تحرص على الإتقان والإكمال، فأولى بنا أن نكمل أعمالنا التي نتقدم بها؛ لنيل رضوان الله عز وجل، ولإثبات عبوديتنا لله سبحانه وتعالى. والأمر الأخير: ينبغي أن يتواصى المسلمون بالتراحم فيما بينهم وترك التزاحم، فينبغي أن يكون المؤمن رءوفاً بإخوانه المسلمين، حريصاً على مصلحتهم، مقدماً لهم الخير، فإن الحج صورة تبرز الأمة الإسلامية بكل محاسنها ومساوئ أهلها عندما لا يكونون متبعين لأمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، فإذا رأينا اختلافاً وتنازعاً وشحناء وبغضاء وتفرقاً، فإن هذه هي أدواء الأمة التي تظهر في صفوة من أبنائها عندما يجتمعون في مكان واحد، فينبغي لنا أن نحرص على إبداء روح الأخوة والتآلف، وأن نحرص بالذات على أهل الإسلام من الديار النائية البعيدة، أن نشعرهم بأننا وإياهم أمة واحدة، وأن نرى المسلم القادم من الصين أو من أدغال أفريقيا أو من أقاصي الشرق أو الغرب، فنسلم عليه ونعتنقه ونذكر له ما يعرف من كلمات الإسلام ليذكر وليشعر بهذه الوحدة، فإن موقف الحج موقف عظيم. نسأل الله عز وجل أن يسهل أمور الحجاج والمعتمرين، وأن يؤمنهم، وأن يجعل حجهم سهلاً ميسوراً، وأن يجعله متقبلاً مبروراً. ونسأل الله عز وجل أن يعين القائمين على خدمة ضيوف الرحمن، وأن يجزيهم خير الجزاء، وأن يوفق كل عامل لخدمة الإسلام والمسلمين أوفى وأجزل الجزاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يصرف كل أسباب العناء والشقاء أو أسباب الفتنة والخلاف عن أمة الإسلام وعن حجاج بيت الله الحرام. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً خالصاً، ولساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وطرفاً دامعاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا واشرح صدورنا، ونور قلوبنا، وثبت على الحق أقدامنا، واختم بالصالحات أعمالنا، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أنزل رحمتك ولطفك بعبادك المضطهدين والمعذبين في سائر البقاع يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولاتنا لهداك واجعل عملهم في رضاك، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

الأرباح والخسائر

الأرباح والخسائر رأس مال الإنسان هو عمره، فإذا حرص عليه وتاجر به في الأعمال الصالحة فقد أفلح وأنجح، وإن أنفقه في غير ذلك فقد أفلس وخسر خسارة لا خسارة بعدها؛ فيجب على كل إنسان أن يستغل عمره في طاعة الله عز وجل، وألا يضيع شيئاً من وقته في غير فائدة.

الوقت رأس مال الإنسان

الوقت رأس مال الإنسان الحمد لله خالق الأرض والسماوات، رازق الخلق والبريات، جعل شهر رمضان محلاً لتنزل الرحمات، وإفاضة البركات، ومضاعفة الحسنات، ومحو السيئات، ورفع الدرجات، وله الحمد سبحانه وتعالى ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأرباح والخسائر موضوع حديثنا، ورغم أننا في شهر رمضان، وفي فريضة الصيام، إلا أنني لن أذكر شيئاً يتعلق بذلك، بل سأذكر أموراً، وأجوراً وفضائل أخرى؛ ليلتفت النظر إلى عظمة الأرباح، وكذلك إلى فداحة الخسائر من جهة أخرى. قال يحيى بن معاذ رحمه الله: الدنيا حانوت المؤمنين، والليل والنهار رءوس أموالهم، وصالح الأعمال بضائعهم، وجنة الخلد أرباحهم، ونار الأبد خسرانهم. ذلك إيجاز من مؤمن عابد عالم يبين أن الدنيا حانوت المؤمنين، فالدنيا كلها ليست شهراً من أعوامها، ولا وقتاً من أوقاتها، ولا حالاً من أحوالها، ولا بلداً من بلادها، إنما الدنيا حانوت المؤمنين، ورأس المال هو الليل والنهار، والأيام والأعوام، وكل لحظة من اللحظات، وكل ساعة من الساعات؛ كلها رأس مال يمكن أن تنفقه وتأخذ كسباً، أو تبدده وتعود بخسران. فما هي هذه البضائع التي نعمل فيها؟ إنها الأعمال الصالحة التي لا تقتصر على زمان، ولا تختص بمكان. ثم النتيجة في الآخرة هي إما الربح: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وإما الخسارة فهي أفدح خسارة وأعظمها: {النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] نسأل الله عز وجل السلامة. وهذه الكلمات نتبعها بأخرى فيها وصية نجعلها مفتتحاً لحديثنا هذا، هذه الوصية تقول: خذ العمر في أوله، واعمل منه في أفضله، وائت باجتهادك بأتمه وأكمله، واسع سعي من يخاف أن يقطع عن المنزل ويحبس عنه فلا يصل، قبل أن ينقل جلدك -أي: يبلى ويفنى- ويضعف جدك، ويكل زندك، ويحبسك الكبر، ويفنيك الهرم، وتندم، وأنى ينفعك الندم؟ ومن سعى في الشباب وجدَّ في ذلك وجده في الكبر أمامه، وكانت كل نجاة إمامه. وهذه وصية اغتنام للحصول على الأرباح، ولتجنب الخسائر، فإن التسويف والتأخير والتأجيل مظنة فوات الربح، ومظنة انقطاع العمل، ومظنة عروض الشواغل، ومظنة حصول الخسران، نسأل الله عز وجل السلامة.

العبادة مأمور بها في كل العام

العبادة مأمور بها في كل العام وهذه رسالة أخرى بعث بها الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز، رسالة من إمام عالم إلى حاكم عادل، فانظروا ماذا كانت الأقوال فيها، وفي أي شيء كانت الوصايا، كتب له فكان مما كتب، أما بعد: فإنه من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر. وقبل أن أمضي في الحديث أقول: تذكروا هذا القول كله بعيداً عن هذا الشهر العظيم، وخارجاً عن إطار هذه الفريضة الجليلة، فإن الحياة أوسع من رمضان، وإن العام أطول منه، وهو في أحد عشر ضعفاً من أضعافه. يقول الحسن البصري: أما بعد: فإن من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع فهو أفضل، ومن حلم غنم، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، فإن زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فسل، وإذا غضبت فأمسك، واعلم أن أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفس. ودخل رجل على الجنيد وهو يصلي وقد أطال صلاته وأطالها والرجل ينتظره، فلما قضى صلاته قال للجنيد: قد كبر سنك، ووهن عظمك، ورق جلدك، وضعفت قوتك، فلو اختصرت! فقال: اسكت! طريق عرفنا به ربنا لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه. فطريق معرفة الله ليس في رمضان، وموسم طاعته ليس مقتصراً على ثلاثين يوماً في العام، فطريق عرفنا فيه مرضاة الله عز وجل، وطريق عرفنا به ربنا لا ينبغي أن نقتصر منه على بعضه. قال الجنيد: ومن ترك طريق القرب يوشك أن يسلك به طريق البعد. وقوله: ومن ترك طريق القرب، أي: من الطاعات، بأن يترك المواظبة عليها في سائر الأيام والساعات. وبعد هذه الخواطر الإيمانية، والمواقف الروحية، والتذكرات العلمية، ترى هل نحن الآن نفكر في حياتنا تفكيراً صحيحاً في الأرباح والخسائر؟! تعالوا أنتقل بكم إلى هذا الموسم العظيم الذي نحن فيه، لتروا أموراً ليست مقتصرة عليه، ولا خاصة به، ولذا اخترت ألا أتحدث عن شيء من فضائل الشهر ولا فريضة الصوم، فقد سمعنا وقلنا قبل ذلك وبعده كثيراً فيه، لكنني هنا أحب أن أشير إلى أمور نعرف كثيراً منها، ولكننا في واقع الأمر لا نحرص عليها، ولا نتشبث بها، ولا نستشعر أهميتها، ولا نتذوق لذتها، ولا نتواصى ولا نتعاهد عليها، ولا ينالنا منها حظ أوفر، ولا نصيب أكبر، وهي في هذا الشهر العظيم. فأول ذلك وأعظمه وأوكده الصلاة، ونحن جميعاً نرى أن هذه المساجد تمتلئ بالمصلين، وخاصة في الوقت الذي لا يحتمل فيه العذر، وأن الناس كلهم فيه في بيوتهم، فإما أنهم شهدوا الفجر والصلاة فملئوا المساجد، وإما أنهم ناموا وتخلفوا، فانظر الفجر اليوم، وانظر المساجد وهي تشكو إلى الله قلة روادها، والساعين إليها، والمصلين فيها، والمشائين في الظلم إليها، في غير هذا الشهر الكريم! جاء من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه بخمس وعشرين درجة؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في صلاته: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه) متفق عليه. وهذا الحديث ليس مختصاً برمضان، وهذه الأرباح التي نجنيها اليوم بحمد الله عز وجل وفضله، ونفرح بها ونسعد، ألا نفكر كم خسرنا منها في غير رمضان! عندما لا تتحرك الأقدام إلى المساجد، عندما لا تصطف الأجساد في هذه الصفوف!

أجور الأعمال مبذولة في رمضان وفي غيره

أجور الأعمال مبذولة في رمضان وفي غيره واستمع كذلك إلى كثير وكثير وكثير من هذه الأرباح العظيمة والفضائل الجليلة، التي هي مبذولة من رحمة الله مبسوطة من فضل الله، ليس في وقت ولا في زمان بعينه: جاء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب له حسنة، ذاهباً وراجعاً) رواه أحمد في مسنده والطبراني وابن حبان في صحيحه. فقوله: (ذاهباً وآيباً) ليس مختصاً برمضان، فما بالك قاعد في بيتك؟! وما بالك لاهٍ في سوقك؟! وما بالك نائم في سريرك وتارك لفريضة ربك، وغافل عن حقيقة ربحك، ومستوجب لعظمة خسرانك؟! نسأل الله عز وجل السلامة. وهذا عثمان بن عفان يروي عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى صلاة مكتوبة فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وروى مسلم نحوه. وجاء من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة، إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته) رواه ابن خزيمة في صحيحه. إن ربك يفرح بك إذا أتيت إلى بيته، وإذا أقبلت على صلاتك، فهل أنت مستغنٍ عن ذلك، ومقتصر عنه بشهر من اثني عشر شهراً وبأيام معدودات من ضمن مئات من الأيام؟! وانظر كذلك إلى حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: (الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً، -أي: لكثرة الخطى إلى المساجد- من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)، وليس من هذه كلها شيء مختص برمضان. ونحن -بحمد الله- رابحون في هذا الشهر، فإذا حسبنا أرباحنا وانشرحت بها صدورنا فلتبك أعيننا دماً لا دمعاً على أيام متواليات، وشهور متعاقبات، وأعوام منصرمات، حيث لم يكن لنا فيها شيء من هذا الربح، بل ربما كان الخسران هو الأكثر والأظهر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) رواه عن المصطفى عليه الصلاة والسلام ستة عشر صحابياً، فأين الذين يمشون إلى المساجد في الظلم في صلاة الفجر في غير رمضان؟! وهل هم مستغنون عن هذا النور؟ وهل يعتقدون أنهم إذا ربحوا شهراً وخسروا دهراً أن الصفقة في كل الأحوال رابحة؟! وهل يقول بذلك عاقل؟! وهل يرضى بذلك محب لنفسه؟! فمن يقول: إن تاجراً لا يفتح حانوته إلا في الموسم، ثم يغلق بقية الموسم وينام؟! وهل رأيتم أحداً يصنع ذلك؟! وهل في الدنيا طالب لا يدرس إلا شهراً من العام؟! وهل في العالم كله تاجر لا يعمل إلا شهراً في العام؟! وهل يمكن أن يُقتصر في أي عمل على شهر من العام؟! فكيف سيكون حال الناس إذا كان لا يتم علاجهم في المستشفيات إلا شهراً في العام؟! وكيف سيكون حالهم إذا لم تفتح المدارس إلا شهراً في العام؟! وكيف سيكون حال الناس إذا لم تفتح الأسواق إلا شهراً في العام؟ وكيف سيكون حال المؤمنين إذا لم يقبلوا على الله إلا شهراً في العام، وإذا لم يحرصوا على الحسنات إلا شهراً في العام، وإذا لم يتذكروا الفضائل إلا شهراً في العام، وإذا لم يدخلوا إلى المساجد إلا شهراً في العام، وإذا لم يقرءوا القرآن ويلتزموه ويتلوه ويتدبروه إلا شهراً في العام، وإذا لم تخرج أموالهم إنفاقاً في سبيل الله وتقرباً إليه إلا شهراً في العام؟!! وقيسوا على ذلك ما شئتم، وسلوا من الأسئلة ما شئتم، فإن خسائرنا عظيمة فيما نفرط فيه من طاعة الله، ومن الخير الذي ساقه الله سبحانه إلينا، ومن الأجر الذي أتاحه لنا طوال العام، وفي هذا الشهر يزيد بالأضعاف المضاعفة، والله سبحانه وتعالى لا تنفد خزائنه. والله جل وعلا عظمته دائمة، وهو سبحانه وتعالى مستحق للعبادة والمحبة، وصدق الإنابة، ودوام الذكر، واستمرار الدعاء دائماً، وليس ذلك مختصاً بحال دون حال، قال عز وجل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] أي: تشهده الملائكة، كما روى أبو هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيصعدون إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، فتكتب الشهادات، وتسجل الأسماء في صحف الملائكة، وترفع إلى رب الأرباب سبحانه وتعالى، فأين سيكون اسمك فيما يأتي من الأيام والليالي في غير شهر رمضان؟ فهل نفكر كم هي خسارتنا ونحن كأنما نركل هذه النعم بأقدامنا، وكأنما نعرض عنها ونعطيها ظهورنا، وكأننا قد صمت أذاننا فلا نسمع تلك الآيات، ولا نعرف تلك الأحاديث، وكأن قلوبنا ليس فيها شيء يبعثها إلى التحبب وإلى العمل بهذه الطاعات؛ رغبة في تلك الأجور، وتأملاً في تلك الأرباح العظيمة. ولو مضينا لوجدنا وراء ذلك شيئاً عظيماً، وهو في أمور كثيرة، ولعلي أخص بعضاً منها؛ لأن التقصير والتفريط فيه في غير رمضان أشهر، وخاصة أداء الصلوات في الجماعات، وخاصة صلاة الفجر، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، فأنت في أمان الله، وأنت في جوار الله، وأنت في حفظ الله عز وجل ما أديت صلاة الفجر في جماعة، فكيف بك وأنت تخرج من غير أمان ولا جوار ولا حماية من الله، تنتهبك الشياطين، وتفترسك الوساوس، ويحيط بك أبالسة الإنس والجن؛ لأنك لم تأخذ حصناً من طاعة الله، ولم تأخذ وقاية من هذه الصلاة. ومن ذلك الإقبال عند انبثاق الفجر، وعند بداية اليوم، وعند رجوع النفس إلى روحك، فعليك أن تحمد الله عز وجل على الطاعة، فكيف بك والكدر على وجهك، والثقل في نفسك، والغم على قلبك، في كل صباح؟! لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا فقال: (يضرب الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد؛ يضرب على كل واحدة منها فيقول: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت الثانية، فإذا صلى الصبح انحلت عقده كلها، وأصبح نشيط النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، كيف نهمل مثل هذه العبادات وهذه الأعمال الصالحات، ونقول: إنها تطوعات، وإنها من التطوعات الزائدة عن الفرائض، فرأس المال الأساسي هو في هذه الفرائض العظيمة.

فضل قيام الليل في رمضان وغيره

فضل قيام الليل في رمضان وغيره وهنا أمر أحب أن أخصه بهذا الحديث تذكيراً وترغيباً، وهو قيام الليل، وأداء الوتر، وكم ننال في هذا الشهر في هذا الموسم العظيم من الفضل والأجر، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فيه بفضائل كثيرة، لعل من أشهرها وأجلها حديث أبي هريرة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا بقي الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟) وجل الناس في هذه الأيام في وقت السحر مستيقظون لسحورهم، أو استعداداً لأداء صلاتهم، أو قياماً بصلاة وترهم، فينالون هذا الوقت الغالي الثمين، ويحوزون الخير العميم من هذه الفرصة الثمينة المتكررة في كل يوم قال عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] هذا لا يستوي مع غيره من الغافلين النائمين أو من المستيقظين اللاهين العابثين، نسأل الله عز وجل السلامة. وروى مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه). وفي حديث أبي أمامة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.

فضل الذكر والدعاء والتلاوة في جميع الأوقات

فضل الذكر والدعاء والتلاوة في جميع الأوقات ثم انظروا إلى باب آخر وهو باب الذكر، والدعاء، والتلاوة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة). والدعاء يجاب أو يدفع عنه به من البلاء، أو يدخر إلى يوم القيامة، وكل ذلك نحن نجني منه أرباحاً عظيمة، نسأل الله عز وجل أن يقبلها منا في هذا الشهر العظيم، فأين نحن من هذه الأرباح المبسوطة المبذولة المشرعة في كل وقت وآنٍ؟

فضل الإنفاق في سبيل الله في رمضان وغيره

فضل الإنفاق في سبيل الله في رمضان وغيره ثم أمضي كذلك لذكر فضل وأجر الإنفاق في سبيل الله، قال عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]، وذلك ليس مختصاً برمضان، لكن رمضان فيه مزيد من فضل الله عز وجل، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً)، فهل نحن نتعرض لهذا الدعاء الملائكي بأن ننفق في كل يوم ولو قليلاً؟ وهل نحرص على أن نقوم بهذه الأعمال الخيرة ونفزع إليها، ونرتبط بها، ونحرص على أن يبقى لنا منها الحظ الأدنى في غير هذا الشهر، فعلينا أن نتفكر في حقيقة دنيانا وفي حقيقة الأرباح والخسائر، وفيما ينبغي أن نحرص عليه في يومنا وليلتنا، وفي كل أيامنا وفي سائر أعمالنا، وذلك ما ينبغي أن نتواصى به. إننا حين نوصي الناس في رمضان بالإقبال على الخير وبالاستكثار من الصالحات، فإن الأمر في هذا هين؛ فالشياطين مصفدة، والناس على الخير مقبلة، وموسم الرحمة عام، لكننا نقول ونحن في هذا الشهر الكريم والموسم العظيم، واللحظات التي تسعد فيها القلوب، وتأنس فيها النفوس، وتشف فيها الأرواح، وتسمو فيها الهمم، وتعلو فتقوى فيها العزائم؛ نقول: انتبهوا لما بعد رمضان؛ لأننا ننتبه إلى أمر ونترك أموراً، ونحن في حقيقة أمرنا إذا فرطنا وقصرنا لم نفقه عظمة ربنا، ولم نفقه معنى العبادة، ولم نتذوق روح هذه الطاعات والعبادات في نفوسنا وقلوبنا وأرواحنا. أسأل الله عز وجل أن يردنا إليه مرداً جميلاً، وأن يجعلنا من عباده الطائعين المخلصين المقبلين عليه في كل أوقات العام، ونسأله عز وجل أن يوفقنا في هذا الشهر لحسن الصيام والقيام والإنفاق وصالح الأعمال، وأن يزيدنا فيه من الخير والبر والإحسان؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الإخلاص في الطاعة ولذة العبادة

الإخلاص في الطاعة ولذة العبادة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه، ونحن في موسم التقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فلنأخذ زادنا عظيماً وفيراً إلى ما بعد هذا الشهر كذلك. ولعل لي وقفة أخيرة في شأن الأرباح التي نجنيها، ولماذا لا نتعلق بها ونستمر عليها، وهي قضية مهمة لعلنا أن نحرص عليها، وأن نجاهد أنفسنا فيها، وأن نجتهد في تحصيل الأسباب لها. ذلكم أيها الإخوة المؤمنون! هو أمر الإخلاص لله عز وجل، وصدق التعلق به، وحقيقة الإقبال عليه حتى نصل إلى المبتغى والمراد والغاية من هذا الإقبال عليه، ومن تلك الطاعة له، ومن صور العبادة التي نجتهد فيها، وهي أن تخلص إلى قلوبنا، فنشعر بالسعادة، وتخلص إلى نفوسنا فنتذوق اللذة، وحينئذ تصبح قلوبنا مشدودة إلى الطاعة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منها حتى يرجع إليها). فانظروا إلى هذا التشوق الذي يذكره لنا المؤمنون الصادقون المخلصون الذين يبينون لنا حقيقة مهمة، وهي أنه إذا خلصت لنا روح العبادة فإنه سيكون لنا بها تعلق وارتباط في كل لحظة وسكنة، وفي كل ظرف وحال، ولذلك سئل أحد الصالحين: ما أفضل عملك؟ فأجاب إجابة حري بنا أن نصغي إليها بقلوبنا فقال: ما أتتني صلاة قط إلا وأنا مستعد لها ومشتاق إليها، وما انصرفت من صلاة قط إلا كنت إذا انصرفت منها أشوق إليها مني حين كنت فيها، ولولا أن الفرائض تقطع لأحببت أن أكون ليلي ونهاري قائماً راكعاً ساجداً! إنه يستعد لها، ويشتاق إليها، وهذا دليل على حب، وتعلق، وهيام، ولذة نفس، وطمأنينة قلب، وراحة بال، وأنس في الإقبال على الله عز وجل، يفسره لنا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال!) ويفسره لنا فعله صلى الله عليه وسلم حيث كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وتفسره لنا نداءات القرآن كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وتفسره لنا الصورة المثلى لرسولنا صلى الله عليه وسلم عندما قال: (جعلت قرة عيني في الصلاة). ونفهم منها حاله حينما كان يصلي فيقوم حتى تتفطر قدماه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يشعر بلذة المناجاة، ولأنه لا يشعر بثقل الوقوف، ولا بشدة المعاناة؛ لأن حلاوة المناجاة تغلب شدة المعاناة، فلا يكاد يشعر بشيء، ونحن حالنا -إلا من رحم الله- على غير ذلك، فإن أطال الإمام في آية أو آيتين شكى الناس شكوى عظيمة، وإن صلوا مرة وزادوا رأيتهم وهم يفرقعون أصابعهم، ويتفقدون ركبهم، وينظرون إلى حالهم! فلماذا نحتاج أن نتأمل ونتدبر، ونحن نحتاج أن نعيش في روح هذه العبادات؟ فإننا إن فعلنا كان لذلك أثره الأعظم في استمرارنا فيما يأتي من أيامنا في غير هذا الشهر الكريم، ولعلنا كذلك نتذوق لذة تلاوة القرآن، ونستعذب حلاوة التضرع والانكسار بين يدي الله، ونرى روحاً عظيمة مؤثرة في كل دعوة إلى الله عز وجل ندعوه بها، ونستشعر أنساً وراحة في كل إنفاق ننفقه، وفي كل سرور على مسلم ندخله. ودعونا نعيش في روح هذه العبادات وهذه الطاعات؛ ليكون أجرنا من الله عز وجل عظيماً، ومن جهة أخرى لتكون لنا السعادة، وهي جزء من الأجر مقدم للمؤمن، وذلك فيما يشعر به من سعادة نفسه وروحه وأنس قلبه وطربه، كما قال أهل العلم من العلماء العاملين والعابدين: (والله إننا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك، ثم لم يجدوا إلا أن يجالدونا عليها بالسيوف لفعلوا)! تلك اللذة العظيمة هي لذة الإيمان، ولذة الطاعة، ولذة العبادة، وقد أخبر عنها أيضاً بعضهم فقال: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: لذة العبادة والطاعة والمناجاة.

خسارة من لا يعبد الله عز وجل

خسارة من لا يعبد الله عز وجل ونحن نشعر بهذه اللذة في أيام رمضان، فلنحرص على أن نعيش روح العبادة حضور قلب، وخشوع جوارح، وتفكر عقل، ونزول دمع، وحياة نمارسها في واقع أعمالنا كلها، ونتذكر كذلك كل أمر من الأمور التي نجنيها في هذا الشهر، من إمساك اللسان، ومن إنفاق المال، ومن غيرها مما تعظم به الأرباح. وأريد أن أؤكد مرة أخرى على لونين من الخسائر: الخسارة الأولى: هي أن كل هذا الربح المتاح في غير رمضان إذا لم نأخذ منه حظاً فنحن خاسرون، فإذا كانت الأموال مبذولة، والأرباح سهلة، ثم لم نعمل لها، فنحن قطعاً خاسرون، ونحن بصورة أو بأخرى حمقاء أو مغفلون. وأما الخسارة العظيمة الأخرى: فهي خسارة أصحاب الموسم الذين يخسرون ولا يكسبون، وهم الذين في شهر رمضان وفي فريضة الصيام ثم لا يربحون. ورغم أن كل كلامنا كان عن فعل نحمد الله عليه، ونربح به أجره ومثوبته، إلا أن هناك من هو شقي أو محروم، نسأل الله عز وجل السلامة، وإلا أننا أيضاً نرى في أنفسنا قصوراً وضعفاً، وتخلفاً وتأخراً؛ فانظروا إلى الصلوات فإنه ما زال التبكير إليها والحرص على إدراك التكبير فيها قليلاً، وانظروا كيف يتأخر الناس ليطعموا من الطعام زيادة لقمة أو لقمتين، ولا يدركون تكبيرة الإحرام في صلاة المغرب؛ فتجد أن أكثر من ثلثي كل مسجد يقومون يقضون الركعات؛ لأجل لقيمات، فهل تلك اللقيمات أفضل أو أعظم من تلك الصلوات والركعات؟! فينبغي أن نوازن. وانظروا إلى يوم الجمعة كيف يبدأ الخطيب والمسجد ليس فيه إلا أقل من نصفه أو أكثر بقليل؟! فأين بقية الناس؟ لعلهم نائمون، أو يبطئون في الخطى كأنما يسحبون أرجلهم سحباً، وقد يقول بعضهم: إن هذه الخطبة قد تطول، أو ذلك الوقت قد يعظم، وكأن وراءنا عملاً أعظم، أو وراءنا مهمات أكبر، ولا أقول ذلك حتى يكون هذا شاهداً على من يسمعه فحسب، بل هو بلاغ لنا جميعاً؛ لنبلغه لأنفسنا ولأهلنا، ولكل أحد من حولنا. والحرمان كثير؛ فإن كثيرين يسهرون ليلهم لا في صلاة، ولا في وتر، ولا في دعاء سحر، وإنما في الأسواق، وأمام الشاشات، وبعضهم لا يدرك هذه الصلوات التي ذكرنا فضلها وأجرها، بل هم نائمون أو مقصرون، وهناك من يلعبون ويلهون، وهناك من يفطرون، وهناك من يشغلون أوقاتهم بالغيبة والنميمة، وهناك وهناك. فإذا برئنا من هذا، وتعرضنا لطاعة الله، وأخذنا هذه الأرباح، فلنتذكر أننا خاسرون من جهة أخرى في غير رمضان إذ لم نقبل على هذه الأعمال الصالحة، ولم نرتبط بتلك الفرائض المفروضة! نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا. اللهم وفقنا في هذا الشهر الكريم لحسن الصيام، والقيام، والإنفاق، والتلاوة، والذكر، وصالح الأعمال. اللهم عظم بذلك أجورنا، واجعله يا ربنا طمأنينة لقلوبنا، وانشراحاً لصدورنا، وسعادة لنفوسنا. اللهم أذقنا لذة مناجاتك، وأذقنا حلاوة عبادتك وطاعتك. اللهم اجعل طاعتك أحب إلى قلوبنا من الماء على الظمأ يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن توفقنا لطاعتك ومرضاتك، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آتٍ. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من عتقائك من النار يا رب العالمين، واغفر اللهم ذنوبنا وارحمنا رحمة واسعة من عندك يا رب العالمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك. اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم ثل قوتهم، واستأصل شأفتهم، وخالف كلمتهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم انصر وأعن وثبت إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تخفف عن إخواننا المسلمين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم يا رب العالمين! اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم اجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم أدم عليها نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ورغد العيش وسعته يا رب العالمين! عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. والحمد لله رب العالمين.

أصداء الحوار مع شباب الصحوة

أصداء الحوار مع شباب الصحوة من القضايا المستجدة على الساحة: ظهور الجماعات والأحزاب والجمعيات، فعلى الشباب معرفة الضوابط الشرعية التي ذكرها العلماء في التعامل مع هذه المستجدات، وعليهم أيضاً أن يفقهوا واقعهم وفق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يقعوا فيما لا تحمد عقباه.

قضايا جديدة

قضايا جديدة الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى. والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا بعون الله تعالى هو الدرس السابع والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهو بعنوان: أصداء الحوار مع شباب الصحوة. وهذا العنوان ينبؤ بارتباط موضوع اليوم بالدرس الذي سلف بعنوان: حوار هادئ مع شباب الصحوة، فدرس اليوم رجع الصدى لذلك القول، وللمسائل التي ذكرناها فيما مضى، وقد جاءتني مشاركات عدة حاولت تلخيصها، وضم المتشابه منها بعضه مع بعض؛ حتى تنتظم في جملة قضايا ومسائل، يمكن عند معالجتها وذكرها أن نلم بما أشار إليه الإخوة، وما سألوا عنه، وما طلبوا من القول والتفصيل في المسائل التي عرضوا لها. وقبل أن أذكر تفصيل القضايا، أحب أن أؤكد على أمور مهمة: أولها: أن ما مضى من الموضوع الذي سبق، وهذا وغيره أيضاً إنما الباعث عليه بعون الله تعالى أن نصحو، والخلاصة والغرض هو تقويم المسيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة)، ونحن نحتاج بالفعل إلى أن يقوم بعضنا بعضاً، وأن ينصح بعضنا بعضاً، بل هو من واجب المسلم تجاه المسلم، ومن أخلاق المسلم أن يتقبل النصح من إخوانه، بل يسعى إلى طلب النصيحة، وقد كان سلف الأمة وأعلام الأئمة يقبلون النصح، بل يطلبونه من غيرهم. الأمر الثاني: أن المسائل التي ذكرت إنما هي أمثلة للتوضيح، لم يكن المراد منها الحصر، ولا أنها تشمل كل القضايا المهمة التي يحتاج إليها الشباب أو تدور في أوساطهم. الأمر الثالث: أن القضايا التي تم اختيارها أو ذكرها كان الاجتهاد فيها أنها من باب الأهم قبل المهم، وأنها من الأولويات والموضوعات الأكثر ذكراً ووروداً وأخذاً ورداً بين كثير من الشباب؛ ولذلك يعتبر هذا الموضوع تتمة، وقد قسمت ما جاء فيه إلى عناوين رئيسة، وتحتها بعض هذه المسائل: أولها: قضايا جديدة: أي: أن هناك مشاركات وكتابات من بعض الإخوة تعرضت إلى قضايا جديدة لم نذكرها فيما مضى، ومنها: العمل الدعوي الجماعي، ووسائل ثبات الصحوة، وبين علم الشرع وعلم الواقع، وبين الوسائل والغايات. والبند الثاني: تحت عنوان مخاطر ومخاوف، وفيه قضايا مهمة منها: التكفير والتبديع. التنازع والاختلاف. الإسقاط والمصادرة. الحيرة والاضطراب. التعصب والحسد. التزكية والعصمة. البند الثالث: مطالبات وتوجيهات، ينتظم أيضاً جملة مسائل: التعامل والدعوة مع العامة. الدعوة والاهتمام بالأهل. التفاعل والبذل في سبيل الدعوة. وأخيراً: تساؤلات ومقترحات: أي وردت بعض التساؤلات عن قضايا محددة فيما مضى من الدرس الثالث، وبعض المقترحات نذكرها ونختم بها إن شاء الله. وفي الحقيقة هذه المسائل لها أهميتها، وفيها كثير من القول، وسأذكر بعض المشاركات بنصها عند الحاجة إلى ذلك أو خلاصة ما كان من مشاركة الإخوة جزاهم الله خيراً. أول بند: قضايا جديدة:

العمل الدعوي الجماعي

العمل الدعوي الجماعي أولها: العمل الدعوي الجماعي: فقد كانت كثير من المشاركات تتحدث عن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في إطار الجمعيات الإسلامية، وفي ظل التعاون على البر والتقوى، ومحاولة الاستفادة من الجهود، وضم بعضها إلى بعض، والحرص على الانتفاع بتجربة الآخرين، وإعانة الأخ لأخيه، وتقويته له من هذا السبيل، وكانت كثير من المشاركات تذكر إما مدحاً وثناءً على هذا الجانب، أو قدحاً وذماً له، وكأن غاية الأمر إرادة معرفة قول أهل العلم في مثل هذا، ولذا اجتهدت في جمع بعض فتاوى علمائنا ومشايخنا وأهل العلم؛ لنسلط الضوء على مثل هذا الأمر، لعل في ذلك ما يكشف جلية الأمر، ويزيل بعض الحيرة والاضطراب، وكذلك أتممه بنوع من الفوائد اللاحقة بذلك، فهنا جملة فتاوى أذكر بعضها قراءة ونصاً، وأشير إلى بعضها في مراجعها، وهذه بعض الفتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد، وبعضها متفرقة في أزمنة مختلفة نذكرها بأرقامها وتواريخها أيضاً. فهذه الفتوى برقم (7831) في (3/ 12/1404هـ)، هذا نصها: Q هل الأحزاب السياسية مباح تأسيسها، وعضويتها، أم مندوب إليها، أم مستحب تأييدها أم حرام تأسيسها ومناصرتها؟ أشارت الفتوى إلى فتوى سابقة نصها: الإسلام يدعو إلى الوحدة، وأن يكون المسلمون على قلب رجل واحد يعتصمون بحبل الله، ويهتدون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، فإن ذلك أقوى لهم، وأنكى لعدوهم، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]. لكن الاختلاف ظاهرة كونية، ذلك بأن عقول الناس وأفكارهم قد تباينت، وأن عواطفهم وميولهم قد اختلفت، وأن الأهواء المرذولة والعصبيات الممقوتة قد تسلطت عليهم وتمكنت من نفوسهم، فمزقتهم شر ممزق، فكان اختلافهم سنة كونية لا مناص منها، إلا بحول من الله، فمن كان اختلافهم عن اجتهاد سائغ، وتأويل مقبول، ولم يمنعهم من التفاهم والتآخي بينهم، فأولئك هم أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً، ومن كان اختلافهم عن هوى مضل أو عصبية جاهلية فأولئك شر مكاناً وأضل سبيلاً. ويجب على المسلم أن يتعاون مع كل الجماعات الإسلامية فيما لديها من حق وصواب، وأن يجتنبها فيما وقعت فيه من خطأ وانحراف، وأن يجتهد في إرشادها، وبيان الحق لها بالحكمة والموعظة الحسنة، عسى الله أن يهديها على يديه سواء السبيل. ومن أراد أن يلتزم جماعة معينة منها، فليلتزم أسعدها بالحق وأتبعها لكتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين، مع مخالفتهم فيما علم أنه مخالف للحق، والنصح لهم في ذلك، وبالله التوفيق. هذا القول سنجد أن مضمونه متكرر في هذه الفتاوى التي سأذكر مزيداً منها، إذ القول يرجع الحكم في مثل هذا إلى ما هو مجتمع عليه، فإن كان الاجتماع على الحق والخير والتعاون على البر والتقوى، فإن ذلك محمود لا لذاته، بل لكونه محموداً في أصل الشرع لأمر الله سبحانه وتعالى ولهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إن المرء إنما يتعبده الله سبحانه وتعالى بكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا بقول أحد كائناً من كان، ولا بفرقة كائنة من كانت، وإنما ما كان مبنياً على اجتهاد سائغ مقبول في أمر من أمور الخير، وبذل في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان يسعى ويحرص إلى متابعة الأوسط للحق، والأقرب إلى الصواب، والأسعد باتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تمنعنه الموافقة والمتابعة في هذا الخير الكثير من أن يخالفهم إذا وجد منهم مخالفة لأصل شرعي، وأن يكون همه وحرصه أن ينصح وأن يبذل النصح لمن وافقهم في أصل الخير، حتى يكون في هذا التناصح إكليل للخير وحيازة له. وهذا سؤال واستفتاء لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وهذا نصه: يقول: في بلد غير هذه في الجامعة هناك جماعتان هما: اتحاد طلبة المسلمين، وجماعة التبليغ، فأيتهما الجماعة التي يريدها الإسلام، هذا مع العلم بأني أرى أن بعضهم أنشط في الدعوة وأسبق فيها؟ فقال فضيلته جزاه الله خيراً: العصمة من الخطأ ومن الانحراف عن الصواب، إنما هي لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، ولإجماع الأمة، أما كل فرد من أفراد الأمة، وكل جماعة على حدتها من جماعات الأمة كجماعة التبليغ، أو جماعة اتحاد طلبة المسلمين، أو جماعة الإخوان المسلمين، أو جماعة أنصار السنة المحمدية، أو الجمعية الشرعية لإحياء الكتاب والسنة المحمدية، إلى آخر ذلك؛ فكل منها ليست معصومة، بل تخطئ وتصيب، ولها محاسن ومساوئ في الأحكام التي تدعو إليها أو تنشرها، وفي طريقة دعوتها إلى ما تعتقده وتعمل به، وتتبنى إرشاد الناس إليه، وحملهم عليه، وعلى كل جماعة من الجماعات الإسلامية أن تتعاون مع الأخرى فيما اتفقوا عليه من الحق، وأن تتفاهم معها فيما اختلفوا على ضوء الكتاب والسنة، عملاً بقوله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، عسى الله أن يهدي الجميع إلى سواء السبيل، وعلى كل طائفة من هذه الجماعات أن تنصح للأخرى، وتثني عليها بما فيها من خير، وترشدها إلى ما فيها من خطأ في الأحكام أو انحراف في العقيدة والأخلاق، أو تقصير في العلم والبلاغ بالتي هي أحسن، قصداً للإصلاح، وطلباً لاستدراك ما فات، لا ذماً لها وتعييراً، عسى أن تستجيب لما دعيت إليه، فتستكمل نقصها، وتصلح شأنها، وتجتمع القلوب على الحق، وتنهض بنصرته. اهـ. والمتأمل في هذا القول يرى عليه نورانية الوحي، ويرى فيه فقه الدعوة، ويرى فيه أيضاً العلم بمقاصد الشرع من ضرورة الائتلاف، والحرص على وحدة الأمة، مع النصح لله ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم، ومع الحرص على أنه لا اتباع ولا انقياد بلا تردد وبلا سؤال، وبلا أية مراجعة، إلا لكتاب الله ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولإجماع الأمة المنعقد والثابت. إذاً: باتباع مثل هذه الفتوى وغيرها من فتاوى أهل العلم، يظهر أن الأمر مداره على اتباع الشرع وعلى تحصيل الخير، وعلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وعلى أن الكمال المطلق لا يوجد ولا يتصور وجوده أصلاً إلا في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فيه تعليم وتربية على أهم مقاصد هذا الدين، وهو ألفة القلوب، ووجوب تضافر الجهود، والمودة والمحبة، وأخوة الإيمان في قوله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، والله سبحانه وتعالى قد سمى الفئة الباغية إخواناً لبقية المسلمين وإن كانوا قد بغوا عليهم، وذلك كما في قوله جل وعلا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، فسمى تلك الطائفتين: مؤمنتين، وإنما إحداهما خالفت وبغت، أو اجتهدت وأخطأت، أو تنكبت سواء الصراط؛ ولذا من رأى أن وجود الخطأ كاف للمقاطعة بل والمنازعة بل والمحاربة، فإنه ما فقه أصل هذا الدين في عصمة دم المسلم وعرضه وماله، وما فقه أصل هذا الدين في وجوب الاعتصام والتآلف والأخوة، وما فقه أصل هذا الدين في وجوب التناصح والتكامل، وأن المسلم للمسلم كاليدين في حاجة إحداهما للأخرى، وأن المسلم للمسلم كالمرآة ينظر إلى أخيه فيرى فيه عيب نفسه، ويبصر خطأه من تقويم أخيه، وهذا كثير فيما سيأتي أيضاً من الفتاوى والأسئلة. وهذا سؤال وجه أيضاً لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز أذكره لوجازته ووضوحه في هذا الباب، وهذا نصه: Q هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية باحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟ قال سماحته: وجود هذه الجماعات خير، لكن عليها أن تجتهد في إفصاح الحق مع دليله، وألا تتنافر مع بعضها، وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداهما الأخرى، وتنصح لها، وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينهما، ولا مانع أن تكون هناك جماعات؛ لأنها كلها إن شاء الله تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم قال السائل: وبم تنصح الشباب داخل هذه الجماعات؟ قال سماحته: أن يترسموا طريق الحق، ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية، لا بالعنف ولا بالسخرية، بل بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، وأن يكون الصالحون قدوتهم، والحق دليلهم. وهذا كما أشرت فيه ما فيه من الفطنة والفقه بهذا الدين. وهنا أيضاً سؤال لفضيلة الشيخ صالح الفوزان، ونص السؤال يقول: ما رأي الشرع في بعض مسميات مثل: السلفيين، وجماعة التكفير والهجرة، وأنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية والجهاد؟ فقال فضيلته: قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]. وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. ثم قال: هذه الآيات وغيرها كثير في القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت في معناها، كلها تحث على اجتماع الكلمة، وأن يكون المسلمون أمة واحدة، وجماعة واحدة، وفي مسمىً واحد وهو أهل السنة والجماعة، أو م

وسائل ثبات الصحوة

وسائل ثبات الصحوة بعض الإخوة أشار إلى أننا ذكرنا في المرة الماضية بعض وجوه النقد وبعض الأخطاء، ثم يقول: ما هي الوسائل التي يمكن أن تثبت شباب الصحوة على المنهج الصحيح حتى لا يحصل ما يقع الآن، فإن بعض الناس يمضي في الطريق قليلاً ثم ينتكس، أو يمضي في الطريق ثم يشذ إلى انحراف غير مشروع؟ فأذكر في ذلك نقاطاً في موجز لا يتسع المجال لتفصيله أقول: من هذه الوسائل وأهمها: أولاً: صفاء المعتقد ووضوح التصور. ثانياً: الارتباط بالقدوة من العلماء والدعاة، والرجوع إليهم. ثالثاً: التحصن بالعلم ومعرفة الشبهات. رابعاً: وجود المحضن التربوي الذي يزكي النفوس، ويطهر القلوب، ويعوّد على التزام الشرع، والخوف من الله سبحانه وتعالى، والتقوى له. خامساً: العناية بفقه الأولويات والاهتمامات؛ فإن كثيراً مما ورد من الأخطاء إنما يقع من أن الإنسان يقدم ما حقه التأخير، أو يؤخر ما حقه التقديم. سادساً: دراسة التاريخ، واستنباط العظات والعبر، والاستفادة من تجارب السابقين، وسير الأئمة والصالحين. سابعاً: حسن التعامل مع الآخرين، بما هو في شرع الله سبحانه وتعالى. ثامناً: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى لا يقع الخطأ والخلل في مثل هذا.

بين علم الشرع وعلم الواقع

بين علم الشرع وعلم الواقع ذكر بعض الإخوة أن هناك من يقول: إن القول في السياسة أو الاعتناء بمعرفة الأخبار أو نحو ذلك ليس من الدين، وأنه ينبغي لطالب العلم فقط أن يقرأ كتب العلم في العقيدة والفقه والحديث، ولا شأن له بما وراء ذلك، ويذكر هذا الأخ في سؤاله ويقول: أليس هذا هو عين قول العلمانيين الذين يريدون أن يكون المسلم منشغلاً أو مرتبطاً فقط بالأحكام الفقهية، ولا يرتبط بواقع الحياة؟ نقول: نعم، هذه هي تلك، لا فرق بين هذه وهذه، إلا أن هذا القول من مسلم، أو من طالب علم أو من موجه أخطر؛ لأن العلماني أو المستغرب لا يقبل منه الناس، لكنهم يقبلون من الخطيب أو الإمام أو الواعظ أو الداعية، فإن جاء مثل هذا القول من هؤلاء كان أشد خطورة في هذا الأمر. وأحب أن أوجز القول في هذا: فإن علم الشرع مطلوب، ومعلوم أن هناك واجبات عينية على الإنسان المسلم أن يتعلمها من فرائض الله سبحانه وتعالى، بدءاً من المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بأركان الإيمان. ثم بعد ذلك معرفة الفروض العينية مثل: الصلوات وأحكام الطهارة، ثم ما يلزمه في وقته كالحج لمن أراده، أو الزكاة لمن وجبت عليه، وكل ما عدا ذلك فرض كفاية من الزيادة في العلم لمن أراد أن يتصدر للتعليم أو الفتوى أو غير ذلك، لكن علم الواقع أمر مهم جداً، وفيه رعاية اختلاف ظروف الزمان والمكان والأشخاص، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان السائل يسأله نفس السؤال، وتتعدد إجاباته صلى الله عليه وسلم، وما اختلفت إلا باعتبار اختلاف حال السائل، فذاك يسأله فيقول: (أوصني، فيقول: لا تغضب)، ويسأله الآخر ويقول: (أوصني، فيقول: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وفي مسند الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر: (أن سائلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن القبلة في الصيام فأفتاه بمنعها، وجاء سائل آخر فسأله عن القبلة للصائم فأفتاه بجوازها، فلما سئل النبي عليه الصلاة والسلام قال: ذاك شاب لا يملك أربه، وذاك شيخ كبير ليس له في النساء مأرب)، فاختلف الجواب باختلاف حال السائل، وكذلك اختلاف حال الأمة وظروفها، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار في بيعة العقبة قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: (لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا، قال: لا، فإنا لم نؤمر بذلك)، حقاً إنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه وهو مشرع، لكن على من جاء بعده أن يقتبس منه ويستنبط. وكذلك عليه الصلاة والسلام كان يعرف أحوال القبائل وعاداتها وتقاليدها؛ ولذا كان يحرص على إسلام زعماء القبائل؛ لأنه كان يعلم أن الناس تبعاً لقادتهم، وكان يعرف ما عليه أهل كل قوم، وأهل كل قبيلة من بعض العادات ومن بعض الرسوم والأمور التي يحرصون عليها، فكان يعرف كل هذا ويراعيه. بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر مقتبساً من غير المسلمين، فقد ورد عند الإمام مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قد نهيتكم عن الغيلة، وإني رأيت فارس والروم يغيلون ولا يضرهم)، والغيلة: المقصود بها: الجماع في وقت الرضاع، فإنه قد يضر بالرضيع، لكن النبي عليه الصلاة والسلام رأى واقع الناس، ورأى ظروف الحال، ورأى أن مثل هذا لا حرج فيه، فلم ينههم عنه عليه الصلاة والسلام. وكذلك قال في شأن تأبير النخل: (أنتم أعلم بشئون دنياكم). فتتبع أحوال المسلمين، والتعرف على أخبارهم، ومعرفة مكائد الأعداء، لا شك أنه من أكثر ما يدفع به الضرر عن المسلمين، وتجلب به المصالح لهم، والإعراض عن مثل هذا لا شك أنه شطط في القول، وأنه مغايرة ومنافرة في طبيعة الواقع، فإن الإنسان في طبيعة حياته المعتادة في تجارته في وظيفته في عمله يرتبط بالواقع، ويسأل عن الأحوال، ويسأل عن الأسعار، ويسأل عن الوظائف، ويسأل عن الترقيات، ويسأل عن النظم واللوائح؛ ليعرف ما يتجنبه، وليعرف ما يأخذ به لينتفع به، فكيف في حال الدين وفي حال حيازة مصلحة الإسلام والمسلمين؟ هل يبقى لا يفطن إلى هذا ولا ينظر إليه؟ لا شك أن هذا خطأ.

بين الوسائل والغايات

بين الوسائل والغايات الناس يغيب عنهم أمر مهم وهو أن الوسيلة لا تراد لذاتها وإنما تراد لغيرها، أي للمطلب الذي تؤدي إليه، وأضرب مثالاً أبين فيه المقصود في هذا: لو أن شخصين رأيا منكراً، واتفقا على أن هذا منكر، وهما متفقان أنه يجب تغييره، لكن اختلفا في الوسيلة، فهذا يرى التعجل في إنكار المنكر، وذاك يرى التأني، أو هذا يرى أنه يمكن أن يكون التغيير باليد، أما الآخر فيرى أنه يكفي الوعظ لما يعلم من حال هذا، فإذا اتفقا في الغاية وفي أصل الحكم الشرعي ينبغي ألا يكون اختلاف الوسيلة مثار النزاع، بل أحياناً مثار اتهام! فيقول: إن هذا يقر المنكر ويرضى به، وإن هذا يساعد على المنكر؛ لأنه لم ينكره بالطريقة التي يتصورها هو، أو التي يريدها هو، إن لم تفعل مثلما كان يتصور ومثلما يرى أنه الأصلح والأكمل فأنت إذاً لست بمنكر للمنكر، ولست بمريد للخير! فهذا لا شك أنه خطأ، فإن بعض الناس يرى أموراً من الحكمة، ودقائق من مسائل العلم، ومعرفة بحال المنكر، أو بحال الواقع في المنكر، ويرى أنه يريد أن يأخذ أسلوباً آخر، فلماذا يكون هذا الشطط والإباء، مع أن الاتفاق في الغاية حاصل؟! كثير من المشكلات تقع بسبب هذا لا بسبب غيره. فهذه جملة من القضايا التي لم نتعرض لها فيما مضى، وذُكرت في بعض هذه المشاركات.

مخاطر ومخاوف

مخاطر ومخاوف ما ذكره الإخوة في كتاباتهم ينبئ عن شعور طيب، وعن حرص أكيد على الخير لهذه الأمة وشبابها، وعلى خير هذه الصحوة وخير ما فيها، فإن كثيراً من الكتابات كانت تشير إلى بعض الظواهر الخطرة خوفاً على هذه الصحوة وعلى هذا الخير، وأذكر منها كما أشرت في العناوين السابقة:

التكفير والتبديع

التكفير والتبديع لا شك أن التكفير والتبديع أكثرها شراً وضرراً وخطراً؛ لأن فيه استباحة دماء؛ ولأن فيه إخراجاً عن الملة؛ ولأن فيه اجتراءً خطيراً ينبغي ألا يقدم عليه الإنسان من غير تثبت وتبين وحرص ودقة وتروٍ؛ ولذلك وقفتي فقط أن أبين أن هذه القضية في غاية الخطورة، وسنجعل لهذه القضية إن شاء الله مواضيع أخرى مستقلة بذاتها. جاء في الحديث عند الشيخين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فليست القضية سهلة، إما أن يكون الذي اتهم بالكفر مستحقاً لهذه التهمة، وإما -والعياذ بالله- أن تكون هذه الكلمة والوصمة تعود على قائلها. وفي الحديث الذي في صحيح مسلم: (أنها إذا لم تقع على صاحبها رجعت على قائلها) والعياذ بالله! ولذلك قال ابن حجر: والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وقيل: الراجع هو التكفير لا الكفر. أي: أن التكفير يعود عليه ليس أصل الكفر. ويقول: ابن حجر الهيتمي أيضاً: من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه، أي: رجع هذا الوصف عليه. ولذلك ينبغي أن نستيقن كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم فيه من الله برهان). وينبغي أن نعرف أن هناك أموراً ثلاثة يدفع بها كثير من الأمور ومن أهمها التكفير، وينبغي النظر فيها قبل الحكم بالتكفير وهي: الأمر الأول: التأويل, كأن يقول قولاً كفرياً، لكنه متأول يحتاج إلى بيان وإلى إيضاح. الأمر الثاني: الجهل، كأن يقول قولا ً أو يفعل فعلاً كفرياً وهو جاهل به غير عالم به. الأمر الثالث: الإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فلا بد من وجود الشروط وانتفاء الموانع، وليست القضية سهلة؛ ولذلك الأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك بدليل شرعي، ولا يجوز التساهل بالتكفير أو التبديع أو التفسيق؛ لأن في ذلك محاذير كثيرة أعظمها: الأول: أنه افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم على المحكوم عليه بما ليس صحيحاً. الثاني: أنه يقع عليه ما يتهم به غيره إن لم يكن كذلك؛ ولذلك لا بد من النظر في دلالة الكتاب والسنة، وانطباق القول على هذا القائل المعين، فإن القول قد يكون كفراً، ولكن لا يكفر قائله؛ لأنه عنده بعض الأعذار التي تصرف عنه مثل هذا الأمر، والمسألة في مثل هذا طويلة. ذكر الشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه في تفسيره كلاماً نفيساً في مسألة النهي عن تكفير المعين، والتنفير منها، فيقول: اعلم أنك إن مت ولم تقل في فرعون شيئاً لم يؤاخذك الله تعالى بذلك يوم القيامة، أي: ليس مطلوباً منك أصلاً أن تحكم على عباد الله، وأن تعطيهم درجات ومنازل في جهنم، هذا في الدرك الأسفل تتهمه بالنفاق، وهذا مخلد تتهمه بالكفر، وذاك مبتدع يستحق من الله عز وجل كذا وكذا، الأصل أنك لست مطالباً بهذا، لكنه يكون مهماً في أحيان كثيرة؛ لئلا تتميع الأمور، ولئلا يلتبس الحق بالباطل على الناس، فإن من أشهر كفره، وقال مقالة الكفر؛ ينبغي أن يبين أن هذا القول كفر، وأن المعتقد له مع وجود الشروط وانتفاء الموانع كافر، لكن تكفير المعين أمر آخر، حذر منه أهل العلم، وغالب أهل السنة لا يقولون بتكفير المعين، قال صاحب الطحاوية: ولا ننزل أحداً منهم- أي: من المسلمين- جنة ولا ناراً، وقال الشارح: أي: لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار، إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة أو من أهل النار. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: ثم حكم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبته -أي: الشخص المعين قد يقول قولاً فيه كفر، لكن حكم الوعيد يلغى في حقه بتوبته- أو حسنة ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه قد يكون الرجل حديث عهد بإسلامه، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً. يقول: وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فاحرقوني، ثم ذروني في البر والبحر، فوالله! لئن قدر الله علي ليعذبني)، هذا الحديث ذكره ابن تيمية في ثلاثة مواضع من فتاواه بتفصيل وتطويل واسع، يذكر فيه أنه لا بد ألا يكون هناك تعجل في التكفير إذ قد يكون استحق التكفير، لكن صرفه عنه صارف، ثم قال: وإني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً تارة وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ بالمسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.

التنازع والاختلاف

التنازع والاختلاف النقطة الأخرى التي معنا مسألة التنازع والاختلاف، وهي قريبة من هذا، لكن هذه أخص، وهي عدم الفقه في مثل هذه الأمور، وهو أن هناك أموراً لا يمكن اجتماع الأمة فيها على قول واحد، بل إن الله جل وعلا قضى -وقضاؤه فيه عدل وحكمة ورحمة- أن أموراً كثيرةً يظل فيها اختلاف، ومن تلك الأمور الاختلاف في المسائل الفقهية الفرعية، وبعض ما ليس معلوماً من الدين بالضرورة، وبعض المسائل الدقيقة التي قال عنها ابن تيمية: ليست أدلتها جلية واضحة، ويقع فيها الاختلاف، ووقع في سلف الأمة، ويقع في حاضر الأمة، وسيقع أيضاً في مستقبل الأمة، فلماذا يكون التنازع والاختلاف فيما هو سائغ فيه الاجتهاد؟ ينبغي ألا يكون هناك تنازع واختلاف إلا فيما يخرج عن المعلوم من الدين بالضرورة، أو يخالف صريح القرآن والسنة النبوية المطهرة، أو الذي يأتي ببدعة مكفرة واضحة بينة، وبين له ثم لم يرتدع، وهذا أمره ظاهر بين لا أظن أنه يلتبس، ولكن كثيراً من النزاع والخلاف الواقع هو فيما دون ذلك، وللأسف أنه يقع في مثل هذا التنازع والاختلاف التشهير والتعيير، مع أن الأمر لا ينبغي أن يكون كذلك، وإنك تجد من أثر هذا أن يشهر أو يعير بأهل الخير لمجرد اختلاف في الاجتهاد، وهذا لا شك أنه انتكاس وانعكاس في الموازين كما قال أبو العلاء: إذا وصف الطائي بالبخل مادر وعيّر قساً بالفهاهة باقل وقال السها للشمس أنت خفيةٌ وقال الدجى يا صبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء سفاهةً وفاخرت الشهب الحصى والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل وإن كثيراً من الأمور أحياناً يقع فيها مثل هذا الأمر.

الإسقاط والمصادرة

الإسقاط والمصادرة الإسقاط والمصادرة هي أعلى درجات الاختلاف والتنازع دون التكفير، وهو أنه مجرد أن يكون بينه وبين آخر اختلاف يحرص أن يسقطه، وأن يصادر قوله بالكلية، بما فيه من حق وصواب، وبما فيه من حسن وإساءة، وهذا لا شك أنه من البغي والعدوان، وقد سبق في درس الحوار أن ذكرت نصاً لشيخ الإسلام ابن تيمية فيما يتعلق بمثل هذا الأمر، فإنه قد يكون في عمل الإنسان الصائب بعض الخطأ، فيدفع الآخر الذي ينكر هذا الخطأ إلى خطأ أكبر حينما يرد العمل كله بصوابه وخطئه، وهناك بعض الناس أحياناً يجترئ ويعتد بالخصومة، فإذا كان خصماً أو مفارقاً أو مخالفاً لشخص آخر فإنه ينظر أي السبل أسرع في إسقاطه، وأي الطرق أنجح في مصادرة قوله، أو إبطال التفاف الناس حوله، أو إبطال سماع الناس له. ويختلف هذا باختلاف الناس، قد يأتيك شخص ويقول لك: هذا لا يحب العلم، هل أنت ممن يتحرز منه؟ أو يقول: ترى أن بعض الأمور ليست مطابقة للأولى، ومخالفة لما ينبغي أن يكون، فيأتيك من هذا المدخل، فهو ينظر المدخل الذي يناسبك ليصرفك عن فلان أو عن فلان أو عن الكتاب الفلاني، أو عن كذا، ينظر إلى أيسر الطرق دون أن يراقب الله سبحانه وتعالى في ذكر الخير والحسنات، وذكر الصواب والإشارة إلى ما يحصل به للمنصوح من الفائدة، فإن الذي استنصحك قد استأمنك وألقى في عنقك أمانة من الله عز وجل أن تؤدي له القول خالصاً لله، فلا تغشنه في نصيحتك وتأتي له بهذا النوع من الأساليب التي لا يستخدمها إلا من لا خلاق له ولا إيمان عنده، ولا تقوى ولا ورع من أهل الدنيا ومن أهل المناصب ومن أهل السياسة المحضة، الذين همهم أن يغنموا وأن يكسبوا ولو كان ذلك على حساب غيرهم، ولو كان ذلك بغياً وعدوناً، ولو كان ذلك كذباً وافتراءً، ولو كان ذلك تدليساً وتوهيماً للناس، فإن مثل هذا لا شك أنه من أكبر الخطأ والخطر، وكثيراً من مثل هذه الأمور تلتبس على الشباب، فإنه يرى خيراً ويسمع خيراً، ثم يأتيه من يأخذ من بين هذا الخير أمراً معيناً يجعله أساساً وركيزة ليوهم سامعه أو مستنصحه ألا يغرنك هذا الخير، ولا تغرنك هذه الكثرة، ولا تغرنك هذه الإيجابيات، فإنها كلها غير مؤسسة على أمر صحيح، ولا بد أن تبتعد عنها، وأن تنأى بنفسك عنها! فهذا لا شك أنه خطر عظيم ينبغي أن يتوقاه الإنسان.

الحيرة والاضطراب

الحيرة والاضطراب نشأ عن الطعن في الدعاة حيرة واضطراب عند كثير من الشباب، فهو يقول: هذا مخالف، وهذا يقول كذا، حتى إن بعض الدعاة، أو بعض أهل العلم يذكر بعضهم في بعض قولاً. ونقول: من رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل لها إجماع الأمة، وجعل لها من الأئمة الذين في قولهم كثير الصواب، ويقل عندهم الخطأ. وأيضاً جعل للإنسان الدعاة الذين يستعين بهم على معرفة الحق من الباطل، وعلى أن يثبته الله سبحانه وتعالى على الصواب. وكذلك ينبغي للإنسان ألا يكون متسرعاً، بمعنى: ألا يأخذ الحكم سريعاً، بل ينبغي له ألا يكون ضيق النفس يريد أن يصل إلى حل مشكلة خطيرة في دقائق وثوان معدودة. وكذلك ينبغي له أن يتجرد من ضعف الشخصية التي تجعله تبعاً لغيره، يقول له: يمين، يقول: نعم، اليمين صحيح، فإذا قال: شمال، قال: الحكمة في الشمال، إذا قال: إلى أعلى، قال: ليس هناك أفضل من مثل هذا! لا يكن أحدكم إمعة، لا تقلد الناس في دينك، بل ينبغي أن تكون -مع توقيرك ومحبتك لمن تثق به- صاحب بصر وصاحب نظر، والإنسان عنده في نفسه وإيمانه ما يكون كاشفاً له من القول الناشئ عن الحسد، أو عن الاختلاف، فيعرف مثل هذا ويكتشفه، قال معاذ رضي الله عنه: (إن على الحق نوراً يدل عليه). فليس كل قول ينبغي أن يأخذه الإنسان ويتبعه، والحيرة والاضطراب تزول بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى العلماء الذين يستنبطون الأحكام من الشرع، ويبينون مثل هذه الفتاوى التي تصدرنا بها هذا القول، فإن كثيراً من الحيرة والاضطراب تنشأ عندما يجعل الإنسان دينه هبة لكل أحد، فهو يستفتي أي أحد، أو يستفتي من هو أسبق منه بيوم في الاتباع، أو زميله في المدرسة، بل ينبغي أن يرجع إلى الراسخين في العلم الذين عندهم أمران مهمان: غزارة علم، وعمق تقوى لله عز وجل. فالأمر الأول: يعصم من الخطأ والضلال. الأمر الثاني: يعصم من الانجراف وراء الأهواء والعصبيات، ولا بد أن يجتمع الأمران. والله سبحانه وتعالى نسأل أن يزيل عنا أسباب الحيرة بما في نور القرآن ونور هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

التعصب والحسد

التعصب والحسد التعصب والحسد من الآفات التي تقع من الناس أفراداً وجماعات، وغالباً ما يكون أساس الخلط والوقوع فيها أمران: الأول: عدم الفقه والفهم. الثاني: الانسياق وراء الهوى، ومقتضيات الانتصار للنفس، فإن الإنسان إذا أحب شيئاً تعصب له، وكرس جهده لنصرته، وللدفاع عنه ضد كل ما يناوئه، والله عز وجل جعل لنا من مثل هذا الأمر عصمة؛ لأنه لا محبة ولا ولاء دائم إلا لما هو مرتبط بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمؤمن يُحب لما فيه من الخير، وقد يكره أيضاً مع محبتك له لبعض ما فيه من المعصية، فلا تكون المعصية التي فيه داعيةً إلى بغضه بالكلية، بل إن الفاسق والعاصي يجتمع فيه الحب والبغض، بحسب قربه من موافقة الحق، أو بعده ومعارضته له، والذي يتعصب يفوته فقه كثير من مقاصد هذا الدين، ومن أهمها: أن الأمة لا بد أن تكون أمة واحدة، وأن الأخوة الإسلامية أصل أصيل في هذا الدين، وأن أمر التعاون ينبغي أن يكون بين المسلمين ضد أعدائهم، وبين من هو أقل ضرراً وانحرافاً ضد من هو أكثر ضرراً وانحرافاً، وهذا كان دأب علماء الأمة وفقهائها الذين أحسنوا معرفة مقاصد الشريعة، فلا يقودن مثل هذا التعصب إلى مثل هذه الأمور.

التزكية والعصمة

التزكية والعصمة بعض الناس يقول: نسمع أحدهم يقول: فلان لا نزكيه على الله، ثم يطنب في مدحه، وفي حقيقة الأمر أنه لا يرد له قولاً، ويوافقه على كل شيء، ولا يسمع إلا منه، ولا يقبل إلا منه. لا شك أن التزكية في الأمر الظاهر مشروعة ومطلوبة، وكذلك مطلوب معرفة العالم والداعية وصاحب الخير، لكن النبي عليه الصلاة والسلام هو المعصوم، وغيره كل يأخذ من قوله ويرد، وينبغي ألا يكون هذا الأمر مجحفاً، ولا فيه نوع من المبالغة في مثل هذا الأمر؛ لأن هذا فيه نوع من تقليد المرء دينه الرجال، وأن كل ما قال هذا فهو صحيح. وقد أشرت في الدرس الماضي إلى أن من الأخطاء: المبالغات التي تجعل الناس في حيرة واضطراب، أو التي تجعلهم عند المقارنة والتمحيص لا يجدون هذا التطابق بين القول المبالغ فيه وبين الحقيقة الواقعة، فلا بد أن ننتبه لمثل هذا، وأن نتجنب مسألة التعصب أو التزكية المطلقة. وقفة سريعة ومهمة في نفس الوقت مع بعض الأساليب التي يقع فيها الناس، أو يلبس عليهم أن فيها مسوغات شرعية، فإذا أراد القدح قال: فلان هداه الله، ثم حط عليه حطاً منكراً، أو فلان جزاه الله خيراً وبارك فيه، ثم بعد ذلك كأنه يرى أن مثل هذا القول مسوغاً للذي بعده من القدح، وهذا لا شك أنه من الخطأ الكبير. وأيضاً يلتبس على الناس أحياناً مسألة إحقاق الحق، وأن الحق أحق أن يتبع، فيستبيح لمثل هذا أعراض الآخرين، ويتعصب ضدهم، وينبزهم بما ليس فيهم، أو بما هو فيهم، لكنه ما استخدم الطريق المشروع في إزالته أو إبلاغهم إياه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: فمن الناس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه وعشائره، وقد ذكر بعض الإخوة عين هذه المسألة، فقال: إن بعض الشباب يجتمعون في مجالسهم ليس لهم هم إلا أن ينتقدوا الآخرين، سواءً من أقرانهم أو من الدعاة أو من العلماء، بل حتى تناولوا بعض علماء الأمة الذين قد أفضوا إلى ما قدموا، وأبلوا في نصح الأمة بلاءً حسناً، وذكر السائل أمثال النووي وابن حجر رحمة الله عليهما. فتجد بعض الناس مجالسهم تفكه بأعراض الناس والعياذ بالله، ودوام النقص الذي لا يلتفت إلى الخير، ولا يبني ولا يوجه إلى العمل، بل هو نوع من الأسباب المفضية إلى قسوة القلب، وإلى انطماس نور البصيرة، وإلى قلة الفقه في الدين، وإلى ذهاب الورع والخشية والتقوى لله عز وجل؛ ولذا أشرت فيما مضى إلى ما ذكره ابن القيم في فوائده حيث يقول: إن أعلى الهمم، همة طلب علم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن أخس الهمم في طلب العلم تتبع شواذ المسائل، والمسائل المختلف فيها، قال: وقل أن يفلح من أخذ بهذا السبيل. وهذا في العيان وفي الواقع ظاهر، والدليل عليه واضح في كثير من الحالات. ويقول: شيخ الإسلام ابن تيمية: فمن الناس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون فيه، أو فيه بعض ما يقولون، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس، واستثقله أهل المجلس، ونفروا عنه، فيرى أن موافقتهم من حسن المعاشرة، وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم، فيخوض معهم. ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله إنه مسكين، أو رجل جيد، ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضم جنابه. ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك، كما يخادعون مخلوقاً. وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، ومنهم من يرفع غيره رياءً، فيرفع نفسه فيقول: دعوت البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه من كيت وكيت، ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقد فيه، أو يقول: فلان بليد الذهن، قليل الفهم، وقصده مدح نفسه، وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه، فتسأله ما رأيك في فلان؟ فيقول: ليس عنده كذا وكذا؛ ليبين أن عنده غير الذي عند غيره. ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة، فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثني على شخص عنده أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب السخرية واللعب؛ ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزئ به. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، وهذا كثير، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت! ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت! لكن صيغة هذا الكلام يدل على القدح، هذا كلام شيخ الإسلام في مثل هذه الصور التي ابتلينا بكثير منها، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية!

التعميم في الأحكام

التعميم في الأحكام من الأخطاء المهمة في هذه القضايا سواء التعصب أو التنازع أو التكفير أو التنفير غير الأمور المهمة التي أشرت إلى بعض منها عند تعليقي على بيان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز التعميم، وهو أكبر خطأ، التعميم في الحكم، فلا يقول: فلان كذا، لا، بل يقول: أهل البلد الفلاني كذا، والجماعة الفلانية كذا، وأهل مسجد كذا فيهم كذا، من قال: إن الناس كلهم على قول ورأي واحد؟! لا يصح التعميم في الحكم، لو قيل: إن أهل هذا المسجد كلهم فيهم خصلة ابتداع، فهذا تعميم خاطئ، ولا يمكن أن يكون كل الناس لهم رأي واحد. إذاً: لا يصح التعميم في مثل هذه الأحكام، سواء كان في الأفراد ككل، أو كان في الفرد الواحد فتقول: فلان فيه جلافة، لمجرد موقف واحد كان في وقته غليظاً أو فظاً أو غاضباً أو كذا، فعممت موقفاً واحداً على سائر حياته! لا يصح هذا. أو فلان لا يعرف، ولا يعلم، جاهل؛ لأنه سئل عن مسألة فقال: لا أعلم. وهذا التعميم من الأخطاء الشائعة وللأسف. وكذلك النظر إلى مرحلة من مراحل الحياة، قد يكون الإنسان في فترة من فترات حياته مسرفاً على نفسه بالمعاصي ثم تاب، فنقول: فلان فاسق، باعتبار أول حاله ولو تاب، ولو أتى بألف دليل ودليل لا يقبل منه! وهذا لاشك أنه مخالف لشرع الله سبحانه وتعالى، ولمقتضى العقول. ومن هذه الأمور: عدم الإنصاف، والتركيز على السلبيات دون الإيجابيات، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالعدل حتى مع الأعداء، وأمرنا بالمعاملة الحسنى حتى مع أهل الكتاب: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، فكيف لا يكون ذلك لإخواننا في الإسلام؟!

عدم التثبت

عدم التثبت عدم التثبت هي الآفة الكبرى، يجعل أذنه لاقطة لكل خبر، ويجعله مسلم التصديق، ويحق في بعض الناس قول الله عز وجل: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15]، وهذا تعبير قرآني فريد، التلقي بالأذن، لكنهم لما أسرعوا في نقله من آذانهم إلى ألسنتهم قال: (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ)، ليس هناك وقت ولا فاصل بين التلقي والإرسال، مباشرة يرسل من غير تروٍ ولا تثبت، وينسى قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]. وأيضاً هناك أسباب كثيرة ينبغي أن يتنزه عنها الإنسان، منها: اتباع الهوى. الجهل. سوء الظن بالآخرين. الموافقة للأصدقاء وأصحاب الأهواء.

مطالبات وتوجيهات

مطالبات وتوجيهات الوقفة قبل الأخيرة: مطالبات وتوجيهات، أذكرها بعناوينها لما ورد في مشاركات الإخوة.

أحسن التعامل والدعوة للعامة

أحسن التعامل والدعوة للعامة إن على الشباب أن يحسنوا التعامل والدعوة للعامة، فبعضهم يذكر أن كثيراً من الشباب إذا رأوا منكراً، أو رأوا تاركاً أو متخلفاً عن الصلاة، أو رأوا عاصياً، لا ينبعثون له، ولا يقومون بأدنى الواجب فيه؛ لأنهم منغلقون على أنفسهم، حريصون على دروس العلم، وعلى حفظ القرآن، ولا يوجهون أحداً إلا بعضهم بعضاً، وربما يستنكف الواحد منهم أن يخاطب العامي، ويراه دون ذلك، أو أحياناً يرى أن غيره أولى. نقول: نعم، قد يكون غيره أولى بالتعليم، لكن تقديم هذا لا يعني إغفال هذا بالكلية. الدعوة لعامة الناس، والحرص على إصلاح المنكرات العامة، والمظاهر العامة، لا شك أنه من أعظم أسباب بقاء الصلاح، وإصلاح الناس من بعد، فإنك إن تركت هذه الأمور والمنكرات والناس على جهلهم؛ لتعلم طلبتك فحسب، أو لتربي تلاميذك فحسب، فبعد ذلك ماذا سيكون؟ سيكون انحراف في المجتمع، وهذا الانحراف قد يؤثر على طلبتك، ويفسد ما تربوا عليه من الخير والصلاح، ولن تجد بعدهم من يكون مؤهلاً لأن ينتفع بالعلم ويستفيد من التربية.

الدعوة والاهتمام بالأهل

الدعوة والاهتمام بالأهل مسألة كثيرة الشكوى، وهي: تعامل الشباب مع أهلهم وأسرهم وذويهم، فإن خير كثير من الشباب مبسوط وموهوب خارج بيوتهم، وخارج أهليهم، والله سبحانه وتعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، وكما يقولون: الأقربون أولى بالمعروف، وكثير من هؤلاء الشباب لا يقيم في بيته درساً، تراه حافظاً للقرآن، مجوداً له، على حظ من العلم، على فصاحة في اللسان، على طلاقة في البيان، أما في بيته فلا يقدم لأهله أدنى الواجب، وهذا لا شك أنه من أكبر الخلل، وأكبر الاضطراب في التصور، وهو أمر تكثر الشكوى منه، ولعل من المناسب أن هذه الشكوى جاءت من نفس الشباب الذين ذكروا مثل هذه العلة، وهذا النقص. وهذا يقع به نوع من الخلل من وجه آخر، وهو أن الآباء والأسر تكون نظرتهم لهذا الملتزم الصالح نظرة غير محمودة، ويكونون معترضين على مثل هذا، بحكم أنهم لا يكون عندهم موازين شرعية في التقويم، فيعتبرون كل عمله ليس فيه خير، ويقولون: كنت قبل ذلك نرى منك بعض الخير، أما حين دخلت في هذا المسلك ما رأينا منك خيراً قط، وهذا لا شك أنه يعتبر من آثار عمل العبد، فأنت كنت سبباً في إيجاد هذا الفهم وهذا القول الخاطئ لأهلك؛ لأنك كنت سبباً في هذا التصور وهذا القول. لذلك ينبغي أن يفقه الإنسان وخاصة الشاب أن أول الناس ببره وبخيره وبعلمه وبصلاحه هم أهله؛ لأن الناس إنما يخالطهم في فترات قصيرة، أما الأهل فإن الإنسان لا يستطيع أن ينفصل عن أهله، عن أبيه، عن أمه، عن زوجته، عن أبنائه، قد يكون مع زملائه في العمل، مع زملائه في الدراسة، ثم تتفرق بهم السبل، أما هؤلاء فإذا ما أصلح ما بينه وبينهم فإنه يبقى دائماً في نزاع وشقاق، ولاشك أيضاً أن هذا من أعظم البر، ومن أعظم إسداء المعروف للأهل.

التفاعل والبذل في سبيل الدعوة

التفاعل والبذل في سبيل الدعوة أذكر للإيجاز المشاركة التي جاءت في هذه المسألة؛ لأنها غنية عن التعليق، يقول الأخ: إن شباب الصحوة يعايشون صحوتهم، يبذلون جهدهم في نشرها، غير منتظرين أجراً من أحد، ولكن المثوبة من الله عز وجل، وعلامة صدق الباطن الانفعال الفردي للصحوة والدعوة، فمن أخلص لشيء أعطاه كل ما يملكه، فماله ووقته وجهده وفكرته وكل إمكاناته في خدمة الصحوة والدعوة، وتحت تصرفها، فهو يقدم صحوته على طعامه وشرابه، ويؤثرها على زوجته وأولاده، ويتصورها في يقظته ومنامه، ويبذل لها ماله؛ ليكسب لها الانتشار والبقاء، ويتألف بها الأعوان، ويتعب جسمه ليبلغ بها أبعد الأسباب في النجاح، ويعيش ليحمل هذا الأمر، لا ليكون هو محمولاً عندها، وعندها يصدق ظاهراً وباطناً. فكثير من الشباب يتحدثون في مثل هذه الأمور، لكنهم لا يتحركون في أعماق قلوبهم، ولا يتحركون كثيراً في واقع حياتهم، وهذا للأسف ربما من أثر الواقع العام في مجتمعاتنا العربية، كما يقولون: نحن قوم نجيد الكلام ولا نحسن العمل، وهذه تنعكس آثارها علينا.

تساؤلات ومقترحات

تساؤلات ومقترحات وردت بعض التساؤلات عن بعض القضايا التي ذكرت فيما مضى، من ذلك استشهاد عائشة رضي الله عنها بقول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في زمن كجلد الأجرب يقول السائل: أليس هذا قولاً محذوراً فيه نوع من النقد والتذمر من الزمان؟ نقول: ليس هذا داخلاً في مثل هذا، بل هو نوع من ذكر فضيلة الزمن السابق، وما وقع من الخلل والخطأ في الزمن اللاحق، وليس فيه تمن للموت، ولا سب للدهر، وإنما هو وصف للحال، وفي الصحيح عند البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه) فوصف الزمان بالشر أو بوقوع الفساد ليس محذوراً، بل هو من التنبيه على ما وقع فيه من خطأ وفساد. وأيضاً سائل سأل عن مسألة بعينها في النص الذي نقلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية من (اقتضاء الصراط المستقيم) فيما يتعلق بمسألة المولد النبوي، وقال: هل يفهم من الكلام أنه إقرار وإباحة؟ قلت فيما مضى في نص كلام الشيخ: إنه ليس له أصل مشروع، وهو مبتدع، لكن كان الاستدلال من كلام الشيخ أنه قد يكون فيه خير وهو بدعة، وكان الكلام أنه لا بد من إزالة البدعة وإحلال السنة، فإن لم يستطع فإزالة البدعة، وإخلاؤها من غيرها، يعني: أن يبقى الأصل من السنة والخير عامراً، أما إن اقتضى زوال الابتداع اليسير مع فوات الخير الكثير فهذا غير صحيح في مراعاة المصالح والمفاسد. فالمولد في ذاته غير مشروع، وليس له أصل من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ولا صحابته رضوان الله عليهم، ولا سلف الأمة، ولا أعلام الأئمة المعروفين، والمعتبرة أقوالهم. وأخيراً: هناك جملة من المقترحات فيما يتعلق ببعض الموضوعات في الدرس وغيرها، وأشير أيضاً أن بعض مشاركات الإخوة التي وردت ستكون إن شاء الله موضوعات مستقلة؛ فإن كثيراً من المشاركات جاءت حول موضوع القراءة وطلب العلم، وما هو الأولى فيها، وكيف الطريقة في طلب العلم، ومثل هذا إن شاء الله يكون موضوعاً مستقلاً. وكذلك بعض المطالبات والمشاركات سنفرز لها موضوعات إن شاء الله فيما يأتي. ونسأل الله جل وعلا أن يكون هذا الحوار وغيره خيراً ونفعاً وفائدةً، وأن يعيننا الله به على أنفسنا، وأن نتجرد فيه من ذواتنا، ومن أهوائنا، ومن حظوظ أنفسنا؛ لنكون أتبع لكتاب الله ولسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وبالنسبة لبقية الأسئلة سنفرد لبعضها مع ما مضى درساً ننتقي فيه بعض هذه الأسئلة المهمة؛ لأنه وردت أسئلة مهمة، لكن يضيق الوقت عنها، وسنجمعها ونصنفها مع بعض الأسئلة الماضية لتكون إن شاء الله في إجابات واحدة. نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

العاطفة والدعوة

العاطفة والدعوة العاطفة جبلة بشرية جبل الله عز وجل عليها البشر؛ فينبغي للمسلم أن يجعل عاطفته على وفق ما شرع الله عز وجل، فلا يتساهل فيها حتى تصير ضعفاً وجبناً، ولا يزيد فيها حتى تخرج عن حدها، وليكن متوسطاً فيها، فخير الأمور أوسطها.

أهمية العاطفة

أهمية العاطفة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. والصلاة والسلام على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين والدعاة. أما بعد: أيها الأخوة الكرام! (العاطفة والدعوة) هو عنوان الدرس الثالث والسبعين من هذه السلسلة من الدروس العامة، وينعقد في يوم الجمعة التاسع عشر من شهر الله المحرم عام أربعة عشر وأربعمائة وألف للهجرة النبوية، وهذا الموضوع من الموضوعات التي رأيت أن كثيراً من شباب الصحوة وأجيال الدعوة يتحدثون عن بعض ظواهره، ويسألون عن بعض مشكلاته وعوارضه، فأحببت أن أطرقه طرقاً يحيط بأصوله من الناحية النظرية والفكرية، ويلم كذلك بمشكلاته من الناحية التطبيقية العملية.

العاطفة فريضة إسلامية

العاطفة فريضة إسلامية الأمر الثاني: أن العاطفة فريضة إسلامية؛ وذلك أن الإيمان مهيمن لا يقبل أنصاف الحلول، ولا يقبل منك أن تنطق باللسان، وليس هذا في حد ذاته كافياً في وصف الإيمان، فقد بين ذلك الله جل وعلا في شأن أهل النفاق فقال عنهم: {آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] ولا يكتفي منك أيضاً بمجرد الامتثال بالحركات والأعمال، فإن ذلك قد كان دأب المنافقين أيضاً؛ كما قال عز وجل: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]؛ فإن الإيمان شرطه أن يستولي على القلب، وأن يضرب أوتاده في أعماق النفس، ولا يرضى إلا أن يكون حاكماً على كل إحساس وعلى كل شعور وعلى كل خفقة قلب، وعلى كل خلجة نفس، فلابد أن تحكم بهذا الإيمان؛ لأن الإيمان يغير الإنسان من داخله، فيغير مشاعره؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) فليس لك أن تحب كما شئت، أو أن تبغض كما شئت، أو أن توافق هوى نفسك، أو أسلوب تربيتك، بل إذا تغلغل الإيمان في قلبك وجدت هذه العواطف؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، فهذا الحب المرتبط بالله عز وجل والمحبة المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة الأخوة الإيمانية بين أهل الإسلام كلها أمور إسلامية إيمانية من أخص خصائص هذا الدين ومن أعظم أركان هذا الإيمان، ولا يمكن أن نتصور إيماناً أو إسلاماً بدون تحققها الكامل، ولذلك ينبغي أن يعلم العبد المؤمن أن هذه الحقيقة ينبغي ألا تغيب عن باله مطلقاً. ونصوص الكتاب والسنة في أمر المحبة لله عز وجل والمحبة لرسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة في هذا الباب ليس هذا مقام الاستطراد في ذكرها وسردها.

العاطفة فطرة بشرية

العاطفة فطرة بشرية أهمية العاطفة تتضح من خلال أمرين اثنين: الأول منهما: أن العاطفة فطرة بشرية، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان وهو العليم به، كما قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وكما قال سبحانه وتعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]؛ فإنه جل وعلا قد خلق الإنسان قبضة من طين، ونفخةً من روح، وجعل له عقلاً يفكر وعاطفةً تؤثر، وبين عقله وعاطفته أنزل له شرعاًَ يوجه العقل لئلا يشذ، ويحكم العاطفة لئلا تند، وبالتالي فإن طبيعة الإنسان وخصيصته البشرية أن العاطفة جزء أساسي فيه، بل جزء مميز له، فإن الإنسان في حقيقة الأمر مجموعة من العواطف، وكتلة من المشاعر؛ عنده حب متدفق، وقد يعتريه أحياناً بغض لا حد لمنتهاه في الانتصار للنفس، أو في تدبير الكيد لذلك المبغض، وكذلك عنده راحة وطمأنينة، ويعتيره قلق وهمّ، وأحياناً يكون في صورة من الأنس والانشراح، وأحياناً في وقت من التبرم والضيق، وكل هذا نوع من آثار أو صور العاطفة في نفس الإنسان. والحق بأن الإنسان بلا عاطفة كجثة هامدة؛ لأن العضلات والجوارح والمفاصل في الجسم البشري ليست هي التي تعبر عن كنه الإنسان بقدر ما يعبر عنه عقله وعاطفته، لذلك نعرف اليوم بما يسمى بالرجل الآلي أو ما يطلقون عليه الكمبيوتر أو العقل الإلكتروني، فهذا إن تجاوزنا أنه عقل مفكر بهذه التسمية على إقرارنا لها إلا أننا لا نصف هذه الأشياء بأن لها عاطفة، بل هي عقل صرف إن تجاوزنا عن حقيقة العقل الذي يفكر ويغير وليس هو مقيداً تقييداً كاملاً، فالإنسان بلا عاطفة -كما يقولون- كأنه حجر أو كأن قلبه من صخر لا يتأثر، يرى الفواجع فلا يهتز له جسم ولا يخفق له قلب، ويرى المباهج والمناظر الجميلة فلا تفتر شفتاه عن ابتسامة، ولا تجد في عينيه بريق سعادة، إن هذا في حقيقة الأمر كتلة من صخر أو إسمنت ليس فيه أية مشاعر؛ ولذلك قال بعض الأدباء -مع التجاوز عن بعض ما في هذه الكلمة-: (من لم يطربه خرير المياه في الأنهار وحفيف الأشجار فليبك على نفسه؛ فإنه -كما يقولون- حمار. يعني: منعدم المشاعر والأحاسيس. والعاطفة أصلاً هي جزء رئيسي من تكوين الإنسان، وفطرة وجبلةٌ مما جبله الله عز وجل عليها.

بعض الآثار الإيجابية للعواطف

بعض الآثار الإيجابية للعواطف وإذا عرفنا أن العاطفة في أصلها فطرة بشريه وفريضة إسلامية، فلنذكر الآثار الإيجابية للعواطف، أي: ليس على سبيل التفصيل على واقع الأعيان، وإنما في الجملة:

الارتباط والتعلق بالمحبوب

الارتباط والتعلق بالمحبوب الخامس: الارتباط والتعلق: وهذا من أظهر آثار العواطف؛ فإنك إن أحببت الله ارتبطت به، وتعلقت في شأن النبي عليه الصلاة والسلام وإخوانك المؤمنين، وشعائر هذا الدين، والارتباط والتعلق أمره بين لا يخفى على أحد، كما قال المحبون من قبل: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار ولذلك وقفوا على الأطلال، ووصفوا الخيام والجمال، وكل ذلك من أثر ذلك التعلق والارتباط، وكما قال قائلهم أيضاً: فلو قيل للمجنون ليلى ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال غبارٌ من تراب نعالها أحب لنفسي وأشفى لبلواها أي: كل شيء يذكر بذلك المحبوب ويصل به يكون به أُنس النفس وقرة العين. وتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) فإن الأول هو الفطرة البشرية التي جاء بها هذا الدين، فليس هناك ترهبن ولا تبتل ولا انقطاع عن ملذات الحياة العادية البشرية، والثاني هو أن هناك محبة أسمى وهي التي يتحقق فيها الارتباط بالله سبحانه وتعالى، ولذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام: (أرحنا بها يا بلال). العاطفة المتدفقة تربط كل شيء يذكرها بالمحبوب وكل أمر يربطها به وكل سبب يعلقها به ويجعلها لا تنساه مطلقاً، ولذلك كان للذكر أثر في طمأنينة القلب، وحلاوته في النفس، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره ولم ينسه مطلقاً، حتى إذا رأى الرؤيا في منامه فإذا به يراها متعلقة بهذا الأمر، فإذا أصابه مرض وصار يهذي بما لا يعرف إذا بهذيانه لا يذكر إلا المحب أو الحبيب الذي لا ينساه مطلقاً، ولذلك تجد هذه الآثار واضحة قوية، ولها أمثلة في جانب الخير وأمثلة في جانب الشهوة العادية، أو المتجاوزة للحد، وإن كان كثير من العلماء من أمثال ابن القيم وغيره جعلوا بعض أبيات المحبة التي ذكرها العشاق في المعاني الإيمانية في الصلة بين العبد وربه، واستشهدوا بهذه الأبيات في معاني المحبة الإيمانية بفروعها المختلفة، ولذلك كل هذه الآثار لها شواهدها في حياة الصحابة رضوان الله عليهم وفي حياة صدر الأمة عندما كان عندهم بذل وتضحية في سبيل هذا الدين، كما قال الشاعر: كنا نقدم للسيوف صدورنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولها أزهارا لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا ندعو جهاراً لا إله سوى الذي صنع الوجود وقدر الأقدارا ورءوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا لقد كان هذا الحب الإيماني نصرةً وتضحية وبذلاً لهذا الدين، وكان هناك التعلق أيضاً كما جاء في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه مرةً وقد تغير لونه، فقال له: (ما بك يا ثوبان؟! فقال يا رسول الله! ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشةً شديدةً حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف ألا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة فأنا في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أرآك أبداً، فنزل قوله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69])، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) وهذا كله دليل وشاهد على صدق تلك المحبة الإيمانية، كما وقع من خبيب بن عدي رضي الله عنهم لما جيء به ليقتل أو ليصلب فقيل له: أتحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ قال: (والله! ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ وأني جالس في أهلي) فقال أبو سفيان -وكان في ذلك الوقت على الكفر-: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. هذه هي العاطفة الصادقة إذا سارت في المشارب الإيمانية والمناهج الإسلامية.

الرضا والقبول بشرع الله عز وجل

الرضا والقبول بشرع الله عز وجل الأمر الثالث: الرضا والقبول بما يأتي من المحبوب: فإنك إن أحببت الله سبحانه وتعالى رضيت بقضائه وقدرة، وإن أحببت الله عز وجل رضيت بأن تمتثل أمره، وأن تجتنب نهيه، وإن أحببت النبي صلى الله عليه وسلم قبلت منه كل هدي وإرشاد، وإن أحببت إخوانك المسلمين أفسحت لهم في قلبك، وأعطيتهم من خلاصة مهجتك ومشاعرك ولطفك ولينك وسماحتك ورزقك، وإذا تحقق ذلك قبلت منهم ورضيت منهم بما قد يقع من تقصير، وغضضت الطرف عن بعض هفواتهم، وتجازوت عن بعض ما نبا من كلماتهم وغير ذلك من الأمور. واستمع إلى قصة يوسف عليه السلام عندما قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] ولما كان السجن هو الذي يقيد الحرية ولا تقبل به النفس البشرية كان محبوباً عنده؛ لأن فيه العصمة عما حرم الله عز وجل؛ ولأن فيه المهرب من المعاصي إلى الطاعات ومن الخلطة الفاسدة إلى الخلوة الصالحة مع الله سبحانه وتعالى، فلما كان الأمر كذلك: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]. ونحن نسمع أيضاً في مجال الحب المعروف المشهور أن كل شيء في حبك يهون، وغير ذلك من العبارات التي نحفظها ونعرفها ويقولون له: قد أساء إليك، ويقول: كل إساءة منه مقبولة، قد أعرض عنك، فيقول: ذاك صد الإغراء لا صد الإعراض، وكلما قيل له أمر رضي به وأحسن له التبرير والتماس العذر، فأحرى بك أن تكون مشاعرك إيمانية إسلامية وترضى وتقبل على هذا الأساس المحبة والعاطفة وفق الضوابط الشرعية.

الصبر والثبات

الصبر والثبات الرابع: الصبر والثبات: فكم تجد من تغلغل الحب في قلبه عنده من الصبر والثبات على أمره وعلى ما أحب من دينه وإيمانه ما لا يمكن أن يتنازل عنه أو أن ينكص على عقبيه أو يرتد على أدباره بعد إذ ذاق حلاوة الإيمان وارتبط بأخوة الإسلام، ولذلك كان بلال وخباب وغيرهما يلقون ما يلقون لا يصدهم ذلك عن دين الله، ولو لم يكن لهم ذلك التعلق القلبي لما ثبتوا ولما كانت لهم هذه الصور من الصبر الجميل الذي ثبتهم الله عز وجل به؛ لأن القناعة الفكرية لا تكفي، فقد تكون مقتنعاً بأمر ما فكرياً لكنك إذا اضطهدت في سبيله من الممكن أن تغير فكرتك أو أن تتنازل عنها أو أن تساوم فيها، لكن إذا خلصت الفكرة من العقل إلى القلب وامتزجت بالمشاعر، فإنه من الصعب أن يكون هناك تنازل عنها بل صبر وثبات عليها.

البذل والتضحية

البذل والتضحية الأمر الثاني: البذل والتضحية: فإن من أعظم آثار العاطفة البذل والتضحية لمن خفق قلبك له بالحب، فإن أحببت الله عز وجل وأحببت رسوله صلى الله عليه وسلم وأحببت هذا الدين فإنك تبذل وتضحي في سبيل هذا الذي أحببته. ونحن نعلم أن العاطفة أمر مشترك؛ فإذا وجهتها وجهةً صحيحة نلت الأجر والخير، وتدفقت عاطفتك في المجال الصحيح، وإلا فإن هذه العواطف أيضاً لها مشارب شيطانية أو شهوانية تسلك بها في غير ما أراد الله عز وجل لها، فاستمع على سبيل المثال إلى خالد بن الوليد رضي الله وهو يقول: (ما ليلة تهدى إلي فيها عروس أحب إلي من ليلة شديد بردها ألقى فيها العدو فأقاتلهم في سبيل الله عز وجل). إذاً: هذه المحبة دفعته إلى أن يجد لذته في ذلك البذل وتلك التضحية وتحقيق قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. وهذا البذل هو الذي ظهر في صورة حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فذاك أنس بن النضر رضي الله عنه يقول: (واها لريح الجنة؛ إني لأجد ريحها دون أحد). والصور في ذلك كثيرة، والصور غير الإيمانية أيضاً كثيرة نراها في حياتنا وفي تاريخ البشرية عموماً؛ ألم نسمع عن المحبين الذين بذلوا أموالهم وتركوا وظائفهم واستهانوا بجاههم كله بذلاً وتضحيةً لمن يحبون؟

قوة التأثير

قوة التأثير أولاً: قوة التأثير: إن الكلمة وحدها مهما كان لها من شواهد وأدلة، ومهما كان لها من رصف وتنسيق لا تؤدي قوتها ما لم يكن ورائها قلب متحرق ونفس متحمسة يشعر الإنسان بنبض هذه المشاعر في كل حرف من هذه الحروف، فإذا كانت الكلمة حماسية كأنها لهب يتفجر، وإذا كانت الكلمة وعظية كأنها غيث يصيب أرضاً جدباء فيحييها من جديد، ويورق منها ما كان قد غارت عنه مياه الحياة. وإذا تأملت في بعض الأمثلة والمواقف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجد هذه الصورة بينة واضحة، فقد وصُف عليه الصلاة والسلام بأنه إذا خطب كأنه منذر جيش؛ حيث كان يحمر وجهه عليه الصلاة والسلام، ويظهر أثر انفعاله في هذه الكلمات، وكما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا) إذاً: لم تكن تلك الكلمات تأثيرها بمجرد العلم؛ فإن كثيراً من العلم إذا فقد العاطفة لا يؤدي أي تأثير وإلا لكان اتصال الإنسان بالكتب كافياً في أن يقوم سلوكه، وفي أن يوقظ حماسه وهمته نحو الخير والصلاح. وكذلك انظر إلى الموقف الذي كان في يوم حنين، فلما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بين مسلمة الفتح والمؤلفة قلوبهم، ولم يقسم للأنصار رضوان الله عليهم، وجدوا في نفوسهم موجدةً، وقالوا: قد لقي محمد صلى الله عليه وسلم أهله وعشيرته. فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليهم وقال: (يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم وموجدة وجدتموها علي؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ ثم قال لهم: حدثوني بما عندكم قال في آخر الحديث: فبكوا حتى أخضلت لحاهم من الدموع) إذاً: للكلمة سر في العاطفة التي وراءها، وفي القلب الذي يخفق بمعانيه قبل أن ينطق اللسان بكلماتها وحروفها.

أهمية ارتباط العاطفة بالعقل والشرع

أهمية ارتباط العاطفة بالعقل والشرع وعندما نعرف هذه الآثار ينبغي أن ندرك أن العاطفة ينبغي أن يكون لها توجه أو تأثر بأمرين اثنين: العقل، ومن قبله الشرع، فلا بد أن نعرف أمر العاطفة بين الشرع والعقل. إذاً: العاطفة لابد أن تكون مضبوطة بضابط الشرع، فلا حب لمجرد الشكل والمظهر واللون، أو لمجرد الألفة والميل، بل بموجب الأخوة الإيمانية وما سلف أن ذكرناه، والعقل كذلك قد يحتاج أن يحكم العاطفة؛ إذ العقل هو الذي يتلقى الشرع، ويقبل به، ويسلم له، ويكون أقدر على ترجيح المصلحة من العاطفة؛ ولذلك لابد أن تُحكم نزوات العواطف بنظرات العقول. والعقل وحده لا يكون كافياً أيضاً في تفسير الأمور، وإذا أردنا أن نمثل فإننا نقول: للعقل القيادة، وللعاطفة الحيوية، فإنك لو تصورت قافلة فلابد أن يكون العقل هو قائدها، ولكن لابد له من حادٍ يحدو بها في الطريق؛ ليزيل عنها أثر عناء السفر، وليهيج عاطفتها نحو المسير، كما قال الشاعر: إذا نحن أدلجنا وكنت أمامنا كفى لمطايانا بذكراك حاديا فمثل هذا يهيج، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل أنجشه يحدو بالإبل، فإذا بها تتأثر بذلك الصوت الشجي، وتسرع وتتحرك، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام عندها خوفاً من تأثير ذلك الصوت: (رفقاً بالقوارير يا أنجشه!)، هذا كله يفيدنا أن الأمر متوزع؛ فعقل مستقل متجرد عن العاطفة نتيجته قسوة وغلظة وعاطفة منفلتةٌ عن ضابط العقل وخفة وطيش، وكأنما هي طفل صغير تعطيه الأعطية فيضحك، وتمنعه منها فيغضب، وقد تكون الأعطية فيها حتفه، وقد يكون في منعها مصلحته ونفعه، ولكنه لا يميز بعقله، ولذلك يغلب على الطفل أنه مندفع مع عاطفته ببراءة كاملة، وتغلب المرأة عاطفتها أيضاً في مواطن كثيرة، فلا يكون عقلها أحكم لتلك العاطفة ولا أضبط لها. ولذلك في مسألة هذه العاطفة والعقل يقول ابن القيم رحمة الله عليه: إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له. يعني: إذا كان الجسم دولة، وهناك حكومة للدولة، وهناك انقلاب يقع بين العقل والعاطفة، فيقول: إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له. أي: عاد هو مستقلاً عن تأثر الهوى والعاطفة، أما إذا خضع العقل لسلطان الهوى والعاطفة فإنه يعود أسيراً لها، وتكون هي موجهة ومتحكمة في مساره، ولذلك تجد من يسمونه ويقولون عنه: إنسان عاطفي، أي: إنه ليس عنده إلا هذا القلب الذي يخفق محبة وميلاً وليناً إلى آخره، وليس عنده تلك القوة العقلية التي يبرز أثرها حتى تضبط مثل هذه الأمور.

بعض خصائص العواطف

بعض خصائص العواطف وأنتقل أيضاً إلى نقطة مهمة متعلقة بخصائص العواطف، وهي: قضية نمهد فيها لما يأتي من أمر الصلة المباشرة في صورة عملية بين العاطفة وممارسات دعوية: أول هذه الخصائص: أن العاطفة موجهة، بمعنى أنك لا تستطيع أن تقول إني أُحب فلاناً أو أحب شيئاً؛ ولكنني لن أتأثر أو لن تؤثر فيَّ هذه العاطفة، كلا! فطبيعة العاطفة أنها توجه، وأنها تدفع، وأنها تمنع، فليست هي قاصرة لمجرد الصورة الانطباعية، بل هي ذات تأثير موجه ومحرك. الأمر الثاني وهو أخطر هذه الخصائص: أن العاطفة تتأثر بالظروف، أي بالزمان وبالمكان وبالأحوال حال الشخص وحال الآخرين من حوله، فقد ترى إنساناً متعلقاً بآخر متصلاً به محباً له، ثم لا يلبث بعد حادثةٍ أو ظرف أن ينقلب رأساً على عقب، وينقلب الاتصال إلى انقطاع، والمحبة إلى بغضاء، وترى صورة تذكرك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ولذلك من الصعب ضبط هذه العواطف وتربيتها، فليست هي قضية سهلة؛ لأنها متقلبة متأثرة. والأمر الثالث الناتج عن التأثر والتقلب: أنك لا تستطيع أن تثق بعاطفة بمجرد كونها عاطفة ما لم تضبط بالشرع والعقل، فلا يمكن أن تثق بعاطفة؛ لأن العواطف تكون بحكم هذه المؤثرات، فلا يكون للعاطفة استقرار ودوام إلا إذا بُنيت على أساس عقلي، واستندت إلى أحكام ونصوص وأدلة شرعية، فالعاطفة التي لا تسند إلى شرع ولا تكون منضبطة انضباط عقلٍ مستندٍ إلى شرع لا يمكن أن تكون ثابتة، بل طبيعتها التقلب الذي لا يمكن معه أن تطمئن أو أن يكون هناك تلك العلاقات التي يبنى عليها كثير من الأعمال.

حقيقة العاطفة ومقدارها

حقيقة العاطفة ومقدارها وأخيراً: العاطفة مجهولة لا يعرف كنهها ولا يمكن تقديرها، فلا يمكن أن تقول: إني أحب فلاناً بمقدار نصف كيلو والآخر بمقدار كيلو، ولا يمكن أن تضبط المشاعر بموازين محسوسة، فهي أمر -كما قد يعبر عنه- هلامي، وهذه الجهالة هي سر من أسرار خفائها وصعوبة التعامل معها، فإن لم يكن لنا رجوع إلى الأحكام الشرعية فإن أمر العاطفة يبقى ليس له ضابط، وكما يقولون: ليس لها خطام ولا زمام، ومن هنا جاء أمر خطير، وهو استغلال العواطف. ومن أثر معرفة تقلبها: لماذا يغزونا أعداؤنا أو يؤثرون على وجه الخصوص في شبابنا بهذه العواطف، يلهبونها فتتحمس، ويغرونها فتتقدم؟ ولذلك تجد التأثير السلبي والاستغلال الرخيص لهذه العواطف عبر الصورة المتحركة في التمثيلية أو الفلم، وعبر الكلمة المهيجة في المواقف العاطفية كما يسمونها أو في الأغاني العاطفية وغير ذلك، وترى ذلك في القصص الذي يسمونه أيضاً قصصاً عاطفياً، كل ذلك تجد له استلاباً للعواطف الشبابية عموماً، وعواطف الفتيات على وجه الخصوص، فتجد بعض أولئك لا يتحرك إلا من خلال ذلك التأثير بهذه العواطف.

بعض العوامل المؤثرة على العاطفة

بعض العوامل المؤثرة على العاطفة ثم تنتقل أيضاً إلى صور أخرى أكثر في التأثير على العواطف من خلال ما يسمى بتحرير المرأة وتبرجها، ومن خلال الأمر الآخر الأخطر وهو الاختلاط، وكل ذلك ما هو إلا استغلال لهذه العواطف، ولذلك تجد كثيراً من هذه البيئات والشباب والشابات تسلط عليهم هذه العواطف وليس عندهم تربية إيمانية ولا توجيه إسلامي، فتجد أن هذه العاطفة ليست فقط تبعدهم عن الدين، بل تدمر حتى حياتهم ومستقبلهم، فتضيع -على سبيل المثال- مستقبلهم الدراسي، وتهدد مستقبلهم الوظيفي، وتقوض بنيانهم الاجتماعي، وكل ذلك كان سببه الانجراف وراء تلك العواطف عندما أُشعل سُعار الإغراء بها. وكثير من المجتمعات تصبح وتمسي وهي تخاطب بنداء الغريزة وتهييج العواطف المتعلقة بالجنس والحب والغرام والهيام، وهذا أيضاً مكمن خطر ينبغي أن نعرف أن له صلة بالدعوة، ومعنى هذا: أن هذه العواطف لابد أن نعرف كيف عالجها وضبطها وأحكم توجيهها الإسلام؛ لأننا لا يمكن أن نعاتب الناس هكذا، ولا يمكن أن نقول: هناك شباب ليس لهم همُُّ إلا الحب والغرام، فنعتب عليهم، ونشجب منهم ذلك دون أن نعرف حقائق الأمور وطبيعة النفس البشرية، فالحب والعاطفة أمر فطري. وثق تماماً أن أهل العلم والإيمان قد تكلموا في ذلك بما يبين أن أصل هذا الأمر قد لا يكون للمرء فيه خيار، وقضية ما يسمى بالحب من أول نظرة أو عبر الكلمة هو أمر أيضاً فطري قد يقع في كثير من الصور والأحوال، وقد ذكر ذلك ابن القيم في بعض كتبه وفي كتاب أخرجه لمثل هذه الأحوال. وأقول: هذه كلها لابد أن نعرف أن لها آثاراً، لابد أن نعرف أن للصورة الحسنة آثارها، وللكلمة اللينة أثرها، وأن نعرف أن لكل عمل وأسلوب في التعامل تأثيره، فكيف يمكن أن تعتب دون أن تعالج؟ لو نظرت -على سبيل المثال في إيجاز سريع- إلى أحكام هذا الأمر في شأن هذه العاطفة على وجه الخصوص لرأيت أن هذا الدين العظيم قد منع الوسائل المفضية إلى إثارة الشهوة والغريزة وإلى تحريك هذه العاطفة دون أن يكون لها مسارها الصحيح، فالنظر قال فيه عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]، والسمع قال فيه سبحانه: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]. والخلوة قال فيها صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، والشم قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة خرجت متعطرة ليجد ريحها فهي زانية)، وفي بعض الروايات: (تلعنها الملائكة حتى ترجع)، كل ذلك معرفة بطبيعة النفس البشرية، وأن هذا يؤثر فيها، كما قال بشار: يا قوم أُذني لبعض الحي عاشقةٌ والأذن تعشق قبل العين أحياناً وكثيرة هي الصور التي تؤثر في هذا الجانب، ونحن ربما نعتب دون أن نعرف حقيقة هذه العواطف، فكيف يمكن لنا أن نتعامل مع شباب في ثورة الشباب؟ وكيف نريد أن ندعوهم وأن نوجههم دون أن نعرف الفطرة البشرية والمؤثرات التي فيها، وأن نحكم التعامل معها؟ فإن مجرد الإنكار لها والغض منها أو الهجوم عليها ليس كافياً في علاجها، بل ربما كان مؤدياً إلى مزيد استحكامها وقوة تأثيرها. لنعلم أيضاً في هذا الصدد أن العواطف هي حركة الحياة، ومن ذلك أن العاطفة أو العواطف باعث على الحركة والعمل، فالإنسان يحب الامتلاك، ويحب أن يكون مؤثراً، وأن يكون له وجود في التغيير الفاعل في حركة الحياة من حوله، ولولا مثل هذه العاطفة لكان الناس ميتين خامدين لا يتحركون إلى عمل ولا إلى منقبة، بل يمكن أن يكونوا أمواتاً في صورة أحياء، والعاطفة هي التي توجد هذا الأمر.

العاطفة باعثة على العلاقة والصلة بين الداعية والمدعو

العاطفة باعثة على العلاقة والصلة بين الداعية والمدعو ثم هناك أمر مهم آخر وهو: أن العاطفة باعث على العلاقة والصلة، ولو لم تكن هناك عاطفة لما كان هناك توجه الرجل للمرأة في تكوين أسرة، ولما وجدت تلك الشفقة والرحمة من الآباء والأمهات تجاه الأبناء، ولما وجدت عاطفة التقدير والاحترام من الأبناء تجاه الآباء والأمهات، ولما وجدت عواطف الصلات والمودة بين الناس التي تحكم لحمة الروابط بين المجتمع عموماً بغض النظر عن الناحية الإسلامية التي تزيدها قوة ورسوخاً وإحكاماً وتمكناً، وتعصمها من الخطأ والزلل التي تقع فيه العواصف بمجردها أو بمفردها.

أسباب الخلل والنقص والتجاوز في العاطفة عند الداعية

أسباب الخلل والنقص والتجاوز في العاطفة عند الداعية ولكن الصورة التي فيها بعض الخلل أو النقص أو التجاوز هي التي يذكرها بعض الشباب، وهي أنها لها صور معينه أذكر بعضاً منها، وأشير إلى أسباب هذه الصورة: أولاً: التعلق الزائد عن الحد؛ فإن المحبة الفطرية أمر طبعي لا اعتراض عليه، ولكن عدم التيقظ قد يجعلها تزيد إلى أن تكون محبةً عاطفية بحتة، مثل محبة المحبين والعشاق. ثانياً: الخلطة الزائدة؛ فبعض الناس أو بعض الشباب بحكم الدعوة لا يكاد يصبح ولا يمسي إلا وهو مع هذا المدعو؛ بحجة أن يقوم سلوكه أو يدعوه، وقد ذكرت في الأسس المنهجية أن منها: الاستقلالية لا التبعية، الحديث أن من الخطأ أن نكون مثل اللصقة التي لا تنفصم عن الجسم ليلاً ونهاراً، صبحاً ومساءً، فإذا غبنا عنه اتصلنا به، وإذا سافرنا اتصلنا به اتصالاً كأنا لا يمكن أن ننفصل عنه، فهذه الخلطة الزائدة أيضاً سبب من أسباب وجود تلك العلاقة التي قد يكون فيها مآخذ. ثالثاً: عدم وضوح الهدف وقوة التربية عند الداعية؛ فإن هدفك من صلتك بكل إنسان هو هدف إنساني ترجو فيه الأجر لنفسك والخير لغيرك، فإن غاب عنك هذا الهدف تكون كحال الصياد الذي ذهب أن يصيد في البحر وهو يعلم أن هذا مصدر رزقه لكنه عندما ذهب أعجبته زرقة مياه البحر وانكسار الأمواج وانعكاس الشمس في غروبها وظلال الأشجار فجعل ينظر إلى هذه المناظر الجميلة، ويأنس بها، وربما يكتب الأشعار، ويدبج المقالات، ونسي الهدف الذي ذهب لأجله. وهكذا قد ينصرف الداعية -سيما إذا كان في مقتبل العمر وأول الشباب- إلى لطافة وظرف وحسن هيئة وتأنق عند المدعو، فإذا به يعجب بهذا، وينسى ذلك الهدف الذي كان أساس تلك الصلة، ويلحق بذلك عدم قوة التربية في الداعية، بمعنى: أنه ليس عنده التربية التي تجعله يضبط عواطفه، ويعرف كيف يقوم ويسوس الأمور. النقطة الرابعة: النواحي المادية الصرفة، وهذا أمر لابد أن نعرفه بوضوح وجلاء؛ فإن بعض التعلق قد يكون لما عند ذلك المدعو من مال، أو جاه، أو كذلك لما عنده من هيئة حسنة، ولا نعجب من ذلك؛ فإن سلف الأمة قد تكلموا في مسائل قد نعجب منها، أو قد يراها البعض بعيدة عن التصور، أو قد يظنها البعض منطوية على بعض التشدد، وليس من ذلك شيء، إنما هو معرفتهم الصحيحة بطبيعة النفس البشرية عندما كان العلماء يتحدثون -على سبيل المثال- عن الاختلاط أو النظر للأمرد أو كيف يكون جلوسه في مجلس العلم، أو غير ذلك مما ورد من الآثار في شأن وتصرفات سلف الأمة وبعض العلماء، مما يدل على أن الناحية المادية في الشكل والمعنى والمضمون لها أثرها؛ فينبغي للمرء ألا يغفل هذا.

بعض الأمارات التي تدل على فساد العاطفة عند الداعية تجاه المدعو

بعض الأمارات التي تدل على فساد العاطفة عند الداعية تجاه المدعو وقد يسأل الشاب ويقول: كيف أميز علاقتي بالمدعو حتى أعرف إن كانت في المسار أو خرجت عن الإطار؟ فأقول: هناك بعض الملامح لعلك إن سألت نفسك عنها وصارحت نفسك بها وجدت الحل الذي يجعلك تنبته إن كنت قد وقعت في بعض الخطأ: أولاً: مدى لزوم استمرار الصلة، فما مدى ما في نفسك من لزوم استمرار الصلة؟ وهل أنت ترى أنه لابد ألا يمر يوم إلا وتراه، وألا تمر ساعة إلا وتتصل به، وألا يكون لك غرض في أن تذهب إلى مكان إلا وتصطحبه وترافقه؟ إذا كان هذا متأصلاً بقوة فاعلم أن هذا مظهر من المظاهر التي قد تعطي مؤشراً للتنبيه من الخطر. ثانياً: عدم النصح في الأخطاء، وهذا معلم بارز، فعندما يخطئ هذا المدعو فالأصل أنك تنصحه، ولا أقول لك: أغلظ له في القول، ولا أقول لك: كن عنيفاً معه، لكن إذا لم تنصح لا تصريحاً ولا تلميحاً ولا بالحكمة ولا بالأسلوب الحسن، بل كان همك أو ديدنك غض الطرف فاعلم أنك قد وافقته في هواه، وأنك قد تغلغل بعض الحب في قلبك، فلم تعد تريد أن تغضبه، أو أن تكسر خاطره، أو أن تجرح مشاعره، أو أن تخالفه في رأي أو قول، فإذا أردت أن تذهب للنزهة في مكان وقال هو مكان آخر قد يكون فيه ما فيه فإنك لا تعارضه في ذلك. ثالثاً: التبرير لكل خطأ أو لكل نقدٍ قد تسمعه من غيرك، إذ لا تكتفي بمجرد إقرارك بأخطائه، بل يقولون لك: إن فلاناً فيه اعتزاز بنفسه أو غرور، فتقول: لا؛ إن الله جميل يحب الجمال، ويقولون لك: إنه يفعل كذا وكذا، فتقول: إن طبيعة بيئته أو ظرفه كذا وكذا، فأنت هنا أيضاً تبرر أموراً كثيرة، ولا بأس أن تلتمس لأخيك الأعذار، لكن كثرة التبرير ودوامه مؤشر من هذه المؤشرات. رابعاً: التأثر بالغيرة من الآخرين، فإنك إن رأيته صحب فلاناً انقبضت نفسك، وإن رأيته كان متأثراً أو معجباً أو مشيداً أو مادحاً بفلان لعلمه أو لحسن بلاغته أو لقوة تأثيره رأيت أن ذلك يشعرك ببعض الضيق أو التضرر، فاعلم أن هذه المؤشرات والصور كلها دلالات على أن المسار قد خرج عن الإطار المطلوب، فاضبط عاطفتك بضابط الشرع، ونظمها وقومها بالعقل الذي تخطط فيه لهذه الدعوة مع هذا المدعو، فتحكم في الأمر، وقل: سأفعل معه كذا، وسأعطيه كذا، وسأسأله عن كذا، وسأعالج فيه أمر كذا من خلال كذا وكذا، ولا تترك الأمر هكذا عبثاً ومجالس فيها ضحك وكلام ينتج عنها مثل هذه المواقف.

عاطفة المحبة بين الداعية والمدعو

عاطفة المحبة بين الداعية والمدعو ثم أنتقل إلى لب هذا الموضوع وهو الذي يتعلق بصور من العواطف وصلتها بالممارسات الدعوية، وربما تنقلب العواطف إلى عواصف أو إلى قواصف في بعض الأحوال. وسوف أتحدث عن عاطفة المحبة على وجه الخصوص في الصلة بين الداعية والمدعو، فنحن نعلم أن المحبة ابتداءً أمر إسلامي إيماني بحيث لابد أن يحب المرء أخاه، ولا شك أنه إذا اتصل بآخر ليوجهه وينصحه ويدعوه إلى الخير فإنه سيكون بينهما ارتباط واتصال أكثر، وهذا يعني أن تكون محبته له أعظم وأكبر، وهذا أيضاً أمر مسلم به. ونحن نعلم أيضاً أن لهذه المحبة عندما تفيض في السلوك والتعامل مع المدعو أعظم الأثر في استمالة قلبه وإقناع عقله وتأثره بالداعية كقدوة يقتدي به في كثير من أحواله وسلوكياته. ونعلم أيضاً أن لهذه العاطفة ولهذه المحبة ما يعين على أن تتقوم نفس المدعو تقويماً عاطفياً، فتتهذب نفسه، ويُكِن الخير للآخرين، ويضمر المحبة، ويلتمس العذر، ويُحسن الظن، فهذه كلها من الآثار الإيجابية للتعامل الأخوي الذي تسوده المحبة الإيمانية والأخوة في الله عز وجل، ولكن هناك ما قد نسميه تجاوزاً للحد أو زيادةً عن القدر المطلوب، وهذا لمسته في بعض الأسئلة التي يذكرها الشباب، فيأتي أحدهم ويقول: إن لي صلةً بفلان من الناس أو بأخٍ لي أو بجار، وأدعوه إلى الخير، ولكنني أشعر أن هذه الصلة ليست هي الصلة المطلوبة في الأخوة في الله، وأشعر أن هناك أمراً آخر ليس مندرجاً في هذا الإطار أو تحت هذا العنوان، وقد يجد الإنسان لهذا صوراً أذكر بعضها، لكنني أحب أن أشير أولاً إلى أن وجود المحبة العاطفية البحتة مع الأخوة الإيمانية ليس أمراً معيباً ولا معترضاً عليه؛ فإننا عندما نقول -على سبيل المثال-: إن أصدق وأعظم وأكبر محبة هي الاتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، فلا يعني ذلك: أن نتبعه متجردين من عاطفة الحب، فالمحبة الصادقة أننا لسنا نتبعه عليه الصلاة والسلام لمجرد الأمر والنهي، بل هذا أصدق أنواع الإتباع، ونؤيده ونجعل له استمراريته وحيويته وقوته أن قلوبنا تخفق بالمحبة الخالصة العاطفية له عليه الصلاة والسلام؛ لما له من عظيم الخلال وكريم السجايا والمنزلة العالية عند الله عز وجل والنعمة والفضل الذي أسداه لهذه الأمة ولكل فرد منها، وذلك عندما تريد من خلال هذه الأخوة أن توجه وأن تنصح فإنك لا يمكن أن تنفصل عن المحبة العادية الفطرية، بل هي قرينة لهذا.

عاطفة الحماسة وأثرها على الدعوة

عاطفة الحماسة وأثرها على الدعوة العاطفة الثانية وهي ذات خطب عظيم وكبير وهي: عاطفة الحماسة: وقد سلف لنا في حديث الهجرة وواقع الدعوة كلام يمس هذا الجانب في إطاره العام، فإن الحماسة عاطفة طيبة، وهي عاطفة الغيرة الإيمانية التي امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله! إني لأغير منه) وكان النبي عليه الصلاة والسلام لا يغضب لشيء إلا أن تنتهك محارم الله عز وجل فلا يقوم لغضبه صلى الله عليه وسلم قائم. هذه العاطفة من النصرة للمسلمين والغيرة على هذا الدين والحمية ضد أعداء الإسلام والمسلمين عاطفة عظيمة جداً، وهي أساس من أساسيات قوة إيمان المسلم، ولكن هذه الحماسة قد تندفع فتطغى ويأتي من ورائها كثير من الأضرار والمخاطر. وقد يقول قائل أيضاً في جانب آخر: لابد أن نضبط العاطفة الحماسية، ولابد أن نقيدها، ولابد أن نروضها، ويبالغ في هذا حتى يئدها ويقتلها، فنقول له: لا، نحن لا نريد للجمرة أن تنطفئ، لكننا نريد أن يبقى فيها بقية الجمر حتى إذا تدحرجت في الوقت المناسب أشعلت تلك الأوراق أو الأخشاب أو الهشيم أو الحصير الذي تلامسه، فتشعله، فيؤدي ذلك الاشتعال إلى المطلوب، لكن تلك الحكمة التي يزعمها بعض الناس ويريدون أن يطفئوا جذوة الحماسة، وأن يجعلوا أجيال الإسلام وشباب الدعوة راكنين إلى الدنيا مطمئنين إلى ملذاتها، يشربون بارد الشراب، ويأكلون طيب الطعام، ولا تتحرك نفوسهم غيرةً ولا غضباً ولا حمية لدين الله، لا في كلمة حماسيه ولا في غيرة إيمانية ولا في إنكار منكر، هذا ليس مطلوباً. وفي الجانب الآخر ليس مطلوباً ذلك الاندفاع الذي يؤدي بالدعوة إلى المخاطر والمهاوي فيما يتعلق بمواجهة الأعداء أو بظروف الضغط والاضطهاد والتعذيب والمطاردة والملاحقة للدعوة والدعاة، فإن للمسلم أموراً كثيرة: أولها: أنه منضبط بضابط الشرع؛ فليس هو متصرفاً بردود الأفعال، وليعلم ما قاله الصحابة في بيعة العقبة للنبي عليه الصلاة والسلام: لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلةً واحدةً لفعلنا، فقال: (كلا! فإنا لم نؤمر بذلك)، وليعلم كيف روض النبي صلى الله عليه وسلم تلك العاطفة المتدفقة في عمر رضي الله عنه يوم الحديبية لما قال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟)، إنها عاطفة صادقة لم ينكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعبها على عمر، ولكنه قال: (إني رسول، وإنه لن يضيعني) فذهب إلى أبي بكر ليرى رجاحة العقل واستقرار النفس، وقال له مقالة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو بكر: (الزم غرزه؛ فإنه رسول الله)، ذلك هو الفرق بين رجاحة العقل وسكون النفس عند أبي بكر؛ فلم تجمح به العاطفة ولو في إطارها المقبول. وتلك العاطفة المتدفقة من عمر رضي الله عنه لم تنطلق من إيثارها، بل رجعت على أعقابها بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد وقع في نفوس الصحابة أمر عظيم يوم الحديبية، ولست في صدد ذكر الأحداث، ولكن لما جاء أبو جندل يرسف في قيوده، والمسلمون على بعد خطوات منه، وهو يستنجد بهم ويصرخ، ويريد أن يلتحق بهم، وأن يخرج من هذا الاضطهاد، وهم الذين خاضوا المعارك، وضحوا بالشهداء، ويرون هذا المظهر أمام عيونهم، لكنهم ينضبطون، ويلتزمون حكم النبي عليه الصلاة والسلام، ويقع في نفوسهم أيضاً أنهم عندما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يحلقوا رءوسهم وأن يتحللوا من عمرتهم فلم يستجيبوا في أول الأمر لما كان قد خالط القلوب والنفوس من همّ وغمٍ وكرب وضيق، فلما عمل النبي عليه الصلاة والسلام بمشورة أم سلمة فحلق ابتدروا يحلقون، حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً، أو حتى سالت دماء بعضهم رضوان الله عليهم أجمعين. فإذاً: لابد لهذه العاطفة المتأججة في الشباب ألا تستفز، وأن نعلم أن أعداء الدعوة يريدون لها أن تستفز، وأن تخرج عن إطارها، ليشوهوا صورة الدعاة، ويروا الناس أنهم متهورون، وأن تصرفاتهم هوجاء، وليست الحماسة المندفعة في التصرفات، بل في الكلمات؛ فأنت تسمع من الكلمات ما قد يكون أفتك وأخطر وأكثر هولاً من الأفعال؛ لأن الكلمات فيها أحكام، ولنا مع الكلمة جولة -إن شاء الله- كما سأذكر في آخر الحديث.

أسباب الحماسة التي تخرج عن الإطار الصحيح

أسباب الحماسة التي تخرج عن الإطار الصحيح ما أسباب تلك الحماسة التي قد تندفع وتخرج عن الإطار؟ أسبابها: السبب الأول: الدافع النفسي؛ إذ في النفوس حمية لقطف الثمرة وتحقيق الفكرة، فإذا اقتنعت بفكرة فإنني أحب أن تتحقق الفكرة قبل أي وقت آخر، وهذا طبع بشري. السبب الثاني: الحرارة الإيمانية، فالإيمان هو الذي يذكي حماسة القلب والنفس، ويريد لها أن تندفع، ولكن إذا تمعن فليعلم وليتذكر قول الله عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، فليس المسلم بالذي يستجيب للعاطفة دون هذا الضبط. السبب الثالث: واقع أعداء الدعوة الذين يحكمون قبضتهم على كثير من مقدرات المسلمين، وليس في بلاد الكفر فحسب، بل وفي بلاد الإسلام والمسلمين، فأنت ترى القبضة محكمة في إطار الحكم والسياسة، وفي إطار التربية والتعليم، وفي إطار الدعاية والإعلام، فقلَّ أن تجد في كثير من بلاد الإسلام نصرة للدين والدعوة، بل على العكس تجد في كثير من ممارساتها حرباً على الدين والدعوة، وهذا يستفز المشاعر أيما استفزاز؛ إذ كيف نكون في بلد إسلامي وإذا بصحف في تلك البلاد، أو مشاهد في إعلامها تعلن الكفر الصريح دون أن يسمح لمعترض أن يعترض أو لمنكر أن ينكر؟! إن ذلك قد يكون أحياناً أكبر مما تحتمله بعض النفوس التي لم تروض ولم تربَ التربية الكافية. السبب الرابع: الجهل بأساليب الكيد التي يخطط لها الأعداء ويمارسونها؛ فإن لهم أساليب ملتوية وخبيثة يريدون من خلالها أن يوقعوا الدعاة والشباب منهم على وجه الخصوص فيما لا تحمد عقباه. السبب الخامس: كثرة المنكرات التي تواجه الشباب في كثير من الوقائع العملية سماعاً ونظراً وقراءةً وفي كل الصور. السبب السادس: ضعف النفوس عن طول الطريق؛ فإن الطاقات تختلف، فلو تصورت أن الدعوة عبارة عن حمل ثقيل فهناك أصحاب أجسام قوية وعضلات فتية يمكن للواحد منهم أن يحمل ويسير ما شاء الله له أن يسير ولا يتعب، ومنهم من يمشي بعض خطوات أو قليلاً من الطريق ثم يقول: لابد أن أتخفف، وأن أنطلق لأبلغ المراد من غير هذا الطريق. السبب السابع: عدم وجود القدر الكافي من التخطيط الدعوي الذي يستوعب طاقات الشباب، فلا يئد حماسهم، ولا يجعلهم يبردون ويسكنون وتموت نفوسهم وهممهم، كما أنه يجعلهم ينفقون هذه الطاقة في ميادين عملية تحقق إيجابيات للدعوة ولهذا الدين، ويدركون من خلالها أن جولتهم مع الباقين يمكن أن تكون طويلة المدى، وأن تحقق بعض النجاح في جانب ثم في آخر ثم في ثالث، وإذا بالجولة بعد ذلك تتكامل انتصاراتها، وتؤدي ثمرة من الثمار المرجوة. السبب الثامن: عدم الخبرة الكافية والتجربة والنظر في التجارب الواقعية في الحياة الإسلامية، وهناك من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام دروس كثيرة كلها عبر، لكن في الواقع الدعوي المعاصر دروسٌ كثيرة لما جره الحماس غير المتزن بضابط الشرع ولا بنظر المصلحة على الدعوة والدعاة. السبب التاسع: الغفلة عن سنن الله عز وجل في طبيعة التدرج وطبيعة الصراع بين الحق والباطل، وكما يقولون: قد ينتصر الباطل في جولة وجولة، ولكن الجولة الأخيرة ينبغي أن يكون يقيننا أنها للحق، وأن العاقبة للمتقين: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق فلابد أن ندرك أن الأمر في ختامه لهذا الدين، وأن النصر لأهله، والبشارات في ذلك معروفة مأثورة مذكورة؛ فينبغي ألا نخرج عن إطارها. السبب العاشر: وهو الذي أختم به: عدم الفقه في الدين علماً بالشرع وتنزيلاً له على الواقع، فإن بعض الشباب يأخذ النص وينزله إنزالاً بعيداً عما فهمه أهل العلم، بل عما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم من العلماء الذين عرفوا أن للأحكام تغيراً بتغير الظروف والأحوال والأشخاص، وأن هناك مراتب للأحكام: فهناك واجبات، وهناك سنن ومندوبات، وهناك محرمات، ودونها مكروهات، فلا ينبغي التسوية هكذا بين الأمور على عجلة دون روية، وهذه أيضاً مشكلة من المشكلات.

الغيرة وأثرها على الدعوة

الغيرة وأثرها على الدعوة والثالثة التي نختم بها حديثنا بعد المحبة والحماسة: مسألة الغيرة: وهذه للأسف أيضاً مشكلاتها كثيرة، وأعني بها غيرة التنافس في ميادين الدعوة، فإن بعض الدعاة قد يغار أو يغضب من إخوة له يحبون الخير، ويسعون له، ويسيرون في طريقه، ويرغبون الناس فيه، لكن اجتهادهم يخالف اجتهاده، فإذا رأى الناس أقبلوا عليهم دونه أو اقتنعوا بفكرتهم وأسلوبهم دونه إذا به تشتعل في نفسه غيرة هي عاصفة في الأصل قد تكون محمودة إذا أخذناها على غرار التنافس في طور قول الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وهكذا إذا أخذناها على أنها تكامل لا تصادم، وتعاون لا تراشق، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكن في التحريش بينكم)، وإذا بهذه الغيرة تتحول إلى نوع من البغضاء أو الشحناء، وتؤدي إلى صور كثيرة نراها في بعض الواقع الدعوي، في صور من الواقع الدعوي لا تخطئها العين. من هذه الصور: التنافر والبعد، ونحن نعلم أن المسلم أخو المسلم، وينبغي أن تربط بين المسلمين أخوة الإيمان، فإذا كان أولئك المسلمون دعاة، فأمر أخوتهم ومحبتهم ينبغي أن يكون آكد وأقوى، فما بالنا نرى عوام الناس من كبار السن من آبائنا وإخواننا الكبار أو أجدادنا وأمهاتها من العجائز في قلوبهم من الصفاء والألفة والمحبة ما نفتقده بين شباب نذروا أنفسهم للدعوة، أو نصبوا أنفسهم للدعوة، أو رفعوا راية الدعوة؟! إنه أمر لا يمكن أن يكون مقبولاً في ميزان الشرع ولا في منطق العقل. والصورة الثانية: مرحلة أخرى وهي: التحذير والتشويه، حيث لا يكتفي بأن ينفر منهم، بل يحذر الآخرين منهم، ويشوه صورتهم، وهذا لا شك أنه فساد في الطوية واختلال في النية، وسأذكر بعض الأسباب التي تبين هذا، لكن هو يشكل صورة لنفسية مريضة لم تتغذ بغذاء الإيمان، ولم تتطهر بطهارة الإسلام. الصورة الثالثة: تجاوز الحدود الشرعية في أمر ذلك التحذير أو النفرة أو التعامل عموماً، فإذا به يستخدم التورية كما يزعم ليصرف الناس عمن يزعم أنه على باطل، ثم إذا بالتورية تغدو كذباً صريحاً، بل يتجاوز الأمر إلى إحكام الكيد وتدبير المؤامرات وتلمس العيب وتتبع الأخطاء، وتجاوزات شرعية ليس لها آخر كما يقولون.

بعض أسباب الغيرة السلبية

بعض أسباب الغيرة السلبية وأذكر في هذا الصدد الأسباب التي تؤدي إلى هذه الظاهرة: فأول هذه الأسباب التي تحمل على هذه الغيرة: عدم قوة ورسوخ التربية الإيمانية: إذ المؤمن الذي يتربي على خلال الإسلام وآداب هذا الدين يعلم أن أمر المحبة في الله عز وجل يقضي بألا يكون هناك هذا التنافر وتلك البغضاء، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً) وبدأ في هذا الحديث بقوله (إن الظن أكذب الحديث)، أي: مجرد الظن السيئ الذي تسيء به إلى أخيك؛ فإن هذا الظن يورث في النفس نوعاً من النفرة، ويزرع بذرة من بذور البغض ليس هذا محلها ولا مكانها. الأمر الثاني: عدم استحضار طبيعة الواقع الدعوي: انظر إلى المجتمعات الإسلامية كم ترى فيها من الملتزمين شرع الله! وكم ترى فيها من الدعاة! وكم ترى فيها من العلماء! ترى قلة، وأنت تريد أن تجعل هذه القلة بصنيعك أقل من القليل؛ حيث إنك تفرق صفها، وتشيع الفرقة بينها، وتشوه صورتها، لينفر الناس عنها ومنها، وإذا بك في حقيقة الأمر تسيء إلى الدعوة، ولا تستحضر أمر المواجهة والكيد الذي يحاك ويوجه للدعوة والدعاة على اختلاف اجتهاداتهم وتصوراتهم. إن واقع العصر اليوم يدلنا على أن المسلم يُعادى ويكاد له ويضطهد لمجرد كونه مسلماً ولو كان مسلماً بالاسم، فكيف إذا كان مسلماً يعرف إسلامه، ويلتزم شرع الله عز وجل، ويدعو إليه، ويريد أن يحيي موات هذه الأمة، وأن يرفع راية الجهاد فيها؟ فإذا كان الدعاة على هذا القدم فإنهم ألد الأعداء وأعظم الخصوم بالنسبة لمن يحاربون هذا الدين، فإذا كنت أنت بهذه الغيرة المنحرفة تساهم في ضربهم أو تشويههم فإنك كأنما أخذت معول الأعداء لتريحهم من بعض العناء، وعندما سمع بعض السلف أحدهم يجرح أخاً له قال: هل قاتلت الترك؟ قال: لا، قال: هل قاتلت الروم؟ قال: لا، قال: هل قاتلت الهند؟ قال: لا، قال: أفيسلم منك أهل الروم، والترك، والهند، ولا يسلم منك أخوك المسلم؟! عجباً لأولئك؛ لم يسلم المسلمون من ألسنتهم، ولم يسلموا أيضاً من التخطيط الذي يبدعون فيه ويبذلون فيه جهدهم لحرب إخوانهم، وهم ليس لهم في مواجهة الأعداء أي جهد يذكر، وبالتالي فهم في هذا يساهمون في هذه الخطورة العظمى. ثالثاً: الأمراض النفسية من الكبر أو حب الذات والأنا أو الغرور: فإن بعضاً من أولئك فيهم علل مستعصية وأمراض سرطانية تحتاج إلى استئصال، وما لم تستأصل فإن نفس الواحد منهم تدفعه وتدعوه إلى مثل ذلك السلوك. ومن ذلك أيضاً وهو سبب مشترك: عدم الفقه والعلم: فتراه يقول: الحق أحق أن يتبع، ويقول: لابد أن أهجره في الله، ويقول: لابد أن يكون هناك مفاصلة. فعجباً كيف توقع الأمور في غير موقعها، وتنزل النصوص في غير ما هي منطبقة عليه؟! فإنك تجد أنه بمجرد اختلافه مع أخيه في رأي واحد أو في مسألة واحده بدعّه أو فسقه، ورأى أن من الواجب الشرعي أن يهجره، بل من الواجب الشرعي أن يحاربه! وهذا فقه سقيم وجهل مركب كما يقال. فهذه بعض تلك الأسباب لانحراف الغيرة عن واقعها الصحيح، وبالجملة فإن هذا الانحراف العاطفي واقع في صفوف الدعوة وشبابها، وإحكامه يكون بالتربية الإسلامية والعلم الشرعي والإدراك الواقعي والقيادة الراشدة؛ ولنعلم أن من تسمع له الكلمة من العلماء والدعاة والخطباء مسئوليتهم مضاعفة، فينبغي ألا يكونوا سبباً في توسيع شقة الخلاف، أو إذكاء نار التباغض أو التحاسد أو غير ذلك، وينبغي أن يعلم كل مسموع الكلمة أن كلمته يطيرها عنه المطيرون، وينقلها عنه الناقلون، ويفهمها عنه الفاهمون وغير الفاهمين، وهو في آخر الأمر يدرك مثل هذا، لكنه للأسف لا يلقي له بالاً. فإذا كان هناك شباب صغار فإن لهم كباراً، ولو توقعنا أنهم أخطئوا فلنا أن نغض الطرف عنهم، أو أن نعتذر لهم بجهلهم، لكنهم إن رجعوا إلى من يستشيرونه أو يقتدون به فوافقهم على خطئهم أو شجعهم عليه عرفنا أن تركيبة عقولهم وأن صيغة تربيتهم مبنية على أساس خاطئ، ويكون الأمر حينئذ أكبر وأخطر، فالصغير أو الجاهل يغتفر منه ما لا يغتفر من غيره. فهذه بعض المعالم والملامح المتعلقة بأمر العاطفة والدعوة، وأسأل الله عز وجل أن يعصمنا من الزلل، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية الإقلاع عن الذنب لمن يتوب ثم يعود

كيفية الإقلاع عن الذنب لمن يتوب ثم يعود Q هناك شخص يواقع -نسأل الله عز وجل السلامة- الزنا، ونذر ألا يفعل، ثم عاد، فماذا يفعل؟ A مطلوب منه أن يقلع عن المنكر بنذر أو بغير نذر؛ فليست المسألة في أنه نذر أو لم ينذر، ولكن مثل هذا الأخ مشكلته أنه لم يكن حاسماً في إقلاعه عن الذنب، ولا مغيراً للبيئة التي تدعوه إليه، ولا كاشفاً لستره عند من يثق به من إخوانه حتى إذا نازعته نفسه عرف أن هناك من يعرف أمره من إخوانه، فيستطيع أن يجابهه، وأن يصارحه، بل ربما أن يصده ويردعه، وقبل ذلك وبعده عليه أن يدعو الله عز وجل بأن يعصمه، وأن يصرفه عن هذه المعاصي، وأن يقذف في قلبه حب الخيرات وبغض المنكرات.

أهمية استغلال الأوقات في الأمور النافعة

أهمية استغلال الأوقات في الأمور النافعة Q بعض الشباب الملتزمين يطيلون المزاح ومشاهدة التمثيليات المباحة، ولا يكثرون الأذكار ولا يتناصحون، فما توجيهكم. ؟ A هذه من المشكلات الواقعة، وهي كثرة الترخص وقضاء الأوقات فيما لا نفع فيه، وقد ذكر ابن القيم أن مجالس الإخوان على ثلاثة أنواع، ثم مدح منها نوعاً وذم اثنين، ومن الأنواع المذمومة: أن يكون الغرض من تلك المجالس مجانسة الطبع وموافقة الميل وضياع الوقت وتكرار الأحاديث دون أن يكون هناك فائدة، وهؤلاء الإخوة لو استشعروا قيمة الوقت وعظمة المسئولية وخطورة الواقع الذي تمر به الأمة لما كان لهم مثل هذا، ولما ترخصوا، ولو ذكروا سير السلف الصالح لعرفوا كيف تكون الأمور. وأختم هذا بموقف للإمام أحمد: عندما كان في زمن الفتنة والمحنة وجاءه أبو سعيد الواسطي يسهل له، ويقرب له الترخص، وقال له: إن لك أبناءً، وإن لك زوجة، وإن لك كذا، فماذا قال له الإمام أحمد رحمة الله عليه؟ قال له: إذا كان هذا عقلك فقد استرحت. فإذا كان شباب الدعوة أو جيل الصحوة يهمهم ويرضيهم أن يقضوا الأوقات في الكلام والضحك، دون أن يكونوا على قدم جدٍ وعمل ويرضون بهذا فقد استراحوا. وأصحاب العقول المستريحة ليسوا ممدوحين، لأن المجانين هم أعظم أصحاب العقول المستريحة؛ لأنهم لا يفكرون في شيء، ولا يحملون هماً، ولا يلتمسون سبيلاً ولا طريقاً لأي عمل نافع أو صالح. فلذلك أوجه الإخوة من الشباب على وجه الخصوص: أن يربئوا بأنفسهم عن الوقوع في مثل هذه الأمور التي لا تليق بوصف المسلم فضلاً عن الملتزمين، فضلاً عن الداعية، فضلاً عن المجاهد. والله أسأل أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يجعلنا جنداً في سبيله مجاهدين، ودعاةً لدينه مخلصين، وعبادً له مخبتين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الضوابط في التعامل بين الداعية والمدعو

الضوابط في التعامل بين الداعية والمدعو Q حبذا أن تذكر لنا بعض الضوابط في التعامل بين الداعية والمدعو إذا كان الداعية حسن الهيئة، أو أمرد، أو غير ذلك مما قد يوجد بعض المشكلات لدى بعض الشباب، وقد يتسبب في وجود مخالفات محظورة؟ A قد ذكرت هذا الأمر على وجه الخصوص، وبينت أو نصصت عليه؛ لأنه واقع، فأول علاج: أن نعرف المشكلة، وأن نسلم بوجودها، فالمشكلة التي يقع فيها بعض الشباب أنهم يغالطون أنفسهم، ويلبسون الخطأ ثوباً من الصواب، فيجعلون بعض تلك الممارسات تحت شعار الأخوة في الله، وتحت إطار التلطف الذي يستميلون به قلب المدعو ليؤثروا فيه إيجابياً؛ ليمتثل ويستجيب لأمر الخير والإصلاح، وهذا هو مكمن الخطر، فينبغي معرفة الآتي: أولاً: لابد من معرفة الخطأ والمصارحة فيه. ثانياً: لابد من معرفة الأسباب والامتناع منها، وقد ذكرت منها: كثرة الاختلاط، والتجاوز عن النصح، والتماس الأعذار، والتبرير الدائم، والغيرة من الآخرين، فتفقد نفسك لئلا تقع في هذا المحظور؛ إذ الوقوع يكون له مقدمات وبدايات ثم يستحكم، فإذا أدركته من البدايات سهل أمر العلاج له. ثالثاً: لابد أن يستفيد الإخوة من بعضهم البعض، وأن يكون بينهم مصارحة، وهنا يقع أيضاً لون من ألوان التقصير الذي ينبغي ألا يكون، فداعية يرى أخاه ربما يمارس أو يقع في خطأ في هذا الجانب، فيمنعه الحياء أو الحرج أن يلفت نظره إلى بعض الممارسات التي قد تكون لها بعض المحاذير أو الأخطار، فإن أمر الحياء ينبغي ألا يمنع من إحقاق الحق وإبداء النصح، فلو كان الإخوة فيما بينهم متناصحون لمنع ذلك من وقوع هذا الأمر. والأمر الذي بعده أمر القيادة الراشدة الواعية؛ فإن الأخ من الشباب لابد أن يكون له من يستنير برأيه، ويرجع إليه أو يطلب مشورته، فهذا ينبغي أن يكون دقيقاً بصيراً، وأن يعرف طبائع النفوس، وطبيعة سن الشباب، فلا نغفل مثل هذه الجوانب، ولا يقل أحد: إن الشاب مادام ملتزماً أو مصلياً فمعنى ذلك أنه يعصم من الخطأ أو يعصم من تأثير العواطف والغرائز، فهذا أمر غير مقبول ولا واقع في الجملة، فهذا ربما يشير إلى مثل هذا الأمر.

محبة أهل المعاصي

محبة أهل المعاصي Q أحد زملائي في العمل يقول لي: إنه يحبني في الله، وهو تارك للصلاة، وأريد أن أرد عليه، فكيف تكون المحبة لله؟ A معروف أن المحبة لله تكون بضابط الشرع، لكن لا يعني أنه إذا كان عاصياً أنه يبغض بالكلية، بل كما قال أهل العلم يحب في الله عز وجل لأصل الإيمان ولما هو عليه من الخير، ويبغض بقدر ما هو واقع فيه من المعصية.

الرد على من يستدل بحديث: (ساعة وساعة) في فعل المعاصي

الرد على من يستدل بحديث: (ساعة وساعة) في فعل المعاصي Q الشباب تميل عواطفهم نحو مشاهدة الأفلام، وسماع الأغاني، وضياع الأوقات، ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ساعة وساعة)، فما تعليقكم؟ A ساعة وساعة المقصود بها: ساعة مشروعة وساعة مشروعة، وليس ساعة مشروعة وساعة ممنوعة، وليتها حتى في الواقع العملي ساعة وساعة، ولكنها ربع ساعة وألف ساعة، وكثير من هذه الأمور يعلم قائلها أنه غير محق فيها، وإنما لأنفسهم يمهدون، أو يريد أن يسلي عن نفسه، أو أن يخفف وخز الضمير وتأنيب النفس له على هذه المعاصي، فيريد أن يخفف ذلك ببعض هذه الأعذار، وهذا قد يكون -إن شاء الله- بشارة أو دلالة على أن فيه خيراً ما دام يقول: إن هذه ساعة قد تكون منشطة أو مرفهة، لكن ينبغي أن نعلم أن الضابط الشرعي: أنه لا يمكن قبول شيء ما دام داخلاً في دائرة المنهي عنه أو المحرم.

كيفية دعوة أصحاب المعاصي

كيفية دعوة أصحاب المعاصي Q لي أخ يصلي بعض الفروض، ويسمع الغناء، وينغمس في بعض المعاصي، فهل ابدأ أدعوه أم أبدأ بشباب الحارة، أم كيف الطريقة التي أدعوه بها. مع العلم أنه أخي الأكبر؟ A المعصية لا تمنع من الدعوة، بل تجعلها آكد وأوجب، فإن المستقيم من الناس والملتزم منهم والمسابق إلى الخيرات حاجته إلى النصح والوعظ أقل، والعاصي هو الذي يحتاج إلى جهد أكبر وأعظم وإلى استعداد وتهيئة، فلابد أن نعلم أنه لابد أولاً أن يشعر الإنسان بخطورة ورداءة وضرر الأمر الذي يمارسه، ثم أيضاً أن نحل محل المنكرات الأشياء المعروفة والخيرة والصلاح؛ حتى لا يبقى هناك الفراغ الذي قد يجعل العاصي يعود مرة أخرى إلى تلك المنكرات. وقد جاء مرة سائل ممن يسمعون الغناء يسأل عن حكم الغناء؟ فأجابه المسئول إجابة فيها بعض الحكمة؛ حيث قال له: هل أنت تقوم في أداء الفرائض والصلوات في الجماعات؟ وهل تؤدي دورك في تجاه أسرتك وأبيك وأمك، وهل تفعل كذا؟ وهل تفعل كذا؟ وهل تفعل كذا؟ ثم قال له: إذا انتهيت من هذا كله وبقي عندك وقت لسماع الغناء فسل عن حكمه، أي: أنك لابد أن توجه إلى وجهة نظر تلفت نظر السامع، وتجعله يشعر برداءة موقفه وممارسته، وأن المأمول منه والمرجو فيه غير ذلك، وأن هناك من الواجبات والأعمال ما ينتظر منه غير الذي هو فيه، حتى إذا قارن هذه المقارنة ربما يصيبه بعض الحياء والخجل من هذا الموقف.

العشر الأواخر بين الأوائل والأواخر

العشر الأواخر بين الأوائل والأواخر لله تعالى نفحات، ومواسم يتعرض فيها لعباده؛ كي يتزودوا منها بالطاعات، ويغسلوا عنهم الآثام والخطيئات، ومن تلك المواسم والنفحات الأيام العشر الأخيرات من شهر رمضان المبارك، وقد كان السلف الصالح أول المسارعين والمسابقين في اغتنام هذه الفرص، والتزود منها بكل وسيلة تمكنهم، حتى ضربوا أروع الأمثلة، وكانوا خير من يقتدى بهم، حتى إن القارئ لسيرهم ليخيل إليه أنه يقرأ قصصاً من نسج الخيال، وما كان ذلك ليخطر له على بال، جعلنا الله من أتباعهم، وحشرنا في زمرتهم.

حال السلف في العشر الأواخر من رمضان

حال السلف في العشر الأواخر من رمضان الحمد لله جلت عن الوصف عظمته، ووسعت كل شيء رحمته، جعل في شهر رمضان فتحْ أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران، وخص العشر بليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، أفاض النعم، وضاعف بفضله الحسنات، ومحا بعفوه السيئات، وأفاض بجوده البركات، له الحمد سبحانه وتعالى ملء الأرض والسموات كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، علم التقى، ومنار الهدى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فموضوعنا (العشر الأواخر بين الأوائل والأواخر) نتأمل فيما كانت عليه أحوال أسلافنا، ما الذي كان يشغل عقولهم، وما الذي كان يداعب آمالهم، وما الذي كان يشحذ عزائمهم، وما الذي كان يسهر ليلهم، ويضني نهارهم، ويفطر أقدامهم، ويجعل كأمثال ركب المعزى على جباههم، وما الذي كانوا يملئون به الليالي العشر، وما هي الأحوال في أيامنا هذه. علنا ندرك أننا في حاجة إلى أن نسترد عقولنا المغيبة، وأن نرجع نفوسنا اللاهية، وأن نحيي قلوبنا الغافلة؛ لأن في أحوالنا من العجائب ما يستدعي النظر في أفعال أصحابها، وهل لهم عقول أو قلوب في صدورهم. فنريد أن نتأمل هذه الأحوال، وأن نرى بعض تلك المفارقات العجيبة، فنقول: إذا ذهب من رمضان عشرون يوماً يكون قد مضى الثلثان وبقي الثلث، والثلث كثير، وفيه خير وفير، وحسبنا من عشره الأخير أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي تنزل فيها الملائكة بكل أمر، والتي فيها السلام والخير حتى مطلع الفجر. أليس هذا جديراً وحرياً بأن يكون لنا معه شأن آخر كما كان شأن أسلافنا، وكما هو شأن كل مؤمن حي القلب يقظ الفكر حريص على الخير مقبل على الطاعة عالم بما ينبغي لكل حال وزمان بما يناسبه ويلائمه؟! إنه من الجهل والحمق أن تلبس الثياب الخفيفة في وقت الشتاء والزمهرير، وأن تلبس الثياب الثقيلة في وقت الحر الشديد، فكيف بنا نجعل اللهو والصفق في الأسواق والغناء والعبث والشراء وغير ذلك في الأوقات والليالي التي جعلت للعبادات والطاعات وغير ذلك مما نعلم. إنها معارضات لابد من ذكرها ولابد من إعادة القول فيها، ولابد من جعلها دائماً تصب في كل سمع، وتخاطب كل عقل، وتنبه كل قلب ونفس، وإذا تأملنا لوجدنا ما كان عليه أسلافنا، تغلق الأسواق، وتفتح المساجد، ويهجر النوم فلا يكون هناك نيام، وإنما يحيا الليل بالذكر والقيام. كانوا -كما ذكر ابن جرير - يغتسلون في كل ليلة من ليالي العشر، كان يفعل ذلك أيوب السختياني رحمه الله، وكان يفعله الإمام مالك فيما يرجح عنده أنه من ليالي القدر، فيغتسل ويتطيب ويلبس حلة لا يلبسها إلى العام القادم من شهر رمضان، وكان غيرهم يفعل مثل ذلك.

حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان

حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان تأمل ما كان عليه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر، فإنا نجد أن العبارات والأحاديث التي رويت في هذا ليس فيها كثير كلام، وليست من الأحاديث الطويلة مطلقاً، ولكنها أوصاف أَجملت وأَوجزت صفة القلب، وحياة الروح، وشغل العقل، وفعل البدن، أوجز ذلك في كلمات عجيبة ذكرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وقد استأثرت بأكثر ما روي عن العشر وقيامها والاعتكاف فيها- تقول: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) فهل في هذا الكلام شيء يحتاج إلى شرح وتفسير؟ وهل فيه شيء غامض، أم أنه صورة حية واضحة جلية؟ (إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) هل تسمع في صفة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر ذكراً للأسواق، أو ذكراً لسحب الجوائز التي يجتمع لها الناس؟ وهل تذكر شيئاً يخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتني فيها بأطايب الطعام، أو كان يتفقد فيها بيته ليزينه ويجمله، وينشغل ببعض أحواله وأوضاعه؟ إنها جمل ثلاث (شد مئزره) أي: شمر عن ساعد الجد، وتفرغ للأمر الجلل، وتهيأ لمناسبة الزمان وفضيلته، وللإقبال على الله سبحانه وتعالى الذي قد جعل لهذه الليالي من الخصائص ما يضيق المقام عن حصره، بل قد شُغل العلماء بذكر خصائص ليلة القدر، فذكروا لها من الخصائص ما قد يكون كثيراً في العد والحصر. وقولها: (شد مئزره) ذكر أهل العلم أن هذه الجملة كناية لاعتزاله نسائه، وإن كان الصحيح عدم حرمة ذلك للمعتكف إذا قطع اعتكافه، ولكن اعتزال النساء في العشر من الآداب والسنن التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم. شغل أعظم من الشغل الآخر، وهم أكبر من الهموم الأخرى، وتعلق نفسي وقلبي لأعظم من شهوة النساء والنظر في الطعام والشراب، فضلاً عن البحث عن الأكسية والأحذية وغيرها. وقولها: (وأحيا ليله) كان عليه الصلاة والسلام يحييه دائماً وأبداً في سائر أيامه، وفي حله وترحاله، وحضره وسفره، فما هي الإضافة ههنا؟ وما الزيادة في هذه العشر؟ قال أهل العلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط في الليالي الأولى من رمضان قياماً بنوم، فإذا جاءت العشر الأواخر أحيا ليله كله عليه الصلاة والسلام، (أحيا ليله) أي: كله من غروب شمسه إلى انبثاق الفجر، ليس هناك مكان ليشغل به هذا الزمان وتلك الليالي المعدودات على أصابع اليد التي ما بين لحظة وأخرى نقول: قد مضت وانقضت وتولت، ولا ندري هل ترجع إلينا أم لا؟ وقولها: (وأيقظ أهله) ليجعل البيوت عامرة بالطاعة والذكر والصلاة، لئلا يجتهد في الطاعات وتخلفه في بيته الشاشات والمسلسلات والتمثيليات، لئلا يكون عليه وزر فيما حمّله الله عز وجل من مسئولية عظيمة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فما الذي توصي به أهلك؟ وكيف كان شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله؟ والأحاديث في ذلك كثيرة حتى في غير رمضان وفي غير ليالي العشر، ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ امرأته، فإن لم تتستيقظ نضح عليها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها، فإن لم يستيقظ نضحت عليه الماء).

قصص جميلة مع النبي صلى الله عليه وسلم في لياليه

قصص جميلة مع النبي صلى الله عليه وسلم في لياليه كان للنبي صلى الله عليه وسلم في لياليه المعتادة قصص جميلة مع أزواجه، تقص علينا عائشة رضي الله عنها كثيراً من هذه القصص، فتخبرنا أنها كانت ذات ليلة نائمة، وأنها تقلبت فجاءت يدها على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم منصوبتين وهو ساجد لله عز وجل. واستيقظت ليلة فإذا بها ترى النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً، فتتبعه وتظن أنه قد ذهب إلى بعض نسائه غيرها، فإذا به يخرج إلى البقيع ويدعو ويتذكر ويعتبر عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك في آخر حياته كالمودع للأموات. وغير ذلك مما هو معلوم في شأن لياليه المعتادة، فكيف بهذه الليالي الفاضلة.

الاعتكاف حكمه وفضله

الاعتكاف حكمه وفضله عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده)، فالاعتكاف سنة مؤكدة. قال الإمام أحمد: لا أعلم خلافاً بين العلماء في سنية الاعتكاف. وقال ابن العربي: هي سنة مؤكدة. وقال ابن بطال: في مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكد الاعتكاف. بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه اعتكف، وضرب له خباء في المسجد، فاستأذنه بعض أزواجه فضربت لها خباء -أي: لتعتكف-، ثم جاءت الأخرى، ثم الثالثة، فلما رأى كثرة ذلك قال: آلبر تردن؟!) ثم نقض معتكفه، وترك اعتكافه حتى لا يكون ذلك واجباً، ولا يكون هذا الاجتماع من النساء، ثم قضى اعتكافه في عشر أخرى من شهر شوال، وذلك القضاء يدل على تأكد هذه السنة الماضية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في ذلك الشهر، ثم اعتكف في عشر من شهر شوال) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرين يوماً) وذلك يدلنا على فضيلة عظيمة حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم -وقد دنا أجله- أن يستكثر من هذه الفضيلة، وأن يعظم من ذلك الأجر، وأن يكثر من الإخبات والإقبال على الله سبحانه وتعالى، وذلك مؤذن بأهمية هذه العشر، وأهمية سنة الاعتكاف فيها، وما أعجب وأوجز ما قالته عائشة رضي الله عنها في هذا الوصف الجميل الدقيق العجيب: (كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها) وكأنها تقول لنا: قارنوا بشيء معروف. وقد ثبت عنها وعن غيرها من الصحابة صفة لياليه صلى الله عليه وسلم، وأنه (كان يقوم حتى تتفطر قدماه) وأنه صلى الله عليه وسلم (لم يترك قيام الليل في سفر ولا حضر) وأنه منذ أن أنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] لم يترك ذلك مطلقاً، وإذا ترك القيام لمرضه كان يقضيه في نهاره، فتأمل هذا الوصف الموجز لـ عائشة: (كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها)، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فكيف لنا أن نتصور زيادة على مثل هذا الذي ثبت وأثر عنه، وهو بعد ذلك يزيد عليه لأنها ليال فاضلة فيها من الزيادة في الأجر والاختصاص في محو الوزر ما ليس في غيرها مطلقاً، ولذلك كان يخصها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليالي بمثل هذه العبادة، وهي الاعتكاف، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الاعتكاف لا يصح إلا بصوم، وإن كان الصحيح جوازه بدون صيام، لكنه في الصوم وفي رمضان آكد وأعظم في الأجر؛ لاجتماع صور العبادة كلها في ذلك الاعتكاف.

الحكمة من مشروعية الاعتكاف

الحكمة من مشروعية الاعتكاف لماذا شُرع الاعتكاف؟ إنّ الوقت في اليوم أربع وعشرون ساعة، والليالي عشر، فالمسألة محدودة، فإنْ كان هناك خلط بين أمور دنيانا وأخرانا، وبين مشاغل أحوالنا وأوضاعنا وما نريده لطاعتنا ولعباداتنا، فإن ذلك سيفوت من الخير أكثره. أليست أيامنا في عامنا كلها مشتركة بين أحوال دنيانا وأخرانا؟ أليست كلها مقسومة بحصة أكبر لأمورنا وخاصتنا وأحوال حياتنا وشئون أولادنا؟ أليس القليل منها في نهارنا، وربما اليسير اليسير من ليلنا؟! أفنضن بعد ذلك بليال عشر لا تزيد ولا تنقص عن هذا العدد؟ لذلك كان عليه الصلاة والسلام يجعلها خاصة للأمر الذي لا يجمع معه غيره، وهو الاعتكاف، أي: اللزوم والبقاء في مكان خاص -وهو المسجد- بنية العبادة لله عز وجل، فيتفرغ من شأن الخلق والخلائق إلى عبادة الخالق سبحانه وتعالى، وذلك من كمال العقل، ومن عظمة الإيمان، ومن حياة النفس والروح، ومن التعلق الصحيح الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بربه، وإقباله على طاعته، ورغبته في مثوبته، وحبه لنيل رضاه، ورغبته في أن يكون كما قال عليه الصلاة والسلام: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له وأعبدكم له) صلى الله عليه وسلم. قال ابن عمر في الحديث الصحيح عند البخاري: (إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوا ليلة القدر في المنام، فقال عليه الصلاة والسلام -وقد أخبروه برؤاهم-: إني أرى رؤياكم تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرياً لليلة القدر فليتحرها فيها) وغير ذلك مما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في شأن ليلة القدر. فضائل هذه الأيام والليالي الفاضلة أكثر من أن تحصى، وإيجاز القول الذي ثبت فيها يدل على أن السلف لم يكونوا يحسنون كثرة الكلام مثلنا، ولا يزينون العبارات بالبلاغات كحالنا، وإنما يحسنون أعمال القلوب، وتحليق الأرواح، وسجود الجباه، وتسبيح الشفاه، والإقبال على الله عز وجل، فما كان عندهم بهرج كثير، ولا كلام مكرر، وإنما كانت عندهم قلوب خاشعة، ونفوس على الله سبحانه وتعالى مقبلة، وعبادة دائمة، ولذلك لم نجد في هذه الأحاديث ولا في تلك الأوصاف كلاماً كثيراً، ولا وصفاً متعدداً، وإنما هو الإيجاز الذي إذا تأملناه بهرتنا معانيه (كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها) كيف يكون هذا الاجتهاد من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يكون اجتهاداً زائداً وكل أيامه ولياليه كانت اجتهاداً في طاعة الله سبحانه وتعالى؟!

عبرة من قصص السلف

عبرة من قصص السلف أذكر قصة من حياة أسلافنا في حلس البيوت التي اليوم تشكو وتعاني من كثير مما يلهي ويغري ويصرف عن طاعة الله عز وجل، امرأة حبيب العجمي -وهو أحد السلف- تقول له في الليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سرت ومضت، ونحن بقينا. هذه امرأة لم تشغل بطعام ولا بشراب، ولا بوصفات إعداد الأطعمة، ولا بالموضات وما ينزل خصيصاً في العشر الأواخر من الملابس والموديلات والموضات، لقد شغلتهم المشاغل الإيمانية، وألهتهم عن هذه الأمور الدنيوية. يا نائم الليل كم ترقدُ قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ وخذ من الليل وأوقاته وِرْداً إذا ما هجع الرُّقَّدُ من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنزل أو يزهدُ قل لذوي الألباب أهل التقى قَنطَرَةُ الَعْرض لكم موعِدُ ذلك ما يمليه العقل الراشد والقلب الحي والنفس المؤمنة والموسم العظيم والأجر الكثير الذي ينبغي لنا أن نجتهد فيه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يصرفنا عن الغفلة واللهو واللغو وفاحش القول وسيئ العمل في سائر الأيام والأحوال، وفي هذه العشر على وجه الخصوص.

ليلة القدر هي الجائزة الكبرى التي لا تقارن بها الدنيا وما فيها

ليلة القدر هي الجائزة الكبرى التي لا تقارن بها الدنيا وما فيها العشر الأواخر هي الفرصة الأخيرة، وكما نرى أهل الدنيا وهم يجعلون مواسم وأياماً للجائزة الكبرى، نراها قد ملئت بها صفحات الجرائد، وتتكرر على شاشات التلفاز، وأما الليلة الكبرى والجائزة الكبرى التي لا تقارن بها الدنيا كلها بما فيها فهي بين أيدينا، ولا يفصلنا عنها ونحن في العشر سوى أيام قلائل، ولا يبعدنا عن إدراك خيرها ونيل أجرها وحصول مثوبتها إلا أن نجدد التذكر ونحسن الامتثال (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) اجعل هذه الجمل الثلاث نصب عيبك، فهي جمل موجزة رائعة بديعة تحكي حياة قلب وروح وعبادة ليل، لا يكاد يفتر فيها عليه الصلاة والسلام ما بين صلاة وتلاوة وذكر ودعاء، ولا يخرج من مصلاه كما في الصحيح، وكان ربما يدني رأسه إلى حجرة عائشة فترجله، أي: ترجل شعره وهو معتكف في المسجد عليه الصلاة والسلام، فليس هناك شيء يمكن أن يقال أبلغ وأوجز مما ذكرته عائشة وذكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. تلك عشر ليالٍ تتحول فيها الأحوال تحولاً تاماً نحو الانقطاع عن الدنيا والانشغال بالآخرة والتفرغ للعبادة، وترك الأحوال المعتادة، وليس هناك ما يقال إلا أن نذكَّر بأن كل ليلة من رمضان لله فيها عتقاء من النار، وقد ورد كذلك أنه إذا كانت الليلة الأخيرة كان من العتقاء مثلما أعتق الله من أول الشهر، ولا تغفل كذلك عن العبادة ليلة العيد التي ينشغل فيها الناس فلا يكادون يذكرون ولا يصلون ولا يدعون ولا يتهيئون لأن يودعوا شهرهم باستيداع مزيد من العمل الصالح في خزائن رمضان. أيها الأخ الحبيب! ونحن نتذكر ونذكر أنفسنا بمثل هذه المعاني نتذكر أيضاً أحوال أمتنا، ولابد لنا ونحن نتذكر الحياة التي نحن فيها من الخير ومن نعمة الله عز وجل من أن نتذكر من حرموا تلك النعم، ومن يعيشون في كل يوم على صوت أزيز الرصاص، وقصف الدبابات، واشتعال النيران، وعدوان المجرمين الظالمين الغاصبين المعتدين في كل بقاع الأرض بدءاً من فلسطين، ومروراً بالعراق، وانتهاء بالشيشان، وتعريجاً على كشمير وفي غيرها من الجهات التي فيها جاليات مسلمة تضطهد أو تعذب، ولذلك ينبغي ألا نقتصر على الدعاء لأنفسنا ولأهلنا ولديارنا وبلادنا، وينبغي أن يكون لهم حظ من دعائنا، فندعو لأمتنا وإخواننا، ونسأل الله أن يصلح أحوال واقعنا، علَّ الله سبحانه وتعالى في هذه العشر المباركة أن يتداركنا برحمته، وأن يجعلها فرجاً لكل من به ضيق، ويجعلها سبحانه وتعالى نصراً لكل من له جهاد، ونسأله سبحانه وتعالى أن يقوي في هذه الأيام والليالي عزائمنا على طاعته، وهمتنا في طلب مرضاته، وأن لا نشغل عن ذلك بسفساف الأمور. الصوم جُنَّة أقوام من النار والصوم حسن لمن يخشى من النار والصوم ستر لأهل الخير كلهم الخائفين من الأوزار والعار والشهر شهر إله العرش مَنَّ به ربٌ رحيمٌ لثقل الوزر غفار ينبغي لنا أن ندرك هذه الفضائل، وأن نتهيأ لها ولا نشغل عنها، ونسأله سبحانه وتعالى الرضوان، والعتق من النيران، ودخول الجنان برحمته فهو الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى. اللهم! إنا نسألك أن تستعملنا في طاعتك، وأن تسخر جوارحنا في طاعتك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين. اللهم! اجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين. اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم! اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم! اجعلنا ممن يشد مئزره، ويحيي ليله، ويوقظ أهله، ويشغل أيامه ولياليه بالذكر والطاعات والدعاء والمناجاة برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد. اللهم! املأ قلوبنا بحبك، وأسجِد جباهنا لعظمتك، واجعل أقدامنا سائرة إلى طاعتك، واجعل أيدينا منفقة في سبيلك برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم! أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين. اللهم! امسح عبرتهم، وسكَّن لوعتهم، وفرَّج همهم، ونفس كربهم، وعجَّل فرجهم، وقرَّب نصرهم، وادْحر عدوهم، اللهم أمّن الخائفين، واكسُ العارين، وأطعم الجائعين، وسكنِّ المشردين، وانصر المجاهدين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! اجعل لنا ولإخواننا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم! انصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم! ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعْلِ رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم! أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، واجعل الأيام والليالي المقبلة أيامَ ولياليَ نصر وعز وتمكين برحمتك وقدرتك وعزتك يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أوضاع المسلمين والموازين الدولية

أوضاع المسلمين والموازين الدولية إن الناظر إلى القوانين الدولية ليرى العجب العجاب، فعندما تكون في صالح أعداء الإسلام فإنها تنفذ وبكل صرامة، وعندما تكون هذه القوانين في صالح المسلمين فإنه يكتفى بالشجب والتنديد، وهنا يظهر الكيل بمكيالين، فعلى الأمة إذا أرادت العزة والتمكين والنصر أن ترجع إلى شرع الله سبحانه وتعالى قولاً وعملاً واعتقاداً.

مقدمة عن حال الأمة الإسلامية وواجب المسلمين نحوها

مقدمة عن حال الأمة الإسلامية وواجب المسلمين نحوها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: فهذا هو الدرس الرابع والعشرون من هذه السلسلة من الدروس، وهو اليوم بعنوان: أوضاع المسلمين والموازين الدولية. ويأتي هذا الدرس ربما في وقت يتزامن ويتناسب مع كثير من المستجدات والأحداث، التي تحيط بأمة الإسلام في كثير من ديارها وعلى كثير من أبنائها، والذي يلحظ الواقع المعاصر يرى أنه في خلال الأعوام القريبة القليلة الماضية علا صوت الشرعية الدولية، ولزوم احترام القوانين الدولية، ومراعاة مشاعر الأسرة الدولية، ونحو ذلك من المقالات التي تعود في جوهرها إلى لزوم مراعاة هذه الموازين والقوانين التي ترتبط بالأمم المتحدة وفروعها ولجانها ومجالسها. والذي يتأمل بصورة سريعة يجد أن أوضاع المسلمين على وجه الخصوص، أعني الأوضاع المأساوية التي يصب فيها على المسلمين كل أنواع الأذى والعسف والظلم، نجد أن هذه الموازين إما أنها لا تفي بالغرض الذي يحقق العدالة أو يدفع الأذى، وهذا في كثير من صورها وأحوالها، وأما أنها تحيف وتميل وتكيل بمكيالين، سيما إذا كان الأمر يتعلق بالمسلمين. وإما على أحسن الأحوال والظروف أنها تكون قرارات وأموراً لا تعدو أن تتجاوز الخطب أو القرارات المطبوعة والمكتوبة التي لا تغير في الواقع شيئاً، وفي حقيقة الأمر ربما لا تساوي المداد الذي كتبت به؛ لأنه ليس لها قيمة تأثيرية تغييرية في الواقع. وأحوال المسلمين المضطهدين أكثر من أن يحيط بها درس أو محاضرة، بل إن كل قضية من قضايا المسلمين لا تكفيها دروس ولا محاضرات، وحال المسلمين مقارنة بغيرهم في الجملة ربما يعبر عنه قول الشاعر: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر وهذا الذي نراه في واقع الأمر إذا قتل فرد من أمة نصرانية أو يهودية، أو من دولة شرقية أو غربية تقوم له الدنيا ولا تقعد، وإبادة شعوب الإسلام هنا وهناك مسألة فيها نظر، تحتاج إلى التداول وإلى القرارات وإلى غير ذلك من الأمور، وحال المسلمين بالنسبة لكثير من دولهم أيضاً يصح فيها قول شاعر العرب: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود إذ لا يلحظ لهم قوة أو قدرة فاعلة، ولو ضمن هذه الموازين والمقررات الدولية التي يراد لها أن تكون مهيمنة وحاكمة على العالم، والمتأمل أيضاً يجد أن أوضاع الديانات والعرقيات والمبادئ الأخرى غير الإسلامية تشهد نشاطاً عند الملمات والمهمات، وهذا النشاط له دور فاعل تأثيري لا ينتظر المداولات، ولا يستجيب في الغالب للقرارات، بل يجعل لغة العمل والتغيير الواقعي هي اللغة المسموعة، ولذلك في غالب الأحوال يحظى هؤلاء بحوزة حقوقهم، وتكون لهم صورة من الهيبة والاحترام، بعكس من ينتظر الاستجابة للقرارات أو الوصول إلى الحلول وغير ذلك من الأمور، وكما قال الشاعر: كل الشعوب على الطريق توحدت وشعوبنا لما تزل أشياعا كم نستكين إلى الهوان وليتنا نشكو المهانة أو نحس صداعا كل الشعوب تنام ملء جفونها والسقف فوق شعوبنا يتداعى كل الشعوب إلى الشواطئ أبحرت هل يملك الشعب القتيل ذراعا حال الأمة في الحقيقة لا نذكرها تأييساً للأمة وفتاً في العضد وقتلاً لبوادر وبوارق الأمل، وإنما فائدتها على العكس من ذلك أنها توضح الصورة، وتكرس الولاء للإسلام، وتبدي الحاجة الشديدة الملحة لوحدة أمة المسلمين، وتناصر شعوب الإسلام فيما بينها، وأن يكون المسلمون -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- يداً على من سواهم، وأنه يسعى بذمتهم أدناهم، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، أما التبلد والسلبية والبقاء والانحصار في دائرة الأنانية، وعدم التفاعل والارتباط بأمة الإسلام والمسلمين في شرق الأرض وغربها، فهو دلالة على ضعف الإيمان، وعدم وضوح الرؤية والعلم بهذا الدين، بل هو في كثير من الصور وللأسف ربما يمثل صورة من قول الله سبحانه وتعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، وينبغي أن يتخلى المسلمون عن هذه الصورة، ولا يكون حالهم كقول القائل: يموت المسلمون ولا نبالي ونهرف بالمكارم والخصال ونحيا العمر أوتاراً وهزلاً ونحيي العمر في قيل وقال لماذا كل طائفة أغاثت بنيها غيركم أهل الهلال ترى الصلبان قد نفرت وهبت يهود بالدواء وبالغلال هبوهم بعض سائمة البراري هبوبهم بعض سابلة النمال هبوهم أي: هبوا إخوانكم المسلمين.

حقوق الإنسان في الأعراف الدولية ونصيب المسلمين منها

حقوق الإنسان في الأعراف الدولية ونصيب المسلمين منها حتى نلج إلى صلب الموضوع والقضية، فإننا نستعرض بعض هذه الموازين في نصوصها وقوانينها التي صيغت بها، ثم نرى تطبيقها في الواقع، لنرى حظ المسلمين منها، وهذه الموازين كثيرة جداً، والإحاطة بها يطول أمرها، ولذلك سأقتصر في كل قضية من القضايا على أمثلة محدودة، ربما تزيد في بعض الموازين لأهميتها وكثرة ما ينقضها ويعارضها، وتقل في البعض الآخر؛ لأن الأمثلة فيه قد لا تحتاج إلى ذلك التفصيل. من أهم هذه الموازين والقوانين التي يكثر الحديث عنها: حقوق الإنسان التي تصم آذاننا في هذه الأيام صباحاً ومساءً، وفي غالب الأحوال لا تكون بالنسبة للمسلمين كما ينبغي أن تكون، أو كما ينص عليها قوانينها. وأذكر لكم بعض المواد الرسمية في القانون الدولي المتعلق بحقوق الإنسان، ثم نرى بعد ذلك تطبيقاته على أوضاع المسلمين. ينص هذا القانون في مادته الأولى بالنص القائل: يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق. وفي مادته الثانية يقول: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات، دون أي تمييز من عنصر أو لون أو جنس أو لغة أو دين، وكذا فيما بين الرجال والنساء. وفي المادة الثالثة يقول: إن لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه. وفي الخامسة يقول: إنه لا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات الوحشية أو الحاطة بالكرامة. وأنا أختار بعض المواد، ولا أذكرها كلها. المادة التاسعة: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً. المادة الحادية عشرة: كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً. المادة الثانية عشرة: لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة، سواء في أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، أو أن يتعرض لحملات على شرفه أو سمعته، وكل شخص يحميه القانون من مثل هذه الاعتداءات. المادة الثالثة عشر: لكل فرد حرية الانتقال، واختيار محل إقامته داخل حدود أية دولة، وله الحق في الخروج من بلده، كما له الحق في العودة إليه متى شاء دون أية قيود، إلا ما يتعلق بقيود القوانين التي فيها منع بموجب قانون الجريمة أو نحو ذلك. المادة السابعة عشرة: لكل شخص حق التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً. المادة الثامنة عشرة: لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، وهذا الحق شامل لحرية تغيير الديانة أو العقيدة وحرية الإعراض عنها. وسنعرض في آخر الحديث إلى هذه الموازين من حيث النظرة الشرعية، لكننا الآن نجاري هذه الموجة لنعلم أنه حتى هذه القوانين الوضعية التي في بعضها أو كثير منها مخالفة لشرع الإسلام لا تطبق التطبيق الصحيح كما يزعم واضعوها، أو ينادي واضعوها الناس إلى أن يحتكموا إليها. المادة التاسعة عشرة: لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأخبار والأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بدون تقيد بحدود جغرافية وبأية وسيلة. المادة الثالثة والعشرون: لكل شخص الحق في العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية، ولكل فرد دون أي تمييز الحصول على أجر متساو في العمل مع غيره، وله أيضاً الحق في أجر عادل مرضٍ يكفل له ولأسرته عيشه الكريم. المادة الخامسة والعشرون: لكل فرد الحق في مستوى معيشي كاف يحافظ فيه على الصحة والرفاهية، ويضمن الغذاء والملبس والمسكن والصحة وتأمين المعيشة. وللأمومة والطفولة حقوق خاصة في هذا أكثر من غيرها، وأن الدول ينبغي أن تكفل هذه الحقوق من الرفاهية، وأن يحصل الإنسان على الحد الأدنى من مستوى المعيشة المقبولة. المادة السادسة والعشرون: لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم الأساسي مجاناً وإلزامياً، وأن يتيسر أيضاً التعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع دون أي فروق أو تمييز. هذه بعض المواد فيما يتصل بالمواد الأساسية في قانون حقوق الإنسان المدنية والسياسية، وهناك أيضاً اختيارات أخرى من قانون حقوق الإنسان في الشئون الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. نقتطف منها مادة واحدة وهي: تقر هذه الدول بحق الفرد في المشاركة الثقافية، والانتفاع بالتقدم العلمي، والانتفاع بحماية المصالح المعنوية والمادية الناتجة من الإنتاج العلمي والأدبي الذي يقوم هو بتأليفه. هذا ما ذكرناه في مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي أول مواد الحقوق المدنية والسياسية يأتي الحق الذي يكثر ترداده كثيراً وهو موضوع حق تقرير المصير: تنص المادة الأولى: على أن لكل الشعوب الحق في تقرير المصير، وحرية كيانها السياسي، ومواصلة حرية نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ثانياً: لجميع الشعوب تحقيق غايتها الخاصة في التصرف في حريتها وثروتها ومواردها الطبيعية، وجميع الدول الأطراف عليها العمل من أجل تحقيق حق المصير، واحترام ذلك الحق تمشياً مع ميثاق الأمم المتحدة. وأيضاً نجد أن هذه المواد تكرس ذاك القول الذي ذكر في مسائل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ثم أيضاً بعد ذلك أضيفت قوانين أخرى تتعلق بهذا الباب، ومن أهمها قانونان مهمان: الأول منهما: جريمة إبادة العنصر، حيث أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر ديسمبر عام (1948م) اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، ثم أصبحت هذه الاتفاقية سارية المفعول في عام (1961م) وفي عام (1986م) صدقت عليها ستة وتسعون دولة، وأصبحت هذه الاتفاقية معمولاً بها. وكذلك معاهدة أخرى وهي معاهدة منع التمييز العنصري، وأصبحت هذه الاتفاقية سارية المفعول في عام (1969م)، وصدقت عليها مائة واثنان وعشرون دولة، وفي كلتا المعاهدتين كانت إسرائيل إحدى الدول المصدقة على مثل هذه المعاهدة.

حقوق الإنسان في الأعراف الدولية وأوضاع المسلمين في بورما

حقوق الإنسان في الأعراف الدولية وأوضاع المسلمين في بورما بمجرد أن نستعرض بعض أحوال المسلمين في بعض المناطق نجد بوضوح الصورة المعاكسة والمغايرة لهذه الإعلانات والمواد والقوانين، أوجز ما يتعلق بأحوال وأوضاع المسلمين في بورما في عشر نقاط؛ حتى تعلموا أن كل هذه المواد بتفصيلاتها وتفريعاتها لا أثر لها في واقع المسلمين في بورما. بورما بلد إسلامي دخله الإسلام في القرون الأولى من عهد الإسلام، وحكم الإسلام مناطق بورما وبالذات منطقة أراكان نحو خمسين وثلاثمائة عام، وتعاقب عليها ثمانية من ملوك المسلمين، حتى جاءت بعد ذلك البوذية، واحتلت هذه المناطق، وقتلت وشردت، ثم بعد ذلك جاء الاستعمار البريطاني، ثم بعد ذلك ورث تركته وضم المسلمين إلى الحكومة البوذية في بورما، ومارست من جديد التقتيل والتشريد، وهذه الخلاصة نوع من مناقضة ما هو مذكور في هذه النصوص لحقوق الإنسان: أولاً: بموجب قانون المواطنة والجنسية الذي صدر عام (1982م) ألغيت الجنسية عن جميع مسلمين أراكان، وأصبحوا -كما هو مذكور في الصحف والمجلات- شعباً بلا وطن، وإلى الآن إخواننا الموجودون هنا في المملكة في مكة وفي جدة وفي غيرها من البرماويين لا يملكون أية جنسية، وليس عندهم أية جوازات، وهذا أحد النصوص التي لم نذكرها وهي: أن لكل فرد الحق في التمتع بجنسيته، ولا يسلب هذا الحق منه مطلقاً. ثانياً: الحرمان من السفر والانتقال حتى إلى العاصمة التي يحتاج الناس إلى التردد إليها لبعض حاجاتهم. ثالثاً: وجود الاعتقالات والقتل والتعذيب دون مبرر، والأعداد في هذا مهولة جداً، يكفي أن نقول: إنه قتل في بدايات هذه الفتنة والمحنة التي مرت بإخواننا هناك أكثر من ثمانين ألف مسلم في فترة واحدة لا تتعدى العامين فقط، ولما تجددت النزاعات في عام (1947م) قتل كذلك عشرات الآلاف من المسلمين، وأما المهجرون فتبلغ أعدادهم أكثر من (اثنين مليون) مفرقين في كثير من أنحاء العالم في شرقه وغربه. رابعاً: الإجبار على أعمال الخدمة، وبدون مقابل وبدون أجر، وهذا أيضاً يناقض هذه القوانين. خامساً: تهجير المسلمين وتوطين البوذيين البورماويين في أماكن سكناهم. سادساً: نهب الأموال، وحصد المحاصيل، ومنع استيراد المواد الغذائية؛ سياسة تجويع وقتل تعارض جريمة الإبادة الجماعية أو الجنسية كما ذكرناها. سابعاً: منع المسلمين من ممارسة التجارة بأية صورة من الصور. ثامناً: الحرمان من الوظائف الحكومية مطلقاً. تاسعاً: مصادرة أوقاف المسلمين وأراضيهم الزراعية. عاشراً: إيجاد العقبات أمام التعليم بشتى صوره، وفي شتى مراحله. ويكفي أن نقول: إنه لا يوجد لهؤلاء المسلمين الذين يبلغ عددهم نحو ستة ملايين، ولا ممثل واحد في البرلمان، ولا في مؤسسة مطلقاً، إضافة إلى حرمانهم من كل هذه الأسباب والحقوق، ومع ذلك لا تجد لهذه القضية حظاً من القرارات الدولية.

حقوق الإنسان في الأعراف الدولية وأوضاع المسلمين في فلسطين

حقوق الإنسان في الأعراف الدولية وأوضاع المسلمين في فلسطين وهناك مثل آخر صارخ جداً يتعلق بأحوال المسلمين في دولة فلسطين السليبة، تجد أيضاً أن الوقائع أكثر من أن تحصى، وتجد أن هذه القوانين مجرد حبر على ورق. سأفيض هنا قليلاً في بعض الإحصاءات والأرقام المتعلقة بهذا الشأن، فسنجد في فترة زمنية محدودة تبلغ نحو عشر سنوات أنه صدرت في حق إسرائيل نحواً من عشرة قرارات من لجان حقوق الإنسان، وهذه القرارات نوجز ما ذكر عنها في فترات متباعدة، وهي كلها تدين وتشجب وتبدي الأسف وتنظر بعين القلق وما يلحق بذلك، ولا ينفذ من هذه القرارات شيء مطلقاً، بل إننا نجد أيضاً أن الدول الكبرى التي تدعي حقوق الإنسان ونحو ذلك أنها تعارض حتى هذه القرارات الهزيلة بصياغاتها الضعيفة جداً، فمن بين هذه القرارات نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية امتنعت في قرارين عن التصويت، وفي أربعة من هذه القرارات صوتت ضدها، وهذا أيضاً يدل على أن مسألة موازين القوى متعلقة بالعقائد والمصالح، وأنه ليست هناك قضية العدل وتحري إقامة القانون بموجب ما هو منصوص عليه. وهذه القرارات كما ذكرت تدعو دائماً إلى القضايا المنتهكة بالنسبة لحقوق الإنسان. الذي قتل من المسلمين الفلسطينيين عشرات الآلاف، أما المشردون فيبلغ عدد المهجرين من الفلسطينيين منذ بداية (1948م) إلى اثنين مليون ونصف ما يزالون خارج ديارهم وأرضهم، سواءً الذين لازالوا في المخيمات أو استوطنوا في بعض الديار، أو هاجروا إلى بلاد الشرق والغرب وغير ذلك. أحب أن أذكر وأشير إلى نص واحد من نصوص هذه القرارات حتى نرى هذه الانتهاكات المذكورة في نصوص قرارات الأمم المتحدة نفسها. هذا القرار رقم (10) في الدورة السادسة والعشرين في (23/ مارس/ 1970م) وعنوانه: إدانة خرق إسرائيل المستمر لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، يقول: إن لجنة حقوق الإنسان إذ تذكر المبادئ التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإذ تذكر قرار المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان رقم (كذا) في تاريخ (كذا)، وإذ تذكر قرار مجلس الأمن رقم (كذا) وقراره رقم (كذا) وقرار الجمعية رقم (كذا) وتلخص مضامين هذه القرارات، وإذ تذكر أيضاً قرار الدورة الخامسة والعشرين التي قررت تأليف لجنة لتقصي الحقائق، وإذ تضع نصب أعينها أن الاتفاقية السالفة الذكر ملزمة لإسرائيل، وإذ تعرب عن قلقها العميق بسبب الظروف المتدهورة الخاصة بحقوق الإنسان في المناطق المحتلة، وإذ تشعر بالانزعاج الشديد من التقارير الحديثة عن قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلية بعملية طرد جماعي للاجئين، وقد تلقت ودرست تقرير فريق العمل، وتقرر الآتي: أولاً: تلاحظ بخيبة أمل رفض إسرائيل التعاون مع فريق العمل السالف الذكر الذي ألفته لجنة حقوق الإنسان. ثانياً: تؤيد النتائج التي انتهى إليها فريق العمل بشأن تطبيق (اتفاقية جنيف) الخاصة بحماية المدنيين في وقت الحرب على كل المناطق المحتلة، وتفيد التقارير على أن هناك انتهاكات لتلك الاتفاقية في المناطق الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي. ثالثاً: تدين إسرائيل لرفضها تطبيق تلك الاتفاقية وخصوصاً الانتهاكات التالية: - التدمير الكلي والجزئي لقرى ومدن في المناطق المحتلة. - إقامة مستوطنات إسرائيلية في المناطق العربية الخاضعة للاحتلال العسكري. - عمليات ترحيل وطرد السكان المدنيين غير القانونية. - الأعمال القسرية لإرغام السكان المدنيين الخاضعين للاحتلال على التعاون مع السلطات ضد إرادتهم. - إلغاء القوانين القائمة في المناطق المحتلة. - كل سياسات وإجراءات العقاب الجماعي. رابعاً: تأسف على السياسات والأعمال الرامية إلى ترحيل اللاجئين الفلسطينيين. خامساً: تعرب عن قلقها العميق إزاء استخدام وسائل القسر لانتزاع المعلومات والاعترافات انتهاكاً لنصوص الاتفاقية المعنية. - سوء معاملة وقتل المدنيين دون أي استفزاز. - اعتقال الناس بأوامر إدارية لفترات تجدد تلقائياً إلى ما لا نهاية. - حرمان هؤلاء المعتقلين من أي ضمان خاص في مدة الاعتقال. - حرمان المتهمين من استشارة محام يختارونه. - تدمير واغتصاب الممتلكات المنقولة وغير المنقولة. سادساً: تدعو إسرائيل مرة أخرى إلى التقيد بدقة لتلك الاتفاقية. سابعاً: تدعو إسرائيل إلى القيام حالاً بالآتي: - إلغاء جميع الإجراءات والكف فوراً عن القيام بأي عمل مناف للقوانين. - الإحجام عن إقامة المستوطنات. - أن تكف فوراً عن إجبار سكان المناطق المحتلة التعاون مع السلطات. - ضمان العودة الفورية للمهاجرين إلى ديارهم. - الكف فوراً عن ترحيل المدنيين. تاسعاً: تثني على فريق العمل الخاص على ما قام به، وتقرر أن يستمر في التحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية لهذه الاتفاقيات، وتبحث بصورة خاصة عن الدلائل المتعلقة بحالات التعذيب، كالحالات الأخرى لانتهاك الاتفاقية مثل إقامة المستوطنات. وأخيراً: تدعو إسرائيل لاستقبال فريق العمل الخاص والتعاون معه، وتقرر الاستمرار في إدراج مسألة انتهاك حقوق الإنسان في تلك المناطق في جدول أعمال اللجنة، وتطلب من الأمين العام نشر التقرير، وتطلب أيضاً أن يرفع تقرير فريق العمل الخاص إلى الجمعية العامة. هذا نص القرار وكله إعراب وتنديد وشجب وأسف وحزن وغير ذلك، ثم نجد أن الذين صوتوا ضد هذا القرار كثير، ومن الدول التي امتنعت عن التصويت على هذا القرار: فرنسا، وبريطانيا، وأمريكا وغيرها من الدول. هذا الكلام الذي كما ذكرت لا يعدو أن يكون حبراً على ورق ومع ذلك نجد أن الدول العظمى التي تدعي رعاية حقوق الإنسان وبقوانين نفس الأمم المتحدة وبتقارير خبرائها وبإشرافها المباشر وتحقيقاتها المباشرة، نجد أن كل القرارات التي تقدمت بها لجان حقوق الإنسان لم تلق أبداً أية استجابة لا في قليل ولا في كثير، بل إن إسرائيل تندد بهذه القرارات وتعتبرها نوعاً من الظلم، أو استهلاكاً دعائياً كما ورد في تصريحات كثيرة لهم، حتى إن لجان حقوق الإنسان في تقاريرها السنوية أصبحت لا تستطيع أن تدرج تقرير إسرائيل ضمن التقرير العام، فتفرد لها كتيبات أو كتب خاصة بأحوال حقوق الإنسان في أرض فلسطين.

حقوق الإنسان وأوضاع المسلمين في الهند

حقوق الإنسان وأوضاع المسلمين في الهند لو تأملنا لوجدنا أن الأمر ليس فقط في هذه الدائرة، فإننا نجد الهند على سبيل المثال وفيها أكثر من عشرين ومائة مليون مسلم، ويعتبرون أقلية في مقابل عدد سكان يقرب من ثمانمائة مليون، وهؤلاء أيضاً يسامون القتل والتشريد والاعتقال على الأيدي الرسمية الحكومية، وأيضاً لا تجد إلا بعض القرارات والمناشدات القليل أو كثير من الأسف، وتجد أيضاً أن هذه الممارسات تبلغ حداً يصل إلى اللا إنسانية كما يقولون. إذ معلوم أحول المسلمين في الهند، وخاصة في أحداث محاولة هدم المسجد البابري وكذلك في الأحداث السابقة في أثام وغيرها حيث استباحت قوى الشرطة وقوى الجيش دماء المسلمين وأعراضهم وديارهم وأحرقتهم ودمرت كل شيء، ومع ذلك ليست هناك أي فاعلية بصورة قريبة أو بعيدة لهذا القانون أو هذه الموازين الدولية.

حقوق الإنسان وأوضاع الدعاة والعلماء والملتزمين في تونس والجزائر

حقوق الإنسان وأوضاع الدعاة والعلماء والملتزمين في تونس والجزائر إننا نجد أيضاً حتى في البلاد العربية أن الدائرة تدور على دعاة المسلمين، وعلى من يلتزمون بإسلامهم؛ لا لشيء إلا لأنهم فقط يعلنون الالتزام الكامل التام بهذا الدين، فنجد أن الدائرة تدور عليهم وتمتلئ السجون بهم، على سبيل المثال: في تونس يبلغ السجناء من المسلمين ومن الدعاة أكثر من ثلاثين ألفاً، بل بعض الإحصاءات تبلغ بها إلى نحو خمسين ألفاً من المعتقلين، وليست لهم أدنى حقوق إنسانية مما ذكر في هذه الإعلانات، ومع ذلك لا تجد مثل هذه النداءات والصيحات؛ لأن القضية تدور رحاها على المسلمين، بينما في الأخبار نسمع أن الدول الأوروبية توقف مساعداتها عن ملاوي إلا المساعدات الإنسانية، لماذا؟ قالوا: بسبب أوضاع حقوق الإنسان المنتهكة، وبالتالي لابد من معاقبتها؛ لئلا تنتهك حقوق الإنسان، بينما نجد كثيراً من الانتهاكات التي تصب على المسلمين لا يكون لها أي إجراء عملي لا من قريب ولا من بعيد. وكذلك بالنسبة لتونس أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً خاصاً عن تردي الأحوال للسجناء من الدعاة والخطباء والأئمة وغيرهم، ومثل تونس بعض الدول الأخرى، مثل الجزائر فأحوال المسلمين فيها سيئة.

حقوق الإنسان وأوضاع المسلمين في سيرلانكا والبوسنة والهرسك

حقوق الإنسان وأوضاع المسلمين في سيرلانكا والبوسنة والهرسك سيرلانكا قتلت قوات التاميل فيها المسلمين في مساجدهم، وانتهبت أموالهم، وهتكت أعراضهم، وبقرت بطونهم، وما أحداث البوسنة والهرسك التي تجري رحاها في هذه اللحظات عنا ببعيد، والمتأمل يرى الصورة واضحة لا تحتاج إلى تفكير. كل الصور عداء على المسلمين رغم اختلاف المعتدين، في سيرلانكا التاميل، وفي بورما البوذيون، وفي البوسنة والهرسك الصربيون النصارى، وفي الهند: الهندوك، وفي إسرائيل يهود، والمعتدى عليه في كل الأحوال مسلمون يذبحون ويقتلون، ولا يسمع بهم أحد، ولا يكترث لهم أحد، وأكثر ما يمكن أن تقوم به المنظمات الدولية هي إصدار قرارات مثل هذه القرارات التي ذكرت بعضاً منها. وهذا الأمر كما أشرت أوضح من أن يوضح، والإحصاءات والأرقام كثيرة جداً، حتى إنني لم أستطع أن أختار منها شيئاً، فآثرت الإيجاز والإجمال في هذه القضايا، هذه قضية واحدة من هذه القضايا وهي قضية الموازين الدولية.

ضرورة الانصياع لقرارات مجلس الأمن والكيل بمكيالين

ضرورة الانصياع لقرارات مجلس الأمن والكيل بمكيالين النقطة الثانية التي يكثر الحديث عنها الآن بشكل كبير جداً، هي: ضرورة الاستجابة والانصياع والرضوخ لقرارات مجلس الأمن، ومجلس الأمن في صورته النظامية أو القانونية هو عبارة عن المكتب التنفيذي لهيئة الأمم المتحدة، يعني: هو الذي يمارس دورها وأعمالها بشكل دائم. بمجرد النظر في بعض قوانين مجلس الأمن يظهر من خلاله بعض التناقض مع أساس ميثاق الأمم المتحدة، التي تجعل الدول والأمم كلها على مستوى واحد من حق السيادة والتصويت والمركز المعنوي الاعتباري لهذه الدول، بينما نجد أن مجلس الأمن كان في أصل إنشائه يتكون من أحد عشر عضواً، منهم الخمسة الأعضاء الدائمون وهم الدول الكبرى أو العظمى، والآن تهاوت هذه الأسماء والألقاب، ولم يبق في الساحة إلا القوة العظمى التي تنسب إلى الولايات المتحدة في الوقت المعاصر، أما بريطانيا التي كانت لا تغرب عنها الشمس فقد أصبحت الشمس غائبة عنها طول عهدها وعصرها، والاتحاد السوفيتي أصبح أثراً بعد عين، وأيضاً فرنسا تزاحم، والصين في منأىً عن الخارطة السياسية في كثير من الأحوال، وتعاني كثيراً من المشكلات، ويوشك بإذن الله سبحانه وتعالى ألا تبقى في الأرض قوة عظمى إلا قوة الإسلام بإذن الله سبحانه وتعالى. مجلس الأمن يقرر أنه لا تعتبر القرارات سارية المفعول إلا إذا صوت عليها تسعة من الأعضاء، بعد ذلك زاد أعضاء مجلس الأمن إلى خمسة عشر عضواً، تسعة من الأعضاء يشترط أن يكون بينهم الخمسة الدائمو العضوية في المجلس، وإذا لم يصوتوا أو امتنعت إحدى الدول عن التصويت فقانونياً هناك إشكال، لكن إجرائياً إذا لم تعترض بصورة واضحة يمكن أن يقر القرار، لكن هناك النظام المشهور وهو حق النقض الذي يسمى (الفيتو)، وهو تدمير وتحطيم وإلغاء لكل قانون، ليبقى قانون القوة أو قانون الهوى هو الذي يحكم. وعندما يأتي قرار أو تأتي قضية إلى مجلس الأمن، ويتبنى مشروعاً أو قراراً مهما كان هذا القرار عادلاً أو منصفاً أو غير ذلك، ومهما أجمعت عليه دول أو أيدته دول، تأتي واحدة من هذه الدول الأعضاء الخمس الدائمة العضوية: أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو روسيا أو الصين، فتقول فقط كلمة واحدة: (فيتو)؛ ليسقط كل شيء، وينتهي الاجتماع، ويلغى القانون، ويتحطم كل شيء بكلمة واحدة، ورفعة يد واحدة، وينتهي الأمر! وهذا النقض يكرس هذا الضعف في صميم هذه القوانين فضلاً عن أننا بتجاوزنا لهذا الأمر فإننا نجد فاعليتها ضعيفة جداً.

قرارات مجلس الأمن في كشمير أنموذجا

قرارات مجلس الأمن في كشمير أنموذجاً أضرب أمثلة وجيزة لضعف قرارات مجلس الأمن: فكشمير كانت مع بقية مناطق شبه القارة الهندية واقعة تحت الاحتلال البريطاني، ثم لما انسحبت بريطانيا ورفعت انتدابها، كان من ضمن القرارات الرسمية في هيئة الأمم المتحدة أن تبقى الهند مستقلة، وباكستان مستقلة، وأن الإمارات التي كانت تسمى بالإمارات الهندية يبقى لها حق الاختيار، إما أن تكون مستقلة أو أن تنضم إلى الدولة التي تريدها إما الهند أو باكستان. بالنسبة لكشمير كان غالبية سكانها من المسلمين، وهي أرض إسلامية عريقة، دخلها الإسلام منذ عهد مبكر في أوائل قرون الإسلام الأولى، بينما كان الحاكم الموضوع في فترة الانتداب البريطاني وفي فترة التسلط الهندوكي بوذياً، فأراد هذا الحاكم البوذي أن يضم كشمير إلى الهند، والمسلمون -وهم الغالبية العظمى في كشمير- أرادوا أن ينضموا إلى باكستان، فعرضت القضية على مجلس الأمن، والعجيب أن الهند هي التي عرضت القضية وقالت: إن هناك تحرشات تهدد الأمن والسلام العالمي، وفي القانون أن أي دولة تقدم شكوى لابد أن تستند إلى نصوص القانون، وتبين مدى خطورة الأمر الذي ينقض أو يعارض هذه القوانين أو المواثيق المتعلقة بالأمم المتحدة. لنلاحظ ونتدرج مع هذه القضية كيف سارت؟ في عام (1948م) أخبر مندوب الهند في الأمم المتحدة عن وجود هذه المشكلة، ثم شبت الثورة، وبدأ القتال، فمجلس الأمن نادى جميع الأطراف بالامتناع عن كل ما من شأنه الإخلال بالمواثيق الدولية، ثم أعلنت الدولتان استعدادهما لتجميد المسألة. ثم شكل مجلس الأمن لجنة تحقيق للتحري في القضية، وبذل الوساطة، وإجراء استفتاء للشعب الكشميري؛ حتى يختار حق تقرير مصيره بنفسه كما يقولون، لكن ما بدأت اللجنة أعمالها إلا وقد احتلت الهند ثلثي مساحة كشمير بقوة السلاح وبقوة الواقع مباشرة، وبعد ذلك اختير رجل عسكري أمريكي ليكون مفوضاً دولياً لإجراء الاستفتاء مع لجنة لإقامة هذا الاستفتاء حتى يتم إقراره واعتماده، ولم تنجح اللجنة ولم يتحقق تقدم، ثم في عام (1951م) و (1952م) -يعني بعد ثلاث سنوات من هذه القضية- بدأ بعض التقارب، وكرر مجلس الأمن نداءه بتوقف إطلاق النار، ولكن الهند رفضت. في عام (1953م) أسست الهند جمعية تأسيسية مؤيدة لها، وأعلنت الولاية جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد الهندي، وضمتها إليها رسمياً كما ضمت إسرائيل في أوائل الثمانينات الجولان والمناطق الأخرى التي احتلتها في عام (1967م). في عام (1957م) -يعني بعد أربع سنوات- اشتكت باكستان إلى مجلس الأمن، وطالبت بسحب جميع القوات الهندية الأجنبية من ولاية كشمير، وضرورة إرسال قوات دولية. في (24) كانون الأول عام (1957م) قرر مجلس الأمن بأغلبية عشرة أصوات عدم الاعتراف بخطوات الهند وضمها لكشمير، وبقاء الحالة الراهنة في كشمير. بعد ثلاثة أيام من هذا التاريخ أعلنت الهند في عيد استقلالها ضمها لكشمير ضماً رسمياً نهائياً، فيصبح مجلس الأمن وقراراته تحت حذاء الهند عملياً، ثم استخدم الاتحاد السوفيتي حق الفيتو عندما دعا مجلس الأمن لمعالجة الموقف. ثم في عام (1965م) لم يكن هناك أي حل، بل ازدادت المسألة شراسة، وازدادت الحروب، وأصدر مجلس الأمن عدة قرارات بوقف إطلاق النار. وفي عام (1966م) تم التوصل إلى الاتفاق بتشجيع الاتحاد السوفيتي، وتم توقيعه في طشقند، واستخدم في هذا الاتفاق (دبلوماسية)، بحيث يبقى جو النزاع مستمراً، ولا يزال الوضع حتى الآن متأزماً كما هو، ومتفجراً بين فترة وأخرى، ولم يحصل هناك أي حل. يقول أحد خبراء القانون الدولي تعليقاً على مسألة كشمير: إن فيها أكثر من درس، منها: أنه خلال أكثر من عشرين سنة من بداية جهود الأمم المتحدة ومجلس الأمن لم يقدم إلى أقل القليل لإيقاف الفرقاء من قتل بعضهم البعض، وحتى ذلك القليل ما تحقق إلا في وقت متأخر جداً. وكذلك ظهر تحدي الهند كعضو في الأمم المتحدة لقرارات الأمم المتحدة ومعارضتها لها معارضة مباشرة، دون أن يكون هناك أي إجراء عملي لمعاقبة الهند، أو كما يقال الآن: إلزامها بضرورة الامتثال لقرارات مجلس الأمن، وإلا فإنه ستكون هناك عقوبات إلى آخره.

قرارات مجلس الأمن والقضية الفلسطينية

قرارات مجلس الأمن والقضية الفلسطينية لو أخذنا مثالاً آخر وهو: القضية الفلسطينية التي تعد مثالاً صارخاً لتجاهل قرارات الأمم المتحدة، وأذكر فقط أنه في خلال عشر سنوات صدر من الجمعية العامة للأمم المتحدة نحو ثمانية وستين ومائة قرار في شأن قضية فلسطين، وصدر من مجلس الأمن في هذه الفترة التي تنتهي بعام (1974م) سبعين قراراً، وصدرت تسعة قرارات من مجلس الوصايا، وصدرت أكثر من خمسة عشر قراراً من لجان حقوق الإنسان، وقرار من المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان، وقرار من اللجنة الخاصة بحقوق المرأة، وكل هذه القرارات تبخرت وذهبت أدراج الرياح. نلاحظ في قرارات مجلس الأمن أيضاً أن الضغوط التي تمارسها القوى الكبرى لها أثر كبير في إقرار الأمور، وقلب الموازين، وعدم إحقاق الحق بالنسبة للمسلمين. فهذا قرار التقسيم برقم (181) إلى آخر القرارات التي ما تزال المطالبة بها مثل قرار (242) هذا القرار ينص على أن على إسرائيل أن تنسحب عن أراض احتلت في النزاع الأخير، وهذا السطر الأول من القرار هو الذي يشرق الناس به الآن ويغربون، وكما ذكرت مذكرة الضمانات الأمريكية قبل بدء المفاوضات أن لكل دولة أن تفسر القرار بالتفسير الذي تراه مناسباً لها، وإسرائيل تفسر القرار بأنها انسحبت من سيناء وانتهى الأمر وقد تحقق هذا الغرض. وأما الأرض مقابل السلام فقد قالت إسرائيل: السلام مقابل السلام وهذا يكفي. في حرب (1967م) في يوم (5) يونيو، ومع ذلك ما استطاع مجلس الأمن أن ينعقد في نفس اليوم ولا في اليوم الثاني ليصدر قراراً حتى صدر قرار في آخر يوم (6) يونيو، ثم في يوم (7) صدر قرار آخر بوقف إطلاق النار، ثم في يوم (9) صدر قرار ثالث بوقف إطلاق النار، وكلها تتحطم باستمرار إسرائيل وسياسة الأمر الواقع، تقدمت إسرائيل واحتلت سيناء واحتلت الضفة الغربية واحتلت الجولان، ثم بعد ذلك جاء التوقف وجاء حل النزاع، وجاءت المفاوضات والسنوات الطويلة سنة إثر سنة وقرار إثر قرار، وتبقى الأوضاع كما هي حتى الآن، وهذا يؤكد عدم وجود الفاعلية والواقعية.

قرارات مجلس الأمن وقضايا المسلمين عامة

قرارات مجلس الأمن وقضايا المسلمين عامة يتأكد لدينا أنه ليس هناك استخدام للمادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على ضرورة إجراء العقوبة وتعليق العضوية، واستخدام العقوبات الجماعية المقاطعة لكل من يرفض الانصياع لقرارات مجلس الأمن، بينما نرى الصورة الأخرى تجاه القضايا الإسلامية نجد أنها ما حظيت بشيء من الاهتمام ولا وصلت إلى أي صورة يمكن أن تكون محقة، أو تقدم وتكرس شيئاً من الحقوق للمسلمين، بينما على العكس من ذلك نجد مثلاً القضية المثارة الآن في ليبيا، أو حتى قضية العراق في أزمة الخليج بغض النظر عن أحقية وجدارة القضيتين نجد كيف كانت كثير من الدول العظمى تسعى وترغب في ذلك، كيف تصعدت المسألة ليس بسبعين قراراً بينما قرارات مجلس الأمن بالنسبة لإسرائيل أظنها تبلغ أكثر من مائة وخمسين قراراً أو نحو ذلك. أما ما يتعلق بليبيا وأزمة الخليج فهي قرارات محدودة وفي فترة وجيزة ليس على مدى بعيد من عام (1948م) وقت قيام دولة إسرائيل وإلى الآن أكثر من أربعين سنة وكل القرارات لم يتخذ حيالها أي قرار إجرائي، بينما كانت هناك عدة قرارات من مجلس الأمن تنص آخر فقرة فيها على أنه في حالة عدم الاستجابة فسوف يتخذ المجلس إجراءات أخرى، وفي القرار الذي بعده يأتي بنفس الفقرة الأخيرة: في حالة عدم الاستجابة سوف يتخذ المجلس إجراءات أخرى، وهكذا يستمر الحال دون أي صورة لهذا الميزان أو لهذه القضية.

التمييز العنصري في الموازين الدولية ونصيب المسلمين منه

التمييز العنصري في الموازين الدولية ونصيب المسلمين منه النقطة الرابعة: التمييز العنصري الذي صدرت فيه الاتفاقية في الأمم المتحدة أيضاً، نجد أن التمييز العنصري دائماً يكون خاصاً بالمسلمين، سواءً كانوا في بورما أو كما هو الحال الآن في إسرائيل أو في كثير من البلاد مثل الهند ومثل سيريلانكا، إنها تميز المسلمين تمييزاً عنصرياً لا حق له، بل لا جنسية له، بل لا قيمة له في أي معنى من معاني الحقوق؛ بسبب شيء واحد فقط وهو أنه مسلم لا غير، وهذا أيضاً أمر واضح، ومن عجيب قرارات الأمم المتحدة التي تكرس انقلاب واختلال الموازين أن الجمعية قررت في الفترة القريبة الماضية إلغاء القرار الذي أصدرته في عام 1975م الذي كان يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، ألغي هذا القرار وكأن إسرائيل تخلت عن عنصريتها، ومع أنها ما زالت تزداد في هذه العنصرية وتبالغ فيها، ومع ذلك بمجرد تصويت ثلثي المجلس على أن الأسود أبيض أو الأبيض أسود فإنه يصدر القرار بهذا وإن كان منافياً للحق والعدل، فالقضية باعتبار الموازين والأنظمة والقوانين التي يجعلونها أمامهم.

إبادة الجنس ونصيب المسلمين منه

إبادة الجنس ونصيب المسلمين منه النقطة قبل الأخيرة: جريمة إبادة الجنس، وهي الآن تمثل واضحة جلية في البوسنة والهرسك، وهي ليس لها من تحليل ولا توصيف قانوني إلا أنها إبادة للمسلمين إبادة كاملة؛ لأنها تشكل كل أنواع البغي، سواءً بالقصف المدفعي أو بالأسلحة الرشاشة أو بالذبح بالسكاكين، كل الصور هي نوع من قتل لكل إنسان، الصغير والكبير، حتى الذين في بطون أمهاتهم بقرت البطون، وقتلت هذه الأجنة في بطون الأمهات، ومع ذلك كانت القوة التي أرسلتها الأمم المتحدة ثلاثمائة فقط من الجنود، انسحبوا قبل أيام قلائل؛ لأن الوضع الأمني قد تردى، فكان لابد من الانسحاب؛ حفاظاً على أرواح جنود الأمم المتحدة، وما يزال القصف والقتل والعسف مستمراً في هذه المناطق الإسلامية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفرج الكرب ويزيل الغم.

حرية الأديان والموازين الدولية

حرية الأديان والموازين الدولية حينما ينظر الإنسان في بعض القضايا يجد أيضاً مسألة حرية التدين التي يذكرونها ويدندنون عليها، نجد أن في بورما يضطر المسلمون تحت التعذيب أن يدخلوا في البوذية، أو في صربيا الآن يضطرون إلى أن يدخلوا في النصرانية، وأذكر تأييداً لهذا خبراً من الدول الديمقراطية الغربية المتحضرة، فهذا الخبر يقول: قررت وزارة الخارجية الألمانية استدعاء سفيرها في المغرب واسمه ويل فرد هوفمان قبل انتهاء مدة خدمته والتحقيق معه؛ بسبب الكتاب الذي يستعد لإصداره باللغة الألمانية بعنوان: الإسلام هو البديل. لا زال يستعد لإصدار الكتاب ومع ذلك استدعي للتحقيق معه، وبعث وكيل وزارة الخارجية لشئون الشرق الأوسط ببرقية سرية إلى السفير في الرباط حذره فيها من الوضع الخطير الناشئ عن دعوته للأفكار الإسلامية، وتجاهله لوظيفته كممثل لدولة ديمقراطية غربية، وحذر السفير من تأثير معتقداته الدينية على عمله الرسمي، ورفع عنه تقرير من قبل خبير في وزارة الخارجية، وهذه صورة من صور عدم إقرار هذه القضايا إلا فيما يوافق هوى تلك الدول. وبالجملة نجد أن هذه الموازين في كثير منها لا يجد الإنسان لها صورة مقبولة في الواقع العملي إلا فيما ندر.

حقائق واقعية لابد منها

حقائق واقعية لابد منها أقف الآن أمام حقائق واقعية من خلال هذا الاستعراض وهي: أن المسلمين لابد أن يعلموا أن الاحتكام الكامل والاستسلام الكامل لا يكون إلا لشرع الله سبحانه وتعالى، ولا يكون استسلام وقبول لغير حكم الله سبحانه وتعالى من القوانين الوضعية؛ وذلك لأنها تتضمن بعض الفقرات التي تعارض الشريعة الإسلامية مثل: حرية التدين، وحرية الزواج رغم اختلاف الأديان، وغير ذلك من الجزئيات التي فيها معارضة تماماً لنصوص الشرع. النقطة الثانية: أن هذه القوانين رغم أنها تريد أن تكرس العدل وسيطرة القانون وتحقيق المساواة وإقامة الحرية وإشاعة الديمقراطية، إلا أنها في جوهرها وفي نصوصها من التناقض ما يجعلها لا تستطيع أن تفي بهذا الأمر، بل في نفس قوانينها ما يزعزع الثقة بها، فنفس قضية أو قانون حقوق الإنسان يتضمن مادة عما يسمى بقانون الطوارئ يقول: يستثنى من هذه الحقوق ما يكون من انهيار الحالة الأمنية التي تستدعي الدول إلى إعلان حالة الطوارئ مع التأكيد على عدم زيادة الحد بحيث يكون هناك اعتداء على الحريات الشخصية أو غيرها. قوانين الطوارئ هذه تفتك بالمسلمين في كل بلاد العالم وفي كثير من ديار الإسلام، وفي كثير من ديار العرب للأسف، وكما هو الحال في مصر قانون الطوارئ مستمر له أكثر من ستة عشر عاماً متواصلة، ويجدد مرة بعد مرة، بينما هذا ينقض هذا الأصل كما هو معلوم. وهذه القوانين في ذاتها ما ينقضها كما أشرنا إلى حق الفيتو في مجلس الأمن. النقطة الثالثة: أن الناظر يرى في هذه القوانين عند تطبيقها أنها بالنسبة للمسلمين إما أن قضاياهم لا تحظى بالاهتمام، أو أنها بالعكس تحظى باهتمام مغاير ومعاكس، ويكون التمييز ضدهم واستغلال هذه القنوات والقوانين لسلبهم حقوقهم ولإيقاع الظلم بهم، وهذا ظاهر إلى حد كبير. النقطة الرابعة: أن هذه الصورة التي عرضنا كثيراً منها في حقيقة الأمر تعطل القضايا وتجعل كسبها لغير صالح المسلمين، وتجعل هذه المباحثات والمداولات نوعاً لكسب الوقت، ليتمكن الأعداء كما حصل في الهدنة الأولى والثانية في فترة النزاع أو القتال بين العرب وإسرائيل في عام (1948م). النقطة الخامسة: أنه بعد استقرار الأوضاع لغير صالح المسلمين تكرس هذه الأنظمة صعوبة التغيير، بمعنى: أن استقرار الأوضاع يبقى التغيير لابد له من قرار، والذي يحاول التغيير المباشر في الواقع العملي لوقوف الطرف الآخر باستصدار قرارات أو باستدعاء الأمم المتحدة مرة أخرى. النقطة السادسة: أنه ليست هناك جدية في الممارسة التغييرية عند صدور هذه القرارات، بل في الغالب الأعم أنها تكتفي بإصدار قرارات خاصة في قضايا المسلمين، وهذا أمر ظاهر. النقطة الأخيرة: أن القرارات تتأثر تأثراً كبيراً بالميول العقائدية والمصالح الذاتية للدول وخاصة الدول الكبرى، فلذلك إذا لم تكن للمسلمين قوة في دولهم وقدرة على التأثير فإنه لا يرجى من وراء ذلك خير.

حقائق إيمانية

حقائق إيمانية أختم ببعض الحقائق الإيمانية التي لابد من استحضارها في ضوء هذه الصورة، التي فيها نوع من السواد أو الشدة والظلمة. النقطة الأولى: لابد من وضوح الحقائق الإيمانية القرآنية، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120]، وكما في قوله سبحانه وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82]، وكما قال الله سبحانه وتعالى في شأن الكفار جميعاً: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]. النقطة الثانية من الحقائق الإيمانية: ضرورة تكريس حقيقة الولاء والبراء في ضوء قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. النقطة الثالثة: أن هذه الظروف والأحوال والأوضاع والظلم والموازين المختلة تدفع المسلمين إلى معرفة الحقيقة المهمة، وهي أنه لا قيمة لهم مالم تكن لهم وحدة ومالم يكن لهم نصرة فيما بينهم، وهذا يدفع إلى تحقيق الوحدة الإسلامية ونصرة المسلمين لإخوانهم في كل مكان بشتى الوسائل والسبل، سواءً كانت النصرة المعنوية أو الإعلامية أو بالمال أو بالنفس أو بكل صورة من الصور؛ لأنه ينبغي أن يعلم أنه لن ينصرهم بعد الله سبحانه وتعالى أحد إلا إخوانهم المسلمون المؤمنون: كل الشعوب لها سيف تصول به عند الملمات لما يعصف الغضب كل الشعوب لها وزن وقافية لها شراع لها سمت لها أرب ونحن مثل هشيم ضل وجهته فحيثما قلبته الريح ينقلب هذا الوضع الذي يمر بالمسلمين الآن حينما يرون الهجمة الشرسة، حينما يرون العداء للإسلام فيه فوائد منها: أنه يتولد في النفوس شعور بضرورة الالتزام بالإسلام، والتوحد على هذا الإسلام، والتقوي بالوحدة الإسلامية في مواجهة هذا العداء المتكالب. النقطة الرابعة: معرفة أن القوة اللازمة في هذا الصراع هي قوة الإيمان والعقيدة؛ لأن الآخرين إنما ينطلقون من منطلقات عقائدية، وينبغي أن نلغي فكرة أن الصراعات مبنية فقط على مجرد اختلافات أو مجرد نزاعات أو عرقيات، أكثر هذه النزاعات منبثق من الناحية العقائدية ثم المصالح الذاتية. النقطة الأخيرة: هذه الأمور تدفع المسلمين إلى ضرورة تكريس العمل على الالتزام بالإسلام والدعوة إليه وإحياء مفاهيمه وربط الناس به، وأن تكون الجولة القادمة بإذن الله سبحانه وتعالى هي جولة انتصار الإسلام والمسلمين بفضل تمسكهم بدينهم. المسلمون ما هزموا إلا بتخليهم عن الدين، ولن ينصروا إلا بتمسكهم بهذا الدين. وأخيراً أقول: إن بشائر النصر رغم سواد هذه الصورة كبيرة وكثيرة جداً إن شاء الله تعالى، سواءً ما تحقق في أفغانستان، ونرجو أن يتمه الله سبحانه وتعالى بفضله، وسواءً الأخبار الجديدة في طاجيكستان التي رفعت لواء الإسلام وبدأت تمارس هذا التطبيق بالقوة بعيداً عن القرارات، وأيضاً بظهور الحركات الجهادية الإسلامية التي ينبغي أن تدعم وتقوى؛ لأنها هي الأسلوب الأمثل في إقرار الواقع، بدلاً من المداولات والقرارات التي رأينا صورتها كما تجسدت وهي صورة هزيلة لا أثر لها في الواقع، وينبغي أن يكون لسان الحال كما قال القائل حينما استفرغ جهده وصبره، وعلم الناس كلهم اليوم خاصة في بعض قضايا المسلمين، مثل: قضية فلسطين أنه لا أمل يرجى من الأقوال والمداولات والمؤتمرات؛ لأنها مرت بها ليس سنوات ولا عشر سنوات بل عشرات السنين ويرى أنه ستستمر هذه السنوات باستمرار هذه الممارسات، ولذلك قال القائل: غص المفاوض صوته فتكلم بلسان نار يا كتائب! أو دم لم يفهم المحتل من خطبائنا فلتفهموا المحتل ما لم يفهم ما أيد الحق المضاع كمنطق تدلي به شفة السلاح الأبكم تتحرر الأوطان بالدم وحده إن الخطابة رأس مال المعدم قد دق ناقوس الجهاد فأنصت ودعا الحمى أبطاله فتقدم من قال إني أعزل وبكفه حجر فليس إلى الكنانة ينتمي هكذا هذه الحركات الجهادية في أريتريا وفي الفلبين وفي غيرها، هي أيضاً نوع أمل جديد لهذا الإسلام ولهذه الأمة المسلمة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتمه وأن يكمله، وأن الله سبحانه وتعالى يفرج الهم والكربة عن إخواننا المسلمين، وأن يجعل العاقبة للمتقين والدائرة على الكافرين والمجرمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

طلب إصدار فتوى للقنوت في الصلوات للمسلمين

طلب إصدار فتوى للقنوت في الصلوات للمسلمين Q أيضاً بعض الإخوة يذكرون أن مآسي المسلمين كثرت وخاصة الآن بالنسبة في البوسنة والهرسك، ويذكر الأخ أنه لو ذكر لكبار العلماء بإصدار فتوى أو نداء للقنوت في الصلوات؟ A الحقيقة أن القنوت كما سبق أن أشرت وحضر ذلك بعض الإخوة في الجمعة الماضية أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لأفراد قلائل من المسلمين كانوا يضطهدون في مكة، فأولى وأجدر بذلك هم المسلمون الذين يبادون، وهذا اقتراح حسن إن شاء الله تعالى يعمل به مباشرة بالاتصال الهاتفي أو الكتابة.

أخبار البوسنة والهرسك

أخبار البوسنة والهرسك Q يسأل بعض الإخوة عن آخر أخبار البوسنة والهرسك؟ A أخبار الليلة الماضية أن القصف المدفعي متواصل باستمرار وبشدة على سراييفو العاصمة، وما تزال الأوضاع متردية، وأعلن الصرب الموجودون في البوسنة والهرسك نوعاً من تشكيل حكومة في بعض المناطق التي أرادوا أن تكون ملكاً لهم، وجعلوا هناك تقسيمات منها: أن يجعل (15%) من هذه البلاد فقط للمسلمين والباقي للصرب، والجزء الباقي للكروات، وهددت هذه القوات الصربية الأمم المتحدة بأنه ينبغي أن تتخذ اللازم نحو الاعتراف بهذا، وللأسف نما إلى علمي أن بعض الدول الإسلامية اعترفت بهذه الصورة الجديدة التي سميت بيوغوسلافيا الجديدة، أما الأوضاع المأساوية فللأسف كما هي، ولذلك ندعو إخواننا للتبرع مرة أخرى، والدعوة اليوم موجهة من لجنة البر للتبرع للبوسنة والهرسك، والصناديق أيضاً عند أبواب المسجد، وهناك أيضاً يذكر الأخ أن قضية الجهاد هي حل أمثل لكثير من قضايا المسلمين، وقد أشرت أن نداءات الجهاد التي بدأت في كثير من بقاع الإسلام، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكلل جهودها بالنصر، وأن يقوم المسلمون أيضاً لدعمها ونصرتها بكل سبب ووسيلة.

أخبار أفغانستان

أخبار أفغانستان Q بعضهم يسأل عن آخر الأخبار في أفغانستان؟ A الأخبار الأمنية مستتبة، وليس هناك اشتباكات مطلقاً، وأخبار المفاوضات كثير منها يبشر بالخير بين قادة المجاهدين، وفيها كثير من التقدم والإيجابية، إلا ما نشر في صباح هذا اليوم مما لم أعلم حقيقته بعد، أما ما نشر من الأخبار وما بلغ من الأخبار بالأمس والذي قبله، فإنها كانت تدل على كثير من التقارب في وجهات النظر، وإزالة لبعض خلافات الرأي بين المجاهدين، وهذا إن شاء الله تعالى يحقق الأمر الذي يأمله جميع المسلمين في أن تتفق الكلمة، وهي الآن في صورة شبه إجماعية حتى يأذن الله سبحانه وتعالى بأن يتمموا ما أرادوا بعد المجلس الانتقالي والذي من المفروض أن تنتهي مدته بعد نحو أربعة أسابيع.

فوائد الثقة بنصر الله

فوائد الثقة بنصر الله Q من الدروس لما يذكر الأخ: الثقة بنصر الله سبحانه وتعالى؟ A هذه الثقة دروسها كثيرة، من كان يصدق أن طاجيكستان التي ظلت تحت الشيوعية أكثر من أربعة وسبعين عاماً، ثم سقطت الشيوعية ورأى الناس أن الحكم الباقي مثل الشيوعية فثاروا عليه، واستطاعوا رغم هذه السنوات أن تبقى روح الإسلام وحب الإسلام والمناداة بالإسلام في نفوسهم، حتى يكون مطلباً عاماً لكل الناس، ثم يقرونه، والأمر أعظم من أن تحيط به قوى الشرق أو الغرب أو القوى العظمى والصغرى، فإن الله سبحانه وتعالى بالغ أمره، وهو جل وعلا قد جعل لكل شيء قدراً، لكن لابد للعباد أن يبذلوا الأسباب الإيمانية المعنوية وكذلك الأسباب المادية.

مبشرات في زمن الاستضعاف

مبشرات في زمن الاستضعاف Q يريد أحد الإخوة شيئاً من أحاديث البشارات؟ A قلت في أول الحديث: إن الوضع مأساوي، لكن البشارات موجودة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر لنا: (أنه ما من بيت مدر ولا حجر إلا ويدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل)، وأنبأنا النبي عليه الصلاة والسلام بفتح قسطنطينية ورومية وقد فتحت القسطنطينية، ويرجى أن تفتح بإذن الله سبحانه وتعالى يقيناً في وقت لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى روما عاصمة إيطاليا، والجولة القادمة جولة الإسلام بإذن الله، ولكن كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولكنكم قوم تستعجلون)، والله سبحانه وتعالى يريد أن يمحص المؤمنين وأن يميز صفوفهم، وأن يقوي عزائمهم، وأن يرفع من مستوى التزامهم واستحقاقهم لنصر الله سبحانه وتعالى.

دور المرأة المسلمة في المجتمع المسلم

دور المرأة المسلمة في المجتمع المسلم Q تجاه ما ذكرت من أحداث وأوضاع ما هو دور المرأة المسلمة؟ A أهم دور للمرأة المسلمة أن تربي لنا الجيل المسلم، الذي نأمل أن يكون في المستقبل القريب أحد أسباب التغيير الإسلامي الذي يرجح كفة المسلمين، وأن تنأى بنفسها عن التفاهات والسخافات والمحرمات التي يروج لها أعداء الله سبحانه وتعالى ليصطادوها ويصطادوا من ورائها الأمة المسلمة والمجتمع المسلم، وأن تساهم بكل ما تستطيع في مجال الدعوة النسوية.

كثرة اختلال الموازين الدولية بالنسبة للمسلمين

كثرة اختلال الموازين الدولية بالنسبة للمسلمين Q هنا يستدل على مقاييس أو اختلال الموازين بالنسبة للبوسنة والهرسك وعدم وجود قرارات وإن وجدت فإنها لا تنفذ في مثل هذه القضية التي تتعلق بدولة في قلب أوروبا كما يذكر؟ A الأمثلة كثيرة جداً، وهذا لا يمكن استقصاؤه وحصره، وأيضاً أسئلة قريبة من هذا المجال في كثير من البلاد الإسلامية.

حقيقة وجود الحركات الجهادية في كشمير

حقيقة وجود الحركات الجهادية في كشمير Q هل هناك حركة جهادية في كشمير؟ A نعم حركة التحرير الكشميرية، وهناك أكثر من منظمة جهادية إسلامية ويحظى بعضها بالدعم من قبل الجهاد الأفغاني كما كان في السابق من الناحية المعنوية والتدريبية إلى آخره.

أوراق عمل

أوراق عمل إذا كثرت الأقوال ولم تصدقها الأفعال دل ذلك على الضعف والخور، والفراغ والهزل، وتردت الأوضاع، ولم تتغير مهما تكاثرت الأقوال، وإن المنهج الصحيح هو المنهج العلمي العملي، فهو أفضل طريقة لعلاج الأخطاء، وفي هذه المادة أوراق عمل يجد فيها القارئ بغيته.

أهمية العمل

أهمية العمل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. (أوراق عمل) هذا هو عنوان هذا اللقاء مع الدرس التاسع والثلاثين، في يوم الجمعة الموافق الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول عام (1413)، وهذا الموضوع أحسب أن له أهمية وفائدة جيدة في الناحية العملية، وأول ما أبدأ به هو التنبيه على فوائد العمل، وأعني بالعمل: الخطوات الواقعية الفعلية، إذ القول عمل، والنية عمل، لكني أعني بالعمل: ممارسة الجوارح، والحركة الواقعية في مضمار من المضامير أو ميدان من الميادين. لماذا نؤكد على أهمية العمل؟ أولاً: لأن القول وحده لا يؤثر، بل من المعلوم أنه إذا كثرت الأقوال ولم تصدقها الأفعال دل ذلك على الضعف والخور، وأشار إلى وجود الفراغ والادعاء، وربما كان سمتاً من سمت المنافقين والفارغين، ولذلك الذي يكثر من الأقوال بلا أعمال يسقط قدره وتذهب مصداقيته عند الناس، سواءً كان هذا القول صادراً من فرد أو من هيئة أو من دولة أو حتى من منظمات تجمع دولاً عديدة، إذا تكاثرت الأقوال بلا أعمال فإن ذلك دليل الضعف، ويبث في النفوس الخور والعجز، وكما قال القائل: غض المفاوض صوته فتكلم بلسان نار يا كتائب أو دم لم يفهم المحتل من خطبائنا فلتفهموا المحتل ما لم يفهم والخطابة كما يقولون: (رأس مال المعدم) ولذلك قال القائل: إن ألفي قذيفة من كلام لا تساوي قذيفة من حديد فالعمل هو الذي يؤثر في الواقع بشكل أكبر. والأمر الثاني: هو أن السؤال الأكبر والحساب الأعظم يتعلق بالأعمال أكثر منه تعلقاً بالأقوال؛ لأن الأعمال هي الشواهد الناطقة، والمعالم الشاخصة، فأنت لا تعرف الإنسان كثيراً بأقواله قدر ما تعرفه بأفعاله، والأعمال هي التي دعانا الله سبحانه وتعالى إليها، وندبنا وبين لنا أنها المنظور إليها والمعول عليها، كما قال الله جل وعلا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، لم يقل: قل تكلموا ولا انووا، وإن كانت النية مطلوبة والقول مطلوباً لكن تصديق العمل هو الأهم، ولذلك قال جل وعلا: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]، وأيضاً قال جل وعلا: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:93]، فالعمل هو الأساس. الأمر الثالث وهو أكثر أهمية: أن العمل أبلغ أسلوب لعلاج الأخطاء، فكثيراً ما نذكر الخطأ ونردد القول فيه ونقول: هناك سلبيات وهي كذا وكذا ولا يتزحزح هذا الخطأ، ولا يتغير بهذه الأقوال مهما تكاثرت إلا إن كانت هذه الأقوال أحد طرق العمل ووسائله التي تؤدي إلى التأثير الفعلي، وكما يقال: (بدلاً من أن تلعن الظلام أوقد شمعة)، فإن إيجاد المنهج الصحيح متمثلاً في نموذج عملي متحرك هو أكبر طريقة لعلاج الأخطاء، فلو تصورنا أننا نقوم بالتربية الإسلامية وبإظهار القدوة العملية فإن تأثيرها يكون أعمق بكثير من الخطب القولية والمواعظ المنبرية. الأمر الرابع: أن العمل أعظم مواجهة لكيد الأعداء، كثيراً ما نذكر مؤامرات وخطط الأعداء، وأنهم يريدون كذا، وهم يتآمرون بالليل والنهار ويدبرون كذا وكذا، وكل هذا القول لا يغني شيئاً ولا يغير واقعاً، لكننا إن أسسنا حياتنا وممارساتنا بأعمال تناهض وتخالف مراد الأعداء فإن هذا يكون أبلغ مواجهة وأعظم صفعة في وجه العدو، الذي يرى أنه يدبر ويبذل وينفق ويخطط لكنه لا يجد استجابة، فهو ينشر بيننا الإعلام الفاسد، والأدب المأجور، والفكر المنحرف ثم يفاجأ بأن الجيل الذي يصعد أو الجيل الذي يظهر في هذه الأيام بإذن الله عز وجل جيل لا يميل لهذا الإعلام، ولا يتأثر بهذا الفكر، ولا يتعلق بهذا الأدب، بل عنده من منهج الإسلام وتربية القرآن ما يجعل العقول تأبى هذا الإعلام وترفض هذا الفكر. كيف تبذل هذه الجهود ثم تأتي الثمرات مخالفة؟ ذلك ناتج عن العمل وتركيزه الذي هو أبلغ شيء في مواجهة كيد الأعداء. الأمر الخامس: العمل يفجر الطاقات، ويشعر النفس بالرضا والارتياح، وبعض الاستشعار لأداء جزء من الواجب، والذي يقول ويبكي ويصيح لا يشعر أنه قد نفس ما في نفسه حتى يرى أنه قد ساهم في علاج الأمر الخاطئ، أو ساهم في جلب الخير المقصود أو المنشود، فالعمل يجعل النفس راضية، ويبرأ العامل ذمته بين يدي الله سبحانه وتعالى. وأخيراً: العمل يقضي على الجدل: فكثيراً ما تدور المجادلات والمناقشات والمحاورات، ويمتد أمدها ويزداد ويعلو الصوت فيها، ولو أن هؤلاء المتجادلين التفتوا إلى العمل لشغلهم التفكير فيه، والممارسة له، والبذل لأجله، عن مثل هذا الجدل، وأنساهم مواضع الخلاف الهامشية، وأعانهم على الاجتماع على الخير، وتوحيد الجهود، والتعاون على البر والتقوى. ومن هذا المنطلق نريد أن نعرض بعض أوراق العمل التي تجعل المسلم قادراً من خلال هذه الآفاق أن يقدم وأن يساهم؛ لأن المشكلة التي نواجهها ونسمعها كثيراً هي: ما العمل؟ هذه مشكلات ومآسي المسلمين: ما هو العمل؟ هذه المفاسد الموجودة، ما هو العمل؟ هذا القصور الذي نريد أن نتجاوزه ونتلافاه: ما العمل؟ وكل إنسان يظن أن هذا العمل هو كما قيل: وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل يظن أن هذا العمل لا يمكن أن يقوم به إلا جبار من الجبابرة أو عبقري من العباقرة، وأنه يقصر عن هذا ولا يستطيع أن يساهم في مثل هذه الأعمال أو حل هذه المشكلات؛ وذلك لأن تضخيم المشكلات الكبيرة، وتصور أن العمل لابد أن يبدأ من آخر الخطوات لا من أولها، وأن يعالج أعظم المشكلات لا أصغرها؛ هذا الذي يجعل كثيراً من الناس يحجمون عن العمل، ويرون أنهم غير قادرين، ولذلك هدف هذه الأوراق التي سنعرض بعضاً منها هو أن نبين أن بإمكان كل أحد منا أن يقدم ما يستطيع، وأن هذا القليل يتجمع فيصير كثيراً، فإن الجبال من الحصى. لا تحقرن من الذنوب صغيرة إن الجبال من الحصى وأول الغيث قطر ثم ينهمر ونعلم جميعاً أن الأمر القليل إذا دام وتكاثر من عديد من الأفراد يغدو شيئاً عظيماً، ولو تصورنا أننا طلبنا هنا أو أردنا هنا أن يرفع كل منا صوته بنداء معين لتجلجل المسجد بهذا الصوت، وربما سمعه من هم خارج المسجد، وكان له صدىً كبيراً. فهل ترى هذا الصوت صدر منك؟ A لا. لكن كان لك فيه دور ومشاركة، وهذا هو المطلوب، أن نوسع دائرة المشاركة لكل إنسان على قدر طاقته، فلا يعجز العامي ويقول: لا أستطيع، والذي يستطيع هو العالم، ولا يعجز الشيخ الكبير ويقول: لا أستطيع والذي يستطيع هو الشاب، ولا تعجز المرأة وتقول: لا أستطيع والذي يستطيع هو الرجل، ولا يكون هناك أي إنسان مسلم إلا وله مشاركة ومساهمة بقدر ما يستطيع.

من أوراق العمل: التوعية والتعريف بقضايا المسلمين

من أوراق العمل: التوعية والتعريف بقضايا المسلمين أول هذه الأوراق: صور المآسي وقضايا المسلمين كيف يمكن أن نخدمها؟ كيف يمكن أن نقوم بواجب جزئي على أقل تقدير تجاهها، وذلك هو واجب التوعية والتعريف والدعم والتأييد، أذكر في ورقة نقاطاً يسيرة حتى أجعلها بمثابة فتح للأبواب لا أقل ولا أكثر، وسأشير في آخر الحديث إلى بعض المعالم المهمة التي تتعلق بهذه الأوراق. الدائرة الأولى التي يمكن لكل إنسان أن يقوم فيها بدور وممارسة هي: دائرة الأهل والأقارب والجيران، هذه الدائرة التي تعيش معها سحابة يومك، وتقضي معها معظم وقتك، وتخصها بأكثر حديثك، وتتعامل في أكثر احتياجاتك اليومية مع أهلك وأقاربك وجيرانك، لِمَ لا تجعل حظاً من هذه المعاملة يكون في خدمة قضايا المسلمين، ونقل صور المآسي التي يعيشونها؟ ويمكنك أن تقوم بالتوعية عبر هذه الخطوات:

الحملات التعريفية في القرى والمدن

الحملات التعريفية في القرى والمدن رابعاً: الحملات التعريفية: وهذه واسعة جداً، يمكن أن نقوم بذلك من خلال الآتي: 1 - أن تكون هذه الحملات في القرى والمدن الصغيرة؛ لأن التعريف والتوعية في المدن الكبيرة واسع، وربما يغطي قطاعات كبيرة، لكن يمكن لبعض الشباب ولبعض المتطوعين أن يزوروا بعض الأماكن القريبة من بلدهم، ويأخذون معهم هذه الأشرطة والأوراق والتقارير، ويتحدثون في المساجد بكلمات قصيرة موجزة حتى يبثوا في الناس هذا الوعي، ويحركوا فيهم المشاعر الإسلامية، ويجعلون لهم طريقاً للمساهمة والمعاونة مع إخوانهم، ومشاركتهم في مآسيهم. 2 - الحملات التعريفية من خلال المدارس عن طريق تنظيم زيارات لطلبة المدارس للهيئات واللجان الخيرية ومشاهدة الصور والتقارير والوقائع التي تتحدث عن قضايا المسلمين، ويمكن إقامة بعض المعارض داخل هذه المدارس، وهذا يمكن أن يقوم به بعض الطلبة بالتنسيق مع إدارة المدرسة عبر نشاط التوعية أو عبر النشاط الاجتماعي، وهذه كلها فرص متاحة يستطيع أن يقوم بها الطالب الصغير الذي ربما يحتقر نفسه وهو في المرحلة المتوسطة أو في الثانوية، ويرى أنه لا يستطيع أن يقدم شيئاً بينما هذه فرص أعمال متاحة. 3 - الحملات من خلال المراكز التجارية والمؤسسات والمكتبات، فيمكن وضع ركن صغير في بعض المراكز التجارية، فيه بعض هذه التقارير، وبعض ألبومات الصور التي تبين هذه المآسي؛ ليراها الإنسان وينصرف، وهذا قد قامت به بعض الهيئات الخيرية، وله أثر كبير وجيد. 4 - استغلال لوحات الإعلان الموجودة في المؤسسات والمراكز بحيث توضع فيها هذه التقارير ذات الأرقام الكبيرة والحقائق الظاهرة؛ ليراها كل إنسان ويقرأها كل عابر، فيكون فيها فائدة كبرى بإذن الله سبحانه وتعالى. 5 - في المحلات التجارية الصغيرة والمكتبات يمكن أن يوضع عند المخرج أو عند المحاسب بعض التقارير والأوراق التي تلخص هذه القضايا، وبالتالي تتوسع دائرة التعريف بهذه القضايا بشكل كبير. بل أقول: يمكن أن تكون هناك حملات لتعريف غير المسلمين بقضايا المسلمين؛ لأن الكثير من غير المسلمين واقعين تحت تأثيرات الإعلام، وتحت الصورة المشوهة للإسلام، ويمكن من خلال هذه الوسائل وغيرها أن يصل إليهم هذا الصوت. وهذا نموذج أولي للورقة الأولى التي أرى من خلال هذا العرض أن كثيرين سيدركون أن بإمكانهم أن يقوموا بجزء لا بأس به إن لم يكن بكل هذه الخطوات، كل بحسب طاقته وفي ميدانه، وكل هذه الأوراق إنما المطلوب فيها الجانب العملي والتذكير بأن هناك فرصاً وإمكانات يمكن أن يحقق من خلالها الإنسان شيئاً يرى أنه يخدم به أمة الإسلام.

التعريف والتوعية في دائرة الحي

التعريف والتوعية في دائرة الحي النقطة الثانية في التعريف والتوعية: دائرة الحي، وتأتي بعد دائرة الأسرة، ويمكن أن يكون هناك تعاون للتوعية والتعريف بصور المآسي وقضايا المسلمين، ومن ذلك خطوات عملية: أولاً: إعداد مركز إعلامي مصغر من خلال المسجد أو غيره، ومن خلال المسجد يكون أفضل، حيث يتوافر فيه: 1 - التعاون والإشراف من قبل الهيئات واللجان الخيرية، وهناك بعض الهيئات تمارس هذا العمل، فتقيم مثلاً في جوار المسجد أو في المكان المناسب خيمة تضع فيها بعض المواد الإعلامية التي تعرف بهذه القضايا. 2 - تحريك بعض المتطوعين من الشباب والرجال في هذا المركز حتى يتفاعلوا مع هذه القضايا. 3 - أن يوفر في المركز النشرات والوسائل المرئية والسمعية، حتى يستطيع الزائر أن يرى ويسمع ويقرأ، بكل وسيلة يمكن أن تصل إليه المعلومة. 4 - توفير التقارير، وجعلها ميسرة ليستفيد منها الأئمة والخطاب والكتاب، ومدهم بالمعلومات من خلال التعاون مع تلك الهيئات. 5 - تتاح الفرصة للنساء في أوقات معينة أو في أيام معينة تخصص ليكون المركز أو هذا المكان مخصصاً لهن. ومن خلال هذا كله تجمع التبرعات باسم أهل الحي، وتكون المشاريع باسمهم، وهذا يشجع الناس، فقد تجمع تبرعات لتبني مدرسة في مكان ما من مناطق العالم الإسلامي، ويكون اسمها مدرسة مسجد كذا وكذا أو مدرسة أهل الحي الفلاني؛ ليكون هذا أدعى إلى التنشيط والمساعدة والدفع في عمل الخير. ثانياً: أشرطة الفيديو والكاسيت: وقد ذكرناها فيما مضى، لكن هنا نقطة مستقلة، ويمكن أن تفيد بشكل أكبر، وذلك من خلال الآتي: 1 - توفيرها لدى التسجيلات وأماكن البيع. 2 - عرضها بأسعار مخفضة من خلال جمع التبرعات والمساهمات الخيرية. 3 - استبدال الأشرطة -وهذا مهم-، فبعض المشاريع في استبدال الأشرطة تُعطى الجهة المستقبلة أشرطة للغناء أو أشرطة غير نافعة فتسجل عليها محاضرات، ولو سجلت عليها محاضرات ذات موضوعات متعلقة بقضايا المسلمين لكان هذا أفضل وأولى؛ لأن ذلك أكثر تأثيراً. 4 - الاستفادة من توزيع هذه الأشرطة في المناسبات إذا توافرت منها الكميات الكافية للتوزيع. ثالثاً: الممارسة العملية، وهذه لعلها من أبلغ الصور التي يمكن أن يمارسها الكثير من الناس وذلك من خلال الآتي: 1 - تنظيم زيارات لمواقع المآسي التي تقع بالمسلمين عن طريق الهيئات واللجان التي لها نشاطات في تلك المناطق، فأنت تستطيع أن تدعو الناس إلى أن يجهزوا مجموعة منهم ممن يتيسر وقتهم ليذهبوا إلى زيارة المسلمين في الصومال، عن طريق هيئة الإغاثة أو لجنة أفريقيا أو غيرها، وهذا له أكبر الأثر، ولا أظنه أمراً شاقاً أو صعباً؛ فإن كثيراً من الناس يسافر هنا وهناك، ويبذل أموالاً هنا وهناك. 2 - عند عودة هؤلاء الزائرين يستضافون في المناسبات الاجتماعية في المسجد، أو في دعوة ووليمة في منزل كبير، ويعرفون بالقضايا والمشاهدات التي رأوها؛ لأنهم رأوا، وكما قيل: (ليس المعاين كالمخبر، وليس راءٍ كمن سمع)، والذي يتحدث عما رأى يكون منفعلاً ومتأثراً فينتقل تأثيره إلى الآخرين. 3 - أن يتدرب هؤلاء الذين زاروا هذه المناطق على صياغة التقارير، ومن أهم النقاط: أن يحددوا مجالات الاحتياج بتفصيل يشمل الناحية المادية والمعنوية والأرقام، بمعنى أنهم يقولون: يحتاج المسلمون في الصومال إلى أطباء، والطبيب يكلف في الشهر كذا وكذا، يحتاجون إلى دواء لمرض كذا، وهذا الدواء يكلف كذا وكذا؛ لأن المحسن إذا عرف حاجة من هذه قال: هذه بسيطة، وهذه أنا أتكفل بها، والآخر يقول: أنا أتكفل بهذه، أما أن تكون قضية عامة، المسلمون مضطهدون وجوعى ومرضى وكذا، فما الذي يمكن أن نساهم فيه إذا بقت القضية عائمة، والخطاب غير محدد؟!

خطوات التوعية والتعريف في دائرة الأهل والأقارب

خطوات التوعية والتعريف في دائرة الأهل والأقارب أولاً: توفير المعلومات الموثقة المنسوبة إلى مصادرها، فعندك قضية مثل البوسنة والهرسك أو الصومال، هناك تقارير، وهناك ملخصات، وهناك مطويات تصدرها الهيئات واللجان الخيرية، يمكنك أن توفر هذه المعلومات حتى تستطيع أن تبثها بين هؤلاء الأفراد. ثانياً: إعداد المعلومات بصورة جيدة سهلة التوصيل، فبدلاً من أن تعطي إنساناً تقريراً أو كتاباً كالكتاب الصادر عن رابطة العالم الإسلامي عن البوسنة والهرسك في نحو ثمانين صفحة، وهو لن يقرؤه وسيضعه على الرف؛ جهز ورقة فيها خلاصة المعلومات والأرقام والحقائق مما يسهل أن ينتفع به الناس، ويمكن أن تعمل هذا بنفسك، لا تقل: لا أستطيع أن أذهب إلى المطبعة وأطبع. من قال لك: اطبع؟ اكتب هذه المعلومات بيدك في صورة جميلة، أو استعن بمن يستطيع أن يبرزها بالشكل الأفضل. ثالثاً: ركز على المعلومات الأكثر تأثيراً وإبرازاً للحقائق والأرقام الكبرى، فكثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً، والحقائق الكبرى هي التي تلفت النظر، فلو قلت مثلاً: إن هناك خمسة آلاف طفل يومياً يموتون في الصومال، فلا شك أن هذه حقيقة بارزة تلفت نظر أي إنسان مهما كان ساهياً أو لاهياً أو معرضاً أو فاسداً، بل حتى لو كان كافراً، فإن المعاني الإنسانية تهز النفوس وتؤثر فيها. رابعاً: انتقاء بعض الأشرطة -سواءً السمعية أو المرئية- التي تتعلق بالقضايا الإسلامية، وقم بتوزيعها أو إهدائها بين الأسرة والأقارب، فعلى سبيل المثال لا الدعاية هناك شريط بعنوان: (الجراح)، يتكلم عن قضية البوسنة والهرسك، فيه المعلومات والمقتطفات من الخطب والمحاضرات والقصائد والأبيات بصورة قوية مؤثرة، فإن لم تكن تستطيع الكلام فوزع هذا الشريط لينوب عنك في تبليغ هذه القضية، وهناك شريط مرئي بعنوان: (الجحيم) عن قضية البوسنة والهرسك صدر أخيراً عن هيئة الإغاثة، وهذا الشريط وأمثاله عندما يراه الناس أو تراه هذه الأسرة سيؤثر فيهم تأثيراً كبيراً. خامساً: استغلال المناسبات الاجتماعية لسماع الأشرطة أو رؤيتها، فكثيراً ما تجتمع الأسرة أسبوعياً، وكثير من الأسر تجتمع في مناسبات من ولادة أو زواج أو قدوم من سفر أو توديع مغادر إلى بلد ونحو ذلك، ويكثر اللغط في هذه المجالس ولا ينتفعون بها، فلو استطاع الإنسان بحكمته أن يقنعهم لمدة خمس دقائق أو عشر دقائق ويشغل جهاز التسجيل أو جهاز الفيديو حتى يسمعوا أو ينظروا فإن القضية تتحول بهم إلى مسار آخر. سادساً: التعريف بمزيد من المصادر وتزويد الراغبين في التوسع، فلو أن هناك متفاعلاً فسيقول: هل هذا حقيقة؟! فتقول: هذا جزء من الحقيقة، وهناك ما هو أكثر وأكبر يمكن أن تطلع عليه في هذا التقرير، ويمكنك أن تراجع هذه الدائرة، ويمكن أن تتصل بهذا الهاتف، ويمكن أن تشتري هذا الكتاب، ويمكن أن تأخذ هذه القائمة من قوائم الأشرطة المتعلقة بذات الموضوع، وهنا يبدأ التوسع أكثر. وأخيراً: يمكن أن ترشد هؤلاء الأفراد إلى الهيئات واللجان الخيرية وأماكنها وعناوينها وهواتفها حتى يتصل بها هؤلاء الناس، وينتفعوا بهذه المعلومات، ويقوموا بنشرها والإفادة منها. أقول هذا وأستحضر مثالاً واقعياً، حتى نرى أن التوعية فيها كثير من القصور، ففي مقابلات للطلبة المسجلين في الجامعة لهذا العام -كما يخبرني بذلك أحد الأساتذة- وهي مقابلات الهدف منها معرفة خلفية الطالب المتخرج من الثانوية الملتحق بالجامعة. يعني: معرفة مستواه الفكري والثقافي، فسئل أحد الطلاب عن قضية البوسنة والهرسك، فقال: هناك خلاف وصراع بين الصرب والمسلمين، فقالوا له: طيب ما هي القضية؟ فقال -بلهجتنا العامية- (يضّاربوا على سراييفو، هذول يبغوها وهذول يبغوها). هذا منتهى علمه عن هذه القضية! والآخر عندما سئل عن قضية الصومال دبج كلاماً فقال: (توقف المطر من السماء، وصار الجفاف في الصحراء، ومات الناس من البلاء)، أما أن هناك صراعاً، وأن هناك أطرافاً متناحرة فلا يعلم بذلك. وهناك أمثلة أخرى كثيرة تدل على ضعف التوعية بمثل هذه القضايا التي أصبحت أشهر من الشهيرة، أما لو سألته مثلاً عن قضية (كشمير) أو قضية (بورما) فربما قد تكون الإجابة مضحكة، ولكنها تنبئ عن مستوى التوعية لديه، وقد يظن هذه الأسماء أسماء لكتب أو لفواكه، وليس هذا بغريب، فقد سئل أحد الطلبة في مثل هذه المقابلات عن عاصمة البحرين؟ فذكر أنها مسقط! وهذا من الأشياء الواقعية.

الرسائل الضاغطة

الرسائل الضاغطة ورقة أخرى بعنوان: (الرسائل الضاغطة). قرأت قبل فترة من الزمن خبراً عن مجموعة في بلاد الغرب من أنصار حقوق الحيوان وليس حقوق الإنسان، وكانت الجمعيات التي تؤسس لرعاية الحيوان تعترض على مؤسسات إنتاج المواد التجميلية؛ لأنها تستخدم عظام وأنسجة بعض الحيوانات في بعض صناعات المستحضرات الطبية أو التجميلية على وجه الخصوص، فعملوا احتجاجاً على هذا العمل، ووقعوا عليه، والملفت للنظر أن هذه الرسالة كان عدد الموقعين عليها نحو مليون ونصف إنسان! وتجد في أخبار أخرى أن بعض القضايا التي يثيرها بعض الجمعيات أو بعض المنتدبين لأمور معينة مثل حماية البيئة أن التوقيعات تبلغ عشرات الملايين، ويذكرون في هذه الأخبار أن هذه التوقيعات كانت في عدد كذا من الأوراق، وتزن كذا كيلو غرام، وهذا ليس في الغالب عبثاً، خاصة في المجتمعات الغربية والمجتمعات الأمريكية؛ فإن هذه مقاييس النبض وإيصال الصوت، لذلك أقول هنا: نريد أن نقف على بعض المجالات والأهداف والوسائل العملية التي يمكن أن ينفع بها المسلمون إخوانهم، ويخدموا قضاياهم من خلال هذا الجانب.

كيفية ممارسة الرسائل الضاغطة في الواقع

كيفية ممارسة الرسائل الضاغطة في الواقع كيف يمكن ممارسة أسلوب الرسائل الضاغطة واقعياً؟ يمكن على سبيل المثال ما يلي: أولاً: الاحتياج إلى توفير عناوين هذه الجهات، ولا أظنه صعباً، ويمكنك أن تعرف عناوين المنظمات والهيئات؛ لأنها متاحة. ثانياً: تحضير صيغ ثابتة وجاهزة؛ لأنه يصعب عليك أن تكتب كل مرة، ومعروف أنك ستجد كثيراً من المقالات تحتاج إلى نقد، فينبغي أن يجهز مجموعة من المتعاونين والمتحابين صيغاً جاهزة، وبمجرد أن يملئوا بعض الفراغات يرسلون بها؛ حتى يصل الخبر ويصل هذا الصوت. أقول: على سبيل المثال في بعض الخطب في أحد المساجد ذكر خطيب: أنه ينبغي أن يتحرك المسلمون ليسمعوا صوتهم بموجب ما هو واقع في هذا العالم. قال: وهذه نص برقية جاهزة موجهة للأمين العام للأمم المتحدة، وموجهة لرئيس منظمة المؤتمر الإسلامي، لا عليك إلا أن تكتب العنوان، وتجعلها في المظروف، وترسل بها، فلما عرض هذه الفكرة تخاطف الناس هذه الأوراق وتسابقوا إليها كأنهم يحاربون، وكأنهم في مواجهة لنصرة الإسلام بالسيوف لا بمجرد إرسال الورق، فالشعور بأنك تؤدي مهمة في مثل هذه الأشياء مهم جداً، فيكون الإنسان واقعياً، ولو على الأقل أن يقول كلمة الحق ويبرأ ذمته أمام الله سبحانه وتعالى، فهذا أيضاً نموذج لا يعجز عنه كثير من الناس، وربما يحتاج إلى تعاون لكن لا يحتاج إلى عمل كبير، وربما الفرد والفردين والخمسة أو العشرة يتعاونون في بعض هذه الأمور ويتبادلون الرأي فيها، ويمكن أن يمارسوا مثل هذا العمل.

مجالات الرسائل الضاغطة

مجالات الرسائل الضاغطة مجالات هذه الرسائل عديدة، وسنرى أنها مجالات مهمة ومفيدة، وتحتاج إلى كثير من عمل المسلمين. أولاً: هناك مقالات ضد الأحكام والشرائع والمظاهر والقضايا الإسلامية، فهذه تحتاج إلى أن يكون هناك ما يعارضها من الرسائل الضاغطة. ثانياً: مقالات فيها إيجابيات تحتاج إلى تشجيع. ثالثاً: منظمات حقوق الإنسان التي -على أقل تقدير- لها بعض التأثير، ولها بعض الإيجابيات التي تمارس في واقع الأمر بالنسبة للقضايا التي تقع في هذا العالم. رابعاً: مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المتعددة التي تتخصص أحياناً في التعليم، وأحياناً في الصحة وغيرها. خامساً: منظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمات الإسلامية الأخرى التي لها دور في التعريف أو في خدمة قضايا المسلمين. سادساً: الجهات التي تصدر عنها المواد التي تحتاج إلى تنبيه، مثل مجلة تصدر شيئاً أو مقالاً أو تتبنى فكراً أو تمارس دوراً غير حسن، أو إذاعة أو جريدة أو نحو ذلك، فيحتاج أن توجه إليها مثل هذه الرسائل الضاغطة.

مضمون الرسائل الضاغطة

مضمون الرسائل الضاغطة للإعانة على التنفيذ العملي أشير إلى مضمون هذه الرسائل بمعنى ما الذي ستقوله في هذه الرسالة؟ وكيف يمكن أن يكون هيكلها العام؟ وسأشير في آخر الأمر إلى صور إيجابية واقعية حصلت بالفعل: أولاً: لابد من التثبت، وإرفاق صور المواد، أو ذكر مصدرها موثقاً بالرقم والتاريخ، فعندما تقول: هناك قضايا للمسلمين صار فيها خلط وكذا وكذا، أو عندما ترسل إلى مجلة أنكم تتبنون كذا وكذا وكذا، لا ينفع الكلام العام، بل لابد أن تكون مثبتاً لهذه القضية، وترفق صورة المقال أو رقم العدد أو رقم وقت إذاعة الخبر أو نحو ذلك. ثانياً: الاعتماد على الحقائق والأرقام الثابتة، والإسناد إلى المصادر مع البعد عن الأسلوب العاطفي، خاصة أنك تخاطب جهات ومنظمات قد تكون متواطئة ضد المسلمين، فلو تحدثت بلسان العاطفة وقلت: والمسلمون محرومون، والمسلمون مضطهدون وكذا؛ فهذا لا يغني فتيلاً بقدر ما تذكر الأرقام والحقائق الثابتة المعلنة التي لها مصادر محققة وموثقة. ثالثاً: أن يكون هناك اعتماد على النقاط والإيجاز، فلا تحتاج في هذه الرسائل أن تكتب ثلاثين أو أربعين صفحة، بل صفحة أو صفحتين معتمدة على نقاط محددة. رابعاً: اعتماد أسلوب المقارنة، مثال ذلك: عندما تقارن بين موقف مجلس الأمن أو الأمم المتحدة في قضية البوسنة والهرسك أو قضية العراق وبين قضايا أخرى مما تهم دول غير إسلامية أو تعنى بمصالح الدول الغربية أو الأمريكية، فهذه المقارنة بالحقائق والأرقام مهمة جداً في مثل هذه المضامين. خامساً: ذكر الآثار السلبية أو الإيجابية للموضوع بتحديد دقيق يستند إلى الواقع: فتقول مثلاً: هذه القضية لها آثار سلبية وهي كذا وكذا وكذا، وعندما تكتب إلى جهة أو إلى مجلة تنشر صوراً فاضحة تقول: هذا لا يليق، وهذا يضر ويسيء، ويتحقق الضرر منه في كذا وكذا وكذا؛ حتى تكون القضية ذات تحديد واضح تقوم الحجة بها، وربما تؤثر بها. سادساً: توسيع دائرة الإرشاد إلى المصادر إيجاباً أو سلباً، بمعنى: عندما تكتب عن قضية تقول: هذه حقائق أو كذا، ثم تقول: وقد نشر عن هذه القضية في مجلة كذا عدد كذا، وتوجز وتشير إلى العديد من المصادر لتبين أن الأمر قضية كبيرة، وأن عندك من المعلومات ما هو أكثر من مثل هذا، إضافة إلى كون الأمر إيجابياً، فلو أن كاتباً كتب مقالاً جيداً عن قضية معينة، ألا يستحق أن يشكر، وأن تكتب له عدد من الرسائل حتى يثبت على هذا المنهج، وأن يعطى أيضاً مصادر أخرى لهذا الموضوع، وأن هناك من كتب عنه، وأن ترسل له شريطاً في الموضوع حتى يجد أهل الخير على الخير أعواناً، كما أن أهل الشر يجدون على الشر أعواناً. وكثيراً ما تكون الحجة عند ممارسة بعض الأعمال الفاسدة أن هذا هو طلب الناس، فمقدم البرنامج يقول: هذه طلبات الجمهور الذين راسلوني، بينما لم يراسله الأخيار، وربما يكونوا أكثر، ولم يرسلوا له ليطلبوا هذا البرنامج أو هذه الفقرة أو منع هذا أو حذف هذا أو نحو ذلك. وأذكر على سبيل المثال أنه قبل يومين نشر أحد الكتاب المحليين مقالاً في الحياة، تكلم فيه عن أمر قد سبق أن أشرنا إليه، وهو ظاهرة الهجوم على حجاب الفنانات، وعلى توبتهن، فكتب مقالاً جيداً، وفيه أسلوب قوي في تأييد ظاهرة الحجاب، ونقد هذه الهجمة الشرسة، وخاطب فيها المسئول الإعلامي عن هذا الأمر، وطالب بأن تتوقف هذه الحملات؛ لأنها غير منصفة ولا منطقية ونحو ذلك. فهناك من قرأ هذا المقال فأعجب به، لكن هذا الإعجاب لا يكفي لحصول تأثير، ووجدت طبيباً -ليس خطيباً ولا إماماً- قرأ هذا المقال فأعجب به، فكتب رسالة إلى المسئول -وهو وزير الإعلام في تلك البلد- وأرفق المقال وقال: قرأت هذا المقال ووجدته جيداً ومنطقياً، وإنني أؤيد كاتبه فيما ذهب إليه، وأناشدكم بمثل ما ناشدكم به. هذا ما كتبه فقط، وأرسل هذه الأوراق ليعبر عن هذه الصورة أو الناحية، ولو أن كل خلل وقع وجد فاعله أن هناك من يقول له أو يرسل له أن هذا خلل، وأن هذا لا يليق، وأن هذا فيه مضرة؛ لكان على أقل تقدير كما يقال: (من لم يستح يخشى أو يخاف)، وهذه أيضاً نقطة مهمة. سابعاً: استنطاق القوانين والأنظمة بنصوصها أو مضامينها عندما تريد أن تقيم الحجة، فلو جئت لشيء منشور وفيه خلل فتقول: نظام النشر ينص في المادة كذا على أنه لا يصح نشر الصور العارية وكذا وكذا، ولذلك نرجو منكم الالتزام بهذا القانون أو النظام. نظام وسياسة التعليم تقتضي أن يربط التعليم الطالب بدينه وبولائه للمسلمين، وبرائه من المشركين، وهذه الفقرات أو هذه النصوص أو هذه المادة أو هذا الموضوع لا يتناسب مع هذه السياسة. قانون الأمم المتحدة في المادة كذا ينص على كذا، لكن الممارسة مخالفة، وهذه أيضاً تعطي قوة لمثل هذه القضايا. ثامناً: صياغة حيادية، وعرض عقلاني: ينبغي أن تكون صياغة الرسالة وكأنك إنسان محايد لست نصيراً لهؤلاء، ولست منهم وفيهم، وليس بالضرورة دائماً، لكن بحسب الجهة التي ترسل إليها. تاسعاً: إن كان المرسل إليه جهة إسلامية أو إنساناً مسلماً؛ فإن أسلوب الترغيب والترهيب الإسلامي المعروف في التوجيه يفيد كثيراً في هذا المجال.

أهداف الرسائل الضاغطة

أهداف الرسائل الضاغطة أولاً: الإعلام بما يخفي من الأحداث والوقائع؛ فإن كثيراً من الأمور لا يعلن عنها ولا يشاع خبرها، وقد لا يعرفها إلا أهل البلد أنفسهم، أو الذين عايشوا هذه المأساة بأعينهم ونحو ذلك، فهذا تضمينه في الرسائل يفيد الإعلام بما لم يكن معلوماً. ثانياً: كشف الزيف وبيان الأخطاء التي تذكر في قضايا المسلمين؛ فإن كثيراً من الحقائق يغالط فيها ويغير فيها؛ فينبغي أن يكون من ضمن أهداف هذه الرسائل توضيح هذه الصورة. ثالثاً: التأثير على بعض مواقع القرار، ودفعها نحو تحرك إيجابي لخدمة قضايا المسلمين، وربما يأتي فيما سأذكر لاحقاً ما يوضح هذا النقطة. رابعاً: التشجيع للخطوات الإيجابية، وتكون هذه الرسائل لتشجيع عمل إنجازي، وليس الأمر فقط لنقض شيء سلبي. خامساً: إثارة الاهتمام بوجود الأصداء، ودائماً -كما يقولون- صاحب الصوت العالي هو الذي يسمع الأول، ولو أنك جئت لتخاطب إنسان بصوت منخفض وجاء معك أو في أثناء حديثك من رفع صوته؛ لسمع صوته وربما قبلت شكواه، أو سمعت مطالبه وحققت، وصاحب الصوت الضعيف لا يلتفت إليه أحد. وأخيراً: إيصال الرأي الآخر في القضايا والمشكلات المطروحة، فإن كثيراً من القضايا يتاح عبر بعض وسائل الإعلام وغيرها أن يقول فريق رأيه، ويحرم فريق آخر من بيان رأيه، فتوصل هذه الرسائل الرأي الآخر مخترقة تلك الحواجز التي توضع أمامها.

المقاطعة

المقاطعة ورقة العمل الثالثة سلاح المقاطعة: وهذا لعله من أعظم الأسلحة فتكاً، وإن كان سلاحاً سلبياً يعني: ليس فيه عمل، بل فيه ترك العمل، ومعنى المقاطعة: أن تقاطع الشيء، وتعلن رفضه، ولا تتعامل معه بصورة من الصور.

وسائل المقاطعة

وسائل المقاطعة وسائل هذه المقاطعة يمكن أن تكون من خلال هذه النقاط: أولاً: نشر التوعية بأضرار المواصلة. يقول لك بعض الناس: يا أخي! هل ستتأثر إسرائيل إذا أنا امتنعت من شراء هذه البضاعة منها؟ نقول: نعم. تتأثر؛ لأننا نريد أن ندرك أن العمل هذا ينبغي أن يشيع حتى يعم قطاعاً أكبر. ثانياً: تحديد آثار المفاسد للوسائل المطلوب مقاطعتها بالوثائق والوقائع، فعندما نقول: هناك مجالات لها آثار سلبية، نوضح هذه الآثار بالواقع وبالممارسة كآثار تلوث البث المباشر بتلوث الفضاء، وكيف يقلد الصغار هذه المشاهد، وكيف يقع بها انحراف في صفوف الشباب والشابات ونحو ذلك. وهذا يجعل الناس على قناعة بأن المقاطعة بالفعل نافعة، وأن المواصلة فيها مضرة تعود عليهم وعلى غيرهم. ثالثاً: كشف أخطار المتسللين في المجتمعات الإسلامية؛ حتى يصدق الناس أن هذا الطبيب وأن ذلك الخبير وأن هذا المهندس يمارس دوراً تخريبياً، ولا يحرص على مصلحة الأمة المسلمة، ولا المجتمع المسلم؛ لأنه ليس عنده أي دافع ولا أي مصلحة ليحرص عليهم، بل على العكس من ذلك فهو متوجه -بحكم عقيدته وبحكم انتصاره لبني ملته وبني جلدته ولدولته وبلاده- ضد هذه المجتمعات المسلمة. رابعاً: بيان أحوال المسلمين وحاجاتهم، فإذا كنت تريد أن تستقدم عمالة فعندك من الأيدي المسلمة أعداد كثيرة تشكو من البطالة، وهي تعاني من الفقر، فلم تقدم المساعدة والبذل لغير المسلمين والمسلمون في حاجة ماسة لذلك؟! خامساً: تسليط الضوء على العقول الإسلامية المهاجرة والطاقات المتميزة، ففي بلاد أوروبا وأمريكا كثير من الأطباء المتخصصين ومشاهيرهم، وكثير من المهندسين المتميزين ومبرزيهم، وهم من المسلمين ومن بلاد العرب، لكن ظروف الاضطهاد وسوء الاستغلال لهذه الطاقات دفعهم إلى أن يكونوا في تلك البلاد، فلو أن كل إنسان منا ساهم بما في وسعه وقدرته أن تسخر هذه الطاقات لتخدم المسلمين وتخدم مجتمعات المسلمين لكان هذا أولى، فعلى سبيل المثال: هناك مثلاً: علماء من علماء الذرة ومن علماء الأسلحة ظهروا في جمهوريات الاتحاد السوفيتي المنحل، وما وجدوا من يرحب بهم، ولا من يستقطب طاقاتهم من الدول الإسلامية بالشكل المطلوب، ولكن -كما نشر كثيراً- دولة الشيعة الإيرانية استقطبت وأغرت بعضاً منهم؛ ليكونوا في خدمتها بشكل أو بآخر. سادساً: الدعاية والإعلان والدعوة والحث على المساهمة في الأعمال والأنشطة والمنجزات المحلية والإسلامية؛ شجع الصناعة الوطنية، وشجع العمل الذي فيه منفعة ومصلحة تعود على المجتمع المسلم بدلاً من أن تشجع عكسه وضده. وأخيراً: إبراز نماذج من الإنتاج والأعمال الإسلامية التي تؤكد هذه الحقائق، فعندنا صناعات في تركيا، وصناعات في باكستان، سواءً في ميادين التقنية أو في ميادين الأسلحة، ولو أن المسلمين عملوا على هذا التكامل بعد تلك المقاطعة لنفع ذلك، وأغنى غناءً حسناً وجيداً.

مجالات المقاطعة

مجالات المقاطعة معرفة مجالات المقاطعة مهمة، فمن مجالاتها: أولاً: مقاطعة البضائع، فمثلاً: لو كان الإنسان في بلد يستورد البضائع اليهودية من إسرائيل، ولو تصورنا أنا عملنا على أن نقاطع نحن، وتقاطع أسرنا، ويقاطع أقاربنا، ويقاطع جيراننا، ويقاطع زملاؤنا في العمل، وزملاؤنا في الدراسة هذه البضائع، ماذا سيحصل لها؟ ستكسد، وماذا سيحصل بسبب كسادها؟ سيخسر الذي يستوردها، فسيمتنع عن مثل هذا العمل، فالمقاطعة سلاح إيجابي، وإن كان في حقيقته سلبياً بمعنى أنه لا يدفع إلى عمل، بل يطلب الامتناع من عمل، ونطلب الامتناع من الشراء. ثانياً: مقاطعة المجلات والجرائد غير الإسلامية، سواءً كانت غير إسلامية كفرية، أو مضمونها يغلب عليه الفساد، ويقل فيه الخير، فإن هذا أيضاً من أعظم الوسائل، بينما نجد أن التعامل معها كثير من كثير من قطاعات المسلمين، ويدل على ذلك المراسلات البريدية، وأركان التعارف، وما يلحق بذلك، وأعداد التوزيع التي توزع، كما أشرنا عن مجلة: (كل الناس) وأرقام توزيعها الهائلة، ولو أننا نمينا في النفوس وبين المسلمين روح المقاطعة، لقاطعوا هذه المجلات؛ ولكان تأثيراً إيجابياً في دفع ضررها. ثالثاً: مقاطعة أشرطة الفيديو التي تتضمن الأفلام والمشاهد الخليعة، وكذلك الأشرطة الغنائية، ومن فضل الله عز وجل أنه بعد ظهور الأشرطة الإسلامية أصبح هناك شيء من التفاوت وبعض الكساد الذي بدأ يتسرب لهذه الأنواع من الأشرطة التي فيها المحرمات، وبعض المفاسد والمنكرات. رابعاً: مقاطعة المعاملات الربوية والتعامل بالمعاملات الإسلامية في قضايا الاستيراد والإيداع ونحو ذلك، وهذا أيضاً مهم جداً، ونحن نرى أن أية مساهمة في مجالات استثمار إسلامي تلقى إقبالاً كبيراً، وغيرها يكون إقباله أقل، وينبغي أن تزاد هذه المساهمات، ويوعى الناس بضرورة عدم المشاركة في الحرام بصورة قريبة أو بعيدة. النبي عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر شاربها وعاصرها وبائعها والمحمولة إليه إلخ، فلم عمم النبي عليه الصلاة والسلام؟ لتتعمم صورة المقاطعة في أية صورة من صور المشاركة في الفعل المحرم، سواءً كانت هذه المشاركة قليلة أو كثيرة، مباشرة أو غير مباشرة. نحن أو كثير منا يمارس دعم الباطل وبعض أوجه وإنتاجات الشر بصورة غير مباشرة من حيث يدري أو من حيث لا يدري، ومثل هذه الممارسات موجودة، وليس هناك حرج في وقوعها، فالممارس لها لن يقع في حرج واضطرار حتى يضطر إليها كما يقول بعض الناس: ليس لنا حل إلا أن نتعامل مع البنوك الربوية، ليس لنا حل إلا أن نسمع الأغاني، وكأن هذه أمور مفروضة! والصحيح غير ذلك. خامساً: مقاطعة الخبرات والطاقات الأجنبية: كذلك عندنا عقدة الأجنبي في الخبرة، فنأتي بالطبيب الأجنبي وكأنه الذي بيده الشفاء، بينما غيره من المسلمين عندهم من الطاقات والتخصصات والعقليات ما يفوق هؤلاء إن لم يكونوا مثلهم، وكذلك نعلم أن المسلم مهما كان أفضل من غير المسلم، فإننا نعرف جميعاً أن كثيراً من هؤلاء -أي: غير المسلمين- يمارسون أعمالاً وأضراراً في المجتمعات المسلمة عبر ما يتاح لهم من فرص العمل، سواءً كانوا أطباء أو خبراء أو مهندسين أو غير ذلك. سادساً: مقاطعة العمالة والخدم غير المسلمين؛ لأن هذا أيضاً فيه كثير من المضار، ويمكن أن يمارسه المسلم، ولن يكرهه ولن يجبره أحد على مثل هذا.

أهداف المقاطعة

أهداف المقاطعة أهداف المقاطعة مهمة جداً منها: أولاً: التضييق على مراكز الفساد والقوى الأجنبية غير الإسلامية عندما نقاطع هذه الأمور التي ينتجونها، والأعمال التي يمارسونها، فلا تجد من يتفاعل معها، ولا تجد من يستقبلها؛ فيحصل الفشل، وتضيق مثل هذه الممارسات. ثانياً: عندما تقاطع -مثلاً- المجلة الفاسدة في المقابل ستروج أو ستشجع المجلة الصالحة، ولذلك من أهداف هذه المقاطعة: الدفع والتشجيع للأعمال والمنجزات والمنتجات الإسلامية، فإذا قاطعت -على سبيل المثال- منتجات لليهود أو لدول كفرية أو لدول محاربة للمسلمين، فإنك في المقابل ستتعامل مع مقابل ذلك مما هو للمسلمين. ثالثاً: الدفع لإيجاد البدائل، وهذا مهم جداً، فعندما نقول للناس: لا تسمعوا هذا، لا تنظروا إلى هذا، لا تتعاملوا مع هذا، سيقولون لك: وأين البديل؟ وحينئذ ستضطر أنت كمسلم أن تؤدي دوراً يسد هذا البديل؛ فإن هذا يعين على مثل هذا الأمر. رابعاً: الإيحاءات النفسية المنفرة من المنكرات: الآن عندما يشتري الإنسان مجلة من هذه المجلات الخليعة، هل ترونه متضايقاً، أو يستحي، أو يخجل؟ A لا؛ لأن هذا الأمر انتشر وذاع، لكن لو كانت هناك مقاطعة؛ فكأن هذه المادة كالسم، ينبغي أن يحذر منه الإنسان، وإذا أخذه الإنسان يكون مستتراً به، وهذا معنى يتحقق عندما يشاع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتبقى دائرة المنكرات ضيقة، ولا يمكن أن يعلن بها أصحابها. خامساً: تنمية روح الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين: وهذه المقاطعة تقوي هذا الجانب المهم، وينبغي أن نعلم أننا لابد أن ننصر المسلمين بكل صورة بالقول والفعل والشراء منهم والتعامل معهم، كذلك أن نقاطع الكافرين وأن نبرأ منهم، ولا نتعامل معهم، ولا نشتري منهم قدر المستطاع، وهذا أمر وهدف مهم. سادساً: رفع روح الجماعة والوحدة، فعلى سبيل المثال وإن كان هناك فرق: لما ندب النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة في أعقاب غزوة تبوك أن يقاطعوا المخلفين الثلاثة، كانت صورة من صور وحدة الأمة، حيث استجابت كلها، وكذلك عندما يدعى الناس إلى المقاطعة ينمي فيهم روح أنهم كلهم أصحاب هدف واحد، وأنهم أمة واحدة، وأن لهم أهدافاً تجمع بينهم، ويرفع هذا روح وحدتهم وكونهم أمة وجماعة مسلمة واحدة. وأخيراً: إزالة الانبهار والإعجاب بالأجنبي، وأقصد بالأجنبي غير المسلم، دائماً عندنا هذه صناعة وهذه صناعة، والناس يتركون الصناعة المحلية ويختارون الصناعة الأجنبية. لماذا؟ لأنها متقنة، ولأنها ولأنها وكثير من هذه الحقائق غير صحيحة، وعلى الأقل في الأمور المشاعة دعك من الأجهزة أو التقنيات المخصوصة في أمور معينة، فأنت ستشتري طعاماً أو جهازاً صغيراً أو كذا، فالموجود من الصناعة المحلية والإسلامية مثله إن لم يكن أفضل منه، لكن كما يقولون: (عندنا عقدة الأجنبي)، فإذا كانت الصناعة أمريكية فهي إذاً ممتازة، ومن غفلة بعض الناس أنه ينظر إذا كانت هذه بخمسة وهذه بعشرة، يأخذ التي بعشرة على أساس أن غلاء قيمتها دليل على جودتها، مع أن هذا ليس مطرداً دائماً، فهناك أشياء أخرى تتدخل في ذلك كاختلاف أسعار العملات ونحو هذا.

الدعوة في البيت المسلم

الدعوة في البيت المسلم الورقة الرابعة: وهذه ورقة مهمة تهم الشباب أكثر من غيرهم، وهي ورقة: عمل للدعوة في البيت المسلم؛ فكثير من الشباب ممن من الله عليهم بالهداية ربما يرون في بيوتهم وفي أسرهم بعض الممارسات والانحرافات التي لا تلتزم بنهج الله عز وجل، ولكن نجد في مقابل هذا تقصيراً كبيراً من كثير منهم أو عدم إتقان، أو شعور بأنه لا يستطيع أن يقوم بمهمة أو بدور في هذا الميدان، ولذلك هذه النقاط لابد أن يستحضرها ويفكر فيها كل شاب، وسيجد أنه قادر على أكثرها إن لم يكن كلها.

وسائل الدعوة في البيت المسلم

وسائل الدعوة في البيت المسلم البرنامج يمكن أن يكون: أولاً: مركزاً على الأولويات، وذلك مثل الاهتمام بالصلوات، وأدائها في أوقاتها وخاصة صلاة الفجر. ثانياً: محاولة إشاعة أمر مهم ومسلم به عند الناس وهو الالتزام بورد من قراءة القرآن، وينبغي أن يكون بين أسرته، فيحرص على هذا الوقت الذي يقرءون فيه القرآن، ويساعدهم على القراءة والتلاوة؛ فإن ذلك جيد ومناسب. ثالثاً: أن يكون هناك وقت -إذا ناسب الجميع- ولو في الأسبوع مرة واحدة يقرأ من بعض الكتب المرغوبة والخفيفة التي تؤثر وتنفع، مثل: كتاب رياض الصالحين أو بعض قصص الصحابة أو نحو ذلك، وليكن في أوقات مناسبة، وبصورة لا تكون طويلة أو مملة كربع ساعة أو نحو ذلك ويكفي. رابعاً: الاستفادة من الأشرطة والمحاضرات التي يمكن أن يبثها وأن يوجدها، فلا تقل لهم: خذوها، بل اجعلها موافرة في المكتبة، واجعلها بجوار المسجل، وبجوار التلفاز ضع أشرطة فيديو، فإن الإنسان أحياناً من باب الفضول والاستطلاع يقول: دعني أسمع هذا الشريط، دعني أرى ما يسمع هؤلاء الملتزمون أو المطاوعة، دعني أرى ما يشاهدون، فإذا به قد يقع على شيء يلفت النظر ويؤثر فيه أبلغ التأثير؛ لأن الشاب عندما يريد أن يقول لأبيه: خذ اسمع شريط عن أضرار التدخين ماذا يعني هذا؟ يعني أنك مدخن، ولابد أن تنتبه من التدخين، لكن لو ترك هذا الشريط، أو تلك المطوية مرمية في متناول السائر والعابر لكانت هذه رسالة مباشرة. خامساً: توفير بعض الكتيبات الصغيرة والمطويات المختصرة جداً في بعض الأمور المهمة مثل: الحجاب للنساء، واستغلال الوقت للجميع، ومثل بعض القضايا، فهناك كتيبات ورسائل إخراجها جميل الألوان الزاهية، ولابد أن يكون هناك حسن في العرض؛ لأن الإنسان إذا أحسن عرض البضاعة كثر الزبائن والمقبلين على هذه البضاعة. سادساً: أن يحرص إذا استطاع أن يكون هناك لقاء أسبوعي يجمع الأسرة كلها في وقت معين، ويكون وقت مناسبة اجتماعية فيها نوع من التآلف والتقارب، ويستغل هذه اللقاءات في طرح بعض الموضوعات والقضايا الإسلامية بصورة مناسبة. سابعاً: يمكن أن يركز على بعض البرامج التي تقوي جانب التزام الأسرة، مثل: استغلال الإجازات في القيام بأداء العمرة، أو بزيارة المدينة المنورة، أو بزيارة بعض الأقارب وصلة الأرحام، وربط هذه المعاني بما فيها من الأجر والثواب والخير والمصلحة، وهذا كله يساعد على مثل هذه الجوانب. ثامناً: استغلال المتوازيات، وأعني بها أنه يمكن أن يعرف بعض إخوانه من الطيبين، فيجعل -مثلاً- نساؤهم وزوجاتهم يقمن بزيارات لأهله ولأسرته، فالمرأة مع المرأة، والشابة مع الشابة، والأم مع الأم، والأب مع الأب؛ فيكون هذا التأثير أبلغ عندما يجد من بعض الأخيار من أهله أو زوجته أو ابنته ملتزمة وفيها خير وصلاح، فيجعل صلاتهم وعلاقاتهم وزيارتهم مع الأخيار؛ فيؤثر ذلك تأثيراً إيجابياً، وإن كان بصورة غير مباشرة. أخيراً: يمكن ربطهم ببعض الأنشطة الإسلامية كل بحسبه، فإذا كان هناك معرض لقضايا المسلمين للنساء يأخذ أسرته وأهله، وإذا كان هناك محاضرة للنساء يحاول أن يرغبهم في الحضور، ولو كان هناك -مثلاً- نشاط للشباب يأخذ إخوانه إليه، وبالتالي لابد أن يشعر أنه يقوم بمثل هذه المهمة والرسالة. وهناك أيضاً أوراق أخرى مهمة لكن سأشير إلى قضية أعم، ثم أعرج في الأخير على هذه الأوراق وكيف كتبت أو بعضها على أقل تقدير.

آداب وشروط الدعوة في البيت المسلم

آداب وشروط الدعوة في البيت المسلم ينبغي مراعاة بعض الأمور والأولويات التي يحتاج إليها الشاب في دعوته في منزله، ومنها: أولاً: لابد أن يستعين بالله عز وجل، ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يوفقه. ثانياً: وهذا أمر ملح ومهم جداً، وهو: أن يكون قدوة صالحة في منزله؛ لأنه لو كان على غير ذلك لا يقبل منه. ثالثاً: أن يكون الشاب ملبياً لرغبات أهله، ساعياً في مصالحهم، مبادراً إلى ما يحتاجون إليه، ولو كان هو ملتزماً وأخ له مقصر، فينبغي أن يكون هو أكثر خدمة لا العكس كما يحصل في بعض الأسر إذا التزم أحد الأبناء توقف عن الخدمات والمساعدة والتوصيل وما يلحق بذلك. رابعاً: أن يفرض بصورة جيدة ومناسبة احترامه بين أفراد الأسرة ولو كان صغيراً، فيكون محترماً لما عنده من هذا الالتزام، وهيبة ووقار لالتزامه بمنهج الله عز وجل. خامساً: أن يتدرج بالنصح، ويأخذ الأولى فالأولى، فلا ينصح بالأدنى وهناك ما هو أهم منه. سادساً: أن يكون فطناً في استغلال الفرص المناسبة، فمثلاً لو حصلت فرصة أو وقعت واقعة، كأن حصلت وفاة أو حصل شيء معين وتأثروا؛ فليستغل هذه الفرصة، أو لو شوهد منظر أو علمت قضية يستغل هذه الفرصة، بمعنى ألا يكون هدفه وتفكيره فقط أن يقيم درساً أو محاضرة في الأسبوع، ولو أنك استطعت أن تنتهز فرصة، وكلمة عابرة، أو مشهد، أو قضية أثيرت لكان في ذلك خير عظيم. سابعاً: ومن المهم أيضاً: أن يكون عنده بعد نظر بالآثار السيئة للفساد والانحراف؛ حتى يتأكدوا، وخاصة إذا استطاع أن يستغل الفرص، فلو سمع أن في بيئة أو في مجتمع أو في أسرة مشكلة وقعت أو جريمة، ربط بين هذه المفاسد الموجودة في المنزل وبين أنها قد تؤدي بالتدرج إلى مثل هذه المشكلات. ثامناً: البرامج المقترحة ينبغي أن تكون متناسبة مع كثير من الأمور كالميول والرغبات والإمكانية في التطبيق، ونحو ذلك.

أهداف الدعوة في البيت المسلم

أهداف الدعوة في البيت المسلم لابد أن نعرف أهداف هذا العمل، ومن هذه الأهداف: أولاً: أهمية وجود البرامج الدعوية في البيت المسلم، وذلك لأنه من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى التزامهم وبعدهم عن مجالات الشر. ثانياً: من هذه الأهداف علاج المشكلات التي تنشأ عن هذه المخالفات الإسلامية، فعندما توجد أمور مخالفة للشرع تحصل مشكلات، ونحن نعلم أن هناك مشكلات تقع بين الرجل وزوجته بسبب التلفاز، أو بسبب ممارسات معينة هي في أصلها خطأ وانحراف، لكن لو أن هذه الأمور عولجت لكان من ورائها خير كبير. أيضاً: هناك المشكلات العائلية مثل عقوق الأبناء، وعدم تفرغ رب الأسرة، وبعض العادات والتقاليد المخالفة للشرع، وكل هذه تبين لنا أن هناك أهمية وأهدافاً يحتاج أن يؤثر فيها الإنسان أو الشاب المسلم. وهناك أمر مهم جداً وهو: كثرة وقوة المؤثرات السلبية في البيت المسلم في واقعنا المعاصر، مثل: وجود التلفاز أو البث المباشر أو الفيديو، والخادمة الأجنبية، والسائق غير المسلم على وجه الخصوص، ووجود الفراغ وعدم إدراك أهمية الوقت، والبيئة التي تحيط بالأسرة؛ فهذا كله يجعل هذا الواجب مهماً وملحاً.

فوائد ورق العمل

فوائد ورق العمل ورقة العمل ينبغي ألا يقوم بها فرد، بل الأصل أنها مجموعة، كطلبة في مدرسة واحدة، أو زملاء في حي واحد متجاورين، أو مصلين في مسجد فكروا في موضوع وقالوا: لابد أولاً أن نفكر ما هي الخطوات التي نعملها؟ لو أن هذه الروح سرت بين الناس لأوجدوا مثل هذه النقاط، واتفقوا على أمور يمكن تطبيقها عملياً. وهناك فوائد كثيرة لمثل هذا العمل، وبعض هذه الفوائد تستفاد عندما نقدم على التفكير والتنفيذ لهذه الأوراق، فمن هذه الفوائد: أولاً: فيها تعويد على النشاط والتفكير الجماعي؛ حتى يتعود الإنسان على أن يفكر مع الآخرين فيما يشغلهم وفيما يهمهم. ثانياً: فيها الاستغلال للأوقات في الأمور الخيرة والتعاون على الخير. ثالثاً: خدمة قضايا المسلمين. رابعاً: الجدية في أداء العمل، فبدلاً من أن نظل نقول دائماً: ما العمل؟ نفكر ونجتمع لنحدد النقاط والقضايا. خامساً: استخلاص عصارة الأفكار؛ لأنك عندما تتكلم كلاماً عاماً لا تحدد، لكن عندما تريد أن تنفذ ستفكر تفكيراً جاداً، وتستخلص الأفكار، وتستقرئ المعلومات؛ حتى تضع نقاط فعلية وجيدة. سادساً: التعود على حل المشكلات، وهذا أمر مفيد ومهم جداً. سابعاً: بث روح الحماس لنشر الدعوة الإسلامية، ولابد أن يشعر كل مسلم بأن بإمكانه أن يقوم بدور في ممارسة الدعوة، فالدعوة ليست قاصرة على العلماء، والخطباء، والكتاب، وأصحاب العلم، والشباب فقط، بل هي عامة لكل أحد، ويستطيع كل أن يأخذ بجزء من هذه المهمة. ثامناً: استقراء الأفكار لدى الأفراد وصياغتها في حل المشكلات. تاسعاً: التعود على الانتقال من مجال إلى آخر، فلو أننا ركزنا على العمل، وعملنا ورقة ثم نفذناها فسنقول: ماذا بعد ذلك؟ ويمكن أن نقدم خطوة أخرى، لكن لو لم يكن عندنا عمل لما استطعنا أن نتقدم. عاشراً: هذا يعودنا على التفكير قبل العمل، فلابد قبل أن تعمل أي عمل أن تفكر فيه، ولابد أن يتعود المسلم على أن يكون جاداً، ومن أبرز معالم الجدية: التفكير قبل العمل، فلابد من أخذ مبدأ الدراسة والتخطيط وتنسيق الأمور قبل أي عمل من هذه الأعمال. الحادي عشر: التعود على كتابة التقارير وصياغة النقاط؛ حتى يستفيد منها.

الإطار العام لأوراق العمل

الإطار العام لأوراق العمل حتى نهيئ الفرصة، وندعو الجميع إلى أن يساهم ويشارك في إعداد أوراق عمل عند كل قضية يحتاج إليها مع إخوانه، فنقول: هناك إطار عام يمكن أن يفيد لهذه الأوراق وإعدادها: أولاً: لابد أن تكون ورقة العمل قابلة للتطبيق: فلا يأتِ بأشياء خيالية، فمثلاً نقول: نحن نريد أن نحارب إسرائيل، ونريد ورقة عمل لمحاربة إسرائيل، فنخرج من هنا ونأخذ أسلحة ونفعل، هذا كله غير واقعي، فلابد أولاً أن تكون ورقة العمل قابلة للتطبيق. ثانياً: الحرص على توسيع دائرة المشاركة بقدر المستطاع، فإذا كان هناك عمل يستطيع أن نعمل فيه مائة فلا نرضى بأن يعمل فيه تسعين، بل حاول أن تكون أوراق العمل في هذه الميادين تشمل أكبر عدد من الناس؛ حتى يكون أثرها أكبر؛ وحتى ينتفع بها قطاع أكبر من الناس. ثالثاً: أن تتركز الورقة في ذكر الأهداف والفوائد من هذا العمل وهي: - الوسائل المتاحة لتطبيقه. - مراعاة الإمكانات. - استيعاب الطاقات. - التفكير في الخطوات العملية تفكيراً جيداً؛ بحيث تتلافى الآثار السلبية؛ لأنك أحياناً قد تفكر في عمل ولا تفكر فيما قد ينتج عنه من آثار سلبية، فلابد للإنسان أن يكون حكيماً وبصيراً، وأن يكون منضبطاً في مثل هذه الأمور. رابعاً: ألا يكون هناك نقاط كثيرة، وأعمال كثيرة، بل يركز على القليل الذي يمكن أن يكون تطبيقه واقعياً.

عرض سريع لبعض أوراق العمل

عرض سريع لبعض أوراق العمل أقول لأثير حماس الإخوة: أولاً: ما ذكرناه من هذه الأوراق يحتاج إلى تطبيق، وكثير منا يستطيع أن يطبق كثيراً مما ذكرناه، ومن غير مشقة وعناء. ثانياً: هناك أوراق أخرى يمكن أن يفكر فيها الإخوة كل مع من يحيط به أو من هو معه في مدرسته أو في حيه أو في مسجده، ويفكر الجميع ليضعوا نقاطاً يمكن أن تطبق، وأن تكون صورة عملية أخرى لعله أن يكون من الممكن أن تشيع بين الناس، أو أن تعرض في درس لاحق، أو أن يشار إليها على أقل تقدير، فهناك مما لم نعرضه من هذه الأوراق:

خدمة أهل الحي

خدمة أهل الحي ورقة عمل لخدمة أهل الحي، كيف يمكن أن نخدم أهل الحي من خلال منطلقات إسلامية حتى ينتفعوا ويستفيدوا ويتأثروا بهذه الخدمات، ويروا بأعينهم أن الملتزمين والدعاة والصالحين ليسوا أصحاب أقوال، بل هم أصاحب أعمال، ولا يأتي منهم الضر بل يأتي منهم الخير، ويسابقون إلى مصلحة الناس ورعاية حقوقهم كما مر بنا في درس (أخيار ولا فخر) في الأسبوع الماضي، وينبغي أن يكون هذا هو الميدان، وله معالم كثيرة، وكان من المفروض أن نشير إليها كاملة، سواءً عبر المسجد أو عبر المدرسة أو عبر المكتبة، أو عبر اللقاءات الاجتماعية، فكلها ميادين، ويمكن أن تخدم أهل الحي، وتقدم هذه الخدمات من منطلق الإسلام، وعبر العاملين والملتزمين بهذا الدين.

دعم الشريط الإسلامي ونشره

دعم الشريط الإسلامي ونشره من الأوراق المهمة: دعم الشريط الإسلامي ونشره، وهذه ورقة مهمة لم أشأ أن أتحدث فيها؛ لأن هناك بعض المحاضرات عنها؛ ولأن فيها مجالاً واسعاً، وهي خدمة كبرى يمكن أن يشارك فيها كثير من الناس، ولو فكروا وكتبوا أفكارهم لنتجت عن ذلك خطوات عملية كثيرة.

دعم المحاضرات والدروس العلمية

دعم المحاضرات والدروس العلمية ومن ذلك أيضاً: دعم المحاضرات والدروس العلمية، وتشجيع الناس على حضورها والاستفادة منها، ويحتاج ذلك إلى ورقة عمل، وخطوات إيجابية.

إيصال التوعية الإسلامية إلى غير الملتزمين بالدين

إيصال التوعية الإسلامية إلى غير الملتزمين بالدين هناك قضايا أذكرها حتى نثير الهمم والحماس للتفكير فيها، وصياغة خطوات عملية حولها، من ذلك: إيصال التوعية الإسلامية إلى غير الملتزمين، فكثيراً ما تمارس الأنشطة الإسلامية بين الملتزمين أنفسهم، بينما إخواننا وأحباؤنا الذين انصرفوا أو شغلوا ببعض الملذات، أو بعض الشهوات، هم غارقون في الغفلة، ولا يجدون الجهد المكثف أو المبرمج الذي ينتشلهم ويعينهم على أن يخرجوا من هذه الدوائر الفارغة، والأعمال المحرمة، أو الاتجاهات المنحرفة، وهناك دعوة ملحة جداً أن نتكلم بألسنتهم، وأن نذهب إلى أماكنهم، وأن نمارس طرقاً مناسبة للتأثير عليهم، وإيصال الخير لهم، وهي من أهم القضايا التي تحتاج إلى خطوات عملية فيها، وتحتاج إلى أن تتفتق الأذهان عن الخطوات الإيجابية حولها.

دعم المجلات الإسلامية

دعم المجلات الإسلامية أيضاً: تشجيع المجلات الإسلامية ودعمها ونشرها، فكثيراً ما تعاني هذه المجلات، وتصدر مجلات إسلامية فترات محددة وتنقطع، فمثلاً لما كان بعض الناس يسألون ويقولون: لماذا لا تكون هناك مجلات للمرأة المسلمة؟ وأجبت في ذلك الوقت: بأنه صدرت مجلة اسمها: (أسماء)، وصدرت منها أربعة أعداد أو خمسة أعداد ثم توقفت؛ لأنها لم تجد تشجيعاً مادياً وشراءً وإعلاناً ونحو ذلك. فهذه خطوات لابد أن نرى كيف يمكن أن يستفاد منها عملياً.

نشر الدعوة في النوادي والتجمعات الرياضية

نشر الدعوة في النوادي والتجمعات الرياضية أيضاً: مجالات الأنشطة الرياضية ونواديها، ينبغي أن نفكر كيف يمكن أن تستثمر، وأن يكون فيها شيوع الخير والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

العمل على إزالة أسباب الاختلاف

العمل على إزالة أسباب الاختلاف ورقة لعلها تكون جديرة بأن تثير كثيراً من الحماس لها، وهي ورقة عمل حول إزالة أسباب الاختلاف بين الشباب الملتزم، وكثيراً ما ترد الأسئلة وتثار القضايا حول بعض ما يقع فيه الاختلاف من الآراء والاجتهادات والوسائل والممارسات العملية في أساليب الدعوة أو في طرق إنكار المنكر أو نحو ذلك. نريد أيضاً أن يكون هناك تفكير عملي في خطوات عملية لمثل هذه الأمور. وهناك أشياء أخرى أظن أن الذهن لو أعمل من خلال اهتمامه بقضايا المسلمين لوجد كثيراً من الإيجابيات وكثيراً من القضايا التي تحتاج إلى خدمة إسلامية -كما أشرت- كدائرة الاهتمام بالخير، والاهتمام بالقضايا الإسلامية، والاهتمام بدعم الخير والعمل الإسلامي، ولابد أن يكون شعارنا: (هيا إلى العمل والدعوة والخير لكل أحد، ولكل قطاع -كما ذكرت- صغيراً وكبيراً، رجلاً وامرأة، متعلماً وعامياً)، وليس هناك أحد يعذر، بل يساهم بقدر ما يستطيع بصورة أو بأخرى.

الحث على المساهمة في إنجاح ورقة العمل

الحث على المساهمة في إنجاح ورقة العمل بعض هذه الأوراق خاصة فيما يتصل بالورقة الأولى، وهي التوعية بصور مآسي المسلمين، وكذلك الورقة الرابعة عن دور الشاب في البيت المسلم، وكذلك الأوراق التي لم أتحدث عنها، مثل: خدمة أهل الحي، وخدمة الشريط الإسلامي ونحوها. أقول: كيف صدرت أو وجدت هذه الأوراق؟ أقول: إنه من الممكن أن يمارس كثيرون هذا الدور، وأن يخرجوا بمثل هذه الأفكار، وبعض هذه الأوراق التي أشرت إليها هي من نتاج بعض الطلبة في المرحلة المتوسطة والثانوية، مع مشاركة قلة من طلبة الجامعة، واجتمعت مجموعات من هؤلاء الطلبة في بعض أنشطتهم المنبثقة عن أنشطة التحفيظ والمراكز الصيفية، ووجههم الموجهون أن يفكروا في أساليب عملية لخدمة الإسلام، ففكروا وكتبوا هذه النقاط والأوراق، ودرسوها وناقشوها، وهذا مستواهم، وهذه قدراتهم وإعدادهم، فاشتغلوا بشيء مهم، وشعروا بأن هناك أموراً لابد أن يكون لهم فيها دور، وعرفوا أن هناك ميادين يستطيعون أن يكون لهم ممارسة ومساهمة فيها، ولذلك هذه الأوراق التي ذكرتها وغيرها مما لم أذكره إنما هو نتاجهم عندما فكروا ونظروا في واقعهم وإمكاناتهم، وقالوا: يمكن أن يكون العمل على هذه المراحل، وفي هذه المحاور، وبهذه الخطوات، وتحت هذه الأهداف، فهل يعجز من هو أكبر منهم سناً وأكثر قدرة مادية ومعنوية أن يكون له اهتمام بمثل هذه القضايا؟ هل يعجز أحد أن يصوغ أو أن يشارك مع إخوانه في صياغة خطوات عملية ليقدم الخير ويساهم في مسيرة نشره بين المسلمين؟ هذا تأكيد على أنه بالإمكان أن تكون هذه الخطوات، بل إن وجودها واقعاً أمر ميسور بإذن الله سبحانه وتعالى. وقد هدفت -أصلاً- من هذا الموضوع أن نثير العزيمة إلى العمل، والهمة في التفكير في قضايا المسلمين، والاجتماع على دراسة حلول لها، وطرائق عملية لمساعدتها وخدمتها، وهذا هو الذي نأمله. وما ذكرت من العناوين يمكن أن يفكر فيه الإخوة، فإذا وضعوا فيه نقاطاً وواصلونا بها، ربما تكون هناك فرصة لعرضها والتذكير بها وتطبيقها عملياً، وربما بعض ما ذكرناه إن شاء الله يمارس عملياً.

الأسئلة

الأسئلة

شواهد على نجاح سلاح المقاطعة

شواهد على نجاح سلاح المقاطعة Q يذكر الأخ السائل طرفة في أسلوب المقاطعة، وهي: أن بعض تجار السمك في اليابان رفعوا أسعار السمك، فاتفقت نساء البلدة على مقاطعة شراء السمك؛ فاضطر التجار إلى خفض الأسعار مرة أخرى؟ A هذا سلاح مؤثر وله شواهد كثيرة.

مقاطعة الشرق الأوسط

مقاطعة الشرق الأوسط Q هذه إشارة إلى دعوة الشيخ سلمان لمقاطعة الشرق الأوسط، وأظنها دعوة مشهورة مبثوثة وغيرها يقاس عليها كذلك؟ A وقد أشار غيره من العلماء إلى مقاطعتها، ومقاطعة ما يغلب شره على خيره.

دور المرأة في العمل الإسلامي

دور المرأة في العمل الإسلامي Q ما دور المرأة في العمل الإسلامي خاصة في المقاطعة؟ A هذا سؤال جميل جداً، ولو أن النساء المسلمات قاطعن الكماليات أو قليلاً من الكماليات لوفرن على الأمة المسلمة آلاف الآلاف، بل مئات الآلاف، بل ملايين الأموال التي تذهب، ويصدرها لنا أعداؤنا؛ ليستهلكوا أموالنا، وليفتنوا نساءنا، وليشيعوا بعض أنواع الفساد فينا. وأقول حتى ندرك بعض الأشياء في قضية المقاطعة: لو قاطع الناس التدخين فهل نعلم نحن أننا -على سبيل المثال- ننفق حسب الإحصائيات نحو عشرة آلاف مليون ريال في العام الواحد في تجارة السجائر؟ لو أننا تصورنا أنه تمت المقاطعة لمثل هذه الأمور، فلن تتصور مدى الآثار الإيجابية لها. والمرأة المسلمة لو قاطعت بعض الأمور لا نقول كلها، كثير من النساء عندها من الأحذية أكثر من عشرة، وعندها من الملابس ما لا يحصيه العد، وعندها كذا وكذا، ولو أنها تخلت عن بعض ذلك، واستشعرت قضايا المسلمين على أقل تقدير؛ لكان في ذلك خير كبير، إضافة إلى أنها مستهدفة بالأزياء والموضات، وأكثر ما تتوجه المجلات للنساء وللمرأة.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الجميع

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الجميع Q هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقتصر على الملتزمين والملتحين والدعاة دون غيرهم ممن ليسوا كذلك؟ A لا.

نقد المراكز الصيفية

نقد المراكز الصيفية Q إن كاتباً كتب مقالاً مطولاً عن المراكز الصيفية, وأنها لا تؤدي وظيفتها، وأشار إلى بعض أوجه النقد، يقول: فما العمل تجاه هذا الأمر؟ A هذا نموذج ممكن وضع ورقة عمل تجاهه، وقد حصل أن ذكر لي بعض الإخوة ذلك، فقلت: لم لا يذهب مجموعة منكم ليزوروا هذا الشخص ويناقشوه في أفكاره التي رآها، والتي ربما قالها عن اجتهاد أو عن عدم فهم، ولم لا يكتب عدد آخر له حتى يبينوا له بعض ما يكون قد أخطأ فيه؟! ولم لا يكتب عدد آخر إلى تلك الصحيفة مقالات أو مضامين تبين وجهة نظرهم، وأن فيها فوائد أخرى غير التي أشير إليها ونحو ذلك؟!

منشورات القوانين والأنظمة

منشورات القوانين والأنظمة Q أخ يسأل عن نصوص القوانين والأنظمة؟ A بعض الأنظمة والقوانين تباع رسمياً، وبعضها مشاع ومذاع ومنشور في كتب، مثل: قوانين الأمم المتحدة، وكذا كتب مطبوعة موجودة في مكتبات الجامعات، وموجودة للبيع في المكتبات العامة، وكل الأنظمة ليست أسراراً، بل هي متاحة، وإذا احتاج بعض الإخوة لشيء محدد فلا بأس أن يواصلوني في ذلك إن شاء الله.

التحذير من التهاون بالشر

التحذير من التهاون بالشر Q يذكر السائل أن له أخاً يأتي ببعض الأفلام التي فيها ما لا يليق، وهو يأخذ هذه الأفلام ويسجل عليها، لكنه أثناء التسجيل عليها يضطر إلى أن يرى بعض المشاهد، فماذا يصنع؟ ولو أتلفها لحصلت مشكلة بينه وبين أخيه؟ A هذا مزلق خطير ينبغي ألا يتساهل فيه، وأن يبقى واحد في الشر خير من أن ينضم إليه الثاني، فأحياناً الشيطان يدخل من مداخل في مثل هذه الأمور حتى يقع الإنسان في الزلل من حيث لا يشعر.

ورقة عمل لأئمة المساجد في الحي

ورقة عمل لأئمة المساجد في الحي Q لِمَ لا يكون هناك إعداد ورقة لأئمة المساجد في الحي لخدمة الحي مثل: القضايا الاجتماعية، والدروس والمواعظ، وإزالة المنكرات؟ A ورقة (خدمة أهل الحي) موجود فيها هذه التفصيلات، ولعلها إن شاء الله في صورة عملية تتحقق، والأفكار موجودة ومكتوبة كما أشرت سابقاً. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا إلى أن نكون عمليين، وأن يسهل لنا أمر الدعوة وخدمة الإسلام والمسلمين بقدر الطاقة والمستطاع.

الحجاب

الحجاب أصبح حجاب المرأة في هذا الزمان قضية القضايا، فكم نرى من أحاديث وأراجيف حوله من الأعداء والمغرضين! لذا كان لزاماً تنبيه الأخوات المؤمنات إلى نعمة الستر والعفاف، وأهمية أخذ الحجاب الشرعي كاملاً؛ فإن فيه شرف المرأة وعزها وعفتها وكرامتها، ولتعلم المرأة المسلمة أن الحجاب يحررها من كثير من الأمراض النفسية والبدنية، ويخفف عنها كثيراً من الأعباء المالية والتبعات، على عكس ما يدعي دعاة الضلال في مجتمعاتنا.

شريعة الحجاب وتحرير المرأة

شريعة الحجاب وتحرير المرأة الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإيمان، وأكرمنا بالإسلام، وشرفنا ببعثة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وبين لنا الشرائع وفصل لنا الأحكام. أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، أحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله والحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا على حين فترة من الرسل وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصربه من العمى، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً عمياً، وآذاناً صماً، وبلغ عليه الصلاة والسلام الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

الحجاب مصلحة للمرأة والمجتمع

الحجاب مصلحة للمرأة والمجتمع أيها الإخوة المؤمنون! حجاب المرأة المسلمة أحد الأمور التي تثار حولها الشبهات، ويدعى زوراً وبهتاناً أنه من صور تقييد المرأة المسلمة، وإلغاء شخصيتها، وحجب عقلها وفكرها إلى آخر ما يقال ويشاع ويذاع في مثل هذا الأمر، فهل حجاب المرأة المسلمة حرية أو قيد؟! وهل فيه مصلحة لها ولبنات جنسها وللمجتمع كله، أم فيه ما قد يذاع أو يقال من هذه المشكلات أو المضار؟ فلننظر ما وراء الحجاب، ولسنا بصدد تفصيل الأحكام، ولا بصدد ذكر اختلاف الفقهاء، وإنما ننظر إلى الحكم والأسرار، حتى ندحض بوقائع العصر ما يقال من الأوهام وما يحاك من الأباطيل؛ لأن بعض أبناء المسلمين قد فتنوا في قلوبهم، وضللوا في عقولهم، وانحرفوا في سلوكهم في هذا الشأن المهم من شئون المرأة والأسرة والمجتمع، وصور لهم أن هذا ضرب من الحرية، ولون من التقدم، وصُورة من صور التفاعل والمشاركة الاجتماعية النافعة، والواقع يشهد بغير هذا، كما سنذكر بعضاً من الصور. الحديث إلى المرأة المسلمة، إلى وليها: أباً، وزوجاً، وأخاً، وإلى المجتمع المسلم الذي أكرمه الله وأنعم عليه، وجعل فيه سمة الطهارة والنقاء والصفاء، وجمله بالعفة والحياء؛ حتى لا تذهب هذه النعم، وحتى لا ينكص على عقبيه ويعرض عن شرع الله، ويضرب صفحاً عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحينما ننظر إلى الحجاب لا نراه تشريعاً وحيداً، وإنما هو مع جملة من التشريعات الأخرى تتحقق به المصالح والمنافع، وهكذا شرع الإسلام لا يعطي حكماً واحداً منفرداً عن بقية الأحكام؛ لأن تشريعه كامل شامل؛ ولأن المصلحة ترتبط أجزاؤها بعضها ببعض؛ فلا يمكن أن نأخذ حكم الإسلام في اقتصاد ونتركه في اجتماع، أو نأخذه في اجتماع ونتركه في سياسة؛ فحينئذٍ لابد أن يقع الاضطراب والاختلال، ولن تتحقق سائر المصالح والمنافع، ومن ثمّ فإن تشريع الحجاب جاء ضمن تشريعات الإسلام التي تضبط المجتمع رجالاً ونساءً، ولسنا بصدد التفصيل، لكن الإسلام قد شرع قبل ذلك وفي هذا الإطار وفي هذه الأحكام كثيراً من الآداب والتشريعات المهمة، منها ما في قوله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]. وهناك أمور وواجبات دعي إليها المسلمون والمسلمات حتى مع وجود بعض الدواعي التي قد تنصرف فيها الأبصار إلى العورات، فجعل الإسلام ستاراً واقياً من التقوى الشاملة التي دعي إليها المؤمنون، كما قال عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]، وجاءت الأحكام بمنع النظر المحرم، ومنع سماع الآثام، كما في قوله عز وجل: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، وجاء النهي عن الخلوة التي فيها الشيطان يفرخ ويبيض ويقع منه ما يقع، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يخلون رجل بامرأة، قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت). فالتشريعات كلها متكاملة، والسياجات والحصون كلها متماسكة، فإن هد جانب، وإذا وجدت ثغرة في جانب، فإنما ذلك من خلل الملتزمين بهذا الدين، أو المؤمنين به.

الحجاب تحرير من الأمراض النفسية

الحجاب تحرير من الأمراض النفسية فلننظر إلى هذا الحجاب لنرى فيه صورة مشرقة من صور الحرية، والمنافع والمصالح للمرأة المسلمة في ذاتها، ولبنات جنسها، ثم للمجتمع الإنساني المسلم كله. فالحجاب تحرير للمرأة من الأمراض النفسية؛ لأن الدراسات أثبتت أن المرأة في أول سن البلوغ سواء في سن العاشرة أو في الثانية عشرة أو ما بعدها بقليل أو كثير، أعظم ما يشغل بالها، وأكثر ما تلتفت إليه هو منظرها، وجمالها، وحسنها؛ لأنها قد ركبت على طبيعة فيها حب التجمل والتزين، كما قال عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، هذه الفطرة تدفعها إلى أن تفكر وأن تتقي كل شيء يضر بهذا الجمال، أو بنظرة الناس إليها في جمالها وحسنها، وتخشى أعظم ما تخشاه ما قد يؤثر في هذا الجانب. ونحن نعلم جميعاً أن هذه السن فيها كثير من التغيرات الجسمية التي قد يقع فيها بعض الصور من الحبوب التي في الوجه، أو التغيرات التي في الجلد، أو غير ذلك، فإذا كانت المرأة ليست محجبة، فإن هذا يشكل عبئاً كبيراً على نفسيتها، وكآبة عظيمة في تفكيرها، وقد أثبتت الدراسات في المجتمعات الغربية - وهذه دراسة على المجتمع الأمريكي- أن الفتاة في سن الثانية عشرة تصاب باكتئاب نفسي، وتكون عرضةً للأوهام والأمراض النفسية أكثر من الفتى؛ لهذا الجانب. فالفتاة تنظر إلى مثيلاتها، فقد يكون من قدر الله عليها أنها ليست على نصيب من الجمال عظيم، أو أن الله عز وجل ابتلاها بعاهة في منظرها أو في هيئتها، أو أنها قد أتاها من التغيرات الجسمية ما يظهر على وجهها، أو غير ذلك من الأمور، فتبقى في حيرة واضطراب. وهناك صورة من التنافس بين الفتيات في إبراز صور الجمال، ظناً -بطبيعة الفطرة- أن هذا أمر لابد منه، ولابد من التبارز والتنافس فيه، وهذا أمر حتمي في واقع المجتمعات التي لا تتخذ الحجاب؛ فإن الفتاة في هذا السن تجد نفسها ملزمة بذلك، فتصرف من وقتها وتفكيرها فيما تعالج به هذه التغيرات الجسدية ونحو ذلك. أما المرأة المسلمة فحجابها يجعل الدميمة والجميلة وذات العاهة في وجهها وغيرها، والتي لم يعطها الله حظاً من جمال مثل غيرها، ولا فرق بينها وبين غيرها، فيعصمها من هذا الاضطراب النفسي، ويحذرها من هذه الحيرة والقلق النفسي الذي يقع به كثير من المشكلات للفتيات.

الحجاب تحرير من الأعباء المالية

الحجاب تحرير من الأعباء المالية الحجاب من وجه آخر تحرير من الأعباء المالية؛ لأن المجتمع الذي تتبرج فيه المرأة تجد نفسها أيضاً مضطرة -صغيرة كانت أو كبيرة- إلى أن تبدل وتغير في الملابس أشكالاً وألواناً، وأن تنفق الأموال على أدوات التجميل صفرة وحمرة وخضرة وزرقة إلى آخر الألوان التي يبتكرها أولئك القوم؛ ليشغلوا بها النساء، ويستنزفوا أموالهن. وكذلك جددوا لهن من هذا صوراً كثيرة لا تنتهي فيما أحسب، فجعلوا صبغات للشعر، فيوم شعرها أحمر، ويوم شعرها أصفر ويوم كذا وكذا، حتى جاءوا إلى العيون فجعلوا عيوناً زرقاء، وأخرى خضراء، والمرأة التي تتبرج وتذهب إلى العمل أو تخرج إلى الشارع ستكون مضطرة بطبيعة فطرتها ومنافستها أن تغير وتبدل وتجدد وتشكل في هيئتها ومنظرها، وأن تخرج من مالها أو من مال زوجها وتصرف المال في هذا الصدد وهذا السبيل أكثر مما تنفقه في كثير من الأحيان على طعامها أو شرابها أو مصلحة بيتها أو أبنائها، ولا يمكن لك أبداً أن تجد امرأة تعمل وهي متبرجة -أي: لا تأخذ بالحجاب ولا تلبسه- لا يمكن أن تراها على هيئة أو لباس أو لون أو شكل واحد، بل إن في الصباح لها ضرباً من الألبسة والألوان، وفي المساء كذلك، لكن الحجاب يحررها من ذلك. لا يمنع الإسلام تجمل المرأة؛ لأنه طبيعة في فطرتها، ومطلوب منها بطبيعتها أن تتجمل لزوجها، وأن تتجمل فيما بين النساء في مناسبات الأفراح أو الأعياد، وكان الأمر كذلك في مجتمع المسلمين الأول، والصحابيات اللائي عشن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجتمع الطاهر، لكن هذا الضرب من التبرج هو الذي يفرض هذه الأعباء التي يحرر الحجاب المرأة المسلمة منها.

الحجاب تحرير من الاعتداءات الأمنية

الحجاب تحرير من الاعتداءات الأمنية الحجاب تحرير من الاعتداءات الأمنية، وهذا باب واسع عظيم؛ فإن التبرج بما يبديه من العورات وما يظهره من المفاتن، وما يبرزه من صور الإغراء والإغواء، يجعل المرأة كالفريسة التي تتعرض لافتراس الذئاب عاجلاً أو آجلاً، فإن منعوا من ذلك خوفاً من أمن أو شرطة أو نحو ذلك ربما انتهزوا فرصة في وقت آخر، وإن منعهم من ذلك حياء في ظرف فلن يمنعهم في ظرف آخر! ونضرب مثالاً: عندما تدخل إلى زيارة حديقة الحيوان تجد فيها الحيوانات داخل الأقفاص مغلق عليها أبوابها؛ لأنها لو تركت لافترست الإنسان الذي يتجول ويزور تلك الأسود والوحوش الكاسرة، والمرأة عندما تخرج متبرجة فإنها تكون عرضة للافتراس ولا شك بطبيعة الفطرة الإنسانية، وطبيعة تحطيم الحواجز من الحياء والأعراف وغير ذلك، وطبيعة ضعف أو فقدان الوازع الديني من الناس؛ لكثرة هذا التبرج، فحينئذٍ يقع هذا الاعتداء عليها بصور كثيرة مختلفة، لعل أبرزها وأشهرها في مجتمعات الغرب، والحضارة الغربية اليوم فيها أكبر صور الاعتداء المتمثلة في الاغتصاب، وهذه المجتمعات ليس فيها عندهم عيب، ولا حرام، ولا حد لحشمة ولا شيء من ذلك، ومع ذلك يقع الاغتصاب! والذي يتصور أنه لا يقع إلا عند وجود الكبت الذي يدعي أدعياء الإسلام من المتأثرين بالغرب أن الكبت سببه هذا الحجاب، ويقولون: انزعوا الحجاب حتى يزول الكبت، وحتى يصبح هناك تطبيع في العلاقات بين الجنسين. فالغرب قد طبعوا العلاقات وأزالوها وألغوها، ثم إذا بنا نجد الإحصاءات تقول: تقع في كل نصف دقيقة جريمة اغتصاب في أمريكا، وإن (90%) من جرائم الاغتصاب لا تبلغ إلى الجهات الأمنية وهذا يعني: أن هذا العدد ينبغي أن يضاعف تسع مرات، فإذا كان في كل دقيقة تحصل جريمتا اغتصاب؛ فإنه عندما نضاعف العدد تسع مرات سيكون في كل دقيقتين ثمانية عشر جريمة اغتصاب، وفي كل دقيقة تسع جرائم اغتصاب في مجتمع ليس فيه حرمة لزناً ولا لشذوذ ولا لشيء من هذا أبداً! وقد أجيزت هناك جمعيات كثيرة لتقاوم هذا العنف وهذا الاعتداء الذي سلب المرأة حريتها وأمنها واستقرارها، وحصلت هناك إحدى المظاهرات العظمى ضد الاغتصاب، وعقد يوم كامل للمناقشات والمحاورات حول هذه الظاهرة، وقيل في تعريف الاغتصاب كلام أنقله؛ لنرى أن بعض ما يقع للقوم قد عصمنا الله منه، وأكرمنا الله عز وجل فيه بشرع محكم. قالوا: إن المرأة تغتصب حتى بمجرد نظرة إعجاب في الشارع من أحد المارة، وعليه فإن جميع النساء ضحايا الاغتصاب الجنسي! والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن: (العين تزني وزناها النظر)، وعندما سئل عن نظر الفجاءة قال: (اصرف بصرك ولا تعد)، وفي حديث علي: (إنما لك الأولى والثانية عليك). فهذا لون من الألوان، وهناك ما هو أكثر من ذلك، ولهذا فإن المرأة المتبرجة في تلك المجتمعات تخشى أن تسير وحدها منفردة، حتى ولو كان لها ضرورة في الليل فإنها تخشى أن تخالط بعض الأماكن أو أن تلم بها، فأية حرية تكون في ظل هذا الخوف والإرهاب الذي سلط عليها؛ بسبب من عملها وتبرجها؟ ثم كذلك عندما ننظر إلى هذه الاعتداءات الأمنية نجد أن واقع القوم يشهد بحكمة تشريع الإسلام، ونعمة ما عند المسلمين من الأحكام. فالشرطة البريطانية في إحدى المدن بعد كثرة جرائم الاغتصاب والاعتداء على النساء بصور مختلفة، وزعت إرشادات أمنية على النساء في كتيب، وذكرت فيه اتباع الإجراءات الأمنية التي تقي النساء من الاعتداءات، فماذا جاء في هذا الكتيب؟ وماذا جاء في هذه الإرشادات؟ إن من أهمها وأكثرها وأبرزها أهمية: ألا ترتدي المرأة الملابس الفاتنة القصيرة التي تكشف عن كثير من أجزاء جسدها! وهذا لم نأت به من عندنا، ولم نعطهم آيات من قرآننا، ولم نذكر لهم أحاديث من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما شعروا بأن هذا سبباً من الأسباب، وأخذوا به، أو أرادوا أن يأخذوا به، لا لدين ولا لتشريع، وإنما لمقتضيات أمنية بحتة صرفة كما يقال. والمرأة المسلمة المتحجبة في أمن من الاعتداء عليها بالنظر أو الاجتراء عليها بالقول، فضلاً عن الاعتداء عليها باليد أو الاعتداء عليها بالاغتصاب، ومجتمعات المسلمين ما بليت بالجرائم التي نسمع بها في بعض بلاد الإسلام إلا عندما وجد التبرج، وكثر الاختلاط، نسأل الله عز وجل أن يحمينا وأن يعافينا.

الحجاب تحرير من فقدان المرأة للفرص العلمية والعملية في الحياة

الحجاب تحرير من فقدان المرأة للفرص العلمية والعملية في الحياة والحجاب أيضاً تحرير من فقدان المرأة للفرص العلمية والعملية في الحياة: وقد يعجب الإنسان عندما يسمع مثل هذا الكلام، ولكني أيضاً أقول وأبين هذا من واقع المجتمعات التي ينظر إليها بعض المسلمين على أنها المجتمعات التي يراد لنا أن نقتدي بها: إن المرأة عندما تتبرج تبقى بصورة بارزة ينظر إليها الرجال، ومهما غلفت هذه اللقاءات بأغلفة مختلفة من العمل أو التعليم أو غيره، فإن النظرة التي فطر عليها البشر بين الرجال والنساء هي التي تطغى عندما يحصل استمرار الاختلاط ووجود التبرج، فهناك أربعون مليون امرأة في أمريكا -كما جاء في بعض الدراسات- يتحرش بهن رؤساؤهن في العمل تحرشات جنسية! فهذا عمل، وهذا ميدان للإنتاج، فما الذي يدخل هذا الجانب؟ إنه طبيعة الأمور وفطرتها التي لا يمكن أن تتغير. وفي إحدى الشركات البريطانية واسمها شركة (أركليز كارز) عممت الشركة على الموظفات تعميماً داخلياً، جاء في هذا التعميم: عدم ارتداء النساء للملابس المثيرة، وجاء في نفس هذا التعميم: أن هذا يشغل العاملين من الرجال؛ لنظرهم إلى النساء، وكلامهم عنهن، وانشغال مجموع العاملين بمثل هذه الأمور، مما يضيع مصلحة العمل! فهذا أيضاً لم يأت به قرآن ولا سنة، وإنما جاء عندهم مصلحة العمل والوظيفة كما يقال.

الحجاب تحرير من المشكلات الصحية

الحجاب تحرير من المشكلات الصحية في الحجاب تحرير من المشكلات الصحية التي لن نتطرق فيها إلى الأمراض التي تنشأ عن الحرية الإباحية الجنسية، وما فيها من البلايا والإيدز وغيره من الأمراض، وإنما حتى على مستوى الحجاب، وترك الحجاب، والتبرج الذي يقع على الشواطئ وغير ذلك: أثبتت الدراسات أن النساء اللاتي يتعرضن للشمس على شواطئ البحار والأنهار مما نعرف صورته ونعف عن ذكره؛ أنهن أكثر تعرضاً للإصابة بسرطان الجلد أكثر بثلاث عشرة مرة من غيرهن من النساء. وأثبتت الدراسات أيضاً أن المرأة التي تكشف أجزاء من بدنها طوال الوقت وفي سائر الأحوال والظروف المناخية والعملية، أنها أكثر عرضة للتشوهات الجلدية من غيرها، فالمرأة المحجبة بهذا قد حرصت وقد حفظت نفسها من هذه المشكلات بإذن الله عز وجل. أضف إلى ذلك ما يقع من المتبرجات من الإسراف في أدوات التجميل، ولها آثارها الصحية على الجلد وغيره، مما يطول ذكره ولا ينتهي أمده فيما يعقد من الدراسات والأبحاث الطبية.

الحجاب تحرير من فقدان شخصيتها النسائية

الحجاب تحرير من فقدان شخصيتها النسائية وفي الحجاب أيضاً تحرير للمرأة من فقدان شخصيتها النسائية: وهذا أمر في غاية الأهمية؛ فإن المرأة طبعت في أصل فطرتها على الحياء، وعلى الرقة، وعلى الحنان، فإذا جاء هذا التبرج، وتركت الحجاب، وتركت البعد عن مجتمعات الرجال انهار سد الحياء، وإذا نزع الحياء فلا تأمل من وراء ذلك إلا كل شر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال فيما صح عنه: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فإذا نزع الحياء من المرأة صارت أكثر فحشاً من الرجل. والحياء والدلال في المرأة سبب فطري من أسباب الانجذاب بين الرجل والمرأة، وعمران الكون والحياة بتكوين الأسرة، فالمرأة عندما تختلط ينزع منها الحياء، وتنزع منها الرقة، والحنان، والهدوء، وطبيعة المرأة التي هي نوع من أنواع السكن، ونوع من أنواع التكامل مع قوة الرجل وصلابته، فحينئذٍ يحصل ما يحصل في تلك المجتمعات من وجود الشذوذ بين الرجال والرجال، والنساء والنساء، نسأل الله عز وجل السلامة! ونجد أيضاً أن هناك النظرة التي لا ينظر فيها إلى المرأة من جهة عقلها ولا فكرها ولا شخصيتها، وإنما ينظر فيها إلى مفاتنها وإلى ما تبرزه في تبرجها، فنحن نرى أن الوظائف إذا شغرت عند أولئك القوم ليس بالضرورة أن تكون المؤهلة هي الأولى في ذلك، بل كثيراً ما ينظر إلى شكلها وإلى هيئتها وإلى لونها، وإلى تجاوبها في المقابلة أو استعدادها لأن تكون مرنة في العمل مع رؤسائها، ونحو ذلك؛ هذا جانب. وهناك جانب آخر: فإننا نرى مجلات النساء ومجلات المرأة ماذا تبرز لنا؟ هل تبرز لنا المرأة المخترعة؟! وهل تبرز لنا المرأة المفكرة؟! إنها تبرز لنا أكثر ما تبرز الصور الفاتنة على الأغلفة، وتبرز لنا مساحات واسعة من صفحات موضات الأزياء، وصفحات أوسع من صفحات أدوات التجميل، فجعلوا شخصية المرأة منحصرة في هذا الجانب الذي لا يشرف المرأة أن تكون اهتماماتها وأن يكون تفكيرها في هذا الجانب. فمن هنا يحررها الحجاب من أن تكون النظرة إليها، والنظرة منها لهذا الجانب وحده، وهو جانب الجمال والفتنة وما يتعلق به؛ لأن الإسلام نظر إلى المرأة نظرة شخصية متكاملة لها عقلها وفكرها ورأيها وقدرتها على التربية، وحسن سياستها لأسرتها، وحسن رعايتها لزوجها، فليست المرأة هي هذه المفاتن وهذه الإغراءات فقط، وهؤلاء هم الذين يتهمون بهذا، ولا يتهم به الإسلام الذي يدعون أنه عندما يمنع المرأة من التبرج أو يلزمها الحجاب أنه لا ينظر إليها إلا أنها عورة، وأنه لا ينظر إليها إلا من النظرة الجنسية، بل أولئك هم الذين يستحقون هذا الوصف، وهذا دليل القول عليهم من واقع مجتمعاتهم، ومن واقع ما يدعون إليه نساء المسلمين، ومن واقع ما وقعت فيه مجتمعات المسلمين عندما دخلت إلى هذه الميادين.

مقارنة بين نساء اليوم ونساء السلف

مقارنة بين نساء اليوم ونساء السلف فماذا ترى في اهتمامات المرأة المسلمة التي فتنت اليوم بما فتنت به إلا من رحم الله؟! إنها تشتري المجلات بالأثمان الغالية؛ لتنظر إلى هذا الزي أو إلى هذا اللون أو إلى ما تتحدث به الممثلة الفلانية، أو ما تقول به الرياضية الفلانية، إلى غير ذلك، فجعل الاهتمام في هذا الجانب، واهتمام نساء المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك، ورد في صحيح البخاري ومسلم: أن أبا بكر رضي الله عنه قال لـ عمر: (انطلق بنا فلنزر أم أيمن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيها ويقيل عندها في بيتها، فلما جاء أبو بكر وعمر ودخلا عليها بكت، فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن؟! قالت: والله ما أبكي على شيء، إلا أني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فبكيا)، فانظر إلى المرأة المسلمة ما الذي كان يحزنها، وانظر إلى المرأة المسلمة ما الذي كانت تفكر فيه! وهذه أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون في مستقبل الزمان، وأن المسلمين سيغزون أهل الكفر على البحر، قالت: (يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم)، فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم، فركبت البحر في الغزو جهاداً في سبيل الله، ونصرة لدين الله عز وجل. ومفاخر نساء الإسلام اليوم قد تجدها منصرفة إلى جانب: فلانة ماذا صنعت، وبأي أثواب أتت من شرق أو غرب، وفلانة ماذا صنعت من جمال شعرها، أو من تغيير وجها إلى غير ذلك! وأما مفاخر نساء الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت غير ذلك، فهذه زينب أم المؤمنين رضي الله عنها تفاخر بقية أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات)، وهذه أسماء بنت عميس هاجرت الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، ولما افتخر عمر رضي الله عنه بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وشهود المغازي في بدر وأحد التي لم يشهدها أهل الحبشة، ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن ابن الخطاب يزعم كذا وكذا وكذا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن لكم أهل الهجرتين لأجرين)، فافتخرت بذلك، قال الراوي: فجعل أصحاب الهجرة يردون إليها يسمعون منها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذه صور وومضات سريعة مما يعطيه الحجاب للمرأة المسلمة من أمن نفسي، ومن وقاية صحية، ومن حفظ لأمنها وعرضها، وغير ذلك من المصالح، نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يعصمنا بشرعنا، وأن يلزمنا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

ذكر بعض أحوال نساء السلف في الحشمة والتستر

ذكر بعض أحوال نساء السلف في الحشمة والتستر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى لنساء المسلمين التزام الحجاب، والتزام شرع الله عز وجل بالبعد عن الاختلاط بالرجال، فهذه عائشة رضي الله عنها تثني على نساء الأنصار وتقول: (نعم النساء نساء الأنصار؛ لما نزلت آية الحجاب ابتدرن إلى مروطهن فشققنها، فاتزرن بنصفها، واعتجرن بنصفها الآخر، فما جاء الفجر إلا وكأن على رءوسهن الغربان). وهذه امرأة -كما ورد في الصحيح- تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: (يا رسول الله! إني أصرع، وإني أتكشف فادع الله لي، فقال لها عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك أجر، فقالت: يا رسول الله! أصبر، ولكن ادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها الله ألا تتكشف)، فصبرت على المرض، ولم تصبر على التكشف في حالة هي معذورة فيها؛ لأنها ليست باختيارها، وليست بقدرتها أن تمنعها، فأرادت أن تحفظ عورتها، وألا يتكشف شيء منها، وصبرت على المرض وعلى المعاناة ابتغاء أجر الله سبحانه وتعالى. فهذه صور من صور كثيرة كانت في مجتمعات المسلمين عبر التاريخ الإسلامي؛ نذكر بها نساءنا وأخواتنا في مجتمعات المسلمين ممن قد فقدن هذه الحشمة وتلك العصمة والحماية التي منحهن الله عز وجل إياها.

الحجاب تحرير للمرأة من هدم أسرتها

الحجاب تحرير للمرأة من هدم أسرتها ومن أعظم الفوائد وأسباب التحريم: أن الحجاب تحرير للمرأة من هدم أسرتها: وهذا أمر مهم ينبغي أن تفطن له المرأة المسلمة؛ فإن التبرج الذي قد تفعله المرأة الشابة الصغيرة التي لم تتزوج بعد، سبب من أسباب هدم الأسر، فهذه المرأة التي تتبرج سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة، قد يلتفت إليها نظر رجل متزوج آخر، وقد تكون عنده مشكلات أسرية، وحينئذٍ ينسج الشيطان نسيجه، ويعمل عمله، فتقع حينئذٍ لقاءات محرمة آثمة، ويقع حينئذٍ ما قد يقع؛ بسبب أن الأسرة فيها بعض المشكلات. وفي الجانب الآخر أيضاً يرى الرجل أو ترى المرأة أن هذه لذة ليس وراءها تعب ولا مسئولية. فلتعلم المرأة التي تتبرج أو تدعو للتبرج أن لها أخوات أخريات سيتبرجن، فسيكون من أثر تبرجهن فساد لزوجها، أو فساد لابنها! ولو تبرجت ابنتها فسيكون من ذلك الشاب أو ذاك فساد لابنتها! فالمسألة ليست متعلقة بالمرأة وحدها، وليست متعلقة بالمتبرجة وحدها. ورحم الله الأديب الرافعي عندما تحدث عن هذا الأمر، حيث قال: كأن المرأة المتبرجة في المجتمع كالنار الموقدة في الحفرة، فهل نحذر الناس منها ونمنعهم من القرب منها، أم نقول: لهم مطلق الحرية أن يدخلوا إليها؟! وهذا هو فقه الاجتماع الذي ذكره في هذا الباب. والمسألة في هذا الجانب من أهم المسائل التي ينبغي أن تنظر إليها المرأة لمصلحتها أولاً وأخيراً.

أهمية حذر المرأة من التبرج والسفور وأسباب الفتنة

أهمية حذر المرأة من التبرج والسفور وأسباب الفتنة وهذا الذي نراه في المجتمعات التي وقع فيها التبرج من مجتمعات المسلمين، فالمرأة التي تنادي بالتبرج أو تفلسف التبرج أو تدافع عنه، باتت اليوم تشكو منه؛ لأنه سرق منها زوجها، وأفسد عليها ابنها، وربما ضيع عرض ابنتها!! لأن هذه الفوضى لا يمكن أن تسمى حرية، بل هي جديرة باسم الفوضى؛ ولذا سيكون لها مثل هذه الآثار الوخيمة. وينبغي أن ندرك أن قضية المرأة وكشف العورات والتبرج هو أعظم أعمال الفتنة الشيطانية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)، وليس ذلك نقصاً في النساء أو عيباً فيهن، ولكن عندما يخالفن أمر الله تقع الفتنة للرجال، فيقع الفساد في المجتمع، ويقع الضرر أكثر ما يقع على المرأة نفسها، فالمتبرجة الشابة قد ينظر إليها الشاب ويطري جمالها، ولكن لنزوة في النفوس وحاجة، فإذا أُخذت الحاجة منها، وإذا سُلبت أعز ما تملك، وإذا تقدمت بها السن أو اعترضتها الأمراض، أو تشوه منها جمالها، فلا ينظر إليها أحد، ولا يعطف عليها رجل؛ لأنه ليست له عندها غاية ولا مبتغىً. فينبغي أن تدرك المرأة هذه الحقيقة، والله عز وجل قد قال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27]. قال بعض أهل التفسير: سميت العورة سوءة لأنه يسوء الإنسان أن تُكشف، وأن تظهر. وهذه هي الفطرة السليمة، ودعك من القوم الذين سابقوا الحيوانات في حيوانيتهم؛ فإنهم ليسوا من البشرية ولا من الفطرة السوية في شيء، ولذلك وصف نزع اللباس وكشف السوءة بأنه هو العمل الشيطاني الأول، ولذا قال سبحانه: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27]، وأعمال أبالسة الإنس تدل على هذا، ولسنا بصدد أن نذكر ما هو في الصحف والمجلات والإعلانات، حيث يعلن -مثلاً- عن الكفرات أو عن المعدات الثقيلة التي تحفر أو تهدم أو تبني، ويوضع مع هذا الإعلان صورة المرأة! ولا رابط بين هذا وهذا مطلقاً إلا المتاجرة بأعراض النساء ومفاتنهن، وجعلت المرأة بهذا سلعة، فالحجاب يحفظها من أن تكون مهانة، وأن تبقى -بإذن الله عز وجل- مصانة، وأن تكون لها العزة والكرامة في دين الله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يجمل نساءنا بالحياء، وأن يسترهن بالحجاب، وأن يحفظ علينا ديننا، وأن يحفظ عوراتنا، وأن يؤمن روعاتنا. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وطرفاً دامعاً، وعلماً نافعاً، وعملاً متقبلاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، يا أكرم الأكرمين ويا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وقرب فرجهم، وعجل نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحدا، يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار! اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك. اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك، وارزقهم بطانةً صالحةً تدلهم على الخير، وتحثهم عليه، وتحذرهم من الشر، وتمنعهم منه يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

الحج وتطهير الحرمين

الحج وتطهير الحرمين لقد خص الله سبحانه وتعالى عشر ذي الحجة بخصائص وفضائل، حيث جعل فيها ركناً من أركان الإسلام ألا وهو الحج، كما أنه تجتمع فيها كثير من الطاعات من صيام وذكر وصدقة وطواف وتلبية ونحر وهدي وغير ذلك، وهذا يدلنا على عظمة هذه الأيام. وكما خص الله تبارك وتعالى ذلك الزمن بتلك الفضائل فقد خص أيضاً مكة بفضائل دون غيرها من الأماكن، فإليها يفد الحجاج والمعتمرون من مشارق الأرض ومغاربها، ولها فضائل غير ذلك، لذا كان لزاماً أن تطهر تلك البقاع الطاهرة من الأرجاس والأنجاس والأدناس.

فضائل عشر ذي الحجة

فضائل عشر ذي الحجة الحمد لله الذي جعل الإيمان أمناً وأماناً، والإسلام سلماً وسلاماً، وأحكام الشريعة صلاحاً وأماناً، والخروج عنها ضنكاً وضيقاً، نحمده سبحانه وتعالى شرع الحج إلى بيته الحرام، وألزم بتطهيره من الذنوب والمعاصي والآثام، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، ونحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافةً أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! ها نحن نستقبل أيام شهر ذي الحجة، ونلج إلى موسم فضل عظيم، وأجر عميم، وفريضة جليلة، وأنوار وفضائل وبركات وخيرات عظيمة، أفاضها الحق سبحانه وتعالى علينا، وخصنا -معشر أمة الإسلام- بها، وجعل فيها من الأجور ومضاعفة الحسنات، ومن التكثير ومحو السيئات، ومن الجمع والاجتماع وظهور الخيرات ما لا يكون في غيرها من الأيام والليالي. أيام عظيمة وموسم كريم أظهر الحق سبحانه وتعالى صوراً كثيرة من فضيلته وأجره وأهميته ونفعه، فأقسم سبحانه وتعالى للتعظيم وبيان الأهمية لهذه الأيام بها، فقال جل وعلا: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، وهي عشر ذي الحجة على ما ذهب إليه جمهور العلماء. وفي ذلك روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العشر عشر ذي الحجة، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر) رواه الإمام أحمد والطبراني والبزار والحاكم وصححه. وفي الحديث العظيم من رواية الصحابي الجليل ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري وغيره. فما أعظم هذا الأسلوب النبوي البليغ الذي يهيج النفوس إلى الطاعة، ويبعث القلوب ويعلقها باغتنام هذه الأوقات الفاضلة والمواسم الخيرة (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر) صيغة التفضيل المطلقة، صيغة تدل على عظمة كبيرة ومحبة جليلة من الرب الخالق المالك سبحانه وتعالى لمزيد العبادة له وشديد الحرص على التقرب إليه في أيام هي من أيام الله سبحانه وتعالى وموسم هو من مواسم فرائض الله جل وعلا، وفي مكان وزمان تشهد فيه جموع غفيرة من أمة الإسلام أداء المناسك في أفضل بقاع الأرض كلها، في الحرمين الشريفين والمناسك المقدسة، ويزيدنا ذلك في آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أهميتها وفضيلتها. قال ابن حجر: فيها اجتماع فضيلة الزمان والمكان بالنسبة للحجاج. ثم قال: وفيها اجتماع العبادات من الصيام والصدقة والصلة والحج والعمرة والإنفاق والنحر والأضحية ما لا يجتمع في غيرها من العبادات في سائر الأيام، وهي فضائل بعضها فوق بعض. ومن هنا كان تصرف أسلافنا، فهذا سعيد بن جبير رحمه الله كان إذا دخلت عشر ذي الحجة اجتهد في العبادة حتى ما يكاد يقدر عليه، وكان يقول: لا تطفئوا سرجكم في ليالي العشر. وقد وردت أحاديث فيها إشارة إلى صيام هذه الأيام، وبرز في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومها، والتاسع من هذه الأيام ثابت بالحديث الصحيح صيامه لغير الحاج. وكذلكم نجد في فضيلة هذه الأيام ما اختصت به من الذكر والتهليل والتكبير لعموم المسلمين، والتلبية للحجاج والمعتمرين، مما ينبغي أن ينشغل به المسلمون في مثل هذه المواسم العظيمة.

خصائص بلاد الحرمين الشريفين

خصائص بلاد الحرمين الشريفين في تلك الأيام تفد الوفود وتلبي النداء جموع من المسلمين من كل بقاع الأرض، إنهم ليسوا من بلد واحد، بل من بلاد شتى، ولا من عرق واحد، بل من أعراق مختلفة، ولا من لغة واحدة، بل من لغات متباينة، إنهم يأتون من كل حدب وصوب، أي شيء يقصدون؟ يقصدون وجه الله، ويتوجهون إلى بيت الله، ويؤدون فريضة الله، لم يأتوا إلى مكة لجمالها أو لخضرتها، لم يأتوا إلى تلك الديار ليأكلوا من طعامها أو شرابها، أو ليسكنوا في دورها وبيوتها، ليس لهم مقصد حرك قلوبهم وهممهم وأضناهم في مشقتهم وسيرهم وسفرهم، وبذلوا في ذلك من أموالهم ومن عرق جبينهم إلا غرض واحد فقط، وهو تعظيم بيت الله وأداء فريضة الله. وانظر معي -أخي المسلم- إلى التاريخ القرآني تذكره لنا آيات ناطقة شاهدة {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26]. ذكر أهل التفسير أن هذا الأمر لإبراهيم الخليل عليه السلام فيه دلالة عظيمة على اختصاص هذه البقاع بتوحيد الله سبحانه وتعالى، ونفي الشرك، والأمر بالطهارة العامة، بحيث لا يكون هناك شيء لغير الله، ولا معصية لله، ولا حكم لغير حكم الله، تطهير شامل لهذه البقاع المقدسة والبلاد الطاهرة، فيأتي المسلم من بلاد الإسلام وقد وقع فيها ما وقع من أمور كثيرة واختلالات عظيمة وانحرافات كبيرة يأتي إلى هذه البلاد فيرى قبلة الإسلام ورمز التوحيد، وجموع المسلمين وهي تلبي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) ثم يرى في هذه البقاع المقدسة شعائر الإسلام الظاهرة، فقبل أن يؤذن المؤذن تغلق المتاجر أبوابها؛ ليتوجهوا لأداء صلاتهم وفريضة ربهم، فهذا الذي ينبغي أن يراه في هذه البلاد من إعلاء وإعلان شريعة الله التي أمر بها إبراهيم الخليل عليه السلام، وجددها محمد صلى الله عليه وسلم في سلسلة بينهما من رسل الله وأنبيائه، وتأمل الآيات فإن فيها كثيراً من الدلالات {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، وفي الآيات: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28]. قال أهل التفسير: أي: من منافع الآخرة والدنيا، يأتون ليغسلوا قلوبهم، ويتطهروا من ذنوبهم، ويجددوا إيمانهم، ويؤكدوا عهدهم وعقدهم على التزام دين ربهم وإعلاء شريعته والتزام أوامره واقتفاء سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وفي الآيات: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]. قال أهل التفسير: ((ومن يعظم حرمات الله)) أي: يعظم ما حرم الله فيستعظم ارتكابه، ويجعل في نفسه من الخوف من ذلك والورع عنه والبعد ما يجعله أبعد ما يكون عن مقارفة الإثم أو الإقرار به، أو ارتكاب المعصية أو المخالفة، فضلاً عن المطالبة بشيء مخالف لشرع الله، أو إقامة وإقرار شيء مناقض لشرع الله عز وجل، وذلك ما ينبغي أن يكون خصيصةً لهذه البلاد التي يفد الناس إليها، يريدون أن يروا فيها الإسلام الكامل الذي قد تنتقص بعض صوره في أحوالهم وبيئاتهم. إننا ينبغي علينا أن ندرك أن قلوب المسلمين قد تعلقت بهذه البلاد، بالحرمين الشريفين، وبصبغة الإسلام الظاهرة، وراية شريعته المعلنة، وإلا فهل تظن أن الذين يقيمون في هذه البلاد لا يريدون إلا رزقها وأجرها؟ إن بعضاً منهم -وهم كثر ليسوا قلة- من أصحاب الشهادات العالية، وبعضهم كانوا يعملون أطباء ومهندسين في بلاد الشرق والغرب في أحسن وأرقى المستويات المعيشية، تركوا ذلك كله خلف ظهورهم، واسأل أحدهم: لم جئت إلى هذه البلاد؟ إنه يريد أن يتنفس هواءً نقياً طاهراً غير ملطخ برجس الآثام والمعاصي، وليس مضللاً بتشريع يناقض شريعة الله، إنهم يقولون لك: قد كبر أبناؤنا وبناتنا، ولا نريد أن يدخلوا في جحيم الاختلاط والتبرج والفسق والفجور. إنهم يقولون: نريد أن نفيء إلى ظلال نسمع فيها صوت الأذان يدوي خمس مرات ويهرع الناس ويتركون وراءهم دنياهم، ويتركون أعمالهم رسمية وأهلية ليعلنوا مظاهر الإسلام، وهم يرون في بعض بلادهم أن الجمعة تقام وإلى جوار أبواب المساجد من يشربون الدخان، ومن يسمرون ويلعبون ويضحكون، كأنه لا خطيب يسمعون صوته، ولا فريضة يؤدون واجبها، ولذلك نجد أن المسألة في هذا المعنى مهمة جداً.

دعوة إلى المحافظة على خصائص بلاد الحرمين الشريفين

دعوة إلى المحافظة على خصائص بلاد الحرمين الشريفين إن بلاد الحرمين الشريفين لها خصائص عظيمة هذه الخصائص متعلقة بوجود الحرمين الشريفين ووجود هذه الفريضة، هل يحج الناس إلى مكان آخر؟ فهل يحج المسلمون إلى بلد آخر؟ هل يقصدون موطناً آخر؟ هل في الدنيا كعبة غير التي في مكة؟ وهل هناك مثوىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير الذي في المدينة؟ وهل هناك بلاد من بلاد الإسلام ينبغي أن تكون أعظم صورة وأقرب صورة إلى الامتثال الكامل للإسلام من هذه البلاد؟ إن الناس قد فقدوا ذلك في بعض بلاد الإسلام والمسلمين، وكلنا يعلم ذلك، بل إن من بلاد المسلمين بلاداً فيها أحسن وأشهر مصانع الخمور في العالم، وإن من بلاد الإسلام بلاداً فيها تصاريح رسمية للبغاء والفسق والفجور، وتدفع فيها الضرائب للدولة، وإن في بلاد الإسلام والعرب بلاداً تمنع الحجاب للمرأة المسلمة في المدارس والمعاهد والكليات، بل في الشوارع والطرقات، أفليس من حق المسلمين على أقل تقدير أن يجدوا بلاداً هي موطن الإسلام طاهرةً خالصةً من تلك الأرجاس والأنجاس؟ أفليس هذا أمراً بدهياً؟ أفلا ترى معقل النصرانية في الفاتيكان خالصاً لها ولنوع الكنيسة التي تتبناها لا يشاركها فيها غيرها؟ وغير ذلك كثير. إننا -ونحن نتحدث عن هذه الأيام العظيمة، وعن هذه المناسك الجليلة- لا شك نشعر أنه حديث مؤلم محزن، فهذه المزايا العظيمة وهذه الخصائص المهمة التي هي مهوى أفئدة قلوب المسلمين من القادمين المرتحلين حجاجاً ومعتمرين، ومن المقيمين الذين - وإن ضاقت معايشهم وإن تعسرت أحوالهم- لا يزالون مرابطين يريدون أن يتنفسوا -كما قلت- هواءً نقياً، يريدون أن يروا كلمة الإسلام العالية. وليس حديثنا حديث مزايدة ورفع أصوات، وليس حديث مبالغة وتهويل، بل هو الأمر الحقيقي الذي إن لم ندرك خطورته يوشك أن نعض أصابع الندم في وقت لا ينفع فيه الندم، أفتبقى بلاد الإسلام الوحيدة على ما فيها من خير عظيم هدفاً لنقض هذا الخير ولنزع هذه الخصوصية، وللنداء المتكرر بأنه لا ينبغي لها أن تكون شاذةً عن العالم كله، ولا أن تكون مقيدةً -كما يزعمون- بهذه الأحكام الشرعية، وكلنا سمع الأنباء والأخبار التي تعلقت بشأن المرأة وحجابها ومشاركتها واختلاطها، وأهميتها -كما يقولون- في التنمية وغير ذلك. وكلنا عرف بعض هذه الأمور التي أرادوا منها -كما يصرح أصحابها- أن ينقضوا تلك الخصوصية، وأن يخترقوا تلك المعاقل المحصنة بحصون الإسلام المتينة، حتى وقع ما وقع من أمور فيها إظهار للمخالفة السافرة لهذه الأحكام الشرعية الظاهرة، ليس في دائرة ما قد يكون مختلفاً فيه عند الفقهاء اختلافاً معتبراً، بل فيما هو مجمع عليه أنه محرم ولا شك في حرمته من السفور بظهور الشعور وغيرها، ولذلك هذه المسائل ربما يقال: إن الوقوف عندها إنما هو مبالغة ليست في محلها. ولكني أقف قبل أن أسترسل وقفةً مع غيظة إيمانية نحمد الله عز وجل على بقائها ونسأله دوامها، وهي فيما كان من موقف المفتي العام الذي نبه وأنكر وشدد وحذر من الانفلات الذي يراد أن يمرر بسياسة الأمر الواقع في شأن المرأة المسلمة ونزع حجابها وإقرار اختلاطها، وزعمهم أن ذلك ليس فيه شيء من معارضة الإسلام، وكان مما ذكره حفظه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا أمرٌ يتعلق بحديثنا هذا، حيث قال: وإني إذ أنكر هذا الأمر أشد الإنكار وأبين حرمته وأحذر من عواقبه الوخيمة ليزداد ألمي من صدور مثل هذا التصرف المشين في بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية التي دأب ولاة الأمر فيها على القيام بالشرع لا يخافون في الله لومة لائم، وعلى حمل الرعية على ذلك، وهم -ولله الحمد- لا يزالون يسيرون على هذا الطريق المستقيم. ثم يستشهد بكلمة للملك الراحل عبد العزيز يقول فيها: أقبح ما هنالك من الأخلاق ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن، وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها. ويزيد المفتي العام كلمة رائعة من كلام ابن القيم ينقلها، وهي قوله: ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد الأمور العامة والخاصة.

المرأة بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي

المرأة بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي ووقفة هنا نذكر فيها من أرجف في هذه المسألة بقول أو فعل أو دفاع، ولست أنقل هنا آيات وأحاديث في شأن الحجاب وغيره من الأدلة، فنحن في غنية عن ذلك؛ لأن الأدلة الظاهرة الواضحة لا تحتاج إلى مثل هذا التفصيل، ودائرة الاختلاف الفقهي المعتبر واضحة معلومة، وما وراءها من المحرمات التي لا يشك في تحريمها ظاهرة، ولكني أنقل لك بلسان أعجمي غير مبين، ومن كلام أهل الكفر الذين ربما جعل بعضنا بعضهم قدوة لهم، وفي المسألة ذاتها. فهذا كاتب أمريكي شهير يكتب مقالة يقول فيها: على حائط مكتبي صورتان: الأولى: صورة امرأة مسلمة تلبس البرقع، وبجانبها صورة متسابقة جمال أمريكية لا تلبس شيئاً سوى ما يستر العورة المغلظة. ثم بدأ يتحدث عن الصورتين -حتى لا نشك في أنه مسلم أو أنه تأثر وتسمم فكره بما عند المسلمين من هذه الأفكار- يقول: لست خبيراً في شئون النساء المسلمات، وأحب الجمال النسائي كثيراً، مما لا يدعوني للدفاع عن البرقع هنا، لكني أدافع عن بعض من القيم التي يمثلها البرقع لي. يقول: بالنسبة لي يمثل البرقع تكريس المرأة نفسها لزوجها وعائلتها، هم فقط يرونها، وذلك تأكيد لخصوصيتها. تركيز المرأة ذات الصورة منصب على بيتها وعشها حيث يولد أطفالها وتتم تربيتهم، فهي الصانعة المحلية، هي الجذر الذي يبقي على الحياة، وروح العائلة، فهي تربي وتدرب أطفالها وتمد يد العون لزوجها، وتكون ملجأً له. إنه يرى في هذا بعضاً من وجوه الإيجابية في نظره، ويصرح بها، والعقلاء من أهل الإسلام يعرفون حقيقتها. يقول: إن هذا يمثل خصوصية العائلة، يمثل رعاية الزوج، يمثل تربية الأبناء. ويزداد الأمر إيضاحاً عندما ينتقل إلى الصورة الأخرى من بنت بلده وبنات جنسه اللائي يراهن صباح مساء في واقعه. يقول عن الأخرى: تختال عارية تقريباً أمام الملايين على شاشات التلفاز، وهي ملك للعامة، تسوق جسمها إلى المزايد الأعلى سعراً، وتبيع نفسها في المزاد العلني كل يوم. في أمريكا المقياس الثقافي لقيمة المرأة هو جاذبيتها، هي تشغل نفسها وتهلك بظهورها، تتعلم لتكون محبوبةً إذا مارست الجنس، تحرير المرأة خدعة من خدع النظام العالمي الجديد، خدعة قاسية أغوت النساء الأمريكيات، وخربت الحضارة الغربية. لو قال هذا مثلي أو مثلك -أخي القارئ- لوصف بأنه متحجر الفكر، إرهابي النظرة، ضيق الأفق، سقيم العقل، فكيف وهذا كاتب مشهور اسمه هنري ماكود. ويقول آخر في تحقيق أجراه في بعض مناطق السعودية في صحيفة سائرة شهيرة، جاء وعنده خلفياته عن الحجاب، وعن المرأة المكبلة الغبية التي تكون في البيت أدنى من الخادمة وأحقر من الحيوان كما يصور له ذلك الإعلام في بلده، جاء ليقول: لغز الحجاب الذي يثير حفيظة الغرب غير مطروح التساؤل هنا في السعودية، الحجاب لم يقف حائلاً أمام تطور المرأة هنا، فالسعوديات مؤهلات للتعامل مع أحدث برامج الحاسوب والإدارة ونظريات التعليم، بل إن القطاع الواسع من النساء السعوديات المتعلمات يدافعن عن الحجاب كمنظومة تحكم علاقة المرأة بالرجل في إطار أوسع. ثم يقول وتأمل معي كلام من ليس على ديننا- يقول: وبالرغم من انفصال التعليم بين الطلاب والطالبات فإن تعليم البنات يخرج آلاف الطالبات الحاصلات على شهادات جامعية، بل إن بعض النساء يدرن أعمالهن الخاصة بأنفسهن. ثم في تحقيقه يسأل امرأة أمريكية عاشت هنا عقداً طويلاً من الزمان، فتقول له: إن النظرة الغربية والتأطير السلبي الذي يحيط بحجاب المرأة المسلمة غير صحيح، أعتقد أن المرأة هنا تأخذ دورها الطبيعي، ودون ضجة أو تغييرات حادة شبيهة بتلك التي تحدث في الدول الغربية وأمريكا. ثم يسأل في تحقيقه بعض النساء المتعلمات المتحضرات من بنات بلدنا فتقول: نحن نعتقد أننا نعرف عنكم وعن الأخلاق المتفشية بينكم إلى الحد الذي يجعلني أقول: لو سألتني: هل أريد هذه الحرية الغربية فإن إجابتي ستكون في ثلاث كلمات: لا ثم لا ثم لا. إن الدين هو الذي يملي، هو الذي يضبط، وهو الذي يحكم تصرف الإنسان، ومن كان مخلصاً في دينه التزم الضبط الذي يحرك مساره. ثم يقول الكاتب بعد خلاصة تحقيقه: النساء هنا يشعرن أن النظام الأخلاقي الإسلامي يحفظ للمرأة كرامتها من التعرض للمشاهد التي تخدش الحياء. وينقل عن سيدة متعلمة قولها هنا: لا مظاهر فاحشة، ولا اختلاط بين المرأة الأجنبية والرجل إلا في أضيق نطاق، نحن سعيدات بهذا بلا شك. وهذا -كما قلت- نحن في غنىً عنه، لكنا نرسله لمن يقولون بغير هذا، ويوم أن تحدثت امرأة حاسرة عن شعرها أمام مجمع من الرجال وصف خطابها وكلامها بأنه خطاب تاريخي، ولست أدري أين هي العقول التي يقولون: إنها كبيرة؟! هل هذه التي تجعل كلمات من امرأة في حدث عارض هامشي خطاباً تاريخياً أو غير ذلك؟! وانظر -أيضاً- إلى خلاصة لكاتب كتب يقول: (كل مولود يولد على الفطرة. أي: والفطرة هي السليقة بطبيعتها، فلو ذهبت إلى الغابة ورأيت الحيوانات لرأيت الاختلاط فطرة طبيعية فيما بينها، ليس هناك غابة للإناث وغابة للذكور. ثم ينتقل ليقول: إن الإنسان كرمه الله عز وجل بالعقل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، فيختلف الإنسان عن الحيوان في أن الفطرة واحدة في الاختلاط، ولكن عقل الإنسان يجعله منضبطاً؛ لأن الإنسان حيوان بهيمي بطبيعته، فهو لذلك على الفطرة ينبغي أن يكون مختلطاً رجاله ونساؤه، ثم العقل بعد ذلك يضبط هذه الغرائز ويحكمها. وهذا القائل دكتور أكاديمي وأستاذ جامعي. ثم يقولون عنكم -معاشر المحبين للدين الملتزمين به الناطقين بحججه من الآيات والقرآن-: إن عقولكم صغيرة وإن حججكم واهية.

أراجيف حول المرأة في صحفنا المحلية والرد عليها

أراجيف حول المرأة في صحفنا المحلية والرد عليها أنتقل إلى ذكر كلمات محزنة مؤلمة منشورة في صحافتنا المحلية آنياً وقبل فترات مختلفة، وأذكر بأن لا ننسى ما قاله الأمريكان أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء والشعور الشقراء. يقول أحدهم في صحافتنا المحلية: علينا -إذاً- تحرير المرأة من كثير من القيود والعادات، وكثير منها ليس لها أصل شرعي. وكثير من هؤلاء صاروا من مفتي الديار، وأحدهم ربما لا يحسن تلاوة آيتين أو ثلاث من القرآن. ثم يقول: هل يجوز أن تبقى المرأة تابعة للرجل بعد أن حررها الإسلام من قيود الجاهلية، وأعطاها حق تطليق نفسها، وبذلك تكون العصمة في يدها؟ وهذا فقه حديث أظنه يضاف إلى ما سبق من فقه الأئمة الأربعة. ويقول آخر: التوسع في مجالات عمل المرأة يقتضي تغيير القيم الاجتماعية البائدة التي تسيطر على بعض العقول، وتغيير هذا يستدعي المجابهة والمواجهة. ويقول: إن الحساسية في التعامل مع المرأة في المجتمع السعودي لا يكون إلا بالمواجهة. أحسب أن في مثل هذه الكلمات ما يدلنا على خلل في الفهم، وعلى شهوة في النفوس، وعلى أمور كثيرة يحتاج هؤلاء فيها إلى مراجعة أنفسهم، ونحن قد تعودنا أن لا نستخدم الصراخ ورفع الصوت؛ فإن القضايا تحكم بميزان الشرع، وينظر إليها العقلاء بما هي عليه من واقعها وخطورتها. ثم أيضاً لسنا في مقام الاتهام لهذا أو ذاك، لا رمياً له بكفر والعياذ بالله، ولا وصفاً له بفسق دائم أو فجور عام، ولكننا نقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن فعلتم ما يخالفها قلنا لكم: ارتكبتم محرماً واقترفتم إثماً وتعديتم على دين الله عز وجل -وهو أعظم شيء عند كل مسلم ومؤمن- واعتديتم على نظام هذه البلاد وخصوصيتها التي قد فقدت في كثير من بلاد الإسلام، حتى أصبح في كثير من بلاد الإسلام المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فهل يراد أن نسير خلف هذه المسيرة التي قد أوقعت أصحابها في مهاو كثيرة وشرور عظيمة في بلاد الغرب وفي بلاد الإسلام كذلك؟! ثم نقول: إن هذا يناقض قول الأغلبية كلها، ولإن قلتم بالديمقراطية فخذوا رأي الناس، وخذوا رأي النساء المسلمات في هذه البلاد، كم ستجدون من هذه الأصوات؟ ستجدونها شاذة ناعقة تغرد في غير سربها، وتأتي بلحن نشاز يفسد ما عليه الغالبية العظمى من نساء الإسلام في هذه البلاد، نسأل الله عز وجل أن يحفظها ويسلمها، فلماذا تتركون الديمقراطية في هذا الشأن وتجعلون لآحاد من الناس أن يقولوا: إن هذا هو المطلوب وهذا هو المرغوب؟! إذاً لا بد أن ننتبه إلى أن هذه القضايا قد وقعت في بلاد أخرى بدأت بمثل ذلك أو أقل من ذلك، وانتهت إلى ما تعلمون وترون وتشاهدون وتعرفون بأنفسكم، سواءٌ أكان ذلك في ديار ترجعون إليها أم في بلاد تزورونها. نسأل الله عز وجل أن يجعل بلاد المسلمين طاهرةً مطهرةً مقدسةً خالصةً للإسلام وأهله، ليس فيها ما يناقض شرعه، لا في حكم ولا في نظام ولا في واقع ولا في طبيعة اجتماعية، ولا في أي جانب من جوانب الحياة. ونسأل الله عز وجل أن يحفظ بلاد الحرمين، وأن يجعلها مهوى أفئدة المؤمنين، وأن يحفظ ولاة أمرها لإقامة شرع الله عز وجل فيها، وأن يسخرهم للوقوف في وجه كل من يعارض ذلك أو يناقضه.

الفطرة تدعو إلى فصل النساء عن الرجال

الفطرة تدعو إلى فصل النساء عن الرجال لقد ابتدأت حديثي بفضيلة الأيام العشر، وذكر فريضة الحج، ولم يعكر صفو ذلك إلا ضرورة الحديث عن هذا الأمر وتعلقه بهذه البلاد مهوى أفئدة المسلمين، ومن هنا نقول لكثير من القائلين بهذا القول والمرجفين فيه، أو العاملين له والساعين إليه، أو المغررين به والمتأثرين به، نقول: إن جئتم إلى القرآن والسنة فلا تتعبوا أنفسكم؛ لأن أدلتها لا تسعفكم فيما تمضون إليه، بل هي على خلاف ما تريدون، وإن جئتم للواقع في بلاد كثيرة -مثل ما وقع من اختلال في بلادنا من قليل أو كثير- فإن المآسي والجرائم والمشكلات وتفكك الأسر وغير ذلك إنما هو من أثر هذا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، والعجيب العجيب أن واقع غير المسلمين يدلكم كذلك على هذا، وأن كثيراً من مواقف المسلمات من أهل الديار الغربية هنا وهناك من ذوات البشرة البيضاء والعيون الزرقاء والشعور الشقراء هن ملتزمات بحجابهن، وتدخل المحاكم لئلا تتصور في بطاقة بغير حجابها وتكسب الحكم؛ ونحن هذا هو نظامنا وهذا هو شأن بلادنا، ونقول: أنريد محاكم حتى ننقض ذلك؟ عجباً لهذه المخالفات والتناقضات العجيبة، ولو رأيت وقرأت وتابعت لرأيت هولاً عظيماً فيما يجره الاختلاط والسفور من البلايا والمصائب العظيمة، وإن كثيراً من غير المسلمات أيضاً يدعين إلى الحشمة وإلى التستر دون أن يطالبن بإسلام، وربما بعضهن لا يعرفن الإسلام، لكنهن يعرفن أن هذا الفجور جر عليهن الجرائم والعدوان، وجعلهن سلعة رخيصة، أما سمعت عن عارضة أزياء أسلمت وتحكي قصصاً فيما كان من شأن حياتها السابقة قبل إسلامها وبعده. أما عرفت أن الفلبين -وهي بلد لا تدين بالإسلام- قررت في بعض ولاياتها أن تخصص عربات خاصة في القطارات للنساء لا يركبها الرجال؟ لماذا هم معقدون؟! لماذا هم متخلفون؟! لست أدري هل هم مسلمون. قضايا كثيرة ينبغي أن تثار، وفي غيرها من البلاد كليات وجامعات يزداد عددها تفصل الطالبات عن الطلاب؛ لأن القضية قضية فطرة فوق كونها قضية دين وإسلام وإيمان. وأخيراً أؤكد الخطورة بأن هذا ديننا، فإن لم نغر على ديننا، وإن لم نتحرك، وإن لم نتألم، وإن لم نبك ونحزن لأجل هذا فكيف بنا بعد ذلك؟! وانتبه إلى أن الإدمان إنما هو من الكأس الأولى، وإلى أن الترخص في قليل يقود إلى كثير، وليست هذه مبالغات أكررها مرات ومرات؛ لأن الواقع يشهد بها، واقعنا وواقع غيرنا أظهر فيه الأمر وأشهر، فالله الله في هذه البلاد المقدسة، والله الله في الإيمان والإسلام الذي هو فريضة الله علينا ليس لنا فيه خيار {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، أفليس ما يقال ويطالب به مما هو مخالف للإجماع فيما حرم الله عز وجل في قضايا المرأة تقدماً بين يدي الله وبين يدي رسوله؟ أليس عدم استسلام وإيمان وقبول لحكم الله وشرعه؟ فليحذر هؤلاء على أنفسهم، وليخشوا على إيمانهم، وليلتفتوا إلى أمور قد يعضون هم قبل غيرهم أصابع الندم عليها. نسأل الله عز وجل أن يحفظ إيماننا وإسلامنا وبلادنا المقدسة وأحكامنا الشرعية وآدابنا الاجتماعية. اللهم! رد عنا كيد الكائدين، وفسق الفاسقين، وخبث الخبثاء، يا رب العالمين. اللهم احفظ نساءنا وجملهن بالحياء والحشمة والحجاب والزينة البعيدة عن الفتنة، اللهم! إنا نسألك أن تحفظ نساءنا من رجس الأرجاس ومن دنس الأدناس ومن هذه الدعوات الفاسقة الفاجرة. نسألك -اللهم- أن تحفظ مجتمعنا من فتنة النساء على غير منهج وشريعة الله عز وجل. نسألك اللهم أن تحفظ إيماننا، وأن تقوي إسلامنا، ونسألك -اللهم- أن تجعلنا من أهل الغيرة على دينك والحمية في نصرة شريعتك. نسألك -اللهم- أن تجعلنا في كل أحوالنا لا نرضى إلا بما ترضى، ولا نغضب إلا عما لا ترضى، يا رب العالمين. اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانةً صالحةً تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وأحسن ختامنا، واجعل عاقبتنا إلى خير يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الهجرة وأزمة الأمة

الهجرة وأزمة الأمة إن المتصفح لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته قبل الهجرة وأثناءها وبعدها ليعجب من ثبات أولئك الرجال على الدين، وتضحيتهم بالمال والنفس والأهل لأجله، بينما لو نظر إلى واقع الأمة اليوم لرأى البون شاسعاً والفرق واسعاً؛ لأن أولئك عزُّوا بالإيمان واليقين، أما المسلمون اليوم فقد ذلوا وهانوا حين تركوا دين ربهم، وطلبوا العزة والنصرة من عدوهم وهو الذي أذلهم وأهانهم.

صور من ثبات الصحابة قبل الهجرتين إلى الحبشة وفي أثنائها

صور من ثبات الصحابة قبل الهجرتين إلى الحبشة وفي أثنائها الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعم نواله، وعظم عطاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى جعل العزة في الإيمان، والقوة في الإسلام، والعاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين، له الحمد كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فدروس الهجرة وواقع الأمة موضوع مهم نحتاج إليه، ونحن ما زلنا في أفياء هذه الهجرة وظلالها، ولعلنا نقف وقفات سريعة عابرة فيما قبل الهجرة، وفي أثنائها، وفي أوائل ما بعدها لننظر في هذه الهجرة نظراً اعتبارياً يعيننا على فهم حقائق واقعنا، وعلى أن نبث في نفوسنا وقلوبنا من يقيننا وإيماننا ومن قدرتنا وقوتنا ما يزيل ذلك الوهن وينفي ذلك الضعف، ويمحو تلك الذلة التي تخيم على أمة الإسلام إلا من رحم الله. صورة من الثبات على الدين، عندما قبل المسلمون الأوائل دعوة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في الإسلام، وأيقنوا بالإيمان واجهوا عداء قريش وأذاها وصلفها وعنادها، فأي شيء كان منهم لنرى كيف كان أثر الدين في حياة المؤمنين وما مكانته عند المسلمين؟! كلنا يعلم تلك الرمضاء المحرقة في بطحاء مكة من وهج الشمس وهي تسطع على بلال تحت الصخر يعذب ويضطهد ويؤذى أشد الإيذاء وهو يهتف: (أحد أحد) لا يقبل أن يعطي الدنية في دينه، ولا أن يغير معتقده، ولا أن يساوم على إيمانه، وصهيب وما أدراك ما صهيب! وخباب وما أدراك ما خباب! بقي أثر السياط على ظهره إلى يوم وفاته بعد عقود من الزمان، كان يجلد حتى يختلط لحمه بجلده بدمه، حتى بلغ به الأمر مبلغاً، فجاء يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟) فيثبت الإيمان صلى الله عليه وسلم، ويرد الأمر إلى ضرورة القوة في الدين والثبات عليه حيث يقول: (إنه كان فيمن كان قبلكم من يوضع المنشار في مفرق رأسه فينشر حتى يفلق إلى نصفين لا يصده ذلك عن دينه، وإنه كان فيمن كان قبلكم من يمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه لا يصده ذلك عن دينه، والله ليسيرن الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). فنزل الإيمان راسخاً في القلوب، وسرى الإسلام مع الدماء في العروق، فثبت ذلك الإيمان، حتى جاءت الهجرة من بعد، ليست فراراً من المواجهة، ولا خروجاً من الثبات على الدين، ولكنها تأكيد لأولوية الدين في حياة المسلمين. جاءت هجرة الحبشة الأولى والثانية، ولسنا بصدد سرد السيرة، ولكننا نشير إلى الومضات التي تبين أنه لا دنية في الدين. لما جاء عمرو بن العاص -وكان إذ ذاك رسول قريش- ليرد المهاجرين إلى مكة، وجاء إلى النجاشي بما جاءه من الهدايا والتحف، فطلب النجاشي العادل الطرف الآخر ليستمع بعد أن أساء عمرو القول وشوه السمعة وبث الفتنة وأشاع الخلاف، فجاء جعفر بن أبي طالب مع بقية أصحابه المهاجرين، فأي صورة كانوا يمثلون؟ كانوا يمثلون صورة إيمان وإسلام مجتمِعِين متوحِدِين، ليس بينهم افتراق آراء، ولا تباين أهواء، ولا تعارض مصالح، جمعوا كلمتهم، واختاروا محدثهم، وأيقنوا بأنه لابد من أن يكون لهم موقفهم، فماذا قال جعفر رضي الله عنه؟ إنه كان يريد أن يحافظ على مصلحة المسلمين، وأن يبقي على وجودهم، وأن يوفر أمنهم، وأن ييسر رغد عيشهم، لكنه لا يمكن بحال من الأحوال هو ومن معه أن يكون ذلك كله على حساب إيمانهم، أو على حساب إسلامهم. فجعل حديثه إعلاناً بمساوئ الجاهلية وإظهاراً لمحاسن الإسلام، فقال رغم حرصه على أسلوب يحفظ به للمسلمين مصالحهم: أيها الملك -لم ينكر ملكه، ولم يغفل عن أن يعطيه قدره الذي فيه حق من جهة وفيه مراعاة مصلحة من جهة أخرى-! كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا -وأفاض في وصف النبي صلى الله عليه وسلم- نعلم نسبه وشرفه وعلو قدره وحسن خلقه، فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار وعدد من محاسن الإسلام ما عدد، ثم انظر إلى لغة السياسة الإسلامية الإيمانية! قال: فلما قهرونا -أي: كفار قريش- وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك. فهل في هذا نفاق سياسي؟! وهل في هذا دنية دينية؟! إنها حنكة مع إظهار الإسلام وإعلان دعوته وإظهار محاسنه، ومع الوقوف على المبدأ الحق دون ذوبان ولا تنصل من حقائقه ومبادئه، وكان في ذلك موقف حكيم، دفع عنهم الأذى ولم يوقعهم في حرج من إيمانهم وإسلامهم، فهل اكتفت الجاهلية ومبعوثها الداهية عمرو بن العاص -رضي الله عنه- الذي كان على شركه إذ ذاك؟ قال: والله لآتينهم الغداة بما يبيد خضراءهم. وغدا على النجاشي ليقول فتنة وتأليباً وتشويقاً واستعداء، فقال: إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. فهو يعلم عن النصرانية أنها تقول: عيسى هو الله، أو ابن الله، أو الروح القدس. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وجاءت هذه المعضلة والطامة المشكلة والمعجزة المحيرة المربكة لوجودهم وأمنهم وعيشهم ورغدهم ودينهم وعقيدتهم. فقال النجاشي: ما تقولون في عيسى؟ فأي شيء يقول جعفر؟ وأي بيان يظهر المسلمون؟ هل يبدلون أو يغيرون؟ هل يحافظون على دينهم أم على حياتهم يحافظون؟ قالها كلمات واضحة: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. لا دنية في الدين، لا مساومة في العقيدة، لا تغيير في الإيمان والإسلام، أي شيء جرى لهم؟! أي مصيبة حلت بهم؟! أي نكبة نزلت عليهم؟! لم يحصل من ذلك شيء؛ لأن من كان مع الله كان الله معه. قال النجاشي: والله ما عدا ما قلتم فيه عودي هذا. فنخرت البطارقة، قال: وإن نخرتم. ثم قال لهم: أنتم شيوم بأرضي. أي: أنتم سالمون لا يعتدي عليكم أحد؛ لأنكم أهل مبدأ وأهل يقين وأهل عزة وأهل وضوح، لا أهل ذوبان وذلة وترخص والتماس عرض من الدنيا بضياع الدين، نسأل الله عز وجل السلامة.

صور ونماذج من تضحية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الهجرة إلى المدينة

صور ونماذج من تضحية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الهجرة إلى المدينة جاءت الهجرة الكبرى، وجاء الإذن الرباني من الله جل وعلا للمصطفى صلى الله عليه وسلم بعد أن تهيأت الأسباب، وبعد أن أدى الجهد منه ومن أصحابه رضوان الله عليهم، فأي شيء كانت الهجرة؟! وأي درس كان أعظم فيها؟ إنه التضحية بكل شيء من أجل الدين، فكلنا يعلم هجرة أبي سلمة ومعه أم سلمة ومعهما ابنهما سلمة، يمضي تاركاً وراءه دنياه، ومخلفاً وراءه حياته الأولى ومراتع صباه وذكريات شبابه، يمضي إلى الله وإلى رسول الله وإلى مرضاة الله وإلى طاعة الله وإلى التزام دين الله وإلى إعلاء راية الله، فيأتي أهل زوجته فيقولون له: هذه نفسك قد غلبتنا عليها، أما ابنتنا فلا تمض معك. فأخذوا زوجته، فجاء بنو أسد أهله بعد أن مضى فقالوا: هذه زوجه ابنتكم أخذتموها، أما ابننا فنأخذه. فأُخذ الابن في جهة والأم في جهة، والأب يرى زوجته تؤسر وابنه يقهر، فهل يصده ذلك عن المضي إلى مرضاة الله؟ وهل يضعف يقينه بالله؟ وهل يستسلم لظروفه وما تجري به في هذه الحياة؟ كلا، بل يمضي إلى الله مهاجراً، ثم تمت له هجرته، وألحق الله به زوجه وابنه من بعد. وصهيب وما أدراك ما صهيب؟! ترك غنيمة الحياة الدنيا كلها، وثمرة جهده وتجارته وصناعته، يخرج مهاجراً فيحيطون به قائلين: جئتنا صعلوكاً لا مال لك وتخرج من بين أيدينا تاجراً ثرياً؟ فقال لهم: أرأيتم لو أعطيتكم مالي أكنتم تاركي؟! قالوا: نعم. قال: فإنه في مكان كذا وكذا. فتركوه وذهبوا بماله كله، بدنياه كلها، بأيامه ولياليه وجهده وشقاء عمره، فهل حزن لذلك؟ وهل مضى كسيف البال؟ أو رجع مشدوداً إلى المال؟ مضى إلى الله عز وجل، فاستقبله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (بخ بخ! ذاك مال رابح)، وتتنزل الآيات: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]، بيعة وصفقة رابحة. وعبد الله بن جحش وزوجه وأخوه عبد بن جحش -وكان أعمى ضريراً لا يرى، وكان شاعراً- وأهله كلهم خرجوا جميعاً، لم يبق منهم أحد، خلفوا وراءهم الديار، وقطعوا العلائق، وانبتوا عن الأرض ليسموا إلى ما هو أعظم وأعلى، وهو شأن الدين والإيمان واليقين. مر عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل فرأى عتبة هذه الديار وقد خلت من أهلها، والريح تخفق فيها يباباً، نظر إلى من تركوا الدنيا، إلى من تركوا الديار، نظر متأملاً متعجباً، ونظر كذلك بفطرة إنسانية حزيناً ثم قال: وكل دار وإن طالت سلامتها يوماً ستدركها النكباء والحوب فقال أبو جهل للعباس: ذاك ما فعل ابن أخيك، فرق جماعتنا وشتت شملنا. وذلك هو حال الطغاة المجرمين، يفعلون الجريمة، ثم ينسبون الإجرام والإرهاب إلى المظلومين ويتهمونهم به، كما نرى في واقعنا اليوم. أما أبو بكر -وما أدراك ما أبو بكر! - فقد جعل وقته وعمره وماله وثروته وأهله وبنيه وداره وأرضه وروحه ونفسه جعلها كلها تضحية في الهجرة، فقد حبس نفسه لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر، هيأ ماله، وعلف راحلتيه، وترك زوجه وأبناءه، وترك داره وأخذ كل ماله ومضى مخاطراً بروحه ونفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاء الموقف العظيم، ووقف المشركون على فم الغار، وإذا بـ أبي بكر شفقة ورحمة يقول: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا. فينطق اليقين والثبات والإيمان على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم-: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وتتنزل الآيات تصف هذه المواقف العظيمة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. فمن يحزن والله معه؟ ومن يضعف والله يعينه؟ ومن يذل والله يعزه؟ ومن يخاف والله يؤمنه؟ ذلك درس التضحية العظمى في هذه الهجرة، تضحية لأجل الدين تقول لنا: إن الأولوية في حياة المسلمين التضحية لأجل الدين. كان محمد صلى الله عليه وسلم في مكة سيد ساداتها وشريف أشرافها، وذا الذروة العليا في أنسابها، وقد جاءته قريش وقالوا له: إن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً حتى تكون أكثرنا مالاً. عرضوا عليه دنياهم كلها فركلها برجله، واستعلى عليها بإيمانه ويقينه وإسلامه عليه الصلاة والسلام، فلم تكن حياة المسلمين رغبة في الدنيا ولا سكوناً إليها ولا طلباً للسلامة، ولو كان ذلك كذلك لعاشوا مسالمين هانئين موادعين، وحسبهم في ذلك أن ينكفئوا إلى دورهم، أو أن يؤدوا شعائرهم، لكنه الإيمان والإسلام أولى الأولويات في حياة المسلمين. ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، لكن الهجرة أمر آخر، إنها إكراه رجل آمن في سربه ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه وأمواله والنجاة بشخصه فحسب، وإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو في نهايتها، لكنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش.

ذكر أعظم الدروس المستفادة من الهجرة النبوية

ذكر أعظم الدروس المستفادة من الهجرة النبوية قال أهل العلم: من دروس الهجرة درسان عظيمان. نذكرهما ولا نقف عندهما طويلاً؛ لأننا نريد من بعد أن نذكر بهذه الدروس كلها في محور واحد نربطه بواقعنا المؤلم المحزن المؤسف في كثير من أحواله. الدرس الأول: وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام: خلاصة هذا الدرس أن الدين وإقامة شعائره وإظهارها ورفع رايته هو الغاية العظمى والأولوية الكبرى التي عليها تدور حياة المسلمين، فلأجلها يتركون الأرض والديار، ولأجلها يقطعون الصلات والعلاقات، ولأجلها يبذلون الأموال والنفقات، ولأجلها يجودون بالأرواح في الساحات، ذلكم هو الدرس العظيم والفقه المستنبط من الهجرة. الدرس الثاني: وجوب نصرة المسلمين من بعضهم لبعض: وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناًَ. قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله: إذا كان في المسلمين أسرى أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى فينا عين تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك. هذا فقه من هذا الإمام ليس فقه استنباط ودليل، لكنه قبل ذلك فقه إيمان ويقين، فقه استعلاء ومعرفة للحقائق الإيمانية. وعندما مضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هل وضع رحاله ليرتاح؟! هل ترك أذى مكة لينعم برغد العيش في المدينة؟ هل خرج من بين الأعداء ليأنس بالحياة بين الأصحاب؟ أي شيء صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول لحظة وطئت أقدامه الشريفة مدينته المنورة؟ لقد عمد إلى بناء المسجد لربط المسلمين بالله، وعمد إلى المؤاخاة لربط العلائق بين المسلمين، وعمد إلى المعاهدة مع اليهود لتنظيم العلاقة مع غير المسلمين. فمن لقي بالمدينة؟ لقي اليهود عليهم لعائن الله. ولننظر إلى كلام علمائنا وأئمتنا لنعرف فقههم الإيماني والعلمي، فهذا ابن القيم رحمه الله يصف اليهود -عليهم لعائن الله- بقوله: هم الأمة الغضبية، أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء، وأكلة السحت وهو الربا والرشا، أخبث الأمم طوية، وأردأهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، وديدنهم العداء والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عنده النصيحة، بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم طوية. أليس هذا القول اليوم -في زعمهم- هو عين التعصب والعنصرية؟! أليس هذا هو جوهر العنف والإرهاب؟! فماذا يقول اليهود عمّا ليس في أقوال علمائهم، بل في المسطور في كتبهم بما حرفوه، إنهم يقولون: إن أمم الأرض كلها كلاب يجوز لليهود قتلها، وأموالهم حلال يجوز لهم سلبها، ونساؤهم حلال يجوز استمتاعهم بهن. ولا يجرؤ أحد أن يقول: إن ذلك إرهاب وعنف، فأي شيء جرى لأمة الإسلام؟ عند المواقف الأولى انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في بدر فغلا الحقد في قلوبهم، وجاشت البغضاء في نفوسهم، وظهرت أساليب الغدر والكذب والكيد والمكر على ألسنتهم، ثم تفاعل ذلك كله فظهر في تصرفاتهم. فهذه امرأة مسلمة دخلت إلى سوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ، وجاء بعض سفلة اليهود يريدونها أن تكشف وجهها فأبت بإيمانها، فعمدوا إلى طرف ثوبها فعقدوه بأعلاه، فلما قامت انكشفت عورتها، فجعلوا يتضاحكون ويستهزئون ويسخرون، موقف واحد في أمر عارض لامرأة واحدة، فأي شيء جرى؟ صاحت مستنجدة، فانتدب لها مسلم من غير عقد مؤتمر ولا مشاورات سياسية، ولا بحث في القوانين الدولية، بل مضى ينتصر لها، وعمد إلى الصائغ فقتله، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه، فأحاط بهم رسول صلى الله عليه وسلم وحاصرهم وأجلاهم من بعد، وأخذ من أموالهم ما أخذ عليه الصلاة والسلام، وخرجوا أذلة صاغرين، يوم كان المؤمنون كذلك عزوا وارتفعت رايتهم وعظمت هيبتهم وقويت شوكتهم، وكانت لهم في دنيا الناس كلمتهم، أفليست هذه دروساً مهمة؟ أفليست هذه صوراً حية؟ أفليست هذه صفحات ينبغي أن ننقشها على قلوبنا، وأن نجريها مع الدماء في عروقنا، وإلا بقينا أذلة صاغرين، وإلا بقينا تافهين مغيبين، وإلا بقينا تحت ذل وقهر الغلبة والظلم الذي يسلط على المسلمين. نسأل الله عز وجل أن يرفع وأن يكشف البلاء عن الأمة، وأن يعيدها إلى العزة، وأن يخلف عليها في دينها استمساكاً بكتاب الله واعتصاماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

دروس الهجرة وواقعنا المعاصر

دروس الهجرة وواقعنا المعاصر إن الهجرة تأكيد للزوم الثبات على الدين، وإعلان لإظهار أولوية الدين في حياة المسلمين, وبيان أن التضحية تكون بكل شيء لأجل إعلاء الدين، إذا فقهنا ذلك ونحن ننظر إلى واقعنا اليوم فماذا نرى فيه؟! نرى عجزاً عربياً، ووهناً إسلامياً، وخزياً سياسياً، وصورة مشوهة، وحقائق الإسلام غائبة، ومرتكزات العقيدة واهية، ولذلك نرى ما نرى من هذه العجائب والغرائب ونحن نعرف ونسمع أن هذه القوات الباغية الغازية الظالمة العادية قد أعلنت بما ذكرته بألسنتها أنها حرب صليبية، وأيدت وأكدت أنها تريد أن تكون لها الهيمنة العسكرية السياسية، وأظهرت أنها تريد أن تستولي على الموارد الاقتصادية، وبينت أنها تريد أن تهيمن على ما وراء ذلك من الأوضاع الاجتماعية والمناهج التعليمية والنظم السياسية والأوضاع كلها، وبعد ذلك نقول ما نقول، ونسمع ما نسمع من هذه العجائب التي لا شك أن فيها معارضة يقينية ظاهرة واضحة لثوابت الإيمان والإسلام، ولحقائق آيات القرآن، ولمعالم حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة. ولذلك نقول: إن الكفر وأهله أهل بغي وعدوان، فليس لهم في قلب مؤمن محبة ولا موالاة، وليس لهم في عمل مسلم نصرة ولا محاباة، وإلا أنكر ذلك الإيمان في قلبه، أو نقض الإسلام في حقيقته؛ لأن هذا نطقت به الآيات، وظهرت به حقائق الإسلام جلية واضحة. ثم من بعد ذلك نرى ما نرى من دروس الهجرة في هذا التلاحم الإيماني والتناصر الإسلامي والأخوة التي نصت عليها آيات القرآن، ونرى من وراء ذلك أن يكون الدين هو رائدنا وغايتنا الأولى، فمن كان مستمسكاً به ورافعاً له حقاً لا كذباً، وصدقاً لا ادعاءًَ، وواقعاً لا زوراً كان من أهل الدين مع أهل الدين، وكان من أهل النصر لأهل اليقين بإذن الله عز وجل، ولذلك ينبغي لنا أن نكون على بصيرة من أمرنا، وعلى بينة من حقائق ديننا، وأن نعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر في أقوال الأئمة من العلماء الصادقين الذين كانوا أهل إيمان ويقين قبل أن يكونوا أهل فقه في الدين. ومن بعد ذلك نتواصى بالثبات على ذلك، ونتناصر ونتعاهد على البقاء عليه، وعلى إشاعته فيما بيننا، وأن نلجأ إلى الله ونعتصم به، ونتضرع إليه، ونبتهل ونذل بين يديه، وكذلك نترك المعاصي والمحرمات، ونبتعد عن المنكرات والمخالفات، ولعل ذلك كله في جملته هو من درس الهجرة، فإن الهجرة هي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح عنه حيث قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) وإنما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم شعائر الدين، وليجد الأرض التي يعلي فيها راية الله سبحانه وتعالى، وعندما لم يجد ذلك في مكة التمسه في الطائف فلم يجده، وذهب أصحابه إلى الحبشة فلم يثبت دينهم، حتى يسر الله له هجرته المباركة، فأقام دولة الإسلام، وأنشأ وأقام العزة الإيمانية والوحدة الإسلامية، ثم جاءت هيبة هذا الدين وقوته، وظهرت من بعد ذلك -أيضاً- سماحته ورحمته بالأمم، فإن الإسلام كان أرحم بكل الأمم من أديانها ومن حكامها، وكذبوا وخدعوا عندما يقولون غير ذلك. نسأل الله أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مستعصمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا لآثار السلف الصالح مقتفين. اللهم! لا تغير علينا ديننا, ولا تسلب منا إيماننا، اللهم! لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. اللهم! إنا نسألك الثبات على الدين، والاستمساك بالحق، والعصمة من الفتنة يا رب العالمين. اللهم! اجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، اللهم! اجعل في قلوبنا محبة المؤمنين ونصرتهم يا رب العالمين، وازرع في قلوبنا بغض الكافرين والبراءة منهم يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا أوثق بما عندك مما في أيدينا، واجعلنا -اللهم- أفقر الفقراء إليك وأغنى الأغنياء بك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة برحمتك يا رب العالمين. اللهم! لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، ولا تجعل من المؤمنين للكافرين ظهيراً يا رب العالمين. اللهم! ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، وأعنا -اللهم- على طاعتك ومرضاتك، ووفقنا للصالحات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، واجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وتوفنا عليها وابعثنا عليها يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك لأمة الإسلام والمسلمين وحدة من بعد فرقة، وعزة من بعد ذلة، وأمناً من بعد خوف يا رب العالمين. اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والأسرى والمسجونين والمحاصرين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله -اللهم- فتنة لهم في الدين. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء رايتك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، اللهم! ارفع رايتهم، اللهم! قو شوكتهم، اللهم! سدد رميتهم، اللهم! أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، اللهم! أنزل عليهم نصرك المبين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! عليك بالبغاة الطغاة، اللهم! عليك بالمعتدين الغاصبين، اللهم! اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلل في صفوفهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم! رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم يا رب العالمين، اللهم! اكشف البلاء عن الأمة، وارفع -اللهم- الغمة يا رب العالمين، اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ومكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبعك رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! ارحمنا برحمتك، وتولنا برعايتك، وأحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين. وصل اللهم وسلّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحقيقة الواعظة

الحقيقة الواعظة لو استشعر العبد كل ما سيحصل له عند قدومه على الله سبحانه من حساب وعقاب، واستشعر الحقيقة الواعظة التي أرقت مضاجع المؤمنين، وأذابت أكباد العارفين، لما تجرأ على الله وحرماته فانتهكها، ولما أدمن على المعاصي واستمرأها، ولما تلذذ بالشهوات المحرمة وجاهر بها، ولكننا في جهل وغفلة عما سيقع، وكأننا لسنا المعنيين، ولا بذلك مخاطبين.

بعض صور الفساد التي نعيشها اليوم

بعض صور الفساد التي نعيشها اليوم الحمد لله الغفور التواب، ذي الطول شديد العقاب، وعد الطائعين بالثواب، وتوعد العاصين بالعقاب، أحمده سبحانه وتعالى ملء الأرض والسماوات، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال في كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].

نشر الصور الفاضحة والدعوة إلى محاربة الشريعة

نشر الصور الفاضحة والدعوة إلى محاربة الشريعة أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! صور كثيرة نراها ولا تسرنا، ونمر بها ونقع فيها أحياناً، ونلتفت إلى وجود الخلل فيها، وكثيراً ما نفكر في أننا استنفذنا كثيراً من وسائل إصلاحها، وأنها لم تبلغ في نفوس فاعليها مبلغها، ولم تؤثر في قلوبهم التأثير المنشود. وسؤالنا: عندما نرى صور الفساد والإفساد فما الذي نملكه إزاءها؟ قد نعجز أن نغيرها بأيدينا، وليست لنا سلطة ولا سطوة، ولا يرهبنا أولئك المفسدون، بل قد يكون حالهم من التمكن والظهور ما يرهبون به من يريد أن ينكر عليهم، ولذلك قد نرى أن كلامنا لهم، واعتراضنا عليهم، وتعريضنا بهم ليس بالغاً مبلغه. وهنا نفكر كثيراً، وقد جال بخاطري مثل هذا وأنا أفكر في الصور الكثيرة التي تتوالى علينا وتؤلمنا وتحزننا، فماذا عسى أن نملك، وما الدواء الذي يمكن أن نعرضه لعل فيه شفاء تلك القلوب المريضة، والنفوس السقيمة؟ ما الحقيقة التي إذا عرضناها قد تبدد ظلمات الطريق، وتصوب المسار؟ جال بخاطري ذلك وأنا أرى ذلك الإعلان الذي ضم صورة لفتاة حاسرة عن شعرها ووجهها، مصافحة لأجنبي عنها، وفوق هذه الصورة آيات من كتاب الله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء:7] ونص حديث لرسول الله: (إنما النساء شقائق الرجال) وتعريض يفهمه كثير من الناس كذلك بشريعة الله عندما يقال: إننا نلتزم في هذا شريعة الله، وإننا نقدم من خلال هذه الصورة للفتاة نموذجاً للتربية الإسلامية على منهج الله. جال ذلك بخاطري وأنا أرى المسابقات المتكررة وأقرأ عنها كثيراً، وترون إعلاناتها، وهي مسابقات الفنون والنجوم، ويقدم فيها من بلاد الحرمين على وجه الخصوص فتيات سافرات غير محجبات، يغنين الحب والغرام والهيام، ويتراقصن ويتمايلن على أنغام الموسيقى، وأرى وأسمع ذلك، وترونه وتسمعونه ربما وهو يتكاثر، وكأن أسلحتنا في المقاومة لم تجد نفعاً، فما عسى أن نقول في مقامنا هذا؟!

الذنب المتعدي أعظم إثما

الذنب المتعدي أعظم إثماً إن خطابنا لأنفسنا أولاً ولجميع المسلمين ثانياً، وهو خطاب يوجه خصوصاً لكل من أسرف على نفسه في الفساد والإفساد، ذلك أن المفسد في ذات نفسه أمره وضرره قد لا يتعداه إلى غيره، غير أن الذي يروج الفساد وينشره ويبثه، ويموله ويصرف عليه، ويحسنه ويزينه؛ ذاك من يتحمل وزر غيره، وينال من السيئات كل ما قد يكون من أفعال من يتأثرون به لأن: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً) قالها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وقال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205]، سعى في الأرض ليفسد فيها، ما عسى أن نملك له؟! ما عسى أن نواجهه به؟! تلك هي القضية.

التذكير بالموت والرجوع إلى الله

التذكير بالموت والرجوع إلى الله

مرجع الإنسان إلى الله الذي يحصي عليه أعماله

مرجع الإنسان إلى الله الذي يحصي عليه أعماله وهنا أقول: إن حديثنا اليوم عن الحقيقة الواعظة التي تعظ كل قلب فيه بقية خير، وفيه أثر إيمان، وفيه حقيقة إسلام، الحقيقة التي لا ينبغي أن يغفل عنها أحد مطلقاً، وهي أن كل حي إلى موت وأن مردنا إلى الله، وأن الوقوف بين يدي الله، وأن الحساب فيه شهود من الجلود والأيدي والأرجل: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]. هذه الحقيقة نسوقها لأنفسنا أولاً، ولأولئك الذين أسرفوا على أنفسهم وعلى غيرهم في الفساد ثانياً: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:60 - 62]. هل هناك أبلغ من حقائق القرآن؟ هذه حقيقة واضحة: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]. كل يوم تقبض نفسك وتموت موتة صغرى بنومك، فمن الذي يبعثك؟ من الذي يحييك؟ من الذي يرد إليك روحك فتنطلق؟ (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، يعلم ما تلفظ من كلمة، وما تنظر من نظرة، وما يخطر في عقلك من خطرة، وما يجول في قلبك من نية، وما تتحرك إليه من خطوة، وما تمد إليه يدك في حركة أو سكنة، (ويعلم ما جرحتم بالنهار)، ما النتيجة؟ سيئول الأمر إليه، وتقف وحيداً بين يديه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، ماذا ستقول يا من يروج الفساد والإفساد في ذلك الموقف العظيم؟! ماذا ستقول يا من تنفق الأموال والملايين لأجل نشر الفسق والفجور والعري والفساد؟! ما الذي ستقوله؟ قد تقول لنا أقوالاً، قد تكتب لنا آيات، قد تمتنع عنا بما لديك من قوة أو سلطان، فماذا أنت فاعل في ذلك الموقف؟

الله يمهل الظالم ولا يهمله

الله يمهل الظالم ولا يهمله تأملوا هذه الآيات: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:61] لا يقع شيء في ملكه إلا بقدره، يمهل ولا يهمل، فكثيراً ما يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفتله كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. ثم تأمل: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61]، أي: ملائكة تسجل كل صغيرة وكبيرة، وكل كلمة وحركة، وتأتي يوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، واسمع التصوير القرآني الفريد المؤثر: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]. بكى محمد بن كعب، فقيل: ما يبكيك؟ قال: لا أدري ما صعد اليوم من عملي! وقال الحسن البصري رحمه الله: أدركت أقواماً يدعون ما لا بأس به مخافة أن يكون فيه بأس، ولقد أدركت أقواماً يأخذون ما فيه بأس رجاء ألا يكون فيه بأس.

المجاهرة بالمعاصي عتو على الله

المجاهرة بالمعاصي عتو على الله ولقد رأينا من يفعل المحرم الذي لا خلاف في حرمته، وذلك قد يكون، لكنه اليوم يطلب أن يعلن المحرم على رءوس الأشهاد، يبيت يستره ربه بالليل، ويهتك ستر الله عليه في النهار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) أي: الذين يجاهرون بالمعصية. ثم يزيد فوق ذلك أن يستخدم الآيات والأحاديث، وأن يروج الفساد بإنفاق المال الذي آتاه الله إياه! أنا وأنت كلنا مقصرون مفرطون، وقد نرتكب المحرمات، والمعاصي، وكلنا ذاك الرجل، إلا أن الأمر يختلف عندما نقر بها، وعندما نصر عليها ونسهلها، وندعو إليها، ونرغب فيها، وننفق عليها، ونسعى إلى أن يقبلها الناس، تلك قضية أخرى، وتلك مصيبة عظمى، فاروق الأمة عمر بن الخطاب قال كلمات موجزة لا تزيد عن ثلاث: (كفى بالموت واعظاً) فانتفع الناس بها، وذلك لما كانت القلوب حية، وكانت النفوس نقية، وكانت العقول ذكية، وكان الإيمان في القلوب حياً، واليقين في النفوس راسخاً، والنور في البصائر مرشداً. أما اليوم وقد قست القلوب، وتكدرت النفوس، وضلت العقول؛ فكأن الموعظة لم تعد تجدي نفعاً، ولم تعد تبين حقاً، نقل القرطبي في تفسيره في موضع هذه الآية عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: ومن الناس من يعيش شقياً جاهل القلب غافل اليقظة فإذا كان ذا وفاء ورأي حذر الموت واتقى الحفظة إنما الناس راحل ومقيم فالذي بان للمقيم عظة (الذي بان) أي: ذهب وولى ومات وانتهى. ذلكم قاله أهل الإيمان، ورددوه: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10]. قال السعدي في تفسيره: أما لو علموا حلم الله عليهم، وعفوه ورحمته بهم وهم يبارزونه بالشرك والكفران، ويجترئون على عظمته بالإفك والبهتان، وهو يعافيهم ويرزقهم؛ لانجذبت دواعيهم إلى معرفته، وذهلت عقولهم في حبه، ولمقتوا أنفسهم أشد المقت، حيث انقادوا لداعي الشيطان الموجب للخزي والخسران، ولكنهم قوم لا يعلمون! ولكنهم قوم لا يعلمون!

وعظ المجاهرين بالوقوف بين يدي الله

وعظ المجاهرين بالوقوف بين يدي الله الحقيقة الواعظة: أن الموعد الله، وأن المرد إلى الله، وأن الوقوف بين يدي الله ليس هناك من شفيع ولا حميم يطاع، ليس هناك مجال لشيء يخفى، ليس هناك جزء من المسئولية يستثنى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24] على كل صغيرة وكبيرة، كل شاردة وواردة، كل سر وإعلان، كل خفي وظاهر بين يدي الله عز وجل مكشوف، فلا تخفى عليه خافية: {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:30]. هنالك تختبر وتعلم كل نفس ما أسلفت من الأعمال والأقوال، كل ذلك مبسوط منشور: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] كل ذلك ظاهر: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] حتى النوايا الخفية كلها جلية ظاهرة بين يدي الله سبحانه وتعالى. فما أنا قائل وما أنت قائل؟! وما غيرنا من كل حي قائل في تلك المواقف العصيبة العظيمة؟ تدنو الشمس من رءوس الخلائق حتى تكون قدر ميل، فيعرقون فيبلغ عرق بعضهم إلى عقبيه، وبعضهم إلى ركبتيه، وبعضهم إلى حقويه، وبعضهم إلى كتفيه، وبعضهم يلجمه العرق إلجاماً، من لك بظل تستظل به ما لم يكن عمل صالح، من لك بمحام يدافع عنك {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]؟ ورد (أن النبي صلى الله عليه وسلم نام في حجر عائشة، فذكرت الآخرة فبكت، وجرى دمعها على خدها، وسقطت دمعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ وقال: ما لك يا عائشة؟! قالت: ذكرت الآخرة، فسألت: هل تسألون عن أهليكم يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما في ثلاثة مواقف فلا يسأل أحد عن أحد أبداً، وذكر عليه الصلاة والسلام: يوم توزن الموازين، ويوم توزع الكتب، ويوم يجوز الناس على الصراط). تفكر أيها المؤمن في ذلك! رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر حبيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بذلك، فما الذي نملكه لكل أحد يخالف؟! لا نملك إلا هذه الحقيقة لعلها تقع في قلبه موقعاً، لعلها تحيي في نفسه مواتاً، لعلها تنير في فكره وفي مسيره طريقاً، لعلها تقوم معوجاً، وتكمل نقصاً، وتستدرك فائتاً، نسأل الله لنا ولأمة الإسلام الهداية والتقوى، والعودة إلى طريقه ومرضاته.

اعملوا فسيرى الله عملكم

اعملوا فسيرى الله عملكم وقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105]، ليس ثمة شيء إلا عمل تقدمه بين يديك، ونية خالصة، وموافقة لشرعه، ومتابعة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما إن كان غير ذلك فالأمر خطير، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: قال مجاهد: هذا وعيد ليس إخباراً. فليس مجرد إخبار بأننا ستعرض أعمالنا، ونرد إلى ربنا، ولكنه وعيد من الله تعالى للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] وكما قال تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10]. قال ابن كثير: وقد يظهر الله ذلك للناس في الدنيا، وذكر أن الإمام أحمد روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة؛ لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان)، فكيف بمن يظهر ولا يخفي، ويعلن ولا يسر، ويفتخر ولا يستتر، نسأل الله عز وجل السلامة!

استنكار الصالحين على المجاهرين

استنكار الصالحين على المجاهرين قال المراغي في تفسيره: وسيرى الله عملكم خيراً كان أو شراً، فيجب عليكم أن تراقبوه في أعمالكم، وتتذكروا أنه عليم بمقاصدكم ونياتكم، فجدير بمن يؤمن به أن يتقيه في السر والعلن، ويقف عند حدود شرعه، ثم ذكر أمراً مهماً، قال: وفي الآية إيماء إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان تلي مرضاة الله ورسوله. وفي حديث أنس رضي الله عنه: (أنه مرت جنازة فأثنى الصحابة على صاحبها خيراً فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرت جنازة فذكروا صاحبها بشر فقال: وجبت، فقال عمر: يا رسول الله! ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار؛ أنتم شهداء الله في الأرض)، عندما ينكر المؤمنون، ويغضب الصالحون يقولون لنا: ما لكم ولنا؟ ما قيمة قولكم، ما الذي يزنه رأيكم؟ ولا ندعي لأنفسنا شيئاً غير أن أهل الإيمان والإسلام والصلاح، إن انقبضت نفوسهم، وأنكرت قلوبهم، ونطقت ألسنتهم؛ فإنما ينكرون منكراً أنكره الله جل وعلا، وحذر منه، ونهى عنه رسول صلى الله عليه وسلم، فقولهم إلى ذلك القول مستند، ومنه مستمد. ومن هنا ذكر ابن القيم عن العلماء أنهم موقعون عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا يأبه بقول المؤمنين المسلمين الغيورين إذا أنكروا إذا احتجوا إذا أدوا سخطهم، كيف يهدر ذلك كله؟ حتى في عصر الديمقراطية التي يزعمونها، أليس الرأي للأكثرية؟! أليس القول للأغلبية؟! فما بالها تداس بالأقدام؟! وما بال أصواتها تكمم بالأكمام؟! ما بالنا ونحن كأنما خرست ألسنتنا وعميت أبصارنا، فلا ننطق بكلمة ولا نخط اعتراضاً، ولا نبدي انزعاجاً؛ لماذا وذلك صورة ودليل على حياة الإيمان والإسلام في القلوب من جهة، وهو كذلك إعلان وإظهار لشعائر الإسلام عموماً وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خصوصاً، وهو كذلك تكثير للخير، وتغليب لسواده، وتقليل للشر وحصر له في موطنه حتى لا يستشري ويعم، نسأل الله عز وجل السلامة.

أين يمضي بنا الفساق لو سرنا وراءهم

أين يمضي بنا الفساق لو سرنا وراءهم لو تأملنا فإن هذه الحقيقة الواعظة قوية في تأثيرها، جاءت في كثير من المواقف فأدت دورها، وأثرت تأثيراً عظيماً حتى فيمن كان من الطغاة أو المتجبرين، أو كان من الأثرياء المسرفين، فإن حقيقة نهاية الحياة، وإن المرد إلى الله حقيقة عظيمة لو أننا نوقن بها حقاً، ونحسن عرضها والتذكير بها لوجدنا خيراً كثيراً. ألسنا نسمع ونقرأ قصة مؤمن آل فرعون وهو مؤمن واحد في بيئة كافرة، ومع طاغية جبار، كان يجابههم بهذه الحقيقة ويذكرهم بها: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:42]. قولوا ذلك للناس، قولوا لكل من يعصي: إنما ندعوك لخيرك، إنما نكلمك لمصلحتك، إنما يحرقنا حبنا لك، وغيرتنا عليك، وإشفاقنا عليك، ورغبتنا في أن نسلم من سخط الله عز وجل وغضبه! ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، إلى أين تريدون أن تقودوننا إذا سرنا وراء الفسقة والفجرة فضلاً عن الكفرة الذين لا يؤمنون بالله عز وجل؟! أين سنمضي إذا سرنا وراء مذاهب الأرض من شرق أو غرب؟ أين سنمضي وراء السلوكيات المنحلة المنحرفة، والفنون الماجنة الداعرة؟! ما الذي سنصل إليه؟! هل سنحقق قوة لأمتنا؟ هل سنتقدم بين الأمم في العلم؟ هل سنقود الأمم بقوة سواعدنا وأسلحتنا، أم أننا سنهز الوسط، ونجيد الرقص، ونكثر الغناء؟ حتى أصبح لكل عدد من مواطني العرب في بلاده عدد كاف من المغنين أو المغنيات أو الراقصين والراقصات. لابد أن نقول: ما لنا ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، إلى المصير الذي لا فائدة فيه ولا نفع في الدنيا، ولا يكون موضع أمل بنجاة ورحمة في الآخرة، نسأل الله من فضله. ثم يمضي قائلاً: ((لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)) [غافر:43] هذه حقائق القرآن الواعظة المذكرة، نسأل الله عز وجل أن تنزل من قلوبنا منزلاً في الادكار والاعتبار، ومنزل القبول والعمل بها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

من لوازم التقوى الغضب لحرمات الله

من لوازم التقوى الغضب لحرمات الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى أن تتغير القلوب والنفوس امتعاضاً وغيرة وحمية لكل ما لا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون الإيمان حياً في القلوب من خلال هذه الغيرة الإيمانية، والحمية الإسلامية، وإلا يكن ذلك، فربما يأتي علينا زمان نتفقد فيه قلوبنا فلا نجد فيها من الإيمان إلا نزراً يسيراً؛ لأنه قد قال صلى الله عليه وسلم: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) ولأنه قال: (وذلك أضعف الإيمان). ولئن رضينا وسكتنا، فإن أموراً من الضرر تعود علينا، وإن صوراً من الخطر تحل بنا، أعظمها موت القلوب، وذهاب الغيرة، وعدم استشعار إنكار المنكر، والتباس الحقائق؛ حتى يعود المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، نسأل الله عز وجل السلامة. ولعل ختامنا دائماً وأبداً، وتذكرينا أولاً وآخراً، وما نريد أن نعيه ونعقله في كل وقت وآن، هو كلام الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى:44 - 47]. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا، وأخلاقنا وأمننا، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وأن يكتبنا في جنده المجاهدين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الشر والفساد، وانشر رحمتك على العباد، وانشر في الأمة علم الجهاد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأرد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنهم طغوا وبغوا، وتجبروا وتكبروا، وأذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأحصهم عدداً، واقتلتهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين، والمبعدين والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله خلفة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء، اللهم يا أرحم الراحمين احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها، وسعة رزقها برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون!

الحرب بين الحقائق والمبادئ والمواقف

الحرب بين الحقائق والمبادئ والمواقف الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة، ومن ذلك الصراع بين الإسلام والكفر؛ فإن الكفرة أعداء الإسلام يحاربون الإسلام ليلاً ونهاراً، ويكيدون له بشتى الوسائل والطرق، ويستخدمون معه أخبث الأساليب وأشنعها، ويستخدمون فيه كل أنواع الأسلحة، لذا كان لزاماً على جميع المسلمين الوقوف في وجه هذا العدوان الغاشم، والتيقظ لمخططاته وأهدافه، والحذر من الوقوع في مكره وشباكه.

دور المنبر

دور المنبر الحمد لله لا إله غيره ولا رب سواه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، ومن سأله أعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى على كل حال وفي كل آنٍ، حمداً كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، المرسل إلى الناس أجمعين، المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: "الحرب بين الحقائق والمبادئ والمواقف" موضوع يهمنا جميعاً الحديث عنه؛ إذ اليوم لا حديث للناس إلا هذه الحرب الجائرة الظالمة، فهي شاغلة وسائل الإعلام، وهي موضوع حديث الناس في مجتمعاتهم. ومنبر الجمعة لا يغيب عن ذلك، مع أنه أنزه من الألاعيب السياسية، وأصدق من الأضاليل الإعلامية، وأرفع من المساومات الاقتصادية المالية، وأشمل من النظرات الجزئية، وأحكم من الاندفاعات العاطفية، وأقرب إلى النصوص الشرعية، وألصق بالمصالح المرعية، فحديثه في مثل هذه الأمور ينبغي أن يحوز هذه الصفات المهمة، وألا تكون رغبات الناس في حديث عاطفي، أو اندفاع وارتفاع صوتي، وكأنما نحن مرة أخرى لا نعي الدروس، ولا نفقه الحقائق، ولا نعتصم بالمبادئ.

حقائق حرب الغرب على العراق

حقائق حرب الغرب على العراق ونبدأ بالحقائق؛ لأن معرفتها أساس فيما يبنى عليها من الأحكام، وخاصة أن الصور مضطربة، وأنها مزيفة، وأنها مغلفة بأطنان من الأكاذيب والأحابيل السياسية والمغالطات الإعلامية. فحرب أمريكا وبريطانية ومن لف لفهما على العراق حقيقتها هذه الجوانب التي نوجزها، والحديث والمقام يقصر عن الاستيعاب: فهذه الحرب فيها مخالفة قانونية، وقد أصموا آذاننا بالشرعية الدولية والقوانين العالمية والمرجعية الدولية وغير ذلك، فأين هي اليوم من أفعالهم التي يعلم الجميع أنهم قد فشلوا في أن يجدوا لها مظلة أو نسباً أو سبباً أو رابطاً بمجلس الأمن أو بمواده المختلفة أو غير ذلك؟! ويزعمون كذلك أن هناك دولاً عديدة تؤيد هذا المسار، وتقتنع به، وتشارك فيه، ولم نسمع أسماءها، ولم نعرف من أحوال من هو معروف منها إلا أنه سار بعصا الإرهاب الأمريكي، أو فرحاً بالعطاء الموعود من أمريكا. ثم نرى بعد ذلك ما يزيفونه ويغيرونه ويلبسونه على الناس جميعاً، وحتى على شعوبهم وجنودهم كذلك؛ فهذا جنرال أمريكي يخاطب جنوده فيقول: إن أسماءكم ستكتب بالذهب في لائحة الذين ساعدوا العراق على العودة إلى الأمم المتحدة!

مخالفة الدول المحاربة للعراق وأفغانستان للقوانين والأعراف الدولية

مخالفة الدول المحاربة للعراق وأفغانستان للقوانين والأعراف الدولية وأظننا لا نحتاج إلى إفاضة في الأحاديث التي ربما تسمعونها في المقالات والمداولات والمحاورات السياسية، ولكنني أنتقل في ومضات سريعة إلى عهد قريب وليس بعيداً؛ لنرى أن هذه الدول التي ترغي اليوم وتزبد في هذه الناحية القانونية، أنها قد خالفتها مراراً وتكراراً. وما قالوه عن حق النقض -وهو حق من حقوق الظلم والبغي- قد استخدمته أمريكا أكثر دولة في العالم وأعلى نسبة لصالح دولة البغي والكيان الصهيوني الغاصب في أرض الإسلام، حتى مجرد ألفاظ فيها إدانات وكلمات كان الفيتو لها بالمرصاد، حتى في لجان تقصي الحقائق أو البحث عن الوقائع كان لها ذلك الفيتو بالمرصاد. وقريباً من ذلك أيضاً نرى الصيغة القانونية العجيبة الفريدة التي ليس لها مثيل في العالم، وذلك في الأسرى الذين أسرتهم أمريكا ولم توجه لهم تهمة، ولم ترفع لهم حقاً قانونياً، ولم تشرع لهم حقاً إنسانياً، ثم تقول بعد ذلك: إنها ترعى القوانين، وإنها إنما تهدف إلى مثل هذه الرعاية! وهذه الحرب جريمة إنسانية؛ لأن الذي سمع أو قرأ بعضاً مما يقولونه عن الأسلحة وآثارها الإنسانية والبشرية وآثارها على البيئة والأرض والجو والبحر، يعلم أن طغيان القوم وإجرامهم بالغ مبلغاً لا تتصوره كثير من العقول، ولا تكاد تدركه، وقد قال ذلك خبراء منهم بألسنتهم، ومن قوادهم ومشاركيهم في هذه الجوانب العسكرية، وأن الأرض تتأثر بما يكون من هذه الأسلحة التي فيها جوانب الإشعاعات، ليس لمدة عشرات ولا مئات ولا آلاف من السنين، بل أكثر من ذلك! ويقولون بعد هذا كما يصرح هذا الجنرال الأمريكي: نقوم بكل جهد لكي نضمن أمرين: أقل دمار جماعي شامل! وهذا من فضل الله أن تعبيراتهم تدينهم، فهو يقول: أقل دمار جماعي شامل. إذاً: ثمة دمار جماعي شامل، وهو يهدف إلى تقليله! ثم يقول: الأمر الثاني: أن يقدر العراقيون على الدخول في عصبة الأمم متى استطاعوا، ويقول: نريد تفادي وقوع خسائر بشرية، وليس عندنا شيء ضد شعب العراق، مشكلتنا مع النظام. ولا نناقش هذا، ولا ندخل في تكذيبه، ولكننا نقول: استدعوا الأحداث القريبة، ما الذي جرى في أفغانستان؟! وأين ذهبت القنابل الذكية، ألم تقع فوق رءوس الناس وهم في الاحتفالات والأعراس؟! ألم تقع الأخطاء حتى قتلوا من جنود الحلفاء ما قتلوا؟! ألم تكن كمية القنابل التي ألقيت باعترافهم أكثر مما ألقي في الحرب العالمية الأولى والثانية؟! ثم بعد ذلك كلنا سمع وعلم ماذا جرى من استخدام لأسلحة اليورانيوم في بلاد المسلمين في البوسنة والهرسك، وحرب الخليج التي سبقت، وما زال آثار الأمراض والتشويهات الخلقية حتى في بعض جنودهم فضلاً عن أبناء العراق، والأجنة المشوهة والأطفال المشوهين من آثار هذه الجرائم العظيمة للدولة العظيمة في طغيانها وبغيها.

الغرب والديمقراطية المزعومة

الغرب والديمقراطية المزعومة

مخالفة الغرب للديمقراطية

مخالفة الغرب للديمقراطية ثم هي أيضاً حرب مخالفة للديمقراطية، فالديمقراطية -الدين الجديد الذين يبشرون به- ما هو؟! وأين هي الديمقراطية من هذه الجموع الحاشدة، ليس في بلاد العرب، لكنها في بلاد أوروبا وأمريكا، وهي تعارض وتقول: إن الديمقراطية التي هي رأي الشعب قد سحقت ومحقت وأحرقت على أصوات هدير المدافع وقصفها ونيرانها! ونعلم أن بعض الدول المشاركة نسبة المعارضين فيها من الشعب تزيد على (85%)، وبالأمس القريب تعتقل الشرطة الأمريكية المتظاهرين ضد الحرب، وأعجب منه أنهم اعتقلوا اعتقالاً احتياطياً -كما يزعمون- المتقدمين لطلبات اللجوء في أمريكا؛ لأنهم يشكلون خطراً، فكان من ضمن الاحتياطات اعتقالهم، وقد قال المسئول: إنه اعتقال مؤقت ومعقول وحذر! ولا نعلق على ذلك. ونعود مرة أخرى إلى أفغانستان، فأين ديمقراطيتها، وأين عمرانها بعد خرابها، وأين مساعداتها الاقتصادية، وأين رخاؤها ورغد عيشها، وأين انضباط أمنها واستتباب أحوالها؟! إن العاقل يفكر في واقع منظور مرئي ومسموع، وقد أهين رئيسها في معقل البلد الذي جاءت به، حتى اضطروا إلى الاعتذار له؛ لأنه عومل معاملة مهينة مشينة، ثم ما الذي صنعوه؟! وما الذي يصنع هناك؟! لم نسمع إلا عن جمعيات نسائية، وصوالين تجميل نسائية، ومسرح للثقافة كما يقولون، وغير ذلك من المجلات وغيرها، وهذا هو الذي يقدمونه نموذجاً لما يريدونه!

حقيقة الديمقراطية التي يريدها الغرب في الإسلام

حقيقة الديمقراطية التي يريدها الغرب في الإسلام ونحن نقول: ماذا يريدون بالديمقراطية التي يبشرون بها؟! إنها حرية المرأة وفق نظامهم الانحلالي، وذلك من أولى وأول مقاصدهم، وحرية الأديان على مذهبهم الكفري؛ وماذا وراء ذلك؟! وراءه إصلاح سياسي على قاعدة أساسية، وهي: عدم تحكيم الشريعة الإسلامية. ومع ذلك قد يكون في قولهم بعض صدق، لكنه حق يراد به باطل، فقد يستغلون ظلماً واقعاً وأوضاعاً مختلة في بلاد عربية وإسلامية، لكن ما عندهم أشد وقوعاً، وأعظم وأفظع جرماً، وأبعد وأعمق خطراً، حتى ندرك الأمور، فلا يعني إقرار ما هم عليه من ذلك أن غيره صالح صلاحاً كاملاً، لكنه لابد من جمع الأمر من جوانبه كلها.

حقيقة الديمقراطية التي يريدها الغرب في الإسلام

حقيقة الديمقراطية التي يريدها الغرب في الإسلام

بغي الغرب واستعلاؤهم وعدوانهم على بقية الأمم والشعوب

بغي الغرب واستعلاؤهم وعدوانهم على بقية الأمم والشعوب والكنيسة الرئيسة قد منعت الحرب وعارضتها ووصفتها بأبشع الأوصاف، فلا ندري على أي شيء يحاربون، فلا دينهم رجعوا إليه، ولا قوانينهم التزموا بها، ولا إنسانيتهم راعوها، ولا ديمقراطيتهم طبقوها، ثم بعد ذلك يقولون: إن هذا حق مشروع، وإنه عمل ممدوح، وإنها غاية ستكون وردية اللون وضيئة القسمات مشرقة الأضواء، فمن يصدق هذا؟! لا أحد يصدق هذا إلا إذا صدقنا أن الذئب يرعى الغنم ويسوسها ويغذيها ويحميها، ويمنعها مما يضرها ويؤذيها. وهي كذلك صفقة تجارية واضحة المعالم لمزيد من عقود الأسلحة ومزيد من عقود الإنشاء وغير ذلك. وهي الإرهاب بعينه، وهي الاستغفال بعينه، ولكن ذلك له أيضاً جذور فكرية، فإن القوم في تكوينهم الفكري والعقلي وحضارتهم المعاصرة قائمون على الاستعلاء، والنظرة الدونية للأمم والشعوب، وإن روجوا غير ذلك فإن حقيقة ساستهم وقيادتهم كذلك. فهذا الرئيس الأمريكي السابق روز فيلت يقول: بالحرب فقط يمكننا اكتساب الرجولة اللازمة للفوز في الصراع الذي يسود الحياة! ويقول: إن أعظم فضائل الإنسان تولد في الحرب، وإن السلام الدائم يؤدي إلى الترهل والفساد والانحلال. إنهم منشئون على هذا البغي والعدوان والهيمنة والسيطرة والتحكم، وذلك في فكرهم، وما صدام الحضارات وصراعها عنا ببعيد، يقول جنرال عسكري بالأمس القريب: سيكون عنصر المفاجأة في هذه الحرب من خلال الهجوم بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، من حيث السرعة والدقة، والخطط التي لدينا الآن لم ير أحد مثلها قط. إنه غرور وعنجهية ونوع من التعالي الذي يدلنا على حقيقة المنطلقات الفكرية للحرب. وكما قلت: إن مقامنا ليس مقام تحليل لهذه المعاني، ولكنه بيان للحقائق، فكل الذي يقال في أكثره هراء وكذب، لا نكذبه نحن بأقوالنا، ولا ندحضه بآيات كتاب ربنا ولا بأحاديث رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهي التي تقيم الحق والعدل والإنسانية وكل المعاني الفاضلة على الوجه الصحيح، ولكننا نقولها بقوانينهم وبشرائعهم، ونقولها من واقعهم القريب قبل البعيد، وما أدراك ما البعيد؟! فمن الذي دمر تلك المدن في اليابان بالقنابل الذرية؟! ومن الذي قتل في حربه ثلاثة ملايين في أرض فيتنام؟! ومن ومن إلى غير ذلك.

حقيقة حزب البعث

حقيقة حزب البعث وهذه أمور وحقائق تقابلها حقائق أخرى لابد من معرفتها؛ فإنه لابد من نظرة شاملة، نعم، إنه عدوان إرهابي ليس له أساس قانوني، لكنه في الوقت نفسه، وفي المقابل لا نحتاج إلى أن نغفل عن أن البعث في عقائده كفر صريح، وأن قيادته قد كان لها تاريخ قريب غير بعيد في ذات الجرائم قتلاً وتدميراً واضطهاداً وتعذيباً ونفياً وتشريداً. فلسنا إذ ندافع عن العراق ندافع عن هذا البعث بكفره، ولا عن أولئك المجرمين ببغيهم وعدوانهم، لكن الآخر أخطر من الأول، وكلاهما وبال، ولكننا ندرك الحقائق من الواقع، وليس من قضايا العاطفة، وليس كذلك من الغوغائية التي تقول: إننا نفدي فلاناً أو فلاناً، ولا فداء إلا للدين، ولا إزهاق للأرواح إلا لإعلاء راية الله وصد عدوان المعتدين على حرمات الله عز وجل، وذلك أمر واضح، ويقوله كثيرون من أبناء العراق، ونعرفه نحن ويعرفه جميع الناس مما جرى في الفترات الماضية والعقود المتعاقبة، كما نعلم جميعاً بما لا يحتاج إلى مزيد من التفصيل.

المقارنة بين خطر الديمقراطية الغربية والقومية العربية

المقارنة بين خطر الديمقراطية الغربية والقومية العربية فإذا عرفنا هذه الحقائق اعتدلت النظرات، ولم نكن إما مع هؤلاء أو مع هؤلاء، بل نحن مع المبدأ والحق الذي ينبغي أن يكون، ولابد أن نعرف المفاسد والمصالح وأوزانها ومقاديرها. فإن ديمقراطية أمريكا مسح لأصول ديننا من جذورها، وتغيير لمقومات مجتمعاتنا من أساسها، وانحراف تريد أن تشيعه كما هو شائع عندها وعند مثيلاتها، فهم يريدون دوماً أن يكون في بلادنا مثل الذي في بلادهم مما يزعمونه من حرية المرأة، وحرية الأديان، وانفتاح الفكر والمناهج؛ ليهدموا كل ما هو أصيل في حقوقنا. وأستحضرها هنا مقالات جاهلية وإسلامية تبين لنا أموراً ينبغي معرفتها: في وقعة حنين كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض مسلمة الفتح، وكان في أول المعركة ما كان من جولة كانت على المسلمين، وإذا بـ صفوان بن أمية وهو حديث عهد بإسلام يضطرب أمره، ويأتيه من يقول: بطل سحر محمد، فلنكن مع القوم الغالبين، فقال وهو إذ ذاك في أول إسلامه: لئن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من ثقيف أو هوازن. أي: إن حكم محمد بالنسبة لهم وهو من قريش، أولى عندهم من أن يكون المتسلط عليهم أجنبياً أنأى وأبعد. وقالها ابن عباد يوم جاء ابن تاشفين في أواخر عهد الأندلس لينصر أهل الإسلام، فقيل له: يا ابن عباد! إن انتصر ابن تاشفين أخذ ملكك، فقال: لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل! ولا بد أن يعي المسلمون مواقفهم، وأن يزنوا كلماتهم، وأن يعرفوا مبادئهم، فـ المعتمد بن عباد يقول: لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل. وحسبك بها كلمة قالها في ظرف عصيب؛ وكان ملكه مهدداً، وكانت دولته إلى زوال، لكنه آثر أهل الإسلام والإيمان، وآثر أن يكون ذيلاً في الحق على أن يكون رأساً في الباطل. هذه بعض الحقائق.

ذكر بعض المبادئ الثابتة التي تراعى في النظر إلى الأوضاع الحربية

ذكر بعض المبادئ الثابتة التي تراعى في النظر إلى الأوضاع الحربية

وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة

وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة أما المبادئ فقد أسلفنا الحديث عنها مراراً وتكراراً فيما سبق؛ لتكون واضحة في العقول والأذهان، راسخة في النفوس والقلوب، حاكمة للمواقف والمنطلقات، فلعلنا نستحضر ذلك: وأول ذلك وأهمه: أن مرجعنا الأساسي وشريعتنا العظمى هي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست من قوانين الأمم المتحدة، ولا من أنظمة أمريكا ولا غيرها.

وجوب مراعاة مصالح الأمة الإسلامية

وجوب مراعاة مصالح الأمة الإسلامية الأمر الثاني: أن المصالح الشرعية للأمة الإسلامية هي المرعية، وليس المصالح دنيوية، أو مصالح جزئية؛ فإن ذلك كما نعلم قد ضيع كثيراً من مقدرات المسلمين، ومن كلمتهم وهيبتهم، ومن قدرتهم على استقلاليتهم وبناء ذاتيتهم، ولابد أن نعرف ذلك وأن نعيه.

أهمية النظر إلى مآلات الأمور

أهمية النظر إلى مآلات الأمور والأمر الثالث: النظرة المستقبلية مع عدم إغفال الواقعية الآنية. فإن النظر إلى أمر قريب يفقد الناس معرفة الحقائق الكبرى، والجرائم العظمى، والمؤامرات الخطيرة، فإن هذه القضية كما نسمع وتسمعون لا تتعلق بتحرير شعب العراق، فمن يحرره؟! ولأجل ماذا؟! هل هو لأجل سواد عيونهم، ولأجل الإخلاص المتناهي لهم، ولأجل الحرقة على أوضاعهم والرعاية لمصالحهم؟! لا يصدق ذلك أحد، بل ما وراء ذلك من تسلط وهيمنة وتغلغل وما يتبعه مما لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى مداه.

شمولية القرآن الكريم

شمولية القرآن الكريم إن حديث المبادئ يطول ويطول، ونحن مرجعنا كتاب الله، قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهما غنية وكفاية، كما قال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وكما قال سلمان: (وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء، حتى إنه ما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه خبراً). وقد أسلفنا القول عن ثبات وحفظ القرآن الكريم وحفظ السنة في مجملها، وثبات ذلك في التطبيق العملي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما بالنا لا نرجع ولا نعتصم بذلك، ونلتفت إليه، ونجعله معولنا الأساسي؟! وندرك حينئذ به كل هذه الحقائق، ونكشف به كل تلك الدقائق، ونستطيع -بإذن الله عز وجل- مع الاعتقاد الإيماني واليقيني والالتجاء إلى الله عز وجل، أن يكون لنا حال أفضل ومواقف أظهر وأوضح وأثبت وأصح بإذن الله عز وجل.

بعض المواقف والأحكام التي تجب معرفتها

بعض المواقف والأحكام التي تجب معرفتها وإلى بعض المواقف التي لابد من معرفتها، ويكثر الحديث عنها: هذا عدوان سافر واضح من أمة لا تدين دين الإسلام، وفي صورة لا يشك عاقل أن فيها ضرراً على الإسلام وأهله، ولا يقولن لك أحد غير ذلك، ولا يخبرنك أحد بغيره، كما اضطربت بعض المواقف وتراجعت، وتغيرت وتبدلت، وقالت: إن الحملات الصليبية فترة تاريخية، ولا يشك عاقل أنها كانت لمصالح سياسية، ولم تكن حرباً دينية، وقال من قال في تراجعاته ومحاوراته: إنه ليس هناك فرق بين الشرائع السماوية في رعايتها للسلام وحرصها عليها. ونحن نعرف ما عند اليهود عليهم لعائن الله في توراتهم المحرفة وتلمودهم الحاقد من دعوة صريحة للعنصرية والهمجية والعدوانية، ثم يقال غير هذا ويروج فيه الأحاديث والأقاويل والبيانات، وهذا من المخاطر الكبيرة. وثمة أمر آخر لابد من معرفته، ولعلي أقف هذه الوقفات الشرعية مع هذه المواقف فيما إذا غزيت هذه البلاد الإسلامية، فهي إسلامية وإن قلنا: إن البعث في عقائده كفر؛ فإن البلد بلد إسلام؛ فتحه المسلمون، ورووه بدمائهم، وكان وقفاً إسلامياً، وجل أهله مسلمون، وكثير منهم -وخاصة في الآونة الأخيرة- رجعوا إلى الله عز وجل، فلا يقال: إنها بلد لا يصدق فيها أنها بلد إسلام فلا تنطبق عليها تلك الأحكام.

حكم مظاهرة ومعاونة أعداء الإسلام

حكم مظاهرة ومعاونة أعداء الإسلام ثم أمر المظاهرة لأعداء الإسلام والمعاونة والمشاركة لهم ليس فيها شيء من شبهة ولا قليل من خلاف، فإن النصوص فيها واضحة، وإن أقوال الأئمة والعلماء فيها قاطعة، فمظاهرة ومناصرة غير المسلمين على المسلمين لا تتفق مع أحكام الدين، بل هي مناقضة له، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. وقال جل وعلا: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، فمن أعان على أن يكون للكافرين على المؤمنين سبيل فإنه يخالف حكم الله ومراد الله الذي اقتضاه والذي أراده سبحانه وتعالى، وهذا أمر مهم لابد من معرفته كذلك، وهو الذي نحمد الله سبحانه وتعالى عليه ألا يكون لنا في ذلك لا اعتقاد ولا ميل أو هوىً نفسي فضلاً عن مشاركة عملية. نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من الشرور والآثام، وأن يصرف عنا الفتن والمحن، وأن يرد الذين كفروا بغيظهم من غير أن ينالوا خيراً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يدرأ وأن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يعيذنا من شرورهم. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب جهاد الكفار الغزاة

وجوب جهاد الكفار الغزاة ومن الأحكام إذا غزي المسلمون في عقر دارهم: أنه يجب عليهم الجهاد لصد هذا العدو، كما ذكر العلماء قاطبة في أقوالهم سرداً وإقراراً للإجماع، ومن ذلك قول ابن عبد البر رحمه الله: والفرض في الجهاد ينقسم إلى قسمين: أحدهما: يتعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار؛ وذلك بأن يحل العدو بدار الإسلام محارباً لهم؛ فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الديار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، وشباباً وشيوخاً، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر. وقال النووي رحمه الله: وإن دخلوا بلدة يتعين على أهلها -أي: الجهاد- وأما غير أهل تلك الناحية فمن كان منهم على دون مسافة القصر فهو كبعضهم، حتى إذا لم يكن في أهل البلدة كفاية وجب على هؤلاء أن يسيروا إليهم مع مراعاة قدرتهم على الدفع. وكما قالوا في الاستشهاد بذلك بقول الله تبارك وتعالى في القرب والجوار: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:120]، وكما في قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123].

خدمة الحرب على العراق لليهود الغاصبين في أرض فلسطين

خدمة الحرب على العراق لليهود الغاصبين في أرض فلسطين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه. وإن هذه الحرب الدائرة والأعمال الجائرة ينبغي ألا تغفلنا أو تنسينا صلتها الأساسية في انبعاثها وأسبابها وفي مآلاتهها وغاياتها بقضية الإسلام والمسلمين الأولى في أرض فلسطين، فلا يخفى على كل عاقل أن هذا كله في مصلحة اليهود الغاصبين، بل إنه من أساسه وانبعاثه إنما كان لأجلهم ولأجل تمكينهم، ولأجل بقائهم على قوتهم ومعهم الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، وهم الذين يرفضون التوقيع على الاتفاقيات، ولم يصل إليهم أحد من التفتيش، ولم يذكر أحد أنهم يحتاجون إلى تفتيش. وهذه الحرب من أهدافها أن ينشغل الناس، ويمكن لليهود من انتهاز الفرصة وقيامهم بأمور قد يكون فيها تهجير وضرب وترحيل لإخواننا المسلمين من أرض فلسطين، وغير ذلك مما هو معلوم. ونحن نعلم أنه خلال شهر قتل اليهود سبعة وثمانين من إخواننا في فلسطين ولا أحد يتكلم، ولا أحد يذكر شيئاً، ونعرف ما عندهم من الجرائم والمخالفات للقوانين الدولية ولقرارات مجالس الأمن وغير ذلك، وما التمكن من العراق إلا طريق لزيادة تمكينهم، وزيادة إضعاف قوة العرب والمسلمين، والإرهاب والخلخلة لأوضاع المجتمعات والدول العربية والإسلامية بما يجعلها مضطربة حائرة، أو خائفة مترددة، أو مستسلمة ذليلة، حتى لا يبقى هناك أي قدرة على مواجهة أولئك اليهود الغاصبين، ويكون ذلك مزيداً من القوة والتمكين لهم على حساب الإسلام والمسلمين. ولو أننا تمعنا لعرفنا الروابط، ولرأيناها واضحة جلية، ولذلك نحن نعلم قول الله عز وجل: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [المائدة:51]، وقد بين الله عز وجل لنا أنهم: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، ونحن نعلم قول الله جل وعلا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، كل ذلك مما ينبغي ألا نغفل عنه ولا ننساه، ولا نغفل عما يجري هناك، فإنه مركز الدائرة وقطب الرحا ونقطة الالتقاء والصراع الحقيقي، وكل الطرق تؤدي إلى روما كما يقولون، وأزعم أن كل القضايا التي تحاك ضد المسلمين لها من قريب أو بعيد صلة بالمواجهة الحقيقية الشاملة بين الإسلام وأعدائه في أرض الإسراء.

توجيهات مهمة للمسلمين في ظروف الحرب

توجيهات مهمة للمسلمين في ظروف الحرب

وجوب الصدق في التوبة والعودة إلى الله عز وجل

وجوب الصدق في التوبة والعودة إلى الله عز وجل والأمر الثالث: الصدق في التوبة والأصالة في العودة والأوبة: لقد مضت أحداث سابقة وقال الناس: إن فيها عظة وعبرة، ورجعوا إلى الله في الحرب الماضية، وامتلأت المساجد، وراجع الناس أنفسهم، ثم كرت الأيام وعادت حليمة لعادتها القديمة كما يقولون، ورجعت وسائل الإعلام في أكثر البلاد إلى نشر الفسق والفجور واللهو واللعب والطرب، وستأتي هذه الكارثة ونرى شيئاً من التحول، ثم ماذا من بعد؟! نعود مرة أخرى، إننا إن لم نصدق الله عز وجل في توبتنا، وإن لم نخلص في أوبتنا، وإن لم نصحح مسارنا، فإن سنة الله لا تحابي أحداً، وإن سنة الله ماضية، وقد مضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقي ما لقي من العناء والأذى بما وقع من عشيرته وبما وقع له في حياته عليه الصلاة والسلام مما مضت به سنة الله الماضية، وهذا أمر مهم. ولعلنا قد ذكرنا من قبل إعلان التوبة، وإظهار الاستقامة، وصحة الأخوة، وكثرة الالتجاء والتضرع بالدعاء لله عز وجل، وليس هذا موضوع حديثنا.

أهمية الحذر من الإرجافات والشائعات

أهمية الحذر من الإرجافات والشائعات والأمر الرابع وهو المهم: الحذر من الإرجاف وترويج الشائعات، وكثرة تداول الرؤى والمنامات: إن ديننا لا يبنى على الرؤى والمنامات، وإسلامنا ليس فيه هذا التعلق ببعض الأخبار من الغيبيات، بل إسلامنا كما قال الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، إسلامنا دين عمل ينبني على أدلة واضحة من كتاب الله وسنة رسول الله. والشائعات تكثر، والمرجفون يزدادون في مثل هذه الفتن والمحن، فأخرسوا كل مرجف، واقطعوا دابر كل شائعة، واجعلوا الأمور توفر الأمن والأمان والثقة والتآلف والتآزر فيما بين الأمة. ويعجب المرء من هذا الإرجاف الذي تمارسه بعض الصحف الذائعة الشائعة وهي تملأ الصفحات بصور الأسلحة وقدرتها المدمرة، ولا ترى إلا الإعلانات التي تقول: في يومين وفي ثلاثة، وحتى لو صح ذلك فما الفائدة في أن ننشره في الناس حتى يستسلموا، فلندعهم حتى يستبشروا، وحتى يترقبوا الفرج من عدو الإسلام والمسلمين، وينتظروا الأمن والرخاء والحرية والحقوق الإنسانية من هذا الذي سردنا بعض تاريخه قريباً غير بعيد! واستمعوا إلى هذه العناوين في بعض هذه الصحف ولا أريد أن أطيل عليكم: هذا عنوان يقول: (أول ضحايا الحرب العراقية توقف دوري كرة السلة في بلد معين؛ لأنه يوجد في هذه الفرق في تلك البلاد لاعبون أمريكيون اضطروا للسفر بناءً على نصائح سفارتهم)! هذه أول الضحايا، انظروا كيف نرى أو يرى إعلامنا، أو يذكر هذا في خضم هذه الأزمة القاتلة! ومسابقة ملكة الجمال في بلد عربي تتواصل، ودعاياتها تملأ الصحف، وفيها صور النساء وأسماؤهن، وفوق هذه الدعايات ترى أسماء الأسلحة، وترى عناوين الحرب، وذلك لا يقدمنا ولا يجعلنا نطمئن إلى أحوالنا، إذا كان هذا ما قد نميل إليه أو ما قد يروج بيننا. نسأل الله السلامة، وأن يصرف الفتنة، وأن يعصم من المحنة. اللهم إنا نسألك أن تنزل بأعداء الإسلام والمسلمين سخطك، وأن تحل بهم نقمتك، وأن تشد عليهم وطأتك. اللهم فرق جموعهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم في أنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، اللهم إنهم قد أفسدوا في البلاد، اللهم فصب عليهم سوط عذاب، إنك يا ربنا لهم بالمرصاد. اللهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار؛ يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ اكشف البلاء عن الأمة، وارفع اللهم الغمة. اللهم قد قلَّ المعين الناصر، وكثر العدو القاهر، وليس لها من دونك كاشفة، اللهم اكشف البلاء، وارفع العناء. اللهم اللطف بإخواننا المسلمين فيما تجري به المقادير، اللهم اللطف بإخواننا المسلمين في أرض فلسطين وفي العراق وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم إنهم ضعفاء فقوهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم، اللهم إنهم مستضعفون فانصرهم، يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين. اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً فاجعل دائرة السوء عليه، اللهم عليك بهم أجمعين، لا ترفع اللهم لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أقر أعيينا بهزيمتهم، واشف صدورنا بذلهم، اللهم أذهب ريحهم، وأفشل خططهم، وأبطل كيدهم، واحبط مكرهم، واجعلهم اللهم عبرة للمعتبرين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وسلط عليهم جنداً من جندك يا رب العالمين! اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم معتصمين، ولآثار السلف الصالح مقتدين. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وألف اللهم بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك. اللهم استخدمنا في نصرة دينك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واجعلنا ساعين في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين. اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، واصرف عنا الشرور والسيئات ما مضى منها وما هو آتٍ، واغفر اللهم لنا ما سلف منا وما هو آتٍ، وضاعف اللهم لنا الحسنات. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إن قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين يا رب العالمين. اللهم اجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ثبت خطواتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، ووحد كلمتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم ألف بين قلوبهم، واقذف في قلوبهم الإيمان واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، برحمتك وعزتك يا رب العالمين! اللهم لطفك ورحمتك وعونك لعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى والمحاصرين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم مشردون فسكنهم، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، والشيوخ الركع، والأطفال الرضع، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

وجوب الوحدة والحذر من الفرقة

وجوب الوحدة والحذر من الفرقة الأمر الثاني: الحرص على الوحدة والائتلاف، والحذر من الفرقة والاختلاف: فنحن أحوج ما نكون إذا اجتمعنا وائتلفنا على هذه الجمل الثابتة حتى نتوحد ونجتمع وننسى خلافاتنا، بما فيها الاختلافات والآراء الاجتهادية الفقهية في المسائل العلمية وفي المواقف العملية التي ينبغي أن تذوب؛ لأننا في مواجهة خطر أكبر وعداء أشمل وصورة ماحقة تستهدف الإسلام وأهله من الجذور ومن الأسس، فلا ينبغي أن نبدع هذا أو نفسق هذا وخاصة في مثل هذه الظروف، بل لابد أن يكون التكاتف والتلاحم بين الجميع رعاة ورعية وحكاماً ومحكومين، وإن وجد خطأ فثمة ما هو أعظم من هذا الخطأ، وإن وجد تقصير فثمة ما هو أخطر من هذا التقصير. ولابد أن نكون على وعي وبصيرة، وعلى موازنة بين المصالح والمفاسد، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس المسلم من يعرف الشر من الخير، ولكنه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين. فإن الشرور كثيرة، والخير صوره متنوعة، قد تأخذ أدنى شيء منه وتترك ما هو أعظم، وقد تأخذ من الشر ما هو أعظم وتترك ما قد يحتمل مما هو أدنى، فينبغي أن نعرف ذلك، وأن نحرص أيها الأحبة الكرام! في زمن الفتن والمحن على تراص الصفوف وتلاحمها؛ فإن أعظم هدية تقدم لأعدائنا أن نفرق صفوفنا، وأن نزيد تقطيع أوصالنا، فيأكلوننا لقمة سائغة، كما قال العربي من قبل: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض! إنهم لا يفرقون بين مسلم في هذه البلاد ومسلم في بلاد الشام أو في بلاد اليمن، إنه لم يعد ثمة تفريق بين من يسمون متطرفين أو إرهابيين، وبين مسلم قد يصفونه بأنه مسالم موادع، فالكل في شرعتهم من حيث الحقيقة سواء، وإن بدءوا بهذا فالثاني من بعده، وإن بدءوا بتلك الديار فربما تكون تلك بعدها، فينبغي ألا نجعل فرصة لأعدائنا بمزيد من التشتت والتفرق والتشرذم والتنابز بالألقاب، بل احرصوا على هذه الألفة وهذه المحبة، ولا يكون ذلك إلا بتلك الجمل الثابتة في اعتصامنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الاعتصام بالكتاب والسنة مصدر العزة والكرامة

الاعتصام بالكتاب والسنة مصدر العزة والكرامة ولا بد كذلك أن ننبه إلى أمور مهمة وإلى جملة من التوجيهات نحن في أمس الحاجة إليها: الأمر الأول: يجب الاعتصام بالجمل الثابتة والأحكام القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما ما فيه اجتهاد واختلافات فأمره معروف عند أهل العلم، ولكن ثمة جمل ثابتة وحقائق قاطعة ليس فيها خلاف، وهي العواصم من القواصم، وهي النور من الظلمة، وهي معالم الطريق التي تعصم من الانحراف والزيغ والضلال بإذن الله، فتواصوا بها، واعتصموا بها، وعضوا عليها بالنواجذ؛ فإنها وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث العرباض بن سارية: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، أي: تمسكوا بها؛ لأنه ثمة كثير من الصوارف التي تصرف عنها. وللأسف أننا نسمع أمراً يخالف ذلك يقترن بحقيقة مهمة، وهي أن كثيراً من صحفنا وإعلامنا يهول في حجم أعدائنا؛ حتى يبث الرعب في القلوب، وحتى يسري اليأس إلى النفوس، وكأن أولئك القوم قد ملكوا أعنة الأمور، وأصبح بيدهم تدبير الكون وتصريفه والعياذ بالله، وكأنه لا قوة حاكمة ولا تقدير سابق ولا قضاء مبرم من الله سبحانه وتعالى، فيفتون في العضد، ثم يقولون من باب التدرج: ماذا يمكن أن نصنع؟ وأي شيء يمكن أن نقول؟ والذي يقول هذه المقالات لا يدرك الحقائق، ولا يعرف الواقع. سبحان الله! نحن ندرك الواقع ونعرفه، لكن إدراكنا لا يعني أن نترك كتاب الله وراء ظهورنا، ولا أن نخلف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دبر آذاننا، بل نقول بما فيهما وإن كنا لا نستطيع إنجاز ذلك أو القيام به في هذا الوقت، لكن تغييره هو الأخطر، والشك في حقيقته هو الأكثر ضرراً والأعظم خطراً؛ لأننا إذا شككنا في ذلك فإننا قد تركنا شيئاً مما نستند إليه ونضع أقدامنا عليه، وبالتالي تغيب عنا الرؤية الصائبة، ويغيب عنا موضع القدم الثابت الراسخ الذي يجعلنا قادرين على أن نقف ونحن نعرف أين نقف، وأن ننظر ونحن نعرف إلى من ننظر، وأي شيء نرى أمامنا، أفإن قالوا كلاماً معسولاً أو غيروا أو أرهبوا وأرغوا وأزبدوا نتغير عن هذه الجمل الثابتة والحقائق القاطعة في كتاب الله الذي قال عنه سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وفي سنة طاهرة مشرفة مبرئة من العيب والنقص لسيد الخلق وأكرم الرسل عليه الصلاة والسلام؟!

إذا لم تستح فاصنع ما شئت

إذا لم تستح فاصنع ما شئت لقد نزع الحياء عن كثير من أبناء أمتنا، وانسلخوا منه حتى مارسوا الشهوات والقبائح، وصاروا يلهثون وراء المحرمات، ويجاهرون بالمعاصي والسيئات، وإذا نزع الحياء وفقد تغيرت الحياة، وفسد الناس والمجتمعات، وضاقت الأنفس العفيفة، وتفطرت الأكباد الطاهرة النظيفة، فإلى الله المشتكى!

منزلة الحياء في الدين

منزلة الحياء في الدين الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار، نحمده سبحانه وتعالى، كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، حمداً نكون به من الشاكرين الذاكرين، فهو سبحانه وتعالى أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى وفي الآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغواية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده فجزاه الله خير ما جازى به نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم لاتباع سنته وحشرنا يوم القيامة في زمرته. أما بعد:

الحياء فضيلة في كل الشرائع

الحياء فضيلة في كل الشرائع لما تجمل القوم بلباس الحياء صحت لهم تلك الأخلاقيات، ولذلك لم يكن الحياء والأمر به في شريعة الإسلام وفي هدي محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، بل أخبرنا عليه الصلاة والسلام بأن هذه الخصلة هي قرينة الإيمان، وكما أن الإيمان منذ أن خلق الله آدم وأتبعه بالرسل والأنبياء، فكذلك الحياء باق ممتد على مدى التاريخ، منذ أن وجد التوحيد والإيمان، ومنذ أن أنزلت الكتب وأقرت الشرائع؛ ولذلك كان أمراً ممتداً عبر تاريخ البشرية كلها في أوامر الله وشرائعه، كما صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وأصح التفسيرات وأرجحها عند العلماء أن من فقد الحياء فإنه حينئذ لا يكون عنده عاصم من اقتراف المعاصي وارتكاب المحرمات، ومن التجرد من كل معنى من معاني الخلق والفضيلة، بل حقيقة الأمر أن الذي يفقد الحياء يقتل فطرته ويتجرد من اللباس والزينة، ويبدو الإنسان منه عارياً، فإذا نزع الحياء فإن العورة تبدو وتنكشف، وإن الزينة والستر والتجمل يذهب إلى غير رجعة، ولذلك: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء أي: يبقى العود في الشجرة ما بقي الغطاء الذي يغطيه ويستره، والذي يزينه ويجمله، ولذلك يصدق قول القائل: إذا عدم الحياء بأرض قوم فكبر أربعاً وقل السلام فإنه إذا نزع الحياء فقد ضعف الإيمان في قلوبهم، وماتت الغيرة في نفوسهم، وانعدمت الفضيلة من قواميسهم، وأصبحوا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

صورة من تطبيق الحياء

صورة من تطبيق الحياء فهذان هما التابعيان الجليلان: مسروق والأسود جاءا إلى عائشة رضي الله عنها ليسألاها عن المباشرة والقبلة للصائم، فلما جلسا إليها خجلا منها، ثم قاما من مجلسهما ومضيا، وانصرفا حياءً أن يسألا عائشة رضي الله عنها رغم أن المسألة علمية، فلما مضيا قليلاً رجع أحدهما إلى الآخر وقال: جئنا لنسأل عن أمر من أمر الدين ثم أرجعنا الحياء، فعادا مرة أخرى إلى عائشة رضي الله عنها وقالا لها: يا عائشة إنا أتينا نسألك عن شيء فاستحيينا منك، فقالت: سلوا، وفي رواية أن هذه الواقعة -كما هي في مسند الإمام أحمد - وقعت لـ أبي موسى الأشعري فقالت له: (سل ما شئت فإنما أنا أمك) فسألوا حينئذٍ وأجيبوا. لكن انظروا إلى هذا الحياء الذي جمل الأئمة والعلماء! والذي صبغ الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم. وأم سلمة رضي الله عنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من الأنصار لم يكن للمهاجرين بها عهد، كما ذكر بعض الصحابة، فقالت: (يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق؛ فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء، فقالت: أم سلمة رضي الله عنها: لقد فضحت النساء) أي: أنك جئت بسؤال واضح مباشر، كأنها رأت في نفسها أن مثل هذا قد لا يسأل عنه بمثل هذه المواجهة، وإن كان تقديم الصحابية أيضاً يدل على حيائها وأدبها، عندما قالت: (يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت).

الحياء من شعب الإيمان

الحياء من شعب الإيمان هذا الحياء قرين الإيمان، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنه خصلة من خصال الإيمان، وخصه بالذكر من بين سائر الأخلاق حينما قال: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، ثم قال: (والحياء شعبة من الإيمان). لم يكن هذا التخصيص عبثاً منه صلى الله عليه وسلم، بل لأن حقيقة الإيمان مرتبطة بهذا الحياء، ولذلك كان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أشد حياءً من العذراء في خدرها، رغم أنه عليه الصلاة والسلام كان يجيب السائل، ويعاتب المخطئ، ويقوم الذي يعتدي على حقوق الآخرين، إلا أن حياءه لم يكن يفارقه في لحظة ولا في حركة ولا في سكنة، فجمل حينئذ خلقه، وصدق وصف الله جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. فلما تحلى بزينة الإيمان، وتوج خلقه بتاج الحياء، أسر القلوب، واستمال النفوس، وصار الناس يتأثرون بهديه وسمته وفعله أكثر مما يتأثرون بقوله، فضلاً عما يتأثرون بزجره أو وعيده أو بعقابه الذي يمضيه في حكم الله سبحانه وتعالى عليه، وصبغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المجتمع الإيماني الرباني بصبغة الحياء، فإذا بك تعيش في عهد النبوة لا تسمع كلمة نابية، ولا ترى فعلاً يخدش الحياء، بل عند الحاجة الملحة يظل الحياء زينة ووقاراً.

الحياء والإيمان قرينان

الحياء والإيمان قرينان أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا اليوم عن فقدان الحياء وآثاره في حياة الأمة، ذلك الحياء الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أنه شعبة من شعب الإيمان، وروى الحاكم في مستدركه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر)، كما أن الإيمان حلية يتحلى بها العبد المؤمن، وهو العاصم بإذن الله جل وعلا من الوقوع في المعاصي، ومن التعدي على حرمات الله، فللحياء هذه السمة: إذ هو يمنع صاحبه الذي تحلى به والذي تزين به من أن يأتي المحرمات، بل يمنعه من أن يأتي الأمور المستقبحة التي لا تليق بمقامه وإن كانت في بعض الأحوال مباحة لغيره، ذلكم الحياء الذي عرفه أهل العلم بأنه خلق يبعث على فعل الجميل، وترك القبيح، والتوقي من الأدناس وما يعاب عند الناس، الحياء الذي بوجوده يكون للمرء سورة حسنة، عفة في اللسان، وغض في البصر، ولين في المعاملة، وتوق من المعاصي، واجتناب لكل أمر مرذول حقير. هذا الحياء بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عمران بن حصين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، وفي بعض الروايات الأخرى: (الحياء خير كله)، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء)، قال بعض الشراح: أي: أنه كان يلومه على ما كان عنده من بعض الحياء الذي يمنعه من المشاركة أو ربما يجعله انطوائياً أو انزوائياً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير).

انسلاخ كثير من المجتمعات المسلمة عن الحياء

انسلاخ كثير من المجتمعات المسلمة عن الحياء وتعالوا بنا في جولة تصدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن به مؤمنون مصدقون، ولكنها نبوءته عليه الصلاة والسلام. تصدقه من وراء هذه القرون والسنوات المتتابعات، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت). فانظروا إلى الذين يتجاوزون الحدود والحرمات، وانظروا إلى الذين يتجاوزون الأعراف والتقاليد، وانظروا إلى كل تجاوز فإنه لا يكون إلا بنزع للحياء أو بتقليل منه، ما بالنا لا نقول في مجتمعات أخرى، بل في مجتمعنا وبلادنا أرض التوحيد وبلاد الحرمين، في البلاد التي ترفع راية الشريعة وتطبيقها، ما بالنا نرى الحياء وقد آذن بالرحيل، وقل في سلوك الناس أقوالاً وأفعالاً وأحوالاً، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، حتى كأن هذه الكلمة وهذا المعنى لم يكن وارداً في دين الله سبحانه وتعالى، ولا في هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن وصية عبر التاريخ والقرون وعبر الشرائع التي أنزلها الله سبحانه وتعالى؟! المرأة تخرج متهتكة متبرجة متعطرة متزينة، قد داست حياءها قبل أن تخرج من بيتها، وقتلت أنوثتها قبل أن تتزين بهذه الزينة، وخالفت أمر الله سبحانه وتعالى، وضربت عرض الحائط بقول الحق جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، ما بالها تمشي في الطرقات مشية يستحي أن يمشيها الرجال؟! ما بالها تخاطب الرجال في الأسواق، فيستحي الرجل ويطأطئ رأسه وتقول له: ما بالك تستحي كأنك امرأة؟!

صور من قلة الحياء

صور من قلة الحياء وانظروا إلى صور أخرى نراها وكم هي عجيبة لم تكن ترى في مجتمعاتنا، فإذا أنت ترى شاباً وهو رافع صوت ذلك المسجل بالأغاني الغربية الماجنة إلى أقصى حد، وإذا به يطوف الشوارع ويجوب الطرقات يزدهي ويفتخر بدلاً من أن يخجل من هذا الأمر ويستتر، وذلك لانقلاب الموازين، فإذا قال له إنسان: قلل من هذا الصوت على أقل تقدير، فإنك واجد سيلاً من الشتائم ينبئ عن سوء الباطن، وقلة الحياء، وانعدام الأدب. وربما تجد -وهذا من أعجب العجب- أن هناك من ينصره ويؤيده، ومن يدعو إلى الحفاظ على الحريات، وأن يكون لكل إنسان ما أراد! وكأنه ليس عندنا آيات قرآنية، ولا أحاديث نبوية، ولا عندنا شرع ودين، ولا حلال ولا حرام. وانظر كذلك إلى صور أخرى أقذع وأفظع فيمن يجترئون على حدود الله، ويستهزئون بدين الله، فهذا يسطر مقالاً يتهكم فيه بالمتدينين وذاك يكتب قصيدة يهزأ فيها ويسخر -عياذاً بالله- من رب العالمين، وكل ذلك مبعثه وأساسه موت الحياء وانعدامه، وترى من يكتب إلى هذا اليوم بعد أن عقل الجهلاء وبعد أن عقل حتى المجانين، ويقول لنا: إن الطبيعة تخلق، وإن الطبيعة رقمت اللوحة الجميلة، وإن الطبيعة فعلت كيت وكيت وتمر كتابته في الأوساط ولا يتحرك لأجله أحد. ومليئة هي الوسائل التي تصدح صباح مساء بكل رقيع من القول، وبكل اجتراء على دين الله عز وجل، وإنما هذا أيضاً هو من فقد الحياء، وصورة من صوره البغيضة النكدة التي استشرت في مجتمعات المسلمين نسأل الله السلامة. وهذه الفظاعة التي أذكر تدرجها إنما هي بحسب تأثيرها وانتشارها، فكاتب الصحيفة تأثيره أكثر من هذا الشاب الذي يجوب الطرقات، فلا يسمعه ولا يراه إلا بضعة نفر، وهذه الصور إنما هي نماذج وإلا فإننا نجد أكثر من ذلك وأكثر.

صورة من قلة الحياء عند قادة الأمة

صورة من قلة الحياء عند قادة الأمة وهذه صورة تتعلق ببعض الساسة والزعماء والقادة الذين يتكلمون باسم الإسلام وهم ألد أعدائه، ويدافعون عنه بالألسنة ويقتلونه بالأيدي، أولئك الذين تصدروا وكانوا سبة في جبين التاريخ، وكانوا هماً وغماً وبلاء على المؤمنين في كثير من ديار الإسلام، بل في كثير من ديار العرب، وما ذلك إلا لأنهم فقدوا الحياء، فهم يتكلمون ويعلمون أنهم كاذبون، ويعلمون أن الذين يسمعونهم يعلمون أنهم كاذبون، ولكن من فقد الحياء فإنه لا يعود عنده تمييز، ولا يعود عنده فرق بين حق وباطل، ولا بين أمر لائق وغير لائق، وكما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا بليتم فاستتروا)، ولكن الذي يفقد الحياء يجاهر ويعارض ويفضح ويكشف نفسه أمام الناس، وهذه صورة مرت بنا كثيراً ونراها، وهي يصدق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت). وصنعوا ما شاءوا وخرج الناس، ووجدت في ديار الإسلام نوادي للعراة، ووجد في ديار الإسلام نداء بالكفر، ووجد في كثير من بلاد الإسلام كل ما لا يخطر على عقل وبال، كل ذلك بسبب انعدام الإيمان وذهاب الحياء. اللهم إنا نسألك أن تجملنا بالحياء، وأن تسترنا وأن تعظم في قلوبنا الإيمان برحمتك يا أرحم الراحمين. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

فقد الحياء تدريجيا

فقد الحياء تدريجياً ما هذه الصور التي قتلت كل معنى جميل، وكل خلق فاضل، وأماتت كل صورة مشرفة وضيئة في حياتنا؟! لما انسلخ الحياء انسلخ الإيمان وضعف توقير أمر الله سبحانه وتعالى، أليست هذه صورة نشهدها كل يوم ونراها قد كانت خطوة فخطوة فخطوة، ولا نعلم إلى أين تنتهي الخطوات؟ (نظرة فسلام فكلام فموعد فلقاء) هذا هو الذي كان، ما كنا نرى ذلك قبل سنوات قلائل، ما كنا نرى هذه الصور وهذه المشاهد وهذه الأمور التي تجعل الحليم حيران، أين غيرة الرجال؟ أين إيمان أولياء أمور هؤلاء النساء؟! وأين ركنا المرأة التي تتميز بهما عن الرجل الحياء والأنوثة؟ فقدت حيائها فتبرجت، وفقدت أنوثتها فاسترجلت، ولم يعد المرء يفرق اليوم بين رجل وامرأة، وأصبح كثير من الناس ينشرون الصور ويروجونها في أوساطهم ويلتمسون لها المعاذير، ويقولون: هذه حاجة وهذا لا بأس به، ونقول: اسمعوا لقول الله جل وعلا في خطاب خير نساء الأمة أزواج النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، نهي لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن من هن إيماناً وأدباً وحياءً وعلماً وخشية لله جل وعلا، والمخاطبون هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس حرصاً على الطاعة، وأبعد الناس عن المعصية، ومع ذلك يقول تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، أي: لا تلن الكلام ولا تتكسرن فيه، ولا تملنه يمنة ويسرة، فضلاً عن الضحكات والحركات، فضلاً عن الإشارات والغمزات. لقد فقد الحياء في مثل هؤلاء النساء، وفقدت الغيرة من أولياء أمورهن، وصارت صورة تنذر بويل كبير، وخطر عظيم؛ لأنها لا تخص أصحابها بل تقتحم أنظار الناس رغم أنوفهم، وتقتحم قلوبهم رغم أنوفهم، وتغير في نفوسهم رغم أنوفهم.

الآثار الوخيمة المترتبة على فقدان الحياء

الآثار الوخيمة المترتبة على فقدان الحياء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى مراقبة الله جل وعلا، وإن خلاصة الحياء هي تلك المراقبة التي تجعل الإنسان دائماً يستشعر حياءه من الله، كيف أمده بالنعمة، وكيف أمره ونهاه ثم هو يتجاوز الأمر والنهي ويجحد النعمة ويرفض الشكر.

المجاهرة بالمعاصي

المجاهرة بالمعاصي الأثر الثاني: المجاهرة بالمعاصي: وهذه المجاهرة وخيمة الآثار، وخطيرة العواقب؛ لأنها تجرئ الذي لم يكن جريئاً، وتشجع الذي كان متردداً، وتنزع الحياء عمن كانت عنده بقية من الحياء، كثير من الناس فيه بعض الخير، وفيه خير وإيمان، لكنه يرى هذا وقد اعتدى وذاك وقد أسرف، ويرى أولئك وهم يفتخرون بمعاصيهم، ويجاهرون بمحادة الله ورسوله، ولا يأبهون بأوامر الله عز وجل فضلاً عن أن يأبهوا للبشر ولأذواق الناس أو اعتراضهم يمنة أو يسرة.

فساد الذوق العام وانقلاب الموازين

فساد الذوق العام وانقلاب الموازين الأثر الثالث: فساد الذوق العام وانقلاب الموازين: وهذا يحصل بالتدرج، فإذا أذواقنا الإيمانية وحسنا الإسلامي يختل وينعدم ويرتكس وينتكس، وإذا بك في هذه الأزمان والأعصر ترى صوراً لم تعد منكرة، بل صار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وماتت الغيرة في النفوس، وفسدت الأذواق، وصرنا في أول الأمر نقول: الوجه، ثم الشعر، ثم النحر، ثم الذراع، ثم الساق، والله أعلم ما يأتي من بعد ذلك. وفي كل مرة نرى أن الذي مضى أمر هين والخطر فيما يأتي، ثم إذا بالذي أتى يصبح في خبر كان، ويصبح أمراً ماضياً، وإذا به يصبح لا بأس به، وإذا بالأذواق تختلف، وإذا بموازين الشرع وقيمه تتغير وتتبدل، وهذا من أخطر الأمر وأسوئه.

فساد الحياة كلها

فساد الحياة كلها الأثر الرابع: أن هذا لا يفسد الذوق العام فحسب، بل إن انعدام الحياء يفسد الحياة كلها: وذكر ابن القيم أن الحياء مشتق من الحياة، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] أي يتركونهن فلا يقتلونهن، فالاستحياء: هو الإبقاء والترك وعدم القتل، وإذاً: فمعنى الحياء هو ترك المعاصي، فإذا هزم الحياء فسدت الحياة كلها، فإذا بك لا ترى صغيراً يوقر كبيراً، ولا ترى ابناً يبر أباً، ولا ترى ابنة تسمع أماً، ولا ترى تلميذاًَ يوقر أستاذه، وإذا بالحياة كلها تفشل، وإذا بالأخلاق تتبدل، وإذا بالصورة تعافها النفس، وإذا بها ظلمات في القلب، وضيق في الصدر، وأسن في النفوس، وخلل في العقول، وظلمة في الأبصار والبصائر، وكل مناحي الحياة تفسد. ألسنا نرى اليوم آباء يصرخون من عقوق الأبناء؟ ما وقع ذلك إلا بسبب فقد الحياء. ألسنا نرى اليوم معلمين يشكون من طيش التلاميذ، ومن سوء أدبهم، ومن قلة حيائهم؟ ألسنا نرى مدير الدائرة يشكو من لامبالاة موظفه؟ ألسنا نرى الرعية يشكون من الحاكم والحاكم يشكو من عدم مبالاة الرعية؟

قلة التعظيم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم

قلة التعظيم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولننظر إلى الآثار الوخيمة والخطيرة، والمدمرة والقاتلة في فقدان الحياء في أي مجتمع، وخاصة في مجتمع المسلمين. الأثر الأول: قلة التعظيم لله ولرسوله، ولأمر الله ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم: إن هذه الصور إنما هي إغفال وتجاهل لآيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهي دليل على ضعف الإيمان، وذهاب الوازع الديني، وعدم الارتباط بالتشريع من قريب ولا من بعيد، وهذا هو الذي يجرئ الناس على اقتراف المنكرات، وعلى التعدي ليس على الحرمات، بل على رب الأرباب سبحانه وتعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأخيار الصالحين من العلماء العاملين، والدعاة المخلصين، وتجد سيلاً من الشتائم والاعتداء الذي ليس فيه أدب ولا حياء على كل صاحب التزام وصاحب خلق، وصاحب حياء وإيمان، وسيحصل مزيد ومزيد من هذا الاجتراء والاستهانة بدين الله عز وجل، كلما زاد هذا التيار الذي يقتل الحياء ويئد الإيمان.

فقدان الحياء موت للمجتمع

فقدان الحياء موت للمجتمع إذا عدم الحياء بأرض قوم فكبر أربعاً وقل السلام فإنه الموت الذي دونه كل صورة من صور الحياة الظاهرة، لكنها كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، إنما يعيشون في بهرج من الحياة، يأكلون يشربون يركبون السيارات يبنون المباني والعمارات يتزينون بالزينة؛ ولكنهم مجردون عن حلية الإيمان، وعن زينة الحياء، فيصبحون كأنهم أموات في صورة أحياء. وما قيمة مجتمع تموت فيه الفضائل، وتقتل فيه الأخلاق، وتنعدم فيه الأذواق، وحينئذٍ لا يبقى هناك مقياس أبداً، تنعدم المقاييس فلا يصبح هناك شيء يسمى عيباً، ولا يعود هناك شيء يسمى مخالفة للأدب، ولا شيء يسمى مخالفة للذوق العام. ولذلك نرى اليوم في الصحف والمجلات أموراً عجيبة، يختلفون في بعض الأفلام - هذه الأفلام الماجنة- هل تجيزها الرقابة أو لا تجيزها، والذي يختلفون عليه من الفظائع والكبائر، بل من أنكر المنكرات الذي لا يقرها عقل ولا دين ولا فطرة، ومع ذلك تجد النزاع والحوار على صفحات هذه المجلات بصورة مقززة تدل على انعدام الحياء، وهذه الصور -كما أشرت- تفسد كل شيء في حياة الناس، فهذا أثر هذا الإفساد العام. وقد أخبر الله تعالى أنه جعل الحياة في الاستجابة لأمر الله ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، حياة القلوب، حياة الأخلاق، حياة المبادئ، حياة النظافة، حياة الطهارة، حياة التعامل الرفيع، حياة الحضارة المؤدبة! كل ذلك لا يكون إلا بالإيمان وما في هذا الإيمان من خصال؛ ولذلك عندما سرت هذه المنكرات أصبح الأب لا يستحيي أن يشاهد في منزله أفلام الفيديو مع أبنائه وبناته، ويرون فيها المشاهد الفاضحة، لا يتغير وجهه ولا يتمعر، وحدث عندنا نوع من الانحلالية والإباحية التي تسري في المجتمع سرياناً خطيراً. ولعل قائلاً يقول: قد بالغت وأكثرت، وقد هولت فيما صورت، ولكنني أقول: معظم النار من مستصغر الشرر وأول الغيث قطر ثم ينهمر وأكرر فأقول: إذا عدم الحياء بأرض قوم فكبر أربعاً وقل السلام. الحياء الذي ذهب من صغارنا وكبارنا، ورجالنا ونسائنا، وتلاميذنا ومعلمينا، هذه الصورة تنذر بخطر عظيم، ولذلك نكرر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت). وكم رأينا من الأمور التي صنعت وفعلت عندما فقد الحياء! شيء يشيب لهوله الولدان! فاللهم إنا نسألك أن لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم زينا بزينة الإيمان، وحلنا بحلية الحياء، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وخلقاً فاضلاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت ومغفرة بعد الموت برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم مكن في مجتمعاتنا لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وأقم في الأمة علم الجهاد، اللهم من سعى في مجتمعنا بالفساد فاشغله بنفسه، واجعل دائرة السوء عليه، اللهم رد كيد أعدائنا في نحورهم، اللهم إنه من بني جلدتنا من يسعون لنشر الفساد، اللهم فقنا شرورهم، واجعل كيدهم في نحورهم، وأحبط مؤامراتهم، ودمر مخططاتهم، يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تحفظ علينا إيماننا، وأن تحفظ علينا إسلامنا، وأن تحفظ علينا أخلاقنا، وأن تحفظ علينا حياءنا، اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بالإسلام قائمين، وأن تحفظنا بالإسلام قاعدين، وأن تحفظنا بالإسلام نائمين، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، وعلى هدي نبيك محمد صلى الله عليه وسلم سائرين، ولآثار أصحابه مقتفين، اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك الطهارة الظاهرة والباطنة، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، وأن تجنبنا الفتنة والزلل، اللهم إنا نسألك أن تجنبنا سائر الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين، اللهم عليك بالطغاة والمتجبرين، اللهم عليك بالكفرة والملحدين، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، دمر قوتهم، واستأصل شأفتهم، ونكس رايتهم، اللهم أذل أعناقهم، وسود جباههم، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود قريباً، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، اللهم رحمتك بالفتية اليتامى، والنسوة الثكالى، اللهم رحمتك بالأطفال الرضع، والشيوخ الركع، اللهم رحمتك بعبادك المستضعفين، اللهم رحمتك بالمشردين والمعذبين، اللهم رحمتك بالمسلمين والمضطهدين، اللهم فك أسرهم وأطلق سراحهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم. اللهم سكن لوعتهم، وامسح عبرتهم، وأقل عثرتهم، اللهم اجمعهم على الحق، اللهم ثبتهم على الإيمان، اللهم صبرهم على قضائك، اللهم واجعل لهم فرجاً قريباً، اللهم يا أرحم الراحمين من عدى واعتدى على عبادك المؤمنين فأرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تنصر إخواننا المجاهدين، اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر منهم ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين. وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

الإيمان والأمان في مواجهة الحرب والعدوان

الإيمان والأمان في مواجهة الحرب والعدوان الإيمان صبغة جديدة ينصبغ بها صاحبها، فتكون له صورة وهوية تخالف كل ما سبقها، وتتحدى كل ما يعارضها، وتنشئه نشأة جديدة قاعدتها وأساسها التوحيد والإيمان، فيختلف عن كل الناس في أحواله وآماله وطموحاته وأفعاله.

حقيقة الإيمان

حقيقة الإيمان الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آن، وهو أهل الحمد والثناء؛ فله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، المرسل إلى الناس كافة أجمعين، خاتم النبيين والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ونسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا البيت من بيوته على غير مصالح تجمعنا، ولا أرحام تقربنا؛ أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إخواناً على سرر متقابلين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يشرح صدورنا بالإسلام، وأن ينور قلوبنا بالإيمان، وأن يهدي بصائرنا بالقرآن، وأن يرد عنا وعن المسلمين كيد الكائدين، وأن يدفع عنا شرور المعتدين، وأن يسلم ديار المسلمين، ويحقن دماءهم، ويحفظ أعراضهم وأموالهم، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه. يتجدد بهذا درس متقطع رقمه: السابع والسبعون بعد المائة، وعنوانه: (الإيمان والأمان ومواجهة العدوان). إننا ونحن نعيش هذه الظروف العصيبة، والتكالب الرهيب، والعدوان الظالم، نحتاج إلى مثل هذه الوقفات، والحق أن الخواطر كثيرة، والمشاعر متداخلة، والواجبات والتنبيه والتوجيه حاجتنا إليه ماسة ومتشعبة، وحسبنا -بمشيئة الله تعالى- أن نذكر هنا ما عسى أن يكون الأهم، وما سأذكره إنما أذكر خلاصته وأسسه معرضاً عن كثير من التفاصيل والتشعبات التي يستحق معها كل قسم من أقسام حديثنا وموضوعنا أن يفرد في محاضرة خاصة به، ولعلي أشير الإشارات التي ألخص بها مقصود حديثنا بعون الله. سنبدأ بوقفة مع حقيقة الإيمان، ثم نعرج على أثر الإيمان في الأمن والأمان، وننتهي ونخلص إلى أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان.

الإيمان قول واعتقاد وعمل

الإيمان قول واعتقاد وعمل فإذا لم يكن الإيمان نطق اللسان فحسب، ولا هو اعتقاد الجنان وحده، ولا عمل الأركان، فما هو؟ إنه مجموع ذلك كله، ومن ثم قال أهل العلم في تعريفه: إنه اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وهذا الجمع لا شك أنه يحتاج إلى تأمل؛ إنه حينئذ يصور لنا شمول هذا الإيمان، وعمقه وانتظامه للإنسان في كل خصائصه، وانعكاسه من بعد على كل تفاعلاته وأحواله؛ فإن هذا الإيمان هو اعتقاد القلب، وخفقة القلب بالمشاعر والعواطف، وهو كلمات اللسان وضبطها بخواطر العقل والفكر، وممارسات الجوارح. وإذا أردنا أن نعمق هذا المعنى ونوضحه، فالأمثلة فيه كثيرة، لكنني أشير إلى المعنى وأضرب مثالاً واحداً فأقول: إن الإيمان صبغة جديدة ينصبغ بها صاحبها، فتكون له صورة وهوية تنقض كل ما سبقها من الصور، وتخالف كل ما يعارضها من الهويات، وتنشئه نشأة جديدة قاعدتها وأساسها التوحيد والإيمان الحق لمضمون لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فيختلف عن كل الناس في سائر أحواله وأقواله وكلماته، وآماله وطموحاته وأعماله وأفعاله، وعلاقاته وصلاته، وولائه وبرائه، ومحبته وبغضه، وكل شيء؛ لأن هذا الإيمان يغير فيه -إذا كان صادقاً وحقيقياً- كل شيء، ويجعله منضبطاً بهذا الإيمان، فمنه ينطلق وإليه يرجع، وفي ضوئه يقيس، وعلى هداه يسير، فيحكم الإيمان حينئذ كل شيء في حياته بدءاً من داخله وانتهاء بأعماله وبعلاقاته كذلك.

قضية الإيمان أعظم قضايا الكون

قضية الإيمان أعظم قضايا الكون الإيمان أمره مهم وعظيم؛ لأن قضية الإيمان هي القضية الكبرى، والمسألة العظمى في حياة البشرية كلها؛ فلأجلها خلق الله الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ونصب الموازين، وجعل الحساب والثواب والعقاب، وخلق الجنة والنار. قضية الإيمان هي قضية الوجود الدنيوي وما بعد الوجود الدنيوي، هي قضية الحياة الدنيا وما وراءها في الحياة الأخرى قضية تتعلق بالإنسان في أعماق نفسه، وسويداء قلبه، وخواطر عقله، وكلمات لسانه، وأفعال جوارجه، وطموحات نفسه؛ لأنها تتناول الإنسان في علاقاته وصلاته ومعاملاته وتشريعاته وفي سائر جوانب حياته المختلفة، وسائر ظروفه وتقلبات حياته وأحواله المتنوعة، ومن ثم فإنها القضية الكبرى التي لابد من العناية بها، والتعلم لحقائقها، والتذكير بثوابتها، والإشاعة لمعانيها، والتقوية لها في النفوس والقلوب؛ لأنها محور الحياة وجوهرها، وكما قلت: لعل هذا يكون موضوعاً كاملاً قائماً برأسه، ولكنا نشير إلى المهم منه.

الإيمان ليس مقتصرا على مجرد العمل أو النطق أو التصديق

الإيمان ليس مقتصراً على مجرد العمل أو النطق أو التصديق الإيمان ليس مجرد نطق اللسان وإعلان الشهادة فحسب، فإن الله جل وعلا قد نفى ذلك بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] فأثبت إعلانه للإيمان ونفى حقيقته عنه، وليس الإيمان كذلك هو قناعة العقل بصحة البرهان وقوة الحجة على وجود الله أو وحدانيته؛ فإن ذلك قد كان ظاهراً جلياً لكفار قريش، ولم يكن عندهم شك في صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نقص في البراهين والأدلة على ثبوت نبوته، ومع ذلك كفروا وجحدوا، وقد أخبر الحق سبحانه وتعالى بذلك فقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14]، فقد كانت عندهم الحقائق في درجة اليقين من حيث وضوح الأدلة، وقيام الحجة؛ ومع ذلك جحدوا، والجحد هو الإنكار بعد المعرفة، لماذا؟ ظلماً وعلواً. وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وقصها وبينها أبو جهل -عليه لعنة الله- عندما قال: كنا نتنافس وبنو هاشم الشرف والسيادة، فإن كانت لهم السقاية كانت لنا الوفادة، وإن كان لهم كذا كان لنا كذا، حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا منا نبي، فمن أين لنا بنبي؛ فوالله لا نصدقه الدهر كله! فليست القضية مجرد قناعة العقل دون تسليم القلب بحقيقة هذه المعرفة الإيمانية، وليس الإيمان كذلك هو مجرد العمل أو القيام بأداء الفرائض مجرداً؛ فإن المنافقين -كما نعلم- خلت قلوبهم من الإيمان، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويشاركون أهل الإيمان في صلاتهم، وربما يخرجون أموالاً من زكاة وغير ذلك، ونفى الله سبحانه وتعالى عنهم الإيمان كما بينته آياته جل وعلا في مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم يتخذون ما ينفقون مغرماً، إلى غير ذلك مما هو معلوم.

نموذج لتأثير الإيمان وتحويله لجواهر الرجال

نموذج لتأثير الإيمان وتحويله لجواهر الرجال هذا مثال نضربه من القرآن، قصه الله عز وجل علينا في قصة موسى عليه السلام، وما كان منه مع بني إسرائيل، والقصة نقف فيها عند المواجهة التي كانت بين موسى داعية الإيمان، وفرعون داعية الكفر والطغيان: استعان فرعون بالسحرة، وأراد أن يكونوا وسيلة له لإبطال الحق، وإطفاء نوره، وتشويه صورته، وصرف الناس وصدهم عنه، فماذا قال للسحرة يوم جاء بهم، وأرادهم أن يقوموا بهذه المهمة؟ وقبل ذلك نريد أن ننظر إلى هؤلاء السحرة صورتهم، أفكارهم، أقوالهم قبل وبعد الحدث الذي وقع، لننظر فعلاً إلى التغير لندرك به حقيقة الإيمان. جاء السحرة إلى فرعون، وأول شيء قالوه وخطر لهم وتعلقت به نفوسهم: {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، ذلك كان مطلبهم ومطمعهم، وهذا هو أملهم وأمنيتهم. لم يسألوا: هل القضية حق أو باطل، عذاب أو ظلم؟ هل تترتب عليها مفسدة أو مصلحة؟ هل يتضرر بها أحد أو ينتفع؟ لم يكن ذلك يعنيهم في شيء؛ لأنهم ليست لديهم مبادئ ولا قيم ولا مرتكزات ولا معتقدات بل كانت أهواؤهم تقودهم، وخضوعهم لفرعون وعبوديتهم وذلتهم له تسيرهم، ولذلك قالوا هذا القول، فقال لهم فرعون: نعم، وإنكم لمن المقربين. أي: سيزيدهم فوق العطاء المادي عطاء معنوياً بأن يكونوا من أصحابه وخلصائه والمقربين منه. ثم وقعت الواقعة، وألقوا عصيهم وحبالهم، فسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وكانوا هم صفوة السحرة، وأعلم العلماء بالسحر، وليس أحد أقدر منهم عليه، وفي لحظة واحدة ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون. وفي هذه اللحظة عرف أولئك أن هذا ليس بسحر، وأنها ليست قوة بشر، وأدركوا من واقع خبرتهم هذه الحقيقة، فمباشرة وصفت آيات القرآن ما الذي وقع {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:120 - 122]، وذكر هارون هنا مثير للسؤال؛ لم ذكروا هارون وهو لم يذكر في تلك المواجهة، ولم يلق عصى مع موسى ولم يكن له في هذا شأن مذكور؟ أرادوا أن يقولوا: قد آمنا بالمعتقد والمبدأ لا بالصورة الظاهرة والعمل الملموس، فنحن أدركنا الحقيقة والمفهوم الذي وراء ذلك، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]. لنرى كيف أصحبت مواقفهم؟ وكيف تغيرت كلماتهم؟ وما هي الآن طموحاتهم وآمالهم؟ فرعون كان مجرد ذكر اسمه من قبل تنخلع له القلوب وتصطك له الركب، وتدور الأعين في محاجرها خوفاً وهلعاً. هذا فرعون الذي يعرفون بطشه وجبروته وطغيانه قال: {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71]، قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، افعل ما بدا لك فلا خوف في قلوبنا منك، ولا شيء يردنا عما أخذنا من الإيمان والاعتقاد، لماذا؟ لأن الأمر قد اختلف، والتصور قد اتسع، والإيمان قد ثبت ورسخ، فنحن لم تعد حياتنا هي الدنيا بل أصبحت أعظم من ذلك، فافعل ما تشاء، فإن ما تفعله لا يتجاوز هذه الدنيا وما فيها من الأسباب التي قد يكون بعضها ميسراً لك. ثم قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]، كانوا يريدون المال، واليوم يقولون: أملنا وطموحنا، وأعظم ما تتعلق به قلوبنا وتشرئب إليه أعناقنا: أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول السابقين إلى الإيمان والإسلام. لقد اختلفت مقالتهم ومشاعرهم ومواقفهم، وظهرت قوتهم، وتجلى ثباتهم، ما الذي تغير، وما الذي طرأ واستجد؟ ليس إلا الإيمان، حينئذ نقول: فرق ما بين هذا وذاك في لحظات الإيمان الذي أنشأهم نشأة جديدة، وصبغهم صبغة جديدة حولتهم في كل جانب من جوانب حياتهم ظاهرها وباطنها، فإذا بهم حينئذ ينشئون ويقفون ويتكلمون ويواجهون بغير ما كانوا عليه من قبل. هذه صورة موجزة لحقيقة الإيمان، وأجلى منها وأوضح وأكثر أمثلة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء إلى العرب وهم في جاهلية جهلاء، وعماية ظلماء، وفي كل ما هم فيه من سخف عقولهم وهمجيتهم، وانغماسهم في الباطل وغير ذلك، ولم يغير فيهم شيئاً من اقتصاد ولا سياسية ولا اهتمام، وإنما جاءهم بهذا الإيمان والإسلام فأنشأهم نشأة أخرى، وصاغ منهم أمة فريدة لا نظير لها في تاريخ البشرية والإنسانية.

أثر الإيمان في الأمن والأمان

أثر الإيمان في الأمن والأمان ننتقل إلى جوهر مهم في موضوعنا، وهو: أثر الإيمان في الأمن والأمان، ونحن نعلم أن الظروف العصيبة تصيب الناس في مكاننا وأماكن مختلفة، لكن أعظمها وأشدها خطراً: أن تصيب يقينهم وإيمانهم، حينها ستسلب أمنهم وأمانهم؛ فلننظر أثر الإيمان القوي الصحيح الراسخ في الأمان، ونذكر ذلك في نقاط أربع:

حرية الإرادة وقوة المواجهة

حرية الإرادة وقوة المواجهة ما الذي يضعف الناس إلا خوفهم؟ ما الذي يجعلهم يغيرون مواقفهم ويبدلون آراءهم، فيكونون مع هذا ثم يصيرون مع ذاك، وربما يخونون أمتهم، ويبيعون أهلهم، ويضحون ببلادهم، أي شيء ذلك؟ إنه لأمرين اثنين: الأول: خوفهم على الحياة. الثاني: خوفهم على الرزق. إذا هدد بحياته غير موقفه ومنهجه، ومتابعته وولاءه وبراءه، فما الذي يعصم من ذلك؟ ما الذي يؤمن الأمة لئلا تخترق من داخل صفوفها، ومن أن يكون من بين أبنائها من هو عدو لها وممالئ لعدوها؟ إنه الإيمان، وذلك لأن الإيمان حرية عظيمة، فهو يوحد الإنسان وقلبه واعتقاده وكل شيء في داخله في أمر واحد معلق بالله سبحانه وتعالى، إنه لا يخشى ولا يرجو ولا يذل ولا يسأل ولا يستعين إلا بالله كل أمره معلق بالله، والناس وقوى الدنيا كلها لا يلتفت إليها ولا يكترث بها، ولا تنال من عزمه ويقينه وتصميمه وإيمانه مطلقاً، وغيره على عكس ذلك.

يقظة الضمير واستشعار المراقبة

يقظة الضمير واستشعار المراقبة إن الأمن الذي يفرض بقوة العساكر، أو دقة المراقبة، أو دوام المتابعة؛ أمن هش ضعيف مهما بلغت أسبابه؛ لأنه لا يمكن أن يراقب كل أحد، ولا أن يتابع كل شخص، ولا أن يعرف ما في خفايا القلوب وطوايا النفوس، لكن الأمن الحقيقي هو الذي ينبع من داخل النفس، ويردع صاحبه عن المحرمات والمنكرات، والعدوان على الحرمات، ويدفعه إلى القيام بالواجبات وأداء المهمات، والمسارعة إلى الخيرات. هذا الإيمان هو مملكة الضمير الحية التي عندما غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وأصحابه لم يكن في ذلك المجتمع من المفاسد والمنكرات والجرائم إلا ما يعد على أصابع اليد أو اليدين؛ دون أن يكون في زمانه عليه الصلاة والسلام بطاقات ممغنطة، أو كاميرات تصوير، أو شرطة تجوب الشوارع والطرقات، ولا شيء من ذلك، ومع ذلك ما هي الجرائم التي وقعت؟ وما هي الاعتداءات التي تحققت؟ كيف اكتشف؟ عندما وقعت بعض هذه المحرمات والفواحش هل اكتشفتها المتابعات الأمنية، أو توصلت إليها الأدلة الجنائية، أم أن الذي أخرجها إلى حيز الوجود الحس الإيماني، واليقظة الشعورية، والمراقبة لله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى؟ إذا أحيينا الإيمان في القلوب فقد نشرنا الأمان في المجتمعات، فهذا ماعز الأسلمي جاءت قصته في الصحيح: في لحظة غفلة الهوى واستزلال الشيطان، وضعف النفس، وإغراء الشهوة، وقع في جريمة الزنا، ولم يره أحد، ولم تنظره عين، ولم تضبطه شرطة، فأي شيء وقع؟ تحرك الإيمان في قلبه ندم يعتصر نفسه أسى، ويقطع قلبه ألماً، يندفع إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مقراً معترفاً: (يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، فيعرض عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، لعله أن ينصرف؛ فيأتيه قبل وجهه ويكرر، فينصرف عنه النبي ثانية وثالثة ورابعة وهو يعيد اعترافه، فيقول عليه الصلاة والسلام: لعل به شيئاً، أي: لعله شارب للخمر ولا يدرك ما يقول، فاستنكهوه، قالوا: يا رسول الله! ما به من بأس، قال: لعلك قبلت، لعلك فاخذت، حتى أقر، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام برجمه فرجم)، هل يسجل التاريخ مثل هذا في غير وجود الإيمان؟ وهل يمكن أن يظهر مثل هذا في غير بيئة الإيمان؟ وأبلغ من هذا وأظهر: قصة المرأة الغامدية: جاءت إلى النبي عليه الصلاة السلام تقر بما أقر به ماعز -وحديثها في الصحيح كذلك- فأعرض عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت: (يا رسول الله! لعلك تعرض عني كما أعرضت عن ماعز؛ فإني حبلى من الزنا، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى تضعي حملك)، وذهبت دون كفالة حضورية، أو بصمات وصور، أو متابعة، ورجعت بعد تسعة أشهر كاملة. ما الذي أعادها وقد كان بإمكانها أن تهرب؟ {فرجعت ومعها غلامها رضيع، فقال لها عليه الصلاة والسلام: اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه. فذهبت به حولين كاملين، ثم رجعت وهي مصرة ومعها غلامها في يده كسرة خبز دليل على فطمه، فأمر بها النبي عليه الصلاة والسلام فرجمت، فوقع بعض دمها على بعض الصحابة فلعنها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تلعنها، فإنها تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم). هذا هو الإيمان، نحن نقول: عمقوا الإيمان في النفوس حتى يشيع الأمن في المجتمع، وتشيع الرحمة، وينتشر الخير، ويعم السلام الحقيقي، لا السلام المفروض بقوة الأسلحة وبكثرة الشرط.

سكينة النفس وطمأنينة القلب

سكينة النفس وطمأنينة القلب إن الذي تتضح رؤيته الفكرية، يعرف الإجابة عن الأسئلة العظمى: من أين جئنا، وإلى أين سنذهب، ولماذا خلقنا؟ نحن نعرف لماذا خلقنا، وما هو دورنا في هذه الحياة، وما يكون بعد هذه الحياة، ونعرف كذلك أن الكون كله مسير بأمر الله، وأنه لا ينفذ فيه شيء إلا بقضاء الله، ولا يغير ولا يدبر شيء في هذا الكون إلا الله، فنفوسنا حينئذ مطمئنة، وسكينتنا مستقرة، وقلوبنا ليست في حيرة ولا شك ولا خوف ولا هلع. ونحن نعلم أن تقلبات الظروف والبلايا والرزايا والمحن والفتن تحيط بالناس، فإن لم يكن عندهم يقين راسخ، وإيمان ثابت؛ فإن ذلك يصيبهم بجزع يجعلهم ينكصون على أعقابهم، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]، وقد وصف الله عز وجل ذلك بأنه الخسران المبين، ولذلك نبقى على هذه الطمأنينة والسكينة؛ لأنها هي التي تفيض هذه المعاني النفسية الباطنية القلبية في الإنسان المؤمن، يقول الحق جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. والله سبحانه وتعالى بين أن اليقين والإيمان هو الذي يجعل الإنسان ثابتاً في وجه المشكلات، فكم من الناس تحل به نكبات أو مشكلات فينزلها على إيمانه، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، يلهج بـ: حسبنا الله ونعم الوكيل، فإذا به يشعر بالطمأنينة والسكينة، وتتبدد أمامه تلك المخاطر، ويتيسر أمامه العسير، ويصغر في ناظريه العظيم بما يفيض في قلبه سبحانه وتعالى من السكينة والطمأنينة، وغيره مرتجف مضطرب متحير متشكك خائف جزع متراجع متخاذل؛ لأنه يفتقد قوة إيمانه ويقينه، ولو أردنا أن نفيض في الأمثلة لوجدنا عجباً في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سيرة أصحابه رضوان الله عليهم، وهذا أمر مهم وخاصة في وقتنا وظروفنا هذه. في غزوة الأحزاب بين الله عز وجل الكرب العظيم، والخطب الجسيم، والهول الفظيع الذي حل برسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته، فقال جل وعلا: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11]. ماذا قال أهل الإيمان في هذه الحادثة العصيبة والمحنة الرهيبة؟ قالوا كما ذكر الله عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً * مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:22 - 23]. والمواقف كثيرة فيما بعد، ففي أحد كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]، إنما يطمئن النفوس والقلوب ويسكنها هذا الإيمان فلا تضطرب ولا تجزع بإذن الله.

لا يستعجل المؤمنون النصر

لا يستعجل المؤمنون النصر قد يقول القائلون -وهذا يقال الآن- هؤلاء المسلمون المؤمنون ما بالهم لا ينصرون هؤلاء الكافرون المعتدون ما بالهم يسيطرون ويمد لهم في أسباب العدوان أو أسباب القوة والهيمنة والسيطرة؟! كأن بعض الناس ربما يخالط عقله ويخامر نفسه شيء من الاضطراب والحيرة والشك أو التبديل والتغيير، والله عز وجل يقول على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام:57]، أي: إن كانت عندكم أفكار قد اضطركم إليها أو قذف بها إليكم واقع معين؛ فإن الثوابت هي التي تحكم عليه والتي تضبطه. وقد جاء أن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟) وقد بلغ الأمر مبلغه في البلاء والإيذاء الذي حل به وببعض الصحابة رضوان الله عليهم؛ فأخبرهم النبي عليه الصلاة والسلام بحال من كان قبلهم ممن تعرضوا للعذاب الشديد، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والله ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، لم يجبهم إلى عواطفهم، ولم يوافقهم على ضرورتهم، وإن كان يدعو لهم عليه الصلاة والسلام، لكن المنهج واضح، والرؤية جلية ليس فيها غبش، وليس في أجزائها شيء من الاضطراب مطلقاً. ولذلك نحن لن نؤمن أبداً بالديمقراطية الغربية التي يبشرون بها، ولن نغير أبداً في أسس بناء حياتنا الاجتماعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله لنوافق ما يقولونه من أفكار في تحرير الشعوب، أو حقوق الإنسان، أو حرية المرأة على مناهجهم المختلة، وتصوراتهم الفاسدة، ومناهجهم الزائغة؛ لأننا لسنا في شك من ديننا، بل نحن على بصيرة. وهذا أمر مهم: فإن الأمن الفكري والثقافي هو صمام الأمان الأول، وخط الدفاع الذي إذا سقط كان الاضطراب فيما جاء بعده كما نرى ممن يتقاذفون هذه المقالات، ويروجون هذه الشائعات، ويزينون هذه المفتريات والمبتدعات؛ لأنهم ليسوا على بينة من أمرهم، كما قال الله عز وجل هنا: {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، وكما قلت: ليس حديثنا مستفيضاً في كل نقطة، وإنما هي ومضات.

الإيمان نور للبصيرة ورشد للعقل

الإيمان نور للبصيرة ورشد للعقل إن الإيمان يورث رشد العقل، ونور البصيرة، فيصبح المؤمن على بينة من أمره، يعرف الحق من الباطل، ويعرف الحق معرفة جلية واضحة لا يلتبس فيها معه غيره من الباطل، ثم يثبت على ذلك لأنه يرجع إلى أصل أصيل، وركن ركين، وأساس متين مرتبط بما لا يتغير ولا يتبدل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمونه اليوم (بالأمن الثقافي والفكري)، لا تتبدل أفكارنا، ولا تتغير تصوراتنا حتى وإن عظم القائلون بما يخالفنا، وإن أكثروا منه ونوعوا أساليب عرضه، وتفننوا في الإغراء به، ولئن شددوا أو أرهبوا في ضرورة التزامه؛ فإن ذلك عند أهل الإيمان لا يغيرهم مطلقاً، ولا يمكن يوماً من الأيام أن نغير شيئاً مما هو ثابت قاطع في حقائق الإيمان من آيات القرآن وهدي المصطفى العدناني صلى الله عليه وسلم. ولعلي أشير إلى معنى تتجلى به هذه الحقيقة في آية من كتاب الله عز وجل: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]. تأملوا أيها الإخوة في هذه الآية؛ فهي تحمل وضوح وبيان منهج سديد ليس من أفكار عقولنا، ولا من اجتهاد علمائنا، ولا من مجامع فقهائنا، كلا. بل هو من الله عز وجل، فهو معصوم كامل لا نقص فيه، صحيح لا باطل معه، ثابت لا شك يعتريه مطلقاً، {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ}، إن كذبت الدنيا كلها وخالفت فلا يعني أن نعود لنراجع، أو نبحث لنصحح، أو نجتمع لنرى هل هذا ما زال عاملاً وفاعلاً وصحيحاً أم أننا -كما يقولون- نحتاج إلى إعادة النظر في مناهجنا وثوابتنا وغير ذلك؟ {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ}.

أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان

أثر الإيمان والأمان في مواجهة العدوان إن من لم يخف الله خاف كل أحد سواه، ومن لم يذل لله ذل لكل أحد سواه، ومن لم يستعن بالله استعان وطلب معونة كل أحد سواه، ونرى ذلك واضحاً جلياً في واقع حياتنا، ولعلنا عندما نستحضر الأمثلة في ذلك ندرك حقيقة الأمر.

كعب بن مالك ورسالة الروم إليه

كعب بن مالك ورسالة الروم إليه وكذلك التحرر من الخوف على الرزق، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، أفإذا أعطانا غيرنا أو منعنا بدلنا؟ أفلا نرى المواقف اليوم وهي تباع وتشترى بالدرهم والدينار، أو بالجنيه والدولار، أفلا نرى ذلك الضعف والاختراق الأمني الخطير في صفوف الأمة الإسلامية منشؤه عدم وجود هذا الإيمان. كعب بن مالك رضي الله عنه من المخلفين الثلاثة، الذين قوطعوا ومنع الناس من الحديث معهم، قال عن نفسه: (حتى ضاقت علي نفسي، وضاقت الأرض بما رحبت). عندما كان هذا التغير في هذا الفرد علمت الدولة العظمى بذلك، وكانت تعلم أن الصف متماسك، ولكنها قالت: لعل هذه لبنة يمكن الاختراق من خلالها، ولعل هذا الغاضب على أهله وقبيلته أو عشيرته وأهل ملته؛ لعله أن يكون مهيئاً لينتقل إلى صفوفنا، وليكون من أوليائنا، ولنجعله سهماً ورمحاً نطعن به في خاصرة أعدائنا، قال كعب بن مالك: فإذا رجل من الأنباط يسأل عني، فأشاروا إلي، فأعطاني رسالة فيها: قد علمنا أن صاحبك قلاك -أي: هجرك- ولم يجعلك الله بأرض مضيعة، فالحق بنا نواسك. أي: تعال إلينا وسوف نعطيك ونعطيك ونقدم لك والذي يبيع موقفه يباع كما باع، والذي يذل لا يلقى شيئاً من دنياه ولا أخراه، وهذه قضية مهمة لعلنا نجعلها في أولى الأولويات في قضية الآثار الإيمانية، وللشافعي رحمه الله مقالة جميلة يقول فيها: أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبراً همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة قهراً

الفضل بن دكين وفتنة المال

الفضل بن دكين وفتنة المال من كان يوقن بذلك فإنه لن يبيع نفسه بدرهم ولا ديناراً، فهذا الفضل بن دكين من علماء الإسلام، عند فتنة خلق القرآن كان ممن يدرسون ويأخذون أجراً من بيت المال، فلما دعي إلى هذه الفتنة امتنع منها، قالوا: إذاً نقطع عنك عطاءك؛ فأي شيء صنع؟ قال: ما دنياكم التي عليها تحرصون إلا كزر قميصي هذا، ثم خلعه ورمى به في وجوه القوم. هذه قوة تستعصي على أي انجذاب أو تغيير أو تمييع أو استمالة. وكذلك فعل بأحد السلف في فتنة خلق القرآن وقطع عنه رزقه، وكان كما قال الذهبي في ترجمته: وكان في بيته أربعون نفساً -يعني: أسرته ومن يعولهم- فلم يفكر كيف سيأكلون؛ أو كيف سوف يؤمن حياتهم؟ لأن يقينه بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، قال الذهبي في السير أنه قال: فما جاء الليل إلا وطارق يطرق، ففتحت فإذا رجل شبهته بسمان قال: وإذا به يدفع لي كيساً فيه ألف دينار، ثم يقول: ثبتك الله كما ثبت هذا الدين، وإذا كان آخر كل شهر كان مثل ذلك، ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب. وهذه قضايا إيمانية مهمة في أحوالنا الملمة نحتاج إلى أن نتأملها ونتدبرها.

حبيب بن زيد ومسيلمة الكذاب

حبيب بن زيد ومسيلمة الكذاب ونعرف في هذا أمثلة كثيرة، لعلي أختم بمثال حبيب بن زيد رضي الله عنه يوم بعثه الرسول إلى مسيلمة الكذاب، فكان يقول له: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيعيد عليه مسيلمة ويريده أن يقول: وأن مسيلمة رسول الله، فيقول: لا أسمع، فيكرر عليه، فيقول: لا أسمع، فيبدأ بقطع أعضائه؛ فيقطع أذنه ويجدع أنفه، حتى قطع أوصاله وأسلمت روحه إلى بارئها وهو لم يغير موقفه، ولم يبدل، ولم يكن ذلك الذي يمكن أن يساوم على دينه، ولذلك كانت قوة الإيمان حرية لا يستطيع أحد أن يملك بها شيئاً تغير به معتقدك: قد تملك سوطاً يكويني وتهز القلب بسكين لكن سلطانك لن يرقى لذرى إيماني ويقيني وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم.

عبد الله بن حذافة وملك الروم

عبد الله بن حذافة وملك الروم ولعلنا نتذكر الموقف العظيم الذي يجمع بين هذا وذاك، كقصة عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه الذي كان مأسوراً عند الروم، فجاء به ملكهم وقال له: أترجع عن دينك وأعطيك شطر ملكي؟ قال: لا. وأعطيك كل ملكي؟ قال: لا. ولو أعطيتني الدنيا وما فيها. فأراد أن يأتيه من جانب آخر: جاءوا بقدر كبير مملوء زيتاً ثم أشعلوا تحته ناراً، حتى صار الزيت مغلياً، ثم أتوا ببعض أسرى المسلمين يغمسونهم في هذا الزيت فيدخل أحدهم لحماً ويخرج عظماً، وعبد الله ينظر، وبعد واحد واثنين وثلاثة دمعت عينه رضي الله عنه، فأخبر الملك، فقال: عليَّ به! ظن أنه قد لان وهان وذل وتابع وغير وبدل، فلما جاءه قال: فيم بكاؤك؟ قال: لقد علمت أن لي نفساً واحدة تغمس في هذا القدر فتزهق في سبيل الله، وودت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفساً تزهق كلها في سبيل الله. لقد كان يفكر في ميدان آخر، وكانت مشاعره غير ما يفكر به أولئك الدنيويون الخائفون الجبناء الأذلاء، ولذلك قال بمقال قطري بن الفجاءة رضي الله عنه: أي يوم من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر

موقف أنس بن النضر في أحد

موقف أنس بن النضر في أحد إن حقيقة الإيمان ترسخ أنه لا أحد ينفع ولا يضر ولا يقدم ولا يؤخر إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لغلام صغير وهو ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، من يستطيع أن يؤثر على من هذا إيمانه ويقينه؟ من يستطيع أن يؤثر على من يؤمن ويوقن بقول الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؟ أنس بن النضر رضي الله عنه لم يشهد بدراً، فقال: لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع، وهذا قول يمكن أن أقوله أنا وأنت، لكن إنما يتبين صدق القول عند الفعل. جاءت غزوة أحد وشارك فيها أنس بن النضر، ووقع ما وقع لالتفاف ابن الوليد رضي الله عنه، واضطراب المسلمين، ووقوع القتل فيهم، وإذا بـ أنس حينئذ يقول: (واها لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد)! كأنما يشم رائحتها، كأنما قضايا الإيمان تجلت، وكأنما هي حقيقة منظورة ملموسة، وليست مجرد غيب غير معروف ولا ملموس، ثم انطلق يلتمس الموت ليعانقه، ويخترق صفوف الكفار والمشركين ويقاتل، وتتخطفه السيوف، وتتناوله السهام، وفي صحيح البخاري: (لم يعرفه أحد إلا أخته بشامة أو بنانة له، قال: وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ليس فيها واحدة في ظهره)، فهل كان هذا يخشى الموت؟ هل مثل هذا يمكن أن يساوم على دينه؟

وصايا وتوجيهات في الأزمات تجاه العدو الكافر

وصايا وتوجيهات في الأزمات تجاه العدو الكافر سنذكر المهم من المسائل والتوجيهات التي يحتاجها المسلم في هذه المصيبة والملمة التي نسأل الله عز وجل أن يكشفها عن الأمة، وأن يفرج عنها بإذنه سبحانه وتعالى. ثمة أمور أيها الإخوة الأحبة ننبه عليها ونتواصى بها. نريد أولاً الجوانب المتعلقة بالجهة الإيجابية، أعني بالعمل، وقبل ذلك لابد من معرفة الحقائق، وبينهما لابد من الاعتماد والارتكاز على المبادئ، إن المواقف لا تبنى على المصالح، وإن الأحكام لا تؤخذ من الأهواء، وإنما ترجع إلى الأصول الثابتة، والجمل الجامعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أول الحقائق: معرفة حقيقة أعدائنا، وهذا أمر مهم، فإن أمريكا وغير أمريكا ليس عداؤها ومواجهتها لأمة الإسلام في هذا العدوان على العراق بل هو أعظم من ذلك وأشمل وأوسع، ولا بد أن ندرك هذا، وأن نعرف من التاريخ الحديث قبل القديم هذه الحقائق، ولعلنا نشير إشارات سريعة إلى بعض ما يدل على ذلك ويوضحه ويكشفه حتى نكون على بينة من أمرنا. هذه القيادة المعاصرة للقوة العظمى -كما يسمونها- صرح رئيسها عند توليه مقاليد الحكم قبل أن تحدث الأحداث التي جعلوها مبرراً للحرب؛ يقول في حديثه: إن لأمريكا زمن القوة العسكرية التي لا منافس لها، وطريق الأمل الاقتصادي والنفوذ الثقافي، إنه السلام الذي يأتي بعد الانتصار الساحق. هذا هو المفهوم، وهذا هو التوجه. وفي وثيقة السياسية الخارجية التي اتخذها هذا الرئيس أيضاً، والذي قدمها بين يدي حكمه: إنها يمينية من حيث الأيدلوجية -أي: العقيدة- ببعديها السياسي والديني تسعى لتحقيق مصلحة قومية عليا كونية، اقتصادياً وثقافياً، وتتجاوز كل تحرك أمريكا من أجل هذا على مدى القرون الماضية، إنها الحركة التي تعكس كياناً إمبراطورياً يسعى للوجود في كل بقعة من بقاع الأرض. وفي تصريح لمدير مكتب التخطيط للسياسة الخارجية الأمريكية يقول: الهدف الأمريكي للسياسية الخارجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين هو: إدماج بلدان ومنظمات أخرى في الترتيبات التي ستدعم عالماً يتسق مع المصالح الأمريكية. وغطرستهم وطغيانهم واضح في كل ما هو معلن مما يحتاج أن نكشفه ونقرأه، وأن نعرف به إستراتيجية الأمن القومي التي عرضت على الكونجرس الأمريكي، تقول: أمريكا ستعمل على حسم المعركة مع العالم الإسلامي، وأمريكا لا زالت مستمرة للحصول على دعم المجتمع الدولي، إلا أننا لن نتردد في اتخاذ خطوات من جانب واحد إذا لزم الأمر، وسنشن حرب أفكار لننتصر في المعركة. ويقول نائب وزير الدفاع: ينبغي منع أي قوة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها أن تجعل هذه القوة قوة عظمى، كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول المتقدمة إزاء أي محاولة لتحدي زعامتنا، كما علينا التنبه والتوقع لأي بروز يحتمل منافسة لنا على مستوى العالم.

مخاطر الاغتيالات

مخاطر الاغتيالات من أعظم وأخطر الاغتيالات الموجودة الآن في الساحة: اغتيال التدين الذي إذا ذهب واغتيل سفكت الدماء، وانتهكت الأعراض، وفشت الفاحشة وأعلن بها والعياذ بالله! وإن أعظم خطر قاتل للتدين والورع هو خطر القنوات الفضائية، فهي التي سلبت الحياء، وأمرضت النفوس، وأضعفت الإيمان، فكانت بئس المعول، ولم تثمر لنا إلا المر والحنظل.

حرمة اغتيال النفوس ومفاسدها

حرمة اغتيال النفوس ومفاسدها الحمد لله جعل الإيمان عزاً وأماناً وجعل الإسلام فخراً وسلاماً، له الحمد سبحانه وتعالى أحسن إلينا بشريعته، وأكرمنا بطاعته، وجملنا بالتزام أحكامه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كثيراً طيباً مباركاً دائماً ما دامت السماوات والأرض. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه وكان أبعدنا عنه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! مخاطر الاغتيالات، حديث يهمنا كثيراً، وبادئ ذي بدء: ليس حديثي مركزاً ولا مقصوراً على الاغتيالات بمعناها الذي تعرفونه، بما تشتمل عليه من قتل الغيلة، لأن الاغتيال في معناه إلحاق الشر أو القتل أو الضر بالإنسان خفيةً أو خدعةً، وكلنا يعلم هذه المخاطر من هذا المعنى المعروف، والأحداث التي جاءتنا قريباً في العاشر من هذا الشهر، وليس حديثنا عن هذا لأن حكمه معلوم، فإن القتل بغير حق حرام من أعظم الكبائر في دين الإسلام، وإن المفاسد التي تترتب على ذلك عظيمة لا تكاد تخفى على أحد، ولها أثر وخيم، وضرر كبير لا تخطئه العين. فكل قتل بغير مسوغ وسبب شرعي ظاهر فهو من أعظم المحرمات، والقتل العشوائي الذي لا يفرق بين كبير ولا صغير، ولا رجل ولا امرأة، ولا صالح ولا طالح، هو قطعاً مما يعلم أنه ليس له في الحل والمشروعية مكان ونصيب، إذ لم يكن مقصوداً به أعداء الله عز وجل من الكفرة والمحاربين المعتدين، وهناك مفاسد عظيمة ليس هذا حديثنا فيها، ومقامنا عنها، ولكننا نذكرها تمهيداً لما نريد الحديث عنه، ومنها: ترويع المسلمين، وإشاعة الخوف في قلوبهم. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن من كان معه سهام ودخل إلى مسجد، فليأخذ بنصال سهامه لئلا يؤذي أو يروع المسلمين)، فكيف ومثل هذا القتل والاغتيال يجعل كل أحد يرى أنه قد يكون هو الضحية في ذلك؟! فلا يكاد أحد يأمن على نفس وروح، ولا على مال وملك، ولا على عرض وشرف. وفيه مفسدة أخرى وهي الاستهانة بالدماء، وهي من أعظم ما حرم الله عز وجل وعظم شأنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء). الدماء وما أدراك ما الدماء، كل شيء يهون بعد الإيمان والاعتقاد الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). وهذا القتل العشوائي الكبير الواسع كأنما يجرئ الناس على هذا الفعل، ويجعل النفس رخيصة لا قيمة لها، وذلك ليس من أحكام الإسلام، ولا من مقاصده، بل هي على النقيض من ذلك، وفيها مفسدة حصول الفتنة والاضطراب، وحيرة الآراء، وتبلبل الأفكار، واختلاف الظنون، وحصول كثير من هذه الأمور العظيمة التي تضطرب بها الأحوال، إضافة إلى إفادة أعداء الإسلام والمسلمين، فإن التفريق ليس بحاصل على وجه يدركه العاقل، بحيث يكون تمييزاً تاماً وكاملاً بين مسلم وآخر، ثم هو من جهة أخرى إضعاف لمواجهة الكفرة المعتدين المحتلين، لأن كل جهد يصرف في باب غير بابه، وفي أولوية غير أولويتها لا شك أنه يؤثر، وهذا أمره ظاهر بين، ولذا لا أفيض فيه.

اغتيال التدين والورع

اغتيال التدين والورع ومقصدي الأعظم هو نوع آخر من الاغتيالات لا يقل خطراً ولا يستهان به ضرراً، ولا يغفل عنه فتكاً، إذ هو اغتيال ينفذ إلى سويداء القلوب، وإلى أعماق النفوس، إنه اغتيال يجتث أصول وجذور التدين من قلوب المؤمنين، وهو إلى ذلك ينزع عنهم ما يجملهم من الأخلاق الفاضلة والقيم السامية، فيمسخهم حتى يصيروا كالبهائم والحيوانات، لا تعرف في حياتها إلا شهوة بطنها وفرجها. ذلكم الاغتيال الذي يسري بين صفوفنا، وتتشربه عقولنا، ويتسرب إلى نفوسنا، ويجوس بين ديارنا، ويختطف أبناءنا وبناتنا، ويغزونا في عقر دارنا، ويجري على ألسنتنا، ولا تخطئه عيوننا، ولا أسماعنا، أفلا ترون أنه أشد خطراً من قتل تزهق به النفس مرة واحدة؟! وقتل الروح والبدن أعظم من قتل الإيمان والخلق، فإن الإنسان بلا إيمان ولا أخلاق ليست له قيمة في دنياه، وليس له في الآخرة إلا جهنم وساءت مصيراً، ثم لا يرتقب منه إذا تجرد من إيمانه وخلقه، إلا كل فساد وضرر وخطر، ليس على نفسه فحسب، بل على البشرية كلها.

تعريف الورع وفضله في الدين

تعريف الورع وفضله في الدين أولاً: اغتيال الورع والتدين: أيها المؤمنون! أيها المسلمون! يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم! يا من تستضيئون بضياء آيات القرآن، وتسترشدون بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن أعظم ثروة تملكونها، وأغلى قيمة تنطوي في صدوركم وقلوبكم هو ذلك الإيمان الذي يشع بالتدين والخوف من الله، والمراقبة له، والحياء منه، والرغبة والشوق إليه، ذلكم المعنى العظيم الذي يتحقق به الورع. ومن جميل ما في لغة العرب أنهم يقولون: إن الورع هو الكف عن المحارم والتحرر منها، وقال المناوي رحمه الله: الورع ترك ما يريبك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق. وقيل في معناه: تجنب الشبهات ومراقبة الخطرات. وقيل: ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس. وأجمع وأوجز ابن القيم فقال عن الورع: هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة. يوم تعمر القلوب بالإيمان، وتصفو وتسمو وترتفع، فيكون أدنى محرم بل أيسر ما فيه شبهة، بل ربما ما فيه حل، تبتعد عنه طلباً للكمال، وسمواً إلى مرضاة الرحمن سبحانه وتعالى، فلا تجد إلا بصراً غاضاً عن الحرام، ولساناً كافاً عن الآثام، وجوارح متزينة بزينة التقوى، متحلية بحلية الإيمان. ولذلك انظروا إلى كلام علمائنا وأئمتنا وهم يجلون لنا هذا المعنى العظيم في التدين والورع، فيقول الراغب: إنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: واجب وهو في ترك المحارم، ومندوب وهو في ترك الشبهات، وفضل وهو في ترك بعض المباحات، هذا التدين والورع والمراقبة التي نكاد اليوم نفقدها إلا من رحم الله. استمعوا إلى حديث حذيفة بن اليمان وهو يروي عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كلمات من جوامع كلمه، يقول فيها عليه الصلاة والسلام: (خير دينك الورع) رواه البزار والطبراني والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. وكلكم يستمع ويذكر الحديث المشهور عن وابصة بن معبد رضي الله عنه، قال: (جئت أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإثم، فقال: جئت تسأل عن الإثم؟ قلت: يا رسول الله! ما جئت إلا لذلك، فقال: عليه الصلاة والسلام: البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس) رواه الإمام أحمد وجود المنذري إسناده. أي قلب هذا الذي نستفتيه اليوم وهو اليوم يكاد يفتي في المحرمات المقطوع بها بأنها حلال زلال، أصفى من الماء؟ وأي صدور تلك التي تضيق بالمنكرات، وقد أصبحت في كل حركة وسكنة، وفي كل لحظة وثانية، وفي كل مكان حتى في عقر البيوت؟

منهج الإصلاح في القرآن والسنة

منهج الإصلاح في القرآن والسنة لقد وضع الشرع الحكيم للإصلاح منهجاً قويماً، بحيث لو طبق الإصلاح وفق هذا المنهج لانتشر العدل والأمن والرخاء والطمأنينة والسكينة، وللإصلاح منطلقات وضوابط، ومن أهم منطلقاته الإيمان بالله عز وجل، والتقوى والاتباع، وله أيضاً حقيقة، وهي: منع الظلم والبغي المتفشي في المجتمع بالطرق السليمة الموافقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أهمية منهج الإصلاح في القرآن والسنة

أهمية منهج الإصلاح في القرآن والسنة الحمد لله خلق الخلق، ووهب الرزق، وقدر الأقدار، وكتب الآجال، أحمده سبحانه وتعالى جعل القرآن هداية وعصمة، والسنة سلامة وحكمة، وجعل الاستمساك بهما نجاة من كل فتنة، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى ومنار التقى، معلم البشرية وهادي الإنسانية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجعلنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بصرنا من العمى، وأرشدنا من الغواية، وكثرنا الله من بعد قلة، وأعزنا الله به من بعد ذلة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن منهج الإصلاح في القرآن والسنة موضوع يهمنا جميعاً، ونفتقر إليه كثيراً، فيه النور الذي يبدد الظلمات، والعصمة التي تمنع من الفتنة، والحكمة التي تمنع من الطيش، ولا شك أننا -معاشر المؤمنين- نوقن بأن الخير كله والهدى كله والصلاح كله مستودع في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيهما جمع كل متفرق، وتأليف كل مختلف، وفيهما بيان كل حق، ودحض كل باطل، ومن هنا فإن المؤمن الحق والمسلم الصادق ينبغي عليه أن يحقق واقعاً لا قولاً، وأن يجتهد فهماً وتطبيقاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإننا في عصر اضطربت فيه الآراء، واختلطت فيه الأهواء، وتكاثر فيه الأعداء، ولا شك أن ذلك كله موجب ودافع إلى العود إلى المنبع الصافي الذي لا تشوبه شائبة، وإلى المنهج الكامل الذي لا يعتريه نقص، وإلى المسلك المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الإصلاح مبدؤه وأساسه وضوابطه وحكمه

الإصلاح مبدؤه وأساسه وضوابطه وحكمه الإصلاح من الذي يؤهل له؟ ومن الذي ينبعث إليه ويندب إليه؟ أول الإصلاح ومبدؤه هو الإيمان بالله عز وجل، والاستسلام لحكمه وشرعه، فنحن نوقن أنه لا صلاح ولا إصلاح لأحوال الخلق أجمعين ولأحوال المسلمين بخاصة إلا من منطلق الإيمان وحكم الإسلام، وغير ذلك لا بد أن يكون فيه قصور ونقص واضطراب واختلاف؛ لأن الله جل وعلا هو خالق الخلق، وهو العالم بما يصلح شئونهم {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، ومنطلق الإيمان هو أول هذه المنطلقات وأساسها: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام:48]، ولو مضيت وتأملت آيات القرآن لوجدتها تربط بين الإيمان والإصلاح، وتجعل الإيمان مقدمة له، وتجعله سابقاً عليه؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك إصلاح بغير المنطلق الإيماني والمنهج الإسلامي {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35] لا ينبعث إلى الإصلاح إلا من اتقى الله وعمر قلبه بخشيته وتقواه؛ لأن ذلك عاصم له بإذن الله من أن يخوض فيما لا ينبغي الخوض فيه، وأن يقترف ما يحرم وما يحول بينه وبين التحقق بتقوى الله جل وعلا، ثم إننا كذلك نلمح الأمر في كلتا الآيتين بذكر الرسل والأنبياء قبل ذكر الإصلاح، وذلك فيه إشارة إلى منطلق مهم، وهو أن المنطلق للإصلاح مع الإيمان والتقوى هو اتباع الرسل والأنبياء صفوة الله من خلقه صلوات الله وسلامه عليهم، فنحن هنا نقرأ قوله جل وعلا: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165]، ثم يأتينا من بعد {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعام:48]، ويأتينا كذلك {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} [الأعراف:35]، وأظهر من ذلك -أيضاً- ما كان بين موسى وهارون عليهما السلام عندما عهد موسى إلى أخيه قائلاً: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]. إن السير على آثار النبوة واقتفاء منهج السنة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عصمة من كل فتنة، وأمان من كل خوف، وحق لا يداخله -بإذن الله عز وجل- شيء من الباطل، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويبصرنا فيقول: (العلماء ورثة الأنبياء) والوارث إنما يأخذ إرثه ممن ورثه، فلا حظ ولا نصيب ولا شيء عند أهل العلم إلا ميراث النبوة، مما جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في كتاب الله وفي سنته وفي سيرته وفي هديه الذي تمثل في سائر جوانب الحياة، سلم وحرب، حل وسفر، مع الأصدقاء ومع الأعداء، في كل جانب من جوانب الحياة لنا من سنته هدي، ولنا في سيرته بصيرة صلى الله عليه وسلم، انظر إلى تأكيده وبيانه لهذا الأمر، فعندما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (بم تحكم؟ فقال معاذ: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو -أي: في ضوء كتاب الله وسنته-. فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) إنه المنهج الذي لا بد منه لكل آخذ بسياسة الناس، أو عامل في مجال إصلاحهم، أو ساع في تبصيرهم ودعوتهم، ثم هاهو صلى الله عليه وسلم -أيضاً- في وصيته لـ معاذ يبصره ويبين له المنهج، ويعطيه المفاتيح التي يصل بها إلى الغاية ويحقق النجاح، يقول له عليه الصلاة والسلام: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) وهكذا نجد هذا المنهج في منطلقات الإصلاح بيناً واضحاً، أساسه الإيمان، وحكمه وضابطه الإسلام، وحاديه تقوى الله سبحانه وتعالى، وإمامه اتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن أراد إصلاحاً فهذا هو المنطلق.

حقيقة الإصلاح في الكتاب والسنة

حقيقة الإصلاح في الكتاب والسنة إن علينا أن ندرك حقيقة الإصلاح من كتاب الله عز وجل ومن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما هو هذا الإصلاح؟ ما هو الذي يقع به ما نؤمله ونرجوه من هذا الإصلاح؟ قال عز وجل: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182]. إذاً هذا الإصلاح هو منع للظلم والإثم، وإن كانت الآية في شأن الوصية والموصي، لكن المقصد أنه إذا وجد الجنف والظلم والاعتداء ولو من غير قصد، أو إثم ومعصية وهي التي يكون فيها العلم والقصد فإن الإصلاح هو الذي يرد ذلك، وإن حقيقته أن يحول بين الناس وبين هذا الظلم أو ذلك الإثم. وحقيقة أخرى في الإصلاح {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:39]، والآية قد جاءت بعد ذكر حكم السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38]، ثم جاءت هذه الآية: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة:39] لتدلنا على أن الإصلاح يمنع الظلم والإثم ويدعو إلى الخير والإحسان. ثم هو كذلك مانع لأعظم سبب من أسباب الفساد التي تقع في الأرض فتزهق بها الأرواح وتذهب بها عصمة النفوس، ويختل بها نظام الأمن، ويقع فيها من الشرور والمفاسد ما لا ينضبط ولا يحصر أولاً ولا آخراً، كما قال جل وعلا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، وذلك مؤذن بأن حقيقة الإصلاح منع للقتل والاقتتال ولإزهاق الأرواح، ولما يترتب على ذلك من اختلال الأمن، ومما يترتب عليه من شيوع الفوضى -نسأل الله عز وجل السلامة-، فمنع هذا أمر مهم. ويلحق به كذلك أن من حقيقة الإصلاح بقدر الطاقة والاستطاعة منع الاختلاف والتنازع، فالله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، وجاء في قصة الأنفال واختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في شأنها في بدر في أول غزوة تكون لهم فيها تلك الغنائم عندما قالت كل طائفة قولاً، فجاء قوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] فجعل ذلك الإصلاح مانعاً للاختلاف، وذلك بالرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أمره بين واضح.

صورة عملية تطبيقية لمنطلقات الإصلاح في القرآن والسنة

صورة عملية تطبيقية لمنطلقات الإصلاح في القرآن والسنة ننتقل إلى مثل قرآني لعله يجمع صورة عملية لهذه المنطلقات وتطبيقاتها في شأن الإصلاح، في قصة نبي من أنبياء الله عز وجل، وهو شعيب عليه السلام في خطابه لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] هذه صورة متكاملة ومنهج واضح وتطبيق عملي في خطاب يعلن المبادئ ويبين المسالك، ويظهر الاعتماد والقاعدة التي يكون منها الانطلاق (إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي). فلا انطلاق قبل وضوح الرؤية، وقبل بيان الحكم، وقبل معرفة الحق من الباطل، وقبل إزالة الالتباس والاشتباه، كما بين هنا (إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا). ثم التزام الإصلاح قبل الدعوة إليه من أعظم أسباب نجاحه، ومن أعظم الأسباب الدالة على صدق الداعي إليه (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) أي: كيف أزعم الإصلاح وحقيقة القول الذي أقوله يترتب عليها الفساد، وحقيقة الفعل الذي أفعله يقع منه ما يعارض هذا الإصلاح؟! فإن مثل ذلك لا شك أنه ينقض هذه الدعوى ويبطلها ويعريها عن حقيقتها، وإن كان لصاحبها نية فعلم نيته عند ربه. ثم نلحظ كذلك قوله: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، وهنا أمر مهم ومقصد عظيم، وهو الإخلاص في الإصلاح، إنه إصلاح لا يريد تحصيل مصالح شخصية، إنه إصلاح لا ينطلق من نوازع نفسية، ولا من صراع شخصي، ولا من أهواء في نفوس من يزعمون ذلك الإصلاح، ولا يكون ردود أفعال عاطفية ولا حماسة طائشة، إن معاشر المسلمين لا ينطلقون إلى أمر ولا يتقدمون إلى فعل إلا وقد تحروا أمرين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً: الأمر الأول: البينة الواضحة في الحكم الشرعي بأدلته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: الاجتهاد الخالص المخلص فيما يظن أنه يترتب على الفعل من المصالح والمفاسد والموازنة بينهما، فما رجح من المصالح على المفاسد كان الأولى فعله، وما رجحت مفاسده على مصالحه فالأولى تركه وإن كان مباحاً أو جائزاً، بل ربما يكون مندوباً أو في بعض الأحوال واجباً، لكنه في حال يترتب عليه مفاسد كبرى قد يكون فعله مع تصور ذلك محرماً، مع كونه في الأصل واجباً. وهذا فقه بثه العلماء وساقه قبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ترك أموراً لئلا تترتب عليها مفاسد، كما روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بإسلام لنقضت الكعبة وأعدت بناءها وجعلت لها بابين) وبين البخاري ذلك في ترجمته، وبينه ابن حجر في شرحه، وبين أن من الفوائد أنه يمكن أن تترك المصلحة إذا خشي أن تكون هناك مفسدة أعظم، وذلك مبثوث في كثير من المواقف التي كانت في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولعل من أجلاها وأظهرها أنه عليه الصلاة والسلام اعتمر وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة في عمرته الشهيرة بعمرة القضاء في العام السابع من الهجرة والكعبة حولها الأصنام، وعلى الصفا والمروة إساف ونائلة، فهو عليه الصلاة والسلام لم يهدم من تلك الأصنام صنماً، ولم يبصق عليها ولم يسفّهّا، لكننا نوقن جميعاً أنه كان يبغضها، وكان يتمنى لو أزالها، لكنه كان عليه الصلاة والسلام يعلم أن لكل حادث وقته، ولكل عمل ما ينبغي أن يتدرج فيه وأن تتوافر أسبابه، وقد كان صلى الله عليه وسلم في عهد وصلح مع كفار قريش، فالتزم عهده وأوفى بذمته، ومن بعد عام تيسرت الأمور وجرت الأقدار، فجاء فاتحاً يطعن هذه الأصنام وتتهاوى وتتكسر، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: ({وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]).

طرق الإصلاح ومعالمه

طرق الإصلاح ومعالمه لدينا كثير من الأبواب والمسالك التي هي من طرق الإصلاح في كل أمر من الأمور، ولها معالم كثيرة، ومن أولها وأبزرها التعليم والإرشاد، فإن الناس قد عمهم -إلا من رحم الله- جهل كبير بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة أحكام الإسلام ومقاصده الكبرى وقواعده العظمى، وموازينه وضوابطه التي يعرف بها الترجيح بين الأدلة عند تعارضها واختلافها، والترجيح بين المصالح والمفاسد، وغير ذلك من الأمور المهمة التي ينبغي أن يشيع علمها في عموم الأمة، وأن تكون موضع اهتمام ورعاية وتعمق وتخصص عند علمائها ودعاتها والمتصدرين فيها لأي أمر من أمور الخير والإصلاح والدعوة والإرشاد. المعلم الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فما بالنا نترك هدي النبي صلى الله عليه وسلم وحثه وحضه وبيانه وتفصيله لهذه الشعيرة وأهميتها وطرق ممارستها في كل الجوانب، وفي كل الجهات المختلفة؟ كما نعلم من كثير من أحاديث المصطفى التي يضيق المقام عن ذكرها، كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الحديث المشهور: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وبيانه صلى الله عليه وسلم لصور كثيرة مختلفة في هذا الشأن، فأين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وأين الدعوة بأساليبها الحكيمة ومواعظها الحسنة ومجادلاتها اللطيفة؟! أين ذلك في واقع الأمة؟ هل استنفدت أغراضها؟ هل تعلم الجاهلون؟ هل تذكر الغافلون؟ هل حذر الذين يسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟ إلى غير ذلك من أمور كثيرة. المعلم الثالث: التدرج وحسن سياسة الناس؛ فإن الأمور لا تأتي طفرة، وإن الإصلاح لا يأتي دفعة، وإن هذا الذي يمكن أن يظن أنه يصلح في كثير من الأحوال عندما لا يأخذ بالهدي النبوي والنهج القرآني يفسد ولا يصلح. هذا عمر بن عبد العزيز -وكلنا يعلم من هو خيراً وصلاحاً وتقىً وعدلاً وإنصافاً وزهداًَ- يدخل عليه ابنه فيقول له: ما لك لا تنفذ الأمور فتصلح الفاسد وتقوم المعوج وتلزم الناس الحق، فوالله لا أبالي إن غلت بي وبك القدور؟! فيقول عمر -ولا نستطيع أن ننافسه رحمه الله في إيمانه وتقواه، ولا في غيرته وحميته، ولا في علمه وبصيرته، ولا في حنكته وحكمته- يقول رحمه الله في هذا الشأن: يا بني! إن الله ذم الخمر في آيتين وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة، ويكون من ذا فتنة. لم يمنعه من ذلك أنه لا يعرف أن هذه أمور مطلوبة أو مرغوبة أو مستحبة، لم يمنعه من ذلك أنه لم يكن غيوراً على دين الله حريصاً على نشر الخير، لكن البصر والبصيرة، لكن الحكمة في سياسة الأمة، لكن الحنكة في إنفاذ الإصلاح دعت عمر -وهو حاكم وخليفة وسلطان- أن يتأنى وأن يحسن السياسة والإصلاح، فما بال من يكون ليس في علمه ولا في سلطانه ولا في مقام تقواه وإيمانه؟ نسأل الله عز وجل السلامة. ثم انظر إلى ما وراء ذلك من أمور كثيرة، وأحوال عظيمة، وأصول شرعية مانعة جامعة، ومن أبرزها أن الإصلاح في ديار الإسلام لا ينطلق من منطلق الفرقة وضياع العصمة، والبدء بخلع السمع والطاعة والإمرة والإمارة، فإن ذلك لا يُتحدث عنه سياسة، ولا ينبغي أن يُتحدث عنه نفاقاً ومداهنة، بل هو مما جاءت به الآيات ونصت عليه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جاء في تفصيل الأحاديث النبوية ما قد يعجب له بعض الناس، من ذلك التشديد والتأكيد على مجتمع المسلمين على السمع والطاعة، والحرص على الجماعة، فإن ذلك من أعظم الأمور وآكدها، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة. قالوا: يا رسول الله! هل ننابذهم؟ قال: لا. ما أقاموا فيكم الصلاة) وسأله السائل فيما جاء في حديث حذيفة الطويل في الفتنة: (فماذا أفعل إن أتي بي إلى الصف؟ قال: خذ سيفك ودقه بحجر) أي: لئلا يكون لك مشاركة في أمر يكون به إزهاق أرواح المسلمين، وفي الفتنة التي تعم مجتمعاتهم. (فقال: يا رسول الله! أرأيت إن أتي بي بين الصفين؟ قال: إذاً يبوء بإثمه وإثمك). وهناك كثير من الأحاديث تبين لنا أمراً مهماً، وهو أن الخلل والنقص ووجود بعض الانحراف القليل مع وجود عصمة جامعة للأمة وإمرة ضابطة لأمورها، فإن الهدي النبوي في معالجة الأمر لا ينزع -قطعاً- إلى خروج عن هذه الطاعة؛ لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة التي ذكرها العلماء، ومن ذلك ما ذكره ابن بطال فيما نقله ابن حجر في حكمة هذه النصوص النبوية التي تمنع من سفك الدماء والخروج على الطاعة، قال: فيه حقن الدماء، وتسكين الدهماء. وذلك يمنع الفوضى التي رأينا مثيلاً لها في البلاد المسلمة التي انفرط عقدها، والتي عظمت فيها الفتنة والرزية، والتي تجاوزت فيها بعض هذه البلاد أكثر من عقد من الزمان والأمن فيها مختل، والحال فيها سيئ، والتعليم فيها منقطع أو مضطرب، وحياة الناس في كرب، وأمر الإسلام وإقامته وشرائعه لم تتحقق على ما كان يظن أو يتوهم أو يقول أولئك القوم في تلك البلاد أو غيرها. وهذا من الأمور المهمة، نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بحقائق ديننا في كتاب ربنا، وأن يبصرنا ببينة أمرنا في سنة نبينا، وأن يجعلنا أبعد ما نكون عن الفتنة والمحنة، وعما يترتب عليه الفساد والإفساد، إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه.

نماذج من مواقف السلف تجاه اجتماع الأمة وإصلاحها

نماذج من مواقف السلف تجاه اجتماع الأمة وإصلاحها إن من أعظم التقوى الحرص على مصالح المؤمنين وإصلاح مجتمعاتهم، والبعد عن كل ما يشيع فيهم الفساد، أو يذهب عنهم عصمة الدماء والأموال وغير ذلك، ولعلنا عندما نريد أن نؤكد مثل هذا النهج نراه في سير الأصحاب رضوان الله عليهم، وفي سير الأسلاف من التابعين ومن جاء بعدهم من مشاهير الأئمة والعلماء الذين نجزم أنهم أعظم إيماناً وأغزر علماً وأقوى حجة وأشد غيرة لدين الله عز وجل مما قد يكون عندنا، ولذلك أذكر بعض المواقف وغيرها كثير وكثير. فهذا الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنه، الذي كان ممن ذهب مع كثير من الصحابة إلى الامتناع عن القتال في الفتنة، ولقد استمع إلى خطبة لـ معاوية رضي الله عنه وأرضاه في اجتهاده بعد تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه له بالخلافة فكان يقول: من كان عنده كلام فليتكلم به، فإنا أعلم بذلك منه ومن أبيه. قال ابن عمر رضي الله عنهما: فكنت أريد أن أقول: (أحق منك بهذا من قاتلك وأباك على الإسلام. ولكن خشيت أن أقول كلمة تفرق جمع المسلمين ويسفك بها الدم). ذلك هو منطلق الإيمان، وتلك هي عصمة التقوى، وتلك هي بصيرة العالم بترجيح المصالح والمفاسد، وذلك ما فعله سعيد بن المسيب رحمه الله، كان من أئمة التابعين الكبار الذين كانت لهم مواقف مشهورة مذكورة في قول الحق وفي الصدع به، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن دون أن يكون ذلك مؤذناً بفتنة أو مفضياً إلى سفك دم، أو مؤدياً إلى اضطراب وخلل في أمن الناس ومعاشهم، ولذلك كان يقول رحمه الله: الشيطان مع الشاذ والخارج عن الجماعة، وهو من الاثنين والجماعة أبعد. أما الحسن البصري فكان من أئمة التابعين إيماناً وزهداً وعبادة، فقد جاور الحجاج مع ما هو معروف عنه من ظلمه وبطشه، وقالوا للحسن: ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام وأكل المال الحرام وترك الصلاة جماعة، وما كان عليه من مخالفة السنة؟ فقال: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبته، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. وكان ينهى عن الخروج على الحجاج، ويأمر بالكف ويقول: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل السلطان صبروا ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فوالله ما جاءوا بيوم خير قط.

حكم الخروج على السلطان وإشاعة الفوضى في المجتمع المسلم

حكم الخروج على السلطان وإشاعة الفوضى في المجتمع المسلم هكذا نجد المواقف الكثيرة التي استنبطت مثل هذا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا ومن غيره مما أسلفناه من القول يتبين لنا حرمة ما يفعل من مثل هذه الجرائم التي لا تحقق مصلحة، بل قد تزهق أرواح ليست مقصودة، حتى لأولئك الذين اعتدوا، ويصبح بذلك نوع من اضطراب وخلل في الأمن وإشاعة للفساد، ويلحق بذلك كذلك ما يتضمنه مثل هذا الفعل من رجحان تكفير أولئك لقتل هؤلاء، واستباحة أولئك لقتل هؤلاء، ونظرهم في جواز أو في وجوب الخروج عن السمع والطاعة وشق عصا الجماعة، وكل ذلك من الأمور التي دلت النصوص الشرعية على حرمتها والمنع منها. وليس من الإصلاح كذلك الدعوة إلى الاضطراب وإلى إشاعة الخلل في المجتمع، وذلك بصور مختلفة كثيرة، فإن ما في الأمة اليوم عموماً، وما يوجه إلى البلاد التي تضم الحرمين الشريفين خصوصاً فيه من الفتنة والبلبلة ما يعتبر مثل هذا زيادة فيه وتكريساً له وإشاعة لأمور تعظم بها الفتنة ويكثر بها الفساد ولا يقع بها الإصلاح، ونحن نعلم جميعاً أن بلاد الحرمين هي خير بلاد الإسلام والمسلمين، ولا يظنن ظان ولا يقولن أحد من مسئول ولا من دونه: إنها معصومة من الخطأ، وإنها كاملة لا نقص فيها، وإنه لا يوجد خلل أو لا يوجد تجاوز أو استعمال لبعض السلطات والمسئوليات في غير موضعها، لكن علاج ذلك بالمنهج النبوي والقرآني من المناصحة والصبر والتدرج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك نحن اليوم في أمس الحاجة إلى أن ندعو إلى زيادة التعليم الديني والإسلامي، وإلى زيادة أنشطة الدعوة وتبصير الناس بها، وإلى زيادة بيان الحق للناس في أمور ومجامع كثيرة؛ لأن غياب مثل هذه الدعوة وعدم معرفة هذه المسائل، وتقليص التعليم الديني أو الهجوم عليه -كما يفعل بعض الكتاب جهلاً أو قصداً- إنما يؤدي إلى اتساع الخرق على الراقع، ويمنع من وقوع أسباب الإصلاح، ولذلك فإنه لا بد لنا أن نؤكد على الأمر المهم، وهو أننا إذا أردنا انطلاقاً إلى الإصلاح فانطلاقنا إيماني إسلامي نبوي، وأننا ينبغي أن نعرف حقيقة الإصلاح، وأنه منع للظلم والإثم والاختلاف والنزاع وسفك الدماء واختلال الأمن، فكيف يكون الإصلاح بإيقاع مثل هذه الأمور؟! فإن الذين يدعون إلى الخروج عن الطاعة، أو الذين يدعون إلى أن يكون هناك أعمال يراد بها إثارة البلبلة والقلاقل إنما يؤدي فعلهم إلى عكس حقيقة الإصلاح القرآني، وقد رأينا كذلك أمراً مهماً، وهو أن نبحث عن المنطلقات في الشخصية المصلحة بأن تكون مخلصة لله متجردة عن الهوى، ليست منطلقة من ردود الأفعال ولا من التشكي ولا من التحدي ولا من غير ذلك، فإن أمر الأمة وسياستها أعظم من أن يكون خاصاً بهذا الشخص أو ذاك، أو بهذه الفئة أو تلك، فالمصلحة الإيمانية الإسلامية أعظم وأولى أن يراعيها الجميع حكاماً ومحكومين، علماء ودعاة، عامة ومتعلمين، تأتلف عليها قلوبهم، وتجتمع لتحقيقها جهودهم، ويتنازلون لأجلها عن بعض آرائهم أو عن بعض مصالحهم، حتى يجمع الله عز وجل القلوب، وندرك كذلك أخيراً أن كل أمر يقع به اضطراب أو تقع به فتنة أو يحل به شيء مما يؤدي إلى اختلاف الآراء أنه يصب في خانة الأعداء ومصالحهم، ويبرر ويوفر أسباباً لمزيد من العدوان على الإسلام وأهله، وعلى بلاد الحرمين الشريفين على وجه الخصوص، ولذلك ينبغي لنا أن نبصر هذه الأمور وأن نبصر بها، وأن لا يكون لنا غير ذلك؛ لأن هذا هو الذي نفهمه فهماً صحيحاً مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما تواتر وتسلسل في عدد كبير من أسلافنا رضوان الله عليهم، ومما نطق به علماؤنا وأئمتنا ومشايخنا في عصرنا الحاضر، بل وأجمعت عليه كثير من المجامع الفقهية، فبعد هذا كله كيف نترك ذلك ونميل إلى رأي أو إلى قول لا يتطابق مع هذه المنطلقات، ولا ينطلق من هذه الاستنباطات، ويكون لنا من وراء ذلك ظن بأننا نصلح وأننا نحسن؟! نسأل الله عز وجل أن يعصمنا من الفتنة والزلل، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يسخرنا لنصرة دينه وعون عباده، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين. اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! إنا نسألك لهذه البلاد ولبلاد المسلمين، أن توفر أمنها، وأن تعظم وحدتها، وأن تزيد رزقها، وأن تردنا وترد المسلمين جميعاً إلى دينك رداً جميلاً، وأن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد والرشد والصواب، وأن تجعل في بلاد المسلمين تحكيماً لكتابك ولسنة نبيك كاملاً غير منقوص، وأن تجمع القلوب على ذلك، وأن توحد الجهود على إقراره وإمراره يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم! إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن ترفع بفضلك كلمة الحق والدين، وأن تنكس راية الكفرة والملحدين. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! فرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك -اللهم- من شرورهم، اللهم! خالف كلمتهم، اللهم! اجعل بأسهم بينهم، اللهم! إنا نسألك أن ترينا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم! لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، وأرنا فيهم عجائب قدرتك عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين. اللهم! رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين. اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج كربتهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. واجعل -اللهم- لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإصلاح منطلقاته ومجالاته

الإصلاح منطلقاته ومجالاته للإصلاح مجالات متعددة، ولكل مجال منها ضوابط شرعية، فالواجب على المسلم أن يلتزم بتلك الضوابط الشرعية؛ حتى لا يقع في مخالفة شرع الله ودينه. ولقد تداعت الأمم الكافرة إلى الإصلاح الشامل، والتغيير الكامل، ولكن وفق أهوائهم ورغباتهم، وبما يحقق مصالحهم ومآربهم، والغريب أنك تجد كثيراً ممن ينتسبون للإسلام قد اغتروا بهم، وساروا يدعون إلى ما يدعون إليه، فيجب الحذر من الانجرار وراءهم أو الانخداع بهم.

الإصلاح في المجال الاقتصادي

الإصلاح في المجال الاقتصادي الحمد لله جعل الإيمان في الدنيا نجاحاً، وفي الآخرة فلاحاً، وجعل الإسلام لحياة الناس صلاحاً، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. نحمده سبحانه وتعالى حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله جل وعلا إلى الناس كافة أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم إلى اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! حديثنا موصولاً عن الإصلاح بعد أن ذكرنا ومضات من منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. نجعل حديث اليوم عن الإصلاح مجالاته ومنطلقاته، إذ نحن بعد ذلك الحديث العام الذي ذكرنا فيه انطلاقة إيمانية وارتباطات بالتقوى وبيان لوسائل كثيرة من التدرج والانضباط الشرعي ونحوه، نخوض اليوم في بعض المجالات التي يكثر الحديث فيها عن الإصلاح، من الإصلاح الاقتصادي إلى الإصلاح الاجتماعي إلى الإصلاح السياسي، حتى وجدنا هذه المقالات وتلك الدعوات تصافح أبصارنا في كل صباح على الصفحات، وتلامس آذاننا في كل يوم عبر المحطات والإذاعات، وتعقد لأجلها الندوات، ويختلف في شأنها هل ينبعث الإصلاح من الداخل أم يأتي من الخارج أم يكون خليطاً؟

ضوابط الإصلاح في المجال الاقتصادي

ضوابط الإصلاح في المجال الاقتصادي إننا في كل حديث، وفي كل رأي، وفي كل خطة، وفي كل نظرة، ينبغي أن نكون منطلقين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وراجعين إليهما، ومسترشدين بهما، ومعتمدين عليهما. ومن هنا نتحدث قليلاً عن بعض هذه المجالات. وقبل كل شيء فإن كل هذه المجالات ينبغي أن نرى فيها ثلاثة أمور: أولها: المنطلق الإيماني. ثانيها: الانضباط الشرعي. ثالثها: الاعتبار المصلحي. فلا خير في إصلاح ينطلق من غير منطلق الإيمان، ويسير بعيداً عن رحابه وظلاله. ولا يمكن بحال أن يتحقق للإصلاح أثر بعيد عن الانضباط الشرعي، والرجوع إلى الأحكام الكلية والتفصيلية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أنه يضيع الإصلاح وتضيع آثاره عندما لا يكون مرتبطاً بالمصلحة العامة، ومراعياً للآداب الاجتماعية المؤسسة على قاعدة الإيمان والإسلام، فإن الذي ينطلق من الرؤى الشخصية والمصالح الذاتية تختلط به كثيراً من الأهواء والآراء الزائغة. مجال الاقتصاد منطلقه الإيمان كما هو منطلق كل مجال إصلاحي، فالرسل والأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل إلى الأمم والبشر والخلائق، بعثهم أول شيء بالإيمان والتوحيد، وكلهم كان يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] هذا المنطلق الإيماني استخدمه موسى عليه السلام ليكون هو أساس الإصلاح السياسي الذي يعالج به طغيان فرعون واستبداده، وهو كذلك المنطلق الإيماني الذي استخدمه شعيب عليه السلام ليقوم الانحراف الاقتصادي من غش وتطفيف للمكيال والميزان، وأخذه كذلك لوط عليه السلام ليقوم به الانحلال والانحراف الخلقي الذي تمثل في الرذيلة التي شاعت في قومه؛ ولذلك فمنطلق الإيمان هو الأساس الذي ينبغي استحضاره، كما قال الله جل وعلا لنا في شأن المجال الاقتصادي في قصة شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه ويقول: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وبعد تأسيس هذه القاعدة يواصل فيقول: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:85] إنه الإيمان ابتداءً، والإيمان انتهاءً، لماذا؟ لأنه ينشئ مملكة الضمير، وينشئ القلب الحي، وينشئ النفس المراقبة لله، وينشئ الأمل الذي يتعلق بثواب الله، ويخشى من عذاب الله عز وجل، إنه الميزان الحق والمنطلق السديد الذي به تعصم البشرية من نزغات الشياطين، ومن ضلالات الأهواء، ومن انحرافات الآراء. والله سبحانه وتعالى يبين لنا هذا المنطلق الإيماني في مثل هذه القصة النبوية لشعيب عليه السلام، ثم ننظر إلى الانضباط الشرعي، فنرى الآيات القرآنية ومعها الأحاديث النبوية تعطينا أحكاماً كلية وتفصيلية في شئون المال. ليس المال اجتهاداً للبشر لكي ينظروا إلى مصالحهم ويأخذوا السبيل الذي يرونه محققاً لها، بل هو في أوجه اكتسابه وفي طريقة إنفاقه وفي كل ما يترتب عليه من الحقوق وما ينبني عليه في التعاملات من العقود؛ مبني على ما جاء في الكتاب والسنة من الأحكام {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] وكم جاءت الآيات مفصلة في الرهن والبيع والشراء؟! وكم جاءت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تبين هذه المعالم في نصوص كثيرة معلومة ليس هذا مقام ذكرها أو حصرها؟! ثم ننطلق لنرى عموم تلك الكليات في خطاب القرآن: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرن ذلك ويبينه في الحساب الأخروي، أربع يسأل عنها الإنسان يوم القيامة، وفيها للمال سؤالان وليس واحداً: (من أين أكتسبه؟ وفيم أنفقه؟) هل كان طريق الكسب حلالاً، وطريق الإنفاق مباحاً أم غير ذلك؟ ولذلك تأتي هذه المسئولية مرتبطة بالأحكام الشرعية، كما كان صحب النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة يرجعون إليه ليسألوه عن هذه المعاملة وحلها وجوازها، وهذا المال الذي اكتسبوه من هذه الطريقة هل هو سائغ؟ وهل هو مباح أم لا؟ وذلك ما كان يربطه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور أخرى كثيرة متعلقة بالإيمان، ومرتبطة بالأحكام. خاطب النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وقال: (يا سعد! أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة) فجعل إجابة الدعوة والدعاء من أعظم أسبابه: طيب الكسب، وعدم أخذه من الحرام، وفي المقابل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! وملبسه حرام، ومطعمه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟!) إنها تلك التوجيهات الإيمانية والأحكام الشرعية. ثم ننظر إلى الأمر الثالث: وهو الاعتبار المصلحي. إن الإسلام ينظر إلى مصلحة الأمة في مجموعها، حتى المال الذي يخصك قد وُضعت له الضوابط والأحكام، فإن تجاوزتها فليس ذلك اختياراً شخصياً، بل هناك أحكام ومعها آداب تحقق الحفاظ على المصلحة العامة، كما يبين الحق جلا وعلا (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] الإسراف وإن كان من حر مالك مذموم محرم في الشرع. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بتفصيل الحكم بالحجر على السفيه؛ لأنه يبدد ماله، لكنه مع ذلك يبدد ثروة الأمة، ويبدد المصالح العامة، وينتهك الآداب التي تجعل لكل شيء مقامه وقدره وقيمته.

صور تحتاج إلى إصلاح اقتصادي

صور تحتاج إلى إصلاح اقتصادي المال الذي آتاه الله للخلق لم يؤتهم إياه ليكون عبثاً، وليكون نزوات طائشة، وليكون تبديداً للثروة في الحرام أو في غيرما مصلحة، كما بين ذلك قول الحق جل وعلا: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27] إذا تأملنا هذه اللمحات والومضات، عرفنا ما نحن محتاجون إليه من إصلاح اقتصادي في واقع أمتنا الإسلامية، وقد فشا فيها الربا، واستعلن فيها كثيراً بصور مختلفة متنوعة مبهرجة ومزيفة، وانتشرت صور القمار والميسر عبر الدعايات والإعلانات والمسابقات وغيرها، وكما نرى كذلك صوراً من الإسراف والتبذير يندى لها الجبين، وتضيع بها مقومات الأمة، ولا يرى فيها حينئذ مراعاة للمصالح ولا للآداب ولا للأعراف العامة في المجتمعات والأمم، وكل هذه الصور تناقض ما أشرنا إليه مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم انظر إلى الواقع يحكي لك ذلك، ألا ترون اليوم كيف يبحث الناس بحمد الله جل وعلا عن المعاملات الإسلامية، فإذا أرادوا معاملة بنكية بحثوا عن البنوك والمصارف التي تقوم على أسس شرعية، وإذا أرادوا التأمين بحثوا كذلك عن المباح وهكذا عظم عند الناس اليوم بحمده جلا وعلا حرصهم على أن يكون تعاملهم المالي وميدانهم ومجالهم الاقتصادي مراعياً لتلك الأحكام، لكننا نستمع اليوم إلى إصلاح اقتصادي من لون آخر، مروج على مستوى الأمة، بما يسمى: الاقتصاد المفتوح أو الحر الذي يقول لك: إنه ليس هناك شيء يمنع بيعه أو تداوله، لا تقل لي: خمر محرم، ولا تقل لي: أفلام إباحية ممنوعة غير مشروعة، ولا تقل هذا أو ذاك، فإن السوق هو الذي يسير الأمر، وإن الاقتصاد الحر المفتوح والتجارة العالمية الدولية تطرق أبوابك، ولا بد أنها آتية إليك. وتأتينا صور أخرى اقتصادية يزعم أهلها أنها لتنمية الشعوب ولرفع المستوى الاقتصادي، وهي في حقيقة الأمر تصب المال من جيوب المسلمين ومن ديارهم إلى الكيان الصهيوني واليهود، عبر اتفاقيات لا يمرر لها طريق ولا يمهد لها تيسير ولا تذلل لها عقبات إلا من خلال ذلك الطابع اليهودي، وذلك باسم تنمية اقتصادية وارتفاع لمستوى المعيشة؛ وذلك حتى تدمن الأمة التعامل مع أعدائها، وبذل أموالها لمن يقتلها دون أن ترى في ذلك حرج، بل دون أن تنتبه إلى ذلك، فتأتينا التجارة والبضاعة من بلد عربي إسلامي ممهورة بمهرها ومختومة بختمها، وأشتريها وأدفع المال وإذا بالحصة الكبرى منه ليست إلا تمويلاً لذلك الكيان الغاصب الذي يعتدي كل يوم على حرماتنا ومقدساتنا وديننا، فضلاً عن ديارنا وإخواننا وأعراضنا، ومع ذلك يقولون: هذا هو التطور الاقتصادي، وهذا هو الإصلاح الذي تدعو إليه الأمم والدول العظمى والكبرى التي تزعم أنها تقدم لأممنا ولمجتمعاتنا الخير، وتعلمها كيف تصلح أحوالها، وكيف تسير على منهاج مستقيم يفضي بها إلى رغد العيش وسعة الحياة، وإلى انتظام الأمور كما يزعمون! ومن هنا لا بد للمؤمن من وقفة خطيرة يتأمل فيها تحقيقه لدينه وإيمانه، فالإيمان لا يتحقق بمجرد النطق، ولا بمجرد الإقرار، ولا حتى بمجرد الأعمال من العبادات والشرائع، بل الإيمان امتثال ويقين في كل حكم وفي كل جانب وميدان ومجال فيه لله عز وجل حكم، ولرسوله صلى الله عليه وسلم هدي، فمن أعرض عنه وخالفه فذلك نقص في إيمانه، وخلل في اعتقاده، وتشوه في حسن تصور إسلامه، ينبغي أن يفطن له، سيما ونحن اليوم نعلم ونوقن أن أمتنا مستهدفة في كل المجالات والمسارات. يراد أن تخترق اقتصادياً حتى لا تقام لها قائمة، وحتى تصب ثرواتها في جيوب أعدائها في صور مختلفة وأنماط متنوعة، ومن طرق مختلفة، مرة عبر اتفاقيات تجارية، وأخرى عبر اتفاقيات دولية، وثالثة عبر زيارات ومصالح من هنا وهناك، وذلك كله يصب في مصلحة أعداء الأمة، لا في مصلحة أبنائها.

قصة بني إسرائيل وما جسدته من معنى للحديث

قصة بني إسرائيل وما جسدته من معنى للحديث الحمد لله جعل الإيمان في الدنيا نجاحاً، وفي الآخرة فلاحاً، وجعل الإسلام لحياة الناس صلاحاً، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. نحمده سبحانه وتعالى حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله جل وعلا إلى الناس كافة أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم إلى اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! حديثنا موصولاً عن الإصلاح بعد أن ذكرنا ومضات من منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. نجعل حديث اليوم عن الإصلاح مجالاته ومنطلقاته، إذ نحن بعد ذلك الحديث العام الذي ذكرنا فيه انطلاقة إيمانية وارتباطات بالتقوى وبيان لوسائل كثيرة من التدرج والانضباط الشرعي ونحوه، نخوض اليوم في بعض المجالات التي يكثر الحديث فيها عن الإصلاح، من الإصلاح الاقتصادي إلى الإصلاح الاجتماعي إلى الإصلاح السياسي، حتى وجدنا هذه المقالات وتلك الدعوات تصافح أبصارنا في كل صباح على الصفحات، وتلامس آذاننا في كل يوم عبر المحطات والإذاعات، وتعقد لأجلها الندوات، ويختلف في شأنها هل ينبعث الإصلاح من الداخل أم يأتي من الخارج أم يكون خليطاً؟

الإصلاح في المجال الاجتماعي والأسري

الإصلاح في المجال الاجتماعي والأسري أنتقل بكم إلى مجال آخر وهو المجال الاجتماعي، والحديث اليوم عن إصلاح المرأة ووضع المرأة وحق المرأة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية حديث يصدع الرءوس من كثرته، فلا تكاد ترى صحيفة إلا وفيها خبر عن أول امرأة كذا وكذا، أو أول وفد من النساء فعل كذا وكذا، أو تلك البلدة التي تحقق فيها للمرأة حق كذا وكذا. من أين جاءنا ذلك؟ ومن أين يروج ذلك وتدفع عليه الأموال؟ إنها سياسة التسويق الإصلاحي الغربي الذي تقوده الدول العظمى التي تمسك بعصاً غليظة هي عصا القوة العسكرية، وتزعم بعد ذلك أنها تدعو إلى الحرية والعدالة وغير ذلك. وهذه الأمور من منطلق الإيمان تجد أن الخطاب القرآني في شأن الأسرة والمجتمع والمرأة مملوء بهذا المنطلق الإيماني قال عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] إنه خطاب الإيمان: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] إنها أحكام شرعية ليست اجتهادات بشرية، وليست خيارات اجتماعية، وليست تقاليد ولا أعرافاً تاريخية، إنها أحكام شرعية تنزلت بها آيات قرآنية، ووردت بها أحاديث نبوية، ونطقت بها مسيرة تاريخية، وشهدت لها أوضاع اجتماعية عبر تاريخ الأمة وعبر رقعتها الممتدة في كل مكان. وهكذا نجد الآداب، ونجد المصالح المراعية التي تحافظ على حياء المرأة، وتحافظ على تماسك الأسرة، وتحافظ على محضن التربية الذي يربي الأجيال. إننا اليوم نواجه سيلاً من الدعوات الإصلاحية، هدفها كما يقولون: عمل المرأة ومشاركتها، ومزاحمتها للرجال، وأخذها لحقوقها المزعومة في المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها. ثم ماذا بعد ذلك؟ تكشف الظهور، ولا يكون في البيوت زوجات صالحات راعيات للأزواج، ولا مربيات للأبناء، ولا تماسك للأسرة كما كان عليه العهد السابق، ولسنا نفصل القول هنا عن عمل المرأة هل هو جائز أو غير جائز؟ فالجائز المشروع معلوم، والدعوات وما تتضمنه من مآلات ومن مخالفات معلومة أيضاً. وهكذا يخبرنا الله جلا وعلا ويبين لنا رسوله صلى الله عليه وسلم المآلات التي تفضي إلى عدم المخالفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وتأتينا الدعوات اليوم لتقول لنا: إن الإصلاح هو انفتاح، وهو لقاء في ظل البراءة والصداقة والندية بين الرجل والمرأة، فهل نصدق هذا ونكذب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ وهل نصدق هذا ونكذب الواقع الذي يشهد بعكسه وضده؟ وهكذا في مجالات كثيرة نجدها.

الإصلاح في المجال السياسي

الإصلاح في المجال السياسي الإصلاح في المجال السياسي ليس هو اجتهادات بشرية، بل منطلقه إيماني، فكل الذي خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات التي جاءت في ذلك منطلقها إيماني واضح، فالإصلاح السياسي أساسه شرعي بين، الله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] إن هذا الحكم في التشريع الإسلامي إنما هو دليل وأثر وجزء أصيل من إيمان المرء بالله عز وجل، ومن تصديقه بإسلامه، وإذا جئنا إلى الأحكام وجدنا التفصيل في القرآن الكريم فيما يتعلق بالعهد والأمان والصلح وغير ذلك من العلاقات داخل الأمة الإسلامية وخارجها، فنحن كذلك ندرك هذا. ثم ندرك من بعد المصالح المراعية التي يراد بها أن نراعي الأحكام والآداب وتحقق المصالح، وذلك ما نجده في هذه التشريعات وتلك المنطلقات، وتأتينا مرة أخرى دعاوى الإصلاح الديمقراطي، الذي في حقيقة أمره وواقع تطبيقه يشهد بأنه لا يعترف بحكم ولا يعترف بتشريع، بل كل ما قالته الأغلبية هو الحق الذي يمضي ويعتمد ولو خالف قرآناً ولو عارض سنة وغير ذلك. ثم فوق هذا كله يأتينا هذا الإصلاح بدعوات مقصدها الفتنة وإثارتها في مجتمعات المسلمين، فالدعاوى المنطلقة باسم حماية الحريات الدينية والمذهبية وحريات الفكر، إنما تريد أن تنظر في كل بلد إسلامي إلى تلك الأقليات لتجعل منها قضية تفتت هذه المجتمعات وتضعفها بدعوى الإصلاح السياسي ومراعاة الحقوق. ونحو ذلك أيضاً في مراعاة حقوق الإنسان ونحوه، وإلا فأين هؤلاء ودعواتهم، ليس فيما مضى، بل في الوقت الذي يحتلون فيه البلاد، ويقتلون فيه العباد، ويغنمون ويسرقون الثروات، ثم يقولون لنا ذلك كله؟! فلذلك ينبغي لنا أن ندرك هذه الحقائق، وأن ندرك أن الترويج الذي يروج اليوم هو أمر خطير، لا ندرك خطره؛ لأننا وللأسف لا نتابع حقائقه التي تمر مرة بعد مرة، وأُذكِّر بمؤتمر قديم عن المرأة للأمم المتحدة قامت له الدنيا ولم تقعد، وظننا أن الأمر انتهى، واليوم يمضي على هذا المؤتمر عشرين عاماً، وقد توالت بعده مؤتمرات، وقريباً يعقد مؤتمر اسمه: (مؤتمر بكين + عشرة) أي: بعد عشر سنوات من مؤتمر بكين ما الذي أنجز؟ وما الذي تحقق؟ وما الذي يجب أن يحقق؟ فالقوم ماضون فيما يزعمونه من ترويج نموذجهم وإصلاحهم، وكثير من المسلمين غافلون، وكثير منهم مسايرون، وبعض منهم وللأسف قائمون على هذا ومروجون له. نسأل الله عز وجل أن يبصرننا بديننا، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

التحذير من خطر الدعوات الإصلاحية المزعومة من أعداء الإسلام

التحذير من خطر الدعوات الإصلاحية المزعومة من أعداء الإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: معاشر المؤمنين! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاحرصوا على التقوى في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واحرصوا على اجتناب الفتن ما ظهر منها وما بطن. إن أمر هذا الدعوات الإصلاحية لمؤكد خطره، ومؤكد أنه يسير بخطى حقيقية وواقعية، وتنفذ بنوده وتمضي اتفاقياته. وهنا يتساءل كثير منا ويقول: ما الواجب الذي أستطيعه والأمر هائل ضخم كبير؟ وهو كذلك، وفوق هذا كله يأتي مفروضاً بقوة رغبة أو رهبة، وبصور مختلفة متنوعة. إن الأمر جد خطير يحتاج من كل أحد منا أن ينتبه، وأول هذا أن ندرك الخطر وأن نعرفه، وأن نعرِّف به. إننا كثيراً ما نلتفت إلى أمر واضح واحد عندما نستمع إلى الأخبار عمن يقتل من إخواننا في أرض فلسطين، أو من تدمر البيوت عليهم في أرض العراق، فنشعر أن هذا اعتداء صارخ، وأنه أمر يثير الحفائظ، ويحرك الحمية والغيرة، لكن هناك أمور لا تقل خطراً عن ذلك، بل ربما تكون أكبر منه، وهي كذلك من جهة أخرى، وهي التي توصل إلى ذلك الخطر وتمهد له، فتجوس من خلاله بين الديار، تنهك الاقتصاد، وتخرب الاجتماع، وتفسد السياسة، وتحلل الإعلام وتفسده، فحينئذ يحصل من الأمور والمفاسد أضعاف أضعاف ما قد يحصل من أمر احتلال مسلح، أو قتل وتدمير؛ ولذلك الوعي ثم الوعي ثم الوعي، والانتباه ثم الانتباه.

الدور الفردي في مواجهة التحديات والمخاطر

الدور الفردي في مواجهة التحديات والمخاطر الدور الفردي في مواجهة المخاطر مهم، جدد في قلبك إيمانك، وأوضح في تصورك إسلامك، وتنبه أن إيمانك وإسلامك لا يتجلى في مجرد صلاتك في مسجدك دون أن تتحرى امتثال الإسلام في كل حركة وسكنة، وفي مجال معاملاتك اليومية في جميع الاتجاهات والمجالات. نحن اليوم نواجه هجوماً شرساً، فهل عندنا دفاع يكافئه؟ أول الدفاع دفاع الإيمان واليقين، فهل نحن حصنا معاقل الإيمان في قلوبنا ونفوسنا؟ هل زادنا هذا الإيمان بما ينبغي أن يزاد فيه من الطاعات، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر؟ إن علينا أن نستشعر مواقف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمؤمنين في كل هذه المواقف التي مروا بها في مواجهة الظروف العصيبة. وأمر ثانٍ: العلم والبصيرة الشرعية، فكم نمضي إلى أعمال دون أن نسأل عن أحكامها؟! وكم تأتيك أسئلة اليوم عن حدث وقع لهذا السائل في رمضان الماضي أو عن حج قد مضى قبل سنوات؟! أين نحن من حرصنا على معرفة ديننا ومعرفة شرائعه ومعرفة أحكامه وآدابه؟! وأمر ثالث مهم في التطبيق الفردي: وهو أمر الأسرة ومن ولاك الله أمره، ومن تستطيع أن تبلغهم وأن تذكرهم وأن تنبههم، لو أن كل واحد قام بذلك لرأينا من وراء ذلك خيراً عظيماً. ثم انظر إلى أمر مهم، وهو أن كل هذه الأسلحة تتعلق بالأفراد والأشخاص، فتراهم يهدفون إلى الحديث وإلى التغيير في بيتك أنت وبيتي أنا، في زوجتك وزوجتي، وابنتك وابنتي، لو أننا علمنا أبناءنا وبناتنا، وقمنا بواجبنا فكان الرفض طبيعياً وذاتياً وإيمانياً، فكل هذه الدعاوى وكل تلك البهرجة لن تفضي إلى شيء، وعندما يعرضون الاقتصاد لنشتري بضائع الأعداء، هل سيأتي من يلزمك ويخرجك من بيتك لتشتريها أم أن خيارك بيدك ألا تشتري ما تعتقد أنه يعود ضرره على أمتك الإسلامية، ويعود على إخوانك المسلمين نار ودمار عليهم في أرضهم وديارهم وأموالهم وأحوالهم، إنه خيار الذات وتربية الفرد. إننا لو حصنا هذه المعاقل الإيمانية في النفوس، وحققنا التربية الإسلامية في الواقع، فلن نخشى شيئاً من كل ما يصنعون. وقد رأينا ذلك بحمد الله في أمتنا وفيها خير كثير. أليست قد وقعت الوقائع ووقعت الاتفاقيات لكي يكون لليهود فرص؛ ليجوسوا خلال الديار؟ فهل جاسوا خلالها أم وجدوا أن الناس عنهم معرضون، وعن التعامل معهم متبرئون، بل يرون ذلك سبباً للعار والشنار؟! ولو أننا قوينا هذه المشاعر وجعلناها تنتقل من صورها الصغيرة إلى الكبيرة، ومن المحدودة إلى الشاملة، ومن الفردية إلى الجماعية، فإننا نستطيع أن نقوي اقتصادنا ونهد اقتصاد الأعداء، ونستطيع أن نقوي أبناءنا ونصد تلك الهجمات بإذنه سبحانه وتعالى. فاختر لنفسك ما تريده في أمر دينك ودنياك، وفي أمر دنياك وآخرتك، وفي أمر نفسك وفي أمر أمتك ومجتمعك. والله الله أن يؤتى الدين والأمة من قبلك. والله الله أن تكون طريقاً يمرر الأعداء فيه مخططاتهم سواء كانت إعلامية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية؛ لأنهم يوقنون أنهم لن يروجوا ذلك إلا من بني جلدتنا الناطقين بألسنتنا المقيمين في ديارنا المتغلغلين في مجتمعاتنا؛ ولكننا بحمد الله عز وجل نرى أولئك القوم وإن نطقوا بألسنتنا فالآذان عن أقوالهم صماء، والقلوب عنهم معرضة؛ لأنها ترى بوناً شاسعاً بين تلك الأقاويل وبين نور القرآن وهدي السنة. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ أمتنا من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ بلاد الحرمين من كل ما يخل بأمنها وأمانها وسلامها وإسلامها وطيب عيشها وسعة رزقها إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، وأن تجنبنا الفتنة والزلل، وأن تغفر اللهم لنا السيئات، وأن تضاعف لنا الحسنات، وأن توفقنا فيما نبتغي من التوجه إليه من الطاعات. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم لطفك ورحمتك بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

جولة في المصادر التاريخية

جولة في المصادر التاريخية للتاريخ الإسلامي مكانة وأهمية عظمى، لا يدانيه أي تاريخ آخر للأمم غير المسلمة، فينبغي للمسلمين العناية به، ومعرفة الغاية من دراسته، فهو لا يدرس للتسلية وإنما للعظة والعبرة وأخذ الدروس والاستفادة من التجارب المذكورة فيه.

مقدمة عن أهمية دراسة المصادر التاريخية ومعرفتها

مقدمة عن أهمية دراسة المصادر التاريخية ومعرفتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا أهلاً للحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: فأيها الإخوة الكرام الأحبة! هذا لقاؤنا يتجدد بكم في منتصف الشهر السادس من عام (1415هـ) مع الدرس الثامن بعد المائة الأولى، وعنوان درسنا لهذا اليوم: (جولة في المصادر التاريخية)، وهذا الموضوع متعدد الفروع، متشعب الموضوعات، وهو واسع جداً، ولذلك ربما نحتاج له إلى صلة لعلنا نلم بأصوله وببعض مصادره المهمة. وسيكون الحديث ابتداءً عن التاريخ، وتعريفه، وفوائده، ووجوده ضمن علوم المسلمين، والصورة العامة التي يؤرخ بها في المصنفات والمؤلفات، ثم نعرج على ذكر بعض المصادر الأكثر شهرة وأهمية في وقفات موجزة، نهدف من ورائها التعريف بها، وذكر بعض الملامح المنهجية لهذه المصادر. ولن يدخل في حديثنا موضوع التاريخ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السيرة سيكون لها -إن شاء الله- موضوع مستقل بذاته تحت عنوان: جولة في مصادر السيرة النبوية؛ لأن المصنفات المتعلقة بها تستحق أن تفرد، وأن يكثر الحديث حولها. كما أنه لن يدخل في حديثنا التاريخ المعاصر المتأخر المتعلق بأحداث أوائل هذا القرن على وجه الخصوص؛ لأنه متشعب ومختلف ومختلط، وكثيراً ما تستقر التواريخ بعد مضي أحداثها بفترة من الزمن.

تعريف التاريخ لغة واصطلاحا

تعريف التاريخ لغة واصطلاحاً نبدأ مستعينين بالله عز وجل بما يتعلق بتعريف التاريخ، ذكر أهل اللغة فيه معاني عدة: فمن قائل: إن التاريخ هو الإعلام بالوقت، أو التعريف بالوقت، يقال: أرخت المولود أو الحدث في يوم كذا، أو أرخت الحادثة الواقعة في بلد كذا، أي: عرفتها بالوقت أو حددتها بالوقت أو أعلمت بوقتها. ونقل صاحب كشف الظنون عن بعض أهل اللغة: أن التاريخ هو تعيين وقت ينسب إليه زمان يأتي عليه أو مطلق الزمان، سواءً كان ماضياً أو مستقبلاً. وقيل أيضاً فيه: إنه تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع، من ظهور ملة أو دولة أو أمر هائل مما يندر وقوعه. وهذا معنى واضح ومهم؛ لأن الأحداث مرتبطة بالزمن، إضافة إلى أن بعض الحوادث تجعل مقياساً تاريخياً، على سبيل المثال: حادثة الفيل، يقال فيها: ولد بعد عام الفيل بعامين، ولد قبل عام الفيل بكذا، أي: أن هذه الحادثة كانت عظيمة وهائلة وغير مألوفة ونادرة وليست متكررة؛ فعرفها الناس، وتناقلوا خبرها، وضبطوا وقتها، ثم جعلت مقياساً بعد ذلك. وكما أرخ المسلمون أيضاً في عهد عمر رضي الله عنه بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت حدثاً عظيماً ترتب عليه بناء الدولة الإسلامية، والتحاق المسلمين بالنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، فجعل هذا الحدث العظيم -الذي هو حدث نادر غير متكرر- مقياساً تاريخياً، ولا يزال حتى هذا اليوم مقياس تاريخنا إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. أما تعريف التاريخ في الاصطلاح كعلم مستقل بذاته، فإن الأقوال فيه مسترسلة ومطردة، بمعنى: لم يأخذ العلماء فيه بما يقال في التعريفات: لابد أن تصان عن الإسهاب، وأن تكون جامعة مانعة، وإنما ذكر بعض المؤرخين تعريفات فيها إطلاق القول، وتكثير المترادفات، مما الأصل أن يصان عنه التعريف، فمن ذلك ما ذكره صاحب كشف الظنون في تعريف التاريخ حيث قال: إنه معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم. وهذا التعريف شامل للأبعاد الثلاثة التي هي: البعد المكاني، والبعد الزماني، والبعد الإنساني المتعلق بالأشخاص. قوله: معرفة أحوال الطوائف. أي: الأشخاص والقبائل. وقوله: وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم ووفياتهم. هذا من الناحية الاجتماعية. وقوله: وبلدانهم. هذا يتعلق بالناحية المكانية. أما ابن خلدون فيعرف التاريخ بقوله: هو إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول. ثم يستطرد في ذكر الأمور التي تحدث في هذه الأزمان، كظهور دولة، أو ظهور ملك، أو موت عالم، أو نحو ذلك. ثم أضاف إضافة مهمة تتعلق بتعريف التاريخ فقال: وفي باطنه -أي: في باطن علم التاريخ- نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق. وهذه إضافة مهمة تدل على أن علم التاريخ يتعلق بالمعرفة الدقيقة للحوادث، والمنهجية التوثيقية للإخبار بها، كما أنه يرتبط بالنظر والتحليل والتعليل، وهي معرفة الأسباب وتحليلها، وهذا لا شك أنه أمر مهم كما سيأتي الحديث عنه. والسخاوي يعرف التاريخ على نحو ما ذكره ابن خلدون فيقول: هو التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال من مولد الرواة والأئمة، ووفاتهم. ثم ذكر أشياء كثيرة مما يؤرخ له، قال: وما أشبه هذا مما مرجعه للفحص عن أحوالهم في ابتدائهم، وحالهم في استقبالهم. ثم أضاف إضافة مهمة فقال: ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور ملة أو كذا أو كذا. وربما يتوسع فيه من بدء الخليقة وقصص الأنبياء وغير ذلك من أمور الأمم، وأحوال القيامة ومقدماتها. وهذا قد صنعه بعض المؤرخين حيث أدخلوا في التاريخ ما وردت الأخبار به عن أحوال يوم القيامة، وإرهاصاتها ومقدماتها، وأدخلوه في التاريخ؛ لأنه كائن لا محالة. وبهذا نستطيع أن نقول: إن علم التاريخ في هذه التعريفات التي أشرت إليها، يتعلق بجمع المعلومات والأخبار عن البلدان، وعن الأشخاص من حيث النشاط البشري الإنساني عبر الزمان، وكذلك عن الزمن وما يتعلق به من هذه الأحداث والأشخاص، فنقول مثلاً: زمن قيام الدولة الأموية من عام (41هـ) حتى عام (132هـ) فهذا زمن أرخنا به. أو يقال في وفيات الأشخاص أو في مواليدهم: إن فلاناً ولد عام كذا، أو مات عام كذا، فهذا أيضاً تاريخ. أو يقال مثلاً عن البلدان: إن أول من خط أو بنى الفسطاط هو فلان، وكان ذلك في عام كذا. أو فتح المسلمون بلدة كذا في عام كذا. فهذا كله تاريخ من هذا الباب.

فائدة التاريخ وأهميته

فائدة التاريخ وأهميته النقطة الثالثة المهمة: فائدة التاريخ وأهميته. وهذا الموضوع في غاية الأهمية؛ لأن كثيراً من الناس لا يفطن إلى أهمية التاريخ وفائدته، وأكثر ما عنده أن التاريخ أحداث مشوقة ومسلية، وفيها غرائب وطرائف، ولا شيء وراء ذلك. ولكن في الحقيقة للتاريخ فوائد عظيمة جداً، لو تأملنا فيها لكان ارتباطنا بتاريخنا واتصالنا به واطلاعنا عليه وقراءتنا له واستنباطنا منه أكثر بكثير مما هو حال كثير منا، وعلى وجه الخصوص حال كثير من شباب الأمة، الذين ربما كانت لهم مطالعات واجتهادات في تحصيل بعض العلوم، وبعض تخصصاتها أدنى أهمية من التاريخ، وأذكر بعضاً من هذه الفوائد:

الفائدة الأولى: الفائدة التربوية من تاريخ الرسل والأنبياء والصحابة والأئمة

الفائدة الأولى: الفائدة التربوية من تاريخ الرسل والأنبياء والصحابة والأئمة إن الفائدة التربوية من أعظم الفوائد وأجلها، والله سبحانه وتعالى قد قص على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى أمته قصص الأنبياء والمرسلين، حيث قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111]. والله جل وعلا خاطب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. وإنما قص علينا هذا لنأخذ العبرة والفائدة التربوية التقويمية التهذيبية، التي نقوم بها الأخطاء، ونكمل بها النقص. والله جل وعلا يخاطب الأمة بقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. فالسيرة مهمة جداً، وهي جزء من التاريخ، وقد جعل الله عز وجل سيرة النبي عليه الصلاة والسلام قدوة وأسوة نقتدي بها ونستفيد منها ونتربى عليها. قال ابن عبد البر في كتابه: (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) متحدثاً عن الصحابة: يجب علينا الاهتداء بهديهم، فهم خير من سلك سبيله -أي: سبيل النبي صلى الله عليه وسلم- واقتدى به. وفي التاريخ أخبار الرسل والأنبياء والنبي عليه الصلاة والسلام والصحابة، وكذلك علماء الأمة، قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: فمن قرأ فضائل مالك وفضائل الشافعي وفضائل أبي حنيفة بعد فضائل الصحابة والتابعين، وعني بها، ووقف على كريم سيرهم وهديهم؛ كان ذلك له عملاً زاكياً. فالفائدة التربوية عظيمة جداً من كتب التاريخ، سيما عند المؤرخين الذين يشيرون إلى مثل هذه الفوائد، ولا بأس أن نذكر بعض الأمثلة السريعة، وإن كان سيأتي استعراض بعض هذه الكتب. الإمام الذهبي رحمة الله عليه كان من المكثرين في التعليقات والفوائد التربوية المتعلقة بتراجم الأعلام الذين ترجم لهم في كتب كثيرة، ومن أهم هذه الكتب كتاب (سير أعلام النبلاء)، وكتاب (تاريخ الإسلام)، وكان كثيراً ما يذكر المواقف ثم يقول: قلت، وعندما تجد للذهبي كلمة قلت؛ فعظ عليها بالنواجذ، وتأمل ما بعدها، فإنه استخلاص عالم، واستنباط فقيه، وتدقيق محدث، وعلم مؤرخ، فقد كان يكثر من ذلك، وأحيل على سبيل المثال إلى أول المجلد العاشر في ترجمة الإمام الشافعي فقد ذكر من التعليقات على مواقف الشافعي وأقواله كلاماً نفيساً يرجع إليه ويستفاد منه، وليس المقام مناسباً لنقله. وابن كثير رحمة الله عليه في البداية والنهاية له تعليقات موجزة مختصرة، لكنها في غاية النفع والفائدة، فإذا ذكر -على سبيل المثال- ما وقع لظالم من الظلمة أو لجبار من الجبابرة ونحو ذلك، فبعد أن ينتهي من القصة يعلق عليها تعليقاً يسيراً، لكنه في نفس الوقت تعليق مهم ومفيد، فيقول مثلاً: وهكذا من أعان ظالماً سلط عليه. فهذه الكلمات عبارة عن استنباط، وعن فائدة تربوية عظيمة، ونجد كثيراً من ذلك في كتب التاريخ.

الفائدة الثانية: معرفة وإدراك السنن الإلهية

الفائدة الثانية: معرفة وإدراك السنن الإلهية إن معرفة وإدراك السنن الإلهية مهم جداً؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل في الحياة البشرية سنناً، وهذه السنن هي التي تحكم حياة الناس وقيام الدول وزوالها، وفلاح الناس وخسرانهم، كل ذلك مضبوط بهذه السنن. والتاريخ يصدق هذه السنن التي جاءت في النصوص الشرعية، ومن هذه السنن قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. فانظر على سبيل المثال كيف كان أواخر الدولة الإسلامية في الأندلس؟! كيف غير المسلمون حالهم فغير الله عز وجل حالهم؟! وتجد أيضاً قول الله سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وترى كيف تزول الدول وكيف تقوم إلى غير ذلك من الصور المتعلقة بهذا. والله جل وعلا قد وجه المسلمين إلى أن يتأملوا في التاريخ؛ لينظروا إلى هذه السنن، كما قال جل وعلا: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]، وقال جل وعلا: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]. فهذا أمر في غاية الأهمية، وهو مما يستنبط ويستفاد من علم التاريخ.

الفائدة الثالثة: الفوائد العلمية

الفائدة الثالثة: الفوائد العلمية إن الفوائد العلمية جديرة بأن يفرد الحديث عنها ويطول؛ لأن كتب التاريخ لا تشتمل على التاريخ وحده، بل تجد كثيراً من كتب التاريخ يضم في ثناياه معلومات ومسائل تتعلق بالحديث والفقه واللغة والاجتماع، ونحو ذلك من أمور يطول ذكرها، وحسبنا مثلاً أن نعرف أن مقدمة ابن خلدون الشهيرة التي فيها تاريخ للعلوم، وفيها أسس لعلم الاجتماع، وفيها بيان لأسس العمران والحضارة، هي مقدمة لكتابه التاريخ. فهذا يدلنا على أن كتب التاريخ ليست قصصاً وأخباراً فقط، وإنما في ثناياها كثير من هذه الفوائد، ولعل من أعظم فوائد العلوم المنشورة في كتب التاريخ -سيما كتب التاريخ المتقدمة- ما يتعلق بعلم الحديث وتراجم الرواة. يقول سفيان رحمه الله: لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ؛ لأن التاريخ يكشف ويبين التدليس، ويبين الإرسال، ويبين الانقطاع. دخل بعض الناس إلى بلاد المشرق، وجعل يروي بعض الروايات، وقالوا لـ ابن المبارك: إن فلاناً يروي أحاديث ما ندري ما هي؟ فجاء فسأله فقال: متى ولدت؟ قال: ولدت عام كذا، قال: إن هذا يروي لكم عمن مات قبله بعشر سنوات. يعني: هو كاذب. إذاً: فالتاريخ من شأنه الحفاظ على الحديث والرواية، وهذا من أعظم الفوائد والمنافع، ولذلك اهتم كثير من العلماء بالتاريخ؛ لكونه يتعلق بالدرجة الأولى بالحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

الفائدة الرابعة: عرض المسائل النحوية والفقهية والتطرق إلى تاريخ واضعها

الفائدة الرابعة: عرض المسائل النحوية والفقهية والتطرق إلى تاريخ واضعها هناك أيضاً فوائد عجيبة من دراسة التاريخ، على سبيل المثال: الذين يعرضون مسائل لغوية ونحوية وصرفية دقيقة جداً، كثير منهم يبدأ بذكر من هو أول من وضع علم النحو؟ ويذكر ما روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه أمر أبا الأسود الدؤلي بوضع علم النحو، ثم يترجمون لـ أبي الأسود، وتاريخ نشأة هذا العلم. وهذه ليست فائدة تاريخية بحتة، وإنما هي أيضاً فائدة مستقلة، إضافة إلى ما هو منشور في هذه الكتب من مسائل نحوية. كذلك عندما يأتي الحديث عن علم آخر غير النحو، فهذه ليست فائدة تاريخية بحتة، وإنما هي أيضاً فائدة عن المترجم بالمسائل التي تفرد بها في الفقهيات، وما خالف فيه غيره، وما اعترض عليه بعض العلماء، ومناقشة هذه المسألة إلى أمور ومفردات كثيرة فيها فوائد عظيمة.

الفائدة الخامسة: معرفة الأحوال العامة في حياة الناس

الفائدة الخامسة: معرفة الأحوال العامة في حياة الناس من هذه الفوائد أيضاً: ما يتعلق بالأحوال العامة في حياة الناس من معرفة أمور الناس وأحوالهم ومعاشاتهم واهتماماتهم، وكلما يرسم صورة واضحة عن طبيعة المجتمعات في تلك الفترات الزمنية أو التاريخية، وهذا باب طويل جداً.

الفائدة السادسة: الاستفادة من التجارب والخبرات في الحياة

الفائدة السادسة: الاستفادة من التجارب والخبرات في الحياة ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، والتاريخ يقدم عصارة تجارب الأمم، وخلاصة الخبرات الإنسانية في أمور الحياة الدنيوية، مما لا يتعارض مع الأحكام الشرعية، بحيث يمكن للمسلمين إذا قرءوا تاريخ تلك الأمم كيف أسست بنيانها! كيف أقامت بعض معالم حياتها! كيف كونت أسس حضارتها في بعض الأمور الحياتية! فإن هذا الباب يمكن أن يضيف إلى المسلمين فوائد عظيمة جداً.

الفائدة السابعة: حقيقة الأمم في ظلال الإسلام

الفائدة السابعة: حقيقة الأمم في ظلال الإسلام إن معرفة الحياة في ظلال الإسلام فائدة مهمة جداً؛ لأن هناك شبهات كثيرة تدور حول عدم صلاحية الإسلام لإقامة الدولة كما يقولون، والآن ينادي كثير من العلمانيين وغيرهم إلى الدولة المدنية، ويسمون الحكم الإسلامي أو الدولة الإسلامية: الإسلام السياسي ونحو ذلك، ويدعون أن هذا المعنى لا يمكن أن يتحقق، وقد جمعوا في ذلك لقطات وروايات شاذة، أو وقائع منفردة ليؤكدوا هذا، فأحدهم -وهو مؤلف كتاب: (ما قبل السقوط) - يجمع حوادث معينة من فترات معينة من التاريخ؛ ليستدل بها على أن الفترات التي كان فيها قيام دولة دينية لم تكن دولة مدنية، وإنما كانت فترات ظلم واضطهاد وكذب ومصادرة للحريات وغير هذه الكلمات المفترية. وآخر ينشر مقالات متعددة في إحدى المجلات ويقول فيها: وضربوا -أي: الحكام- الأئمة بالسياط، ويأتي بالمحن التي مرت بالإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وكلهم قد وقع له أذى أو سجن أو ضرب، أو نحو ذلك، ويقول: هذه هي الدولة الدينية أو الإسلامية التي تريدونها، وأعلامها وعلماؤها قد وقع لهم هذا؟! نقول: عندما نقرأ التاريخ نرى صوراً مشرقة غير هذا الذي يدس لنا، وغير هذه الوقفات واللقطات التي تنتقى لنا بخبث ومكر ودهاء؛ لنحتار أو نضطرب أو نتشكك أو نرفض حكم الإسلام، كما قد يقع في ذلك بعض المسلمين الذين يرفضون أن يكون حكم الإسلام هو الذي يعمهم ويشملهم. وهذا باب واسع، وأحياناً يردون علينا بأننا لا نستشهد إلا بعهد عمر بن الخطاب وعهد عمر بن عبد العزيز ثم ليس عندنا شيء وراء ذلك، فنقول: لو قرأنا التاريخ لوجدنا ليس عشرات وإنما مئات الأمثلة، ولا أستطرد في ذلك، ولكن أقول: اقرأ عهد عبد الرحمن الداخل في الأندلس، والناصر الذي جاء بعده، وانظر ما كان في عهدهما من استقرار ومن رخاء ومن توسع وعمران وحضارة إلى غير ذلك. وانظر إلى الممالك الشرقية، وما كان في عهد الملك مودود ومن قبله من آبائه، وكذا الغزنوي، واقرأ فتوحات بلاد الهند والسند، وتاريخ محمد بن القاسم إلى غير ذلك، وستجد أمثلة كثيرة جداً تؤيد هذا المعنى.

الفائدة الثامنة: دحض الشبهات والرد على المفتريات والمقالات الباطلة

الفائدة الثامنة: دحض الشبهات والرد على المفتريات والمقالات الباطلة إن التاريخ قائم بدحض الشبهات، والرد على المفتريات والمقالات الباطلة والزائغة والمنحرفة. على سبيل المثال: يشيع كتاب التاريخ من المستشرقين ومن وافقهم من بعض المؤرخين المعاصرين نظرية: تطور الديانات، ويزعمون أن الإنسان البدائي كان مثلاً يخاف من الحيوانات فعبدها، ثم بعد ذلك تطور فصار يخاف من الشمس والبرق فصار يعبدها، ثم تطور هذا الإنسان وجاءت الديانات في مرحلة من مراحل التطور. نقول: إن التاريخ الصحيح ينبئنا أن أصل الدين في هذه الحياة الدنيا هو دين التوحيد والإسلام من لدن آدم عليه السلام إلى أن جاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام الخاتم، وعندما نقرأ التاريخ نستطيع أن ندحض هذه المفتريات وهذا الكذب. وهكذا نظرية داروين التي تقول: بأن أصل الإنسان قرد. لايوجد أي تاريخ من تواريخ البشر يروي لنا: أنه كان في بلد من البلاد أو في عصر من العصور من كان من البشر يشبه القرد، أو أن قرداً تحول إلى إنسان، التاريخ يدحض هذا، فعندما نقرأ في التاريخ نعرف كثيراً من الأمور التي تتعلق بالنواحي العقدية، بل حتى من النواحي الفكرية، ومن النواحي المتعلقة بالجهاد وما يثار حوله اليوم، فإنه يقال على سبيل المثال: إن الجهاد نوع من الإرهاب، ونوع من القسوة وعدم الإنسانية، ولو قرأنا تاريخ الأمة الإسلامية لرأينا كيف كان جهادها، وكيف ترفع المجاهدون عن كل هذه المعاني المغلوطة، وعن كل هذه المثالب، وعن كل الأمور التي يشوهون بها تاريخنا. لو قرأنا التاريخ لعرفنا أن هذا كله باطل، حتى ما يتعلق بأمور التنمية وأمور الحضارة، مثل قول بعض أبناء المسلمين: كنا قبل كذا قرن نعيش في تخلف وتأخر!! ويقصد بذلك عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد الصحابة. فهذه الشبه التاريخ يدحضها دحضاً. ونقول لهؤلاء: هاتوا لنا من التاريخ ما يشهد لأقوالكم، فعندنا ما يشهد لأقوالنا.

الفائدة التاسعة: معرفة الحركة العلمية في كل عصر ومصر

الفائدة التاسعة: معرفة الحركة العلمية في كل عصر ومصر إن معرفة الحركة العلمية في كل عصر ومصر من أعظم وأجل الفوائد التي يخرج بها المطَّلع على التاريخ؛ لأن في كل زمان يؤرخ لأعلامه العلماء والمذاهب التي وجدت فيه، والكتب التي صنفت، والمسائل التي بحثت، والمناظرات التي وقعت، وإذا بك تعرف نشأة العلوم والعلماء البارزين في كل علم من العلوم، والإضافات التي وجدت في هذه العلوم، حتى أرخوا أول من أدخل: سنن النسائي إلى بلاد المغرب، وأول من أدخل كتاب كذا إلى بلاد المشرق، من الذي كان يرصد مثل هذه الأمور؟ إنها كتب التاريخ، فقد كانت ترصدها رصداً عجيباً، وتجد في التاريخ فوائد من أمتع وأنفع وأروع ما يمكن، وتجد كذلك أيضاً ما يتعلق بالتاريخ الفكري والعلمي للمذاهب، حتى المذاهب المنحرفة. فالتاريخ ذكر متى حصل التشيع، وما ظروفه وملابساته، ومن أول من قعَّد له، ومن أول من صنف فيه، وما الدول التي ناصرته، على سبيل المثال: دولة البويهيين لما استولت على الخلافة في بغداد في الثلث الأول من القرن الرابع ناصروا التشيع والرفض، حتى كتبت مسبة الصحابة على محاريب المساجد في بغداد وغيرها. وهكذا أيضاً: دولة الفاطميين العبيديين الرافضة الذين وصفهم الذهبي في سير أعلام النبلاء بقوله: الدولة الفاطمية الرافضية العبيدية اليهودية، وارجعوا إلى سير أعلام النبلاء؛ لتجدوا حقيقة هذه الدولة الرافضية الخبيثة. إذاً: نعرف بواسطة التاريخ هذه الحركات والمذاهب، وتاريخها، وكتبها، وأول ما بدأت مثل هذه الأمور، وهذه فوائد عديدة ومهمة جداً.

الفائدة العاشرة: نقض البدع والخرافات والمحدثات المنحرفة

الفائدة العاشرة: نقض البدع والخرافات والمحدثات المنحرفة إن نقض البدع والخرافات وكثير من المحدثات التي يريد أن يقررها بعض الناس، وكثير من الخرافات التي يعتقدها بعض الناس، يكون عن طريق البحث عن تاريخها. ولا بأس أن نروي هذه الطرفة التي تشيع عند الناس: وهي أن رجلين من العاطلين الباطلين، لم يكن عندهما عمل ولا مال، فعمدا إلى كلب فذبحاه ثم دفناه ثم أقاما عليه قبراً وجعلا له بناءً، ثم قالا: هذا قبر فلان الولي، ثم دَعَوَا الناس له، وصارا هما السادنان لهذا القبر المزعوم، فجاءتهما الوفود من الناس يهدون القرابين، ويدفعون الأموال، فلما اختلفا في قسمة الأموال قال أحدهما: وحق الشيخ فلان، يقسم بهذا الولي المزعوم، فقال الآخر: نحن ذبحناه معاً! فعندما تبحث في التاريخ تجد مثل هذه الأمور المتعلقة بتعظيم الأضرحة، هل كانت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟ A لا، ابحث في التاريخ هل كانت في عهد الصحابة؟ متى نشأت؟ في أي مكان؟ فتستطيع بواسطة التاريخ أن تدحض مثل هذه الأمور، وأن تنقضها. وهكذا حتى في تاريخ الديانات، فالتثليث متى دخل إلى النصرانية؟ التاريخ ينبئنا أن بولس هو الذي أنشأ التثليث في المؤتمر الذي كان بعد الألف الأولى من رفع عيسى عليه السلام، وهذا التثليث من دس اليهود الذين أفسدوا الديانة المسيحية بإدخال التثليث فيها. وهكذا تجد أمثلة كثيرة فيما يتعلق بالخرافات والبدع والمحدثات، فعندما تتتبع التاريخ تجد من أسسها، من أول من بدأها، وتجد كثيراً من هذه البدايات تشوبها شبهات، إما أن وراءها يهود أو زنادقة أو غيرهم كـ ميمون بن ديصان القداح الذي أدخل الباطنية، وغيره ممن أدخل الشعوبية في الأمة الإسلامية، ونحو ذلك، وهناك أمور يطول ذكرها.

الفائدة الحادية عشرة: إظهار الحقائق وكشف المغالطات

الفائدة الحادية عشرة: إظهار الحقائق وكشف المغالطات إن التاريخ لا يرحم عند إظهار الحقائق وكشف المغالطات؛ لأن التاريخ يسجل كل الوقائع، وكما يقولون في عبارة جميلة وشائعة: قد تخدع كل الناس بعض الوقت، وقد تخدع بعض الناس كل الوقت، لكن أن تخدع كل الناس كل الوقت فغير ممكن. قد تجد بعض السذج وتضحك عليهم وتخبرهم أخباراً وأحوالاً مكذوبة فيصدقونك ما شاء الله أن يصدقوك، لكن غيرهم سيكذبونك ويعرفون أنك لم تكن صادقاً في هذه الروايات، وقد تدلس على الناس كلهم فيصدقونك في بعض الأوقات، ثم يمر الزمن وتتكشف الحقائق كما يقولون. على سبيل المثال: من الأمور التي أشاعها بعض ذوي الأغراض في بعض الكتب التي لها صلة بالتاريخ ككتاب الأغاني والعقد الفريد وغيرهما، ما يذكر عن سيرة هارون الرشيد ومجالس منادمته وشربه الخمر ومجالس القيان وغير ذلك، فهذه الأمور شاعت حتى كاد بعض الناس أن يسلِّم بها، لكن إذا رجعت إلى ما أورده ابن خلدون في أول مقدمة التاريخ، ذكر ما أسماه الأوهام التي وقع فيها بعض المؤرخين، وذكر عن الإمام الطبري ما نقله عن هارون الرشيد أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وأنه كان يصلي في اليوم والليلة مائة ركعة، فهل الذي يصلي في اليوم والليلة مائة ركعة يعقل أن يكون من أهل السكر والإدمان والخنا والفجور؟! إلى غير ذلك. وهكذا لما لبس على الناس في التاريخ المعاصر بشخصية أتاتورك الذي أشيع أنه منقذ المسلمين، وأنه كذا وكذا وكذا، ثم يكشف التاريخ أنه لا أصل لهذه الشائعات، وأنه ابن سفاح، وإذا له عروق وجذور يهودية، فهو ينسب إلى يهود (الدونمة) في تركيا، وظهر أنه أكبر متآمر على الإسلام والمسلمين، وأكبر مجرم في حق التاريخ الإسلامي المعاصر حيث نقض الخلافة الإسلامية. إذاً: عندما تقرأ التاريخ تكتشف هذه المغالطات الخطيرة التي تغير أفكار الناس.

الفائدة الثانية عشرة: إعادة الأمل وبث الحماسة في نفوس المسلمين

الفائدة الثانية عشرة: إعادة الأمل وبث الحماسة في نفوس المسلمين آخر الفوائد التي نذكرها على عجالة هي: إعادة الأمل وبث الحماسة في نفوس المسلمين، وذلك عندما يرتبطون بتاريخهم وأمجادهم وقادتهم وعلمائهم وأمرائهم وملوكهم، عندما يرون هذه الصفحات المشرقة، وعندما يقفون على هذا التراث العلمي الزاخر، وعندما يجدون هذه المؤلفات التي ربما لا يستطيعون حصر أسمائها فضلاً عن أن يقفوا عليها أو أن يقرءوها. هذا كله يجعلهم على أمل وعلى يقين -إن رجعوا إلى دين الله عز وجل- أن يجددوا هذا التاريخ، وأن يعيدوا تلك الأمجاد، وكما يقال في أمثال العرب: ما أشبه الليلة بالبارحة. وكما يقال عند غيرهم واستخدمه العرب أيضاً في الوقت المعاصر: التاريخ يعيد نفسه. إذاً: يمكن أن يعيد التاريخ نفسه إذا استجلبنا منه هذه الفوائد، وكما قيل: أمة لا تعرف ماضيها لا تستطيع أن تخطط لمستقبلها. اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضاع قوم ليس يدرون الخبر فهذه وقفة موجزة مع بعض هذه الفوائد في التاريخ، وهذه الوقفة الموجزة لا تغني شيئاً، ولكنك لو قرأت كتاباً واحداً من كتب التاريخ المعتبرة عند الأئمة المشهورين؛ لوجدت أضعاف أضعاف هذه الفوائد التي أشرت إليها، وأوجزت القول فيها.

علم التاريخ عند المسلمين وأسسه ودوافعه

علم التاريخ عند المسلمين وأسسه ودوافعه كيف كان علم التاريخ عند المسلمين؟! وما هي أسسه؟ وما الأمور التي دفعت إليه، وجعلت تراث المسلمين في التاريخ لا يضاهى به تراث آخر، لا في كثرة الكتب ولا في أنواعها ولا في استقصائها ولا في منهاجها مطلقاً؟ لا يمكن أن يقارن تاريخ المسلمين والعطاء الذي فيه بغيره من تاريخ الأمم التي لا تبلغ فيما أعرف حتى عشر معشار هذا العطاء في تاريخ الإسلام والمسلمين.

الأساس الأول: القرآن الكريم

الأساس الأول: القرآن الكريم القرآن الكريم وردت فيه أحداث تاريخية وقصص تاريخية، مثل: قصص الأنبياء والمرسلين والأمم السابقة، كقصة سبأ وغيرها من الأمم. وهذا كان له أثر عظيم على المسلمين، حيث جعلهم يقرءون، والعلماء يفسرون، وبدأ التفسير يجمع بدايات للمادة التاريخية التي تعلق وتشرح وتفسر هذه الآيات المتعلقة بالأحداث للأمم الماضية، والله عز وجل قد دعا المسلمين إلى التأمل والاعتبار بأحوال الغابرين، وإلى السير في الأرض والنظر فيها والتأمل فيها، وهذه الدعوة هي دعوة لمعرفة الأحداث ثم للاعتبار بها؛ لأن الاعتبار هو مرحلة ثانية بعد المعرفة.

الأساس الثاني: السيرة النبوية

الأساس الثاني: السيرة النبوية السيرة النبوية عند المسلمين دين، يدينون الله بها، وأسوة يقتدون بها، وأحكام يتبعونها، وسنن يحرصون عليها، ولذلك كان أول بدايات تاريخ الإسلام المنفرد المستقل: هو ما يتعلق بمغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، وكان هذا معروفاً عند المسلمين، حتى قال قائلهم: كان آباؤنا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلموننا السورة من القرآن. ومن هنا انتشر التصنيف والتأليف في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ومغازيه، وهي كثيرة جداً، وفريدة وعجيبة في دقتها وضبطها واستيعابها وشمولها في الحديث عن شخص النبي عليه الصلاة والسلام وعن تاريخه وسيرته.

الأساس الثالث: التأصيل في علم الحديث

الأساس الثالث: التأصيل في علم الحديث صح عن ابن سيرين -كما في مقدمة صحيح مسلم - أنه قال: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، كان الصحابة يحدثوننا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نأخذ منهم، فلما حدثت الفتنة وركب الناس الصعب والذلول قلنا: سموا لنا رجالكم، فمن كان من أهل السنة قبلنا، ومن كان من أهل البدعة رددنا. إذاً: بدأ العلماء من السلف يبحثون عن أحوال الرواة وتواريخهم وسيرهم، وصدقهم وكذبهم، ومواطن بلدانهم وأماكن رحلاتهم، ومعرفة شيوخهم وتلاميذهم. وتدوين التاريخ المتصل بعلم الحديث باب واسع مستقل في كتب كثيرة منها كتاب: التاريخ الكبير للبخاري والتاريخ لـ ابن معين والتاريخ لـ خليفة بن خياط. وهناك تواريخ كثيرة دونوا فيها أسماء الرجال وأحوالهم إلى غير ذلك، وهذا عامل من عوامل نشوء علم التاريخ والاهتمام به، والاحتفاء به عند المسلمين، بل هو من أعظم العوامل وأكثرها أهمية.

الأساس الرابع: منزلة الخلفاء الراشدين والصحابة رضوان الله عليهم

الأساس الرابع: منزلة الخلفاء الراشدين والصحابة رضوان الله عليهم يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ). هذا الحديث معناه: أن سنة الخلفاء الراشدين وفعلهم هدي تهتدي به الأمة، وسنة تستن بها. إذاً: هذا جعل الأمة تهتم بسيرة الخلفاء الراشدين وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم. وسيرة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم باب واسع كبير جداً، وفيه مؤلفات عظيمة وكثيرة جداً. ولا بأس أن أشير هنا إلى كتاب: (معجم ما ألف عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ذكر جامعه محمد الشيباني كتباً مطبوعة ومخطوطة وافرةً وكثيرة، مراعياً في ذلك التسلسل الزمني من بداية ما ألف في هذا الباب إلى أوقات متأخرة. وقد ألف قبله في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وكتاب: (معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) للمحقق العلامة صلاح الدين المنجد وهو كتاب عظيم النفع، جمع فيه مؤلفه مئات المصنفات في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في مختلف العصور. إذاً: سنجد أن هناك كتباً خاصة فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه، وكتباً فيما يتعلق بأحوال الرجال والجرح والتعديل، وكتباً فيما يتعلق بسير الصحابة رضوان الله عليهم، وهذه كلها ضمن التاريخ، ولا نستطيع أن نعرج عليها في مثل هذا المقام.

الأساس الخامس: الفتوحات الإسلامية

الأساس الخامس: الفتوحات الإسلامية عندما فتح المسلمون مصر، وبلاد الشام، وبلاد العراق، جاءوا إلى بلاد لها حضارة ولها تاريخ، وفيها رجال، فزاد ذلك من رصيد هذا التاريخ عند المسلمين، وعرّفوا بملوك هذه البلاد وتاريخها وما كان فيها من أحوال، وما كان أهلها عليه من ديانات، إضافة إلى أن الدولة الإسلامية احتاجت إلى تنظيم أمورها، وإلى إنشاء الدواوين كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دون ديوان الجند، وديوان العطاء، فاحتاج إلى أن يحدد وأن يدون قبائل المسلمين، وأسبقية الصحابة في الإسلام، حتى يجعل عطاء السابقين في الإسلام أكثر، ويجعل عطاء من دونهم أقل، وأبناء الصحابة أقل من الصحابة، وكذا التابعين أقل. وهذا أيضاً كان رافداً من روافد التاريخ، وفيه جمع للمادة التاريخية.

الأساس السادس: خدمة المذاهب الفكرية والفقهية

الأساس السادس: خدمة المذاهب الفكرية والفقهية إن خدمة المذاهب الفكرية والفقهية كان أحد العوامل والروافد للتاريخ عند المسلمين، فالمذاهب الفقهية الأربعة على سبيل المثال، كل أهل مذهب خدموا مذهبهم، فجاءت حصيلة تاريخية في نشأة المذهب، وفي سيرة إمام المذهب، وفي سيرة علماء المذهب، وما يتعلق بالمواطن التي انتشر فيها المذهب إلى غير ذلك، فجمعت مادة تاريخية واسعة، وحتى على مستوى المذاهب الفكرية المنحرفة كالمعتزلة، فالمعتزلة عندما كانت لهم صولة وجولة دونوا طبقاتهم، وأشهروا أعلامهم، وأرخوا لرموزهم، وهكذا فعل الشيعة أيضاً. وهذا كان رافداً تاريخياً عظيماً عند المسلمين.

الأساس السابع: خدمة العلوم المختلفة

الأساس السابع: خدمة العلوم المختلفة هذا ملحق بالذي قبله، لكنه على مرتبة أدنى وأقل، فالأدباء ألفوا في طبقات الأدباء، وجعلوا هناك مراحل أدبية، وأرخوا مثلاً لأدباء الأندلس على حدة، وأخروا لأدباء بلاد الشام على حدة، وبلاد اليمن على حدة، وهكذا وجمعوا هذه التراجم. كذلك النحاة واللغويون والأطباء والحكماء ما من أهل علم إلا وتوسعوا في تاريخ ذلك العلم وأعلامه، وهذه أيضاً كانت مادة عظمية جداً من مواد التاريخ.

الأساس الثامن: خدمة البلاد وذكر فضائلها

الأساس الثامن: خدمة البلاد وذكر فضائلها التآليف في خدمة البلاد، وذكر فضائلها كثيرة، مثل ما ألف عن مكة وفضائلها وتأسيسها، والمدينة المنورة، وبيت المقدس وغيرها من الدول، فيؤلف أهل كل بلد في محاسن بلادهم، فمثلاً: أهل الشام يذكرون فضائل الشام، وخطط الشام، ووصف بلاد الشام، إلى غير ذلك، ويترجمون لكل من دخل إليها، ومن مات فيها، ومن اشتهر بها، فاجتمعت مادة عظيمة.

الأساس التاسع: رحلات المشاهير من العلماء المؤرخين

الأساس التاسع: رحلات المشاهير من العلماء المؤرخين رحلات المشاهير من العلماء الذين أرخوا في رحلاتهم أحوال البلاد وأهلها، وأرخوا ما مر بهم من الأمور التي وقعت. من هؤلاء العلماء الذين اشتهروا بالرحلات في البلدان: ابن بطوطة، واشتهرت رحلته باسمه: رحلة ابن بطوطة، وهناك رحلة ابن جبير، ورحلة ابن فضلان، وهذا الأخير رحل مبعوثاً من الخليفة في القرن العاشر إلى بلاد روسيا، وبلاد بلغاريا. وعندما تقرأ في كتب هؤلاء تجد أحوال تلك البلاد، ووصفاً لأمور عجيبة جداً يتعجب منها المرء كثيراً. فهذه أيضاً كانت رافداً عظيماً من الروافد التاريخية، وعندما ننظر إلى هذه الروافد، وإلى هذه الأسس، نجد أن المادة التاريخية في تاريخ المسلمين أصبحت مادة عظيمة جداً وغزيرة غزارة لا يدانيها غيرها.

المحاور الثلاثة للتصنيف في التاريخ

المحاور الثلاثة للتصنيف في التاريخ هذه النقطعة هي التي سنجعل استعراضنا السريع حولها مدخلاً لما قد يسمح به الوقت من ذكر بعض المراجع التاريخية، هذه المحاور هي: الزمان، والمكان، والإنسان، إما أن نعنى بالتاريخ في فترة زمنية، أو نعنى بالتاريخ في صقع أو بلد بعينه، أو نعنى بالتاريخ لأشخاص بأعيانهم.

المحور الأول للتصنيف في التاريخ: الزمان

المحور الأول للتصنيف في التاريخ: الزمان بالنسبة للزمان يأتينا نوع التصنيف بما يسمى التاريخ العام أو الحوليات الذي يبدأ بذكر السنوات: السنة الأولى، السنة الثانية، السنة الثانية بعد المائة الأولى إلى آخره، وهذا فيه استعراض للسنوات. كذلك في نطاق هذه الوحدة الزمنية يذكر بلاداً مختلفة ويذكر أشخاصاً وأعلاماً مختلفين، لا يجمعهم إلا وجودهم في هذا الزمن. ومن أنواع التصنيف المتعلق باعتبار الوحدة الزمنية: التصنيف الذي عرف بتراجم القرون: القرن الثامن، القرن التاسع، القرن العاشر، فقد اعتبر فيها الوحدة الزمنية، ووجد في هذا التصنيف البعد الإنساني بتراجم الرجال، والحوادث التي تذكر في أثناء هذه التراجم. كذلك هناك نوع ثالث من التصنيف هو: التصنيف المتعلق بالدول، عندما يقال: تاريخ دولة بني أمية، أو تاريخ الدولة العثمانية، فهذا يشمل الزمن الذي كانت فيه هذه الدولة على وجه الخصوص.

المحور الثاني للتصنيف في التاريخ: المكان

المحور الثاني للتصنيف في التاريخ: المكان بالنسبة لاعتبار المكان هناك أنواع منها: تاريخ المدن، كتاريخ بغداد، ودمشق، وطرابلس، وغيرها كما سنذكر بعضاً منها. النوع الثاني: تاريخ الفتوح، مثل: فتوح الشام للبلاذري، وفتوح مصر لـ ابن عبد الحكم.

المحور الثالث للتصنيف في التاريخ: الإنسان

المحور الثالث للتصنيف في التاريخ: الإنسان أما بالنسبة للإنسان، فهناك التاريخ العام للأعلام، كما في (تاريخ الإسلام) للذهبي، أو في (سير أعلام النبلاء) له أيضاً، فهو لم يشترط زمناً معيناً، وإنما ذكر أعلاماً عبر زمن اختاره من أول زمن معين إلى آخر زمن معين. أو تاريخ الأعلام المرتبط بعلم معين: أو مذهب معين، مثل: أعلام المذاهب الفقهية، أعلام الفكر الفلاني، أو أعلام كذا، أعلام كذا إلى آخره. فهذا يعطينا صورة إجمالية عامة عما يتعلق بأنواع التصنيف في التاريخ. هذه الخلاصات التي ذكرتها هي مقدمة؛ لأننا لم نذكر بعد شيئاً من المصادر التاريخية، لكن هذه المقدمة أحسب أن فيها عدداً من الفوائد منها: الفائدة الأولى: أن هذه المقدمة شوقت الكثير منكم إلى أن يعرفوا هذه المصادر، كما شوقت بعضاً منكم -فيما أظن- أن يبدءوا من يومهم هذا في مطالعة بعض كتب التاريخ، وقد يستمر بعضهم يوماً أو يومين ثم يفتر أو يكسل، لكن عموماً كتب التاريخ من مزاياها أنها ممتعة، تجد فيها تغيراً وتجديداً؛ لأنها ليست علماً جامداً، وليست تخصصاً مفرداً، وإنما هي أحداث ووقائع وغرائب وأشياء منوعة لا يمل القارئ منها. الفائدة الثانية: أنها مهدت لنا لندخل إلى المصادر التاريخية بعقلية منظمة، ولو بدأنا بأنواع التصنيف في التاريخ ودخلنا في بعض الكتب لوجدنا أن هناك صعوبة في الاستيعاب والتفاعل مع المادة المتعلقة بمصادر التاريخ.

ذكر المصادر المشهورة في التاريخ وفوائدها وملامحها وأنواعها

ذكر المصادر المشهورة في التاريخ وفوائدها وملامحها وأنواعها هناك كتب التاريخ العام التي تسمى: كتب الحوليات التي وحدتها أو موضوعها هو الزمن، وهذه الكتب كثيرة، منها: ما ألفه اليعقوبي وابن قتيبة الدينوري ومن أشهرها وأبرزها وأكثرها فوائد في كتب المتقدمين كتاب: (تاريخ الأمم والملوك) لـ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة (310هـ). ومن هذه الكتب أيضاً كتاب (الكامل في التاريخ) لـ ابن الأثير الجزري وهو أيضاً على هذا النسق، وقد ذكر في مقدمته أنه انتفع بكتاب الطبري ومن هذه النوعية أيضاً كتاب (البداية والنهاية) لـ ابن كثير. ولعل من المناسب أن نشير إلى بعض هذه الكتب وفوائدها وملامحها في هذا المقام، ونجعل السرد فيما تبقى من الوقت؛ لأننا نخشى ألا يبقى وقت لذكر ما يتعلق ببعض هذه الفوائد.

الفوائد المتعلقة بتاريخ الطبري

الفوائد المتعلقة بتاريخ الطبري لقد بدأ الطبري فيما يتعلق بتاريخه من أول خلق العالم، وهذا سار عليه كثير من المؤرخين، حيث صنعوا كما صنع الطبري. بدأ الطبري بتعريف الزمان، ومتى بداية الزمان، وبعد ذلك ذكر الروايات التي وردت في أن أول ما خَلَقَ الله عز وجل القلم، فقال له: (اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بخلق السماوات والأرض، ثم خلق آدم، وقصة إبليس، والرسل والأنبياء من بعد ذلك. والطبري رحمة الله عليه كان إماماً مفسراً محدثاً ومؤرخاً، وكانت شهرته في التفسير والحديث أكثر من التاريخ. وهنا ملاحظة مهمة وهي: أن كثيراً من العلماء من المحدثين والمفسرين والفقهاء ممن لهم عناية بالتاريخ اشتهروا في مجالات علومهم التي عرفوا بها، وأهملت الناحية التاريخية في مؤلفاتهم وفي تراثهم وإنتاجهم، فجاء بعض المعتنين بالتاريخ من المتأخرين، وكتبوا في إبراز الناحية التاريخية عند هؤلاء، على سبيل المثال: (ابن عبد البر وجهوده التاريخية) (ابن حزم وجهوده في التاريخ) وغيرهما، فهؤلاء لم يشتهروا أساساً كمؤرخين، وإنما لهم شهرة في العلوم الأخرى، فأبرز بعض المتأخرين هذا الجانب عندهم. الطبري هو من أعيان علماء المسلمين، ومن المتقدمين في القرن الثالث الهجري، وتوفي في العقد الأول من القرن الرابع كما مر بنا، وقد ألف كتابه التاريخ بعد التفسير؛ لأنه أحال في التاريخ إلى بعض المواطن في التفسير، فلما جاء عند خلق آدم، قال: لقد أجملت ذلك في التفسير؛ لأنه ليس ذلك موضعه، ثم أفاض بعد ذلك في خلق آدم وقصة إبليس وكذا. كأنه يشير أنه لم يرد أن يفصل هذا التفصيل في التفسير؛ لأنه لا يليق به فجعله في التاريخ. وقد ظل الطبري يملي كتابه من سنة (290هـ) حتى سنة (302هـ) يعني: لمدة اثنتي عشرة سنة كما ذكر المؤرخون في ترجمته. ومن الملاحظات المهمة التي تلفت النظر: أن كثيراً من كتب التاريخ الإسلامي المتقدمة أول من عني بها ونشرها هم المستشرقون، فكتب التاريخ في طبعاتها الأولى من نتاج المستشرقين، ولعل سائلاً يسأل: لماذا؟! أقول: هناك أسباب بعضها جوهرية: أولاً: أن كثيراً من مخطوطات هذه الكتب هي في بلاد الغرب، سرقوها ونهبوها عندما دخلوا بلاد المسلمين، لاسيما لما دخلوا الأندلس، ولما دخلوا مصر، ولما دخلوا بلاد الشام. ثانياً: أن الطباعة بدأت عندهم قبلنا بكثير، ومعلوم أن الطباعة في العالم الإسلامي جاءت بعدهم بفترة لا بأس بها، وأن أول مطبعة دخلت إلى العالم الإسلامي هي التي دخلت إلى مصر على يد نابليون بونابرت في أواخر القرن التاسع عشر، فهذا سبب تأخر الطباعة عندنا، فوجود المطابع عندهم جعلهم يتقدمون علينا في هذا الباب. ثالثاً: أن المستشرقين في بداية هذا القرن لم تتأسس علومهم إلا على التراث الإسلامي الحضاري في بلاد الأندلس وغيرها، فكان كثير منهم قد تعلم العربية؛ ليقرءوا كتب المسلمين ككتب الطب وكتب التاريخ وغيرها من الكتب، فهم قد أسسوا ثقافتهم وعلومهم في كثير منها على كتب المسلمين، وبالتالي كانت عنايتهم بها، ومن هنا كانت أول طبعة لتاريخ الطبري عام (1876م) على يد المستشرق دي خويه. قال الطبري في مقدمته: وأنا ذاكر في كتابي هذا من ملوك كل زمان، من لدن ابتداء ربنا جل جلاله خلق خلقه إلى حال فنائهم من انتهى إلينا خبره ممن ابتدأه الله تعالى بآلائه ونعمه فشكر نعمه، من رسول له مرسل أو ملك مسلط، أو خليفة مستخلف فزاده إلى ما ابتدأه به من نعمه في العاجل نعماً إلخ. ثم ذكر أنه أرخ بعد ذلك للسنوات، وبدأ بالقول في الزمان، وبدأ بذكر قصة آدم، وقصة نوح عليه السلام، وما ورد في هذه القصص. ثم أرخ بعد ذلك لتاريخ الفرس وبلاد المشرق التي كانت فيها حضارة قبل مولد النبي عليه الصلاة والسلام. ثم بدأ بعد ذلك بمولد النبي عليه الصلاة والسلام، وما ذكر من إرهاصات وقعت أثناء مولده عليه الصلاة والسلام في بلاد كسرى وفي بلاد قيصر، وبعد ذلك بدأ بسرد التاريخ الإسلامي. تميز الطبري كغيره ممن جاءوا في تلك الفترة أنهم رووا التاريخ بالأسانيد، وبالتحديث والرواية عمن سمعوا منه إلى منتهى أسانيدهم. الميزة الثانية: أنه كان يجمع كل الروايات في الحادثة الواحدة، وإن اختلفت هذه الروايات. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الخسارة الكبرى

الخسارة الكبرى إن أعظم خسارة يخسرها العبد في الدنيا والآخرة هي خسارة رضا الله سبحانه وتعالى، وإن أشنع طريق توصل إلى ذلك هي طريق الإدمان على المعاصي، وقسوة القلوب، وترك محاسبة النفس على النقير والقطمير، وإن أعظم مدرسة نقتدي بها، ونربي عليها أنفسنا هي مدرسة الصحابة والتابعين، فهم خير من حاسبوا أنفسهم، وخير من سلك الصراط، واهتدى بنور الله تعالى.

تجسيد الخسارة في الإدمان على المعاصي

تجسيد الخسارة في الإدمان على المعاصي الحمد لله الذي جعل في الإيمان فرح القلوب، وجعل في الإسلام شرح الصدور، وجعل في الطاعة لذة النفوس، له الحمد سبحانه وتعالى، ذكره طمأنينة للقلوب، وشكره زيادة للنعم، نحمده على ما يحب ويرضى، وعلى آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، فله الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، له الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، له الحمد حمداً كثيراً طيباً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، علم التقى، ومنار الهدى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا إلى اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].

موت القلوب هو الخسارة العظمى

موت القلوب هو الخسارة العظمى أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الخسارة الكبرى موضوع حديثنا، فيا ترى ما هي الخسارة الكبرى، والبلية العظمى، والحسرة الجُلىّ، التي ينبغي أن تبكي قلوبنا عليها دماً، وأن تفيض دموعنا لأجلها دمعاً، هل هي الأموال التي قد تسترق، أو الأرض التي قد تغتصب، أم هي الأحباب والأعزاء الذين يغادرون الحياة الدنيا؟! هل هي في المناصب والجاه الذي قد يضيع منه ذا أو ذاك؟! ما عسى أن تكون هذه الخسارة؟ ‍ بفقه الإيمان، ومقياس الإسلام، ومعرفة الأكياس، إن المقاييس اليوم قد اختلت، الموازين وقد انتكست، أصبحت مثل هذه المعاني لا يعرفها إلا قلة من الناس، وأما من يستشعرها فأقل من القليل. أية خسارة هذه التي نصفها بالكبرى، والتي ينبغي أن يطول عليها أسفنا، وأن يعظم عليها ندمنا؟ إنها موت القلوب وفقدان الإحساس، وذهاب الشعور الإيماني الذي يحرك القلوب إذا سمعت الآيات، وإذا أصغت للمواعظ، الذي يعصر القلوب ألماً، والنفوس حزناً، إذا قارفت المعاصي التي تجعل في النفس هماً، وفي الحلق غصة، وفي العين عبرة إذا تخلفت عن الطاعات، الذي يجعل المؤمن مشغولاً بنفسه، مصلحاً لعيبها، خائفاً من ذنبها، مجتهداً في حملها على أمر ربها. ولعلي أصور هذه الخسارة في واقع لا يكاد يبرأ منه أحد، كبيراً كان أو صغيراً، عالماً أو متعلماً، حتى الأئمة والمصلحون، والدعاة والمذكرون والواعظون، ذلك أن هذا البلاء قد عم وطم. لعلنا نصور هذه الخسارة ونحن نقول: كم من آيات القرآن تتلى فلا قلب يرق، ولا عين تدمع! كم من منكرات تراها الأعين، وتسمعها الأذان، فلا يضيق صدر، ولا يتمعر وجه! كم من الطاعات مهدورة متروكة وليس هناك مذكر ولا واعظ، ولا شاحذ للهمم إليها! كم من الواجبات لم ينتبه إليها أحد أو يؤديها والنفوس مع ذلك راضية سعيدة كأن شيئاً لم يحدث! كم من صلاة ضيعت! كم من فريضة وسنة أميتت! كم من بدع ظهرت ورفعت راياتها! كم وكم من أمور كثيرة! فتش قلبك وراجع نفسك، هل ثمة تأثر وتغير بحسب هذه الأحوال التي تتغير من حولنا، أم أننا قد ألفنا المعاصي فلم تعد القلوب تنكرها، وركنا إلى الدنيا فلم تعد النفوس تنبعث إلى الطاعات، ونظرنا إلى الملهيات والمغريات فلم يعد في النفس والقلب شيء تتعلق به إلا إياها؟!

فقد الفرقان بين الحق والباطل

فقد الفرقان بين الحق والباطل أحسب أن هذه الأسئلة وهي تجول بخواطرنا نعرف أن إجاباتها مريرة، وأن حقائقها أليمة، وأن واقعنا في هذه القضية يستحق أن يوصف بأعظم من الخسارة الكبرى؛ لأننا نفقد جوهر حياتنا، نفقد الميزان الذي نعرف به مسيرنا، نفقد النور الذي نبصر به طريقنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]. إشراق الإيمان في القلب، وحياة القلب بالطاعات، ذلك هو الفرقان، ذلك هو النور الذي نميز به بين الحق والباطل، والذي نعرف به المنكر والباطل وإن كنا نجهل أدلته، وإن كنا لا نعرف أقوال العلماء فيه، فما بالنا اليوم والمنكرات الواضحة الجلية التي قامت عليها الأدلة القطعية بينة ظاهرة. انتبه معي إلى هذا الأمر الخطير الذي نفقده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال:29]. ونتذكر معاً حديث وابصة بن معبد الذي نردده كثيراً: (الإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس، استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، ضاع منا القلب الذي يستفتى؛ لأنه فقد النور الذي به يبصر، والميزان الذي به يرجح، وبهذا يكون قد فقد حساسية الإيمان، وفقد الشعور الذي يجعله يهرب من كل ذنب ويقبل على كل طاعة وينبعث إليها. أي قلب هذا الذي سوف نستفتيه اليوم؟! إننا نستفتيه فيكاد لا ينكر الكبائر المجمع على حرمتها، فكيف به في أمور من الصغائر؟! وكيف به في أمور من المشتبهات؟! وكيف به في سعة وزيادة من المباحات؟! إننا إن استفتيناه اليوم ربما أقر بما نسمعه من أن الفنون جميلة، وأنها في خدمة الأمة، وأنها تصنع كيت وكيت، رغم ما فيها من العري والفجور والخنا والزنا وغير ذلك.

فقد القلوب الواعية للقرآن المتدبرة لمعانيه

فقد القلوب الواعية للقرآن المتدبرة لمعانيه أي شيء نفقده؟ إنا نفقد أعظم شيء، وأي شيء سنجده إذا فقدنا ذلك: هل سنجد الطعام والشراب، وصحة في الأبدان نغتر بها، ونظن أنها من نعم الله علينا، وقد تكون في كثير من الأحوال استدراجاً للغافلين وإمهالاً للمسرفين؟ نسأل الله عز وجل السلامة. يقو تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]، أليست القلوب اليوم إلا ما رحم الله مصروفة عن آيات الله فلا تكاد تعيها ولا تتدبرها؟ يقول سفيان الثوري رحمه الله في تعليقه على هذه الآية: إنها في المذنبين المسرفين المتكبرين عن الحق يصرفهم الله فلا يتدبرون آياته. ويقول الله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، إن لم تشعر بتدبر القرآن، وتأثر القلب به فاعلم أن الأقفال والأغلاق قد أحكمت. انتبه إلى هذه الآيات العظيمة: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] فإن لم تكن هناك خشية فإن القلوب أشد قسوة من الصخور الصماء في الجبال الشاهقة: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:31] والتقدير: لكان هذا القرآن، هذا القرآن من قوته وعظمته وشدة معانيه يسير الجبال، ويقطع الأرض، ويحيي الموتى، فما باله لا يلقى آذاناً مصغية، وقلوباً حية، ونفوساً متأثرة؟! أفليس حقاً علينا أن نبكي على أنفسنا، ونقيم العزاء على قلوبنا، وأن نستشعر أن خسارتنا هذه هي مبدأ كل الخسارات التي توالت في حياة أمتنا؟! يوم ضيعنا هذه المشاعر الإيمانية، والحساسية الروحانية، والشفافية التعبدية، والروحانية اليقينية، فقدنا من بعد ذلك الطاعات، وأكثرنا من المعاصي، وتوالت فينا الجراحات والنكبات، وكما قال ابن القيم رحمه الله: الذنوب جراحات، ورب جرح يقع في مقتل، فكيف إذا أصاب الجرح قلبك؟! إنه يوشك أن ينزف قليلاً ثم يعلن شهادة الوفاة. واستمع إلى الإمام سحنون أحد أعيان فقهاء المالكية وقد وقع في ذنب، لكنه كان له قلب حي، فمضى على ضفاف دجلة في بغداد، وأخذ عوداً يضرب به على قدميه، مطأطئاً رأسه، متفكراً في حاله، متدبراً فيما وقع منه، وإذا به يقول: كان لي قلب أعيش به ضاع مني في تقلبه رب فاردده علي فقد ضاق صدري في تطلبه وأغث ما دام بي رمق يا غياث المستغيث به ذنب واحد أقض مضجعه، وجعله يتفقد نفسه، لأنه شعر أنه قد ضيع فيه قلبه الحي، وإيمانه اليقظ، وروحه الشفافة، وشعوره المرهف، ذلك الذي كان منه تيقظ وتنبه، حتى سأل ربه أن يرد عليه قلبه لتعود إليه حياته، وليحيا معه إيمانه، وذلك ما كان من أولئك النفر من الأجيال الصالحة ومن أسلافنا رضوان الله عليهم.

الاغترار بكرم الله وعماية البصائر عن الحق

الاغترار بكرم الله وعماية البصائر عن الحق {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] أجمع أهل التفسير: أن هاهنا فهماً مغلوطاً يذهب إليه بعض الناس، كما ذكره بعضهم كـ القرطبي وابن كثير وغيرهما: (ما غرك بربك الكريم) فإن بعضهم يقول: غرني كرمك يا رب، قال: وهذا من الخطأ، وإنما ذكر اسم الكريم -كما ذكر الطبري - ليكون الإثم والذنب مستقبحاً إذا كان في مواجهة من أكرم وأنعم، وذكر ابن كثير رحمه الله: أن في الآية تهديداً ووعيداً لمن وقع في المعاصي وهو يعلم عظمة ربه، ويدرك كذلك كرمه فيقبح منه ذلك الذنب. واستمع إلى الأوصاف القرآنية: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، لماذا نختلف اليوم ولنا أعين وقد نستعين بمكبرات ونظارات، ثم يخفى علينا الحق؟! لأنه ضرب على القلوب الران، وانحرفت في النفوس الأهواء، وزاغت لأجل ذلك الآراء، وافترقت الأمة شيعاً وأحزاباً. واستمع إلى الوصف الذي ضرب صفة لأهل الكفر في أقصى درجاته: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]، أفلا نرى الأهواء المتبعة وهي قد نصبت آلهة جديدة؟! آلهة للسياحات، وآلهة للثقافات التي حقيقتها سخافات، وآلهة وآلهة وآلهة أخرى، وهي مما يتبعه الناس، ويسيرون وراءه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]. الآيات والأحاديث معروفة في المواعظ والدروس والمحاضرات والكتب، فكل شيء ظاهر بين معلوم، ومع ذلك نرى ما نرى من هذه الصور. {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف:146]، أفليس مثل هذا الوصف واقعاً في أحوالنا، ظاهراً في أمتنا؟! أفليس جديراً بنا أن نقف وقفة مع أنفسنا، نعالج بها أدواءنا، ونعوض بها خسارتنا؟! أي خسارة أعظم من أن يموت قلبك، وأن تموت نفسك، وأن تظلم روحك، إنها مسألة خطيرة، وقضية عظيمة. من فقه ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً). أي: من كان في قلبه خشية لله، وحب لله، وبغض لمعصية الله، وتعلق بطاعة الله، فذلك هو العلم، فإنما العلم الخشية، وإذا كان ثمة غرور بالله عز وجل، وإسراف في المعاصي، ونقول لأنفسنا وهماً وزوراً: إن الله غفور رحيم، وستر الله دليل على رضاه، وصحتنا وعافيتنا ونعمنا تدل على أننا على غير ما قد نخشاه على أنفسنا، فنكون حينئذ كالجاهل الأحمق الذي يسعى إلى حبسه بنفسه.

المدرسة الإيمانية لدى الصحابة ومن تبعهم

المدرسة الإيمانية لدى الصحابة ومن تبعهم

من وعي أبي الدرداء لحقيقة الدنيا

من وعي أبي الدرداء لحقيقة الدنيا لعلنا نتأمل ونتأمل! فنستمع إلى مدرسة النبوة إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: دخل أبو الدرداء إلى بلاد الشام، ورأى ما رأى، فوقف في أهل الشام منادياً: يا أهل الشام! أخ ناصح لكم! فاجتمعوا إليه يستمعون، فقال رضي الله عنه وأرضاه: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيداً، وأملوا بعيداً، وجمعوا كثيراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم ثبوراً، ومساكنهم قبوراً. إنها بصيرة المؤمن الذي يعرف حقائق الأمور، ويدرك ما وراء المظاهر والمفاخر. فما بالنا اليوم وقد خطفت أبصارنا بهارج الدنيا! ما بالنا اليوم وكأننا لا نحتمل أن نستمع لهذه الكلمات العظيمة الوجيزة! لم يكن ثمة قول كثير، ولم يكن ثمة تفريع وتشقيق للمسائل، لكنها لغة القلوب، وكلمات الإيمان، وفقه الحياة الإيمانية الأخروية؛ تلكم هي النعيم، تلكم هي الحقائق، تلكم هي الخسارة الكبرى التي افتقدناها، فلم يعد أحد يستطيع أن يذكر مثل هذه الكلمات، كم تسمعون من الوعاظ، وكم تسمعون من العلماء، ولا يكاد يجري على ألسنتهم ما يدل على هذه المعاني الإيمانية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وليس ذلك عاماً، لكنه كثير لا يستثنى منه إلا القليل ممن رحمهم الله، نسأل الله عز وجل أن يسلمنا.

كلمات مضيئة لبعض الفقهاء

كلمات مضيئة لبعض الفقهاء لنستمر في هذا الأمر ولنكن فيه صرحاء، هذه كلمات لبعض الفقهاء يخاطب فيها من كان عنده حظ من العلم، وعنده نصيب من الكتاب، وعنده هدي من السنة؛ يقول: يا صاحب العلم! لا تغتر بالله ولا تغتر بالناس، فإن الغرور بالله ترك أمره، وإن الغرور بالناس اتباع هواهم، واحذر من الله ما حذرك من نفسه، واحذر من الناس فتنتهم. يا صاحب العلم! إنه لا يكمل ضوء النهار إلا بالشمس، كما لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله. يا صاحب العلم! إنه لا يصلح الزرع إلا بالماء والطين، كما لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل. لعل كل فقرة أو جملة نحتاج أن نكتبها ونجعلها في مجالسنا وبيوتنا؛ لنذكر بها أنفسنا نحن المنسبين إلى الإسلام، المنتمين إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أحيا القلوب بالإيمان، وزكى النفوس بالإسلام، وهدى العقول بفقه الإيمان عليه الصلاة والسلام، الذي كان يستغفر الله جل وعلا في يومه وليلته مائة مرة، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك يستغفر في يومه وليلته مائة مرة، وربما استنكف بعضنا إن قيل له: استغفر الله، فقال: ماذا صنعت؟! ويحي وويحك هل تظن أننا لم نصنع شيئاً، كم في الواجبات من تضييع وتفريط وتقصير، وكم وكم مما أشرت إلى بعضه، ولعلنا نتنبه.

ومضات إيمانية لبعض العلماء

ومضات إيمانية لبعض العلماء واستمع إلى المدرسة الإيمانية وهي تسير عبر الزمان، وتنساب من أولئك النفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى من وراءهم من أجيال الأمة إلى يومنا هذا، لكننا نحتاج إلى التذكر والتدبر: كان ابن الجوزي رحمه الله فقيهاً عالماً، لكنه صاحب إيمان وقلب، كان كثير من حديثه ألصق بالقلب والإيمان منه بالعلم والحجة والبرهان، يقول رحمه الله: من تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أبصر الطريقة هدي للسفر. ثم قال متعجباً، وأحسب أن عجبه سيطول لو كان قد أدرك زماننا: أعجب لأمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضر حال ثم يغشاه: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]، تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن، أعجب العجائب: سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك عما قد خبئ لك، أتغتر بصحتك، وتنسى دنو السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم. لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، وأبدى مضجع سواك قبل البيات مضجعك، فأين عبرتك وأين عبرتك؟ وأين حياتك من غفلتك؟! أليس هذا مما نحتاج أن نتدبر فيه؟ وكان مكحول الشامي رحمه الله يقول في عبارة لها معنى القانون المطرد: إن أرق الناس في هذه الحياة قلوباً أقلهم ذنوباً. أي: إن فتشت عن رقة قلبك فلم تجدها فاعرف السر في ذلك، وأما إن كنت لا تدرك ذلك، ولا تراه مشكلة، ولا تعتبرها معضلة؛ فكبر على نفسك أربعاً، فإنك في عداد الأموات، وكما قال ابن القيم رحمه الله: ابحث عن قلبك في ثلاثة مواضع: عند الموت، وعند تلاوة القرآن، وذكر ثالثاً: ثم قال: فإن لم تجده فابك على نفسك، فإنه لا قلب لك.

مفتاح التغيير في الأنفس

مفتاح التغيير في الأنفس إننا نحتاج -أيها الإخوة الأحبة- أن ندرك أن مفتاح التغيير هو في السنة الإلهية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. ولقد قلت مراراً: إننا نحسن النقد وكشف المعايب في الآخرين، وفي الأحوال العامة ننقد الحكام والحكومات، ونفرض على العلماء والدعاة، ولكننا لا نصارح أنفسنا لننظر إلى عيوبنا، ونفتش قلوبنا، ونبحث عن علل أنفسنا وأدوائها، ولو فعلنا ذلك لكان لنا من البصيرة ما نكون به بإذن الله عز وجل أقدر على سياسة أنفسنا، وإقامتها على أمر الله، ويكون من وراء ذلك من الخير ما لا نستطيع أن نقدر قدره، ولا أن نعرف أثره، أمر عظيم خطير، صوره كثيرة، وعلاماته عديدة، لا تخفى على عين، ولا تكاد تغيب عن كل عقل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يحييها بالإيمان، وأن يجعل فيها نور اليقين به، ولذة الطاعة المفضية إلى مرضاته. ونسأله عز وجل أن يعيذنا من الذنوب وآثارها. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

صور للقلوب الحية والنفوس المؤمنة

صور للقلوب الحية والنفوس المؤمنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن حياة القلوب بالنور والإيمان هي حقيقة التقوى. وسأجعل للحديث تتمة، أقف في هذا المقام وقفات مع صور للقلوب الحية، والنفوس المؤمنة، التي كانت تدقق وتبحث عن أدق الدقائق في مثل هذه المعاني، مستحضرة ما روي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد في مسنده: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه). ولقد جلس الشافعي إلى مالك رضي الله عنه يتلقى عنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى فيه نجابة وفراسة فقال: يا غلام! لا تهلك نعمة الله بمعصية الله. وكان الشافعي يقول مقالته المشهورة: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي تأملوا هذه المواقف العظيمة الجليلة: موقف الفاروق عمر رضي الله عنه، ذلك الرجل الذي نعرف منه جانب شدته وقوته في الحق، لكنه كان يحمل بين جنبيه قلباً رقيقاً، فكان يقول رحمه الله يبين سبب مواقفه: والله لولا يوم القيامة لكان غير ما ترون. في أخريات عمره كان يحدث بعض الصحابة بعد أن اتسعت رقعة الإسلام، وتعاظمت فتوحاته، وكثرت الخيرات في أرضه، وإذا بـ عمر يتحدث ويبكي ثم قال: والله لئن أبقاني الله عز وجل لأصنع وأصنعن، حتى لا يكون لأرامل ونساء العراق ما يحتجن إليه. وذكرت عنه المقالة الأخرى الشهيرة: لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لم لم أسو لها الطريق؟ وفي حديث أنس الشهير في الصحيح: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات). وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتحسر وتتندم على تغير الأحوال واختلافها عما كانت عليه في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتتمثل بقول الشاعر: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في زمن كجلد الأجرب وهو زمن كان الصحابة فيه كثيرين، وكان القرآن فيه قد ملأ القلوب وملأ المحاريب، وكان فيه الجهاد في كل الثغور وكان فيه وكان فيه. وروى البخاري تعليقاً عن أبي الدرداء: أنه دخل على أم الدرداء مغضباً؛ فقالت: مالك يا أبا الدرداء؟! قال: والله ما أعرف من أمة محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً. لم يبق شيء يدله على ما كان عليه العهد الأول إلا صلاة الجماعة، وأما غير ذلك فقد رأى فيه تغيراً وتبدلاً. وها نحن نجد مثل هذه المعاني التي فاضت من الصحابة والتابعين، والتي كانت فيها المعاني تختلف عما نحن عليه، ألم نسمع ونقرأ أن السلف كان يعزي بعضهم بعضاً إذا فاتت أحدهم صلاة الجماعة، إنها مصيبة عندهم، إنها كارثة في حسهم، فكم من جماعات، وكم من صلوات قد ضاعت وفاتت وأخرت وأرجئت! وكم من واجبات نتأخر عنها فلا ندركها إلا في آخر وقتها؟ وأين هي الصفوف الأولى؟ وأين هو التبكير إلى التكبير وأين وأين؟ واستمع وزد من ذلك ما شئت، فإن صور أسلافنا عظيمة، قال ابن سيرين رحمه الله وقد ركبته بعض الديون: إني لأعلم الذنب الذي حملت به الدين. كانوا يرون أن كل شيء يقع بهم له تفسير يتعلق بالطاعة والمعصية، فهذا ركبته الديون فلم يقل: ثمة خلل اقتصادي، ولم يقل: إن تخطيطي التجاري لم يكن جيداً، بل قال: إني لأعلم الذنب الذي حملت به الدين، قلت لرجل: يا مفلس! قبل أربعين سنة. كلمة كأنما اعتدى بها على الآخر، فقال: تلك هي سبب هذا الدين. وكيف ذكرها منذ أربعين، وأحسب أننا لا نستطيع أن نذكر ذنوبنا في أربعين ساعة؟ لأن الذنوب عندهم قليلة فصار إحصاؤها يسيراً، وتذكرها قريباً. وكان رجل من السلف يسير إلى المسجد، فاعترضه سفيه فشتمه، فأي شيء قال؟ قال: اللهم اغفر لي ذنبي الذي سلط به هذا علي، أي: لم يسلط علي هذا إلا بذنب أذنبته، ولذلك لم يتوجه إليه بل توجه إلى ربه. نكتفي بهذا ولعلنا نعيد القول فيه ونزيد؛ لتحيا قلوبنا، وترشد عقولنا، وتزكو نفوسنا، وتصلح سرائرنا، وتحسن أقوالنا، وتعظم صالحاتنا وطاعاتنا، إنه سبحانه وتعالى القدير الذي إذا سألناه أعطانا، والكريم الذي إذا التجأنا إليه أفاض علينا. نسألك اللهم حياة قلوبنا، وعظمة يقيننا، وزيادة إيماننا، وصلاح قلوبنا، وزكاة نفوسنا، وعبرة عيوننا. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمورنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأعقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم توفنا على التوحيد والطاعات، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم ووفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر منهم ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. اللهم صل وسلم وأكرم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين. وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

الخوف من الإسلام القادم

الخوف من الإسلام القادم أعداء الإسلام يرون أن أكبر أعدائهم هو الإسلام، ولهذا فهم يتخوفون منه، مما جعلهم يحاربونه بشتى الوسائل والطرق، فيجب على جميع المسلمين أن يدافعوا وينافحوا عن دينهم، وعليهم أن يهتموا بالجوانب التي يركز عليها أعداء الإسلام، فإنهم لا يركزون عليها إلا لشدة خوفهم منها، مما يدل على أهميتها.

أهمية معرفة تخوف أعداء الإسلام من الإسلام

أهمية معرفة تخوف أعداء الإسلام من الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى؛ فهو جل وعلا أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى والآخرة. ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن العنوان لهذا اللقاء الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا فيه التوفيق والسداد، وأن يكتب لنا منه الأجر والثواب، وأن يخرجنا منه بالنفع والفائدة هو: (التخوف من الإسلام القادم). وبادئ ذي بدء نحب أن ندخل إلى الموضوع من خلال أهميته والحاجة إلى تسليط الضوء عليه، وذلك من مبدأ ظاهر وواضح وبين، وهو أن الخوف: رد فعل طبعي بالنسبة للإنسان، وهو في نفس الوقت يشكل أول مرحلة من مراحل المواجهة؛ ولذلك من كلام العرب أنهم يقولون: من خاف سلم، ومن خاف نجا؛ لأن هذا الخوف هو أول خط من خطوط الإنذار التي تبدأ تشحذ القوى الموجودة عند الإنسان، فيبدأ عند الشعور بالخطر بالدارسة والتحليل، ثم أيضاً يبدأ بشحذ القوى نحو التوقع والدراسات المستقبلية، ثم بعد ذلك يبدأ في وضع الخطوات العملية المكافئة والمناسبة. فإن الإنسان إذا لم يكن يدرك الخطر، ولم يستشعر الضرر فإنه لا يكون عنده أي حافز ولا أي توجه للقيام بأية صورة عملية في أي ميدان من الميادين، ومن هنا تكمن أهمية التتبع أو الرصد لظاهرة التخوف من الإسلام؛ لأن هذا الرصد سيوقفنا على طبيعة النقاط والموضوعات المحددة والمعينة لهذا التخوف؛ لأننا في آخر الأمر سنرى أن هناك تخوفاً، لكنه إذا لم يُدرك فلن تُعرف القنوات والخطوط الأساسية الباعثة له، وإذا عرفنا هذا سنعلم أن هذه القنوات التي شكلت هذا التخوف هي المزايا التي ينبغي أن نحرص عليها. وسيظهر لنا أيضاً من الدراسة لهذه الظاهرة الأمور الثانوية التي لا تشكل خطراً على الأعداء، فنعرف أنها لا تحتاج منا إلى جهد كبير، وسنرى أن بعضها ربما يحتاج إلى أن نلغيه من صفوفنا؛ لأننا نجده بعد دراسة هذه الظاهرة موضعاً لرغبة العدو المواجه لنا في أن يكرس هذه الجوانب التي لا يخشى منها. ومن هنا أحب أن أقول في البداية: إن التخوف هو في حد ذاته أول خطوة نشأت عنها كثير من الخطوات، ومن هنا نحتاج أن نعرف الطريق من أوله، والسلسلة من بدايتها.

سبب تخوف أعداء الإسلام من الإسلام

سبب تخوف أعداء الإسلام من الإسلام ظاهرة تخوف الكفار من الإسلام سنقف معها وقفات موجزة، ونذكر بالقليل الذي يذكر بالكثير الذي يمكن أن يرجع إليه وأن يحال عليه؛ ذلك أن هناك صيحات لهذا التخوف ليست وليدة اليوم، بل هي قديمة، ثم هي صيحات من هذا الإسلام القادم من دياره، وكذلك صيحات تخوف من هذا الإسلام في خارج دياره. وينتقل الأمر من بعد الصيحات إلى صور عملية تدل على هذا التخوف. ونشير إلى المحاور المركزية لهذا التخوف، والأسباب العملية له: نحن نعرف تماماً أن هذا التخوف منشأه ومحوره الأساسي هو: الصراع العقائدي الذي هو جوهر الصراع بين الحق والباطل منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى هذه الخليقة، وبعث فيها الرسل والأنبياء. ومن هنا فإننا نجد أن هذه الصيحات من التخوف من الإسلام قديمة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومروراً بالتاريخ كله نجد أنها ظاهرة ملازمة في كل موضع يتقارب أو يتعاظم فيه دور الإسلام، وقيام مؤسسات أو حكومات بتطبيقات متكاملة له. منذ أن بزغ فجر الرسالة المحمدية بدأ التخوف، وأضرب لذلك مثالاً ذكره ابن كثير في تاريخه: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وصل إلى قباء، وقبل أن يدخل المدينة ذهب حيي بن أخطب زعيم اليهود وأخ له يقال له: أبو ياسر لاستكشاف الخبر، فذهبا ثم عادا إلى مكانهما كالين تعبين، على ظهورهما كأمثال الجبال من الهموم، فقال أبو ياسر لأخيه: أهو هو؟ -يعني: أهو محمد المذكور خبره؟ - قال: نعم، قال: فمالك عنده؟ قال: عداوته ما بقيت! وهذا يدلنا على أن الإنذار المبكر كان بمجرد معرفة الإسلام الصادق الصحيح الذي هو تصور كامل لهذا الوجود، والذي هو تشريع كامل يتناول ميادين الحياة، والذي هو تطبيق عملي يتجاوز مجرد الشعارات والنداءات، فبمجرد وجود هذه الظاهرة يبدأ التخوف، وهذا هو السر في الذي يحصل منذ بدايات هذا القرن، حتى في أوج التفوق الاستعماري الغربي الصهيوني، فإن الذين كانوا من زعمائه كانوا من البداية يرون أن التفوق لهذه الأنظمة أو لهذه العقائد ينبغي ألا يجعلها غافلة عن حقيقة الخطر الذي يتهددها، والكامن في طبيعة وحقيقة هذا الدين حينما تتضح لحملته ولأبنائه، ثم يحصل التفاعل بين هذه الحقيقة وبين حامليها وأبنائها مهما كانوا قلة، ومهما كانت إمكاناتهم محدودة، ومنذ بدايات هذا القرن وحينما دخل النصارى واليهود إلى ديار الإسلام بقواهم العسكرية وغزواتهم الفكرية وهم ينبهون على هذا الخطر.

بعض الصيحات التي أظهرها أعداء الإسلام في تخوفهم من الإسلام

بعض الصيحات التي أظهرها أعداء الإسلام في تخوفهم من الإسلام الوقفة التي نقف عندها الآن: الصيحات القريبة العهد لهذا التخوف حتى نبدأ بنوع من التتبع أو الحصر اليسير لها. هناك صيحات كثيرة تنبئ عن التخوف من هذا الإسلام في دياره وبين أبنائه، وجعله ليس فقط خطراً يتهدد الأوضاع القائمة في تلك الديار، ولا حتى الأعداء التقليديين أو الظاهرين لهذا الإسلام، بل تتوسع الدائرة أكثر من ذلك، ومن هذه النماذج: مقال لصحفية يهودية اسمها روس كرس تقول فيه: إن قادة الحركة الإسلامية يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعاً، وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض كلها. ثم تتابع قائلة: والآن وقد أصبح قادة الحركة الإسلامية ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط، أصبحوا يطلبون من كل مسلم ألا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة، فقد حان الوقت لكي يعرف الشعب الأمريكي أي حركة خطرة هي هذه الحركة الإسلامية! وهذه وقفة مع تعليق لراديو إسرائيل في إحدى نشراته في أواخر السبعينات: يقول المعلق: إن عودة الروح الدينية للظهور من جديد في المنطقة يشكل تهديداً مباشراً لمستقبل إسرائيل، ومستقبل الحضارة الغربية بأسرها! وحينما يقف الإنسان وقفة بسيطة يرى كم هو التضخيم في نظرنا على أقل تقدير بين الظاهرة الموجودة وحجم ما هو مطروح لها، فبضعة أفراد من المسلمين يشكلون أقلية في مجتمعاتهم، ومحدودة إمكاناتهم، ومع هذا نجد أعداءنا يقولون: إنهم لا يشكلون خطراً فقط على دولة، ولا على قوى عظمى، بل إنهم يشكلون الخطر على العالم أجمع على اختلاف ملله ودياناته ومذاهبه ومبادئه. أيضاً: نقلت إذاعة إسرائيل في (5/ 11/ 1980م) عن رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز قوله: إن سياسة الولايات المتحدة في عهد ريغن تتسم باتخاذ إجراءات عنيفة ضد الجماعات المتطرفة في المنطقة. فتصور كيف القوى العظمى في العالم تواجه هذه الجماعات أو التجمعات بإجراءات عنيفة، وهي مهما أوتيت من بعض الملكات أو الإمكانات لا تعدو شيئاً من الناحية المادية أمام القوى المواجهة سياسياً وإعلامياً وعسكرياً ودولياً. ونجد أن القضية ذات بعد تأصيلي، وليست ذات صورة هلامية، كما يظهر ذلك أيضاً في كلام لخبيرة سياسية أمريكية اسمها روبن رايت حيث تقول: إن على الغرب أن يدرك أن الإسلام أعجز الغرب كله على اختلاف حكوماته وقواته، وتقول: إن على الغرب أن يدرك أنه أعجز من أن يواجه هذه الصحوة مواجهة عسكرية، وأن من الأفضل أن يسالم الغرب الإسلام. ويقول جميس بل أستاذ العلوم السياسية: إنه يتنبأ أنه خلال الأربعين سنة القادمة سوف يكون الإسلام الجماهيري قوة أديولوجية في العالم. وهذا أيضاً يبين لنا أن القضية عندهم واسعة المدى بشكل كبير. ويقول ألبير شبمور في كتابه حمراء غرناطة -والكلام ليس ببعيد، ولكنه ليس بقريب كثيراً-: هذا العربي الشجاع استطاع أن يغزو نصف العالم، وترك لنا في حمراء غرناطة آثار فخاره، إن هذا العربي الذي نام نوماً عميقاً مئات السنين قد استيقظ، وأخذ ينادي العالم هأنا لم أمت، ومن يدري قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة بالعرب المسلمين مرة ثانية في الوقت المناسب والزمن المناسب، سيحطمون الغرب عدوهم الأبدي. وهؤلاء القوم نعرف أنهم إلى حد ما لا يتكلمون من فراغ. ثم يقول: لست أدعي النبوة، ولكن الأبحاث تدل على ذلك، والأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة جداً. إذاً: القضية مبنية على دراسة، ثم يؤكد على خطورة الأمر بالنسبة له ويقول: أبيدوا هذه الأشباح التي تنتظر البعث، أسكتوها إلى الأبد! فهو يرى أنه ليست هناك طريقة إلا الوأد الخفي قبل أن يولد المولود ويستهل صارخاً، ثم يغدو فتىً يافعاً، ومن بعد ذلك يمارس دوره في هذه الحياة. فهذه صيحات تحذر من الإسلام بشكل عام ضد الحضارة الغربية كلها على اختلاف حكوماتها وقواتها.

التحذير من الإسلام في شرق العالم وغربه ووسطه

التحذير من الإسلام في شرق العالم وغربه ووسطه قضية التحذير من الإسلام ليست فقط في دائرة الغرب، وإنما التحذير من الخطر الإسلامي قوي جداً حتى في شرق العالم، وبالذات في الاتحاد السوفيتي الذي انتهى أمره إلى ماهو معلوم، وليست القضية جديدة مع الأحداث الأخيرة، وإن كانت ظهرت بشكل أوضح. ففي مجلة جوش كروكنل - وهي من الصحف اليهودية الواسعة الانتشار- في مقال لها ذكرت الخطر، وأنه يعم كل العالم حتى المعسكر الشرقي الروسي في ذلك الوقت، إنه لا العالم الغربي ولا الاتحاد السوفيتي يستطيعان أن يرقبا بهدوء هذه اليقظة الإسلامية التي لو أسيئ استعمالها من قبل الجماعات المتعصبة لنتج عن ذلك ليس هلاك إسرائيل وإنما زعزعة استقرار جزء كبير من العالم، ولن تسلم من ذلك لا الحضارة الغربية ولا الحضارة الشيوعية. ويقول السفير اليهودي في الأمم المتحدة: إننا نشهد اليوم ظاهرةً غريبة ومثيرة للاهتمام، وتحمل في ثناياها الشر للمجتمع الغربي بأسره، وهذه الظاهرة هي عودة الحركات الإسلامية التي تعتبر نفسها عدوةً طبيعية لكل ما هو غربي، وتعتبر التعصب ضد اليهود بشكل خاص وضد الأفكار الأخرى بشكل عام فريضة مقدسة. وجاء في مجلة (نيوز ويك) نقلاً عن راديو إسرائيل: إن منطقة آسيا الوسطى أصبحت منطقة قد يحولها الملتزمون المسلمون إلى برميل بارود قابل للانفجار، وإن نزاعات القوة التي تجري في أفغانستان في الوقت الراهن تساعد في صب الزيت على الانبعاث الإسلامي في صفوف مسلمي الجمهوريات الإسلامية السوفيتية البالغ عددهم خمسين مليون نسمة. وقد أشارت المجلة إلى الزيادة التي طرأت مؤخراً إلى عدد المنتمين إلى حزب النهضة الإسلامية في هذه الجمهوريات، وقالت: يبدو أن المجاهدين الأفغان قد اقتربوا من أي وقت مضى إلى النجاح في إنشاء دولة إسلامية متطرفة في أفغانستان، ويمثل ما تصبو إليه الزعامة الإسلامية المتطرفة التي يقودها المجاهدون لسيطرة الحركات الإسلامية على الوضع بصورة ظاهرة. وطبعاً هذه الصورة تظهر مؤخراً بعد الأحداث الأخيرة في الجمهوريات الإسلامية، فإنها -بحسب الدراسات التي ظهرت والإحصائيات- تمثل جانباً كبيراً من قوة الاتحاد السوفيتي من حيث القوة العسكرية والنووية كذلك، وكذلك من حيث الطاقات الخام الموجودة في أراضيها. ومن هنا أيضاً سمعنا صيحات الحذر والخوف من الخطر النووي ومحاولة احتوائه، ويحاولون ألا يكون هناك أي قوة مهما كانت بصورة مباشرة أو غير مباشرة ذات صلة بالمسلمين في الاتحاد السوفيتي. وأيضاً نلمح أن القضية عند القوم واسعة المدى من حيث التخوف من الإسلام في عقر ديار الغرب والكفر. ومن هنا نجد أن الظاهرة الإسلامية المنتشرة، والتي تخطو خطوات مباركة، واشتد أزرها في أمريكا وأوروبا نجد أنها ليست بعيدة عن تخوف الأعداء، ولا عن رصدهم، ولا كذلك -وهو أمر ينبغي ألا يستبعد- عن إيجاد ما يعرقل هذه المسيرة سواءً بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. ومن هنا تقول إحدى الصحف السويدية تبين هذه الظاهرة وتخوف منها: إن الإسلام بدأ ينتشر في الولايات المتحدة الأمريكية بسرعة مذهلة. وتقول الصحيفة: إن الأمريكيين وبالأخص السود منهم يدخلون في الإسلام أفواجاً، كما يلتحق بهم المهاجرون من بلدان آسيا والشرق الأقصى. وذكرت إحصائيات رسمية قدمها مركز إعلام الاتحاد المسيحي في بريطانيا: إن معدل بناء المساجد في أمريكا هو مسجد واحد في كل أسبوع! وهذه دراسة مبنية على مركز إعلامي للاتحاد المسيحي في بريطانيا، والمساجد في أمريكا ربما أحياناً تكون عبارة عن غرف، أو عبارة عن صالات، لكن هذا المعدل الإحصائي لا شك أنه يعطي خطراً غير محدود المدى بالنسبة لأعداء الإسلام، ففي الأسبوع يُبنى مسجد واحد، وفي السنة خمسون، وبالتالي يمكن -كما سيأتي في بعض التصريحات- أن يجد الأوروبيون والأمريكيون أنفسهم محاطين بالظاهرة الإسلامية التي يخططون لحربها في ديارها، وإذا بها قد التفت حولهم -بإذن الله سبحانه وتعالى- بصورة أو بأخرى. وهذه صحفية إيطالية كتبت من القدس المحتلة عن أنباء ندوة عقدت في معهد (فانير) الصهيوني تحت عنوان: الاتحاد السوفيتي وغرباتشوف وإسرائيل واليهود: نسبت فيه إلى مدير وزارة الخارجية السابق القول: إن الإسلام عدو مشترك لإسرائيل والاتحاد السوفيتي. وقال أيضاً: لأول مرة في تاريخ الاتحاد السوفيتي وإسرائيل يجدان عدواً مشتركاً. وأيضاً أصدر وزير الداخلية الفرنسي السابق أوامره إلى كبار موظفي الوزارة بإعداد تقرير عن فرنسا ذات الألف مئذنة والألف مسجد؛ على أن يحوي كافة التفاصيل عن تأثير الأصوليين الإسلاميين، فالظاهرة بدأت تأخذ حجمها من الخوف في داخل ديار القوم. وأحد الكتاب اسمه: دييل كيبل له كتاب اسمه: (فرنسا ضاحية الإسلام)، وعنوان الكتاب ينبئ عن التخوف الكبير، والربط التحليلي الذي يعتمد على الإحصائيات والتنبؤات المستقبلية، فيقول: فرنسا ضاحية الإسلام، أي: كأنها أصبحت إحدى عواصم الإسلام ليس في العصر الحديث، وإنما حتى في العصر الإسلامي الزاهر. ويقول: إن هذه الانفجارة الكبرى في تأكيد الهوية الإسلامية خلال ما يقل عن العقدين الأخيرين تمثل مشكلة تواجه المجتمع الفرنسي لم يسبق له مواجهة مثيل لها من قبل. وأعتقد أن في بعض الأخبار التي تتداول سواءً في بعض الحوادث البسيطة من حوادث الحجاب أو غيرها ما يبين كثيراً من هذه الظواهر؛ ولذلك تقول روبن رايت مرة أخرى في حديث لها حول الأصولية الإسلامية: إن على أمريكا والغرب إدراك أن الأصولية الإسلامية لا يمكن أن تحتوى أو يكون لها هزيمة عسكرية أو مقاطعة اقتصادية؛ لأنها ليست ذات حدود، ولكنها موجات تتحرك على مساحات شاسعة؛ إن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يتبناها الغرب هي التعايش والوفاق مع هذه الأصولية -وهذا طبعاً من وجهة نظرها- ويجب أن نعترف أن الإسلام قوة أيدلوجية، وقوة ترشحه للبقاء فتياً معافاً قادراً على العطاء، وإثبات الحضور حتى قرننا المقبل.

تخوف اليهود من الإسلام القادم

تخوف اليهود من الإسلام القادم الصيحات والتخوف من الإسلام في داخل دياره ظاهرة واضحة جداً، ولا شك أن أحد أبرز صيحات التخوف وأكثرها وضوحاً وجلاءً تخوف اليهود من الإسلام القادم؛ لأنهم يعلمون أن قضية وبؤرة الصراع هي بين الإسلام وبين اليهودية سيما في وجود التفوق اليهودي الحالي، وعلمهم أنهم تفوقوا في أحد الجولات، وأن الجولة القادمة بشكل أو بآخر طال الزمان أو قصر للإسلام، فلذلك أصبحت الدراسات والحديث يتعلق كثيراً بالربط المباشر والكبير والضخم جداً بين العمل الإسلامي بشكل عام، وظهور الروح الإسلامية في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر من أي وقت مضى.

الإشارة إلى بعض الدراسات والتحليلات في التخوف من الإسلام

الإشارة إلى بعض الدراسات والتحليلات في التخوف من الإسلام القضية ليست عبارة عن مقالات، أو عبارة عن تصريحات عابرة، وإنما هناك صور أخرى لها، وهي صورة الدراسة والتركيز والتحليل، وهذا استعراض يسير نرى فيه أن التخوف هو الخط الأول أو الإنذار المبكر الذي يبدأ يحفز النفوس إلى أن تنتقل إلى خطوات عملية، أولها وأهمها: خطوات الدراسة والتحليل، وهذه معلومات مركزة ومختصرة عن الدراسات حول الظاهرة الإسلامية من منطلق التخوف، منها: أولاً: عقد مركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورج تاون بواشنطن ندوة استمرت يومين عن النشاط الإسلامي. ثانياً: عقدت جمعية دراسات الشرق الأوسط مؤتمرها السنوي العشرين والحادي والعشرين في مدينتي بوسطن وبلتيمور في نوفمبر سنة 1986م و1987م حول الظاهرة الإسلامية. ثالثاً: تقاضى أحد الباحثين مبلغ خمسين ألف دولار من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مقابل تنظيم مؤتمر عالمي عن الإسلام الأصولي. رابعاً: عقدت وزارة الخارجية الأمريكية عام 1987م مؤتمراً حول الأصولية الإسلامية، ووجهات نظر على السياسة الأمريكية. خامساً: عقد مؤتمر أوربي غربي لمناقشة قضية المد الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط في نهاية شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي، مما يدل على أن القضية ذات طابع عملي ودراسة في هذا الباب. ومن هنا يتنادى هؤلاء المذعورون أو المتخوفون إلى ضرورة استثمار الجانب العملي في هذا الباب، وفي خلاصة بعض هذه الدراسات: لابد من الاعتراف أن الحاجة ملحة لمزيد من المعلومات عن تكوين هذه الحركات وأعضائها، وتجدر الإشارة إلى أن التغيير مستمر في معظم الحركات، وكثير من هذه الدول تفرغ أجهزة متخصصة للرصد والتحليل والدراسة، فمثلاً: نشرت دراسة مطولة تعرض لها بالترجمة والتعليق اليسير الدكتور أحمد خلف الله في دراسته على الإسلام والكونغرس الأمريكي في مجلة المجتمع، وكذلك كتاب الأصولية في العالم الإسلامي أو في العالم العربي وهو أيضاً كتاب ناشئ فيه دراسة استقصائية تدلنا على أن موضوع البحث والجمع والتحليل هو أحد الظواهر التي تنبئ عن ظاهرة التخوف. ونجد هناك كثيراً من الصور لهذا الجانب خاصةً في مسائل تبادل المعلومات، وبعد الاطلاع اليسير على ما ينشر من دراسات باللغة العربية، وهي باللغة الإنجليزية أكثر، وهكذا الدراسات المتعلقة بالمخابرات الأمريكية أو الإسرائيلية أو غير ذلك؛ نجد أن التخصص في هذا الجانب، والتركيز على تبادل المعلومات؛ أصبح قوياً ووطيداً، حتى إن بعض الدول الغربية عندما تعطي التأشيرات للدخول إذا جاءت طلبات من مسلمين أو عرب فإنها قبل إعطاء التأشيرات ترسل مباشرةً إلى إسرائيل لتأخذ بعض المعلومات إن كان هناك تحفظات، على اعتبار أن إسرائيل في نظر بعض الدول الغربية -وبالذات الدول الغربية التي ليس لها صلات أو دراسات في هذا الجانب- هي ملف المعلومات الأقوى والأوثق؛ بحيث توفر عليهم، أو تعطيهم التحذير المطلوب والمناسب بشكل يؤدي الحاجة التي يحتاجون إليها. وأعتقد أن بعض الجهود البسيطة في هذا الشأن تعطينا مثالاً، ومن ذلك أحد مطبوعات الرابطة عن الصحوة الإسلامية في الصحافة الغربية، وإن كان بحثاً يسيراً أو قصيراً، لكنه يعطي ضوءاً، فضلاً عن أن تكون هناك البحوث التي تبين أو تحصر المؤتمرات والدراسات التي تصدر من أعدائنا لدراسة الظاهرة الإسلامية.

بعض الوسائل التي يتخذها أعداء الإسلام في محاربة الإسلام

بعض الوسائل التي يتخذها أعداء الإسلام في محاربة الإسلام من وسائل أعداء الإسلام جمع وتبادل المعلومات عن العمل الإسلامي فيما بينهم رغم اختلافهم؛ ولذلك من أول الاستثمارات اليهودية لتفكك الاتحاد السيوفيتي الحرص على هذه المعلومات التي لم تكن متوافرةً لديهم بشكل أو بآخر، ومن الوسائل العملية في هذا الشأن، وهي قضية مهمة جداً: التحذير والتخويف للحكومات في المناطق الإسلامية وغير الإسلامية التي قد يُرى أنها غافلة عن هذا الخطر، أو على أقل تقدير لا تعطيه الاهتمام الأكبر أو المكافئ والمناسب. ومن الصور أيضاً: التضييق والتعطيل لمشروعات العمل الإسلامي المتعلقة بمجالات الحياة الحيوية، وهذه نقطة سنرجئها إلى مقام آخر فيه تفصيل.

أهم الجوانب التي يخاف منها أعداء الإسلام

أهم الجوانب التي يخاف منها أعداء الإسلام سؤال مهم أعتقد أنه أحد النقاط الجوهرية في هذا الموضوع وهو: ما هو بالضبط موضع التخوف؟ قضية التخوف من الإسلام قضية عامة، فهل التخوف هو مثلاً من بعض الصور كالشعائر التعبدية؟ أو من بعض الأفكار؟ أو من أي شيء على وجه التحديد؟ فلابد ونحن نتعامل مع هذا الموضوع أن نستخلص منه ما هي أهم وأركز الأشياء التي هي مبعث التخوف؟ نستخلص هذا لنعرف أن هذه الجوانب التي هي أكثر الجوانب إرهاباً أو تخويفاً لأعدائنا قطعاً ستكون هي الجوانب التي ينبغي أن تكون بالنسبة لنا أهم الجوانب التي نعطيها الأولوية والدعم في العمل؛ لأنه ما دامت هي موضع التخوف فلا شك أنها ستكون هي الموضع الذي فيه الفاعلية والقوة المؤثرة. ويمكن أن نلمح إلى ثلاثة محاور أساسية ربما فيها تقارب أو تتدرج، لكنها تنبؤنا أن الجوهر يتعلق بهذه النواحي: أولها: النظام السياسي في الإسلام، والتخوف من قضية الإسلام السياسي، أو السياسة الإسلامية، أو ربط الإسلام بالسياسة. ثم في مرحلة أخرى هل يرقى هذا النظام -لو فرض التسليم بوجوده عند الأعداء- إلى أن يصل إلى مرحلة قيام الدولة وتطبيق الحكم الإسلامي؟ ولذلك تأتي النقطة الثانية من التخوف من تطبيق الشريعة الإسلامية أو قيام الدولة الدينية. ثم النقطة الثالثة وهي: هذه الدولة الدينية أو السياسية الإسلامية إن وجدت هل ستتبنى الجهاد الذي يعتبر أكثر الأمور إرهاباً وتخويفاً لأعداء الإسلام؟ وهل ستتبنى نهج الجهاد الإسلامي الذي يدعو إلى تحرير كل الأرض من كل سلطان إلا سلطان الإسلام؟ فإذاً: هناك ثلاثة نقاط أساسية وجوهرية، وهي في حقيقة العلم أيضاً تدرجية: التخوف من سياسة الإسلام، وهل ترقى الحركات الإسلامية إلى أن تكون دولة تحكم وتطبق؟ وهل سيكون من منهاجها أن ترفع راية الجهاد وتتحرك؟ ولو سلمنا بأحد هذه المراحل فلنسلم بالأخريات، فإن العدو دائماً يتنازل عند الضغط، فالإسلام العادي -وإن كانت لا تصح هذه التسميات أو التقسيمات- في صورة الشعائر من صلاة وصيام وزكاة وحج ربما لا تعطى له أهمية أو أولوية في التخوف عند أعدائنا. فالخط الأول: هو: جانب الإسلام السياسي أو السياسة في الإسلام، فإذا وجد الأعداء أنه ولابد من هذا الأمر فسيجدون أنفسهم يريدون أن يسلموا بهذا الجانب، لكن سيدرسون هل هذا الجانب سيكون من أساسياته أن ينتقل من طور المشاركة السياسة في برلمان أو حزب أو كذا إلى أن يوجد في أصوله أنه يجب أن ينتقل إلى الحكم التام الكامل لتطبيق الشريعة؟! وإذا وجدت هذه الدولة وسلم بوجودها وانفرط العقد عليهم -والله سبحانه وتعالى غالب على أمره- وأقيمت دولة إسلامية تطبق شرع الله، فهل سيكون من منهجها في تصورهم الذي يخافونه ويخشونه أن تبقى في حدودها، وتقيم شرع الله في أرضها؟ A قطعاً سيكون هذا مبدأ يختلف تماماً تصوره أو التعامل معه عن قضية أو دولة ترى أنها بذرة ينبغي أن تنتشر، وصيحة ينبغي أن تصم كل الآذان، وتكون عندها مبدأية هذا الانتقال. ومن هنا يمكن أن نقول: إن هذه الجوانب الثلاثة هي التي حظيت كثيراً بالدراسة والتحليل والتخوف. وهذا الهجوم على هذه الجوانب الثلاثة لا يستغرب أن يوجد من الأعداء غير المسلمين أو غير العرب، ولكن للأسف أنه تولى كبره بحكم القرب وبحكم السهولة كثير من أبناء الإسلام العرب الذين تأثروا بالغرب وأوروبا، وكانوا بشكل أو بآخر يمثلون هذه الوجهة ويدافعون عنها؛ ولذلك ما ننقله من نصوص مما يتعلق بهذه الجوانب أكثره عن بعض المسلمين أنفسهم الذين جنحوا عن نهج الإسلام، وإن كانوا في أصلهم مسلمين! وهذه القضايا تتمثل في ثلاثة جوانب نوجزها -إن شاء الله- إيجازاً يغني عما نحتاج إليه من تفصيل:

خوف أعداء الإسلام من الإسلام السياسي

خوف أعداء الإسلام من الإسلام السياسي أول جانب هو جانب الإسلام السياسي: نجد التركيز من الكفار منصباً كثيراً جداً وبصورة واضحة على ألا يكون للإسلام دور في السياسة، وفي أي مجال يمكن أن يحتمل، إلا أن يكون له نظام أو مجال أو صلة في الناحية السياسية، ومن هنا نجد كثرة التذكير بهذه الظاهرة، ونحن لا نحلل ولا ننتقل إلى خطوة أخرى، فموضوعنا فقط هو في التخوف، ونريد أن نرى صورة هذا التخوف ظاهرة في هذه الجوانب الثلاثة؛ ولذلك يقول الدكتور كمال أبو المجد في حوار (لا مواجهة): الإسلام لم يفرض نظاماً سياسياً مفصلاً، والخلافة ليست نظاماً محدد المعالم، وكل النصوص التي سنوردها إنما تهدف إلى قضية واحدة، وهي: أن يُعرى الإسلام من ثوبه السياسي ونظامه المستمد من نصوص كثيرة، وتطبيقات عملية امتدت واستمرت زمناً ودهراً طويلاً. وهناك أيضاً رأي آخر نرفضه كذلك، يرى أن للإسلام نظاماً في الحكم، مفصل المعالم، متميز القسمات أقامه النبي عليه الصلاة والسلام، وألزم المسلمين من بعده بإقامته، وأنهم أقاموه أيام الخلافة الراشدة قبل أن تتحول إلى ملك عضوض، وأن على المسلمين أن يرفضوا كل ما حولهم من أنظمة الحكم والسياسة، وأن ينحوها عن مقاعد السلطة والرئاسة؛ ليضعوا نظامهم الإسلامي على رأس دولتهم الجديدة. وهذا المبدأ المرفوض يكرس في دراسات الغرب أو في دراسات أتباع الغرب ممن تأثروا بهم، أو نهجوا نهجهم؛ ولذلك نجد هذه القضية في كتابات كثيرة. ومن ذلك أيضاً كلام للدكتور محمد خلف الله في كتاب (النص والحكم والاجتهاد في الإسلام) يقول: إن التاريخ الإسلامي يكشف لنا عن حقيقة أن نظام الخلافة ليس مصدره النص، وإنما مصدره الاجتهاد! ثم يقول: ونحن حين نقول: الاجتهاد في هذه القضية، إنما نعني: أن العقل البشري هو الواضع لنظام الخلافة، وهنا حقيقة لابد من لفت النظر إليها، وهي: أن ما كان من اجتهاد العقل البشري لا يكون ديناً، وإنما يكون تشريعاً مدنياً! وهذا نص لا يخفى ما فيه من تفريغ الإسلام من هذا المضمون المهم الذي هو أحد أول أخطر التفاعلات الحديثة بين المسلمين والصحوة الإسلامية في هذا العصر. وأيضاً يؤكد هذا الكلام في نص آخر يقول فيه: نظام الحكم في الإسلام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل به اجتهاد جديد يحقق المصلحة، والجماعات الدينية يجب أن تترك هذه القضية؛ لتكون محل اجتهاد جديد، إن الفكر السياسي في نظام الحكم فكر بشري خالص تستطيع المؤسسات العلمية من أمثال كليات العلوم السياسية أن تجتهد فيه، وليس من أمثال كليات الشرعية، ولا العلماء أن يخوضوا في مثل هذا المجال. وأيضاً نجد أن الدكتور محمد عمارة في كتابه (المعتزلة وأصول الحكم) يقول عن الإسلام: له مفاهيم عليا، ومثل عليا، ثم للناس أن يحددوا ويشرعوا ويطوروا حياتهم وفق المصلحة بعد ذلك، فليس الحكم -ولاحظ هذه العبارة- والقضاء، وليست الإمامة والسياسة ديناً وشرعاً وبلاغاً يجب فيهما التأسي والاحتذاء بما في السنة من وقائع وتطبيقات! والتنبيه على هذا الجانب هنا إنما هو بشكل إجمالي.

خوف أعداء الإسلام من قيام دولة إسلامية تطبق الشريعة

خوف أعداء الإسلام من قيام دولة إسلامية تطبق الشريعة الجانب الآخر: وهو جانب انتقال الجانب السياسي إلى تطبيق عملي في إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية، ونحن نعلم كم هي الصيحات والصراعات في مسألة هذه النقطة، كما سيرد أيضاً لها بعض الحديث إن شاء الله، حتى إن مجلس الشعب المصري أصدر قراراً رسمياً واعتمد بشكل أو بآخر ألا يفتح في موضوعات المجلس بصورة أو بأخرى في أي جلسة موضوع تطبيق الشريعة، وأغلق فيه الباب إلى غير رجعة فيما هو مقرر حتى الآن! ونجد أن قضية إقامة الدولة الإسلامية موضع نقد شديد، وموضع تخوف كبير، كما صرح بعضهم بقوله: إذا طبقنا الإسلام وطبقنا الشريعة سنجد نصف المجتمع مقطوعي الأيدي وذوي عاهات! وهذا على اعتبار أن هذا الحكم ينفذ على السارق وعلى الزاني وعلى من أتى حداً، والأمر كما يقولون: كاد المريب أن يقول: خذوني، وإذا كان نصف المجتمع أو أكثر سيطبق عليه الحدود فلأنه كان سارقاً زانياً فاسداً بشكل أو بآخر. والحقيقة أن التصوير المرعب والمخيف للناس -وأقصد بالناس: عموم المجتمعات- والشعوب المسلمة من تطبيق الحكم الشرعي الإسلامي يتناول هذا الجانب خاصة، وهو جانب تطبيق الحدود. وكذلك جانب تصوير أن إقامة الحكم الإسلامي سيجعل المجتمع المسلم الذي يُقام فيه هذا الحكم مجتمعاً ضيقاً في علاقته، عدائياً في معاملاته، بدائياً في تصوراته، وهذا التأكيد دائماً نجده في كثير من المقولات التي تعالج أو تنتبه إلى هذا الموضوع، والنصوص في ذلك كثيرة، ونختار بعضاً من النصوص التي تؤكد التخوف من هذا الجانب، أو العداء له على وجه الخصوص: من ذلك قول الدكتور محمد عمارة: إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عندما قرره نبي العصر. يعني: أن تبقى كما كانت في عهد النبي، ثم نستطيع أن نطبقها اليوم في هذا الجانب. وهناك أيضاً تصوير الشريعة على أنها نوع من السيطرة والقهر؛ ولذلك يقول محمد خلف الله -ونأسف أن كثير من هؤلاء دخلوا ليكونوا في كلامهم مفسرين وفقهاء مجتهدين وأصحاب علم بأصول الفقه وغير ذلك-: إن القرآن الكريم كان يلفت ذهن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ليس على الناس بوكيل، أو مسيطر أو جبار أو ما إلى ذلك من كل ما هو من شئون الحكم والرئاسة! وهذا هو التفسير عنده، أي: أنه يقول في قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أي: فيما يتعلق بشئون الحكم والسياسة، وعلى أساس من هذا كان القرآن يطلب إليه أن يترك أمر عقاب الناس على مخالفتهم تعاليم الله إلى الله نفسه، فالله سبحانه وتعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بأن يترك عقاب الناس لله سبحانه وتعالى، وهذا يعني عنده: أنه ليس هناك من حاجة إلى تطبيق الحكم والسياسة أو التشريع الإسلامي. وأيضاً النقد لهذه الظاهرة يتركز في نقد منهجي حتى في الصور التي يتشبث بها المسلم الواعي، ومن أقرب الأمثلة: كلام الإسلاميين عن الخلافة العثمانية وما كان لها من دور، وأنها كانت نموذجاً -على أقل التقدير- لوحدة الأمة الإسلامية، ونجد أن الطعن في هذا الجانب في الدراسات التاريخية والمنهجية كثير جداً، مما يؤكد قضية التخوف من أن تكون هناك حكومة أو تطبيق للشرع الإسلامي بتكامله المنهجي؛ ولذلك يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري منزعجاً بشدة لتلك المحاولات العجيبة التي تحاول إعادة الاعتبار للتاريخ العثماني ولتاريخ السلاطين الأتراك في العالم العربي والإسلامي باعتبارهم رموزاً للجامعة الإسلامية ولكيان الإسلام الواحد: وهذا المنحنى التاريخي الجديد للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة مرده إلى إخفاق الحركات القومية والتقدمية التي ثارت على الدولة العثمانية، وانفصلت عنها لإقامة منحى تاريخي جديد، وهو منحنىً يرتبط بمفكري الاتجاه الإسلامي الجديد وفصائله. وهذه نقطة أعتقد أن الأمر واضح فيها، ويكفي أيضاً أن ننقل نصاً عن الدكتور فرج فودة يقول فيه: إن القائلين بالدولة الدينية يضيفون أفعال الخلفاء الراشدين ضمن رصيدهم، والدكتور فرج فودة في كتابه (قبل السقوط) وغيره من كتاباته يركز على أنه لم يكن في يوم من الأيام ما يسمى بتطبيق الشريعة، بعد اعترافه أو غيره شكلياً أو جزئياً بشيئين: عهد النبي عليه الصلاة والسلام ثم عهد أبي بكر وعمر، أما ما وراء ذلك فهو خارج عن هذا التطبيق؛ ولذلك نجد الكتابات مركزة في هذا الجانب، حتى كتب الدكتور عبد العظيم رمضان مقالاً فيه: وجلدوا الأئمة الأربعة بالسياط! واستعرض فتنة الأئمة الأربعة أيام مالك وأبي حنيفة وقال: هذه الحكومات والتطبيقات للشريعة الإسلامية! انظروا كيف كانت في العصور التي تستشهدون بها، وكيف جلد الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة! قال هذا كنوع من الاستقراء لبعض الحوادث التاريخية الجزئية في غير تكامل منهجي، وهذه نقطة مهمة؛ لأن الدراسة التاريخية المبتدأة يمكن أن تغير نظرة الإنسان في قضية معينة، فإذا أخذنا هذا الجانب مثلاً كحادثة معينة تشوه التطبيق، بينما هي نموذج لقضايا معينة محدودة معروفة الأسباب، ولا يمكن فهمها في غير هذا الإطار المبتدأ. فيقول: لست أعتقد أن هناك من المسلمين من يرتضي سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه كحاكم! ويقول: رفض حكمه كبار الصحابة من معاصريه لدرجة قتله ورفض دفنه في مقابر المسلمين، ثم دفن دون الصلاة عليه إلى آخر هذه الوقائع المحزنة! وطبعاً ليست وقائع حتى تكون محزنة؛ لأنها ليست صحيحة، وهذا الخط والاتجاه ظاهر كثيراً في كتابات لثلاثة أو أربعة من هؤلاء المفكرين: فرج فودة وفؤاد زكريا والعشماوي، وغيرهم أيضاً، لكن هذه صورة في هذا المجال.

خوف أعداء الإسلام من الجهاد الإسلامي

خوف أعداء الإسلام من الجهاد الإسلامي النقطة الثالثة هي: قضية الجهاد الإسلامي، فحينما تقوم الدولة الإسلامية هل ستأخذ بهذا النهج؟ وطبعاً الاستماتة كبيرة جداً في هذا الجانب، ولعل أهم النقاط التي ربما تلفت النظر في الكلام الأخير والمحادثات الأخيرة والتغيرات السياسية الأخيرة: التركيز على مبدأ الجهاد؛ حتى إن شامير في خطابه للافتتاح الرسمي في جلسة مدريد قال بالنص وبالحرف الواحد: عليكم- وهو يخاطب الوفود- أن تعملوا على إلغاء الجهاد. وقضية الجهاد لا شك أنها أحد أهم مواطن الإرهاب الذي يخشى منه غير المسلمين؛ ولذلك وللأسف أيضاً نجد من مقالات الباحثين المذكورين وغيرهم هذه الصورة واضحة: يقول محمد عمارة: لا الحرب التي سميت بحروب الردة كانت دينية، ولا حرب علي مع خصومه كانت دينية؛ لأنها كانت حرباً في سبيل الأمر -أي: في سبيل الرئاسة والخلافة والإمامة- وهذه سلطة ذات طبيعة سياسية ومدنية، ومن ثم كانت الحرب لأجلها سياسية ومدنية. إذاً: ليس هناك شيء اسمه أصلاً حرب دينية أو جهاد إسلامي عند هؤلاء. ويقول أيضاً في كتاب (الإسلام والوحدة الوطنية): إنه طويت صفحة التاريخ الذي كان يقسم الناس إلى مؤمنين وكفار؛ طويت هذه الصفحة ليبسط مكانها صفحة الحضارة الحديثة التي تميز بين الأمم والشعوب على أساس من التحضر والخشونة والبداوة! والعشماوي ألف كتاباً كاملاً عن الإسلام السياسي جعل نصفه عن الجهاد في الإسلام، واستقرأ بعض الآيات، وخرج بقرارات أو بتصورات يريد أن يكرسها، فمن ذلك قوله: المعنى السليم للجهاد فسر خطأً من جانب بعض الفقهاء، وحرف عمداً من جانب بعض السلطات السياسية في التاريخ الإسلامي. ونحن نعلم أنه ما من كتاب فقهي على أي مذهب من المذاهب إلا فيه باب من أبواب الجهاد وأحكامه، والفيء ووالغنيمة؛ لأنها نصوص قرآنية ثابتة. ويقول: فسر خطأً من جانب بعض الفقهاء، وحرف عمداً من جانب بعض السلطات، فبعض الفقهاء الذين أثروا على العقل الإسلامي يقولون: إن الصلة بين الإسلام وغيره من الدول أو المجتمعات هي الحرب دائماً. وطبعاً التقسيم الإسلامي للديار إلى: دار حرب ودار إسلام تقسيم فقهي مؤصل، له تفصيلاته وأحكام المتعاملين مع دار الإسلام، وديار الإسلام أيضاً لها أحكام تفصيلية في هذا الجانب. ولذلك يقول: هؤلاء الفقهاء بينوا أن الصلة بين الإسلام وغيره هي الحرب دائماً، وأن السلم ليس إلا هدنةً مؤقتة ريثما يتهيأ المسلمون للحرب، وزاد البعض ثراها أنه من غير الجائز لإمام المسلمين أن يتعاقد على سلم دائم مع بلد من بلاد الحرب؛ لأن في مثل هذا السلم إلغاء لفريضة الجهاد، وهو كذلك. وخلص إلى أن الجهاد هو وغيره إنما هو عبارة عن الصورة الدفاعية في بعض الأوقات، وإنما هو جهاد النفس! وبعد ذلك صور صورة تعبيرية جميلة يقول فيها: وبهذا يكون الجهاد أسلوباً كريماً، وباعثاً قوياً، ودافعاً سامياً للارتقاء بالذات والسمو بالنفس، والعلو بالروح حتى تعطي دون توقع للرد، وتبذل دون نظر إلى المقابل، كما أنه يكون تربية للمؤمن على أسلوب الدفاع عن النفس الذي يبدأ عندما يبدأ العدوان، وينتهي بنهايته، فلا يجنح إلى الابتداء بالعدوان، ولا ينحرف إلى الاستمرار كما تهوى النفوس عادةً ما لم تضبط بالمجاهدة الحقة، والمكابدة السليمة. إذاً: هذه صور تبين لنا أن هذه المحاور الثلاثة هي موضع الدرس والتركيز؛ لأنها أحد أهم المعالم لهذا التخوف.

سبب تعاظم التخوف من الظاهرة الإسلامية في الآونة الأخيرة

سبب تعاظم التخوف من الظاهرة الإسلامية في الآونة الأخيرة نقف عند نقطة مهمة وهي: لماذا تعاظم هذا التخوف بشكل أكبر في العقد الأخير أو قبله بقليل من الظاهرة الإسلامية؟ A في تصوري أن هناك بعض الملامح المهمة لهذا الجانب: أولها وأهمها هو: انتقال الطرح الإسلامي عبر مراحل كثيرة وظروف متغيرة، من كونه قضايا فكرية، أو تطبيقات عملية لدى فئة محدودة من أبناء العمل والحركة الإسلامية إلى كونه قضيةً شعبيةً دخلت في هموم الناس وحاجاتهم اليومية، أقصد: تحول الإسلام إلى ظاهرة شعبية في المجتمعات الإسلامية، وهذا أحد أبرز المعالم للتخوف المتنامي في الفترة الأخيرة، والتمثيل بذلك يظهر من خلال بعض الشواهد البسيطة القريبة التي ربما كانت أيضاً موضع تنبه عند كثير من هؤلاء القوم. ففي الجزائر في فترة مضت كانت هناك مظاهرة نسائية خرجت فيها ثلاثة آلاف امرأة يطالبن برسمية أو شرعية البغاء! ثم كان الرد الإسلامي بمظاهرة نسائية إسلامية متحجبة تطالب بنظام الإسلام للمرأة المسلمة، وكان المقابل من ثلاثة آلاف إلى نحو ما بين سبعمائة وخمسين ألفاً إلى مليون امرأة مسلمة! وطبعاً هذه القدرة على هذا التحريك الشعبي في صورة عملية واضحة -وليست مجرد خطابات وشعارات- أحد أبرز المعالم المهمة في هذا الجانب؛ ولذلك أيضاً نجد كثيراً من الكلام يتركز حول هذه الشعبية، بل حتى حول أساليبها البسيطة أو المحددة، فنجد الكلام على حرب الأشرطة أو حرب الكاسيت، وأنه أحد الأساليب الترويجية الشعبية التي نقلت كثيراً من المفاهيم والأفكار بشكل قوي ومتشعب في هذه الجوانب. ونجد أيضاً أول نقطة من النقاط التحولية التي زادت من التخوف من الإسلام هي: انتقال العمل أو الصورة الإسلامية من فئة مجموعات وجماعات إلى فئات شعبية واسعة المدى وعريضة النطاق. الجانب الثاني -وهو قريب لكنه يحتاج أن يكون منفصلاً-: النماذج العملية للتطبيقات الإسلامية في ميادين الحياة، بمعنى: أن العمل الإسلامي والإسلام كان في الفترة الماضية يُؤكد على شموليته، ويُؤكد على ضرورة معايشته لواقع الناس واحتياجاتهم، ولما بدأت الصور العملية لذلك كانت أحد أبرز المعالم لقوة التيار الإسلامي، وبالتالي أحد أبرز المعالم للتخوف الكبير من هذا الإسلام القادم. وأضرب لذلك أمثلة: في بعض الجوانب المحددة مثل الاقتصاد والإعلام على وجه الخصوص، نأخذ نموذج شركات توظيف الأموال في مصر، حينما بدأت هذه الشركات تجعل لها منطلقات إسلامية وتعاملات إسلامية نجحت نجاحاً قوياً في ناحيتين مهمتين: الأولى: الناحية الاقتصادية التي هي أساسها. الثانية: الناحية التي تتولد منها، وهي ربط الناس، وقوة ميلهم وارتباطهم كمبدأ وفكرة بهذه الاتجاهات العاملة في هذا الميدان، حتى إن هذه الشركات كان لها دور في دعم الاقتصاد للدولة نفسها، لكن تنامت الصيحات التحريرية من هذا تنامياً مباشراً، ثم كانت الصور العملية في محاربتها: ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال حيث إن دولة كاملة بأجهزتها وأنظمتها تكتشف بعد مضي سنوات أن هذه الشركات كانت مدلسة، وكانت سارقة، وكانت مخالفة للأنظمة! مما يدل على أن القضية إنما هي صدىً لهذا التخوف والتحذير. وكذلك في جانب الإعلام، والجهود الإسلامية فيه لا تزال محدودة في مجلات أو نشرات، لكن مع ذلك هي أحد مؤشرات الخطر الكبير؛ لأنها تحقق النقطة الأولى، وبها يكون هناك تواصل بين العمل الإسلامي والمسلمين بشكل عام وبين الشعوب الإسلامية عبر قنوات لا تكون محدودة؛ ولذلك نجد أيضاً أن هناك الحرب والتخطيط لإيقاف وتعثير المجلات والصحف الإسلامية باستمرار، خاصةً في الديار الإسلامية، وما ذلك إلا لهذا السبب، حيث تجد أن بلداً تصدر فيه ربما العشرات والمئات من الصحف والمجلات، ثم تقوم الدنيا وتقعد على صحيفة محدودة الإمكانات، قليلة الصفحات لأنها تهتم بهذا الجانب وهذه القضية على وجه الخصوص. إذاً: هذا جانب، والأمثلة العملية التي طُبقت وبدأت تستحوذ على الناس جانب آخر. الجانب الثالث هو: ظهور الصورة العملية لاحتياجات الناس اليومية، وإن كانت هذه قريبة منها، لكنها أيضاً تكون مستقلة، ففي أول فوز للإسلاميين بالانتخابات في الأردن أجريت عدة مقابلات للبحث عن سر هذا الأمر، وكان إحدى هذه المقابلات مع إحدى المرشحات من غير الاتجاه الإسلامي، وأحد الأسباب التي ذكرتها أنها قالت: نجاح العمل الإسلامي في إعطاء الناس احتياجاتهم اليومية، فهناك عندهم- أي: عند الإسلاميين- المشاريع الصحية، والمشاريع التعليمية التي ليست كيانات كبيرة، وإنما تلامس واقع الناس. وهذا أيضاً أحد أبرز المعالم التي تُستهدف وتُقصد بالعداء مباشرة، ويحصل نوع من التحوير وإقامة العثرات في سبيلها وطريقها، وهي أيضاً كثيرة.

الاستفادة من منهجية أعداء الإسلام تجاه تخوفهم من الإسلام

الاستفادة من منهجية أعداء الإسلام تجاه تخوفهم من الإسلام ماهي منهجية هذا التخوف؟ الحقيقة أن نفس هذا المنهج ينشأ من نفس منهج المتخوفين هؤلاء، فهم يبدءون بالجمع الشامل لهذه المعلومات والرصد لها. إذاً: أول خطوة من الخطوات: الجمع لما نسمعه من هذه الأمور. الخطوة الثانية: الربط فيما بينها؛ لأن القضية حينما تكون جزئية يكون النظر نحوها جزئياً، وحينما تجمع من هنا ومن هنا ومن هنا تعطي صورة متكاملة تبين أن الأمر قد يكون بيت بليل، وأن الأمر قد يكون فيه تنسيقاً بين أطراف متعددة، وأن الأمر يحظى باهتمامات كبيرة إلخ. الخطوة الثالثة بعد الجمع والربط هي: نقطة التحليل والدراسة والاستنباط. وهذه الجوانب الثلاثة هي التي عليها التركيز، نحتاج أن نعرفها؛ لأننا نرى أن الآخرين يرون أنها هي العوامل أو النقاط الفاعلة في تحريك العمل أو في تحريك الإسلام ضد أعدائه بشكل قوي. والنقطة التي بعد هذا التحليل: الاستفادة منه بالجانبين المهمين وهما: جانب تقوية الجوانب التي منها الخوف والخطر عند أعدائنا؛ لأن أعداءنا لا يخشون من شيء إلا وهو في حقيقة الأمر موضع أو سبب من أسباب قوتنا، وأحد مؤهلات تفوقنا وانتصارنا عليهم. وبالتالي أيضاً: إهمال الجوانب التي لم ترد في تخوفاتهم، بل ربما قبلوها، وربما أيضاً دعموها. ولذلك ينشأ من هنا التصور الكلي الذي نحتاج إليه، وهو: تقديم أو ترتيب الأولويات، ومعرفة القضايا الثانوية والهامشية التي ينبغي ألا تزاحم ما هو أهم منها، وألا تشغل عن تكريس ما هو أولى في ظهور قوة الإسلام، وأسرع في تقدم خطواته نحو النجاح والنصر والتمكين، وبالتالي هذه الصورة الموجزة يمكن أن نرى أن هذه الصيحات عن التخوف إنما هي ظاهرة صحية بالنسبة للمسلمين؛ لأن عدوهم يخشى منهم، وهذا أمر يدل على وجود ظاهرة إيجابية، والذين لا يخشى منهم -وقد يفرحون بذلك، ويعتبرون أنفسهم حضاريين ومقبولين عالمياً أو دولياً أو غير ذلك- إنما يفقدون في الحقيقة قيمتهم؛ لأن الشعار العربي -وإن كان لا يطبق لكنه يدل على نوع مما يحتاجه الإنسان من وجود أثر فاعل له- هو كما قال الشاعر العربي: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع يعني: على أقل تقدير إن لم تكن ذا نفع فضر، بمعنى: أن يكون لك دور، وأن تكون لك قدرة على فعل شيء يحسب له الآخرون حساباً، سواءً كان نفعاً أو ضراً، فهذا يؤكد أن هذا الجانب الذي يفتخر به أصحابه، وأنهم لا يخشى منهم، وأنهم يرحب بهم في كل مكان، وفي كل محفل دولي؛ يدل على هذا النقطة. آخر مسألة هي: أن أعداءنا عندهم منهجية جيدة في قضية مهمة، وهي: أنهم يضخمون ويخوفون بشكل كبير من الأمر البسيط، ليس ذلك عن جهل منهم، وإنما عن إدراك لطبيعة التطور الذي ينتج عن ذلك، فحينما يحاربون مجموعة إسلامية بسيطة، ويتهمونها بأنها تسعى إلى قلب نظام الحكم، وأن معها خمسة مسدسات أو نحو ذلك، لا نقول: إن هذا من المبالغة، وإنما هو من باب الاحتياطات خوفاً مما يأتي به المستقبل من خلال دراسات ومعرفة؛ لأن التصور يكون في هذا المجال كبيراً ومتنامياً. فنحن أيضاً نحتاج إلى أن نعرف من هنا أن العمل الإسلامي وإن كان بسيطاً في دائرة معينة فإنه يؤذن له -بإذن الله- أن يكبر، وأن يعظم، وأن يكون ذا أثر فعال في فرص قريبة، ربما أقرب مما نظن. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمكن لدين الإسلام، وأن يجعل هذا التخوف رعباً في قلوب أعداء الإسلام يزعزع قلوبهم، ويكون أحد أسباب النصر الذي كان لمحمد صلى الله عليه وسلم حينما قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، ونرجو أن ينصر المسلمون برعب أعدائهم منهم كما نرى في صور كثيرة. والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

سبب تخوف بعض الحكومات العربية من الإسلام

سبب تخوف بعض الحكومات العربية من الإسلام Q ما هو سر خوف الحكومات العربية من الدور الإسلامي؟ A قد أشرت في نقطة الصور العملية أن من صور التخوف من الإسلام التي مارسها هؤلاء عمل مؤتمرات ودراسات، وجمع المعلومات وتبادلها، والتضييق والتعطيل لمشروعات العمل الإسلامي، والتحذير والضغط على الحكومات الإسلامية، وربما تكون الإجابة: أن الأتباع موافقون، وربما متفوقون على من هم تابعون له، فالحكومات المتخوفة من الإسلام حقيقةً تخوفها أكثر ما يكون من اعتمادها على التوصيات والدراسات التي تأتيها من الغرب ومن الشرق، وهي أداة منفذة أكثر مما هو مطلوب في كثير من الأحيان، بمعنى: أنها تجمع بين شيئين: الشيء الأول: التخوف الفعلي من هذا الجانب. الشيء الثاني: أنها تعرف أن هذا ارتباط مصير بالنسبة لها، ارتباط وجود أو عدم؛ فلذلك يعظم هذا التخوف في صورة عملية أكثر، والغربيون يخشون من الإسلام أن يملك مواطن أقدامهم، لكن هذا التخوف أظهر وأقرب من الدول أو الحكومات التي تعايش هذا العمل، وترى فيه أكبر خطر عليها في وجودها ومصالحها الشخصية، فضلاً عن أنه يخدم خطط وسياسات أسيادها، أو من يدورون في فلكهم من الشرق أو من الغرب، فالصورة واضحة في الداخل، ونحن ذكرنا الغرب وأوروبا وأمريكا وإسرائيل؛ لأنهم هم الذين يمثلون الصورة الكبرى وينقلونها، والاعتماد عليهم في ذلك كثير، حتى إن كثيراً من الدول العربية والإسلامية تعتمد على إسرائيل في بعض المعلومات والتفصيلات والتوصيات، والأمثلة كثيرة، وربما في بعض البلاد تكون أظهر من بعضها الآخر، والله أعلم.

بعض القضايا الثانوية لا يخاف منها الأعداء

بعض القضايا الثانوية لا يخاف منها الأعداء Q هل هناك أمثله واقعية على بعض الأشياء الثانوية التي لا يخاف منها الأعداء؟ A في الحقيقة لا أستحضر الأمثلة سريعاً، لكن هناك قضايا فقهية في الفروع لا تلقى التخوف من قبل أعدائنا، بل تلقى الرضا، وربما يسعون إلى توسع دائرتها؛ لأنها تشغل عما هو أهم منها. وهناك أيضاً قضايا تمس الجدل في هذه الأمور الثلاثة التي ذكرنها، فهناك من يعارض أو يناقض أو يختلف في موضوع: هل نحتاج إلى أن يشارك العمل الإسلامي بصورة سياسية، ويكون له دور في هذا المجال؟ وهل هذا يصح أولا يصح؟ فهذه أيضاً قضية ربما تُدعم وتُنمى؛ لأنها تعيق هذا الجانب الذي هو موضع خوف وخشية. وأيضاً هناك بعض القضايا التي ربما تكون فيها محدودية في النظر في تطوير تطبيق الإسلام عندما يحكم، بمعنى: أن تكون ضيقة لا تقبل إلا اجتهادات معينة، وتريد أن تفرضها في صورة أن هذا هو التطبيق الكامل والصحيح للإسلام، مما يُعطي فرصة للأعداء في تشويه تطبيق الشريعة الإسلامية؛ ولذا يريد العدو أن يشكل هذه الصورة، وهذه وأمثالها من القضايا التي يحسن أن تُنحى، وأن يُضيق إطار البحث والنقاش فيها؛ حتى لا تعيق الحركة، وحتى لا تعيق نمو الجوانب المهمة في العمل الإسلامي بإذن الله سبحانه وتعالى. والحمد لله رب العالمين.

الغنائم أيها النائم

الغنائم أيها النائم جعل الله عز وجل للخير والفضائل واكتساب الحسنات أوقاتاً ومن تلك الأوقات آخر الليل والفجر، إذ يشمل هذان الوقتان صلاة قيام الليل التي هي أفضل صلاة النوافل، وصلاة الفجر التي هي من أهم صلاة الفرائض؛ ولهذا كان أجرهما عظيماً، والتفريط فيهما خسراناً مبيناً، ينال أجرهما القائمون، ويخسرهما النائمون الغافلون.

مثال يبين حرص الإنسان على متاع الدنيا

مثال يبين حرص الإنسان على متاع الدنيا بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فعنوان هذا الدرس: (الغنائم أيها النائم)، وبمجرد إطلاق هذا العنوان لا شك أن الخواطر تدور فيها الأسئلة عن هذه الغنائم وما عسى أن تكون، وعن هذا النائم ومن عسى أن يكون؟ وليس في الموضوع صعوبة أو غرابة، وإنما أردت أن يكون في هذا العنوان ما يلفت النظر، ويسترعي الانتباه، ويشد العقول والأذهان؛ علَّ الله عز وجل أن يحقق ما نصبو إليه من موعظة وتذكرة تتعلق بهذا الموضوع المهم. وأبدأ الموضوع بمثال لعله أن يكون توطئة وتقريباً لما يأتي من هذا الموضوع: لو أن إنساناً كان يغط في نومه وقد استغرق في النوم استغراقاً عميقاً، كما هو حال كثير من الناس، وقد علا شخيره، وتمكن منه النوم تمكناً كاملاً، ثم جاءه من أهل بيته أو من أصدقائه من يوقظه على عجل، ويدعوه مباشرة إلى أن يقوم ليأخذ حظاً من أموال توزع أو غنائم تهدى أو شيء من ذلك، فإنه في الغالب ينتبه ويسارع ويبادر، وربما مع مبادرته يكون مرتبكاً وغير مستوعب لما يقال له، وكذلك ربما كان النوم قد تمكن منه فلم يلتفت إلى هذه الدعوة التي فيها مصلحة وفائدة أو فيها غنيمة باردة ليس فيها عناء ولا تعب، لكن لو أن هذا الإنسان لم يكن نائماً، وإنما كان مستيقظاً، وقلنا له: في هذه الليلة في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل نريد منك أن تستيقظ، وأن تأتي لنعطيك من المال أو من الجواهر أو من الذهب شيئاً ما. فهل تراه عندما ينام -إذا نام- سيستغرق في نومه؟ وإذا استغرق في نومه هل سيحتاط لاستيقاظه؟ أو ربما يفكر تفكيراً عملياً وتفكيراً استثمارياً فيقول: وما الذي سيحصل إذا لم أنم هذه الليلة؟ وسيرابط ويجاهد نفسه على أن لا تغفو عينه وأن لا ينام حتى يأتي الوقت المضروب والموعد المحدد وهو مستيقظ، فيمد يده إلى من يعطيه فيأخذ. فلو أردنا أن نحدد هذا المثال فإننا نكاد نجزم بأن الوعد نصر كان ممن يعرف بوفاء وعده وصدق قوله وقدرته على مطابقة فعله لقوله، فإن المردود العملي سيكون أنّ هذا الذي أُخبر بهذا الوعد سوف يكون مستيقظاً متأهباً مستعداً عند الوقت المحدد ليأخذ هذه الغنيمة أو الأموال الجزيلة، فإذا جئنا له بعد أن جرب في المرة الأولى واستيقظ في الوقت وأخذ ما أخذ مما قد يشقى لأجله غيره ولا يأخذ عشر معشاره ولا جزءاً يسيراً منه وقلنا له: في كل يوم عند الساعة الثانية والنصف ستستلم -على سبيل المثال- خمسة آلاف ريال فثق تماماً أنه سيلغي وظيفته، وينام في النهار، ويستيقظ في الليل، وسيسعى بكل ما يستطيع وبكل وسيلة من الوسائل حتى لا يتخلف عن هذا الموعد؛ لئلا تفوته هذه الغنيمة الجزيلة العظيمة. ولو تصورنا أنه أخذ هذه الأموال ليلة بعد ليلة، ثم في يوم من الأيام أخذته عينه ونام، فاستيقظ بعد فوات الوقت، ولم يحصل على المخصص الموعود في كل ليلة، فما عسى أن يكون؟ لا شك أنه سيتحسر ويندم، وربما لو كان من أهل الحب لهذه الأموال لبكى واستعبر، وربما شكا وعلا صوته بالشكوى. وهكذا لو أردنا أن نسترسل في هذا المثال لطال بنا الوقت، فالمهم هو أن النائم تظهر له حاسية إضافية إذا كان هناك أمر مهم أو نافع له يرتبط بموعد يتعارض مع نومه، وهذا أمر محسوس، فالمسافر الذي وقت سفره بعد منتصف الليل لا شك أنه يتأهب ويستعد، ولو نام لكان نومه خفيفاً، ولو نام واستغرق لكان انتباهه لمن يوقظه عظيماً، وهكذا في كل أمر من الأمور الحياتية التي يشهدها الناس كارتباطهم بأوقات العمل المبكر ونحو ذلك من الأمور.

الغنائم العظيمة في صلاة الفجر

الغنائم العظيمة في صلاة الفجر إن ذلك النائم –في الغالب- نعتقد أنه لا يفوت الغنائم، ولو كانت على حساب قليل من الراحة أو شيء من النوم، ونحن نقول: إن هناك غنائم أعظم، وإن هناك جوائز أكبر، وإن هناك مواصلة واستمراراً لهذه الغنائم، ولكن ذلك النائم هل ينتبه؟ وهل يستيقظ ويهتم ويعتني كما اعتنى في هذا الجانب وهذا المثال الذي ذكرناه؟ هذا هو الذي نأمله ونرجوه للنائم عن صلاة الفجر المضيع لغنائم الأجر. ولا شك أن هذا الموضوع عندما نطرقه ونذكره قد يقول القائل: ما الجديد فيه؟ وما الذي سيقال عنه؟ وهل ثمة من لا يعرف عظمة الأجر في صلاة الفجر؟ وهل ثمة من يحتاج إلى التنبيه والتذكير في هذا؟ أو بصورة أدق: هل ثمة نفع يرجى من هذا التذكير والتنبيه؟ وأقول: لعل ما سيذكر في هذه الموعظة أحسب أنه بجمعه وتتابعه سيوقظ هذا النائم، ولعله أن يجعل اهتمامه أعظم ممن ضربنا به المثال، ولو أدى به الحال إلى أن يسهر ليله أو أن يجتهد بكل أنواع الاجتهاد لئلا تفوته هذه الغنائم. وأحب أن نبدأ مباشرة في ذكر هذه الغنائم دون عناية بترتيب أو تدرج في ذكرها؛ لأنا نريد أن نبين أنها كلها من كل وجه من الوجوه فيها أجر وثواب وفضل، وأثر دنيوي وأخروي، ومصلحة عملية، ونواحٍ نفسية وتربوية بلكل وجه من الوجوه، ثم بعد ذلك نعقب بمعالم رئيسة تتعلق بهذه الغنائم والفوائد والتشريعات في هذا الدين العظيم دين الإسلام، وسنمر بعد ذلك ببعض الأوهام والشبهات، وبعد ذلك أيضاً ببعض الأسباب والمسببات، ثم ببعض المقترحات والعلاجات؛ علَّ الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا جميعاً بأن نحوز هذا الفضل، ونغتنم ذلك الأجر.

الطهارة المعنوية

الطهارة المعنوية الغنيمة الأولى: الطهارة المعنوية، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، رواه الخمسة إلا أبا داود، وهذا الحديث فيه غنيمة الطهارة المعنوية التي يغتسل بها العبد -بإذن الله عز وجل- من ذنوبه وخطاياه، كما ورد في الحديث الصحيح الآخر عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في شأن الوضوء، وأن المؤمن مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء إذا غسل وجهه وإذا غسل يديه وإذا غسل رجليه تتساقط ذنوبه إلى آخر ما ورد في ذلك الحديث، فهذا المعنى هو من أجل المعاني، سيما في صلاة الفجر التي تأتي عقب نوم الإنسان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)، فالنوم مظنة وقوع اليد في مواضع النجاسة، وكذلك النائم قد يكون في عينيه وفي وجهه من أثر النوم ما يحتاج إلى هذه الطهارة الحسية والمعنوية معاً، فينشط ويكون -بإذن الله عز وجل- قد أخذ بشيء من هذه الغنائم العظيمة. وهذه الغنائم سأذكرها -كما قلت- بلا ترتيب ولا تبويب؛ لأن كلاً منها لها ومضة ولها فضل وأجر، ولها تعلق إيماني بقلب المسلم الذي يتفكر في أمر الله ويتذكر الآخرة بإذن الله عز وجل.

شهادة الملائكة

شهادة الملائكة الغنيمة الثانية: الشهادة الملكية، قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] وفي حديث أبي هريرة الذي يذكره العلماء في سياق تفسير هذه الآية قال رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فهذه شهادة من ملائكة الرحمن الذين يتنزلون من السماء كل يوم وليلة عند صلاة الفجر وصلاة العصر، فملائكة نازلون وملائكة صاعدون، والنازلون سيسألون، والصاعدون سيسألون عما يفعل عباد الله المؤمنون، ويأتي الجواب لمن كان من المستيقظين لا من النائمين فيقال عنه ويدرج ضمن الشهادة باسمه وبوصفه -والله عز وجل به عليم قبل سؤال ملائكته-: (تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون). قال الألوسي في تفسيره معلقاً على قوله جل وعلا في قرآن الفجر: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] قال: أخرج النسائي وابن ماجة والترمذي والحاكم -وصححاه- وجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تفسير هذه الآية: (تشهده- أي: قرآن الفجر- ملائكة الليل وملائكة النهار). قال الألوسي: وقيل: يشهده الكثير من المصلين في العادة. وقيل: من حقه -أي: هذا القرآن- في صلاة الفجر أن تشهده الجماعة الكثيرة. وقيل: تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة. من تبدل الضياء بالظلمة، والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت. وهو احتمال أبداه بعض العلماء، وبسط الكلام فيه، ثم قال: وهذا هو المراد من قوله: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]. وكما قال هنا: لا حصر للمدلول؛ لأن هناك أسباباً عديدة يمكن أن تكون من أسباب شهادة هذا القرآن وهذه الصلاة، ولا ينبغي أن يقال ذلك في غيره. ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر الفجر؛ لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراماً ومتلقٍ كراماً -أي: الملائكة- فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل، ويرتاح له النازل. وما أعظم أن تشهد لك ملائكة الرحمن التي جعلها الله سبحانه وتعالى من المخلوقات العابدة المسبحة له سبحانه جل وعلا: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، والذين جعلهم الله سبحانه وتعالى لا يعصونه سبحانه وتعالى أبداً، فهؤلاء الملائكة يأتون بالأعداد العظيمة المتكاثرة وبالآلاف المؤلفة وبما لا يحصيه العد، فيشهدون المؤمنين وهم في صلاة الفجر وهم في صلاة العصر، فكيف يكون حال ذلك النائم الذي تفوته مثل هذه الغنائم؟! وهذه شهادة عظيمة عند ملك عظيم هو رب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى، وانظر كيف يسأل عنك رب العباد سبحانه وتعالى ملائكته، وتشهد ملائكته عنده جل وعلا بشهادة أنك فيها من العابدين ومن المصلين ومن المستيقظين ومن المبادرين ومن المسارعين ومن أصحاب الهمم العالية والمراتب الرفيعة، فهذا لا شك أنه من أعظم هذه الغنائم، كما قال صاحب الظلال في ظلاله: ولهذين الآنين -أي: آن الفجر وآن العصر- خاصيتهما، وهما إدبار الليل وإقبال النهار، ولهما تعلق، ولهما وقعهما العميق في النفس؛ فإن مقدم الليل وزحف الظلام كمطلع النور وانكشاف الظلمة؛ كلاهما يخشع فيه القلب، وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة، ولا تختل مرة، وللقرآن إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته ونسماته الرخية، وهدوئه ونبضه بالحركة وتنفسه بالحياة، فما أجمل أن تكون في هذا الوقت مستيقظاً عابداً تالياً للقرآن ساجداً لله سبحانه وتعالى.

أداء صلاة الفجر سبب من أسباب مغفرة الذنوب

أداء صلاة الفجر سبب من أسباب مغفرة الذنوب الغنيمة الثالثة: المغفرة الربانية، ففي حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في صحيحه والترمذي في سننه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تغش الكبائر) فهذه مغفرة ربانية إلهية دائمة متكررة، فكلما وقع منك قول أو خاطر أو فعل عن غفلة أو زلة أو وسواس شيطان أو استزلال هوى أو داعي شهوة فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل في هذه الصلوات -ومنها الفجر- هذه المغفرة الربانية، وهي من أعظم هذه الغنائم التي ينبغي أن لا يفوتها العبد.

البشارة لمن يخرج إلى المسجد في الظلمات بالنور التام يوم القيامة

البشارة لمن يخرج إلى المسجد في الظلمات بالنور التام يوم القيامة وانظر رعاك الله إلى ما هو أعظم في هذه الغنائم وأكثر وأهم، ومن هذه الغنائم -وهي الغنيمة الرابعة-: البشارة النورانية. ففي حديث أنس رضي الله عنه -ويروى هذا الحديث عن ستة عشر من الصحابة بروايات مختلفة- عند أبي داود والترمذي وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وما أعظم هذه البشارة بهذا النور في الوقت الذي تظلم فيه على الإنسان الظلمة الشديدة والكرب العصيب والهول العظيم، ويلتمس أهل النفاق النور فيضرب بينهم بسور قال الله تعالى عنه: {لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، فيوم لا يختص بالنور إلا أهل الإيمان يأتي هذا الحديث بشارةً من النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد) ومن هذه الظلم المشي إلى المساجد في صلاة الفجر، قال صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، إنه نور تام في يوم القيامة، والعبد أحوج ما يكون إلى النور الذي ينور له طريقه ويهديه بإذن الله عز وجل سبيله، ويجعله بإذنه سبحانه وتعالى من أهل الرحمة والمغفرة والرضوان. فما أعظم هذه الغنيمة التي تأتي وتضيع على ذلك النائم وهو يغط في نومه ويعلو شخيره، وقد وقع به من الغفلة والركون إلى الدعة والراحة ما وقع، فهو أكثر خسارة من ذلك الذي فوت بعض أجر الدنيا أو بعض مالها أو بعض ذهبها وجواهرها، فجعل يعض أصابع الندم، فكم من نائم عن صلاة الفجر ولم يعبأ بها، ولم يكترث لها، ولم يحزن لعدم إتيانه بها، ولم يتندم على عدم صلاته إياها في وقتها! وكم يمر ببعض الناس يوم إثر يوم وهم لا يؤدون الصلاة في وقتها، بل ربما لا يؤدونها بالكلية إلا من رحم الله، نسأل الله عز وجل أن يعصمنا من أن نكون من أولئك الغافلين النائمين.

الحيوية والنشاط في روح مصلي الفجر وبدنه

الحيوية والنشاط في روح مصلي الفجر وبدنه الغنيمة الخامسة: الانطلاقة الحيوية، وهذه أيضاً غنيمة عملية دنيوية دينية وإيمانية في الوقت نفسه، وهذه أثرها واضح، وأمثلتها العملية بالكثرة التي لا تحصى، يشرحها لنا أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة منها فيقول: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ- أي: النائم- فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان، فإذا صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) رواه مسلم. فمن صلى الفجر في جماعة واستيقظ في ذلك الوقت وتوضأ صرف الله عز وجل عنه عقد الشيطان وما ضرب عليه، فيصبح منشرح الصدر طيب النفس قوي العزم متجدد النشاط، فيه حيوية للعمل والانطلاق والتحرك، وفيه أيضاً أريحية، فتلقاه إذا لقيته يبتسم في وجهك، ويبش لمقدمك، ويهب لمساعدتك، وقد وجد في نفسه من برد الإيمان ومن الاستقامة ومن عظمة ما تلقاه النفس البشرية من أثر العبادة لله عز وجل من عظيم هذه الآثار ما يجعل في انطلاقته في أمر حياته وفي سائر شئونه ما الله سبحانه وتعالى به عليم. ومن نام عنها فحاله -كما ورد في الحديث-: (أصبح خبيث النفس كسلان) حيث تجد بعض الناس إذا لقيته في الصباح كأنما ركبه الشيطان، فإذا هو مقطب الجبين معبس الوجه، وحين تسلم عليه كأنما قد سببته أو شتمته، وتجده في أموره متعثراً، وتجد بعض القضايا اليسيرة التي تمر به فإذا به يضيق أشد الضيق، وكثيراً ما ترى بعض الناس ممن لا يشهدون الفجر في جماعة دائماً يشتبكون ويتعاركون ويختصمون في أول النهار؛ لأنهم قد حرموا من هذا الأثر لهذه النفس التي تتحرك وتنطلق، ولذلك انظر إلى ما يحصل -وهذا واقع ينبغي أن نربطه بمثل هذا الحديث- عند انطلاق الناس إلى الأعمال وإلى المدارس في الصباح، فكم ترى دائماً من المشاكسات والمعاكسات بالسيارات والاشتباكات بين السائقين! وذكر بعض الكتاب في هذا كلاماً جيداً فقال: من وقع له مثل هذا فإنه يستقبل يومه بخير، فإذا بزوجته تبش في وجهه، وإذا بأبنائه يستيقظون نشيطين، وإذا به إذا مر بسيارته يجد الإشارة خضراء، وإذا به يذهب إلى عمله فيجد أموره ميسرة، ونحو ذلك، أما غيره فلا يجد مثل هذا. وللأسف أن بعضاً منا لا يربط مثل هذا الربط، بل بعض الناس يستغربه، بل بعضهم يعترض عليه ويقول: ما دخل هذا بهذا؟ ونقول: إن الفقه الإيماني يجعل للطاعة أثرها المحسوس الملموس، ويجعل للمعصية أثرها المحسوس الملموس، وقد سئل الحسن رضي الله عنه: ما بال أهل الليل على وجوههم النور؟ فقال: خلوا بربهم فألبسهم من نوره. وهكذا ينبغي أن نوقن أن الطاعة لها أثر في التيسير وفي انشراح الصدر وطمأنينة القلب وسكينة النفس وكل هذه الأمور، فهذا الحديث -أيضاً- شاهد من هذه الشواهد، والشيطان يقول: (عليك ليل طويل فارقد) أي: ما زال في الليل طول. وإذا أذن المؤذن قال: ما زال هناك وقت طويل على الإقامة. فإذا أقيمت الصلاة قال: يمكن أن تدرك الركوع، وهذا الإمام يطول في قراءته وهكذا حتى يذهب الوقت. أما من لا يستيقظ فذاك نومه أصلاً طويل قد غفل عن طاعة الله عز وجل ونام عن العبادة، نسأل الله عز وجل السلامة.

مصاحبة رعاية الله عز وجل لمصلي الفجر

مصاحبة رعاية الله عز وجل لمصلي الفجر الغنيمة السادسة: الحصانة الإلهية، وهذه أيضاً تابعة للتي قبلها، وكم يحتاج الإنسان إلى أن يحصن نفسه! فإذا كانت هذه الحصانة من الله، وإذا كان هذا الحفظ من الله فانظر -رعاك الله- كيف يكون من صلى الفجر في جماعة في سلامة وأمن وطمأنينة لا يمكن أن يحوزها أي إنسان! لأن أي إنسان سيعتمد في هذا الحفظ أو في هذه الحصانة على جهود بشرية أو على قوىً أرضية، وأنت معتمد على رب الأرباب سبحانه وتعالى، كما في حديث جندب بن سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله في ذمته بشيء) أي: هو في حفظ الله ما دام على طاعة الله. ولهذا جاء تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على أن لا يطلبك الله عز وجل في ذمته بشيء، فإذا كنت الآن في حماية إنسان يحميك ويسترك ويدافع عنك، ثم في أثناء هذه الحماية تتكلم عليه أو تسيء إليه، أو يكون قد طلب منك أمراً فلم تستجب له فلا شك أنك حينئذٍ تخسر ذمته، وقد يرفع عنك حصانته، ويقطع عنك حمايته، فأنت في حماية الله وفي حفظ الله قد أخذت هذا العهد وهذه الذمة من الله منذ أول يومك عندما ينشق الفجر ويبزغ أول بصيص للنور وأنت قائم بالصلاة ساجد لله عز وجل، فإذا كنت في ذمة الله فاحفظ هذه الذمة بالطاعة لتكون في حفظ الله وذمته سائر يومك، وما أعظم هذه الغنيمة! فإنها غنيمة من الغنائم الكبرى.

أداء صلاة الفجر سبب من أسباب دخول الجنة

أداء صلاة الفجر سبب من أسباب دخول الجنة وأعظم من هذه الغنائم وأكبر أيضاً ما نعنون له بـ (الغنيمة السابعة) وهي غنيمة عظيمة، وهذه الغنيمة تشتمل على أمر من أعظم مقاصد العبد في هذه الحياة، فعند البخاري ومسلم حديث لا يتجاوز الكلمات الخمس، لكنه يشتمل على أعظم شيء في هذه الحياة مما يتعلق به العبد المؤمن وينشغل به فكره ويبذل فيه جهده وينفق فيه ماله، وهو دخول الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام (من صلى البردين دخل الجنة)، وهذا كلام واضح، وعبارة موجزة، وشرط وجواب شرط، وقطع وجزم من النبي عليه الصلاة والسلام، فلا تردد ولا شك: (من صلى البردين) فالنتيجة: (دخل الجنة)، ولم يقل: يدخل الجنة. وإنما (دخل) بصيغة الماضي لتحقيق هذا الوعد وتأكيده والقطع والجزم به بلا أدنى شك ولا تردد. والبردان -كما ذكر أهل العلم والمحدثون- هما: صلاة الفجر وصلاة العصر. لوقوعهما وقت برد الهواء وطيبه، عندما تكون في نومك تهب عليك نسائم الفجر، وأنت قد نمت بعد تعب وعناء واجتهاد أو عمل، وتأتيك هذه النسائم، وتسمع ذلك النداء: (الصلاة خير من النوم)، فإذا تركت هذا الهواء العليل وهذا البرد الجميل وتلك الراحة اللذيذة والنومة العزيزة، وقمت لله عز وجل لتصلي الفجر فإن الثواب مقطوع به ووعد من النبي عليه الصلاة والسلام: (دخل الجنة). وحث عليهما لأنهما وقت اجتماع الحفظة، ولأن الصبح وقت التثاقل والكسل من النوم، والعصر وقت انهماك الناس.

أداء صلاة الفجر سبب من أسباب رؤية الله عز وجل يوم القيامة

أداء صلاة الفجر سبب من أسباب رؤية الله عز وجل يوم القيامة وأعظم من تلك الغنيمة رؤية الله عز وجل، وهي الغنيمة الثامنة، ففي حديث النبي عليه الصلاة والسلام عند مسلم في تفسير قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: (الحسنى: الجنة. والزيادة: النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى). وفي حديث جرير رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إن إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)) [طه:130]) رواه أصحاب السنن الأربع. وقوله: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر) التشبيه في صفة الرؤية لا في صفة المرئي. أي: سترونه بوضوح كوضوح رؤيتكم للقمر في ليلة البدر. وقوله: (لا تضامون في رؤيته) أي: ليس هناك زحام، وليس هناك صراع، بل ترون الله عز وجل رؤية عظيمة هي من أعظم الأجر، وهي كما قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} أي: الجنة {وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وهي لذة النظر إلى وجه الله عز وجل. وحث النبي عليه الصلاة والسلام على نيل هذه الغنيمة العظيمة بقوله: (فإن استطعتم على أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) والمقصود صلاة الفجر وصلاة العصر، وقرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130]. قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح الحديث: ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا، وهو النظر إلى الله تعالى.

أداء صلاة الفجر سبب من أسباب البركة والنجاح

أداء صلاة الفجر سبب من أسباب البركة والنجاح ومن الغنائم -أيضاً- الغنيمة التاسعة، وهي غنيمة البركة والنجاح، في حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم! بارك لأمتي في بكورها) رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: رجاله ثقات، إلا أن شيخ الطبراني لم أجد له ترجمة. ثم عقب عليه غيره فقال: وقد ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء، وابن عساكر في تاريخ دمشق. وفي رواية عن ابن عمر عند الطبراني في المعجم الكبير بمثل هذا اللفظ أيضاً، وفي بعض رواته اختلاف بين توثيق وتجريح من بعض أهل العلم. وفي حديث عائشة -وفي سنده ضعف- قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (باكروا طلب الرزق؛ فإن الغدو بركة ونجاح) فالحديث الأول عن جابر صححه أهل العلم وفيه: (اللهم! بارك لأمتي في بكورها) والبكور: أول النهار. ومصلي الفجر هو مقتنص ذلك البكور، وهو الذي ينال هذه البركة، وهذه البركة ينبغي أن نذهب ونبحث في واقعنا لنرى أثرها الملموس، فإن الذي يصلي الفجر ويباشر حياته فلا ينام يجد اتساع الوقت والقدرة على إنجاز الأعمال، إضافة إلى القدرة على الحفظ والاستحضار للمعلومات أو المقروءات، إضافة إلى قوة الاستيعاب والاستنباط؛ لأن العقل في ذلك الوقت يكون أنشط ما يكون بعد راحة الجسد، والقوة الذهنية التي يستأنف بها أول يومه وأول نهاره يبارك له فيها، فكيف إذا كان مع هذا البكور قد سبقه بالطاعة والعبادة لله سبحانه وتعالى؟

صلاة الفجر سبب من أسباب صحة الجسم

صلاة الفجر سبب من أسباب صحة الجسم الغنيمة العاشرة: الصحة الجسدية، ولابد أن ندرك أن أمر العبادات والطاعات وأمور الفرائض والواجبات مع أمور المحرمات الواردة في التشريعات أنها كلها خير للإنسان، فلابد أن نعلم أن الصلاة وإن كانت عبادة إلا أن لها أثراً صحياً يطول ذكره، وفي ذلك كتاب كامل عن النواحي الصحية في الصلاة بدءاً من الوضوء وانتهاءً بحركات الصلاة، وما فيها من أثر على عضلات الإنسان ومفاصله إلى غير ذلك. لكننا نخص الفجر، فقد ذكر ذلك بعض أهل الطب فقال: أما الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان بيقظة الفجر فهي كثيرة، منها أنه في وقت الفجر تكون أعلى نسبة لغاز الأوزون في الجو عند الفجر، وتقل تدريجياً -وتأمل حكمة التشريع- حتى تضمحل عند طلوع الشمس -أي: بانتهاء وقت الفجر ينتهي هذا الأوزون- ولهذا الغاز تأثير مفيد للجسم، ومنشط للعمل الفكري والعضلي، بحيث يجعل الإنسان عندما يستنشق نسيم الفجر الجميل المسمى بريح الصبا يجد لذة ونشوة لا شبيه لها في أي ساعة من ساعات النهار أو الليل. ذكر هذا الدكتور عبد الحميد زياد في كتابه (مع الطب في القرآن الكريم). فإذاً صلاة الفجر -أيضاً- صحة ونشاط وحيوية في أمور واضحة محسوسة، فهذه -كما قلت- بعض هذه الغنائم العظيمة والفوائد الجزيلة التي يفوتها ويضيعها ذلك النائم، وتأمل وتذكر أن هذه الغنائم ليست مرة واحدة في العمر، وليس عليها سحب كما في المسابقات السنوية أو الشهرية، وليس فيها مجال -أيضاً- للتخلف بأن يكون هناك وعد ثم يكون هناك تأخر، كلا، بل هذه غنائم يومية مستمرة ما دامت هذه الحياة الدنيا، وهي مقطوع بها لا يمكن أن تتخلف، ولا أن تتأخر، ولا أن تنقص؛ لأنها من عند الله سبحانه وتعالى، وشواهد الواقع العملي تدل على ذلك، وشواهد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم تدل على ذلك أيضاً.

خسارة من ضيع صلاة الفجر أو أخرها عن وقتها

خسارة من ضيع صلاة الفجر أو أخرها عن وقتها انتقل إلى نقطة مهمة تكمل حديثنا عن هذه الغنائم، وهي ما يقابل ذلك من تفويت هذه الغنائم، فمن فوتها ليست خسارته أنه أضاع الغنائم وفوت المكسب والمربح، وإنما خسر خسارة أخرى عظيمة، ونكب نكبة أخرى خطيرة، وهي التسلط الشيطاني عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام –كما في حديث أبي هريرة - قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة فيقول: عليك ليل طويل فارقد)، فالذي ينام ولا يستيقظ كأنما مكن الشيطان منه، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم -أيضاً- عن رجل نام فلم يستيقظ لصلاة الفجر حتى أيقظه حر الشمس، فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مسير له مع بعض أصحابه، فناموا عن صلاة الفجر) وفي بعض الروايات قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ بلال: (اكلأ لنا الفجر) يعني: أحرسنا وابق مستيقظاً حتى توقظنا للفجر. لأي شيء صنع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام؟ لأنهم كانوا في مسير لهم، وقد بلغ منهم التعب مبلغاً، وقد عملوا في هذا المسير جهداً كبيراً، فخشي إذا ناموا أن لا يستيقظوا، قال بلال: (فظللت مستيقظاً حتى إذا قرب الفجر وأنا مسند ظهري إلى ناقة فغلبني النوم، فلم يستيقظ أحد، حتى كان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، استيقظ من حر الشمس، فقال عليه الصلاة والسلام: تنحوا عن هذا المكان –أي: ابتعدوا عنه- ثم أمر بلالاً -بعد أن ساروا قليلاً وابتعدوا- أن يؤذن فأذن، ثم توضئوا، ثم صلوا ركعتي الفجر، ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح)، رواه البخاري ومسلم. والشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل عن هذا المكان الذي نام فيه هو وأصحابه حتى فاتهم وقت الفجر، وذكر بعض أهل العلم أن هذا من الأسباب التي هي بقدر الله ولها تعلق بالشيطان، لذلك ابتعد النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المكان وتقدم عنه قليلاً، ثم صلى في غير هذا المكان. وحديث عبدالله بن عمرو بن العاص أيضاً يشهد لهذا المعنى، وفيه أن نوم النائم عن صلاة الفجر إلى طلوع الشمس هو بسبب تحكم الشيطان أو تسلطه عليه بقدرة الله سبحانه وتعالى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلوات فقال: وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول) وفي الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشمس تطلع بين قرني الشيطان)، فالذي يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد طلوع الشمس يدرك هذه الخصيصة المتعلقة بالشيطان. وفي حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الليل أسمع -أي: ادعاء العبد عند الله عز وجل-؟ قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت؛ فإن الصلاة مشهودة مكتوبة، حتى تصلي الصبح، ثم أقصر-أي: عن الصلاة- حتى تطلع الشمس فترتفع قيد رمح أو رمحين؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان ويصلي لها الكفار) فالذي ينام حتى يصليها وقت طلوع الشمس فإنه مع أولئك القوم، وإنه -والعياذ بالله- قد دخل فيما يتعلق بهذه الأحاديث من ذكر للشيطان.

التطبيق العملي لصلاة الفجر عند السلف الصالح رحمهم الله

التطبيق العملي لصلاة الفجر عند السلف الصالح رحمهم الله ننتقل إلى وقفة يسيرة للتطبيق العملي عند سلفنا الصالح وغنائم الأجر في صلاة الفجر. فقد ورد في صحيح ابن خزيمة من رواية بعض الصحابة قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن)؛ لأن ترك صلاة الفجر والعشاء من علامة المنافقين، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر والعشاء أنهما أثقل الصلاة على المنافقين، لذلك كان الصحابة يقولون: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن) أي أنه ربما يكون من أهل النفاق، والعياذ بالله. وأنقل هنا عبارة فيها ذكر لبعض مواقف ومقالات السلف مع نوع عتاب وتحذير مما عليه حال كثير من الناس في التراخي والتهاون في شأن الصلوات عموماً والفجر خصوصاً. وهذا -وللأسف- لم يعد اليوم مخصوصاً بعامة الناس، بل بخاصتهم، بل بالصالحين منهم، فكثير من الشباب الصالحين يغلب عليهم أنهم يؤخرون الفجر عن وقتها، ولا يشهدونها في المساجد والجماعات، وهذا لا شك أنه من أعظم التقصير، فلعلي أورد هذه العبارة بما فيها من نقل عن السلف حتى نتنبه لما فيها، يقول قائلها: ولست أدري كيف يكون داعية –أي: إلى الله عز وجل- من يتخلف عن الصلوات في الجماعات، لاسيما في الفجر والعصر، مع ما ورد في أدائهما من عظيم الأجر، وما جاء في فواتهما من التحذير من الإثم والوزر، وقد ترخص كثيرون في ذلك، فلا يهمهم التذكير، ولا يعنيهم إدراك التكبير. ولست أدري ما يقول هؤلاء إذا سمعوا مقالة إبراهيم بن زيد التيمي حين قال: (إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه). والحقيقة أن الأمر في هذا يطول، والتفريط فيه من بعض الدعاة كثير وخطير، ونصوص الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر.

كلام الصحابة رضي الله عنهم في تأخير الصلاة عن وقتها

كلام الصحابة رضي الله عنهم في تأخير الصلاة عن وقتها ولعلنا نشير إلى أن السلف الصالح من هؤلاء التابعين والصالحين إنما أخذوا ذلك عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وحسبي أن أذكر ما أورده البخاري في كتاب الصلاة تحت باب (تضييع الصلاة عن وقتها)، وروى بسنده عن أنس قال: (ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: غيرتم كل شيء- فقيل له: الصلاة- أي: الصلاة ما زالت كما هي عن النبي عليه الصلاة والسلام-؟ فقال: أليس صنعتم فيها ما صنعتم؟) أي: من تأخيرها عن وقتها أو إخراجها عن وقتها إلى صلاتها بعد أداء الوقت. وفي الباب نفسه روى البخاري عن الزهري قال: دخلت على أنس - وأنس في ذلك الوقت كان قد طعن في السن، فهو ممن تأخرت وفاته من الصحابة- وهو يبكي رضي الله عنه وأرضاه، قلت: ما يبكيك؟ قال: (لا أعرف شيئاً مما أدركت- أي: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم- إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت)، فكان أنس يبكي في عهد التابعين. وهناك قول آخر وهو قول أم الدرداء: ما لك يا أبا الدرداء؟ قال: ما أنكرت من أمة محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً وقد تغير الحال). وكانت عائشة رضي الله عنها وهي في عهدها وفي عهد التابعين وتوافر الصحابة الكثيرين تستشهد بقول القائل: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في زمن كجلد الأجرب والحديث في هذا عن سير السلف رضوان الله عليهم يطول ويطول جداً.

الرد على من يتعلل ببعض الشبهات في تأخير الصلاة عن وقتها

الرد على من يتعلل ببعض الشبهات في تأخير الصلاة عن وقتها يأتي الحديث هنا عن الأوهام والشبهات التي يتعلل بها ذلك النائم، ويضيع بها تلك الغنائم، فبعض الناس يستشهدون بأحاديث وبنصوص أحب أن أوردها وأن أذكرها، وأن أبين أن ما يذكرونه أو ما يتوهمونه غير صحيح، فبعض الناس يجعل النوم على إطلاقه عذراً، وبعضهم يجعل التعب أو المشقة اليسيرة عذراً لتأخيرها عن وقتها وعدم شهودها في الجماعة، وقد كان الصحابة والسلف الصالح بعدهم يصاب أحدهم بالفالج –أي: بالشلل النصفي- فيؤتي به وهو يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف ليصلي مع الجماعة، ولم تكن عندهم سيارات يركبونها، ولا طرق ممهدة يسيرون عليها، ولا فرش موطأة يصلون عليها، ولا مكيفات باردة تهب عليهم نسائمها، ومع ذلك كان الواحد منهم لا يتخلف عن الصلاة، وإذا تخلف عنها شعر بالخطر العظيم والكرب الجسيم، وبكى وندم واستغفر، وربما عزاه بعض أصحابه، ولم يكن الحال كما عليه حال الناس اليوم. وقد سأل بعض الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام عن نومهم عن الصلاة فقال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة) رواه مسلم والترمذي وأبو داود. وفي حديث علي رضي الله عنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)، وبعض الناس يأخذون هذين الحديثين على إطلاقهما، ويرون أنه ليس في النوم تفريط، والمدلول اللفظي للحديث الأول هو أن النائم إذا فاتته الصلاة لا يعد ذلك تفريطاً منه؛ لأن النوم سلطان ليس بيده، وذلك إذا كان حريصاً على الصلاة ملتمساً الأسباب للاستيقاظ ولشهودها، آخذاً بكل الأسباب المعينة على ذلك، ثم غلبه النوم من غير اختيار منه على ندرة في ذلك، فمن رحمة الله عز وجل ولطفه وعظمة هذا التشريع في هذا الدين أنه رفع الحرج عن المسلمين، وبين أنه ليس على النائم في ذلك شيء، والنوم بالنسبة له ليس تفريطاً بيده، لكن الذي يسهر ويعلم أن السهر سيمنعه من الاستيقاظ، أو يعلم أن نومه ثقيل ولا يطلب من أحد أن يوقظه، أو يتعود ذلك فينام كل يوم ولا يستيقظ إلا في النادر لإدراك صلاة الفجر، ثم يقول: إنه ليس في النوم تفريط فهذا يضحك على نفسه ويخادع نفسه، وفي حديث أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله جل وعلا يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14])، وهذا إذا كان ذلك في الأمر العارض والمرة النادرة الغريبة الشاذة، وليس الأمر المتكرر الذي يقع من الإنسان كثيراً، فإذا حصل مرة من المرات أنه رقد عن الصلاة أو غفل عنها (فليصلها إذا ذكرها)، فهذه النصوص ليست في هذا الشأن، وليست هي فيه من قريب ولا بعيد، وإنما هي بعض الشبهات وبعض الأوهام، وعندما نريد أن ندمغ هذا القائل بالحجة فإننا نسأله: لو كان هذا الوقت المضروب وقتاً للعمل والوظيفة، أو كان وقتاً لسفر ما، أو كان وقتاً لأمر يهمه أو يخصه هل سيسمح لنفسه أن يعتبر هذا النوم عذراً أو تفريطاً؟ وأضيف إلى ذلك أن هذه التشريعات الإسلامية جاءت بكيفيات، ومن هذه الكيفيات الأوقات، قال عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، وإن لليل عملاً لا يقبله الله في النهار، وإن للنهار عملاً لا يقبله الله في الليل، والمسلم منضبط، والصلوات وأوقاتها قد وردت فيها أحاديث كثيرة، وجاء فيها توقيت من جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الأحاديث أنه صلى به في أول وقت الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وصلى به في آخر أوقاتها، وقال: (الصلاة بين هذين الوقتين) وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذلك كله، وإلا فلما كان هناك هذه الأهمية للوقت والأعمال، والنبي عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها)، وقدم ذلك -كما هو في هذا الحديث- على بر الوالدين وعلى الجهاد، وتطبيق النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة يدل على ذلك، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس) أي: كان يصلي الصلاة في أول الوقت، وليس إذا أسفر النهار أو بعد أن تطلع الشمس كما يصنع بعض الناس حيث يستيقظ مرة واحدة للدوام أو للمدرسة وأيضاً للصلاة، فيقوم كأنه للدوام لا للصلاة، فيجعل الصلاة ملحقاً ويمضي إلى عمله، فلا يبارك له، وتمحق البركة في الأوقات والأموال، وفي كثير من الأحوال التي نراها من أثر هذا الأمر، نسأل الله عز وجل السلامة.

الأسباب المعوقة عن القيام لصلاة الفجر والأسباب المنشطة لها

الأسباب المعوقة عن القيام لصلاة الفجر والأسباب المنشطة لها هنا نقطتان قصيرتان نختم بهما هذا الحديث، وهما: الأسباب التي تقعد الناس عن إدراك صلاة الفجر، ويقابلها الأسباب التي تعين على ذلك: من هذه الأسباب: طول السهر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يكره الحديث بعد العشاء، وطول السهر مظنة غلبة النوم وعدم الاستيقاظ، وهذا أمر محسوس ملموس، ويقابله للاستعانة على صلاة الفجر أو القيام لصلاة الفجر ترك السهر والتبكير في النوم. والأمر الثاني: كثرة الطعام؛ فإن كثرة الطعام من أسباب كثرة المنام، ويحصل كثيراً أن بعض الناس يكون مدعواً إلى طعام العشاء، أو يأكل طعامه في آخر وقت من الليل، فيملأ معدته، فإذا نام كان اشتغال المعدة بالهضم، فلا يكون ذلك معيناً له على الاستيقاظ. الأمر الثالث: ترك القيلولة أو بعض الراحة في أثناء النهار؛ فإن هذا أيضاً يجعل الإنسان مرهقاً ومتعباً، فربما غلبه النوم فلم يستيقظ، ويقابله: أن يرتاح ولو قليلاً في أثناء النهار، علَّ ذلك على أن يكون معيناً له على قيام الليل وصلاة الفجر بإذن الله عز وجل. الأمر الرابع: عدم الأخذ بالأسباب، كأن لا يضبط الساعة المنبهة، أو أن لا يتواصى مع بعض جيرانه أو بعض أهله أن يوقظ بعضهم بعضاً، وأن يوقظ المتقدم منهم من تأخر، فهذا تفريط من الإنسان الذي يعلم أنه لا يستيقظ من نفسه، ثم لا يأخذ هذه الأسباب، فهو مفرط في هذا ويلحقه التقصير والإثم ولا شك؛ لأنه لم يأخذ الأسباب للاستيقاظ، ويقابله: أن يأخذ هذه الأسباب ويجتهد فيها. الأمر الخامس: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والنية الصادقة في الطاعة، فبعض الناس ينام وليس في نيته أصلاً ولم يخطر بباله ولم يطرأ في نيته أنه يريد أن يصلي الفجر، فهو ينام، والنوم بالنسبة له هو الذي في ذهنه، وفي ذهنه أنه سيذهب غداً إلى عمله، أو أنه غداً مرتبط بموعد ما، ولم تكن الصلاة في نيته ولا في خاطره، أما من أخلص النية لله وتعلق قلبه بأنه يبغي الصلاة ويبغي شهودها ويبغي أجرها فإن الله عز وجل يعينه، ويبلغه مراده، ويحقق نيته بإذنه عز وجل. الأمر السادس: ترك الأسباب المشروعة من السنن المأثورة، كالنوم على الطهارة، والنوم على الجنب الأيمن، وذكر دعاء النوم، فهذه سنن لها أثر -بإذن الله عز وجل- مع النية والدعاء في الاستيقاظ، فمن نام على غير طهارة، ومن لم يذكر الله عز وجل تسلط الشيطان عليه، وكان ذلك سبباً في عدم استيقاظه لشهود الفجر، وهذا -لا شك- أمر مهم، ويحتاج الإنسان إلى أن يتذكره. وأن يذكَّر به، وهناك أيضاً أحاديث في هذا، منها ما ورد في قراءة عشر آيات من سورة الكهف. فهذه أمور من الأسباب المعوقة ومن الأسباب المنشطة -بإذن الله عز وجل- لمن أراد ذلك، وأغلب ما يعين -إن شاء الله عز وجل- هو تذكر الآخرة، وتذكر عظيم الأجر وعظيم الوزر، وتذكر الفضل والثواب، وتذكر الإثم والعقاب، فهذا هو الذي يحرك المؤمن وينشطه لأن يبادر إلى الطاعات، وأن لا يكون مرتكباً للمعاصي، وهذه خصيصة ملازمة للعبد المؤمن، أي: حبه للخير ورغبته في الأجر، وخوفه من العذاب ومن سخط الله سبحانه وتعالى. وأخيراً أقول: إن صلاة الفجر على وجه الخصوص جعل لها ومعها من الأمور التابعة لها ما فيه -أيضاً- غنائم وأجر آخر غير ما في الفجر وحدها، فقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ركعتي الفجر: (خير من الدنيا وما فيها) أي: ركعتي السنة التي قبل الفجر. فكيف بصلاة الفجر؟! وورد أيضاً فيما بعد الفجر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صلى الفجر في جماعة، ثم مكث في مصلاه يذكر الله عز وجل حتى تطلع الشمس وصلى ركعتين كتبت له حجة تامة) أو كما ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا أجر ما قبلها وما بعدها، والقرآن فيها -أيضاً- له خصوصية، كما مر بنا فيما ذكره العلماء في قوله عز وجل: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فهذه أمور نسأل الله عز وجل أن تقوي عزائمنا وتنشطنا لأن ندرك الفجر، وأن لا يكون الحال كما هو في هذه الأوقات، حيث يصلي الناس في سائر الفروض خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك من الصفوف، فإذا جاء الفجر لم يكن في المسجد إلا نحو صفين أو ثلاثة، وكثير من الناس يصلونها في بيوتهم، وبعضهم يصلونها متأخرة عن وقتها، وبعضهم وقد طلعت الشمس، وبعضهم برنامجه اليومي الأساسي أن يصلي الفجر عند وقت خروجه للعمل. فنسأل الله عز وجل أن يعيننا على سائر الطاعات، وأن يجعلنا من المسابقين والمسارعين إلى الخيرات. فأهل الخير والصلاح أدعى إلى أن يكونوا أكثر حرصاً والتزاماً ومراعاة لهذه الفريضة. وهناك كتاب صغير حوى مواقف السلف الصالح في الحفاظ على الصلاة لـ عبد الملك القاسم بعنوان: (والثمن الجنة)، وقد جمع فيه كثيراً من مواقف السلف في المحافظة على الصف الأول والتكبيرة الأولى.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التشاؤم بالأماكن

حكم التشاؤم بالأماكن Q بعض الناس إذا جلس في مكان يقول: حلت بنا المصائب ولم تزرنا السعادة. فما حكم هذا القول؟ A هذا من التشاؤم المنهي عنه؛ فإن الأماكن والأشياء ليس فيها نفع ولا ضر بذاتها. وأما ما يتعلق بحديث النبي عليه الصلاة والسلام لما انتقل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر فهذا ليس فيه شاهد؛ لأن هذه أمور عارضة، وأما ما له تعلق وارتباط بهذا الشأن فهو في عقد الشيطان وفي بول الشيطان في أذن النائم عن صلاة الفجر، وقد ورد أيضاً في الحديث: (إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، فإذا غفل عن ذكر الله عاد فالتقمه)، وهذه أمور لابد أن نؤمن بها، وهكذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام في الأذان: (يقبل الشيطان حتى يخطر بين العبد وبين نفسه، فإذا سمع الأذان ولى هارباً وله ضراط يسمع، فإذا انتهى الأذان عاد يخطر بين العبد وبين نفسه، فإذا سمع الإقامة ولى وله ضراط) وهذا الحديث أيضاً في الصحيح، فهذه الأحاديث نؤمن بها، ولا نعلم كيفيتها، لكننا لا نتعلق بالشؤم وبهذه الأمور التي لا تصح، ولا تثبت، ولا تتفق مع حسن اعتقاد المسلم.

سبب عدم استشعار فضائل صلاة الفجر

سبب عدم استشعار فضائل صلاة الفجر Q في بعض الأحيان أقوم لصلاة الفجر ولكن لا أحس طعماً لهذه الغنائم، فما هو السبب؟ A لعلك لم تتذكرها، والحشد الذي يذكر من النصوص والكلام في ذلك أحسب أنه لا يغيب عن الذهن، لكن جمعه والتذكير بكونه يتعلق بالصحة، ويتعلق بالعمل، ويتعلق بالنشاط، ويتعلق بالأجر، ويتعلق بالآخرة، ويتعلق بالجنة، ويتعلق بالرؤية، ويتعلق بما قبل الصلاة، ويتعلق بما بعد الصلاة هذا كله تذكير، فلعل في هذا التذكير ما يعينك على أن تشعر بهذا الأجر، وأن تحس طعماً، فهذا وعد من الكريم سبحانه وتعالى. ثم صل وواظب على الصلاة بنية التعبد الله عز وجل، فسينشرح لها صدرك، وترى البركة في الرزق وفي المال وفي الوقت، وترى التوفيق والسداد بإذن الله عز وجل، وهذا أمر لا شك فيه.

كيفية قضاء المسلم ليومه

كيفية قضاء المسلم ليومه Q يغلب عليّ النوم بعد صلاة الفجر فيفوتني وقت المراجعة والحفظ، فما توجيهكم؟ A الحقيقة أن أوضاعنا الاجتماعية أوجدت مثل هذا، ونحن قلبنا الأمر، ولو عدلناه مرة أخرى لعادت الأمور إلى نصابها. الأصل في اليوم أن يبدأ بالفجر، فلو بدأنا بالصلاة، وثنينا بالذكر والدعاء، وإذا أشرقت الشمس صلينا ثم انطلقنا بعد طعامنا إلى أعمالنا ومدارسنا لكان اليوم طويلاً، ولكان الوقت يكفي لهذا العمل، فإذا جاء وقت المساء أو بعد العصر أو بعد المغرب توقفت الأعمال، ويكون الناس بين المغرب والعشاء متفرغين لسماع العلم أو الذكر أو الموعظة، وبعد العشاء إن كانت لهم مصلحة أو سمر في طلب العلم فعلوا ذلك، كما ذكر البخاري وترجم في بعض أبوابه من كتاب العلم، ثم ناموا مبكرين، واستيقظوا قبل الفجر متهجدين، لكن عكسنا الأحوال، فسهرنا في الليل ونمنا في النهار، وإذا ذهبت لتشتري شيئاً من بعض الأسواق فكثير من الناس لا يفتحون متاجرهم إلا بعد التاسعة أو بعد العاشرة، فانقلبت الأمور، والذي يجتهد في هذا لا شك أنه يخالف الناس ويتعب، ولعله -إن شاء الله- يؤجر على قدر مشقته.

أهمية المصابرة وترك النوم بعد صلاة الفجر

أهمية المصابرة وترك النوم بعد صلاة الفجر Q يلاحظ على كثير من الناس أنهم ما إن يسلم الإمام حتى يسلموا ويخرجوا سريعاً، خاصة في صلاة الفجر والعصر، فما نصيحتكم؟ A كأن هذا الذي يخرج بسرعة يريد أن يرجع إلى النوم، وأقول: إن بعض الناس ينام -أيضاً- في التشهد قبل السلام، حتى إذا سلم الإمام فإنه يريد أن يواصل النوم، وعلى كل حال فالذي يؤدي الصلاة في الفجر في الجماعة أفضل من غيره، ولو نام بعد الفجر فلا شك أنه يفوت بعض الأجر، لكنه خير ممن يتأخر أو لا يشهدها في الجماعة، فهذا إن كان عنده عمل أو يستعين بذلك النوم على خير فلعله -إن شاء الله- يكون قد أخذ أجر الصلاة وشهودها في الجماعة، لكن إن أراد المزيد فليصابر وليصبر وليجتهد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

أهمية أداء صلاة الفجر في المسجد

أهمية أداء صلاة الفجر في المسجد Q رجل يستيقظ في الفجر، وعندما ينتهي من الوضوء ربما يجد أن الصلاة قد انتهت، فيخجل من الخروج فيصلي في البيت، فما الحكم؟ A هو يخجل من الخروج من جهة، والشيطان يكسله من جهة ويقول له: صل جماعة في الفروض الأخرى فالناس موجودون. وأقول: إن كان فيما بعد الصلاة مباشرة فليتحرك ليدرك أحد أمرين: إما أن يدرك مسجداً يعلم أنه يتأخر قليلاً في أداء الصلاة عن بعض المساجد فلعله يدرك الجماعة فيه، أو يبادر إلى مسجده القريب فلعله يدرك ولو واحداً من المصلين، أو واحداً قد صلى فيصلي معه، فيكتب الأجر والخطا إلى المسجد إن شاء الله، ويتعود على ذلك؛ لأنه لو تعود أول يوم تأخر وقال: لعلي إذا وصلت يكون قد سلم الإمام. أو أدركه قبل أن يسلم. إذاً أصلي في البيت فسيصير حاله هكذا في المرة الثانية والثالثة، لكن لو تعود أن يخرج فقد يدرك التشهد، وقد يدرك جماعة أخرى.

حكم العيش مع قاطع الصلاة أو المتهاون بالجماعة

حكم العيش مع قاطع الصلاة أو المتهاون بالجماعة Q نحن أربعة زملاء في غرفة واحدة، وأحدنا لا يصلي الفجر معنا في المسجد، وقد نصحناه عدة مرات، ولكن دون جدوى، فما حكم العيش معه؟ A إن كان يصليها ولو في سكنه فلا إشكال إن شاء الله، وإشكاله خفيف، لكن لابد أن تنصحوه ليلاً ونهاراً ومراراً وتكراراً، وأن تنوعوا، وأن تغيروا، وأن تشتدوا معه وأن تلينوا معه، وأن تنوعوا له الأساليب حتى يشرح الله عز وجل صدره ويكون من المصلين، واذكروا له مثل هذه الغنائم والفوائد العظيمة علَّ الله عز وجل أن يشرح صدره لأداء الصلاة.

حكم الصلاة في البيت

حكم الصلاة في البيت Q بعض الناس يصلون الفجر والعصر في البيت وقت الصلاة، أي: قبل فوات الوقت. وفي بعض الأحيان يصلون العصر في جماعة في البيت، وعندما أقول لهم: الصلاة في المسجد يقولون: نحن نصلي في جماعة. فما حكم هؤلاء؟ A أحيل الأخ السائل إلى الحديث الذي رواه البخاري وشرحه ابن حجر شرحاً مطولاً، وهو حديث: (هممت أن أمر بالصلاة فتقام) فقد ذكر فيه ثمانية وجوه من الوجوه التي فيها تعظيم وتغليظ لأداء الصلاة في جماعة، والتحذير من ترك الجماعة، حتى قارب فيه أن يقول بما قاله بعض العلماء من وجوب صلاة الجماعة.

حكم أداء ركعتي الفجر وقت الإقامة

حكم أداء ركعتي الفجر وقت الإقامة Q بعض الناس يهم بركعتي الفجر حتى عند سماع الإقامة وتفوته تكبيرة الإحرام، وربما الركعة الأولى، فما الحكم؟ A ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، فإذا أقيمت الصلاة فينبغي أن ندرك الفريضة، والفريضة مقدمة على النافلة مهما عظم أجرها، فيصلي الفرض، ثم بعد الصلاة مباشرة أو بعد شروق الشمس يصلي ركعتين مكان الركعتين اللتين قبل الفجر، وإن شاء الله يكتب له أجرها، ولا يفوت تكبيرة الإحرام والركعة الأولى. والحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم- وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كنوز رمضانية

كنوز رمضانية لقد امتن الله سبحانه وتعالى علينا بشهر رمضان، فهو موسم عظيم للعبادة وعمل الطاعات، وفيه من الكنوز الإيمانية ما لا يعد ولا يحصى، ولا يُقدر بثمن، ولا يُوزن بشيء من حطام الدنيا، ومن هذه الكنوز: تلاوة القرآن وتدبر آياته وأحكامه، وقيام الليل بالصلاة والذكر والتسبيح والدعاء.

رمضان والصوم

رمضان والصوم الحمد لله الذي خضعت لعظمته الرقاب، ولانت لجبروته الصعاب، أحمده سبحانه وتعالى ما تعاقب الليل والنهار، وما ذكره الذاكرون الأبرار، وما تلفظت الألسن بذكره، وما خفقت القلوب بحبه، وما عملت الجوارح بشكره، سبحانه هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السموات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، علم التقى ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فحديثنا عن (رمضان والصوم). وكنت -وما زلت- أحب دائماً الاستبشار والتفاؤل، والنظر إلى الجانب المضيء في أحوال أمتنا، فذلك مبعث عمل، ومقوي همة، ومنشط عزيمة، غير أن اعتدال الصورة يقتضي أن نعرف الواقع ونصف بعض خلله وشيئاً من انحرافه، أن نرى الصورة على حقيقتها بما فيها مما يؤلم ويحزن، وما فيها مما ينكي ويدمي؛ إذ الأمر لا بد أن يكون على بينة ووضوح تام. كنوز كثيرة في هذا الشهر الكريم الذي نرتقبه وننتظره، كنوز لا تعد ولا تحصى، وأثمانها لا تقدر بثمن، ولا توزن بشيء من حطام الدنيا وما فيها، غير أننا نريد أن ننظر هل تغتنم هذه الكنوز؟ هل تؤخذ هذه الخيرات؟ هل تجنى تلك الثمرات؟ هل يتغير المسار؟ هل تتبدل الأهواء وتختلف الآراء؟ هل تكون العودة من بعد الغفلة؟ وهل يكون التصحيح من بعد الخطأ؟ وهل يكون إقرار بالذنب واعتراف به؟ ليس ذلك على مستوى الفرد وحده، بل على مستوى الأمة بمجموعها. إننا اليوم نشهد أحداثاً متسارعةً تتجه تماماً في عكس الطريق الذي يدعونا إليه كتاب الله، وترشدننا إليه سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

كنوز رمضان

كنوز رمضان ونحن ننتظر هذا الشهر الكريم، لو وقفنا مع بعض دلائله وخصائصه ومعانيه، وقارنا هذا الواقع الذي نعيشه سنرى -ولا بد من أن نرى، ولا بد أن نكون صرحاء في كشف ما ينبغي ويجب أن يرى- سنرى شيئاً من التناقض والتعارض، وسنرى أن الكنوز يقابلها جحود أو صدود، ولعلنا لا نطيل الحديث في هذه المقدمات لنخلص مباشرةً إلى تلك الكنوز.

تلاوة القرآن الكريم

تلاوة القرآن الكريم أولاً: كنز القرآن والتلاوة. قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته طعامه وشهوته. ويقول القيام: أي رب! منعته النوم. فيشفعان فيه) هذه الخصيصة لهذا الشهر التي تذكرنا بكتاب الله عز وجل وبدوره في حياتنا وبواجبنا نحوه، وتذكر بأحكامه، وبخفقات قلوبنا، وخطرات عقولنا، وكلمات ألسنتا، وحركات جوارحنا، وأساس علاقاتنا ومعاهدتنا واتفاقياتنا، وسائر جوانب حياتنا. لم ينزل القرآن لتترطب به الألسنة فحسب، ولا لتشنف الآذان بحسن تلاوته فقط، ولا لتدمع العيون تأثراً ببعض معانيه، ثم تمضي ساهيةً لاهية، إنما أنزل ليغير واقع الحياة وفق منهج الله، ويغير النفوس في أعماقها والقلوب في سويدائها على ما يحب الله سبحانه وتعالى ويرضى، ونحن نعلم أن القرآن إنما أنزل للعمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، ونعلم الشكوى التي جاءت في آيات القرآن: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، كنز عظيم تذكرنا به هذه الأيام المقبلة على ذلك الشهر الفضيل، وتذكرنا به أم المؤمنين عائشة يوم تقول: (كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن)، فما أحق من علم كتاب الله أن يزدجر بنواهيه، ويتذكر ما شرح له فيه، ويخشى الله ويتقيه ويراقبه ويستحيي منه، كلمات قالها القرطبي في مقدمة تفسيره، ننتقل منها لندرك أن الواقع فيه شيء من المناقضة العجيبة، والمفارقة الغريبة، والصدود الذي لا يبعد أن يتصف به بعض المسلمين بهذا الهدي الوارد في كتاب الله عز وجل، ونحن نعلم أنه سبحانه وتعالى قد بين لنا الغاية فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155]، وقال جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121]، فمن أي الفريقين أنت؟ استمع لـ ابن مسعود رضي الله عنه وهو يقول في هذا المعنى: (إن حق تلاوته أن يحل حلاله، وأن يحرم حرامه، ويقرأه كما أنزل). وعن ابن عباس: ({يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121]: (يتبعونه حق اتباعه). وننظر إلى هذا الواقع على مستوى الفرد والأمة فنرى ما نرى من أمور ظاهرة جلية، فالهجر بأنواعه كلها يكاد يكون ظاهراً جلياً، فلا القرآن يتلى، ولا آياته تقرأ على الوجه الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا الحفظ في القلوب كما ينبغي عند جمهور المسلمين، وأما التدبر والتفكر والاتعاظ والاعتبار فدون ذلك بمراتب، وأما العمل والالتزام والتطبيق فدونه كذلك، فضلاً عن التعليم والدعوة والنشر والجهاد لنشر أنور القرآن وبيان معانيه، لست أقول ذلك تأييساً، ولا أقوله نظراً للصورة السوداء دون البيضاء، غير أننا اليوم نحتاج إلى مثل هذه المفارقة والمصارحة التي ذكرها لنا علماؤنا وأئمتنا في الصلة بكتاب الله عز وجل، فهذا الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: (حامل القرآن- حامل رسالة الإسلام- لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا أن يسهو مع من يسهو، ولا أن يلغو مع من يلغو، تعظيماً لحق القرآن) فهل ذلك ظاهر في واقعنا وحياتنا؟ ولنتحدث أيضاً بصورة أجلى وأوسع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أليست هذه آيات قرآنية؟ أليست نداءات إيمانية؟ أليست أوامر ربانية؟ أين هي في واقع مسيرة الأمة اليوم وهي تسارع إلى اعتبار الأعداء أصدقاء وإلى اعتبار المحاربين المعتدين من اليهود وأحلافهم أصحاب قلوب رحيمة وأصحاب اتفاقيات ومعاهدات للصلح والسلم؟ بل نرى ما هو أكثر من ذلك، نرى التهاوي والتسارع إلى المصطلح البغيض الذي كله شر وضر يجوس خلال الديار، وينخر في العقول والأفكار، ويدمر في قوة الأمة وتماسكها، التطبيع وما أدراك ما التطبيع؟ القرآن يدعونا أن نتجه إلى أمتنا، إلى إخواننا، إلى توحد صفوفنا وترابط قلوبنا وتماسك صفوفنا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، ويوم تتقطع الأوصال بين بلاد العرب وبلاد المسلمين، وتمد الجسور وتفتح الأسواق بيننا وبين أعدائنا الذين ما زالوا إلى يومنا هذا تنطق بالعداوة وتصرح بها ألسنتهم، وتظهر في أعمالهم، والدماء ما زالت تسفك، والدور والبيوت ما زالت تهدم، والأرض ما زالت تسلب، والأعراض ما زالت تغتصب، بل الأمر متضاعف متزايد لا في رقعة هي قلب قضايانا الإسلامية في فلسطين، بل فيما وراء ذلك، في العراق وغير العراق، ثم من بعد ذلك نستقبل الشهر لنستعد بمزيد من التلاوة والقراءة دون عقل مفكر، ودون قلب متعظ، ودون سلوك متغير، ودون أمة تعود إلى الله عز وجل وتحقق المعاني القرآنية التي جاءت في هذا الكتاب العظيم. أي أمر أمر هذا؟ أين غيبت العقول؟ وأين ماتت القلوب؟ لقد ذلت النفوس يوم أعرضت عن كتاب الله وعن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لنستمع إلى هذا القرآن الذي ننتظر شهره ونستعد لننفض الغبار عن المصاحف ونتلو الآيات دون ما هو أكثر من ذلك، لنستمع إلى قوله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:169 - 170]، تأمل الآيات التي تروي لنا شأن بني إسرائيل، وكأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتأمل دلالة الآيات نستحضره، ويهجم علينا نصه: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). من هؤلاء؟ هم الذين يسير بعض أبناء أمتنا خلفهم حذو القذة بالقذة، الخطوة وراء الخطوة، والتصريح هو رجع لذلك التصريح، والموقف هو تأييد لذلك الموقف. تعجب الصحابة أهل الإيمان واليقين وأهل العزة والقوة فقالوا: من يا رسول الله؟! اليهود والنصارى؟ فما زاد سيد الخلق على أن قال: (فمن) أي: من غيرهم؟ ألسنا نرى اليوم ذلك؟ {وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف:169]، {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [التوبة:9]، أرادوا أن يأخذوا بدل منهج القرآن والاستمساك به شئوناً دولية وعولمةً عالمية، ومعاهدات واتفاقات ومنظمات لا تغني من الله شيئاً، وكلها لا تساوي حرفاً من كتاب الله عز وجل، ومع ذلك تقدم عليه وينظر إليها ويتعلق بها وتشترى ويستبدل القرآن بها. تأمل هذا المعنى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ} [الأعراف:169] تتكرر المساومات وتتعدد الجولات، وفي كل مرة تزداد مبادرات، والأمر سائر: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169]، هاتوا ما عندكم، قولوا ما لديكم، خطوا الطريق ونحن نسير، ارسموا ونحن نطبق كأن حالنا يصف هذا المعنى تماماً: {أََلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:169]، أليسوا يقولون اليوم: إن هذا الذي يفعلونه لا أقول فيه: إنهم يقولون: لا يتعارض مع الإسلام بل يقولون هو روح الإسلام، إسلامنا دين المحبة والسلام، إسلامنا دين المودة والوئام، إسلامنا دين الجسور المبنية، والصلات الممدودة، إسلامنا لا يميز بين عقيدة وعقيدة، إسلامنا لا يفرق بين دين ودين، إسلامنا لا يجعل مزيةً لملة على ملة. وأين ذلك من كتاب الله؟ وأين هو من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ عندما نقول: إن ثمة كنوزاً وخيرات فثمة صدود وجحود، وثمة إعراض وإنكار، فينبغي لنا معه أن نقر به وأن ننظر إليه، وأن نتأمل فيه، وأن نصحح موقفنا منه لنبرأ ونبرأ ذمتنا أمام الله جل وعلا؛ فإن كل واحد مسئول بقدر ما عنده من قدرة وطاقة: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، والنبي صلى الله عليه وسلم أوجز فقال (ولكن من رضي وتابع) لا تقل: ليس لي في هذا يد، وليس لي به شأن، وليست لي فيه قدرة أقل الأمور أن تكون من أمرك على بصيرة، ومن دينك على بينة، وأن تقول الحق، وأن تدخل في عموم قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:170]، وزيادة المبنى دليل على زيادة المعنى، لم يقل: (يُمْسِكُون) بل: {يُمَسِّكُونَ} [الأعراف:170] أي: يحرصون أشد الحرص، ويتشبثون أقوى التشبث بكتاب الله، لا يحيدون عنه وإن حادت الدنيا كلها، ولا يغيرون نهجه وإن تعددت المناهج والآراء مهما كان الأمر، كما كان على ذلك صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، وكما شهدت اللحظات الأخيرة من حياة عدد وافر منهم يوم قال أنس بن النضر في يوم أحد: (واه لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد

الصلاة والقيام

الصلاة والقيام وكنز آخر في هذا الشهر الكريم الذي ننتظره يحتاج إلى تأمل، وهو كنز الصلاة والقيام. فهي سمة بارزة، وشعيرة ظاهرة، وأمر ملفت يميز هذا الشهر الذي ننتظره، كثرة الصلاة، عمران المساجد، المسارعة إلى الصفوف الأولى، إحياء الليل وقيامه بالتراويح، واستمرار ذلك في الأواخر إلى انشقاق الفجر، صورة بديعة رائعة تدلنا على أثر في القلوب والنفوس، وعلى تغير ينبغي أن نحرص عليه وأن نعمقه ونزيده، وأن نثبته في واقع حياتنا، ذلك الأثر المهم {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). ولست أريد أن أنظر إلى الجانب المظلم، ولكني أشير إلى هذه الوقائع، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فهل واقع الأفراد وواقع حياتنا كمجتمعات وواقع أمتنا كدول ورقعة مترامية الأطراف يشهد هذا الانتهاء عن المنكر سواء في الأمور الشخصية أو في الأمور الكلية؟ هذا موضع تأمل وتدبر نحتاج إليه، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، المحافظة تعني القيام بالأركان، والأداء للواجبات، والحرص على السنن، والإتيان بجوهر العبادة خشوعاً في القلب وتدبراً بالعقل وخضوعاً بالجوارح واستمراراً للتطهر، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً غمراً يجري بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالو: لا يا رسول الله. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، ومرةً أخرى نقف مع قوله جل وعلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم (إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة). وإن الأمر هنا دلالة واضحة على أن مواجهة الكروب ومجابهة الخطوب لا تكون إلا بالرجوع إلى الله، والاستعانة به، ومد حبال الوصل معه، ورفع أكف الضراعة إليه، وإخضاع الجباه سجوداً فيه التعظيم والخضوع له، ليس كلما ادلهمت الخطوب لجأنا إلى الشرق والغرب، والتمسنا أنظمةً دولية ومعاهدات عالمية؛ فإن هذا المسلك هو الذي فرق الأمة وأضعفها، وجعلها في ذيل القافلة، وجعلها في غاية الذل، يطلب منها اليوم أمر ويقال: هو المنتهى. فإذا أجابت جاء بعد الأمر ثان وثالث، وأصبحت الأمور كأن لا تصور لمنتهاها، وكأننا في يوم من الأيام -لا على سبيل المبالغة، ولكن على سبيل المعنى الذي يصور المآلات الخطيرة- قد تقرأ فيه التوراة في المحاريب، لشدة التغلغل الذي يسري في أوطاننا وديارنا وعالمنا الإسلامي إلا ما رحم الله عز وجل، ولعلنا نتذكر هذا المعنى عندما تستمع لقوله جل وعلا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة:91]، وليس بالضرورة أن ننظر إلى الخمر المعروفة، فاليوم خمور مختلفة، خمر العولمة، خمر العصرانية، خمر الزمن الذي لا بد من مراعاته، والظروف التي لا بد من موفقتها، هذه خمر لعبت برءوس الكثيرين فصاروا يتكلمون ويقررون ويحكمون بأمور تتناقض وتتعارض مع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولعلي أختم هذا الكلام بتذكير لنفسي ولك ننظر فيه إلى الفوارق الكبيرة. فقبل نحو خمسة عشر عاماً- ولعل الزمان يعتبر ليس بقصير- وقفت في خطبة ذرفت فيها دمعة حزن من أجل فلسطين، يوم كان مؤتمر مدريد، واليوم لعلي أجد أن الدمعة شحيحة ليست كذلك الوقت، وأجد أن حزن قلبي وأسى نفسي لا يبلغ مبلغه كما كان؛ لأن التدجين والتهجين والتطبيع يسري إلى نفوسنا، لم نعد اليوم نسمع في الأخبار تلك المصطلحات، مصطلح (العدو)، ومصطلحات الهجوم، ومصطلح (الكيان الغاصب)، أصبحنا اليوم نستمع إلى أمور أخرى، وأصبحنا نرى صوراً ما كنا نراها، حتى ألفت ذلك العيون وتقبلته النفوس. نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وغيرتنا وعزتنا، وأن يقينا الشرور والآثام، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.

الذكر والدعاء

الذكر والدعاء أخي الحبيب! أوصيك ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ورمضان موسم التقوى العظيم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة وحصن حصين من النار) رواه أحمد في مسنده. تقوى الله سبحانه وتعالى هي لب وجوهر تلك الفريضة العظيمة التي نرتقبها وننتظرها. تقوى الله عز وجل -كما أثر عن علي رضي الله عنه- هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. ولما سئل كعب عنها قال: (أرأيت لو كنت تسير في أرض ذات شوك فما أنت صانع؟ قال: أشمر وأجتهد. قال: فتلك التقوى). هذا المعنى العظيم، وهذه الغاية الجليلة تستدعي منا أن نتأمل أكثر وأكثر؛ فإن في خصائص هذا الشهر أموراً كثيرةً. فيه القرآن، والصلة به، وفيه القيام والإكثار منه، وفيه كذلك كنز الذكر والدعاء، فلا أظننا نشهد عنايةً بالدعاء وكثرةً فيه في أيام مثل رمضان، نسمعه في دعاء القنوت، ونرفعه في وقت الأسحار بعد السحور، ونكاد لا نغفل عنه في كل يوم وليلة من ليالي شهر رمضان، وفي سياق آيات الصوم وفي أثنائها وفي ضمنها جاء قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. إن الدعاء -كما ذكر بعض السلف- إذا سد طريقه بالمعاصي لم تكن له إجابة، وسنة الله عز وجل ماضية، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بموجبات قبول الدعاء، فقال لـ سعد: (أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة)، وفي الحديث المشهور: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!)، وكيف نحن والحرام يدخل إلينا ويجوس في ديار المسلمين من خلال كثير وكثير من الصور والأحوال، وآخرها ذلك التغلغل الذي يدمر بلادنا وديارنا، ونحن نعلم أن بلاداً من بلاد المسلمين تصنع الخمور وتعتبرها تجارة. وأن بلاداً من بلاد المسلمين تصرح بالخنا والفجور ومهنة الدعارة. وأن بلاداً من بلاد المسلمين فيها كذا وكذا، والبلاد التي نأت بنفسها عن ذلك تطرق اليوم أبوابها، وتأتيها من كل حدب وصوب رسل الغواية لتدخلها فيما نأت به عن نفسها، ولتزلق أقدامها في الهاوية التي وصلت إليها غيرها، فنسأل الله عز وجل السلامة والحفظ، والله سبحانه وتعالى يحفظنا إذا حفظناه، وينصرنا إذا نصرناه: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وصدر المصطفى صلى الله عليه وسلم وصيته لـ ابن عباس بقوله: (احفظ الله يحفظك)، فمن أراد الأمر والغاية والثمرة فطريقها معلومة ومنهجها واضح، والآيات تضيء، والأحاديث ترشد، والسنة والسيرة تبين، والتاريخ ينطق ويشهد، والواقع يثبت ويدلل، فعسى الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلا، وأن يمسكنا بكتاب ربنا، وأن يلزمنا نهج نبينا. اللهم! اجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار سلفنا الصالح مقتفين، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين. اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، وأعنه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم! احفظ عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها، واحفظها -اللهم- من عدوان المعتدين يا رب العالمين. اجعل -اللهم- بلاد المسلمين بلاد أمن وطمأنينة وصحة وسلامة وعافية، ورد المسلمين -اللهم- إلى دينك رداً جميلا، وخذ بنواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وألهمهم الرشد والصواب. اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا -اللهم- لما اختلف فيه من الحق بإذنك، واجعلنا -اللهم- هداةً مهديين مهتدين هادين يا رب العالمين. اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها يا رب العالمين. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت خطوتهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وقوِ شوكتهم، وانصرهم -اللهم- على عدوك وعدوهم عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم! ارحم إخواننا المستضعفين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين. اللهم! امسح عبرتهم، اللهم! امسح عبرتهم، اللهم! امسح عبرتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادةً لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنةً لهم في الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، وفق -اللهم- ولاة أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم إلى البر والتقوى، وارزقهم البطانة الصالحة التي تحثهم على الخير وتعينهم عليه يا سميع الدعاء. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الكنز المفقود

الكنز المفقود يبحث كثير من الناس ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً عن السعادة، وربما تنفق كثير من الأموال طلباً للسعادة، وتعس من ظن أن السعادة هي في المأكل والمشرب والملبس إن السعادة هي الكنز الذي فقده كثير من الناس، وبحثوا عنه في غير مظانه، فليعلم هؤلاء أن السعادة كل السعادة في طاعة الله في القرآن والسنة في قراءة سير السلف الصالح، عندما يعمر الإيمان القلوب، وتسعد النفوس وإن جاعت البطن يوماً وشبعت يوماً.

البحث عن السعادة

البحث عن السعادة الحمد لله جعل الإيمان أماناً ونوراً للقلوب، وجعل الإسلام سلامةً وشرحاً للصدور، وجعل الهداية سعادةً ونعيماً للنفوس، ووعد أهل التقوى بسعادة الدنيا وبنعيم الجنان، أحمده سبحانه وتعالى على توالي نعمه، وتعاظم فضله، نحمده جل وعلا هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، تبارك اسمه، وجل قدره، وعم نواله، وكثرت أفضاله سبحانه وبحمده، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا، حمداً كثيرا ًطيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وبصر به من العمى، وكثرنا بدعوته من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وهدانا من بعد ضلالة. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خيرٍ إلا وأرشدنا إليه، وما من شرٍ إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! يتعب كثيرٌ من الناس نفسه ليله ونهاره، ويشقى صبحه ومساءه، ليجمع من عرض الدنيا ما يكثر به ماله، وما يعظم به رصيده؛ طلباً للسعادة والهناء في الدنيا، ويذل كثيرٌ من الناس نفسه، ويحكم كيده، ويدبر أمره لينال المنصب والجاه، أو ليحوز النفوذ والسلطان؛ طلباً لسعادةٍ وعزةٍ وعظمةٍ في هذه الحياة، وكثيرون آخرون يتفننون ويبتكرون، ويقبلون ويدبرون من أجل أن يفوزوا بقلب فتاة حسناء؛ طلباً للذة من لذات هذه الحياة. ويضرب الناس شرقاً وغرباً، ويذهبون يميناً وشمالاً، كلهم في هذه الحياة يبغى السعادة والهناء، يبحث عما ترغب فيه نفسه، ويطرب له قلبه وتسكن إليه جوانحه، وتطمح له آماله، وكثيرٌ من هؤلاء قد يحوزون من الأموال الشيء الكثير، وقد ينالون من الجاه أعظمه وأكثره، وقد يفوزون من لذائذ الدنيا بأحلاها وأجملها، ومع ذلك ترى في صدورهم حرجاً، وترى في نفوسهم غماً وهماً، وترى على قلوبهم قتراً وظلماً وظلاماً، لا يجدون طعماً للراحة، ولا يجدون لذةً للحياة إذا كانوا بعيداً عن الإيمان بالله عز وجل، وعن لذة الطاعات، بعيداً عن سعادة العبودية لله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124] آيات قلائل من كتاب الله عز وجل تفسر سر هذا البحث الدءوب عن هذا الكنز الثمين في هذه الحياة العريضة من أولئك البشر الذين لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] فتش في شرق الأرض وغربها، اذهب إلى أي بقعة من بقاع الأرض، ابحث في أي جنسٍ من الأجناس ستجد القاعدة القرآنية الربانية: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] والتعبير القرآني بصيغة المضارع الذي يتجدد دائماً، والحكم القرآني مطرد لا يتخلف، والوعد الرباني ثابتٌ لا يتغير: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] والتنكير مع التنوين للتعميم، أي: معيشة في كل جانبٍ من جوانب الحياة، معيشة اقتصاد، معيشة اجتماعٍ، معيشة سياحة، كلها ستكون ضنكاً في كل صور الضنك التي يراها الناس أو لا يرونها، يلمسونها ويشعرون بها أو لا يلمسونها. وهكذا يجد المؤمن أن عنده السر الذي يفقده الكثيرون، والضياء الذي يخبط لفقده الكثيرون، والنعمة التي قال عنها أسلافنا: لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، نعمة الإيمان، ولذة الطاعة، وحلاة العبودية، نعمة الاستقامة أمرٌ عظيمٌ نغفل عنه، وربما لا نقدر قدره، والناس يتيهون بحثاً عنه وهو بين أيدينا، كتابٌ تتلى آياته من الله سبحانه وتعالى، فيه الهدى والنور: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] وسنةٌ للمصطفى صلى الله عليه وسلم تشرق أنوارها في كل جانب من جوانب الحياة، وتضيء معالمها كل درب من دروب هذه الدنيا بهديٍ تام كامل، وسيرةٍ نقية عطرة للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي) هذا الذي بين أيدينا هي الكنوز والمفاتيح التي بها تشرق أنوار القلوب، وتنشرح الصدور، وتضاء النفوس وتطمئن، وتهدى العقول، وترشد البصائر، فما بال أمة الإسلام يعتريها ما يعتريها مما ألم بغيرها ممن أعرض عن ذكر الله عز وجل؟ إنه بقدر بعدها عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقدر تركها لمنهج السعادة الربانية الذي رسمه الله عز وجل وشرعه في هذا الإسلام، وفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: أملٌ هفت إليه قلوب الناس في الزمن التليد أملٌ له غور القديم كما له سحر الجديد! أملٌ إليه سعى الملوك كما إليه رنا العبيد! وتزاحموا كالهيم يدفعها الصدى عند الورود وتساءلوا عنه ولكن من يجيب ومن يفيد؟ فمشرقٌ ومغربٌ وكلاهما يرجو البعيد عادوا وكل سؤالهم أين السعادة والسعيد؟ قالوا السعادة في الغنى فأخو الثراء هو السعيد قالوا السعادة في النفوذ وسلطة الجاه العتيد قالوا السعادة في الغرام الحلو في خصرٍ وجيد قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي الخمود! قل للذي يبغي السعادة هل عملت من السعيد؟ إن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد هذي العقيدة للسعيد هي الأساس هي العمود من عاش يحملها ويهتف باسمها فهو السعيد من عاش في ظلال الإيمان، وفي طاعة الرحمن، وفي نصر ة الإيمان، فهو الذي يكون سعيداً بإذن الله عز وجل.

آثار الإيمان والطاعة في تحقيق السعادة

آثار الإيمان والطاعة في تحقيق السعادة لنلتفت إلى كتاب ربنا وسنة نبينا، لنرى إشراقات الأنوار التي تدلنا على سعادة القلوب وسكينة النفوس، التي يبحث عنها الناس اليوم وقد رأيت أثر الهموم على وجوههم سواداً وظلاماً، وعلى أجسامهم كهولة وانحناء، وفي كلماتهم تضجراً وتبرماً، وفي أعمالهم نزقاً وطيشاً، ما وجدوا برد اليقين في قلوبهم، ما وجدوا لذة الحياة الإيمانية في نفوسهم. فهذه آيات القرآن تشرق علينا حتى تبدد هذه الظلمات التي تكاثفت من أثر الشهوات والشبهات، ومن أثر البعد عن أنوار القرآن وسنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. سعادة الحياة لا تكون إلا بالعمل الصالح، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والمؤمن يجد السعادة لأن له وجهة واحدة، وغاية واحدة، وعبودية واحدة لا تتفرق مشاعره، ولا تضطرب خفقات قلبه بمشاعر متباينة كغيره من الذين لا يخافون الله فيخافون من كل شيءٍ سوى الله، ولا يتعلقون بالرجاء لله فيرجون كل أحدٍ سواه، فيبقون في هذه الحياة في اضطراب. أما المؤمن فأساس سعادته إيمانه بربٍ واحد، له يخشع، وله يخضع، وله يحب، ولأجله يبغض، وفيه يوالي، وفيه يعادي، فهو قد توحدت جهته قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام:162 - 163]. لا شيء في هذه الحياة عند المؤمن إلا وهو لله، فالمال مالُ الله والولد والذرية من رزق الله وكل شيءٍ في هذه الحياة ينبغي أن يجعله طاعة وعبوديةً لله، فتنتظم الحياة كلها، ليس فيها دنيا وأخرى متباينتان مختلفتان، وإنما هما متوائمتان متلاقيتان إحداهما يعمل فيها ويحرث، والأخرى يجني فيها ويحصد بإذن الله عز وجل، فتكون نفسه مطمئنة، وقلبه قد توحد مع وجهته ولم شعثه، ولم يعد له في هذه الحياة من قصد وغاية إلا رضا الله سبحانه وتعالى.

تحقيق الأمن والطمأنينة

تحقيق الأمن والطمأنينة وثانية عظيمة من عظائم السعادة، وكبيرة من كبائر أسبابها وأسسها: الأمن والطمأنينة: لأن صاحب المال والجاه إذا كان يعيش في خوف ورعب لا يسعد بماله ولا بجاهه، بل ربما يطلب سكينة ساعة وهدوء يوم ولو بذل في ذلك ماله كله، والمؤمن قد وعده الله عز وجل في دنياه وأخراه بالأمن والطمأنينة: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62 - 64]. وفي الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) حتى قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، يكون ربانياً يحظى بوعد الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] يحظى بتحقيق وعد الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ألم نر الصحابة رضوان الله عليهم وهم كوكبة نجوم حول القمر الساطع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يقابلون المصاعب والشدائد وقلوبهم أثبت من الجبال الشوامخ، لا يهتزون ولا يخافون لأن الإيمان قد سكب في قلوبهم أمناً وطمأنينة، والله سبحانه وتعالى قد قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] ترى طمأنينة المؤمن، وسكينة نفسه، وهدوء باله من أثر إيمانه وتعلقه بربه سبحانه وتعالى. ألم نر تلك المواقف العصيبة التي مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم من مثل يوم الأحزاب: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] في ذلك الموقف العصيب يكبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويبشر أصحابه، فتنزل بشرياته طمأنينة على القلوب، وأمناً وسكينة في النفوس، فلا تجد المؤمن جزعاً ولا هلعاً ولا خائفاً؛ لأن أمن الإيمان هو أعظم أمن يمكن أن يكون، لا يمكن أن يكون الأمن بالقوة ولا بالشرط، ولا بالأجهزة، ولا بالمتابعة، وإنما الأمن أمن الإيمان الذي يراقب فيه العبد ربه، ويخلص فيه لمولاه، ويسعى فيه لرضا الله سبحانه وتعالى، فتعود الحياة كما كانت في عهد أسلافنا رضوان الله عليهم حياة أمن وأمان، وسلامة وإسلام، ليس فيها هذا العدوان، ليس فيها هذا الإجرام، ليس فيها هذا الكيد والمكر السيئ الذي امتلأت به دنيا الناس اليوم، فلم يعد أحدٌ يطمئن إلى جار، ولا يأمن إلى صديق، فضلاً عن أن يركن إلى غريب أو بعيد، ولذلك تبقى الحياة شعلة من نار، وتبقى جمرة من شقاء عندما يفقد الناس الأمن، وعندما يفقدون الطمأنينة، ولا أمن إلا في ظلال الإسلام، وبتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].

انشراح الصدر وسكينة النفس

انشراح الصدر وسكينة النفس وثالثة هي من أمور السعادة والهناء، وهي انشراح الصدر وسكينة النفس التي يشعر بها الإنسان بعيداً عن الأمور التي ذكرناها في شئون الأمن، قال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125]. هذه أيضاً ربما لا يشعر بها كثير من أهل الإيمان والإسلام لأنهم قد ألفوها، لكنهم لو رأوها في الذين اضطربت نفوسهم، وحرجت صدورهم، فضاقت الدنيا رغم سعتها في وجوههم، وأظلمت رغم أنوارها في أعينهم، فعاد الواحد منهم ينتحر كما نرى في دول الكفر، أو يقتل أبناءه، أو يقتل زوجته، أو ما نرى من صور الاضطراب والحيرة وضيق الصدر والتبرم؛ لأن هذا الذي قد بعد عن الإيمان وطاعة الرحمن فقد أساس سكينة نفسه، فلا يعود منتظماً في تصرفاته، ولا يعود منطقياً ولا فطرياً في أفعاله، ولذلك قد آتى الله عز وجل أهل الإيمان النور الذي يبعث الضياء في الصدر والقلب، فيكون حينئذ على بينة من ربه قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] الذي في الظلمات لا بد أن يخبط خبط عشواء، لا بد أن يقع في حفرة، لا بد أن يأتي ليضرب فتقع ضربته في غير موضعها، بل ربما ترتد إليه، وهكذا يقع حال المتخبط بعيداً عن الإيمان.

حب العبادة وأداء الطاعة

حب العبادة وأداء الطاعة ورابعة أيضاً: هي أن الطاعة تجر الطاعة وراءها، وأن العبادة تقود إلى عبادة بعدها، وأن الهداية تفتح أبواباً أكثر من الخير والهدى والنعمة الربانية التي يسوقها الله عز وجل لأهل الطاعة والهداية والاستقامة قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:76] كلما أقبلت على الله زاد عطاء الله لك، كلما أقبلت على الطاعات شعرت بلذةً وسعادةً وهناءةً في قلبك وفزت بها، كما يقبل الذي قد بلغ به العطش مبلغاً على الماء العذب البارد وهو إليه مشتاق وله محب، وهو من أجله يمكن أن ينتظر وأن يغالب الصعاب حتى يبلغ هذه الغاية. وحسبنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبين لنا تلك اللذة العظيمة عندما يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وعندما كان ينادي بلالاً: (أرحنا بها يا بلال! أرحنا بها يا بلال!) أرحنا بهذه الطاعات من عوبة الحياة ومشكلاتها، من عوارضها وشواغلها، اجعل لنا واحةً في هذه الصحراء نتفيأ ظلالها، ونشرب ماءها، ونقطف ثمارها، فتتجدد حياتنا، ويزداد إيماننا، ويعظم يقيننا، ويزداد اندفاعنا نحو الخير، وتتوالى أعطيات الله عز وجل من الهداية: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] لتعلم أنك حينئذٍ في عطاءْ من الله، وفي نعمة من الله ما تزال تتجدد لعجز غيرك من أهل الخسران: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:178].

فتح أبواب الرزق

فتح أبواب الرزق وخامسةٌ يفكر فيها الناس كثيراً، ويرونها المقياس الذي قد غلب على عقول كثيرين من الناس، وهي الأمور المادية المحسوسة، من المال والأبناء والزوجة، ونعيم هذه الحياة، أين الطريق إليه؟ وهل كتب على المؤمن أن يبقى محروماً في هذه الدنيا حتى يؤتى النعيم في الآخرة؟ أهل الإيمان لا ينظرون إلى هذا، ومع ذلك جاء الوعد الرباني الذي جعله الله عز وجل سنةً في هذه الحياة، إن فمورد الرزق وطريقه، وأبواب هذه الحياة الدنيا إنما تستفتح بطاعة الله عز وجل، إن مقاليد الرزق هي الطاعات والعبادات لله عز وجل، ألم نسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه كما في صحيح البخاري: (من أراد أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)، ربط هذا بهذا، وقال الله عز وجل كما في قصة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12]. إن الطاعة من أبواب الرزق العظيمة: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، هكذا يبين لنا القرآن هذه القاعدة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، لو أن الناس تعلقوا بالله، وأخلصوا لله، وأيقنوا بوعد الله، وجعلوا وقتهم وجهدهم وطاقتهم في طاعة الله، ولم يرتكبوا ما حرم الله؛ لفتح لهم الله عز وجل من أبواب الرزق ما لا يحتسبون؛ لأن الله عز وجل قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. ونعلم أيضاً أن أبواب الرزق ليست في كثرتها، وإنما في بركته، فكم من كثيرٍ ممحوق البركة لا ينفع ولا يفيد! وكم من قليلٍ يجعل الله عز وجل فيه البركة! ويرزق العبد المؤمن معه الرضا بما قسم الله له فيكون هناءةً على هناءته، وسعادة على سعادته. فافهم أخي المؤمن وتنبه إلى ما وعد به الرسل أقوامهم عندما يوجهون إليهم دعوتهم، كما قال نوح، وكما قال غيره في قوله عز وجل: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]، وقال جل وعلا: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52]. هكذا أيضاً ينبغي أن ندرك أن حظ هذه الحياة الدنيا إنما يدرك بالطاعة والإيمان، فنسأل الله عز وجل أن يعطينا أعطيات الإيمان، وأن يفتح لنا أبواب العطاء من خلال الطاعة، ومن خلال العبودية والإخلاص لله سبحانه وتعالى. اللهم إنا نسألك أن تفتح لنا أبواب الخير والرزق، وأن تجعل قلوبنا بالإيمان مطمئنة، وأن تجعل صدورنا بالإسلام منشرحة، وأن تجعل نفوسنا بما أعطيتنا راضية طامعة. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

من السعادة شكر النعمة والصبر على المصيبة

من السعادة شكر النعمة والصبر على المصيبة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى أن يكون الإنسان متصلاً بالله سبحانه وتعالى، مبتغياً رضاه، داعياً إلى الطاعة والعبودية، مبتعداً عن كل ما يسخط الله سبحانه وتعالى حتى يمن الله جل وعلا عليه بطمأنينة قلبه، وسكينة نفسه، وانشراح صدره، وهدوء باله، وبلوغ أمانيه ومآربه في مرضاة الله سبحانه وتعالى. ومن السعادة ما هو متعلق بتفريج الهموم، وتنفيس الكروب، وما هو متعلق بدفع ما يقضي الله عز وجل من أمور الحياة من مصائب أو متاعب، والمؤمن في هذا متميز بأن عنده من إيمانه ويقينه بقضاء الله وقدره، ورضاه بما يكتبه الله سبحانه وتعالى عليه؛ ما يجعل المصائب تتحول عنده بإذن الله عز وجل إلى أمور يحمد الله عز وجل عليها، ويحتسب أجرها عند الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن)، المؤمن المتعلق بالله لا تكون عنده هذه العوارض أمراً مغيراً بصلته بالله، أو أمراً يجعله يعترض على قضاء الله وقدره، أو على ما قسمه الله عز وجل له من رزقه، بل يسعد بذلك ويطمئن به، ويرد الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ويحمد الله على قضائه وقدره، ويضاعف له الأجر والمثوبة. والأحاديث في ذلك كثيرة لمن فقد بصره، أو فقد ولده ثم صبر واحتسب ورضي وحمد، فإن له من الأجر عند الله عز وجل ما الله سبحانه وتعالى به عليم. فهكذا نجد السعادة الإيمانية تدفع العوارض الدنيوية التي يقضيها الله عز وجل، فتنقلب بإذن الله إلى مزيدٍ من ترسيخ الأقدام على طريق الإسلام، وإلى مزيدٍ من ترسيخ اليقين والإيمان في القلوب، وإلى مزيدٍ من الثقة بوعد الله سبحانه وتعالى كما كان من شأن الرسل والأنبياء، وكما قال الله عز وجل في شأن نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40]. عندما تحل بك المصيبة تجد من برد اليقين، ومن رضاك بقضاء الله وقدره، ومن ثقتك بوعد الله عز وجل، ومن احتسابك الأجر؛ ما يبدد أثر هذه المصائب وما يرفع همومها وغمومها، وما يجعلك بإذن الله عز وجل تنطلق إلى مرضاة الله عز وجل بعزمٍ أقوى وأشد، وبهمة أعلى وأرفع، وهذا لا يكون لأحدٍ إلا للمؤمن. ثم انظر إلى السعادة حتى آخر لحظةٍ من لحظات الحياة، عندما يأتي الموت الذي تكرهه النفوس بطبيعتها وتنفر منه، ومع ذلك يأتيك من أثر الإيمان ما أنت في أشد الحاجة إليه، وما أنت في أعظم لحظات السعادة التي يحزن فيها الآخرون عليك وأنت تنظر تثبيت الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، هذا التثبيت هو تلقين الحجة وما يفتحه الله عز وجل لك من أبواب جنانه، فإذا بك ترى أهل الإيمان وأهل الطاعة قد أشرقت أسارير وجوههم عند الاحتضار، وقد رنت أبصارهم إلى ما وراء الحجب والأستار مما جعله الله عز وجل لهم من النعيم في الجنان، وإذا بك ترى ذلك الصحابي الذي يندق الرمح في صدره وينفذ من ظهره، فإذا به يبتسم ويقول: (الله أكبر فزت ورب الكعبة!) انظر إلى السعادة التي يستأنف بها العبد المؤمن الحياة الحقة بعد الحياة الدنيوية، وانظر إلى السعادة التي يراها المؤمن لأنه يرى فضل الله عز وجل ينتظره، ويحسن الظن بربه وخالقه ومولاه سبحانه وتعالى، وانظر في مقابل ذلك إلى أهل الشقاء والكفر والمعصية كيف تظلم وجوههم، وتتلعثم ألسنتهم، وكيف يعظم خوفهم وهلعهم في تلك اللحظات؛ نسأل الله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت، وأن يهون علينا سكرات الموت. فانظر إلى سعادة الإيمان كيف تنفذ حتى إلى هذه اللحظات الحرجة، وانظر إلى ما وراء ذلك من وعد الله بنعيمه المقيم بالأجر والثواب العميم! {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران:169]، شهادةٌ قرآنية بحياة نعيم أبدية عند الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] هذه أعطيات سعادة الإيمان، هذه سعادة الحياة الدنيا، وسعادة مفارقتها، وسعادة ما بعدها في الحياة الأخرى، قد حبانا الله عز وجل إياها بنعمة الإسلام، وأكرمنا بها بنعمة الإيمان، وبسط لنا طريقها وأنارها لنا بالقرآن والسنة، وقد وجدنا لذتها، وجربناها فيما يفتح الله عز وجل به علينا من الطاعة، وقد كان لنا فيها موسم عظيم في رمضان فلم نحرم أنفسنا من هذه السعادة، ولم نشق أنفسنا بالبحث عن أمور السعادة في غير بابها. تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس كيف تسلك طريقاً لا يوصل إلى الغاية، والطريق قد نصبها الله عز وجل، ودعا إليها رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وظهرت لنا نتائجه وثماره، فالله الله في طاعة الله، والله الله في الإخلاص وصدق الإيمان بالله، والله الله في عظمة التوكل والثقة بالله، والله الله في الطاعات والقربات والإقبال على الخيرات، والمنافسة والمسارعة إلى الطاعات؛ حتى نجد أثر ذلك سعادة في قلوبنا، وانشراح صدرونا، وسكينة نفوسنا، وحتى نجد بركة في رزقنا، وحتى نجده إن شاء الله نجابة وذكاءً وبراً في أبنائنا، وحتى نجده تيسيراً وتسهيلاً وتوفيقاً في أعمالنا: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده فهذا خبر الله عز وجل ساقه إلينا، وجعله بين أيدينا، فينبغي ألا نحرم أنفسنا، وألا نظلم قلوبنا، وألا نضيق صدورنا، وألا نفوت هذا الخير العظيم. فالله أسأل أن يجعل من الإيمان في قلوبنا أمناً ونوراً، وأن يشرح صدورنا بالإسلام، وأن ينور قلوبنا بالإيمان، وأن يهدي بصائرنا بالقرآن. اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا هداة مهتدين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم ثبت أقدامنا، وأحسن ختامنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم مكن في هذه الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الفسق والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم زد إيمانهم، وعظم يقينهم، وفرج كربهم، ونفس همهم، وعجل نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم ارزقهم بطانة صالحةً تدلهم على الخير وتحثهم عليه، وتنهاهم عن الشر وتمنعهم منه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

خسائر الفوز

خسائر الفوز لقد استطاع أعداء الإسلام بغزوهم الفكري أن يفسدوا أخلاق كثير من شباب وشابات المسلمين، وذلك عبر الإعلام الهابط والمنحرف، والذي يتقبله كثير من أبناء المسلمين ويقلدونه، بل وينظرون إليه نظرة إجلال وإكبار، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فيجب على جميع المسلمين الحذر والتحذير من مغبة فساد الأخلاق جراء هذا الإعلام المنحل.

انعكاس الموازين والمفاهيم في هذه الأزمنة

انعكاس الموازين والمفاهيم في هذه الأزمنة الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وثبت في كل شيء مشيئته، ووسعت كل شيء رحمته، وأحاط بكل شيء علماً، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديث اليوم موضوعه: (خسائر الفوز)، ولعلنا لأول وهلة نتعجب! وحقيق بنا أن نتعجب؛ إذ الفوز له أرباح، والنجاح فيه منافع، والتقدم يحقق المكاسب، فكيف نصف فوزاً بأنه خسارة، بل خسائر متجمعة؟! ولعل مثل هذا الفهم يعود إلى قصور في الاستيعاب، أو إلى تحجر في الفكر يكون صاحبه -كما يقولون- رجعياً متخلفاً، لا يعيش عصره، ولا يعرف واقعه، ولا يرتقي للمستوى الحضاري الذي تعيشه أمم اليوم؛ ولذلك قد تختلف الرؤى في مثل هذا الأمر، ويكون هناك من يوافق ومن يخالف، ولذا أمضي بكم إلى هذا الفوز أولاً لنعرف ما هو، ثم نستمع من بعد إلى وجهة النظر المخالفة المغايرة أو الموافقة المواتية. وأردت بهذه المقدمة أن أشغل عقولكم، وأعلق قلوبكم؛ حتى ترتقبوا هذا الفوز وتنتظروه، ولئلا أكون المتحدث إليكم رأيت أن أنقل لكم أخبار هذا الفوز كما صاغتها اليد الإعلامية، ولسان البيان الصحفي أو الإذاعي: حقق مواطن سعودي الحلم، وفاز بلقب (ستار أكاديمي) البرنامج الأشهر عربياً، بعد كسبه لجولات البرنامج رغم الصعوبات، وقد عم الفرح السعوديين وهم يتابعون ابنهم وهو ينجح بكل تفوق، حيث تحول اهتمامهم نحو البرنامج بشكل غير مسبوق، وكان الحديث عن نتائج التصويت هو الشغل الشاغل!! ويقارن الخبر الإعلامي بين التفريط والتقصير في اغتنام هذا الفوز وبين المتسابقة الأخرى التي -كما يقول الخبر- سُخرت لها عدة شركات اتصال في بلادها، وحظيت باهتمام على أكبر المستويات، بينما منعت شركة الاتصالات السعودية التصويت عبر شركتها. ويضيف الخبر معلومة عن وصول البطل الذي سيحظى باستقبال كبير، خصوصاً بعد ظهوره المحترم والراقي في الأكاديمية!! ثم نمضي كذلك لنرى بعض صور هذا الفوز؛ لا من قولنا، بل مما ورد في وسائل الإعلام المختلفة التي تقول: إن الصورة التي قدمها الفائز عن شباب بلده من خلال اجتهاده ومثابرته للصمود في وجه المنافسة، وتحقيق النجاح بالفوز بالمركز الأول وكذلك يقول أحدهم في نقل صحفي عن الفائز: إنه مثل شبابنا السعودي خير تمثيل، وأظهر قيمنا وشخصيتنا بشكل جيد! ويضيف ثانٍ: إنه أظهر التأقلم والانفتاح لشعبنا!

حكم الإسلام في البرامج الهابطة

حكم الإسلام في البرامج الهابطة ولست أمضي أكثر من ذلك، وأظنكم تشاركونني معرفة هذا الفوز، وربما سمعتم عنه، وعلمتم من خبره أكثر مما أعلم، ونحن اليوم في هذه الوقفة لا نريد أن نتحدث باللسان الشرعي الذي يفصح عن الآيات والأحاديث أو يعرج على الأحكام والأوصاف؛ فذلك ما لا يقبله بعض أولئك الذين لم يعد يعنيهم أن يكون الأمر فيه قرآن أو سنة؛ ولذلك لن أقف أمامكم لأتحدث عن الغناء أو حكمه، أو أقف عند قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] وما نقله ابن كثير وغيره من المفسرين عن ابن مسعود بسند صحيح أنه قال: (هو الغناء). وفي رواية أنه قال: (هو والله! الغناء). وفي رواية ثالثة قال: (هو الغناء، والذي لا إله إلا هو! ورددها ثلاثاً). قال ابن كثير: وبهذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة رحمهم الله جميعاً. ولن أقف معكم لأنقل قول القرطبي في تفسيره وهو يقول: الغناء المعتاد عن المشتهرين به الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان فيه شعر يشبب بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات لا يُختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. ولن أقف كذلك عند قوله: إن الاشتغال بالغناء على الدوام سفه تُرد به الشهادة، فإن لم يدم لم تُرد. وما نقله عن إسحاق بن عيسى الطباع، قال: سألت مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. ولست كذلك معنياً أن أفيض في هذا لأنقل ما نقله ابن عطية في تفسيره بقوله: فكأن ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها على حد قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]. وما نقله عن مطرف أنه قال: شراء لهو الحديث استحبابه. ونقل عن قتادة قوله: ولعله لا ينفق فيه مالاً، ولكن سماعه هو شراؤه. وأعلم أن كثيرين يقولون بأن الغناء مختلف فيه. فلنسلم ولا نجادل! ولنقل بما قد يقول من أحل وأباح ذلك. لننتقل إلى أمر آخر، فهل هناك من يفتي أو يقول بقول شاذ أو غير شاذ بأن المرأة إذا ظهرت كاشفة عن سحرها ونحرها وذراعها وهي ترقص وتختلط بالرجال أن في هذا قولاً بجواز أو إباحة؟! وليس ذلك فحسب؛ هل هناك من يقول: إن في التأنث والغنج والترقص -فضلاً عن المعانقة والتقبيل بين الجنسين- أقوالاً لبعض أهل العلم أو بعض أهل الجهل بالإباحة؟! لو كان مثل ذلك عند أحد لقلنا: هذا أيضاً مما يختلف فيه. ولن أنتقل بكم إلى خسائر من نوع آخر، فإن ما قد يقال من أقوال أهل العلم أو النصوص قد يكون عند بعض الناس اليوم غير ذي بال وللأسف الشديد!

الأموال الطائلة التي تنفق على البرامج الهابطة

الأموال الطائلة التي تنفق على البرامج الهابطة أنتقل إلى أمر آخر، وأدعو الجميع أن يشاركوا في التفكير والبحث والترجيح في كون هذا الأمر مكسباً أو خسارة. إن ثمانين مليون تصويت تكلف من الناحية المالية ما يقرب من عشرين مليون ريال على أقل تقدير! فاسألوا الآن: عندما دفعت ما الذي جاءنا؟ وما الذي كسبناه؟ وما الذي دخل جيوبنا؟ وهل حلت به بعض مشاكل البطالة لشبابنا؟ وهل فتحت به بعض دور التعليم التي تغلق في وجوه أبنائنا وبناتنا؟ وهل استطاع به بعض الشباب الذي تجاوز الثلاثين أن يجد إعانة على زواجه من مثل هذه الأموال؟ وهل سخرت مثل هذه الأموال لعلاج مشكلة الفقراء ورعاية الأرامل أو كفالة الأيتام في داخل بلادنا قبل خارجها؟ وهل سخرت مثل هذه الأموال أو يمكن أن تسخر لتكون عوناً لإخواننا في أرض فلسطين أو غيرها؟!! وأظن أن كثيرين سيقولون: إن هذا لا يمكن أن يكون مقابله مساوياً له إن رأينا في ذلك مقابلاً نافعاً. والمستفيدون منه -على افتراض أن هناك مستفيدين- لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة أو اليدين، فماذا خسر الذين فعلوا ذلك وأهدروا تلك الأموال؟! علماً بأن هذه الاتصالات تتم عن طريق خارج البلاد مما يجعلها أكثر كلفة، وأين نحن حينئذ من قول الله جل وعلا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]؟ وأين نحن كذلك من التخوف في أن يصدق فينا هذا الوصف المذكور في قوله جل وعلا: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27]؟ إن أحداً لا يريد أن يكون مندفعاً، ولا أن يصف أحداً بشيء من التهم، إلا أننا نتحدث اليوم بمنطق العقل إلا أن تكون عقولنا قد خربت، وصرنا في صفوف الأغبياء أو المجانين؛ بحيث أصبحنا نهرف بما لا نعرف، ولو أن أحداً يعلم فليخبرنا بما عنده من العلم والاقتصاد والخبرة والتجربة، وليبين لنا أن هذه المبالغ التي دفعت سوف نجنيها أرباحاً مضاعفة وخيراً عظيماً يعود على مجتمعنا كله، وحينئذ قد يغض من يغض الطرف عن حلال أو حرام، لكننا نقول: دعوا الحلال والحرام جانباً، وأقنعونا بالمادة والأرقام: أين تذهب هذه الأموال؟!

الأوقات الطويلة التي تهدر في متابعة البرامج الغنائية

الأوقات الطويلة التي تهدر في متابعة البرامج الغنائية أنتقل بكم إلى صورة أخرى لعلي بتفكيري القاصر وبتحجري الذي قد يوافقني فيه بعضكم أعد هذا الأمر أخطر من الأول وأفدح خسارة: أسألكم عن الأوقات المهدرة التي تعد بملايين الساعات من الذين تابعوا باستمرار أو بتقطع هذا البرنامج، وأنفقوا فيه تلك الأوقات في أعداد الله أعلم بها، وعلى مدى أربعة أشهر فيها نحو من عشرين ومائة يوم، فكم من الساعات المهدرة في هذا البرنامج؟! أريد أن أرى قيمتها، وأريد أن أرى نتيجتها، وأريد أن أراها علماً رسخ في العقول، أو خلقاً ظهر في السلوك، أو همة ظهرت في النفوس، أو حسناً ظهر في العلاقات، أريد أن أرى قيمة هذا الوقت المهدر من شبابنا وشاباتنا أين مصيره؟ هل مصيره إلى هذا اللهو العابث، والفراغ القاتل، والدرك الدنيء الذي لا يبعث همة ولا يوقظ عقلاً، ولا يحيي قلباً، ولا ينتج في آخر الأمر نفعاً أو فائدة؟! ولو أردت أن أحسب ذلك لرجعت بكم إلى أمور يذكرها أهل العلم في الاقتصاد عندما يقيسون المال بالأوقات، وتأتينا الإحصاءات لتقول لنا: إن معدل إنتاجية العامل الياباني قد تصل إلى نحو أربعة أضعاف العامل الأوروبي أو الأمريكي، وأما المقارنة بمن هم في عالمنا الثالث فتلك مسألة أخرى! وفي إحصائية علمية أجريت على بلد عربي كبير درست الوقت المستثمر من أوقات الثماني الساعات في العمل اليومي في القطاع الحكومي، فلم تزد في أقصى درجاتها عن (37%) من ذلك الوقت! فأين نحن من هذه الأرباح العظيمة التي جنيناها فيما سمعناه من هذه الأخبار: الفوز الحلم الذي تحقق التفوق الصعوبات الصمود والتصدي فأين نحن من هذه الحقائق؟! وأين نحن من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)، الوقت الممتد الأيام والليالي الشهور والأعوام! وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين)، وفي حديث معاذ عند الترمذي وغيره من أصحاب السنن عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه)، فسؤالان خاصان بالعمر والوقت، وبزهرة العمر في مرحلة الشباب، فأين تهدر؟ هل تهدر على مذابح القنوات، وعلى المشاهد الفارغة إن لم نقل: العابثة أو المفسدة؟! وخذوا هذا؛ فإني أجعل قيمته -لو حسبناها بالحساب المالي- أضعافاً مضاعفة عن قيمة الأموال التي تصرف في تلك الاتصالات أو في غيرها.

انشغال أبناء المسلمين بالبرامج الهابطة عن دراستهم وامتحاناتهم

انشغال أبناء المسلمين بالبرامج الهابطة عن دراستهم وامتحاناتهم وهناك مسألة ثالثة وخسارة عظيمة وهي: خسارة الجدية والاهتمام عند شبابنا. لقد ذكرت الأخبار التي روجت لهذا الحديث في سطور قليلة كلاماً مهماً، جاء فيه: نجح البرنامج في إشغال المراهقين عن مدارسهم ودروسهم؛ حيث توافق التصويت في حلقاته الأخيرة مع توقيت الاختبارات النصفية في المدارس! فكيف سيذهب أبناؤنا على مقاعد الدراسة في وقت الاختبار؟! وهل سيسألون عن أسماء المشاركين في البرنامج؟ وهل سيسألون عن التعليم الذي تعلمه أولئك المشاركون في ذلك البرنامج؟ وما هي الأمور التي ستصبح من بعد موضع اهتمامهم؟ هل سيبحثون عن المتفوقين والنابغين من زملائهم؟ وهل سيكون طموحهم أن يكون أحدهم عالماً في مجال من المجالات العلمية لينفع الأمة، أو مخترعاً في مجالات التقنية ليقدم شيئاً لها؟ أم أنهم سيختزلون المجد والاهتمام فيما يركز عليه الإعلام في رنة نغم أو جرة قلم أو ركلة قدم؟! تلك هي الأمنيات، وتلك هي القمم العالية السامقة، وتلك هي الذرى البعيدة التي يراد أن يرتبط بها شبابنا وشاباتنا؛ ليكون أملهم هو في هذه المجالات.

مقارنة بين أحوال المسلمين وأحوال غيرهم في الجانب الدنيوي

مقارنة بين أحوال المسلمين وأحوال غيرهم في الجانب الدنيوي وقد يقول قائل -وقد قالوا ذلك كثيراً-: ما بالكم تنعون علينا ذلك؛ ولو نظرتم إلى الأمم التي تتحدثون عنها في أمريكا وفي أوروبا وفي اليابان لوجدتم أن لديهم عناية بالغناء والفنون والرقص وغير ذلك؟! وأقول: بئست المقارنة! لأن القوم قد فرغوا من المهمات، فعلومهم مطردة متنامية، وصناعاتهم متفوقة متزايدة، واقتصادياتهم متضخمة متوالية، ولا عليهم أن ينشغلوا بمثل ذلك، لكن نظمهم وإعلامهم ومؤسساتهم تعطي للعلم أضعاف أضعاف أضعاف ما تعطي للفن. وللأسف الشديد؛ فقد أعلن قبل فترة عن تقييم لأفضل خمسمائة جامعة في العالم، فلم يدخل في هذا التصنيف أي جامعة في بلد عربي أو مسلم! ودخل في هذا التصنيف سبع جامعات من الكيان الصهيوني الغاصب في أرض فلسطين، وعندما يقارن الإنفاق في البحث العلمي في ذلك الكيان الغاصب فإنه يكون نحو ثلاثة أو أربعة أضعاف ما ينفق على البحث العلمي في الدول العربية قاطبة! فاثنتان وعشرون دولة لا تنفق إلا نحو ثلث أو ربع ما يُنفق هنالك! فما على أولئك القوم من بعد أن يغنوا، وأن يرقصوا، وأن يفعلوا ما يريدون؛ لأن لديهم أموراً كثيرة. وقد وقفت بنفسي على جامعة واحدة فيها كلية طب واحدة ومستشفى واحد عريق في بلد كبير غربي، ينفق على أبحاث الطب فحسب في هذه الكلية وحدها أربعة آلاف مليون دولار! وهي جامعة واحدة! فما على أولئك إن أنفقوا مثل هذا أو دونه في غير ذلك من الأمور!

اغتيال البرامج الهابطة للحياء

اغتيال البرامج الهابطة للحياء وهناك خسارة فادحة عظيمة، أحسب لو أن لدينا عقولاً مفكرة، ونفوساً حية لعدت هذه الخسارة كارثة كبرى! إنها خسارة مرتبطة بتاريخ البشرية، إنها خسارة مرتبطة بالرسالات السماوية، إنها خسارة مرتبطة بالمفاهيم النبوية؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)، أليس هنا اغتيال للحياء؟ فكيف يرضى لا أقول: مؤمن مسلم؛ بل بشر حي ذو نخوة وشهامة أن يبقى جمع من الشباب أو الشابات على مدى أربع وعشرين ساعة لمدة أربعة أشهر تحت مراقبة الكاميرا؛ تنقل كلامهم وطعامهم وشرابهم ومنامهم ولهوهم ومزاحهم؟!! أي شيء بقي لآيات القرآن ولأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأي شيء بقي للأسرة: للأب والأم مع أبنائهم وبناتهم وهم يشاهدون ذلك، وقد يجتمعون عليه؟! وهل هناك أحد يطأطئ رأسه خجلاً، أو يغض بصره حياءً، أو يصم سمعه لئلا يسمع ذلك العهر والفجور والغنج والدلال؟ أم أن ذلك يتشرب إلى الآذان والأنظار والعقول والقلوب، وإلى أجواء الأسر، وإلى بيئة المجتمع، وإلى التصويت الكبير، وإلى الاحتفالات الكبيرة لئلا يبقى في النفوس أثر من حياء، ولا بقية من شهامة ونخوة وشعور بأمر تأباه النفوس الحية فضلاً عن المؤمنة؟! وأقول: كل خسارة من هذه في نظري القاصر وفكري المتحجر الذي قد يشاركني فيه بعضكم أحسبها من الخسارة القومية الكبرى!

دور الإعلام في انتكاس الموازين واختلال المفاهيم عند كثير من الناس

دور الإعلام في انتكاس الموازين واختلال المفاهيم عند كثير من الناس وأزيدكم في ذلك خسائر أكثر وأكبر، ومن هذه الخسائر: انتكاس الموازين، واختلال المفاهيم. وتلك قضية كبرى من القضايا التي يمارسها الإعلام المنحرف في بعض تلك الفضائيات، ليس مجرد تطبيع المنكر، والرضا به، والتأقلم معه، وعدم إنكاره، وعدم الحياء منه؛ كلا! فتلك مرحلة قد مضت، وذلك إدمان قد سرى وجرى؛ لكن الأمر اليوم هو أن نلبس ذلك المنكر لباس المعروف، وأن نعطيه صفة المشروع، وأن نجمع بينه وبين أمور مهمة عظيمة؛ ففي الوقت الذي يكون فيه هذا الاختلاط، وهذا العناق، وتلك الخلوات، وتلك الكلمات نجد أباً يتصل -كما تابعت في بعض الأخبار- على الهواء مباشرة في ذلك البرنامج، ويوصي ابنته بالمحافظة على الصلاة! وكأن المحافظة على الصلاة أمر لا يتعارض ولا يختلف مع كونها ترقص وتغني وتكشف عن يديها وذراعيها وساقيها، وتحتضن هذا أو تقبل ذاك!! ليكون لنا إسلام حديث، ومفاهيم مرنة وواسعة! لقد ضيقتم الواسع أيها المتزمتون! إن عقولكم المتحجرة لم تستوعب بعد حضارة الإسلام الذي يمكن أن يصلي هنا، وأن يشرب الخمر بعد التسليمة الثانية هنا! ويمكن أن يسجد أو يقرأ القرآن هنا ثم يتلو من الغناء ما فيه الفسق والفجور المضاد لآيات الله عز وجل!! إنها قضية خطيرة! ومع ذلك شهادة التوحيد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ترفع في تلك المواطن للدلالة على النصر أو الفخر!! عجباً لمثل هذا كيف يفوت الناس أن يدركوا أنه خطر عظيم وشر كبير وبلاء مستطير؟! إن الناس اليوم بدءوا يتأثرون بذلك، فلا على أحدهم أن يصلي من هنا، وأن يقارف ما لا شبهة في حرمته من هناك، وأن يجمع بين هذا وذاك، ولا يرى شيئاً من غضاضة! ونجد مثل هذا -وللأسف الشديد- كثيراً. إن قضية مفهوم الدين في سموه الخلقي وفي صياغته للشخصية الإسلامية لا يقتصر على أن يؤدي فريضة من الفرائض وحدها، إن ذلك ينعكس -كما أشرنا سابقاً- بأن الإيمان يصبغ صبغة تنعكس في الجدية والاهتمام والخلق والسلوك والأمانة والترفع عن المحرمات، إن صياغة الإسلام والإيمان صياغة متكاملة لا تقبل هذا التشويه والتشوه. إن مثل هذه الصورة أشبه بالمولود الذي يخلق ناقصاً، ولا ترى فيه سمتاً ولا صورة الخلق الكامل للإنسان السوي. إنه تشويه حقيقي عندما يكون القائم به مسلماً عربياً، ثم يظهر ذلك ويبينه، ويخبر بأنه قد قام بالدعوة إلى الله، وأثَّر في غيره بأن ذكره بالله، وكأن التذكير بالله لا يتعارض مع شيء من ذلك كله!!

الهدف الحقيقي من البرامج الهابطة

الهدف الحقيقي من البرامج الهابطة لعلي أشير إلى أمر ما كان يخطر على بالي أنه من الخسائر، إلا أن المتابعين لهذه القنوات وتلك البرامج ذكروه وبينوه، وأحسب أنكم معاشر من قد توصفون بتلك العقلية المتحجرة! لا تدركون مثل هذا: في تسويق وفي استفتاء على البرنامج جاءت معلومتان وقضيتان مهمتان: الأولى: كان الاستفتاء: ما هو الهدف الأساسي من البرنامج؟ فكان إجماع المشاركين في التصويت أنها أهداف مادية بحتة، حتى ليس منها الارتقاء بالذوق الفني، وليس منها تأهيل الكوادر الشبابية لنقدمها للعالم في مجال الغناء والفن، وليس منها خلق أجواء حميمة بين الشباب والشابات، كل ذلك يتراجع إلى الوراء؛ ليظهر السبب الذي أجمع عليه المشاركون في هذا التصويت، وهو أنها أسباب مادية، وسرقة للفلوس وللأموال، واحتيال عليها بتسويق الشهوات والغرائز والملذات. ولكن نقول: من الذي يأخذ هذه الأموال؟ ولماذا نعطيه إياها ونحن بكامل عقولنا وبكامل إراداتنا؟! إننا في حقيقة الأمر بعد أن ندفع هذه الأموال ثم نأتي ونجيب على هذا السؤال ونقول: إن الهدف هو هدف مادي، فلا شك أن المجيبين بهذا يصفون أنفسهم ويحكمون عليها بأنهم أغبياء حمقى، أو أنهم مسرفون من أهل البطر الذي يرمون أو يقذفون بأموالهم من غير فائدة، فكيف إذا كانت تلك ترتد عليهم؟! وأما القضية الثانية لو قلت أنا أو أنتم: إن الهدف مادي بحت لوجدنا قائمة طويلة من مثل تلك المقالات التي قلتها عن الرقي الفني، والتأهيل الشبابي وغير ذلك من الأمور، لكن الذي قالها هم المشاركون المتابعون المصوتون في هذه البرامج. ثم أضافوا لنا شيئاً مهماً: بأنه مما يقال من أرباح هذا الفوز: تقوية الروح الوطنية. أي: أننا لا وطنية عندنا، ولا نحب بلادنا، ولا نغار عليها، ولا نبذل الجهد والعرق لخيرها ولنفعها، ولا نبذل الروح للدفاع عنها، فلابد لنا من شيء يحرك هذه المشاعر الميتة في نفوسنا، الغائبة عن عقولنا، فلتكن كلها باتجاه الفن والرقص حتى تلتهب المشاعر الوطنية، ونستطيع أن نتماسك ونتلاحم، وأن نؤدي الدور الرائد في رفعة سمعة بلادنا، وفي الذود عنها إذا هاجمها الأعداء كما ينبغي أن يكون الأمر!! حتى كان من التهكم في هذا الباب ما لا أستطيع قوله؛ لكن النتيجة الأخرى التي قالها أولئك أنهم قالوا: إن البرنامج أسهم في الفرقة، واستطاع البرنامج أن يفرق بين دول الوطن العربي! وقد عبر عنه بعضهم: أنه عبارة عن حرب الخليج؛ لأن أهل كل بلد يسبون البلد الآخر، ويسبون مشاركه، ويمتدحون من يرون أنه ممثلهم، وأصبحنا على كل الأحوال -بحمد الله- عرباً متفرقين بدرجة امتياز في كل ميدان ومجال، واتفقوا -كما قيل- على ألا يتفقوا حتى في مثل هذه المهازل! إنني أكتفي بهذا القدر؛ لأنني لو استرسلت كثيراً أو أكثر من ذلك لكان الحكم علي قاطع وجازم بأن عقلي قد تجاوز كل الحدود المعقولة والمقبولة. أسأل الله عز وجل أن يرد إلينا عقولنا، وأن يحفظ علينا إيماننا، وأن يحفظ علينا أخلاقنا وحياءنا، وأن يحفظ شبابنا وشاباتنا، وأن يصرف عنا أهل الفسق والفجور، وأن يحفظنا بحفظه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

تقليد كثير من المسلمين لأعداء الإسلام

تقليد كثير من المسلمين لأعداء الإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن مثل هذه البرامج وما فيها وما حولها هي من أعظم ما يغتال التقوى، ويئد الحياء، ويضعف الأخلاق، ويزعزع الإيمان، ويمسخ الشخصية المسلمة. ولعلي هنا أختم بأمر مهم، وهو: أن ذلك كله إنما هو صورة للتقليد الأعمى، والانهزامية الكبرى؛ إذ كل هذه البرامج في مجملها لم تكن من بنات عقول أحد من أبنائنا أو إعلاميينا، وإنما هي نسخ منسوخة كما هي، فقد أجروا عقولهم، وتركوا ما صموا به آذاننا صباح مساء من الإبداع، لينتهي الأمر إلى أن نكون أهل قص ولصق أهل نسخ ونقل أهل توقف عن تفكير، حتى في السوء والشر والفساد ننقله كما هو؛ لأن أصحابه قد بلغوا فيه مبلغاً! فحتى في الفساد لم نكن منتجين، إنه أمر عجيب! لا أدعو فيه إلى أن ننتج الفساد؛ ولكن أريد أن أصور المسخ لأولئك الذين يتصدرون في وسائل الإعلام، ويقولون لنا ما يقولون من ضرورة النهضة بالأمة، والرعاية لشبابها وغير ذلك، ثم يكون قصارى جهدهم أن يأتونا بهذا المسخ المشوه الهزيل الرديء؛ ليقولوا لنا: إنه الذي سيفجر الطاقات، ويفعل الأفاعيل!

الواجب تجاه برنامج ستار أكاديمي

الواجب تجاه برنامج ستار أكاديمي وأمر أخير: لو أن القضية قضية تعلم للفن فهناك أكاديميات وكليات موجودة في العالم العربي يدخلها المئات، ويدرسون السنوات، ويختبرون، ويقدمون المشاريع، ويتخرجون، فلماذا نحتاج إلى مثل هذا لنخرج واحداً أو عشرة وعندنا المئات يدرسون في هذه الكليات، ويتخرجون وهم مخرجون وفنانون وملحنون؟! فأضيفوا أولئك إلى تلك المعاهد وأريحونا لو كان لكم قصد في مزيد من هذا التأهيل النافع المفيد بحسب قولكم! إن القضية التي أريد أن أقف عندها هي: أن خسائرنا تتوالى، وأننا في معظم أحوالنا ومواقفنا نقف موقف المتفرج، فالخسائر تتوالى ونحن نتفرج، وتزداد ونحن نتفرج، وتتعاظم ونحن نتفرج، وتتكرر ونحن نتفرج، ولن أجيب أحداً على سؤاله: ماذا تريد منا أن نعمل؟ لأنني أعتقد جازماً أننا مسئولون جميعاً، وأن في عنق كل منا أمانة، وأن كل أحد عنده غيرة وعزم يستطيع أن يفعل شيئاً، ويستطيع أن يقول كلمة، وأن يوصل رسالة، وأن يقاطع برنامجاً، فمن الذي يصوت؟ ومن الذي يشاهد؟ ومن الذي يشتري؟ إنهم مجموعة من بيننا؛ من ذلك الأب أو تلك الأم أو ذلك الأخ أو تلك الأخت، أو أولئك الأبناء والبنات، فلم يأتوا لنا من المريخ، ولم يهبطوا علينا من كوكب آخر، بل هم من مجتمعنا، فأين نحن منهم؟! أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا أمننا وإيماننا، وسلمنا وإسلامنا، وأخلاقنا وسلوكنا، وأن يجعلها مستقيمة على أمره. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، واصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك كما حسنت خلقنا فحسن أخلاقنا، واهدنا لأحسن الأخلاق؛ فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف اللهم عنا سيئ الأخلاق وأرذلها؛ فإنه لا يصرفها عنا إلا أنت. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين! اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، ورد اللهم كيده في نحره، وأشغله بنفسه. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم واجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم أحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى عباد الله الصالحين. والحمد لله رب العالمين.

الصيف ضيعت اللبن

الصيف ضيعت اللبن الوقت رأس مال المسلم، وليس للمسلم راحة إلا في الجنة، لذا كان لزاماً عليه أن يستغل كل دقيقة وكل ثانية من عمره فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة؛ فإنه مسئول بين يدي الله عز وجل عن عمره وشبابه، فليعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، ومن أعظم الأوقات التي ينبغي ألا تضيع من عمر المسلم: الإجازة الصيفية، فهناك كثير من الأعمال والفرص التي يستطيع المسلم الاستفادة منها في هذه الإجازة.

سبب قول المثل: الصيف ضيعت اللبن

سبب قول المثل: الصيف ضيعت اللبن الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! (الصيف ضيعت اللبن) مثل عربي شهير، يُضرب فيمن ضيع الفرصة، وفوت الغنيمة، وترك المجال الرحب الواسع، ولم يكن له من ذكاء عقله ومن شرف نفسه ومن قوة عمله ما يجعله محصلاً لمكاسب دنياه ومدخراً لمآثر أخراه. هذا المثل يُضرب لامرأة تزوجت رجلاً شهماً كريماً، فكان يغدق عليها طعاماً وشراباً ولبناً سائغاً للشاربين، مع حسن معاملة وإجلال وإكرام، لكنها لم تقابل ذلك باعترافها بالنعمة، وشكرها لها، وانتفاعها منها، وحرصها عليها، بل قابلت ذلك بإعراض وتضييع، وبجحود وإنكار، فكانت العاقبة أن طلقها، ثم تزوجها غيره، فلم تجد عنده يداً مبسوطة بالكرم، ولا وجهاً مشرقاً بالسرور، ولا معاملة محفوفة بالإعزاز والإكرام، فتندمت وتحسرت على ما فات عليها، وما ضاع منها، لكنها لم تنح باللائمة على غيرها، وإنما خاطبت نفسها تذكرها تفريطها، وتبين لها سوء تدبيرها، فقالت: (الصيف ضيعت اللبن)، ومضى مثلاً لكل من أضاع الفرصة، وفرط في الغنيمة.

تعريف العطلة ومنهجية الإسلام فيها

تعريف العطلة ومنهجية الإسلام فيها وها نحن اليوم نبدأ موسم الصيف، وما أدراك ما موسم الصيف؟! وكم من ملايين الملايين من الأوقات التي تُحسب في خانة الفراغات، والتي تُصنف فيما يعرف بالعطلة! وهي اسم في لفظه ومعناه واشتقاقه اللغوي مأخوذ من العطالة والعطل، وهو: الخلو من الزينة في أصل اللغة. وهو هنا: خلو عن العمل الجاد، والانتفاع المثمر، والاستغلال الهادف للطاقات المختلفة المتنوعة كلها: من وقت ممتد، وعقل مفكر، وقوة وصحة، وعافية وفرص، وأبواب من الخير مشرقة. ثم قد ينتهي الزمان وينقضي الصيف بأيامه وأسابيعه وأشهره وسعته التي ليس فيها كثير من العمل المطلوب المكلف به، وحينئذ تعود مرة أخرى التسويفات: إذا جاء الصيف سأفعل، وإذا كانت الإجازة سأنجز، وإذا تخليت عن بعض الأعباء والمهمات سأفرغ لغيرها، ويمر الإنسان بذلك دون أن يدرك أن الذي يضيعه إنما هو جزء حقيقي مهم من عمره وحياته، وأنه يبدد من رصيده ويفني من كنوزه ما قد يكون أقل القليل منه موضع ندامة وحسرة شديدة وأكيدة وعظيمة في وقت لا ينفع فيه الندم. ولعلنا نذكر أمرين مهمين قبل حديثنا عن الصيف:

الفراغ فرصة للعمل

الفراغ فرصة للعمل الأمر الأول في المنهج الإسلامي: الفراغ فرصة للعمل: ويخطئ من يظن غير ذلك، أو يعتقد أن الفراغ فرصة للنوم والكسل، ولعلنا نكتفي بالآية التي نتلوها كثيراً ونسمعها في صلواتنا كثيراً، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]. وقبل أن أذكر ما ذكره المفسرون من الصحابة والتابعين وغيرهم ندرك جميعاً بمعرفتنا للغة العرب أن المعنى العام: إذا فرغت وانتهيت وصارت عندك فسحة من الوقت وشيء من الراحة فانصب، وكلنا يعلم أن النصب هو التعب، والمقصود به الجد والعمل الذي يجدد مرة أخرى الإنجاز، ويحقق الخير بإذنه سبحانه وتعالى. ولنستمع أيها الإخوة! إلى القلوب المؤمنة، والأفهام المسلمة، والنفوس الحية، والهمم العالية، كيف فسرت وكيف فقهت هذه الآيات من كتاب الله سبحانه وتعالى: عن ابن مسعود: رضي الله عنه قال: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وعن ابن عباس قال: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء. وأما الحسن وزيد بن أسلم فروي عنهما قولهما: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب إلى عبادة ربك. وعن مجاهد إمام التابعين من المفسرين قال: إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك. وعن الجنيد قال: إذا فرغت من أمر الخلق فانصب في عبادة الحق. فهل رأيتم في مجموع هذه الأقوال قولاً يقول: إذا فرغت فنم؟ أو إذا فرغت فاله والعب؟ أو إذا فرغت فضيع الأوقات، وانحر الساعات؟ هل سمعنا شيئاً من ذلك؟ والذي نقلته لكم نقلته من نحو ثمانية أو تسعة تفاسير من أمهات كتب التفسير، ولو رجعتم إلى عشرات أخرى غيرها فلن تظفروا إلا بمثل هذه المعاني الشريفة العظيمة التي ترجمها القاسمي المفسر المتأخر المعاصر، فإنه جعل لها إطاراً واسعاً ومعنىً شاملاً حين قال: إذا فرغت من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك فانصب إلى عمل وخذ في عمل آخر، واتعب فيه؛ فإن الراحة إنما تكون بعد التعب والنصب. هذا هو فقه الإيمان، وهذه دلالة القرآن، وهذه نفوس أسلافنا وأفكارهم وعقولهم، وهكذا ينبغي أن نفقه الأسس السليمة، لا أن نسمح للمفاهيم المغلوطة أن تروج، فمع آخر يوم من انتهاء الاختبارات تسمع الطلبة والطالبات وهم يتواعدون بالنوم الطويل، واللعب الكثير، والسهو واللهو والغفلة، ويرون ذلك هو الميدان الصحيح، وهو العمل المطلوب، ليس في يوم أو يومين بل في أشهر معدودات متواليات، وليس هم الذين يقولون ذلك، بل أسرهم وآباؤهم وأمهاتهم يوافقونهم في مثل هذا في الجملة! فهم يرون ألا يكلموهم، وألا يوقظوهم من نومهم وسباتهم، وألا يثربوا عليهم في لهوهم وفراغهم وغير ذلك، بل ليس هؤلاء فحسب، بل المجتمع في مجمله كأنما يقول لهم ذلك، وكأنما يؤكد لهم أن الرسالة المطلوبة هي مثل هذا اللغو واللهو والفراغ غير المجدي.

المسئولية في المنهج الإسلامي

المسئولية في المنهج الإسلامي وهناك قاعدة أخرى أيها الإخوة الأحبة! هي: المسئولية حقيقة كلية في المنهج الإسلامي، إذ ليست هناك مسئولية في زمان دون زمان، ولن يكون الحساب يوم القيامة على أيام الدراسة والعمل والقلم مرفوع عن أيام الإجازة أو العطل، فمن قال هذا أو توهمه فإنه لا شك على خطر عظيم. والمسئولية كذلك لا ترتفع عن مكان دون مكان، فليست هي في مكة المكرمة أو المدينة، فإذا كان في غيرها أو في خارج هذه البلاد أصبح الأمر أمراً آخر، وأصبح التصرف مختلفاً، وأصبح القول غير القول، وغير ذلك مما نعلم كثيراً منه، إنها قضية واضحة؛ قال عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وليست هناك حدود في الزمان أو المكان تخرج عن دائرة هذه المسئولية، قال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وكلمة (قول) منكرة ومنونة فتدل على العموم في سائر الأوقات، وفي سائر الأحوال، ففي الرضا والغضب أنت مسئول عن قولك، وفي العمل والإجازة أنت مسئول عن فعلك، وفي بلادك وفي خارجها أنت محاسب على أفعالك. والأمر في ذلك يطول، والفقه الإيماني يدعو إلى أن يكون المرء المؤمن عاقلاً، وأن يعمل مثلما يعمل التاجر، فالتجار في مواسمهم يشمرون عن ساعد الجد، ويفتقون العقول عن الأفكار والحيل والأساليب المناسبة لمزيد من الأرباح في هذه المواسم، وتجدهم يزيدون في الأوقات، ويغتنمون الفرص في الإقبال وإتاحة الإمكانات والطاقات، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك). فانظروا إلى الأوائل كلها ستجدون أنها متعلقة بالزمن، وكلها مربوطة بما يتيسر من هذا الزمان الممتد. وهنا نستحضر الحديث العظيم الذي رواه الإمام البخاري في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)، فامتداد في الزمن، وقوة في البدن، وتكاليف تنزلت بها الآيات، وشهدت بها ووجهت إليها الأحاديث، وأمة مهيضة الجناح، متأخرة عن ركب الأمم، يحدق بها الأعداء من كل مكان، وتحيط بها المكائد في كل وجه وصوب، ثم بعد ذلك ملايين من الأبناء والبنات والأسر من هنا وهناك ضائعون في فلك لا نهاية له، سائرون في طرق لا تفضي إلى خير ولا إلى علم ولا إلى عمل ولا إلى تقدم أو نحو ذلك. أيها الإخوة! إنها قضية خطيرة، إنهم يحسبون في مقاييس الإنجاز والعمل في الدول والشركات الدقائق والساعات، ويقولون: إذا حصل أمر من الأمور وتعطلت الأجهزة أو تعطل العمل لمدة ساعة فإن هذه الساعة من عدد كذا من الموظفين تشكل كذا من الساعات الإنتاجية، وتقدر بكذا من الملايين، وتقدر بكذا وكذا، وأما نحن فنضربها ونحسبها ثم نهبها للفراغ، ونهدرها في الهباء، وننحرها بلا نفع ولا فائدة! إنها المسئولية المناطة بنا جميعاً، أنا وأنت وهذا وذاك، إن الشباب والشابات والأبناء والبنات جزء عظيم من المسئولية مناط بآبائهم وأمهاتهم، وسبل التربية والتوجيه، وسبل اغتنام الأوقات وغير ذلك مما نعلمه، إضافة إلى مسئولية المجتمع في كل دوائره المختلفة.

أهمية استغلال الأوقات

أهمية استغلال الأوقات ولعلي أقف هنا وقفات سريعة فيما ينبغي عمله، أو فيما ننكره ونحذر منه، ولكنها ومضات مهمة. هناك أرباح وخسائر، وهناك رابحون وخاسرون، فمتى يتضح ذلك؟ A يتضح ذلك بعد نهاية الموسم وفي آخره، لكن هل ننتظر حتى يأتي آخر الموسم ونرى هل ربحنا أم خسرنا؟ أم نتنبه في أوله وبدايته حتى نأخذ الأسباب، ونهيئ العدة، ونجتهد في أن نخرج من الموسم بأكبر ربح ممكن بدلاً من أن تكون الخسائر فادحة؟ وليتها خسائر في جانب المادة فحسب، بل إن فيها إهداراً للأوقات، وإهلاكاً للأموال وغير ذلك، بل كثيرة هي الخسائر الفادحة من الإيمان الذي يضعف، والحياء الذي يذبل، والهمم التي تخور، والعزائم التي تفتر، واللهو الذي يتمكن من النفوس، والعبث الذي يضيع العقول، والغفلة التي لا تنهض عزماً، ولا تقيم أملاً، ولا تحيي عملاً في هذه الأمة.

استغلال الأوقات بحفظ القرآن وتلاوته

استغلال الأوقات بحفظ القرآن وتلاوته وأبواب الخير المشروعة كثيرة، فاغتنموا لكم ولأبنائكم هذه الفرص من الوقت المتاح: أولاً: في ميدان القرآن الكريم، فالمساجد تمتلئ بحلق التحفيظ، وكثير من الطلاب وأسرهم يقولون: ليس هناك وقت متاح في أوقات الدراسة، وإذا ذهبوا إلى المساجد فستضيع الأوقات عليهم عن الدراسة، وسيتأخرون فيها، فلنقبل منهم ذلك في أوقات الدراسة، فماذا يقولون بعد انتهاء الدراسة؟! وإضافة إلى ذلك فإن الأبواب مشرعة في أنماط مختلفة متعلقة بالقرآن، فهناك الدورات القرآنية التي تتيح الفرص لتعلم القراءة والتجويد والتلاوة، ولحفظ الجديد، ولمراجعة المحفوظ القديم، ونحو ذلك من الأمور الخيرة، إضافة إلى المسابقات والمنافسات القرآنية العظيمة. ولو أننا أحسنا توجيه أبنائنا إليها ورغبناهم فيها لوجدنا تحقق موعود الله عز وجل في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، إنه يسير، وإنه محبوب، فلا ينبغي أن نقول: إنها إجازة فكيف نثقل عليهم بذلك؟ سبحان الله! هل في كتاب الله من ثقل على النفوس؟! وهل فيه من همٍّ أو غم على القلوب؟! أليس هو الذي تنشرح به الصدور؟ أليس هو الذي تطمئن به القلوب؟! أليس هو الذي تلتذ به الأسماع؟! أليس هو الذي تترطب به الألسنة؟! أليس هو الذي تعم به الخيرات والبركات؟! أليس هو الذي يبصر وينير العقول ويرشدها؟! أليس هو الذي يفتق الطاقات، ويجعل المقبل عليه ذكياً فطناً، فضلاً عن كونه زكياً نقياً طاهراً؟! فلماذا نحرم أبناءنا؟ ولماذا نقصر في حقهم ونفرط في توجيههم إلى الخير الذي لهم؟ ولا نقول: ليرتبطوا بالحلق أو بالقرآن ليلهم ونهارهم، فلا يكون عندهم فرصة لشيء من راحة، ولو قضوا ذلك في كتاب الله لما كان قليلاً.

استغلال الأوقات بالقراءة

استغلال الأوقات بالقراءة وباب آخر وهو باب القراءة: فالقراءة مجني عليها؛ حيث لا يعرف أبناؤنا كثيراً من كتاب ربهم، ولا من سنة نبيهم، ولا من سيرة مصطفاهم، ولا من صفحات تاريخهم، ولا من علوم شريعتهم، ولا من حقائق واقعهم، ولذلك تجد الطلاب وقد صاروا اليوم كأنما عقولهم ورءوسهم فارغة، حتى ما يقرءونه في مدارسهم يقرءونه ليفرغوه على أوراق الاختبارات، ثم يحاولون بكل جهد أن ينسخوه من عقولهم، وأن ينظفوها حتى لا يبقى فيها أي أثر من آثار تلك المعلومات والقراءات! فالفرصة سانحة، والوقت متسع، ولو أراد الآباء والأمهات ومؤسسات المجتمع والحكومة أن تبسط ذلك بدلاً من أن تبسط ميادين المنتزهات فحسب لفعلت، فأين هي المكتبات؟ وأين هي المسابقات؟ وأين هي القراءات؟ وأين هي المجالات التي ينبغي أن يأخذ بها أبناؤنا؟ وأستحضر هنا خبراً تافهاً سخيفاً، لكنه أخذ حظاً وافراً في وسائل الإعلام كلها: ابتكرت امرأة إنجليزية قصة خرافية عن شخصية خيالية، وجعلت لها اسماً، ثم أصدرت لها كتاباً، فتلقاه القوم -وهم يقرءون ويحبون أي شيء- بالقبول العظيم، حتى توالت الأجزاء، وجنت هذه المرأة من هذه القصة ستمائة مليون جنيه إسترليني كما يقولون! وعندما نزل الجزء الأخير نُشر في الصحف أن المكتبات في بعض الدول الكبيرة المشهورة في بلاد الغرب سوف تداوم أربعاًَ وعشرين ساعة حتى تلبي احتياجات الناس من الإقبال على هذا الكتاب! قد نقول: سخافة، وقد نقول: ضياع، لكنهم يقرءون، وربما نجد سوق الكتاب وهو يشكو الحزن الأليم؛ حتى إنما يطبع باللغة العربية في العام الواحد لا يبلغ إلا خمس ما يطبع في بريطانيا وحدها فقط، ويصدق حينئذ فينا قول أعدائنا: إننا أمة لا نقرأ! فنحن معاشر الآباء فضلاً عن الشباب أليس في فرص الإجازات ميدان لنقرأ في السيرة، ولنقرأ في تاريخنا، ولنقرأ ما ينفعنا، ولنعرف ما يجري حولنا؟

استغلال الأوقات بالترفيه المثمر النافع

استغلال الأوقات بالترفيه المثمر النافع وهناك أيضاً ميدان الترفيه: وهو أيضاً يمكن أن يكون نافعاً ومفيداً، لقد كان لهو السابقين من أسلافنا اللهو بالخيل، وكان نور الدين زنكي القائد العادل المقاتل المجاهد العظيم كان لعبه بالكرة على الخيل، يعطفها يمنة ويسرة، ويقول: ما أريد بها إلا الاستعداد للجهاد، وكم هي فرص الترفيه التي يمكن أن تكون نافعة ومفيدة، والمراكز الصيفية -بحمد الله- تقدم كثيراً من هذا النافع المفيد المثمر الذي يدخل السرور، ويغير النفس، ومع ذلك يكسب المهارة الجديدة، والمعلومة الجديدة، والمعرفة الجديدة، إضافة إلى أجواء من الإخوة والتعاون وغير ذلك.

استغلال الأوقات بالعمل

استغلال الأوقات بالعمل والعمل ميدان أيضاً لاغتنام الوقت، والاستفادة من الطاقات، فالعمل للشباب والشابات في صور مختلفة ولو كان عملاً ذاتياً ربما لا يكون له العائد المالي، لكن يكون له عائد تربوي ونفسي.

استغلال الأوقات بالسفر المباح

استغلال الأوقات بالسفر المباح والسفر وما أدراك ما السفر؟ له في جانب السلبيات باب واسع، لكنه كذلك يمكن أن يكون نافعاً ومفيداً إذا لم يكن في البلاد التي يعظم فسادها، ويكثر شرها، وهي بلاد أعدائنا التي ننفق فيها أموالنا، وغير ذلك من الأمور التي نعرفها. وأبواب الخير في هذا كثيرة مشرعة. المهم أن نعرف أن الفراغ فرصة للعمل، وأن المسئولية لا يُستثنى منها أحد، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المغتنمين لأوقاتهم، الجادين في أعمالهم، الحريصين على تحصيل الخير والنفع والفائدة. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

ذكر بعض سلبيات العطل

ذكر بعض سلبيات العطل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولا شك أيها الإخوة الأحبة أن هناك صوراً محزنة، ومظاهر مؤسفة، وأحوالاً مخزية نراها في هذه الفترة من الصيف، ولقد تحدث إليّ رجل غيور ظل يتابع الاتصال وهو يركز على وجوه النقد التي تصاحب كثيراً من ممارسات الصيف، فآثرت أن يكون حديثنا الأول هو حديث الإيجاب، وحديث القواعد المؤسسة، وحديث الآيات البينة الواضحة، وحديث هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان النموذج الأمثل في اغتنام الأوقات، والذي كان مضرب المثل الحقيقي في حياة كل مسلم ومؤمن. ولابد كذلك أن ننبه إلى هذه السلبيات تقع منا نحن، إما مباشرة، وإما بطرق غير مباشرة، وهذه مآسٍ كثيرة ومشكلات عديدة: أولها: مشكلات السهر والعبث: فأكثر الشباب والشابات بل وكثير من الأسر عندما يأتي هذا الصيف لا يذوقون النوم في ليله أبداً، ويسهرون الليل ينحرون أوقاته حتى الصباح، فإذا جاء الصباح قتلوه نوماً، وقتلوه كسلاً، وقتلوه سلبية! وهذا أمر ظاهر ومشاهد، ولو أردت أن تجرب فاتصل بأي بيت في صباح أي يوم فلن تجد لك مجيباً! ونرى ذلك بآثاره السلبية، فالشباب يصنعون التجمعات في الأماكن السكنية وفي أماكن المنتزهات، ويصنعون ما هو معلوم من الأذية والمعاكسات والمغازلات وغير ذلك من الأمور المعلومة، وتحصل مآسٍ أخرى في الأسواق والمنتزهات. ولعلنا هنا نتوجه إلى النساء والفتيات؛ فإن كثرة الخروج المتأخر إلى ما بعد منتصف الليل في هذه الأماكن مع قصد في التميع والتكسر وعدم مراعاة أحكام الحجاب وآداب الحياء ومراعاة الواقع الاجتماعي والأسري والتربوي، فإن هذا يترتب عليه الكثير من المآسي، وترى اليوم الأسواق وهي تعج بروادها وكأنما كانوا في مجاعة فخرجوا يتطلبون قوتهم، أو كانوا قد عريت أجسامهم فخرجوا يشترون أكسية وأحذية أو نحو ذلك! ولا حرمة في التسوق، ولا غضاضة في قضاء الحوائج، لكنها بهذه الصورة والهيئة التي تكثر عند الناس حتى تكون كأنها جدول أعمال له في كل يوم ساعات أو له في كل أسبوع أيام هو الذي لا ينبغي؛ والحاجة تنقضي في أوقات يسيرة لمن كان يطلب حاجته ويعرفها دون هذا العبث والنزهة التي تتدثر بدثار التسوق ونحو ذلك. وهناك مآسٍ أخرى في السياحة والأسفار، منها ما تصنعه كثير من النساء من نزع الحجاب مع أول درجات سلم الطائرة! وكأنما هناك مكان ليس فيه حكم لشرع الله، أو كأنما هناك مكان يخلو ويخرج عن علم الله المحيط الشامل، قال جل وعلا في وصف علمه وشموله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. وهذه صور كثيرة نحن مسئولون عنها، قد نكون من أهلها، وقد يكون بعض معارفنا أو جيراننا أو أقاربنا من أهلها، وقد يكون غيرهم من أهلها، ونحن نملك أن نقول كلمة ننصح بها، أو نقدم رسالة نذكر بها، وأن نحذر مما يستهدفنا، ونحن نمر في بلادنا وعلى مستوى أمتنا بأعظم هجمة شرسة تريد استئصال إسلامنا من جذوره، ونسخ تاريخنا من أصوله، وفوق ذلك كذلك نجد أننا نمر بأشد الظروف التي تكاد فيها أوضاع أمتنا في داخلها تموج بكثير من المتغيرات والاضطرابات، فهل يحسن بنا مع ذلك كله أن نبقى على غفلتنا، وأن نبقى على السر الأعظم في سبب بلائنا ونكباتنا ومصائبنا، والسبب الأساس في تسلط أعدائنا، وهو: مخالفتنا لأمر الله، وتنكبنا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]. فالله الله في أبنائكم وبناتكم! والله الله في أوقاتكم وأيامكم ولياليكم وساعاتكم! والله الله في قلوبكم ونفوسكم، والله الله في الفرص العظيمة والأبواب المشرعة من الخير! لعل الله سبحانه وتعالى أن يعوضنا كثيراً مما فرطنا فيه، وأن يجعل هذه الأوقات المتاحة فرصة لننجز عملاً نخدم به أنفسنا، ونعلي به إيماننا، ونعظم به أجورنا، وننصر به أمتنا، ونقوي به مجتمعنا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مستعصمين، وعلى آثار الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح سائرين. اللهم إنا نسألك أن تهدينا، وأن تهدي بنا، وأن تجعلنا هداة مهديين. اللهم إنا نسألك أن تستخدم جوارحنا في طاعتك، وأن تسخرنا لنصرة دينك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر أمة الإسلام والمسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعلنا عباداً لك مخلصين، وجنداً في سبيلك مجاهدين، واجعلنا اللهم من ورثة جنة النعيم. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب ولا ترضى. اللهم اغفر لنا ما مضى وما هو آتٍ، ووفقنا اللهم للصالحات، وجنبنا اللهم الشرور والسيئات يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد يا أرحم الراحمين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، واجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية. اللهم عجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين؛ برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

لمحة عن الامتحانات

لمحة عن الامتحانات في زحمة الدنيا وزخم الأحداث ينسى الناس الإعداد لكثير من الأمور المهمة، وبين انشغالهم باختبارات الدنيا يغفلون عن اختبار الآخرة رغم أنها مناسبة لتذكره والتنبه له، وإنّ الناظر في الفروق بينهما من ناحية الإعداد والاستعداد والتهيؤ وتغيير نظام المجتمع، ليرى من ذلك عجباً لا ينقضي، من شدة اهتمام الناس واعتنائهم باختبارات الدنيا، وتخطيطهم لها، وغفلتهم وتقصيرهم عن الاختبار الأهم والأعظم في يوم القيامة.

بين اختبارات الدنيا واختبارات الآخرة

بين اختبارات الدنيا واختبارات الآخرة الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده سبحانه وتعالى حمد الشاكرين الذاكرين، ونسأله مسألة الضعفاء والمساكين، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وفي بداية هذه الكلمة القصيرة -التي أرجو ألا أطيل بها عليكم- أقدم الشكر لفضيلة الإمام جزاه الله خيراً على حسن ظنه، وعظيم إكرامه، ولمن سعى في هذا اللقاء ليجعل لنا به -إن شاء الله تعالى- عند الله أجراً. هذه هي أيام الاختبارات التي تشغل كل الناس حتى من ليس عنده اختبار، ومن لم ينشغل بها شخصياً فإنه يضطر إلى أن يتعامل في أيام الاختبارات بتعاملات وبأوقات وبطريقة مختلفة عما تعود عليه، والله سبحانه وتعالى قال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1 - 2]، فالحياة كلها اختبار منذ أن يتنفس الإنسان أول نفس فيها، وحتى يلفظ آخر نفس كتب له في هذه الدنيا، فإذا كانت الحياة كلها اختباراً، فينبغي أن نعرف هذا الاختبار، وأن نعرف علاقته بهذه الاختبارات الدنيوية الكثيرة، ولكن أكثرها تكراراً وأهميةً عند الناس: اختبارات الطلاب والطالبات، حيث ينشغل بها الطلاب والطالبات، والآباء والأمهات، وتزدحم لأجلها الطرقات، وتتغير من أجلها العادات، فتختلف فيها كثير من الأحوال. وحتى نستفيد -إن شاء الله تعالى في الوقت المتاح- نحب أن نجعل الحديث منصباً على نوعي الاختبارات في الدنيا والآخرة معاً، حتى نرى كيف اعتنى الناس وانشغلوا وفكروا وخططوا واجتهدوا في اختبارات الدنيا العارضة، وغفلوا وقصروا وتكاسلوا وانشغلوا عن الاختبار الأهم والأعظم، وهو اختبار الحياة الدنيا الذي سؤاله وجوابه عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.

أيام خوف وفزع واضطراب

أيام خوف وفزع واضطراب تجد الطالب أيام الاختبارات في هلع وقلق، إذا نام فهو خفيف النوم، وإذا أكل فهو سريع الطعام، ولا يطمئن له جنب، ولا تغمض له عين، ولا يسكن له قلب، لأن عنده ما يشغله. ولماذا ينشغل عقله ويتعلق قلبه؟ لأنه مرتبط بأمر يرى فيه مصلحة، ويرى من ورائه خيراً، فكيف وأنت تفكر في أمر الآخرة واختبار الآخرة، إن تفكرت ينبغي أن تكون على جزع وخوف واضطراب؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين هذا النهج القويم بياناً انخلعت له قلوب الصحابة، وذرفت له عيونهم، واقشعرت منه جلودهم، وكانوا منه على خوف عظيم؛ لما قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)، تخويفاً من الاطمئنان إلى نتيجة الاختبار، ما الذي يخوف الطالب؟ هو يستعد ويأخذ، لكنه لا يطمئن ولا يركن. وكذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وحنى جبهته ينتظر الأمر بالنفخ في الصور). هذه معالم لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها مبالغةً في اللفظ، وإنما قصد بها غزواً للقلوب؛ حتى يرسخ فيها الخوف من عذاب الله الذي يدفعها إلى طلب رحمة الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح، وبالتقرب إلى الله جل وعلا. وحينما يكون الإنسان على هذا الخوف والاضطراب في أمر الدنيا واختبارها وهو أمر ميسور، وعاقبته قاصرة على الدنيا، فينبغي أن يكون على هذا النهج وأعظم أيضاً في اختبار الآخرة، فإن عائشة رضي الله عنها في حديثها الصحيح ترسم منهجاً عجيباً ينبغي أن يتفطن له المؤمن، وذلك أنها لما سمعت قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت عائشة رضي الله عنها: هؤلاء يعملون أعمالاً ويخافون؛ لأنهم سيرجعون إلى الله، فتوقعت وتصورت أن تكون هذه الأعمال أعمالاً سيئة قبيحة، فقالت لرسولنا صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ثم يخاف؟) تعني: يعمل السيئات ويخاف لأنه عمل أموراً منكرة يستوجب عليها العقوبة والعذاب، فقال لها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق! ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخشى ألا يقبل منه)، هكذا رسم الرسول عليه الصلاة والسلام المنهج، أن تعمل وأنت على خوف ألا يقبل منك. أما الحسن البصري رحمة الله عليه ورضي الله عنه فيخط في مقالته منهجاً عظيماً عجيباً، فيقول رحمة الله عليه: لقد لقيت أقواماً هم أخوف على حسناتهم ألا تقبل منهم أكثر من خوفكم من سيئاتكم أن تحاسبوا عليها. يعني: أنتم تعملون سيئات، وخوفكم قليل، وأولئكم يعملون الصالحات وخوفهم عظيم ألا تقبل منهم. وكان الحسن رضي الله عنه ورحمه يبكي، فيقال له: لم تبكي؟ قال: أخشى أن يطلع الله علي وأنا في بعض ذنبي، أو قد عملت ذنباً، فيقول: يا حسن اعمل فلا أقبل منك أبدًا. من كان يخاف، ويضطرب، ويقلق، ويجزع، ولا يطمئن له جنب، ولا تغمض له عين، كل ذلكم تخوف من هذا الاختبار الدنيوي، فالأولى أن يعرف طبيعة اختبار الآخرة، وأن يتدبر ويتأمل، ويكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخرج في ظلمة الليل، وينسل من بيت عائشة رضي الله عنها، فإذا هو يخرج إلى البقيع يتفقد الموتى، ويدعو كالمودع للأموات صلى الله عليه وسلم.

الاختبارات تحتاج إلى جد ونشاط

الاختبارات تحتاج إلى جد ونشاط ثم اختبارات الطلاب الدنيوية تحتاج إلى جد ونشاط؛ فلا نرى أحداً في وقت الاختبارات ينام ويفرط ويهمل، بل يستعد ويجد ويشمر، ولا يترك فرصةً تضيع، وإن سئل عن سبب هذا قال: لأن الأمر جد، والوقت قد ضاع، وأحتاج إلى أن أصل إلى شاطئ الأمان وبر النجاة، وهو تجاوز الاختبار وحصول النجاح. فإذاً: لما أراد الهدف والغاية أخذ لها طريقها وهو الجد والاجتهاد، أما إذا لم يأخذ بالجد فإنه لا يحصل النتيجة، ويكون عند الناس أحمق ومفرطاً ومقصراً. تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس ولذلك بين الله سبحانه وتعالى لنا أن الأمر بالنسبة للآخرة لا ينال إلا بالجد. أما المنافقون فقد وصفهم الله سبحانه وتعالى فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، هذا الكسول المتثاقل لا ينجح النجاح المطلوب، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] تكاسل، قعد، أخلد إلى الأرض واتبع هواه، هذا الذي لا يأخذ بالجد والمعالي من الأمور لا يستطيع أن يكون ناجحاً متفوقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الجد فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، يجدون حتى يحصلون النجاح، ويسعون إلى الوصول إلى بر الأمان. بعض الناس إذا قيل له في الجد في أمر الدين لم يستجب، وإن كان يجد في أمر الدنيا غالباً، ولا تحتاج أن توصيه في أمر الدنيا، فالطلاب في غالب الأمر لا يحتاجون في أيام الاختبارات أن يوصيهم أحد بالجد، كل يجد بقدر طاقته، وبأقصى حد عنده، لكن إن جئت للناس وقلت لهم: جدوا في أمر الدين وخذوا بمعالي الأمور، قالوا: إن الدين يسر، وقرءوا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق) ويأتي أحدهم بأحاديث وآيات يضعها في غير موضعها، وهو مفرط في جنب الله سبحانه وتعالى، ومقصر عن التشمير والجد، كما ذكر أبي بن كعب رضي الله عنه لـ عمر بن الخطاب لما سأله عن التقوى؟ قال: أرأيت لو كنت تسير في أرض ذات شوك، ماذا كنت تصنع يا أمير المؤمنين؟ قال: أشمر وأجتهد، قال: فتلك التقوى. من أراد أن ينجح في اختبار الآخرة فلا بد أن يحقق ما يحققه في الدنيا من الجد والاجتهاد وبذل النشاط، إلى أقصى غاية كما علمنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في موقفه العظيم الذي لا يقوى عليه أحد بعده، ولا يصل أحد فيه إلى تلك المرتبة: (كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فتقول له عائشة: لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، صلى الله عليه وسلم، فجد كما تجد في أمر الدنيا، ولابد من الجد في أمر الآخرة.

الاختبارات محددة المنهج واضحة المعالم

الاختبارات محددة المنهج واضحة المعالم الاختبارات اليوم محددة المنهج، لا نجد في اختبارات الطلاب أن مادة الجغرافيا تختبر بدون منهج، بل هناك منهج محدد وواضح، عنده نصف الكتاب أو ربعه، فهذا الوضوح هو الذي يعين على تجاوز الاختبار، وإلا لو ترك الاختبار هكذا، فإن بعض المدرسين يأتي أحياناً في أثناء الدراسة ويقول للطلاب: كل واحد يخرج ورقته ويسألهم سؤالاً مباغتاً، أو يسألهم في أمر لم يتهيئوا له، فلا يحسنون الإجابة. أما هنا فالاختبارات في غالبها واضحة ومحددة المنهج، وهذا الذي يجعل الطالب يستطيع أن يجيب ويحسن الإجابة، والله سبحانه وتعالى جعل أمر الآخرة وطبيعة الاختبار الأعظم أنه واضح ومحدد، وما تركه هكذا مجهولاً. إن الله سبحانه وتعالى بين الإيمان، والعبادة والأخلاق، وقال الله سبحانه وتعالى في أخبار الكفار يوم القيامة: {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:8 - 9]، حدد الله سبحانه وتعالى لهم المنهج من عنده عن طريق الرسل، وحدد لهم طبيعة الاختبار وطريقة الاختبار، ولكن الناس عن ذلك غافلون، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، منهج واضح، كما أن اختبارات الدنيا مناهجها واضحة، والمطلوب فيها محدد. جاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الإيمان، ثم يسأل بعد ذلك عن فرائضه، فقال له: الصلوات الخمس. صيام شهر رمضان. حج البيت. الزكاة، قال هل عليَّ شيء بعدها؟ قال: لا، فخرج وولى، وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق)، هذا المنهج محدد، مطلوب منك الإيمان بالله وببقية أركان الإيمان، وفرائضه محدودة ليس فيها مشقة ولا عسر.

الاختبارات تحمل طابع التنافس والحماس

الاختبارات تحمل طابع التنافس والحماس طبيعة هذه الاختبارات هي أول أمر نعرض له: معلوم عند الطلاب أن الاختبارات فيها طابع التنافس والحماس؛ كيما يتفوق الواحد على بقية زملائه، أو يحصل على درجة أعلى، أو يحظى بتقدير أرفع، وبالجملة فإننا نجد الناس في اختبارات الدنيا يتنافسون تنافساً شديداً، سواء في هذه الاختبارات أو حتى اختبارات الوظائف، إذا كان هناك وظيفة يتقدم لها جمع من الناس، فإنهم يتنافسون تنافساً شديداً في التحضير والإعداد لها حتى لو كان الأمر يحتاج إلى أن يحسن من هيئته، أو أن يعد من يتوسط له، ويأخذ بكل الأسباب في سبيل التنافس. والله سبحانه وتعالى جعل التنافس الحقيقي في ميدان الآخرة، وقال جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تربوا في مدرسة النبوة، فعلمونا بأفعالهم ما يكون فيه التنافس، وفي أي شيء يكون التسابق؛ لأن الله سبحانه وتعالى دعاهم فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، الأمر لا يحتاج إلى تباطؤ، بل يحتاج كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وكما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل:77]. وهذه أمثلة من واقع أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وما كانوا فيه يتنافسون: جاء أبو ذر رضي الله عنه -كما في الصحيح- ومعه نفر من فقراء أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يقولون: (ذهب أهل الدثور بالأجور)، أصحاب الأموال سبقونا ونافسونا، فأخذوا أكثر منا، وحازوا على درجات أعلى، وأصبحت تقديراتهم أرفع، ولم؟ قالوا: (يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم)، فماذا قال لهم الرسول؟ قال: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وحملك للرجل متاعه على دابته صدقة)، ماذا عمل الأغنياء الأثرياء؟ فكروا وتنافسوا فأخذوا بهذا، فتساووا مرة أخرى، وعاد التنافس، فجاء الفقراء وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ويسبحون كما نسبح، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، كان تنافسهم شديداً في هذا الباب. وأبو بكر وعمر كانت لهما قصة في التنافس عجيبة: كان أبو بكر يسبق عمر دائماً، فلما جاءت غزوة تبوك ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للتبرع والإنفاق، عقد عمر في نفسه عزماً ونيةً خالصةً لله سبحانه وتعالى أن يسبق أبا بكر، فقال: اليوم أسبق أبا بكر، فماذا فعل؟ جاء بشطر ماله. الآن إذا أخرج الإنسان الزكاة وزاد عليها يسيراً حسبها، أما هذا فقد جاء بنصف رأس المال والميزانية كلها، فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ما أبقيت لأهلك يا عمر، قال: أبقيت لهما الله ورسوله وشطر مالي، فوافى أبو بكر بعده بقليل، وأتى بما عنده، فقال له الرسول: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر، قال: أبقيت لهما الله ورسوله، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أزرؤك يا أبا بكر بعدها) أي: أنت السابق الذي لا تنافس أبداً. والناس -كما أشرنا- يتنافسون في أمر الدنيا، وفي اختبار الدنيا، ونحن نرى هذا التنافس ظاهراً جلياً بين الطلاب، فينبغي أن نلتفت إلى التنافس في أمر الآخرة؛ لأن طبيعة الآخرة أيضاً تنافس، فالرسول عليه الصلاة والسلام علم أصحابه التنافس في أمر الآخرة أيضاً، فكانوا لا يتقاعسون عن فضل، ولا يقدم أحدهم غيره في أجر وثواب أبداً، بل كانوا يبتدرون ويستبقون، لما رفع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد سيفه، قال: (من يأخذ هذا بحقه)، ابتدره أبو دجانة رضي الله عنه، وهكذا.

قبل الاختبار

قبل الاختبار هذه أمور في طبيعة الاختبارات تربطنا باختبارات الآخرة، ثم هناك أمور في جانب آخر، وهي: مرحلة ما قبل الاختبار.

استخدام ألفاظ التشجيع والثناء

استخدام ألفاظ التشجيع والثناء وأمر ثالث يحدث قبل الاختبارات، بالذات بالنسبة للأهل: تجد الوالد والوالدة يستخدمون معسول الكلام، وحسن الألفاظ، والتشجيع مثل: أخذ الله بيدك. وأعانك الله. وبارك الله فيك. وهكذا صباحاً ومساء، فلا ترى وجهاً مقطباً، ولا كلمة شديدة، ولا قبض يد، كل الأمور ميسرة، لماذا؟ يقول لك: حتى يكون مستعداً قبل الاختبار، ويدفعه ذلك إلى أن يكون استعداده نفسياً وعملياً على أحسن وجه، لا يوجد أي معوق أبداً، ويكون ديدنهم: اهتم بالدراسة، ذاكر أكثر. لكن في أمر الآخرة، وفي أمر دينه وعبادته، تجد التقصير في كثير من الأحوال، ولا تجد الوالد يعتني بولده، ولا يشجعه، إذا رآه ذاهباً إلى المساجد، بل ربما أحياناً يقول له: أربعة وعشرين ساعة في المسجد، ما أحد يراك في البيت! وهو مسكين تأخر دقائق صلى فيها السنة، فأقام والده الدنيا وأقعدها. أما بالنسبة للاختبارات فلا بأس، وهذا أيضاً من سوء وفساد القيم.

سلوك الناس قبل الاختبارات

سلوك الناس قبل الاختبارات كيف يتصرف الطلاب قبل الاختبار؟ حتى نربط ذلك بسلوكهم في أمر اختبار الآخرة. تجد للناس وقتئذٍ قدرةً على التكيف وتغيير الظروف مهما كانت، كل الطلاب والأهالي في البيوت يغيرون الظروف، لا تجد شيئاً إلا ويتغير، أوقات الطعام التي كانت محددة تتغير، وقت الطعام الذي كان طويلاً يقصر، أمور كثيرة في حياة الناس تتغير، ينام ويستيقظ قبل الفجر، ومن الذي يوقظه؟ الأم أو الأب، والزيارات تنقطع، والاتصالات تتوقف، عجباً كيف استطاع الإنسان أن يغير! غير لأنه اهتم؛ ولأنه أراد أن يتهيأ لأمر عظيم، لكن فيما يتعلق باختبار الآخرة لا يفعل ذلك. ونحن في دنيانا كلها ما زلنا في مرحلة ما قبل الاختبار، فهل غيرت ظرفك حينما نمت متأخراً لتستيقظ للفجر، وحينما فرطت في أمر لتتدارك الأمر، تجد كثيراً من الناس إذا جئت لتقول له في شأن دينه وأمر ربه، يقول: لا أستطيع، صعب عليه أن يغير الظروف والأوقات والعادات التي تعود عليها، من الصعب أن يستيقظ للفجر، ثم بعد ذلك قد ينام فلا يستيقظ للدوام، كيف يستطيع أن يغير الحالة وقد استمرت ودوام عليها؟! وكيف غير في أيام معدودات هذه العادات كلها لأجل اختبار الدنيا؟ وتجد أيضاً أن كل الظروف تتغير، فهل يشاهد التلفزيون؟ لا، هل يخرج للنزهة؟ لا، بل يؤجلها، هل عنده وقت للتسلية؟ لا، يؤخرها، لماذا؟ قال: لأننا في فترة ما قبل الاختبار! وكذلك في أمر اختبار الآخرة: هل أجلت ما ينبغي تأجيله، وتركت ما ينبغي تركه؛ لكي تستعد لاختبار الآخرة، هذا أيضاً أمر يحتاج إلى انتباه.

حسن الاستعداد عمليا

حسن الاستعداد عملياً ليس فقط يفرغ الناس الأوقات ثم ينامون أو يغيرون، بل هم مستعدون أيضاً عملياً، فتجده أولاً: يفرغ الوقت للمراجعة والمذاكرة، والأب حريص في أن يواظب على مراقبة ابنه، وإذا احتاج إلى مدرس أحضر المدرس، وإذا لم يكف مدرس قد يحضر الثاني، وإذا ما كفى اثنان ممكن أن يسعى بكل وسيلة حتى يطمئن إلى أنه قد استعد أقصى أنواع الاستعداد، هل يحتاج إلى كتب مساعدة؟ يحضرها، هل يحتاج إلى أسئلة وإجابات؟ يوفرها، يذهب ويبحث عن أسئلة في الأعوام الماضية، هكذا يفعل الطلاب، يذهبون فيبحثون عن أسئلة العام الماضي والذي قبله، وكيف كانت إجاباتها وطريقة الاختبارات، كل ذلك استعداداً عملياً للاختبار. لو تأملت أيضاً تجد أنه لا يكون في هذه الأوقات أعمال تخالف هذا الاستعداد مطلقاً، فأين الاستعداد لأمر الآخرة؟ هل راجعت الاختبارات السابقة؟ هل نظرت كيف يكون الاختبار؟ هل تأملت في مثل هذه الأمور التي تتعلق بأمر هو أعظم وأهم مما تهيأت له؟ لو جئت الآن وقلت للأب: الابن لا يصلي، قال: الهادي هو الله! ولو قلت: الابن لا يذاكر، فلم لا تقول: الذي يعينه على المذاكرة الله، وتتركه؟ لا، بل هناك تتفرغ له، إذا أراد أن يلتفت وقفت له بالمرصاد، وإذا لم يفهم أتيت له بالمدرس، وإذا ما نفع المدرس تفرغت بنفسك لتذاكر له أو تدرسه، وهنا الهادي هو الله؛ سبحان الله العظيم! لم اعتنيت بأن تهيئه لاختبار الدنيا، ولم تعتن بتربية ابنك واستعداده لاختبار الآخرة؟ توقظه للاختبار قبل الفجر إذا أراد، ونادراً أو نسبة لا تكاد تذكر أن طالباً ينام عن الاختبار ولا يحضر، لكن كم من الناس طلاباً ورجالاً ونساءً ينامون عن الفجر؟ أليس هذا اختباراً بسيطاً من اختبارات الله سبحانه وتعالى للعبد حتى يخرج من شهوات نفسه، ومحبة ما يميل إليه، إلى استجابته لأمر الله سبحانه وتعالى. فالاهتمام للدنيا وإهمال الآخرة يعد من سوء التدبير، وفساد القياس؛ لأن مقتضى قياس الأولى: أنك إذا اعتنيت به في الدنيا فعنياتك به في أمر الآخرة ينبغي أن تكون أعظم.

الفروق بين الامتحان الدنيوي والأخروي

الفروق بين الامتحان الدنيوي والأخروي

الفرق الرابع

الفرق الرابع الفرق الرابع: أن امتحان الدنيا ممكن أن تجد من يساعدك عليه، ممكن أن يجد الطالب فرصةً ليغش، ممكن بعد أن يسلم الورقة يوسط للمدرس من يوصيه به خيراً ليكيل له في الدرجات، أو ليتجاوز عن الأخطاء والهفوات، كلها أمور واردة ويتعلق بها الإنسان كثيراً، ويفكر فيها، ويقول: لعل وليت أما في الآخرة فلا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، وينقطع كل أمر إلا من قضاء الله سبحانه وتعالى، وليس ثمة مجال مطلقاً لأن تستزيد، أو أن تأخذ دعماً من أحد، كل يقول: نفسي نفسي، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]، لا أحد ينظر في أحد. فالكفار يود أحدهم لو عنده ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدي به من عذاب يوم القيامة، ليس هناك من شيء أبداً إلا من أتى الله بقلب سليم، ورحمة من الله يفيض بها على من يشاء، وشفاعة يأذن بها لمن رضي جل وعلا؛ فلذلك ينبغي أن ينتبه الإنسان، وأن يعلم أن المراوغة يوم القيامة لا تفيد، إذا سأل فتحرك اللسان كذباً وزوراً، ختم الله على فمه، ونطق جلده، ونطقت يده، ونطقت رجله {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]. فلا مجال هناك للمراوغة، ولا للغش أبداً، بل كل شيء يظهر على حقيقته، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم: (أول من تسعر بهم النار ثلاثة)، هؤلاء الذين يكذبون: (رجل آتاه الله علماً، فيقول له الله: ما فعلت بعلمك؟ يقول: علمته فيك)، يعني لأجلك، وحسبةً لله، وطلباً للثواب، وهو كاذب في قوله، (فيقول الله سبحانه وتعالى: كذبت، بل علمته ليقال: عالم، وقد قيل، فيؤمر به فيكب على وجهه في النار)، وهكذا الثاني والثالث مثله؛ لأن الرجل الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى قوة، يقول: (جاهدت فيك، ولإعلاء كلمتك، فيقول الله سبحانه وتعالى: كذبت، وإنما جاهدت ليقال: شجاع، وليقال: جريء، وقد قيل، فيكب على وجهه في النار)، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة. فمن كذب في هذا الاختبار عوقب أشد عقاب، فليس هناك مجال لا لغش، ولا لشفاعة، ولا لواسطة من هذا النوع أبداً ومطلقاً.

الفرق الثالث

الفرق الثالث الفرق الثالث: ما هي نتيجة اختبار الدنيا؟ تأخذ شهادة، أو منصباً، أو أي نوع من الفخر الفارغ، أو من التعالي الذي لا قيمة له. أما الآخرة فشهادتها وثمرتها جنة عرضها السماوات والأرض، وما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وشهادة الجنة هي التي يقول فيها الله سبحانه وتعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف:49]. هذه هي الشهادة: أنه إذا خرج من الثانوية أخذ ورقة يدخل بها الجامعة، وإذا خرج من الجامعة أخذ ورقة يدخل بها الوظيفة، أما هنا فيأخذ شهادة يدخل بها جنة فلا يخرج منها أبداً، فيها نعيم لا ينقطع مطلقاً، بل هو في زيادة وتضاعف عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

الفرق الثاني

الفرق الثاني الفرق الثاني: امتحانات الدنيا تتكرر: ممكن أن يعيده أو أن يعيد السنة، أو يغير المدرسة كلها، يمكنه أن يشق طريقه بأي وجه من الوجوه، أما اختبار الآخرة فواحد، ليس فيه إعادة، ولا زيادة، إذا سلمت ورقة الإجابة فلا لجنة رحمة، ولا غير ذلك من الأمور إلا ما قضاه الله سبحانه وتعالى، فلذلك أيضاً يتنبه الإنسان في هذا الباب كثيراً؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين أنه لا عودة: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] ويقول الله: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لََعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]، انتهى الأمر.

الفرق الأول

الفرق الأول وهي فروق يسيرة في عددها، لكنها عظيمة في النتيجة والأثر: الفرق الأول: أنك باختبار الآخرة لن تسأل عن اختبار الدنيا أبداً، لن تسأل لا عن المناهج، ولا الكتب ولا الوظائف، وإنما الأسئلة محددة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، إلخ).

عواقب ما بعد الاختبارات

عواقب ما بعد الاختبارات

استلام الشهادات

استلام الشهادات بعد الاختبارات تظهر النتيجة ويفرح بها الطالب، لكنه ينتظر الشهادة التي قد يبرزها أو يظهرها أو يدفعها، وشهادات يوم القيامة ليس لك فيها اختيار، تتطاير الصحف، فيؤتى كل أحد كتابه بحسب عمله، فمن كان خيراً أخذ كتابه بيمينه، وأما صاحب العمل السيئ، فقد ورد في بعض الآثار أنه يريد أن يأخذ كتابه بيمينه فلا يستطيع، وتلتصق يده الشمال بوراء ظهره فيأخذ كتابه ويده الشمال ملتصقة وراء ظهره، لا يملك في ذلك اختياراً، ولا يملك في ذلك أن يدعها أو أن يتركها. الآن الشهادة إذا كانت غير مناسبة قد يتركها، أما تسليم الشهادات يوم القيامة فكما قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، يفرح بها ويرفعها، هذه هي الشهادة، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27]، هكذا يقول بعض الناس في اختبار الدنيا، أي كأنه يقول: يا ليتني لم أختبر، يا ليتها كانت القاضية، ليتني لم أدخل المدرسة ولم أدخل التعليم نهائياً، كأنه اغتم لذلك، والغم الأكبر إنما يكون في ذلك الحدث الأعظم في هذا الباب. وكذلك نجد الناس إذا أخذوا الشهادات على هذا النسق وعلى هذا النحو يعتنون بإظهارها وبإشهارها، ويوم القيامة من كانت شهادته حسنة فإنه يظهرها ويشهرها ويرفعها، أما من كان غير ذلك فهناك حضور في تسليم الشهادات، يحضر مدير المدرسة والمدرسون للتكريم، والآخر الذي لا يكرم ينكس رأسه ولا يحضر أصلاً، وهناك الحضور أعظم: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، الملائكة حضور، والرب سبحانه وتعالى يتجلى على الناس بعظمته، فهو مشهد خطير تنخلع له القلوب، ويكون الخزي -والعياذ بالله- هو الخزي الأعظم الأكبر حينما لا يفلح الإنسان، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الفائزين الناجحين.

مراتب الفوز والنجاح

مراتب الفوز والنجاح قد ينجح الناس، ولكن هناك مراتب: منهم المقبول الذي كان على شفا جرف هار، ولكن الله ستر عليه فأنجاه، ومنهم من يأخذ جيد، وجيد جداً، وممتاز، ومرتبة شرف، وكذلك الأمر في الآخرة، فإن النجاة على مراتب، لكن لننظر إلى صاحب أدنى مرتبة، أقل واحد هذا الذي يأخذ المقبول، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح مسلم عن آخر رجل يدخل الجنة، ما قصته؟ يعذب في النار بقدر ذنوبه ومعاصيه، فيقول: يا رب أخرجني من النار، فيخرج من النار، ثم يبقى خارج النار، فينظر للجنة فإذا بها بعيدة، فيقول: يا رب قربني من باب الجنة، فإذا قال: لا تسألني شيئاً بعدها، يقول: لا أسألك يا رب شيئاً بعدها، فإذا قربه من الجنة كما في الحديث: يأتيه من طيبها ومن وريحها، فيقول: يا رب أدخل الباب، فيدخله الله سبحانه وتعالى الجنة، ويعطيه من نعيمها سبحانه وتعالى، فيقول الله سبحانه وتعالى: هل ترى ما حولك؟ قال: نعم، قال: أيسرك أن يكون لك مثل هذا، فيقول في الحديث: (أتهزأ بي وأنت الملك، فيضحك الله سبحانه وتعالى، ويقول: فإن لك مثله وعشرة أمثاله). وهذا الذي أريه هو كملك الدنيا، يعني أقل واحد يأخذ مثل الدنيا وعشرة أمثالها كما ورد في هذا الحديث الصحيح. هذا آخر أهل الدنيا دخولاً الجنة، فما ظننا بما هو أعلى منه؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى، فمنه تفجر الأنهار، ويظلله عرش الرحمن) سبحانه وتعالى، هذا أقل درجة، فلك أن تتصور شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وقد أوجز الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). وأما هذه المراتب فيقول عنها صلى الله عليه وسلم: (ما بين الدرجة والدرجة مسيرة خمسمائة عام)، وفي بعض الروايات عن أقل ما بين درجة ودرجة: (كالكوكب الغابر في السماء)، الكوكب الغابر لا ترى منه إلا نقطة، يعني أبعد ما بين السماء والأرض، هذه المسافة ما بين مراتب الجنة وتفاوت الدرجات فيها. هكذا ينبغي أن ننتبه إلى هذه الفروق.

ترقب النتائج

ترقب النتائج مسائل ما بعد الاختبار أمر آخر، تجد الناس مترقبين للنتائج، فترى من يذهب من الصباح الباكر عند أبواب المطابع ينتظر الجريدة لينظر النتيجة. أجبت أم لم تجب؟ قال: أجبت إن شاء الله إجابات جيدة، لكن لا يطمئن القلب حتى يرى النتيجة بأم عينه، ويبقى في هذه الفترة مترقباً، كل يوم ينتظر وهو على جمر من النار، فإذا خرجت النتيجة يسكن ويطمئن إذا فاز ونجح. والله سبحانه وتعالى بين أيضاً أن المسألة أعظم من ذلك وأكبر، وأرهب، وأشد خوفاً وخطراً يوم القيامة، الناس في ذلك الصعيد، في يوم الحشر الأعظم، والعرق يبلغ من الناس إما إلى العقبين أو الركبتين أو الحقوين أو الكتفين، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، والشمس قد دنت من رءوس الخلائق حتى تكون منهم على قدر ميل، والرسل والأنبياء كلهم يقول: نفسي نفسي، وكل قد تبرأ من صاحبه، والناس ينتظرون النتائج، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]. تصور هذا الترقب لهذه النتيجة العظمى، هذه النتيجة إذا وصلت إليها زحزحت، وزحزح يعني كأنه كان يوشك أن يقع في النار فزحزح عنها، هذا الذي زحزح فاز، فكيف بالذي نجا وكان سابقاً وفائزاً ومقدماً، وهذا الترقب يقول عنه الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، وهذا الثبات والترقب ينبغي أن يكون له استعداد: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، صحيح صدقوا في الإيمان، وأخلصوا في الطاعات، وواظبوا على الفرائض، ومع ذلك أعدوا العدة، ثم بعد ذلك أيضاً يترقبون النتائج.

مقياس الفرح والحزن عند الصحابة

مقياس الفرح والحزن عند الصحابة كانوا رضي الله عنهم إذا نبغ الابن منهم في أمر الدين عظموه، كما ورد في صحيح الإمام البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما شجرة مثلها كمثل المسلم، قال: فوقع الناس في شجر البوادي - يعني يخمنون في أنواع من الشجر- ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت فسكت، وفي رواية: فإذا في القوم أبو بكر وعمر فسكت، وفي رواية: فإذا أنا عاشر عشرة أنا أصغرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة)، فأخبرت بها عمر أي: بعد ذلك قال لأبيه عمر بن الخطاب: أنا عرفتها قبل أن يقولها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: لوددت أنك قلتها، أي: كان سيكون في قمة الفرح، وكأنه أعطي الدنيا بما فيها لو أن ابنه قال هذه الكلمة، هل ليفتخر؟ لا، ولكن ليبرز علمه وفقهه وفطنته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. الصحابة كيف كانوا يفرحون؟ متى كانوا يحزنون؟ كل ذلك متعلق بأمر الدين، وبما يفتح الله لهم من الخير. هذا حنظلة بن أبي عامر الأسيدي كما ورد في صحيح مسلم: كان كسف البال مغتماً، منكس الرأس، فلقيه أبو بكر، فقال له: ما بالك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة! قال: وما ذاك؟ قال: إنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن الإيمان والجنة والنار، فكأنا نرى كل ذلك بأعيننا، فإذا انقلبنا إلى أهلنا وعافسنا الأزواج والنساء تغيرنا، وفي رواية: أنكرنا نفوسنا. أبو بكر كان غير منتبه لهذا الأمر، فلما قال له ذلك فكر، فإذا الحال هو الحال، والأمر عنده كما هو عنده، قال: لئن كان كما تقول فكلنا ذلك الرجل، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو تدومون على حالكم التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة)، تلك ساعتا الصحابة، وليست كالتي عندنا التي يستشهد بها الناس ويطبقونها تطبيقاً سيئاً ساعة فيها شيء من الطاعة قليل، وساعة فيها من المعاصي ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. فإذاً: ما بعد الامتحانات نفرح بأمر الاختبار إذا نجحنا، فأين فرحنا بأمر الدين، وفرحنا بالتوفيق للطاعات؟ وأين حزننا إذا فاتتنا الصلوات، وقصرنا في هذا الأمر، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ابك على خطيئتك، وليسعك بيتك)؟ وكما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في صورة فريدة رائعة لا يوجد في التاريخ مثلها أبداً، الذين أطلق عليهم اسم: البكائين جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا معه للجهاد والغزو في غزوة تبوك وهم صفر اليدين، ليس معهم مال، ولا زاد، ولا رواحل يركبون عليها، قالوا: يا رسول الله! احملنا معك نجاهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أجد ما أحملكم عليه)، فهل قالوا: فرصة، مشكلة وانزاحت، منك ولا من غيرك؟ لا. بل: {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، حزنوا أن فاتتهم هذه الفرصة من الطاعة، وهي فرصة شاقة شديدة في حر شديد، في صحراء ضاربة عبر الجزيرة إلى أقصى شمالها، لا يلقون فيها أرضاً خضراء، ولا أهلاً أحباء، وإنما يلقون فيها موتاً أحمر، وسيوفاً مشرعة، مع ذلك حزنوا من صميم قلوبهم ألا يجدوا ما ينفقون حزناً على ما فاتهم من الطاعة. هكذا ينبغي أن تكون مشاعرنا؛ فرحاً بالطاعة وحزناً على فواتها، وعلى ما يقع من تفريط في جنب الله سبحانه وتعالى، لا نفرح بما قد يكون من أمر الدنيا، فإن فرحنا لأنه يعين على الطاعة والآخرة فلا بأس؛ فينبغي أن نتنبه في هذه المسألة.

الرسوب والنجاح

الرسوب والنجاح ما الذي يحصل بعد الاختبار؟ في اختبارات الطلاب واختبارات الدنيا يحصل رسوب أو نجاح، شقاوة أو سعادة، حزن أو فرح، لكن أمره سهل، وبعض الناس ممن تبلدت أحاسيسهم يرسب وهو في قمة الفرح؛ لأنه لا يدرك ولا يفهم أثراً لهذا الاختبار ولا قيمة له، لكنه في قرارة نفسه حزين؛ لأنه يرى الطلاب من حوله كل معه شهادة النجاح وهو وإن افتخر لكنه كاذب في التعبير عن شعوره. إذاً لماذا فرح؟ لأنه نجح، ولماذا حزن؟ لأنه رسب. وتجد هذا لا يخصه وحده، إذا فرح ونجح إذا بابتسامة الأم عرضها كعرض البيت، وإذا صياح الأب وتهليله وتكبيره كأنما فتحت الدنيا، وانتصرت الأمة، وكل الناس يفرحون بفرحه، وإذا رسب تجد سحابةً سوداء مظلمة تخيم على البيت. هل نفرح لأمر الآخرة؟ وإذا وفق الإنسان إلى طاعة هل يفرح الأهل فرحاً صادقاً، وذلك إذا رأى الوالد ابنه مستقيماً على أمر الله، مرتاداً للمساجد، ملتزماً بسنة الرسول، يقضي وقته مع القرآن، ويعيش في رياض القرآن، ويرتاد حلق العلم؟! لكن للأسف أن الأمر وجوده وعدمه سواء.

الحزن والسرور

الحزن والسرور هل يحصل الحزن إذا تم التقصير في أمر الآخرة؟ إذا فاتت صلاة الفجر فلا مشكلة، بل إذا تأخر عن أداء الصلاة جماعة، بل عن أداء الصلاة بالكلية، بينما كان الصحابة يعزون من فاتته تكبيرة الإحرام، وكانوا إذا فاتت الواحد منهم الجماعة ورد في بعض الآثار أنه يعزى ثلاثة أيام، فهو حزين والناس يرثون له. سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -كما في الصحيح- لما مرض يوم الفتح وقيل في صلح الحديبية وأراد الرسول أن يرجع إلى المدينة، وكان المهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم من أمر هجرتهم في شرع الله ألا يرتدوا بعد هجرتهم، وكلهم بعد أن هاجروا المدينة ما رجع أحد منهم إلى بلده؛ لأنهم خرجوا لله ورسوله فلزموا ذلك، فلما أراد الرسول أن يرجع وكان سعد بن أبي وقاص مريضاً لا يستطيع أن يرجع، فدخل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا هو حزين يبكي ويقول: يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي، أي: هل أبقى هنا ولا ألحق معكم ولا تتم لي الهجرة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له مبشراً: (لعلك أن تخلف فيسر بك أقوام، ويضر بك آخرون)، فكانت بشارة وعلامة نبوة من الرسول؛ لأن سعد بن أبي وقاص كان فارس القادسية وقائدها، والذي كتب الله النصر على يديه للمسلمين على أعداء الله. ثم قال الرسول: (ولكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة) والرسول حزن له؛ لأنه أدرك الوفاة بمكة وهو من المهاجرين، وكان يحب أن يموت في المدينة؛ لأن المهاجرين كان مهاجرهم المدينة ولا يرجعون منها أبداً، وما ورد من أن الصحابة خرجوا من المدينة، فذلك صحيح لكنهم خرجوا في الأمصار وساحوا فيها، وما رجعوا إلى مكة وأقاموا فيها؛ فلذلك انظر إلى هذا الحزن وإلى هذا التغير لأمر الدين ولأمر الآخرة.

تنبيهات مهمة

تنبيهات مهمة نختم بأمور فيها شيء من التنبيه، وإن كان كل ما مضى فيه تنبيه للطلاب وللآباء والأمهات أن يكون اعتناؤهم باختبار الآخرة الأعظم، الاختبار الذي فيه المواقف العظمى الخطيرة: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، فإذا الطلاب عند أول الاختبارات منهم من يرتعد ويرتجف، لكن الأمر لا يعدو ضربات من القلب، وقد تجد قليلاً من قطرات العرق تتصبب، ومنهم من لا يلقي لذلك بالاً. أما هناك فهو الخوف الأعظم فنتنبه لذلك، وأما الطلاب فينبغي أن يعلموا أموراً: الأمر الأول: أن الأخذ بالأسباب من دين الله سبحانه وتعالى: فينبغي أن يشمروا عن ساعد الجد، ويذاكروا ويراجعوا، ويسألوا، ويسترجعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، أما أن يقول: الله سبحانه وتعالى الميسر والمسهل. فنقول: نعم هو ميسر ومسهل، لكن لا بد من الأخذ بالأسباب. الأمر الثاني: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده إذا ظن أنه أحفظ الحافظين، وأذكى الأذكياء، وأفطن الفطناء، فهنا يخشى عليه أن يقع، وكم رأينا ممن حصل وجد ثم لم يستعن بالله ولم يقل: يا رب، فربما حرمه الله سبحانه وتعالى التوفيق؛ لأجل نسيانه الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن ينتبه لذلك. الأمر الثالث: كثرة التقرب من الله سبحانه وتعالى: أليس من طبيعة الإنسان إذا داهمته الشدة أن يزداد صلة ً ورجوعاً إلى سبحانه وتعالى؟ A نعم؛ لأنه إذا رجع إلى الله سبحانه وتعالى، يسأل ويرجو أن يكون بقربه مهيئاً لأن يوفقه الله جل وعلا، ولكن لا يكون كحال بعض الناس، إذا جاءت الاختبارات ملئت المساجد، فأصبحت الأمور على خير كثير، ثم إذا انتهى الأمر، وتحقق المقصد، انقلب على وجهه، وترك طاعة ربه. وهناك نوع آخر: وهو نوع خطير عند الطلاب، بعضهم يقلل من الطاعات، إذا كان يصلي النوافل عادةً، ويذكر الله ويسبح، فإنه يتركها ويقول: الآن اختبارات، حدك حد الفرض، والفرض يحتاج إلى مقياس من السرعة حتى تنتهي من الصلاة بسرعة، فهذا يحرم نفسه، وكلما فرط في ذلك كان حرماناً له. ثم كذلك ينبغي للإنسان أن يستحضر السكينة والطمأنينة عند اختباره؛ لأن التوتر ومزيد الانفعال يفقد الطالب التركيز والقدرة على الإجابة؛ ولذلك بعض الطلاب إذا أخذ أوراق الأسئلة يقرأها من الأخير ومن الوسط، فلا يعرف ماذا قرأ، ولا كيف يجيب، ينبغي أن يكون آخذاً الأمر بهدوء وسكينه وطمأنينة حتى يعينه الله سبحانه وتعالى على ذلك. وفوق ذلك كله: أن يعلم أن هذا الاختبار إنما هو أمر يسير ينبغي أن يجعل في نيته أنه يستعين به على طاعة الله، وعلى الأخذ بالأسباب التي تعينه على أن يخدم دينه وأمته، حتى يكتب له الأجر، ويوفق إن شاء الله سبحانه وتعالى. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في اختبار الآخرة، وأن يجعلنا من المتهيئين له، وأن يجعلنا من الفائزين والناجحين فيه. اللهم اختم لنا بالصالحات، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم لا تفضحنا على رءوس الأشهاد، اللهم كما سترت علينا ذنوبنا في الدنيا فاسترها علينا في الآخرة واغفرها لنا يا أرحم الراحمين، اللهم يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، يا جبار السماوات والأرض، نسألك اللهم أن تتغمدنا برحمتك، وأن تحفظنا برعايتك، وأن تكلأنا بعينك التي لا تنام. اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم أعذنا من شرور أنفسنا، وآت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكها، أنت وليها ومولاها، اللهم وفقنا ووفق آباءنا وأمهاتنا وبناتنا وأبنائنا إلى ما تحب وترضى يا أرحم الراحمين، واصرف عنا ما لا تحب وترضى يا أكرم الأكرمين. وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الشباب بين المهاوي والمعالي

الشباب بين المهاوي والمعالي يسير شبابنا بين المهاوي والمعالي، والمعالي هي مطلب كل إنسان، ولن تتحقق المعالي إلا بتجنب المهاوي، وقد كثرت المهاوي في هذا الزمان بصورة تفوق الخيال، وعمت بها البلوى، مثل التدخين والمسكرات والمخدرات والفضائيات والإنترنت، وغيرها من الأمور التي تفتك بالدين والأخلاق والسلوك والجسم والعقل.

المعنى اللغوي للمهاوي والمعالي

المعنى اللغوي للمهاوي والمعالي الحمد لله، لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، من توكل عليه كفاه، ومن تعرض لرحمته أعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، قائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، اللهم اشرح صدورنا، ونور قلوبنا، واهد عقولنا، ونور بصائرنا، وثبت أقدامنا، وأحسن ختامنا، واختم بالصالحات آجالنا برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته. هذا الدرس رقمه (180)، ينعقد في يوم الجمعة السابع من شهر شعبان عام (1424هـ)، وعنوانه: الشباب بين المهاوي والمعالي. وليس مقصودنا أن نتحدث عن الشباب وأهمية هذه الفترة العمرية، فقد سلف لنا حديث في مثل هذا، وإنما مرادنا هنا أن نوضح هذه المعاني البينية التي سنتعرض لذكر تعلق الشباب بها. المهاوي: جمع هاوية ومهواه، وأصل الاستنباط اللغوي لهذه الكلمة من الفعل الثلاثي (هوى)، ومعناه كما قال أهل اللغة: هو أصل يدل على خلو وسقوط، فالشيء الذي فيه هواء هو خال فارغ، وإذا قلت: هوى الشيء فمعناه: سقط ولم يكن شيء يحجزه، بل كان هناك فراغ أدى إلى مثل هذا السقوط، وأصله الهواء بين الأرض والسماء، سمي كذلك لخلوه، وكل خال هواء كما قال جل وعلا: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43] أي: خالية فارغة من الإيمان وتثبيته، وقال المفسرون في هذا المعنى: خالية من الفهم لا تعي شيئاً. والهوة: هي الحفرة البعيدة القعر أي: الهاوية السحيقة التي فيها بعد وفراغ وخلو، من تعرض لها أو جاء إليها فإنه يسقط ويهوي. والوهدة: هي الغامض من الأرض التي لا يتفطن إليها؛ لأنها أرض منخفضة ليست ظاهرة، فيقع الإنسان فيها وقد يتعثر. ومن هنا نجد أن خلاصة معنى هذه المهاوي أن فيها معنى الخلو والفراغ، وأن فيها معنى الخفاء والغموض، وأن فيها -في آخر الأمر- معنى التردي والسقوط. وأما المعالي فإنها واضحة في دلالتها من حيث اشتقاقها من الفعل الثلاثي (علو) وهو السمو والارتفاع، ومعنى ذلك: السمو إلى المعالي العظيمة والارتفاع إلى المهمات الجسيمة. وهذا معناه أننا ندور في هذا الكلام حول الأمور والمطالب الشريفة السامية. وقال الخليل: المعلاة: الكسب والشرف، والجمع المعالي، وفلان من علية الناس أي: من أهل الشرف، فكل هذه المعاني السامية ترتبط بذلك، ومعنى هذا أن بينهما تضاد، فنحن لا نريد المهاوي ولكن نريد المعالي، ونحذر من المهاوي ونرغب في المعالي، لا نريد لشبابنا أن يسقطوا بين الحفر، بل نريد لهم أن يسموا ويعلوا إلى القمر، لا نريد لهم أن يسقطوا في الأدناس، بل نريد لهم أن يرتقوا وأن يكونوا شامة بين الناس، لا نريد لهم أن يتلوثوا بالوحل والطين، بل نريد لهم أن يتجملوا بالعطر والطيب، نريد ألا يفقدوا الرعاية والحماية، ولكننا نريد أن يجدوا التشجيع والإعانة.

المهاوي: أخطارها، أسبابها، أضرارها

المهاوي: أخطارها، أسبابها، أضرارها نريد هنا أن ننبه إلى بعض المهاوي وأخطارها وأسبابها وأضرارها، حتى يكون ذلك بمثابة تنبيه وتحذير وقرع لأجراس الخطر للشباب ولمن يهمهم أمر الشباب من الآباء والأمهات، ومن سائر دوائر المجتمع في أهم وأكثر دوائره تأثيراً وخاصة في التعليم والإعلام، وهذا ما سنتحدث عنه بإيجاز؛ لأن كل هاوية من تلك المهاوي جديرة بأن تفرد لها أحاديث خاصة، وقد سبق لنا في بعضها مثل ذلك. وسأتحدث عن أربعة مهاوٍ من الأمور التي لا تخطئها العين، ونعلم يقيناً أن لها صلة أكيدة بالشباب، وتأثيراً عظيماً فيهم، وأضراراً كبيرة تلحق بهم، ويعود ذلك بالتالي على المجتمعات الإسلامية والأمة الإسلامية بأكثر الأضرار التي نشكو ونعاني منها، وسنذكر في آخر الأمر بعضاً من المعالي، وإذا حذرنا من تلك المهاوي فيكون هناك شيء من الترغيب في تلك المعالي.

الفضائيات أسبابها وآثارها وأضرارها وطرق الوقاية منها

الفضائيات أسبابها وآثارها وأضرارها وطرق الوقاية منها الهاوية الثالثة: الفضائيات التلفزيونية بكل أنواعها المختلفة. الوقفة الأولى: أكثر المشاهدين والمتأثرين بالفضائيات هم من الشباب والشابات، وهنا ومضات سريعة في هذا؛ لأن الأرقام موجودة، والدراسات العلمية مكتوبة ومطبوعة ومقروءة. أولاً: الشابات أكثر مشاهدة وتأثراً بالفضائيات من الشباب، لماذا؟ لأن قدرتهن على الخروج والتحرك أقل، فهن في بيوتهن وفي حجرهن يقضين أكثر الوقت مع هذه الفضائيات. ثانياً: الشباب أكثر تجمعاً ومشاهدة جماعية من الشابات لهذه الفضائيات. ثالثاً: الأسر تتأثر وتبدأ تنحل عرا أخلاقها وآدابها شيئاً فشيئاً، وذلك بإدمان المشاهدة المحافظة نسبياً كما يقولون. رابعاً: الشيوخ يتصابون، والعجائز يتشببن، فالتأثر ليس مقتصراً على الشباب، فكم من شيخ عجوز يفتن وينحرف، ويصل إلى درجة من الانحراف لا يصدقها عقل، وعنده من الأبناء والبنات بل وربما الأحفاد والحفيدات ما يجعل مثل فعله قبيحاً في غاية القبح. خامساً: الصغار هم الضحايا الأبرياء، حيث تتفتح أعينهم على هذه القنوات منذ بداية نعومة أظفارهم، وتنطمس بصائرهم، وتسود فطرهم، وتختل موازينهم، وتقبح كلماتهم، وتنحرف سلوكياتهم، شاء آباؤهم وأمهاتهم أم لم يشاءوا، عرفوا أو لم يعرفوا. الوقفة الثانية: أننا نجد في هذه القنوات من الأمور المؤثرة الشيء الكثير، ولا أريد أن أذكر النسب، ولا أريد أن أذكر أوقات عرض هذه النسب. في كل قناة برامج دينية كم نسبتها؟ قدروها، ومتى تعرض؟ عندما ينام الناس، ولم يعد هناك مشاهدون، يبدأ بث هذه البرامج، ويقومون بإعادتها وإعادتها كرات ومرات، حتى من يشاهدها ويقصد مشاهدتها بعد فترة يصبح قد حفظها ومل منها، لكن أوقات الذروة -كما تسمى- التي فيها أكثر المشاهدين ماذا فيها؟ أولاً: باقات الأفلام التي يعلن عنها على صفحات الجرائد وعلى شاشات التلفاز، فيها محتويات تخرب العقائد والأفكار والتصورات، وتزيغ العقول، وتحرف السلوك، وتدعو وتحث وترغب وتسهل الجرائم. ثانياً: هذه الفضائيات تحطم الحدود، فليس هناك حدود جغرافية، ولا حدود أخلاقية، ولا مراعاة ثقافية، ولا خصوصية قومية أو وطنية، فهي تتجاوز ذلك كله، بل إن الإعلانات حتى في القنوات غير العربية تقدم باللغة العربية، وتكتب الأرقام ويقال: من يتحدث بالعربية فهذه الأرقام كذا وكذا، ومن يتحدث بغيرها فهذه الأرقام كذا وكذا، وتظهر على الشاشات الجمل باللغة العربية وهي جمل تدعو وترغب. ثم أيضاً: البدعة الجديدة المحدثة، تلك الأغاني الخليعة الماجنة التي لا يعرف الإنسان هل هو يستمع إلى غناء أم ينظر إلى فجور وفسق؟ وإن كنا نعلم حرمة ذلك كله، لكن الناس كانوا يستمعون إلى الغناء، والأثر فيه أقل، واليوم يرون فيه ما يرون. ثالثاً: البرامج المباشرة، وما أدراك ما فيها من الأحاديث والمغازلات والمعاكسات، وكنت أقول فيما سبق: يشتكي بعض الناس من بعض المعاكسات على هاتف منزله، فيصدر الأمر بالمراقبة، وتكون هناك عقوبات من الإمارة، أما اليوم فعلى صفحات الجرائد الإعلان: إذا أردت أن تهدي عبر الهواتف المحمولة أغنية أو تسجل رسالة أو تنقل صورة أو غير ذلك!! أصبح الأمر في هذا شائعاً متاحاً، وكأنه مباح، مع أنه ليس من باب الإباحة الشرعية، وأحسب أيضاً أننا جميعاً نقر بأن الشباب يقضون كثيراً من الأوقات في هذا، مما يؤثر آثاراً عظيمة، بل إنهم أصبحوا متخصصين في فنون البرمجة وفك التشفير وقلة التكلفة ونحو ذلك، كما نشرت صحفنا تحقيقات عن هذه القضايا، وأن هناك بطاقات بقليل من الأموال يمكن أن تشاهد بها قنوات إباحية جنسية، ليست واحدة ولا ثنتين ولا خمساً ولا عشراً بل أكثر من ذلك، وأنها تجدد بعشرة ريالات، وأن هذا أصبح مألوفاً ومعروفاً، ثم بعد ذلك نشكو من أحوال الشباب، وكل ما ذكرناه في التدخين والمخدرات والمسكرات من أعظم أسبابه هذه القنوات. هذه بعض الآثار الحقيقية المباشرة، وأتعجب أننا نعلم أنه قد صدرت الفتاوى بتحريم المخدرات وتحريم ترويجها، بل ومعاملة مروجي المخدرات معاملة من الناحية الشرعية تصل إلى حد القتل، وأحسب أن هذا الذي يكون في الفضائيات لا يقل عن ترويج المخدرات في آثاره وأضراره، فكيف يكون تسويقه والإعلان عنه بهذه الصورة المؤثرة المرغبة، التي في كل يوم تقدم جديداً، وتقدم من الأسعار ما هو أرخص، وتقول في إعلاناتها الواضحة الظاهرة: إننا نقدم هذه الأفلام مباشرة كما هي، يعني: ليس هناك رقابة، وليس هناك قص، وليس هناك حجب لشيء من هذا؟! وهذه من أعظم المخاطر على الشباب.

شبكة الإنترنت آثارها وأضرارها وخطورتها

شبكة الإنترنت آثارها وأضرارها وخطورتها الهاوية الرابعة: (الإنترنت) وأحسب أننا قد استشعرنا عظمة وخطورة الأحوال التي تعيشها مجتمعاتنا مع هذه الشبكة العنكبوتية. والدراسات تقول: إن أكثر المواقع التي فيها الدخول من الجمهور والتفاعل معها بالدرجة الأولى: هي المواقع الإباحية الجنسية. والدرجة الثانية -وهذا عجيب وقد رأيته في إحصاءات ودراسات علمية-: مواقع الدين والأفكار والمناقشات المتعلقة بذلك! أما بالنسبة لواقع شبابنا فإن أكثر من نسبة (70%) يستخدمون (الإنترنت) في المجالات الجنسية، والمغازلات والمعاكسات، وتبادل الصور، ومشاهدة الأفلام، وكل ما هناك من العلم والثقافة وغير ذلك ليس هو الذي يعتني به الشباب إلا قلة منهم، ولا أقول: أغلقوا هذه الوسيلة، ولكن لنبين أن عدم المتابعة والانضباط فيه خطورة عظيمة. ثم أيضاً هناك ما يسمى بالأحاديث المباشرة، ولوحات استخدام الكلمات الأجنبية، التي تتيح فرصة التخفي، فلا يعرف من أنت، وتتحدث بما شئت لمن شئت، وتتحدث هي كما شاءت لمن شاءت، ويكتب من شاء لمن شاء، وتكتب ما شاءت لمن شاءت، والأمور تبقى على هذه الصورة المزرية المؤثرة والخطيرة.

المسكرات والمخدرات أسبابها ودواعيها وأضرارها

المسكرات والمخدرات أسبابها ودواعيها وأضرارها الهاوية الثانية: المسكرات والمخدرات، وهي درجة أعلى وإن كنت قد أشرت إلى أن التدخين في الجملة أكثر ضرراً، سواء على الفرد أو على المستوى العام فإن ضرره أكبر؛ لأن شريحة المتعاطين له والمتضررين منه أكثر بكثير من تلك الدائرة، ومرة أخرى الشباب هم الضحايا في مثل هذه الهاوية الخطيرة. وقد قمت بزيارة لمستشفى الأمل الذي يعالج فيه المدمنون، ورأيت بأم عيني أن الغالبية العظمى التي تصل بحد أدنى إلى (60%) وربما بحد أعلى إلى نحو (70%) أو (75%) هم من الشباب، وعندما نقول: من الشباب أي: من سن الرابعة عشر، بل ودون ذلك أيضاً في بعض الأحيان، إلى نحو الثلاثين من العمر، كلهم من المدمنين الذين تجتالهم هذه الهاوية، وتدفنهم فيها حقيقة لا مجازاً، وإن الصور الحقيقية لهذا -ولست بصدد الإحصاءات- مخيفة ومرعبة وتلفت النظر إلى قضية الشباب، لكن أبدأ هنا بقضية مهمة وهي الأوهام الخاطئة والأحلام القاتلة التي تغري الشباب أو توقعهم فيها؛ لأننا سوف نذكر ذلك في الأسباب من بعد. أول هذه الأوهام: ما يروجه المروجون ويشيعه غيرهم كذلك من أن هذه المخدرات ليست محرمة، وأنها ليست كالخمر؛ لأن الخمر ورد فيه نص، وأن المخدرات ليس فيها نصوص تدل على حرمتها، وبعض الناس إذا وقع في هذه الآفة فإنه يستمرئ هذا القول، ويحاول أن يقنع نفسه به. ثاني هذه الأوهام: وهو أن هذه المخدرات تنسي أصحابها الهموم، وتفرج عنهم الغموم، وتدخل شيئاً من السرور والسعادة إلى نفوسهم، والحقيقة المرة أن الأمر على خلاف ذلك تماماً، فإن الذين يدخلون في هذا الطريق ويسيرون فيه يصيبهم الشقاء المحتوم، والنكد الدائم، والهم المقلق، وسوداوية الحياة كما سنذكر في بعض الصور. الوهم الثالث ونذكره بصراحة؛ لأنه يشيع بين الناس، ومن أراد أن يلتفت إلى هذا فليقرأ ما كتب عن قصص الإدمان وطريقته، هذا الوهم الثالث: أن هذه المخدرات تعطي قوة ومتعة جنسية لمتعاطيها، وهذا أيضاً مما يروجه الذين يسعون لنشر هذه المخدرات، وهذه الأوهام إنما ذكرتها؛ لأنها هي من أكثر المصائب التي تصطاد الشباب وترغبهم أو تغريهم بهذه الآفة المهلكة المدمرة. ننتقل بعد ذلك إلى توضيح تفصيلي للأسباب الموصلة والطرق المهلكة للإدمان: أولها وعلى رأسها كما أشرت من قبل: غياب الوازع الديني وضعفه؛ لأن التزكية والعبادة والإقبال على الطاعة والصلة بالله عز وجل أمر أساسي، ومتى فقد فإنه يترتب على فقده هذه المعضلة وغيرها من أمثالها. السبب الثاني: ضعف التربية الأسرية، ويتجلى ذلك في صور عديدة جداً منها: غياب الآباء والأمهات عن أحوال أبنائهم، ومعرفة مشكلاتهم، والجلوس إليهم، والحوار معهم، ومعرفة ما يجول بخواطرهم، وتلمس معاناتهم، فيبقى هؤلاء نهباً حينئذ للفراغ، أو للهم الذي يظنون أنه سوف يزول بدخولهم أو بتعاطيهم لهذه المخدرات، ويكونون كذلك فريسة لفراغ قاتل يودي بهم إلى رفقة فاسدة كما سنذكر. ومن الأسباب المتعلقة بهذا الجانب في التربية: توفير الأموال وإعطاؤها عند الطلب للأبناء، دون التنبه أو السؤال أو المتابعة لكيفية صرفها، ومجالات الانتفاع بها، ونجد قصص واقعية في هذه المستشفيات، وبعضها مدون في كتب، وبعضها مباشرة من بعض ما يلمسه الإنسان في مثل تلك الزيارات أن بعض الآباء يعطون أبناءهم مصروفات في أيديهم لا أقول: تصل إلى المئات بل تصل إلى الآلاف، أو يكون المال موجوداً في المنزل، ولا يحرج الأب على أحد أن يأخذ منه شيئاً، أو لا يلتفت إذا أخذ منه شيء، وهذا يكون له أثره الواضح. السبب الثالث: رفقة السوء وأصحاب الفساد، وبعض هؤلاء -وهذا أيضاً مأخوذ من اعترافاتهم وإقراراتهم- يحمل حقداً على الآخرين؛ لأنه قد وقع في هذه الآفة، ورأى مستقبله ينهار، وصحته تتهاوى، فيريد أن يوقع الآخرين فيما وقع فيه، ولذلك بعضهم يتفنن في أن يجعل غيره مدمناً، فرفقة السوء لا تصاحب؛ لأنهم ربما يتفننون لكي يصلوا إلى إدخال الشاب في حظيرة الإدمان؛ فإنه إذا امتنع أو رفض تعاطيها وكان معهم فإنهم قد يضعون له تلك المخدرات في العصير أو في الشاي أو في غيرها من المشروبات وهو لا يدري؛ حتى يدمن المخدرات رغماً عن أنفه، وبغير معرفته، وقد وقع ذلك كثيراً، وهو من أساليب المروجين؛ لأنهم يريدون أن ينفقوا بضاعتهم، وأن يكسبوا الأموال المحرمة، فيسعون إلى ذلك. السبب الرابع: الإعلام والأفلام، وما أدراك ما في هذه الأفلام؟! فإنه يعرض من فنون هذه الأمور ومن صورها ما يقولون: إنه للتنفير منها أو لبيان خطرها، وحقيقته أنه يرغب فيها، فإنك لا ترى بطلاً في غالب الأحوال إلا وهو مدخن، وتراه إذا أراد أن يستمتع يشرب المسكر، وتراه يشرب المخدر وهو في حالة تبدي أنه في سرور أو غير ذلك، إضافة إلى تعليم طرق وأساليب التخفي، ونحو ذلك من أمور أخرى سيأتي ذكرها. السبب الخامس: السفر إلى الخارج، وقد ذكرت إحصائية أجريت على بعض المدمنين في السعودية: أن (22%) منهم تعاطوا المخدرات للمرة الأولى في خارج البلاد، وهذا أيضاً خطر واضح تمارسه الأسر دون أن تلتفت إلى مخاطره، فيقول لك هؤلاء الآباء والأمهات: دعه يتنزه، أو يروح على نفسه، أو يكتشف العالم، لماذا نعقده؟ لماذا نمنعه؟ ويترك له الحبل على غاربه، ثم ينتهي به الأمر إما في سجون الشرطة، وإما في مستشفيات الإدمان، وإما في مقابر الموتى، وتلك الحالات أكثر في الشباب منها في الحالات الأولى. السبب السادس: الاستخدام السيئ للأدوية، وبعض العطور، وبعض الأغراض التي تستخدم في غير ما أعدت لها، وهذا أيضاً ينبغي الانتباه له والحذر منه، والشباب يقعون فيه وخاصة صغار السن الذين لا يملكون المال ولا يعرفون الأمور؛ فإنهم يبدءون بتلك الأمور الموجودة في البيوت، والموجودة في كل مكان، وتكون هي بداية الطريق، وبعض هؤلاء -كما هو وارد في تلك الدراسات والإحصاءات- قد بدءوا في بعض تلك العادات المسماة بالشفط أو بالشم أو غير ذلك، وهم في سن السابعة والتاسعة قبل أن يبلغوا العاشرة من أعمارهم، وهذه قضية أيضاً خطيرة. السبب السابع: التفكك الأسري بالطلاق وكثرته، وكثرة الشقاق والخصام والنزاع بين الوالدين، ووجود أجواء الحرمان العاطفي والتربوي بين الأب والأم، وانعكاسه على الأبناء. السبب الثامن: استهداف أعداء الإسلام والمسلمين عموماً وأتباعهم لشباب الأمة؛ لأنهم إذا دمروا الشباب فقد جاء السبب الأكبر لتدمير الأمة، ولو تذكرنا الإحصاءات في التدخين، فإن الإحصاءات تكاد تكون مثلها تماماً في المخدرات. وفي دراسة نشرتها مجلة الفرقان الكويتية في عددها الأخير ذكرت إحصاءات خليجية، وذكرت إحصاءات أيضاً سعودية إلى أن نحو (60%) - (70%) من المتعاطين للمخدرات هم من فئة الشباب من سن الرابعة عشر إلى الثلاثين من العمر. وأما مسألة الحكم الشرعي فالأمر فيها على خلاف الوهم قال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر قليله فكثيره حرام) كما ورد في الصحيح. وقد أجمع العلماء المتقدمون في مسألة واضحة بينة تترتب عليها الآثار، قال الإمام النووي: كل ما يزيل العقل من الأشربة والأدوية كالبنج وهذه الحشيشة فحكمه حكم الخمر في التحريم، وقال الحصفكي من علماء الحنفية نقلاً عن الجامع: من قال بحل البنج والحشيشة فهو زنديق مبتدع. فالمسألة ليست فقط في الحل، وكل ما ذكرناه من الأدلة السابقة من الإلقاء بالأيدي للتهلكة، وتحريم الخبائث، وغير ذلك يدخل في هذه الحرمة دخولاً واضحاً. أما الآثار أيها الإخوة! فإني أريد أن أذكر بعضاً من هذه الآثار، مع الإشارة إلى بعض القصص الواقعية؛ لأن هذه القصص قد يكون لها من التأثير والتذكير والاعتبار أكثر مما يكون لغيرها من النقاط أو المعلومات. هناك آثار كثيرة وخطيرة على مستوى الفرد وعلى مستوى الأسر وعلى مستوى المجتمع والأمة، والآثار لها جوانب كثيرة منها: جوانب صحية ومالية واجتماعية ودينية، وفي كل هذه الآثار من الجوانب ما يضيق المقام عن ذكره أو حصره. وبعض هذه الآثار تكون على مستوى الفرد في بدنه وعقله وماله، ومن ذلك: ضعف العقل، وقلة التركيز، وعدم القدرة على الاستحضار، ولذلك يتخلف هؤلاء المتعاطون للمخدرات في دراساتهم ويرسبون، وينتهي بهم المطاف جزماً إلى ترك الدراسة، وعدم القدرة على المواصلة، وهناك الأمراض الخطيرة الفتاكة التي تصيب البدن من تليف الكبد، ومن ارتفاع نسبة الإدمان في الدم حتى تصل في الجرعات الزائدة إلى الموت المفاجئ وهو كثير جداً. وقد قرأت وشاهدت صوراً حقيقية لبعض الشباب، وقد أغلق على نفسه غرفته، ثم أخذ هذه الحقنة بعد أن ربط يده، وكانت جرعة زائدة، فمات وهو منكفئ على جبهته، وبقي أكثر من ثلاثة أيام في هذا المكان دون أن يشعر به أحد. وهناك أسرة مكونة من عدد من الأبناء كانت من الأسر الكريمة والطيبة، وابنها الأكبر دخل في هذا الطريق، وانتهى به الأمر إلى أن مات ولم يعرف أهله سبباً لموته، وكان من ضحايا المخدرات. والعجيب أن أخاه الأصغر منه كان يذهب معه في بعض تلك الجلسات ولم يكن يتعاطى المخدرات، فبعد وفاة أخيه وبعد العبرة به إذا بأولئك الصحبة يغرونه بالالتحاق بهم ثم يدمن المخدرات ثم يكون أيضاً ثاني الموتى، ويلحقه الابن الأصغر أيضاً، ويموت الثلاثة من الأبناء بسبب المخدرات، والقصة واقعية حقيقية بأسمائها وأشخاصها، وكثير من هذه القصص قد لا تعلم؛ لأن الأسر تستر على نفسها. وأما المال فإنه يبدد بشكل عجيب، حتى إن أقل الناس ينفق إذا أراد أن يواظب على القدر الذي يحتاج إليه من هذه المخدرات ما لا يقل عن مائتي ألف ريال في العام الواحد، وهناك ما يترتب على هذا، فإن الذي يفقد المال يبدأ فيسرق من مال أهله، ويسرق ذهب زوجته، بل إنه يبيع أثاث بيته وأثاث بيت أهله قطعة قطعة، وقد قرأت من قصص (لجنة بشائر الخير) وهي لجنة في علاج الإدمان والمدمنين في الكويت، وأعرف رئيسها، وقد زرت هذه اللجنة والتقيت ببعض المدمنين التائبين، يذكر في القصص: أن أماً اتصلت به تقول له: أدركني فإن ابني قد جاء بشاحنة، وهو يشحن جميع أثاث البيت، وقد باعه لأج

أضرار التدخين وطرق الإقلاع عنه

أضرار التدخين وطرق الإقلاع عنه الهاوية الأولى: التدخين، ربما يكون ترتيبنا ليس مقصوداً بذاته؛ فإن كل واحدة من هذه المهاوي لها ما يقدمها على غيرها من وجوه كثيرة حتى يحتار المرء في أيها يبدأ! التدخين كلنا يعرفه، ولكنني أقول: إن الأرقام المتعلقة بالتدخين في فئة الشباب ترعب، والحقائق تخيف، والنتائج تنذر بخطر عظيم، وهذه وقفات مختصرة جداً، وإلا فإن هناك ما هو أعظم وأكبر وأخطر. إن الأرقام المتوافرة على التدخين في دائرة الشباب مرعبة، وقد نشرت صحفنا المحلية: أن دراسة أجرتها وزارة التربية والتعليم في المدارس شملت (752) تلميذاً في المرحلة المتوسطة والثانوية بالمدارس الحكومية في مدينة الدمام، أعطت هذه النتائج أن (30%) من هؤلاء الطلاب مدخنون في المرحلة المتوسطة والثانوية، و (90%) من هؤلاء المدخنين بدءوا بالتدخين في مرحلة مبكرة، وبينت الدراسة أن (55%) من طلبة السنة النهائية في المرحلة الثانوية لا يقدرون حق التقدير احتمال إصابتهم بالإدمان على التدخين. ومن الأرقام المؤسفة أن جمعية مكافحة التدخين أشارت إلى أن (17%) من الطبيبات السعوديات العاملات في منطقة الرياض مدخنات. ومن الأرقام المفزعة كذلك دراسة أجريت على مدارس البنات في المرحلة المتوسطة والثانوية في منطقة مكة المكرمة، وأظهرت أن من (35%) إلى (55%) من الطالبات مدخنات، وهذه النسبة تزيد عند المعلمات. وتشير إحصائية أخرى إلى أن عدد المدخنين إجمالياً في المملكة بلغ نحو (ستة ملايين) مدخن ما بين ذكر وأنثى ومقيم ومواطن، وأن إجمالي ما يدخنونه (ثمانية مليارات وسبعمائة ألف سيجارة)، وأن ذلك يكلف (ستمائة وثلاثة وثلاثين مليون ريال) في العام الواحد. لو حسبنا هذه الأرقام وتحدثنا عن البطالة أو عن المشروعات أو عما سيأتي من تكاليف العلاج سنرى كم هي الجريمة فادحة! وكم هي الخسارة عظيمة في هذه الهاوية الخطيرة! والتقارير العامة من منظمة الصحة العالمية تقول: إن أعداد المدخنين تتناقص في أمريكا والدول الأوروبية والدول المتحضرة، وأنها تتزايد في دول العالم الثالث، وتتوقع بحلول عام (2020م) أن يكون (70%) من أسباب الوفيات راجعة إلى التدخين. أرقام أخرى تقول: إن استهلاك السيجارة في المملكة ليس كما ذكرت وإنما أرقام أخرى: (خمسة عشر مليار سيجارة)، وأنها تكلف ذلك الرقم الذي ذكرته، وأن إجمالي نسبة المدخنات من بين المدخنين عموماً تزيد على (20%). ونشرت جريدة البيان الإماراتية في تقرير نشره المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أن التبغ كلف المجتمع الدولي عموماً أحد عشر ألف وفاة يومياً. أما الدراسات تقول: إن (خمسة وأربعين) وفاة يومياً في دول الخليج سببها المباشر التدخين، وهذه الوفيات يمكن أن تحسب بالساعات، بل ربما بما هو أقل من ذلك. وتقول الدراسة التي أجريت في عام (2000م): إن هناك ألف وفاة سنوية بأمراض سرطانية لها علاقة مباشرة بالتدخين. وتقول هذه الدراسة: إن التدخين ينتشر بمقدار (40%) في المجتمع الرجالي و (10%) في المجتمع النسائي و (15%) في مجتمع الصغار والشباب المراهقين. وتؤكد الدراسة أن فئة الأطباء والعاملين في القطاع الصحي وطلبة كليات الطب يمارسون التدخين بنسبة تصل إلى ثلث الشريحة، وتتجاوز نصف الشريحة في السعودية والكويت والإمارات التي أكدت الدراسة أن (44%) من الأطباء الذكور يدخنون السيجارة. وفي دراسة أيضاً أجريت في إحدى مناطق المملكة على الطالبات أن (27%) من طالبات المرحلة المتوسطة و (35%) من المرحلة الثانوية، وأكثر من (50%) من المعلمات كلهن يدخن السجائر. وإحصائية علمية في المملكة قدرت أن خسائر مستشفى الملك فيصل التخصصي في علاج الحالات المرضية للمدخنين بلغت أكثر من (عشرة مليار دولار) خلال خمسة وعشرين عاماً. وتؤكد هذه الأرقام والإحصاءات أن المملكة هي الدولة الرابعة على مستوى العالم في استيراد واستهلاك التدخين. وتبلغ نفقات التدخين في استيراده -فضلاً عما يترتب عليه من مصروفات العلاج- أكثر من الميزانيات المخصصة للبحوث العلمية وتطوير التعليم. وتقول الأرقام الأخرى العامة: إن أعلى الدول في العالم تدخيناً بالنسبة إلى عدد السكان هي تركيا، البلد الإسلامي الذي يبلغ نسبة المدخنين فيه إلى نسبة عدد السكان (67. 5%) من إجمالي عدد السكان. وعدد المدخنين في مصر يرتفع سنوياً ما بين (8 - 9%)، وهو معدل أعلى بكثير من معدل زيادة المواليد. وتقدر دراسات الشركات المصنعة والمستوردة للتدخين: أن في مصر ما بين (ستة عشر) إلى (سبعة عشر مليون) مدخن. وتقول وزارة الصحة المصرية: إن المصريين ينفقون نحو (خمسة مليارات جنيه) على التدخين، أي: نحو (22%) من متوسط الدخل القومي للفرد في مصر. وهذه الأرقام كافية في أن تظهر لنا فداحة الأمر وخطورته الشديدة الكبيرة. وقفة ثانية مع قضية قريبة منا ولصيقة بنا كثيراً: أعددت استمارة صغيرة فيها معلومات عن الشخص، ومتى بدأ التدخين، وكم سيجارة يدخن في اليوم، وما هو سبب تدخينه لأول مرة، وهل فكر في الإقلاع عن التدخين، وكم المدة التي مكثها عندما أقلع عن التدخين ثم عاد إليه. وقد اخترت من نحو أربعين استمارة هذه النماذج اليسيرة، وكلها أخذت من دائرة لا تزيد عن مئات الأمتار عن هذا المسجد الذي نستمع فيه إلى هذا الحديث. هذه استمارات اخترتها لمن يدخنون وهم دون الخامسة عشر من العمر. استمارة أحد المدخنين عمره اثنان وعشرون عاماً، يقول: إنه بدأ التدخين قبل خمسة عشر عاماً، أي: أنه بدأ يدخن وهو ابن سبع سنوات! ويقول: إنه يدخن يومياً نحو خمس عشرة سيجارة، والسبب الرفقة والأصحاب، ويقول: فكر أكثر من مرة بترك التدخين ولكنه لم يتركه إلا لأقل من أسبوع فقط. وآخر عمره عشرون عاماً يذكر أنه بدأ التدخين قبل عشر سنوات، أي: وعمره عشر سنوات، ولكنه يدخن قليلاً، وقد ترك التدخين نحواً من عام ثم عاد إليه. وآخر عمره ستة وعشرون عاماً ودخن قبل خمسة عشر عاماً أي: وعمره أحد عشر عاماً، ويدخن أكثر من عشرين سيجارة في اليوم، ولم يفكر في ترك التدخين، والسبب أيضاً الرفقة والأصحاب. وآخر عمره اثنا عشر عاماً، ويدخن في اليوم أكثر من عشرين سيجارة، ولم يفكر في الإقلاع عن التدخين بعد كما يقول. وهذا عمره أحد عشر عاماً، ويدخن أكثر من عشرين سيجارة، ويقول: فكر مرة واحدة، وتوقف لأقل من أسبوع. واثنان عمرهما أربعة عشر عاماً، وكلاهما يدخن في اليوم ما بين خمس عشرة إلى أكثر من عشرين سيجارة. وأكثر الأسباب التي ذكرت في هذه الاستمارات هي الرفقة والأصحاب، خمسة وعشرون مدخناً من هؤلاء الأربعين ذكروا هذا السبب. ومن الأسباب الأخرى: كتب بعضهم: الطفش، وكتب آخر: الوهم، وكتب ثالث: السفر إلى الخارج، وكتب رابع: طيش الشباب. ثم ليست من مهمة حديثنا هذا الوقوف مع الأضرار والأخطار، وأقول هذا حتى أدفع من يسمع إلى أن يراجع ويبحث، وأرجو ألا يراجعني بل يراجع نفسه ويبحث ثم يعود؛ لأن التدخين أشد خطراً وضرراً من الخمر والمخدرات على المستوى العام، وتبين الآن أن في مادة التبغ أكثر من أربعمائة مكون كيميائي، فيها على حد أدنى أربعون مكوناً ساماً قاتلاً على المدى البعيد، وكل من يتجاوز التدخين عشر سنوات فإنه يكون معرضاً للإصابة بالسرطان أو تصلب الشرايين بنسبة تزيد على (80%)، والأرقام من حيث الاستهلاك والشيوع أكثر بكثير من بقية الأحوال الأخرى. لذلك بدأت الحديث عن التدخين؛ لأنه خطير، ولأن الحديث عنه والمواجهة له من المفترض أن تكون أيسر وأسهل من غيره من المهاوي الخطيرة. أما بالنسبة للأحكام الفقهية أيضاً، فليس مرادنا الوقوف عندها، ولكنني وجدت لبعض الفتاوى نوعاً من الشمول والقوة، التي لعل ذكرها يزيل الأوهام؛ لأنه يكاد يجمع المدخنون وطائفة كبيرة من غير المدخنين أن التدخين لا يعدو أن يكون مكروهاً، وهذا لمن يجترئ ويقول: إنه مكروه، وإلا فبعضهم يرى أنه دون ذلك، مع أنه عقد في عام (1402هـ) أو (1412هـ) مؤتمر في المدينة المنورة في الجامعة الإسلامية، وحضره جمع من العلماء، وأفضل ما أصدروه من هذا المؤتمر: فتوى جماعية بحرمة التدخين، وأنا أذكر هذه النصوص من فتوى سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمه الله والشيخ ابن عثيمين رحمه الله، والثانية أوسع وأشمل، وفيها من المعاني ما يستلفت النظر والانتباه، قال ابن باز رحمه الله: الدخان محرم؛ لكونه خبيثاً ومشتملاً على أضرار كثيرة، والله عز وجل إنما أباح لعباده الطيبات من المطاعم والمشارب، وحرم عليهم الخبائث، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4]، وقال تعالى في الحكم من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فكل ما هو خبيث محرم. ولا أظن مجنوناً وليس عاقلاً في الدنيا يمكن أن يقول: إن الدخان ليس خبيثاً، فضلاً عن أن يقول: إنه طيب. قال: وهكذا جميع المسكرات كلها من الخبائث، والدخان لا يجوز شربه، ولا بيعه، والتجارة فيه كالخمر، والواجب على كل من يشربه ويتجر فيه البدار بالتوبة والإنابة. أما فتوى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فيقول فيها: شرب الدخان محرم، وكذلك بيعه وشراؤه، والتأجير لمن يبيعه؛ لأن ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، ودليل تحريمه قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ووجه الدلالة من ذلك أن الله تعالى نهى أن نؤتي السفهاء أموالنا؛ لأن السفيه يتصرف بها فيما لا ينفع، وبين الله سبحانه وتعالى أن هذه الأموال قيام للناس لمصالح دينهم ودنياهم، وصرفها في الدخان ليس من مصالح الدين ولا من مصالح الدنيا، فكيف يكون صرفها في ذلك؟! فيكون صرفها في ذلك منافياً لما جعله الله تعالى لعباده. ومن أدلة تحريمه: {وَ

طرق ووسائل معالجة مشكلات التدخين والمسكرات والفضائيات والإنترنت

طرق ووسائل معالجة مشكلات التدخين والمسكرات والفضائيات والإنترنت أيها الإخوة الكرام! هذه مهاو أربع ذكرناها على سبيل الإيجاز، ولكنه إيجاز أحسب أنه نبه على الخطر، وكشف عن الضرر، وأوجب علينا جميعاً أن نقف في مواجهة هذا الخطر، وأننا جميعاً غير آمنين على أنفسنا وعلى أبنائنا منه، وإنه لابد من بذل كل جهد في هذا السبيل، وسأذكر الآن ثلاثة عناصر أساسية من الجمل الجامعة للمعالجة النافعة لهذه المشكلات وغيرها: الأول: التزكية: وهي التربية الإيمانية العبادية التي يرتبط فيها المسلم بالله عز وجل، يستحضر عظمته، ويستحي منه، يخاف عذابه ويرجو ثوابه، ويبكي بين يديه، ويتضرع إليه، ويتوكل عليه، فحينئذ تكون حاله على غير الحال التي يمكن أن تصرعه فيه هذه المشكلات أو تلك المهاوي. الثاني: التربية، ونعني بها: تربية الوالدين وتربية المعلمين وتربية وسائل الإعلام، وأن تكون محببة ومرغبة في الخير، ومحذرة ومنفرة من الشر، وأن تؤسس الشباب والأبناء على أسس سليمة لا تفسد فطرهم، ولا تحرف سلوكهم، ولا تزيغ أهواءهم، ولا تضل عقولهم، كما تمارس أحياناً وسائل الإعلام، أو كما يقع في معاهد العلم والتعليم أو غير ذلك مما نعلمه. الثالث: التوعية والتنبيه بمعرفة الأخطار وكشف الأضرار، والتحذير من الوسائل والسبل بأسلوب علمي دقيق، فإن القرآن الكريم قد بين جوانب الضرر، وبين جوانب مما قد يرى أن فيهما خيراً أو مصلحة، ورجح أن الأضرار إذا عظمت فإنها حينئذ لا يلتفت إلى تلك المنافع الموهومة أو المزعومة، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] وهذا الإثم الكبير هو الذي جاء القرآن من بعد فقطع بالتحريم بشكل واضح، وقوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] فبينت الآية الوجهين حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم، وكثيراً ما نخفي الحقائق أو لا ننبه على المخاطر فيقع الناس فريسة لها.

المعالي ودور الشباب فيها

المعالي ودور الشباب فيها بعد هذه المهاوي أقف وقفتين مختصرتين مع صورتين من صور المعالي التي نحبها لشبابنا، والأصل أن يطول فيها حديثنا، ولكن الإشارات تغني إن شاء الله عن طول العبارات.

ركائز التميز الشخصي للشباب

ركائز التميز الشخصي للشباب الصورة الأولى: الشباب والتميز الشخصي أي: تميز الشخصية للشاب واكتمالها واستوائها واعتدالها، وأقول هنا في عناوين جامعة: التدين أساس، والأخلاق زينة، والجدية إنتاج، والاستقلالية ثبات، والمبادرة عطاء، والهمة ارتقاء، هذه أركان وركائز أعود عليها بشيء من التعريف. الأول: التدين أساس: فلا يقوم شيء قياماً صحيحاً ولا يدوم دواماً مستمراً إلا أن يكون له أساس اعتقادي إيماني، فإن الذي يحرك النفوس ويقوي العزائم ويثبت في المواقف ويمنع من الانزلاق بعد عون الله عز وجل هو التدين والإيمان والخوف من الله عز وجل، وتذكر العواقب، والحرص على تجنب مواطن الخزي في الدنيا والندامة في الآخرة، ولذلك لما تربى الجيل الأول من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والأجيال المؤمنة على الإيمان حتى عصرنا الحاضر رأينا شباباً يستعلي على الشهوات، ويقف بشموخ وقوة وصلابة أمام الإغراءات، ونجده يسمو على كل تلك الشهوات، ويشمخ بهمته وعزيمته إلى ما هو أعلى وأسمى من كل هذه العوارض، ونحن نرى ذلك بحمد الله ونرى له أمثلة فنقول: من أراد حتى أن يتفوق في الدراسة فضلاً عن التفوق الأخلاقي فإن أساسه ومفتاحه ومبدأه التدين والارتباط بالله عز وجل، وأداء الفرائض، والإقبال على الطاعات، والاستكثار من الخيرات، والحرص على الرفقة الصالحة، والارتباط بكل ما يغذي ويحيي مشاعر الإيمان في النفوس والقلوب، من دروس العلم ومواعظ الذكر وغير ذلك. الثاني: الأخلاق زينة: فإن التربية الخلقية وإن كانت جزءاً من التربية الدينية، إلا أنها صورة خاصة ومنطقة مهمة ينبغي العناية بها، فخلق في الصدق والأمانة، وخلق في العفة والحياء، وخلق في الصبر والحلم، وخلق في جوانب التعامل من التواضع والبشاشة والرفق واللين وغير ذلك، عندما نحببها ونرغب فيها الشباب ونشيعها بينهم، ليس كما هو حالنا اليوم تجد كثيراً من الشباب يمتهنون الكذب ويحترفونه، ويعتبرون جودة الأساليب والمخادعة بالكذب نوعاً من الشطارة كما يسمونها أو من الحذق والمهارة ونحو هذا. الثالث: الجدية إنتاج: الجدية بمعنى: أخذ الأمور بجد استغلالاً للوقت، وحرصاً على التحصيل، وإتقاناً في العمل، فقد غلب على الشباب تراخ وكسل وتفريط وتضييع من أثر تلك المهاوي التي أشرنا إليها. يقول عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] فديننا دين قوة، ودين جد، فقد خوطب النبي عليه الصلاة والسلام في أول ما نزل عليه من القرآن في الآيات الأولى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:5 - 6]. وقال زيد بن ثابت لما كلفه أبو بكر بجمع القرآن: (لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي). كان السلف يأخذون الأمور بجدية، فتجدهم حينما ينتدبون للمهمات يؤدون الواجبات، ويتقنون الصناعات، ويتفوقون في العلوم، وغير ذلك من الجوانب المهمة. الجدية مفتاح أساسي في شخصية الشاب على وجه الخصوص، وشخصية المسلم على وجه العموم، مالنا نرى كثيراً من الشباب وهم رقعاء سفهاء متخنثون متشبهون بالنساء؟! نرى أنواعاً من هذه الشخصية التي شوهتها تلك المهاوي والمهالك التي أشرنا إليها. الرابع: الاستقلالية ثبات: فإن شخصية الشاب لابد أن تكون فيها استقلالية، وفيها قدرة على التعبير عن رأي صاحبها، وأن يخرج ما لديه من الاعتراضات، أو من الأمر بالمعروف، أو النهي عن المنكر، أو الوقوف عن الخوض في الفتن كما في الأثر: (إذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم)، لا ينبغي للشاب أن يقول: المجاملة، وكيف أقول؟ وكيف أفعل؟ الشاب لابد أن يكون مستقلاً في شخصيته مع مراعاة الأدب، ومع مراعاة حسن التوقير للكبير، لكنه لا يذل نفسه، ولا يسير مع التيار، بل له من إيمانه وخلقه وجديته ما يثبت به على معتقده، وعلى رأيه في الحياة، وعلى جده في الأمور. الخامس: المبادرة عطاء: كثر في شبابنا أنهم ينتظرون غيرهم أن يبدأ، وينتظرون الكبار أن يصنعوا، ونحن نعرف أن الصغار كانوا في الزمان الأول كباراً، ونحن اليوم نرى الكبار وهم في حقيقة أمرهم صغار، ونحن نستصغر الشاب فنقول عنه وهو في المتوسط: إنه صغير، وفي الثانوي لم يكبر بعد، وفي الجامعة ما زال في مقتبل شبابه، ولا يعتمد عليه حتى يبلغ إلى الخامسة والعشرين أو الثلاثين! إذاً: متى سيكون هو ذلك الشاب الذي يثق في نفسه، ويبادر بأن يتقدم وينتدب إلى المهمات؟ إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد متى يتجدد ما حصل بين رافع بن خديج وسمرة بن جندب رضي الله عنهما وهما صغيران في السن عندما تصارعا؛ ليفوز أحدهما بشرف الالتحاق بجيش النبي عليه الصلاة والسلام لمحاربة كفار قريش في غزوة أحد؟! نريد المبادرة التي كانت من قبل حين رأينا الشباب يستبقون إلى الموت، فضلاً أن يستبقوا إلى ميادين العلم أو الدعوة وهم في سن نعدها اليوم سناً صغيرة، ما بين قائد لجيوش في السابعة عشرة أو التاسعة عشرة وما بين مفت للأمة كـ الشافعي وهو في التاسعة عشرة من عمره، وهناك شباب كثيرون ملئت بهم صفحات تاريخنا، واليوم يبلغ الرجل الأربعين والخمسين وهو لا يقدم شيئاً ولا يعطي شيئاً. السادس: الهمة ارتقاء: وما لم تكن هناك همم عالية طموحة فلن تثمر جداً، ولن تنبت استقلالاً، ولن تنشئ مبادرة، فلابد أن نشحذ تلك الهمم في نفوس الشباب، وأن نذكي نارها في قلوبهم، وأن نجعلهم أصحاب طموح كما كان ربيعة بن كعب: (لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: سل حاجتك؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة).

ركائز التفوق الدراسي والإبداع والابتكار للشباب

ركائز التفوق الدراسي والإبداع والابتكار للشباب الصورة الثانية: الشباب والتفوق الدراسي، ونحن اليوم نرى نسب الرسوب كثيرة، والناجحون يقنعون بالقبول، ونسأل الله القبول كما يقولون، وقلة قليلة من الشباب تحقق نتائج متميزة، وقلة من هؤلاء المتميزين من يستمرون أو يبدعون أو يبتكرون، وتأتي أمتنا من بعد في ذيل القائمة تخلفاً علمياً وتقنياً؛ لأن الشباب انصرفوا عن هذا الميدان في التفوق الدراسي والعلمي والتقني، وانشغلوا بسفاسف الأمور، وبمفسدات العقول، وبمضلات الفتن نسأل الله عز وجل لنا ولهم السلامة. هذه الجوانب والركائز أجملها في أمرين اثنين، في كل منهما نقاط يسيرة: الجانب الأول: البواعث والعوامل لهذا التفوق. أولاً: الثقة مبعث القدرة: فالثقة بالنفس مبدأ مهم، حتى تستطيع أن تبدأ في خطوة الإنجاز الأولى، وكثير من الشباب -بل كثير من قادة الرأي أحياناً- يرون أنه لا يمكن أن يكون عندنا متفوقون كالغربيين أو الشرقيين، وأن العبقرية والعلم والاختراع لم تخلق لنا، وإنما خلقت لأناس ليسوا من بيئتنا، وبهذا نحطم شبابنا، ويتحطم الشاب إذا لم يكن عنده ثقة في نفسه بأنه يمكن أن يكون متفوقاً، وأن يكون عالماً، وأن يكون مبدعاً، وأن يكون مخترعاً إلى غير ذلك من الأمور، فالثقة مبعث القدرة. ثانياً: التشجيع محفز الارتقاء: لابد أن نشجع أولئك الأبناء على هذا التفوق تشجيعاً تربوياً متوازناً، ونجعله متكاملاً، فوسائل الإعلام عليها ألا تشجع على اللهو والعبث وضياع الأوقات في جوانب معينة، وألا تقدم القدوات على أنهم أصحاب جرة قلم أو ركلة قدم أو رنة نغم أو غير ذلك، بل تقدم النماذج والقدوات التي تشجع على التفوق الدراسي والعلمي والإبداعي، فلابد أن يكون هذا التشجيع على كل المستويات، حتى يكون عاملاً محفزاً للارتقاء. ثالثاً: الانتباه قدرة على التركيز: وهذه من مهارات التعلم، لابد أن يكون الطالب أو الشاب منتبهاً متيقظاً مركزاً؛ حتى يستطيع باستمرار أن يُحصِّل بسماعه سواء في محاضرة أو في حصة في فصل دراسي أو في مجمع عام، وأن يكون دائم الانتباه والتركيز ليضيف إلى حصيلته من العلم ما يجعله متفوقاً. رابعاً: الذكاء قدرة الاستنباط: فلابد من إعمال العقل لتقويته وشحذه، حتى يكون عنده المقارنات، وتكون عنده المفارقات، ويكون عنده القدرة على الاستنباط والتحليل، والعقل بطبيعته كلما شغلته زادت قدرته، وكلما تركته ضعفت قدرته، كما يقولون -للأسف- في بعض النكات ليشيروا إلى وجه النقص: إن هناك عقولاً للبيع فيقول: هذا عقل مستهلك استخدم كثيراً، وكذا، ثم إذا جاء إلى العقل العربي قال: هذا عقل نظيف، لم يستخدم أبداً، تأخذه طازجاً؛ لأنه لا يشتغل أو لا يفكر أو لا يعمل عقله أو لا يستحضر ذكاءه! وهذا أيضاً مما ينبغي تجنبه. خامساً: الذاكرة قدرة على الحفظ، والحفظ مهم في العلم مع الفهم، ويخطئ من يقول: إن الفهم يستقل لوحده. سادساً: الإرادة قدرة على التفوق بالعزيمة الماضية. الجانب الثاني: الطريق المتجرد: وله خطوات: أولها: الإنصات وهو طريق التعلم، والقراءة، وطريق التقدم والكتابة، وطريق التمكن والدراسة، وطريق التفنن والتعبير والإبداع، وطريق التألق. ولابد من كل هذه المهارات، ونحن نريد لشبابنا أن يأخذوا بهذا وأن يحرصوا عليه، وألا تكون هذه الحالة التي نعاني منها، ولا شك أننا نشعر بضرورة التكامل بين الجوانب المختلفة السيئة التي أسلفناها والحسنة التي أخرناها، فإن هذه لا تكون إلا بتجنب تلك، وإن وجود تلك سيفضي بنا إلى عدم تحقيق هذه. نسأل الله عز وجل أن يحفظ شبابنا، وأن يحفظنا جميعاً من مضلات الفتن ونزغات الهوى ووساوس الشياطين وقرناء السوء. ونسأله عز وجل أن يحفظ إيماننا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين المخلصين، وأن يكتبنا من ورثة جنة النعيم، وأن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إلى المعلمين والمعلمات

إلى المعلمين والمعلمات لقد دعا دين الإسلام إلى العلم والتعليم وحث عليه، وأعطى أهل العلم منزلة رفيعة، وجعل أجور المخلصين منهم غير منقطعة، وما ذاك إلا لأهمية ما يقدمونه، وعظيم ما يقومون به. فعلى المعلمين والمعلمات أن يستشعروا عظم المسئولية المناطة بهم، وأن يحسنوا في أداء مهمتهم، وعليهم أن يبحثوا عن الأساليب التي تعينهم في أداء رسالتهم على الوجه المطلوب.

مكانة المعلمين والمعلمات

مكانة المعلمين والمعلمات الحمد لله شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، أتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام ديناً، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آن، له الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً لا ينقطع ولا يزول، ولا يحده حد ولا يحيط به وصف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في العلم والتعليم والتربية والتزكية، وذلك للأهمية القصوى، والغاية العظمى المنشودة من ذلك، ولئن تحدثنا من قبل عن النهج القرآني في الربط الوثيق بين العلم والتعليم من جهة، والتربية والتزكية من جهة أخرى، فلعلنا اليوم نوجه حديثنا مباشرة إلى المعلمين والمعلمات فيما هم عليه من صفة، وما لهم من منزلة، ثم ما عليهم من أمانة، وما في عنقهم من مسئولية، لنخلص بعد ذلك إلى الأساليب العملية والطرائق التربوية التي ينبغي الأخذ بها وصولاً إلى تغذية العقول بالفكر والعلم، وإلى تزكية النفوس بالتطهير والتنقية، وإلى إحياء القلوب بالمعرفة والإيمان، وإلى تقويم السلوك بالاستقامة والخلق الفاضل، فإننا في مهمة التربية والتعليم، نقوم بأعقد وأعظم مهمة، إنها صناعة الإنسان، وصياغة فكره، وتهذيب نفسه، وتطهير قلبه، وتقويم فكره، وتهذيب سلوكه، مسألة بها مفتاح التغيير في المجتمعات وفي سائر جوانب الحياة. إلى المعلمين والمعلمات، حتى يُدْرك من هم؟ وما هي مكانتهم؟ فنقول: أنتم المرفوعون المأجورون، المرفوعون رتبة المأجورون ثواباً ومنزلة: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ} [المجادلة:11]، فأنتم من بين معاشر أهل الإيمان مخصوصون بدرجة ومنزلة خاصة بالعلم، ثم استمعوا إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من جملة أحاديث وافرة: (من علم علماً فله أجر من عمل به، لا ينقص ذلك من أجر العامل شيئاً)، فكل كلمة ومعرفة وهدي تغرسه في القلوب والعقول والنفوس، فإنما ينبني عليه من عمل وما يؤثر من بعده من توجيه مسجل لك في صحيفة الأعمال، فضل من الله سبحانه وتعالى، ومنة وكرم، وحث وحض، وتشجيع وتحفيز. وأنتم كذلك الوارثون المورثون أنتم أربابها وأصحابها، وأنتم أعظم المنتفعين بها بعد انقطاع الحياة، (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، هكذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما بعد انقطاع الحياة فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ولئن كان هذا الحديث فيه قسم مباشر لأهل العلم، في العلم الذي ينتفع به، فإن أهل العلم قد قالوا: إن لهم في الحقيقة حظاً وافراً من ذلك كله، فإن الصدقة التي يبقى أجرها، إنما مبعثها التعليم على فضلها، والإرشاد إلى أجرها، فمن كان له ذلك العلم والتعليم، فهو شريك فيما ينبني عليه من الصدقات والأوقاف والوصايا، والولد الصالح إنما هو ثمرة في غالب الأحوال لذلك العلم والتربية والتزكية، فإن أهل العلم حينئذ يكونون قد أخذوا بهذه الأمور كلها، فما أعظم ما يخلفون وراءهم مما يعظم أجرهم، ويصل أعمالهم بفضل الله سبحانه وتعالى.

أهل العلم منتدبون ومجاهدون في سبيل الله

أهل العلم منتدبون ومجاهدون في سبيل الله ثم هم كذلك المنتدبون المجاهدون، منتدبون عن الأمة لهذه المهمة بنص القرآن الكريم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك وجلاه وأوضحه، إذ ليس كل أحد في الأمة يستطيع أن يتفرغ لطلب العلم ويتأهل له ثم يقوم بمهمة نقله وإشاعته وتعليمه والتربية عليه: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] قال الخطيب البغدادي رحمه الله في هذا المعنى كلاماً نفيساً جميلاً مفاده: أن الأمة ينتدب فيها فئتان: المجاهدون للحفاظ على حوزة الدين، والمعلمون للإبقاء على فهم ومعنى الدين. وكان من قوله رحمه الله: إن الجهاد حماية لبيضة الإسلام بالدفاع عن المسلمين، والتعليم حماية للمسلمين بالحفاظ على الدين. فمن أين سيخرج في هذه الأمة الأخيار والأبرار من المجاهدين، أو المنفقين الباذلين، أو المعاونين والمغيثين ما لم يكن قد غرست في نفوسهم وقلوبهم معاني هذا التعليم والتربية. ثم لننظر كذلك إلى هذا المعنى من جهة أخرى، فهو أمر عظيم وأجره جزيل، وهو في الحقيقة -كما سماه العلماء-: جهاداً وهو جهاد عظيم، أي: جهاد العلم وجهاد التربية، فإن ذلك هو الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله في بيان ذلك: إنما جعل طلب العلم في سبيل الله -ونحن نعرف الأحاديث: (من ابتغى طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاًَ إلى الجنة) وقد وردت الأحاديث بأن طلب العلم من القصد والنهج إلى سبيل الله- لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنام، وجهاد بالحجة والبرهان: والجهاد بالحجة والبرهان هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظمة منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه، ثم استشهد بقوله جل وعلا: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:51 - 52] قال: وهذه الآية مكية لم يكن قد نزل فيها تشريع الجهاد، فدل على أن المقصود جهادهم بالحجة والبرهان بما جاء في آيات القرآن، وذلك هو جهاد الإقناع، والتعليم، ودحض الشبهات، وتزكية النفوس، والربط بالخالق سبحانه وتعالى، مما هو من أخص خصائص المعلمين.

المعلمون مصلحون وبناءون

المعلمون مصلحون وبناءون أيها المعلمون المصلحون البناءون! فإنه قد كثرت علينا السهام، وغزتنا في عقر دارنا وسائل الإفساد والإعلام، وقد تشعبت بنا الحياة، فهاهم فلذات أكبادنا يروحون إليكم ويغدون منكم، ثم هم ونحن ننتظر أن نجد عندكم صلاح كل فساد، وتصحيح كل خطأ، وتقويم كل اعوجاج، وإكمال كل نقص، فإن لكم في هذا دوراً عظيماً، وإن لكم في هذا مهمة كبيرة، وإن الذين يقومون بذلك يسدون أبواباً من الفساد عظيمة، وحقيقة المعلمين: أنهم يصلحون الجهالة بالتعليم، ويبدلون الحماقة بالتقويم، ويغيرون الشطط بالاعتدال، ويبطلون الغلو بالتوسط، ويحاربون الرذيلة بالفضيلة، ويدفعون الكسل بالعمل، إنهم في حقيقة الأمر يعدون لنا رجال المستقبل، ويبنون ويسهمون في بناء الأمة، فما أعظم دورهم، وما أضخم أمانتهم، وما أجل رسالتهم، ولذا ينبغي أن يدركوا ذلك، وأن ندرك نحن، وأن يدرك جميع من في المجتمع دورهم ورسالتهم، فيعطيهم قدرهم، ويعينهم على أداء مهمتهم، ولعلنا من خلال ذلك نتوجه إليهم بأمرين اثنين خلاصة لكل ما قلناه فيما يجب عليهم:

استشعار المسئولية والأمانة المناطة بالمعلمين

استشعار المسئولية والأمانة المناطة بالمعلمين أولاً: استشعار عظمة المسئولية وضخامة وجسامة الأمانة، إنها ليست وظيفة تؤدى، أو أوراقاً تكتب، أو اختبارات تصحح، إنها أمانة في الأعناق، إنها واجب شرعي سواء كان هذا التعليم في مواد العلوم الإسلامية أو في غيرها، فقد ذكرنا فيما مضى الواجبات الكفائية التي يجب على الأمة القيام بها، وذكرنا أن كل علم مما قد يطلق عليه علوماً دنيوية هو عندنا معاشر المسلمين -بفهمنا الصحيح الشامل- ضرب من ضروب العبادة، ونهج من سبل السعي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى، فهذه أمانة عظيمة، ومسئولية جسيمة، وكلنا يعلم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) (عن علمه ما عمل فيه)، هل أدى الأمانة؟ هل أخلص في تعليمه؟ هل أخذ بالأسباب والوسائل ليؤدي المهمة على الوجه الأكمل؟ ونحن نعلم جميعاً ما ورد في الحديث عند مسلم في صحيحه، عن أول ثلاثة تسعر بهم النار، ومنهم: العالم الذي لم يخلص في علمه، ولم يبتغ بذلك وجه ربه، ونحن ندرك ما كان عليه أسلافنا من شفقتهم من أمانة وضخامة ومسئولية هذا العلم، كما نعرف من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الحديث الشهير لما أراد أن يبلغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا. حتى لا يتكل الناس) لكنه عندما أدركته الوفاة بلّغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يستحضر حديثه الآخر: (من كتم علماً) وذلك التهديد والوعيد؛ لأنه يذكرنا بأن المهمة هي أن نبث هذا العلم، وأن ننشره، وأن نشيعه، وأن نربي عليه، وأن نحرص على أن نقوم بمهمة الربط بين العلم والعمل، ولذلك: (من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)، وكذلكم كان الصحابة رضوان الله عليهم وأسلافنا الصالحون يدركون ذلك، ومن مقالات أبي الدرداء رحمه الله ورضي الله عنه، وهو من علماء الصحابة ووعاظهم الذين كانوا يحيون القلوب ويطهرون النفوس، قال: (كنت دائماً أفكر فيما يكون يوم القيامة، وإني لأخشى يوم القيامة أن يقال لي: يا عويمر! علمت فما عملت فيما علمت؟) فكم هي هذه المسئولية، وبين أيدي هؤلاء المعلمين والمعلمات، ليس المئات ولا الآلاف، ولا مئات الآلاف، بل الملايين من أبنائنا وبناتنا، فليتقوا الله جل وعلا، وليدركوا أن مسئوليتهم ليست أمام إدارة المدرسة، ولا إدارة التعليم، ولا وزارة التربية والتعليم، ولا أمام من في الأرض كلها، بل أمانتهم ومسئوليتهم بين يدي الله عز وجل، أن يتقوا الله في هذا النشء والجيل؛ لئلا يفرطوا في أمانتهم، ويتخلوا عن مسئوليتهم، فيطعن المجتمع والأمة من قبلهم، ويجوس أعداؤنا خلال الديار من خلال أبنائنا، وكما قلنا قبل فإن التعليم مفتاح التغيير، وإن كل أمة تنتصر أو تقهر أمة تبدأ بتغيير تعليمها؛ لتجعل أبناءها -أي: أبناء الأمة- تبعاً لها، ولتصوغ أفكارهم ونفوسهم وعقولهم بما تريده لهم.

وجوب الإحسان والإتقان في أداء العمل

وجوب الإحسان والإتقان في أداء العمل وأما الوصية الثانية: فالإتقان والإحسان في أداء العمل: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) والإحسان قد أوصى الله عز وجل به كما بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في تعريفه: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هل تؤدي أمانتك وتقوم بها على الوجه المطلوب؟ ثم نعلم كذلك ما حثنا وندبنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو مظنون أنه أبعد الأمور، حتى إذا جئت لتذبح الذبيحة هناك وصية في الإحسان: (فليحد شفرته وليرح ذبيحته)، فويحنا وويحنا إن كان هناك إحسان في القتل والذبح ثم لا يكون إحسان في التربية والتعليم! تلك مهمة خطيرة وعظيمة، ولذا نوجه القول للمعلمين والمعلمات، وأنا وأنت معلم ومعلمة في الوقت نفسه؛ لأننا نعلم أبناءنا ونربيهم، فكل حديث نوجهه إليهم هو موجه إلينا أصالة وليس تبعاً، فهذه المهمة ترتكز على أربعة جوانب:

التعليم وتقديم المعلومات

التعليم وتقديم المعلومات أولها: التعليم، أي: تقديم المعرفة والشرح والبيان وذكر المعلومات، وهذه مهمة كبيرة ومفيدة، لكنها وحدها لا تكفي ولا تغني ولا تشفي، ومع ذلك فهي مهمة قد طبقها النبي صلى الله عليه وسلم يوم قال في حجة الوداع: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وكما علم الصحابة كل شيء حتى الخراءة، أي قضاء الحاجة، كما جاء في حديث سلمان رضي الله عنه.

تقويم السلوك

تقويم السلوك وأما الثاني: بعد التعليم يكون التقويم، والمقصود به: تقويم السلوك والخلق الفاضل الذي ينبغي أن يغرس في النفوس والقلوب؛ لأن علماً بلا عمل ليست له فائدة، بل ربما يكون صورة شوهاء وقدوة مختلة، بل وربما يكون من أسباب الضلال والإضلال والعياذ بالله، إذ إن العالم إذا علم ثم لم يعمل بما علم، أو عمل بعكس ما علم، فإن ضرره وفتنته وصرفه عن الحق وتلبيسه على الخلق أعظم من غيره، ولذلك فإن تقويم السلوكيات والأخلاق فيه من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم ما لا يكاد يحصى من المواقف والتوجيهات والمناهج الرفيعة الشريفة: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب) كما قال صلى الله عليه وسلم، أليس هذا تقويماً سلوكياً، وتهذيباً خلقياًًً، وتربية عملية؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينبه إلى ذلك، ويوجه له في كثير من أحاديثه؟ كما عرَّف الأمور الكثيرة على غير ما كان يعرفها الناس؛ ليدلهم على الجانب العملي التقويمي السلوكي: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال صلى الله عليه وسلم: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة ومعه صلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، ويأخذ هذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) إنه أمر توجيهي عظيم، ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة عن الرجل الذي يأمر الناس ولا يفعل ما يأمرهم به: (وأنه تندلق أقتابه في النار يوم القيامة، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، ذلك التقويم المهم هو النهج الأساسي الذي ينبغي أن يدركه المعلمون والمعلمات؛ ليقوموا بدورهم، وليؤدوا رسالتهم.

توجيه الفكر وصياغة النفس

توجيه الفكر وصياغة النفس والثالث: التوجيه، ونقصد به: توجيه الفكر، وصياغة النفس، حتى لا يكون شذوذ، ولا ارتكاس، ولا انتكاس، ولا غلو، ولا تطرف ولا تسيب، بل نوع من التوازن والاعتدال، وحسن النظر في الأمور، والأناة والتدبر فيها، والمنهجية الصحيحة التي تربط بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تجذر الانتماء إلى الأمة، والتي تبين دور الفرد في المجتمع، والتي تعطي التوازن، والتي تعرف بطريقة التعامل، إنها قضية مهمة في صياغة الفكر والنفس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يحرص على ذلك، وفي قصة النفر الثلاثة لما جاءوا وتقالَّوا عبادة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا، أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وكما وجه النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف مهمة، يوم قال الرجل لذاك الصحابي: يا ابن السوداء! وفي غير الصحيح أنه أبو ذر رضي الله عنه فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنك امرئ فيك جاهلية) إنه توجيه وتقويم لمنهج الإسلام في المساواة بين أهل الإيمان وأخوة الإسلام، كثيرة هي المواقف التوجيهية.

التحفيز على نيل المراتب العالية

التحفيز على نيل المراتب العالية وأخيراًًً: التحفيز الذي يحث الإنسان على طلب المعالي، وإدراك الكمال، والمنافسة في المراتب العالية: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] كله حث وحض حتى تنطلق القوة الإيمانية في قوة الملكات؛ ليقوم الإنسان بأعظم دور، وأكبر عمل، وأعظم تأثير في حياته، بدلاً من خمول وكسل، وضياع أوقات، ولقاءات في هدر القول، واللغو الباطل، وغير ذلك مما نراه في مجتمعاتنا بين الكبار قبل الصغار، والرجال قبل الشباب، ولذلك ينبغي أن نعرف كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث ويحض ويشجع، ويخبر أصحابه بالأجور العظيمة والفضائل الكبيرة؛ لكي ينطلقوا في هذا الميدان للتنافس: (ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) حتى إذ اشتاقت القلوب وتطلعوا إلى ذلك، وهم يريدون الخير ويحرصون عليه، قال عليه الصلاة والسلام: (أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) وكم مرة يذكر عليه الصلاة والسلام الأمر بالأسلوب المادي والسؤال والجواب؛ حتى يعلق القلوب والعقول، ثم يجيب، عندما يقول: (أيحب أحدكم أن يكون له ناقتين كوماوين؟ فقلنا: نعم -كوماوتين أي: عظيمتين جسيمتين- فيقول: لئن يغدو أحدكم إلى بيت من بيوت الله فيعلم آية من كتاب الله خير له من ناقة كوماء، وآيتين خير من اثنتين، وثلاث خير من ثلاث ومن أمثالها من الإبل) وهكذا نجده عليه الصلاة والسلام وهو يحث ويحض على ذلك. وجاء في الحديث المشهور من رواية أبي ذر لما جاء الصحابة وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أصحاب الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، ونحن ليس عندنا أموال فلا نتصدق ولا نؤجر، قال: أو ليس قد جعل لكم ما تصدقون به، ودلهم على التسبيح والتحميد والتكبير وكف الأذى وغير ذلك، ثم جاءت المنافسة مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله! سمع إخواننا بما قلت لنا ففعلوا مثلما فعلنا -ميدان تنافس تنطلق فيه الطاقات- قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء). نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يوفقنا وأن يوفق معلمينا ومعلماتنا لما يحب ويرضى، ولما فيه خير أبنائنا وبناتنا. أقول هذا القول، واستغفروا الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أساليب ينبغي للمعلمين التحلي بها

أساليب ينبغي للمعلمين التحلي بها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الحرص على التربية والتعليم من قبل الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات، ووسائل الإعلام ومناهج التعليم، كلنا مسئولون عن هذا الجيل أن نغرس في قلوبهم وعقولهم العلم النافع، والخلق الفاضل، والعمل الصالح، والهمة العالية. ولعلنا نشير في ومضات إلى أساليب من أساليب كثيرة ويحتاجها المعلمون والمعلمات.

المحبة والعطف

المحبة والعطف وأولها: المحبة والعطف، التحبب إلى طلابهم، وإلى أبنائهم، والعطف عليهم بالتبسم والتبسط، وبغير ذلك من الوسائل التي فيها ترويح وتنشيط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي ذلك، قال مالك بن الحويرث كما عند البخاري في الصحيح: (جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبان، فأقمنا عنده نتعلم، قال: فلما رآنا قد اشتقنا إلى أهلنا -كان يراعي طلابه- قال: ارجعوا إلى أهليكم، وليعلم العالم منكم الجاهل، وصلوا، وليؤمكم أكبركم). ولقد أحبه عليه الصلاة والسلام أصحابه الذين علمهم حباً عجيباً، حتى إن زيد بن حارثة وكان مولى للنبي صلى الله عليه وسلم جاء أهله وعثروا عليه بعد أن خطف منهم وصار رقيقاً في مكة، فقال لهم: (دونكم زيد، فإن أراد أن يمضي معكم فأنتم أهله، وإن اختارني فوالله لا أجعله مع غيري، فقال زيد: لا أستبدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً) تلك القلوب التي إذا أحبت من علمها ومن أرشدها، فإنها تكون حينئذٍ أعظم تلقياً عنه وتأثراً به.

سعة الصدر

سعة الصدر ثم أمر آخر وهو الفهم والاستيعاب، فهم الأبناء والشباب، واليوم قد تغيرت الأمور والأحوال والمعارف والوسائل، فينبغي أن تتسع الصدور لسماع مقالاتهم، ومعرفة شبهاتهم، والنظر إلى آرائهم، والتحسس لمعرفة طموحاتهم، لابد من تريث وأناة، لابد من فتح حوار، لابد من حسن توجيه، لابد من إزالة عقبات حتى نستطيع أن نهيء عقولهم وأفكارهم للعلم، فحتى علم الفيزياء والكيمياء لن يتلقاه ما لم يكن قد استقرت نفسه وقد انتظم فكره، ومن هنا نعرف ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن جاءه الشاب وقال له: ائذن لي في الزنا! لم يعجل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل علم طبيعة فترته التي يعيشها، وشهوته التي تستعر في داخله، فجاءه بالأسلوب الحسن: (أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟! والناس لا يرضونه)، ثم دعا له النبي عليه الصلاة والسلام، فكان أعظم أسلوب في الفهم، وفي الاستيعاب، وفي إزالة العقبات، وفي التوجيه النافع المرشد الذي يعين على التقويم والتهذيب.

القرب والثقة

القرب والثقة وأخيراً: القرب والثقة والاعتماد، أن تقتربوا وأن نقترب جميعاً من أبنائنا وبناتنا، لنعطيهم الثقة المتبادلة فيما بيننا وبينهم، ونكتشف ميولهم وأهواءهم، ونعرف طاقاتهم وملكاتهم، ونرسم معهم طاقات وآمالاً مستقبلية عظيمة، وهذه أبواب واسعة.

كلمة توجيهية للمعلمين من سماحة الشيخ ابن باز

كلمة توجيهية للمعلمين من سماحة الشيخ ابن باز ولعلي أختم بكلمة جميلة للشيخ ابن باز رحمه الله في حديثه إلى المعلمين، يقول رحمه الله: لا ريب أن المعلم هو المربي الروحي للطالب، فينبغي أن يكون ذا أخلاق فاضلة، وسمت حسن حتى يتأسى به تلاميذه، كما ينبغي أن يكون محافظاً على المأمورات الشرعية بعيداً عن المنهيات، حافظاً لوقته، قليل المزاح، واسع البال، طلق الوجه، حسن البشر، رحب الصدر، جميل المظهر، ذا كفاءة ومقدرة وسعة اطلاع، وذا معرفة بالغة بطرق التدريس وكيفية حسن الإلقاء، ولفت نظر طلابه بطريقة جلية واضحة إلى الموضوع الأساسي للدرس، وحصره البحث في موضوع الدرس دون الخروج إلى أهواء قد تبلبل أفكار التلاميذ وتفوت عليهم الفائدة، وأن يسلك في تعليمهم العلوم التي يلقيها عليهم طريق الإقناع. وهذه وغيرها كلمات وتوجيهات وأمنيات نسوقها إلى المعلمين والمعلمات، ونذكر بها أنفسنا معاشر الآباء والأمهات؛ لنقوم بهذه المهمة، في هذا الظرف الدقيق والعصر الحرج الذي يحيط بأمتنا، والذي تلاقي فيه هجوماً شرساً على مناهج تعليمها، وطرائق تربيتها، وأسلوب حياتها الاجتماعية، وغير ذلك مما هو معلوم، نسأل الله عز وجل أن يحفظ أمتنا، وأن يحفظ علينا سلمنا وإسلامنا، وأمننا وأماننا. نسألك اللهم أن توفقنا للصالحات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آت، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم أفض علينا الخيرات، وأنزل علينا الرحمات، وضاعف لنا الحسنات، وكفر عنا السيئات، وارفع لنا الدرجات، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهديين، اللهم نطق ألسنتنا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين! اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك برحمتك وقوتك يا رب العالمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وفك أسرهم، وزد أمنهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداًًً، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم في أنفسهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اقذف الرعب في قلوبهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم لا تبلغ لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت أقدامهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم

محبة النبي صلى الله عليه وسلم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم، وهي دليل على اتباع الشرع، ولها صور وعلامات ومظاهر وأسباب يكشفها الواقع، ويظهرها الحال، ويقطف ثمرتها المؤمن الوسط بين الغلو والجفاء.

معنى محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومفهومها

معنى محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومفهومها الحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، وشرفنا بالانتساب للنبي العدنان عليه الصلاة والسلام، نحمده سبحانه وتعالى على ما أفاض من النعم، وما وقى ودفع من النقم، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. والصلاة والسلام التامان الأكملان على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، علم الهدى، ومنار التقى، محمد خير البرية، وسيد البشرية صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد: فالحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم منزلة رفيعة، والحديث عن محبته عليه الصلاة والسلام متعة عظيمة، ثم الألسنة تترطب بذكره والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأما الآذان فتتشنف بسماع سيرته وهديه وحديثه عليه الصلاة والسلام، وأما العقول فتخضع لما ثبت من الحكم والسنة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، وأما الجوارح والأعضاء فتنتفع وتتمتع بموافقة هديه وفعله وحاله صلى الله عليه وسلم، بل حياتنا كلها مرتبطة بهديه وسيرته وسنته عليه الصلاة والسلام. وما عسى أن يكون الحديث عن محبته صلى الله عليه وسلم؟ وهل يمكن أن يوفى مثل هذا الموضوع حقه في سويعة من الزمان، أو في بضع محاضرات وإن كثرت؟ إن حقه وقدره ومقامه والواجب له عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك كله، ولكن حسبنا أن يكون لنا في مثل هذه الأوقات ما يحيي قلوبنا، وينشط عزائمنا، ويقوي هممنا، ويبعث نشاطنا، ويحرك مشاعرنا، ويؤجج عواطفنا، لنرتبط ارتباطً أوثق، ونتبع اتباعاً أكمل لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حتى ننال خير الدنيا والآخرة وفلاح الدنيا ونجاة الآخرة، بإذن الله عز وجل. وعندما نظرت في هذا الموضوع رأيته كمحيط متلاطم الأمواج، قعره عميق، ودرره كثيرة وعظيمة، فعسى أن نقتبس شيئاً من ذلك وننتفع به بعون الله سبحانه وتعالى. هاهنا وقفات نبدأها بمفهوم ومعنى محبة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ونعرج من بعد على حكم هذه المحبة، ثم نقف مع دواعيها التي تحث عليها وتقرب إليها، ثم نتوقف عند الأسباب التي تجلب تلك المحبة، لنخلص منها إلى الصور والمظاهر التي تبديها لنا وتكشفها لنا في واقع مشاعرنا وكلماتنا وأفعالنا، ثم وقفة قبل الختام في ثمار هذه المحبة وخيراتها وآثارها، لننتهي إلى المحبة بين الغلو والجفاء، ولعلنا نستطيع أن نلم بذلك وإن كان في الأمر عسر، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال القائل: أبر بني الدنيا وأعظم من شكر وأكرم مخلوق على سائر البشر به الله قد أهدى إلى الناس رحمةً ومنه ضياء الحق في الكون قد ظهر تبارك ربي إذ أعد محمداً وزكاه بالتقوى وبالعلم والخبر ثبات اعتقاد الحق من أخلاقه وخير عباد الله أقدر من صبر جهير بأمر الله يدعو مبشراً وينصح من لاقاه بالآي والنذر حري بإصلاح الفساد ومرشد إلى سبل الخيرات في البدو والحضر دعا الناس بالتوحيد والحب والوفا وجادل بالحسنى وأقنع بالأثر ذرا الهمة القعساء بعض صفاته وأقدم مقدام وأحلم من قدر رعاه إله الكون خير رعاية فأنبت نبتاً طيب الأصل والثمر عليه الصلاة والسلام. والمحبة في لغة العرب يعرفونها بضدها لوضوحها وجلائها، فإن ذهبت إلى جل المعاجم وجدتهم يقولون: المحبة ضد الكره والبغض، وأُحِبُّه أي: أوده. وشخص بعضهم هذا المعنى تشخيصاً أوسع فقال: أحببت فلاناً في الأصل بمعنى: أصبت حبة قلبه. أي: شغاف قلبه وكبد قلبه وفؤاده. والمقصود أن المشاعر تتسلل في هذه الموافقة والمجانسة والميل إلى أعماق الفؤاد وسويداء القلب فتصيب حبته، أي: جوهره وأصله ومكمنه، فتكون حينئذ ليست عرضاً ظاهراً ولا صوراً جوفاء، بل حقيقة تنبض بها خفقات القلب، وتظهر في مشاعر النفس، بل تبدو في بريق العين، وقسمات الوجه، وابتسامة الثغر، وحسن الثناء والمدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه المحبة قال عنها ابن القيم ووافقه ابن حجر عليها: المحبة لا تحد -أي: لا يذكر لها تعريف-؛ إذ هي أمر ينبعث بالنفس يصعب التعبير عنه. ولعمري إنه لكلام دقيق، فهل تستطيع أن تقول: إني أحب فلاناً عشرة أرطال، وفلاناً عشرين رطلاً. كلا لا تستطيع، وهل تستطيع أن تكتشف للحب سبباً؟ بعض الناس تلقاه فترى كأن فؤادك قد مال إليه، وقلبك قد هفا له، وبعض الناس قد تعاشره دهراً وما يزال في قلبك انقباض عنه، وفي نفسك وحشة منه، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالمحبة سر من أعظم ما تتجلى به عظمة خلق الله في هذا الإنسان. ما بين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال فكم من محبوب لكلمة أو لموقف ربما تغير القلب عليه، ونفرت النفس منه، ولذلك هذه العواطف والمشاعر لا تضبط بهذه الكلمات والتعريفات، وإن كان قد ذكر بعض العلماء للمحبة تعريفات اصطلاحية كثيرة، من ذلك ما قاله القاضي عياض رحمه الله في شفائه: المحبة الميل إلى ما يوافق المحبوب. عندما توافقه وتجانسه وتميل إليه وتتبعه فذلك دليل المحبة، لكن لو وقفنا لوجدنا أن هذا التعريف ليس تعريفاً للمحبة، بل هو وصف لأثرها، فالمحبة انبعثت في القلب فمال الإنسان إلى من يحبه ووافقه، وهذا أمره واضح. ثم المحبة لها جوانب، منها محبة الاستلذاذ، كحب الصور الجميلة والمناظر والأطعمة والأشربة، تلك محبة فطرية، أو تكون محبة بإدراك العقل، وتلك المحبة المعنوية التي تكون لمحبة الخصال الشريفة والأخلاق الفاضلة والمواقف الحسنة، وهناك محبة تكون كذلك لمن أحسن إليك وقدم لك معروفاً، فتنبعث المحبة حينئذ لتكون ضرباً من ضروب الحمد والشكر، فينبعث الثناء بعد ذلك ترجمة لها وتوضيحاً لمعانيها. قال الإمام النووي رحمه الله: وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم بما جمع من الجمال الظاهري والباطني، وكمال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين لهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعم، والإبعاد من الجحيم، فإن نظرت إلى وصف زينته صلى الله عليه وسلم فجمال ما بعده جمال، وإن نظرت إلى أخلاقه وخلاله فكمال ما بعده كمال، وإن نظرت إلى إحسانه وفضله على الناس جميعاً وعلى المسلمين خصوصاً فوفاء ما بعده وفاء، فمن هنا تعظم محبته صلى الله عليه وسلم، ويستولي في المحبة على كل صورها وأعظم مراتبها وأعلى درجاتها، فهو صلى الله عليه وسلم الحري أن تنبعث محبة القلوب والنفوس له في كل لحظة وثانية، وحركة وسكنة، وقول وصمت، وفي كل تقلبات حياتنا، ولذلك ينبغي أن ندرك عظمة هذه المحبة. ويقول ابن تيمية: وليس للخلق محبة أعظم ولا أتم من محبة المؤمن لربه، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى، وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يحب لأجل الله، ويطاع لأجل الله، ويتبع لأجل الله. وذلك ما سنفيض القول فيه في بعض تلك الأحوال، وحسبي أن نعرج على هذه المعاني. وهنا وقفة نتمم بها ما بدأناه، فنحن نتعلق ونرتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم من جوانب شتى: في جانب العقل معرفة وعلماً، نقرأ ونحفظ سيرته وحديثه وهديه وسنته، والواجب منها والمندوب ونحو ذلك، ومحبة بالقلب، وهي عاطفة مشبوبة، ومشاعر جياشة، ومحبة متدفقة، وميل عاصف، فالنفس تتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من المعاني الحسية والمعنوية، ثم محبة بالجوارح تترجم فيها المحبة إلى الاتباع لسنته وعمله وفعله عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن أن نقول: إن المحبة اتباع فحسب، فأين مشاعر القلب؟ ولا يصلح أن نقول: إنها الحب والعاطفة الجياشة، فأين صدق الاتباع؟ لا ينفع هذا وحده، فأين المعرفة والعلم التي يؤسس بها من فقه سيرته وهديه وأحواله عليه الصلاة والسلام؟ لذا فنحن نرتبط في هذه المحبة بالقلب والنفس والعقل والفكر وبسائر الجوارح والأحوال والأعمال، فتكمل حينئذ المحبة لتكون هي المحبة الصادقة الخالصة الحقيقية العملية الباطنية، فتكتمل من كل جوانبها لنؤدي بعض حق رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا.

حكم محبة النبي صلى الله عليه وسلم

حكم محبة النبي صلى الله عليه وسلم ما عسى أن يكون حكم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الوجوب؟! فهي واجبة على كل مسلم قطعاً ويقيناً، والأدلة على ثبوت وجوبها كثيرة، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى الذي جمع فيه في آية واحدة كل محبوبات الدنيا، وكل متعلقات القلوب، وكل مطامح النفوس ووضعها في كفة، وحب الله وحب رسوله في كفة فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. قال القاضي عياض رحمه الله: فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً وبلاغةً وحجةً على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظيم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم؛ إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وتوعدهم بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، ثم فسقهم بتمام الآية فقال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، وأعلمهم أنه ممن ضل ولم يهده الله عز وجل. فهذه آية عظيمة تبين أهمية ووجوب هذه المحبة، ويأتينا كذلك دليل آخر وهو عظيم وموجز وبليغ في قول الحق جل وعلا: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]. ويبين ابن القيم رحمه الله الدلالة على وجوب هذه المحبة في هذه الآية من وجوه كثيرة، ضمنها أمرين اثنين: الأول: أن يكون أحب إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى به منها، أي: أولى به من نفسه وأحب إليه منها. فبذلك يحصل له اسم الإيمان، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم، وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه. الثاني: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه التصرف إلا ما تصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى به من نفسه، أي: بما جاء به الله عز وجل وبلغه من آياته وأقامه ونشره من سنته صلى الله عليه وسلم، والآيات في هذا كثيرة. أخي الكريم! الإيجاز هو مقصدنا في هذا، وإلا فإن قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] من الأدلة العظيمة الشاهدة على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً لا نزاع أن محبة الله واجبة، وأن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته هو طريق إلى محبة الله كما سيأتي في قوله: (من أحبني فقد أحب الله) والآيات أكثر من أن تحصى في هذا المقال. وأما أحاديث صلى الله عليه وسلم فصريحة جلية واضحة في الدلالة على وجوب هذه المحبة، ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله ووالده وولده والناس أجمعين)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وكلنا يعرف الحديث الصحيح المشهور في قصة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما قال عمر: (يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا -والذي نفسي بيده- حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال: عليه الصلاة والسلام: الآن يا عمر). ولم يكن قول عمر الأول أنه ليس محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه على حقيقته، إنما أخبر عن مقتضى الطبع، الأصل الطبعي في الإنسان أن أحب شيء إليه نفسه، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالمصطلح الإيماني أقر عمر بالمعنى الإيماني وبأنه يفضل ويحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، فقال له حينئذ صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر). ومما يستدل به كذلك من هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). ثم إن حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار كما ذكر ذلك الإمام الخطابي، ولذلك عمر في جوابه الأول ذكر الطبع، ثم بعد ذلك ذكر فيه الاختيار الذي هو مقتضى الإيمان. ومن هنا ذكر العلماء أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم على ضربين: أحدهما فرض، وهو المحبة التي تقتضي الإيمان بنبوته وبعثته، وتتلقى ما جاء به بالمحبة والقبول والرضا والتسليم، وثانيهما محبة مندوبة، وهي تقصي أحواله، ومتابعة سنته، والحرص على التزام أقواله وأفعاله قدر المستطاع والجهد والطاقة. ومن الأدلة كذلك ما ثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور المحفوظ: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار). ومن الأحاديث حديث أنس عن الرجل الذي جاء سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فأعرض عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم عاد إليه فقال: ما أعددت لها. قال: حب الله ورسوله. فقال: فإنك مع من أحببت)، وفي الرواية الأخرى قال الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنك مع من أحببت. قال: أنس فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم). ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث جميل أخرجه مسلم في صحيحه، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله). هذا الحديث ربما من اجتهد وجاهد قد يكون مقصوداً به؛ لأنه يخبر عمن جاء بعده، فيقول عليه الصلاة والسلام: (من أشد الناس حباً لي ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله). وحديث ابن عباس أيضاً قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي) رواه الترمذي في سننه وحسنه، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وكلنا محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة وجوب، ومحبة اختيار وتعظيم له عليه الصلاة والسلام، وأمر هذا الوجوب لا يحتاج إلى الأدلة، ولكننا نريد أن نعظم هذه المحبة في قلوبنا ونحن نرى الآيات التي تتلى إلى قيام الساعة توجب هذه المحبة وتبرزها عظيمة عالية في مقامها مقترنة بمحبة الله عز وجل، بل راجحة بكل ما تتعلق به القلوب من أنواع المحاب الدنيوية في شتى صورها وأنواعها، فعلنا حينئذ ندرك هذا، وندرك أيضاً عظمة هذا الوجوب عندما ندرك هذه النصوص القاطعة الواضحة في أن محبته ينبغي أن تكون أعظم من محبة النفس التي بين جنبيك، وأنفاسك التي تتردد، وقلبك الذي يخفق، فضلاً عن محبة الزوجة والأبناء، أو الأمهات والآباء، فما أعظم هذه المحبة التي هي أعظم محبة لمخلوق من بني آدم في الدنيا وفي الخليقة كلها، وهي التي استحقها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ووجبت على كل مؤمن مسلم لله سبحانه وتعالى.

دواعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم

دواعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إننا قطعاً لن نقول هذا السؤال وكأننا لا نريد هذه المحبة، ونسأل: (لماذا) على سبيل عدم الرغبة، كلا، وإنما نريد مرة أخرى أن نهيج القلوب والمشاعر لهذه المحبة، وأن نؤكدها ونحرص على غرسها في سويداء القلوب والنفوس حتى تتحقق بها المشاعر، وتنصبغ بها الحياة، وتكون هي السمت والصبغة التي يكون عليها المسلم في سائر أحواله بإذن الله عز وجل.

تبعية محبة النبي صلى الله عليه وسلم لمحبة الله تعالى

تبعية محبة النبي صلى الله عليه وسلم لمحبة الله تعالى نحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه حبيب الله عز وجل، فمن أحب الله أحب كل من أحبه الله، وأعظم محبوب من الخلق لله عز وجل هو رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ولكن صاحبكم خليل الرحمن) يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، والخلة هي أعلى درجات المحبة؛ لأنها تتخلل في القلب وفي كل شيء في هذا الإنسان، فتصبح كل خلية ونفس وكلمة منك وعاطفة منك تخفق بهذه المحبة وتؤكدها؛ لأنها محبة لمن أحبه الله عز وجل واصطفاه من بين خلقه جميعاً، كما أخبر عليه الصلاة والسلام: (فأنا خيار من خيار من خيار) فهو صفوة الله من خلقه أجمعين، وكما ورد في الحديث الذي صححه أهل العلم أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إني من نكاح وليس من سفاح) وذلك في كل الأصلاب منذ الخليقة الأولى، حتى من لم يكن مسلماً، فلم يكن من أجداده كلهم ولا في نسبه ولا في أصله عليه الصلاة سفاح، بل كله نكاح صحيح، وذلك من طيب محتده، وعراقة أصله، وطهارته التي اصطفاه الله عز وجل لأجلها واختاره ووضعه لها عليه الصلاة والسلام.

كمال رأفته ورحمته بأمته

كمال رأفته ورحمته بأمته لأن الله سبحانه وتعالى أظهر لنا كمال رأفته وعظيم رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته، ونحن نحب الإنسان إذا وجدناه بنا رحيماً، وعلينا شفيقاً، ولنفعنا مبادراً، ولعوننا مجتهداً، حينها نحبه من أعماق قلوبنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أعظم من رحمنا ورأف بنا، وإن كان بيننا وبينه هذه القرون المتطاولة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. ولو أردنا أن نذكر أمثلة لذلك لطال بنا المقام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث كان يقول: (لولا أن أشق على أمتي)، وهناك كثير من الأحاديث التي ورد فيها رقته ورحمته بأمته كما ورد في وفد مالك بن الحويرث وقومه لما جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: كنا شبية متقاربين، فمكثنا في المدينة نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الراوي: فلما رأى أنا قد اشتقنا لأهلنا -وكان أرحم بنا من أنفسنا- قال: (ارجعوا إلى أهليكم، وليؤمكم أكبركم، وعلموا من وراءكم) رحمة منه بهم عليه الصلاة والسلام، وكان إذا سمع بكاء الصبي يخفف من صلاته رأفة وشفقة على قلب أمه به، وذلك من كمال رحمته وشفقته عليه الصلاة والسلام. في يوم حنين قسمت الغنائم، ووجد بعض الأنصار في أنفسهم شيئاً؛ لأن الرسول لم يقسم لهم وقسم للمؤلفة قلوبهم، فلما جاءهم إلى مكانهم ذكر لهم عليه الصلاة والسلام بعض فضله عليهم بما فضله الله عز وجل عليهم، قال: (ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ ثم ذكر غير ذلك وكله يقول فيه: ألم آتكم؟ ألم آتكم. ثم قال: (أجيبوني) فسكت الأنصار، فقال: (أما لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك. ثم قال: ألا ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، الناس شعار والأنصار دثار، لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، فبكى الصحابة حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً) وهذا من أعظم ما يظهر فيه كذلك من أثر أو داعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم.

كمال نصحه لأمته وعنايته بهم

كمال نصحه لأمته وعنايته بهم حتى قال الصحابة كما روي ذلك عن بعضهم في سنن أبي داود قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة) أي: حتى قضاء الحاجة. علم أمته كل شيء، وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع فرصة إلا ويعلمهم، ولا يدع فرصة إلا ويقول: (ليبلغ الشاهد الغائب) حتى جئنا إلى أيامنا هذه وإلى ما بعدها وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، نراه في يقظته ومنامه، وحله وترحاله، وسلمه وسفره، بل نحن نعرف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من سيرته أكثر مما نعرفه عن أنفسنا، من يعرف منا عن صغره؟ من يعرف منا حاله في نومه أو يقظته؟ رصدت حياته صلى الله عليه وسلم، ورصد لنا وصفه، وكم شعرةً بيضاء في لحيته، كل ذلك في وصف دقيق بليغ حتى كأن كل شيء في حياته ولد في وضح النهار.

خصائصه وخصاله العظيمة

خصائصه وخصاله العظيمة ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وكم اجتمع فيه عليه الصلاة والسلام ما تفرق من وجوه الفضائل والأخلاق والمحاسن في الخلق كلهم! فكان هو مجتمع المحاسن عليه الصلاة والسلام. حسبنا ذلك في هذه الدواعي وإلا فالأمر كثير، فإن الذين مالت قلوبهم وملئت حباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام من أصحابه إنما سبى قلوبهم واستمال أنفسهم بما كان عليه من الخلق وحسن المعاملة وكمال الرحمة وعموم الشفقة وحسن القول، إلى غير ذلك مما هو معلوم من شمائله عليه الصلاة والسلام.

مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم وعلامتها

مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم وعلامتها نذكر هنا مظاهر المحبة وعلامتها، فلكل شيء دليل ولكل ادعاء برهان، ولكل حقيقة في الباطن أثر وبرهان وصورة في الظاهر، ولنذكر بعض هذه المعاني العظيمة المهمة من مظاهر وعلامات محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

اتباعه والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم

اتباعه والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع قال ابن الجوزي مستشهداً بقول مجنون ليلى: إذا قيل للمجنون ليلى ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال غبار من تراب ديارها أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها قال ابن الجوزي: وهذا مذهب المحبين للأخلاء. فكل محب يكون أدنى شيء من محبوبه أعظم إليه من كل شيء في دنياه، فكان أدنى شيء من الله ومن رسوله أعظم وأحب إلى كل مؤمن من كل شيء في دنياه، وحسبنا في ذلك ما جاء في كتاب الله في قصة يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] أحب السجن لأنه في مرضاة الله، وفيه العصمة من معصية الله، ولا أحد يحب السجن لظلمته وأسره وقيده لكنه كان محبوباً لقلبه لمّا كان فيه محبة ربه وسلامته من معصيته. وهكذا نجد النصوص تتضافر في ذلك، فتأمل هذا الحديث الذي يرويه أنس رضي الله عنه كما عند الترمذي -وقال عنه: حسن غريب- قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأنس نعلم من هو، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، يقول أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ كيف كان يأمره وينهاه وهو خادمه؟ كيف لم يقل له: لم فعلت. أو: لم لم تفعل؟ لو أردنا أن نفعل ذلك مع أحد من خدمنا لا نستطيع أن نفعل ذلك ولو عشرة أيام، وليس عشر سنوات! هذا أنس يقول: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني! إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل. ثم قال لي: يا بني! وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة) معادلة واضحة، والمحبة في هذا الاتباع ظاهرة. قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم كلاماً جميلاً، قال: فمن أحب الله ورسوله محبةً صادقةً من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكره الله ورسوله، ويرضى ما يرضى الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحب الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكثير المحبة الواجبة. وهنا ملحوظة مهمة، قال: من عصى أو قصر في واجب نقصت محبته ولم يَزد. وبعض الناس يتعجل فيرى العاصي فيقول: إنه مبغض لرسول الله، أو كاره لرسول الله. وتلك تهمة عظيمة وفرية كبيرة، حسبك في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي كان يشرب الخمر فأتي به فجلد، ثم مرة أخرى شرب فأتي به فجلد، ثم ثالثة فأتي به فجلد، فقال رجل من الصحابة: (لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به!) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله) فأثبت له النبي المحبة مع وقوعه في كبيرة من الكبائر، فلا تهجم على الناس بنفي المحبة؛ فإنها نفي إيمان وإخراج من الملة إن كنت تقصد نزعها بالكلية، والعياذ بالله.

الإكثار من ذكره والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

الإكثار من ذكره والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا شك أن من أحب إنساناً أكثر من ذكر محاسنه، فتجد بعض الناس إذا أحب إنساناً لا يجلس مجلساً إلا ويقول: انظروا ماذا فعل فلان، فلان قال كذا وكذا، فلان جزاه الله خيراً، فلان لا يمكن أن نقدر قدره. ونحن ينبغي أن نطيب ونعطر مجالسنا في كل وقت وحين بذكر مآثر النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وأحواله وشمائله، وهذا الذكر هو الذي يهيج هذه المحبة ويبعثها، وكثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تحرك هذا المعنى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وفي ذلك امتثال لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المؤذن فقولواً مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً). وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه شهيد، قلت: (يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت. قلت: الربع؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خير قلت: النصف؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو خي. ، قلت: الثلثين؟ قال: ما شئت؟ وإن زدت فهو خير. قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً تكفى همك ويغفر ذنبك) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وصححه، والحاكم في مستدركه، ووافقه الذهبي. قال الشراح: كان أبي له ورد من الدعاء دائماً، فكان يصلي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن آداب الدعاء أن يقدم بين يديه الحمد والثناء على الله والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: كم أجعل لك من ذلك؟ قال: زد حتى لو كان الدعاء كله الحمد والثناء والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإنه وإن قل الدعاء يكون فيه ما وعد النبي به صلى الله عليه وسلم (إذاً تكفى همك ويغفر ذنبك).

تمني لقائه والشوق إليه

تمني لقائه والشوق إليه ومن علامات محبته عليه الصلاة والسلام تمني رؤيته والشوق إليه، وقد كان ذلك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رأوه لكنهم إذا افتقدوه اشتاقوا إليه، وهذا الشوق شوق حقيقي، ويعلم من كان يحب زوجته وأبناءه كيف يكون حاله إذا اغترب عنهم، إذا أراد أن يخلد إلى نومه تجلت له صورهم، وتذكر أحوالهم، وكأنما يسمع أصواتهم في أذنيه، ويراهم يتلاعبون ويتحركون بين يديه، وما تزال زفراته تتابع وعبراته تتوالى شوقاً إلى لقياهم، فإذا التقى بهم ربما طاش عقله وتخلى عن وقاره، فهفا إليهم معانقاً ومحباً، تلك بعض مشاعر المحبة في درجة الدنيا، وأعظم من هذه الدرجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في محبته، كما روى مسلم: (من أشد الناس حباً لي ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وبلال رضي الله عنه قصته شهيرة يوم ذهب إلى بلاد الشام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان بلال يبكي ويقول: لم أطق أن أبقى في المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أراد أن يؤذن فإذا جاء لقوله: (أشهد أن محمداً رسول الله) تخنقه عبرته فيبكي رضي الله عنه، فمضى إلى الشام وذهب مع المجاهدين، ورجع بعد سنوات، ثم دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحان وقت الأذان فأذن بلال، فبكى وأبكى الصحابة بعد انقطاع طويل غاب فيه صوت مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذكروا بلالاً وأذانه، وتذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر في هذا يطول. وكان رضي الله عنه عند وفاته تبكي زوجته بجواره فيقول: (لا تبكي؛ غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه) فكان يشتاق للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واحد من المبشرين بالجنة كما ثبت ذلك في الحديث لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بلال! ما تصنع لربك؟ قال: لا شيء إلا أني إذا أحدثت توضأت، وإذا توضأت صليت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشة نعليك) وهكذا روي عن حذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين، وذكر القاضي عياض في (الشفا) أنه قال كل منهم: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه وهذا الشوق في حياة الصحابة يظهر لنا صور محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

محبة الكتاب الذي أنزل عليه ولأمته

محبة الكتاب الذي أنزل عليه ولأمته إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختص بمعجزته الخالدة إلى قيام الساعة، وهي كلام الله عز وجل، وكتابه العظيم كتاب الله الذي فيه الهدى والنور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في القرآن كالحال المرتحل، لا يختم حتى يبدأ ختمةً جديدة، وكان كما قالت عائشة: (خلقه القرآن) فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب القرآن والتعلق به. قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعدما أورد بعض أحاديث محبة النبي صلى الله عليه وسلم: ودخل في جملة محبته صلى الله عليه وسلم حب آله، ونحن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وقال: إن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماءٍ يدعى خماً بين مكة والمدينة وأسمع، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد: ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، ثم حث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي. فقيل لـ زيد: ومن أهل بيته يا زيد! أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قيل: من هم؟ قال: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس هؤلاء حرموا الصدقة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهم آله) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، والأحاديث في هذا كثيرة ولها دلالات عظيمة، ولذا فقد ذكر أهل العلم في هذا المعنى أقوالاً كثيرة، وقال ابن تيمية رحمه الله: وآل محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة، هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيره من العلماء، والأحاديث في فضلهم مبسوطة كما أن نساء النبي من آله كما في قوله جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] وقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53]. والأحاديث في فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته عظيمة.

حب صحابته والترضي عنهم

حب صحابته والترضي عنهم من حب النبي عليه الصلاة والسلام حب صحابته، ومن أبغض أحداً من صحابته فهو كاذب في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغض بعضاً أو كلاً أو واحدةً من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذب في محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأعظم على الله وعلى رسوله الفرية، وكان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، وفي حديث أنس الصحيح: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار). فحب الصحابة وحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان ومن محبة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو زرعة الرازي في كلامه على معتقد أهل السنة والجماعة: إذا رأيت أحداً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما نقل ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والطعن بهم أولى، وهم زنادقة. قال الخطيب البغدادي رحمه الله: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم بنص القرآن في آيات كثيرة، منها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] إلى غير ذلك من الآيات. قال ابن حجر: اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة. وقال صاحب العقيدة الطحاوية رحمه الله: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نشك في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من أبغضهم ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإحسان وبغضهم كفر وطغيان. فهذا من علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة البينة، وهي مما ينبغي أن يكون معلوماً ومعروفاً، والأمر في ذلك كثير وعظيم.

الأسباب الجالبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم

الأسباب الجالبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ونريد بذلك الطريق التي تقربنا والأعمال التي توصلنا إلى هذه المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

تعظيم محبة الله

تعظيم محبة الله كل مادة تصلك بالله وتذكرك به هي حب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هي صلتك بالله؟ ستقرأ القرآن؛ ستصلي الصلاة، ستؤدي الزكاة، ستخرج مالاً وصدقة، كل فعل من محبتك وصلتك بالله سيذكرك بتعظيم قدر الرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنت له متابعاً وموافقاً، وهذا يهيج على تقديم محبة النبي صلى الله عليه وسلم على هوى النفس وراحة البدن، (الصلاة خير من النوم) عندما تسمعها والفراش وثير والهواء بارد والجسم متعب أين انبعاثك لتكون مع الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) رواه ستة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

دوام ذكر سيرته صلى الله عليه وسلم

دوام ذكر سيرته صلى الله عليه وسلم تذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على أمته ورأفته بهم، ودوام ذكر سيرته سبب من الأسباب الجالبة لمحبته، السيرة اقرأها صباحاً ومساءً، وعلمها أبناءك، كما قيل عن السلف: كانوا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلموننا الآية من القرآن. أين سيرة النبي في بيوتنا؟ أين هي من أبنائنا؟ أين أحواله عليه الصلاة والسلام في سائر تقلبات حياته من أن نسمعها صباحاً ومساءً؟ إن بعض أجيالنا اليوم قد يعرفون عن سقطة الناس وسفلتهم من المشركين والمشركات أكثر مما يعرفون من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، كيف نعظم محبة النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لا نديم ذكر سيرته حتى نرى هذه العظمة ونرى تلك الرحمة، ونرى تلك النعمة التي مَنَّ الله بها علينا ببعثته ونبوته صلى الله عليه وسلم. تذكر الأجر العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ما سنعرض له أيضاً، وتول الصحابة رضوان الله عليهم وأكثر من ذكر سيرتهم، فكلما عظمنا الصحابة وذكرنا شيئاً من سيرتهم فإن ذلك يدلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كلهم لرسول الله ملتمس، وكلهم من نوره مقتبس عليه الصلاة والسلام. حتى إذا قيل: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) اشرأبت الأعناق، وشخصت الأبصار، وأصغت الأسماع، لا انصراف ولا التفات ولا تحرك، بل احترام وتقدير وإجلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

تعظيم السنة النبوية والآثار المصطفوية

تعظيم السنة النبوية والآثار المصطفوية كما أن إجلال المحبين للسنة والعاملين بها مما يذكرنا ويقربنا لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، كل محدث وعامل وملتزم بالسنة نحبه لأنه يذكرنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كما قد يحصل اليوم، نرى من يلتزم بالسنة في بعض الهيئات يوصف بأنه متشدد، وقد ينفر الناس منه لقصر في ثوبه أو نحو ذلك، فيا للعجب! كيف تقلبت الظروف؟! كلما رأينا من يتبع السنة فإنما نرى صورة تذكرنا بحديث الرسول، وبسنة الرسول، وبفعل الرسول، فيكون ذلك عوناً لنا على محبة النبي صلى الله عليه وسلم.

الذب عن السنة والدفاع عنها

الذب عن السنة والدفاع عنها فكم -وللأسف الشديد- من عدوان يعتدى فيه على ذات الرسول عليه الصلاة والسلام من المسلمين وغير المسلمين، وكثيراً ما تجد أحداً يقوم بذلك، والأمر أوسع من هذا.

مواقف المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم

مواقف المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم ليس هناك أكثر محبة ولا أصدق ولا أعظم محبةً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وخذ هذه المواقف، وكل واحد منها حري بنا أن نعيده وأن نكرره ونحفظه ونتذكره لنعلم كيف كانت محبة القوم رضوان الله عليهم. هذا عمرو بن العاص يقول مصبراً نفسه: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه. من هيبته لم يكن يستطيع أن يتفرس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ومن محبته كان يتوق ويشتاق إليه عليه الصلاة والسلام. وسئل علي بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخذ هذا الوصف من ابن عمه وزوج ابنته والفصيح البليغ علي بن أبي طالب؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. وهذا من مآثر الصحابة رضوان الله عليهم. وروى الشعبي -والحديث بطرقه حسنه أهل العلم- أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي، ولو أني لم آتك فأراك لظننت أني سأموت. ثم بكى الأنصاري رضي الله عنه. يقول: أنت أحب إلي، والآن هناك فرصة، فآتي فأراك فتسكن نفسي، وإن كنت أتصور أني لا أراك سأموت. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أبكاك؟ قال: ذكرت يا رسول الله أنك ستموت فترفع مع النبيين ونحن إذا دخلنا الجنة كنا دونك. يعني: لن أراك في الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبره بشيء حتى نزل قوله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر) فبشره بأنه يكون معه مادام قد أحبه. ومن أعظم هذه المواقف ما رواه أنس رضي الله عنه قال: (لما كان يوم أحد خاص أهل المدينة حيصة -يعني: في القتال عندما اختلت الأمور- قالوا: قتل محمد صلى الله عليه وسلم. حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها -يعني: كلهم ماتوا واستشهدوا رضوان الله عليهم- قال: وما أدري بأيهم استقبلت أولاً، فلما مضت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك، وهي تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك. وهي ما زالت تمضي، قال: فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب). وفي رواية أخرى لـ سعد بن أبي وقاص في قصة هذه المرأة قالت: (ما فعل رسول الله؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل). أي: هينة. وأبو بكر رضي الله عنه لما كان في مكة واجتمع كفار قريش يريدون أن يضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتركوا الرسول وتوجهوا إلى أبي بكر وضربوه بنعالهم، قال الراوي: فضربوه بنعالهم في وجهه حتى سقط مغشياً عليه، ولم يعرف وجهه من أنفه -أي: من شدة التورم- قال: ثم حمل ما يشك في موته من شدة ما لقي من الضرب. قال: فلما أفاق كان أول ما قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير كما تحب. قال: لا حتى أراه. فحمل يهادى بين الرجلين، فلما رآه تهلل وجهه فرحاً رضي الله عنه وأرضاه. وهذا من مواقف الحب الصادق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه المواقف العظيمة ما كان من قصة زيد بن الدثنة رضي الله عنه، الذي أسره أهل مكة، ثم خرجوا به ليصلبوه، وقد صلبوه بالفعل، فقال له أبو سفيان -وكان إذ ذاك على كفره-: أتحب أن محمداً مكانك وأنت في أهلك وولدك؟ أي: أنت الذي اتبعت محمداً صلى الله عليه وسلم فجاءك هذا الموقف، والآن ستصلب فهل تحب أن يكون محمد مكانك وأنت في أهلك وولدك. فماذا كان الجواب؟ قال: والله ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا في أهلي وولدي. فقال أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-. أعظم حب وأوفاه وأوسعه، ولذلك قالوا: نفديك بأنفسنا وأرواحنا وهناك مواقف كثيرة لابد من ذكرها لبعض السلف من التابعين لنعرف أن هذه المحبة هي جوهر إيماننا وأساس من أسس إسلامنا. هذا مالك بن أنس يقول عن أيوب السختياني رضي الله عنه: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أوثق منه. يعني: في مكانة عالية رحمه الله. قال عنه مالك: وحج حجتين -وحج مالك معه-، قال: فكنت أرمقه ولا أسمع منه. يعني: لا يسمع منه الحديث، قال: غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه. أي: أخذ عنه الحديث لما رأى من إجلاله وفيض محبته وتأثره بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا مصعب بن عبد الله يروي عن مالك، يقول: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه -أي: يشفقون عليه- فقيل: له في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون! وذكر الإمام مالك محمد بن المنكدر من أئمة التابعين، وكان سيد القراء، قال: ما نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه رحمه الله. والحسن البصري جاءنا بمثل جميل، وهذا باب ضاق المقام عن أن أذكره، وهو حب الجمادات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث: (أحد جبل يحبنا ونحبه) والجذع الذي كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فلما بني له منبر طلع يخطب على المنبر، فإذا الجذع يحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع له حنين سمعه الناس كلهم، فنزل النبي عن المنبر فوضع يده على الجذع فسكنه فسكن، وكان الحسن البصري رحمه الله إذا ذكر حديث حنين الجذع وبكائه يقول: يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشاقوا إليه صلى الله عليه وسلم. ويقول بعض السلف: كنت آتي صفوان بن سليم -وكان من المتعبدين المجتهدين- فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم عنه الناس ويتركوه. وأختم هذا الباب بهذه القصة وأذكرها بطولها، وقد ذكرها الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء، وهي قصة رائعة، والذهبي إمام من أئمة أهل السنة، وجهبذ من الجهابذة ومن النقدة أئمة الجرح والتعديل، ولا يكون عاطفياً تماماً دون أن يكون له الأساس والمستند العلمي، يقول في ترجمة عبيدة بن عمرو السلماني -وهو من التابعين من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه- يقول: محمد: قلت لـ عبيدة: إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قبل أنس بن مالك فقال: لأن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض. يعني: أحب إلي من كل ذهب وفضة في الأرض قال الذهبي: قلت: هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس. ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة، وهو من التابعين وليس بعيد العهد بالنبوة، ويقول الذهبي: فما الذي نقوله نحن في وقتنا، لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت، أو شسع نعل كان له، أو قلامة ظفر، أو شقفة من إناء شرب فيه، فلو أنفق الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك عنده أكنت تعده مبذراً أو سفيهاً؟ كلا. فابذل مالك في زيارة مسجده الذي بنى فيه بيده، والسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند حجرته في بلده، والتذ بالنظر إلى أحده وأحبه، فقد كان نبيك صلى الله عليه وسلم يحبه، وتملا بالحلول في روضته ومقعده، فلن تكون مؤمناً حتى يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلهم، وقبل حجراً مكرماً نزل من الجنة، وضع فمك لاثماً مكاناً قبله سيد البشر بيقين، فهنأك الله بما أعطاك، فما فوق ذلك مفخر، ولو ظفرنا بالمحجن -يعني: العصا -الذي أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحجر ثم قبله لحق لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل. ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل. ثم قال: وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبلها، ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الذهبي: فنقول نحن إذ فاتنا ذلك -يعني: ليس عندنا يد أنس، فكيف نقبل شيئاً قبله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ - حجر معظم بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا صلى الله عليه وسلم لاثماً له، فإذا حججت فقبل، وإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاج وقبل فمه، وقل: فم مس بالتقبيل حجراً قبله خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا من نفائس القول لأئمتنا وعلمائنا رحمة الله عليهم ورضوان الله عليهم أجمعين، والباب في هذا يطول كما ذكرت.

ثمار محبة النبي صلى الله عليه وسلم

ثمار محبة النبي صلى الله عليه وسلم ثمار المحبة يكفينا فيها ثمرتان: أولاهما: أن هذه المحبة في الدنيا عون على الطاعة، والإكثار من العبادة، وخفة ذلك على النفس، وإقبال الروح على مزيد من الطاعات. ثانيهما: وأما في الآخرة فحسب المحبة أن تكون نجاة من النار، ولحوقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال: (المرء مع من أحب) وفي الدنيا كذلك إعانة على هذه الطاعات؛ لأنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن محبة الله وموافقة رسوله: (حتى أكون يده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) إلى آخر ما هو معلوم.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء

محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء هنا وقفة أخيرة، وأظن -والله أعلم- أننا كنا مستمتعين بهذا الحديث، ومما ذكرنا من الآيات والأحاديث في عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته، ومواقف الصحابة إن هذه المحبة التي قلناها ما بال بعضنا يفسدها بغلو يخرج عن حد الاعتدال، أو جفاء يبتعد فيه المسلم عن حق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم محبته عليه الصلاة والسلام، والأمر في هذا يطول كثيراً، والشذوذ والخلاف والخروج عن مقتضى سنته ومحبته في هذا الباب كثير، وخير الأمور أوسطها، فالغلو خرج به قوم إلى صور كثيرة لا تخفى من حيث الواقع، لكني أذكرها من حيث المنهج والمبدأ، فمنهم من يجعل المدح مدخلاً لذكر ما هو خالص مستحق لله عز وجل لا يجوز أن يشاركه فيه غيره، ولا نصف به غيره وإن كان هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ادعيَّ لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما هو حق لله ومن خصائص الله سبحانه وتعالى فهذا يأباه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمه للناس في وقته وزمانه، كما قال: (لا تقل: ما شاء الله وشئت. ولكن قل: ما شاء الله، ثم شئت). وبعضهم يقول: هذه ألفاظ تعبر عن المشاعر وما نقصد بها عين هذه الألفاظ. نقول: سبحان الله! هل أنتم أعلم أو أحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لم ترك التنبيه على الألفاظ إذا كانت ليست مؤثرة، وليست بذات تأثير في النفس والفكر والعقل، وكانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويثنون عليه، وهو يقول عن نفسه: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ولكنه يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم) كيف أطروه؟ قالوا: هو الله. وخرجوا به عن حد بشريته ونبوته، وخرجوا به عن حد تعظيمه الذي ينافي مقامه ومكانه، فهذا غلو ليس مطلوباً بحال. وضرب آخر من الغلو، وهو الإتيان بمخالفات عملية فعلية لسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بادعاء المحبة، أو في أوقات وأفعال وأعمال وأحوال تدعى فيها محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالاجتماع لمحبته مع وجود ما هو مذموم من الاختلاط والغناء والخروج عن حد الاعتدال، أو ما هو مضمن من ادعاء أمور غيبية بحلول روحه أو تجسد روحه أو رؤيته يقظة وغير ذلك من هذه الأمور التي لا تثبت، بل يثبت في عموم الأدلة وبعض الأحوال في خصوصهم ما يناقضها ويعارضها، فهذا ادعاء ليس له دليل وليس له حجة، بل هو -كما قلنا- معارض. ثم أيضاً أمر ثالث من الغلو، وهو الادعاء والاختراع لأمور وأقوال وأحوال لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام علمنا الصلاة عليه، ووردت في أحاديثه صيغ كثيرة من الصلوات، وهناك صيغ فيها إطلاق للصلاة والسلام عليه عدد قطر الأمطار وهذا لا بأس به، لكن أن نخصص صلوات معينة لابد من أن تحفظ وتذكر بعدد من المرات من أين لنا هذا؟ ومن أين لنا أن نوجب على الناس أو أن نسن لهم أو أن نشرع لهم ما لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلامه أوثق وأقوى، وهو الذي أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام؟ ونجد كذلك ادعاءات كثيرة فيما يتعلق بالأقوال والأحاديث بعضها ضعيف وبعضها موضوع، وبعضها لا يثبت، ومع كل هذا يقال وينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بادعاء الرغبة في المحبة، أو التحبيب، هذا كله خارج عن حد الاعتدال. ويمكن أن نقول: هناك تنبيهان أساسيان في هذا: أولهما أنه يجب على المسلم المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين ما هو حق لله عز وجل ولا يجوز أن يوصف به ولا أن ينسب إلا لله عز وجل، وبين ما هو حق لرسوله صلى الله عليه وسلم. فتعظيم الالتجاء وطلب كشف الضراء وغير ذلك أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، وبين في نصوص القرآن ما يدل على ذلك، وهذا وغيره لووا أعناق بعض النصوص حتى توصلت إلى مثل هذا. ثانيهما: التفريق بين صور التعظيم المشروع أو الداخل في دائرة المشروع وبين ما هو معلوم وظاهر أنه مخالف لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا باب طويل. وأما الجفاء فكما أننا ننكر الغلو ونحذر منه فكذلك الجفاء، فبعض الناس في قلبه شيء من جفاء ولا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، ولا يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذُكر، وإذا ذُكر مرة صلى، وإذا تكرر ذكره ثانية أو ثالثة لم يصل، كأن الصلاة تشق عليه أو ثقيلة على لسانه، حتى إنه يترك زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام والتعلق بسنته، إلى غير ذلك من صور كثيرة. ويمكن أن نذكر بعضاً من صور الجفاء، فمنها: البعد عن السنة باطناً وظاهراً، فترك سنن النبي عليه الصلاة والسلام ضرب من الجفاء ومجانبة محبته عليه الصلاة والسلام، ولذلك ليست المحبة ادعاءً؛ إذ كثير من أحوالنا ظاهراً وباطناً فيها مخالفة للرسول، فكيف لا نشعر أن في هذا نقصاً لمحبتنا للرسول عليه الصلاة والسلام؟ وكذلك رد الأحاديث الثابتة والصحيحة، وهذا ضرب كبير من الجفاء والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: (ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله) يعني: ليس هناك مكان أو اعتبار لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. فيقول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن ما أحل رسول الله كما أحل الله، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله) ثم كذلك نرى الآن الكثير من الناس يتحدثون بموجب مفسدات عقولهم، يقول لك: هذا حديث لا يعقل، وهذا لا يصلح في هذا الزمان. هذا كله ضرب من المخاطر العظيمة في شأن المحبة، بل في شأن الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك العدول عن سيرته، وعدم الهيبة والتعظيم والإجلال عند ذكر حديثه، وهذا باب طويل سيأتينا ذكر له إن شاء الله تعالى، ولذلك نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2]. وعرف الصحابة ذلك، فكان ثابت بن قيس ممن اعتزلوا مجلس النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه جهوري الصوت، ومن بعده عمر بن الخطاب قال لرجلين كانا يرفعان صوتيهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أنكما من غير أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً. فحرمته حياً كحرمته ميتاً، عليه الصلاة والسلام. ومن الجفاء هجران السنن المكانية، بأن نهجر زيارة مسجده، وزيارة مسجد قباء، والأماكن التي كان يتنقل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل قدما توافق قدماً، أو جبهة توافق جبهةً، وتستشعر وأنت في الروضة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنت في أحد كل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تحيي في قلبك هذه المعاني، وقد وجدت شباباً في الجامعات لم يذهبوا إلى المدينة مطلقاً وهم من أهل هذه البلاد، لم يذهبوا إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يروا مسجده، ولم يزوروا قبره، ولم يصلوا في روضته، ولم يشهدوا قباء، ولم يروا جبل أحد، كيف يكون هذا والناس لا نقول: يضربون أكباد الإبل، وإنما يطيرون بالطائرات النفاثات ليأتوا لحج بيت الله الحرام، ولزيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام والسلام على قبره عليه الصلاة والسلام، فلا ينبغي أن يكون عندنا مثل هذا الجفاء. وبعض الناس عنده نقطة مهمة جداً، وهي الحساسية المفرطة لذكر أمر النبي عليه الصلاة والسلام، والصلاة عليه، وذكر مآثره، وذكر ما ثبت في تعظيمه، يقول: لا نريد هذه مبالغة حتى نسد باب الذرائع. وليس الأمر كذلك، فتعظيم النبي عليه الصلاة والسلام واجب، ومحبته واجبة، ومادام ذلك قد ثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وفي معجزاته من تفجر الماء من بين يديه، وانشقاق القمر، وفي خصائصه وشمائله الكثيرة المأثورة المذكورة المشهورة التي امتلأت بها صحاح كتب السنة فلماذا لا نعظم النبي صلى الله عليه وسلم؟ لماذا لا نثير هذه السيرة والمواقف لتكون محبته أعظم في القلوب؟ ليس هناك من حرج ولا حساسية، وإن كان هناك من يغلو فلا يسعنا أن نسد أو نوقف أو نمنع هذه الأحاديث والأحوال ونقول: سداً لباب الذريعة! كلا. فما ثبت لابد أن يقال ويعاد ويعلم ويشهر ويذكر حتى يكون مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته على الوجه الذي أراده الله عز وجل لنا وأراده لنا رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن أعظم الهجر والجفاء لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم الابتداع، فكل مبتدع يتلبس ببدعة يخالف بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ضرب من الجفاء، كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: افعل وهو يفعل غيره ونقيضه. وعدم معرفة قدر الصحابة وذمهم هو ضرب من الجفاء، فكيف تدعي حب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تذم أصحابه الذين كانوا عن يمينه ويساره الذين فدوه بأرواحهم، وجعلوا صدورهم دروعاً تتلقى السهام ليذودوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! كيف يمكن لأحد أن يدعي محبته وهو يظن أو يتهم أو يشنع على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين؟ كل هذا ضرب من الهجران والجفاء الذي هو من أشد وأفظع ما يرتكبه مسلم في بعده عن دين الله عز وجل، وعن مقتضى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الجفاء عدم العناية بالسيرة النبوية، وعدم معرفة الخصائص والخصال الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخصائصه عظيمة جداً أكثرها لا يعرفها الناس، ولا يقرءون ولا يعرفون أحاديثه الثابتة حتى في الأمور المادية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع تسبيح الحصى، وقال -كما في صحيح مسلم -: (إني أعرف حجراً كان يسلم علي بمكة) وهذا قبل بعثته، وهناك فصل كامل في محبة الجمادات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال العلماء: هي محبة حقيقة لا يعرف كنهها، وفي الحديث: (أحد جبل يحبنا ونحبه). فينبغي لنا أن ننتبه لهذا، وأن نكون في هذا الميدان الوسط بين الغلو والخروج عن حد الاعتدال والبعد عن الجفاء وترك ما ينبغي لرسول الله عليه الصلاة والسلام من محبة وإجلال. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم محبة رسوله في قلوبناً، وأن يجعل محبة رسول الله صلى الله

الأسئلة

الأسئلة

أسماء بعض الكتب التي تتحدث عن السيرة

أسماء بعض الكتب التي تتحدث عن السيرة Q نريد ذكر بعض عناوين الكتب التي تتحدث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ A الكتب في شأن النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة، حتى إن أحد المعاصرين ألف كتاباً اسمه: (معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ذكر في سبعمائة صفحة آلافاً من كتب السيرة والشمائل والخصائص والمعجزات والدلائل، لكنني أذكر بعض الكتب المتقدمة في شأن حقوق المصطفى وشمائله، وأما الكتب المتأخرة فهي كثيرة، ومن الكتب كتب الشمائل، وهي من أهم الكتب التي تبعث على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، يعرف حاله في طعامه وشرابه ومنامه ويقظته، نعرف حلمه وكرمه وجوده وزهده، إلى آخر هذه الكتب الجامعة، ومنها (الأنوار في شمائل النبي المختار) للإمام محيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي رحمه الله، وهو كتاب حافل في كل شمائل النبي صلى الله عليه وسلم. وبالمناسبة فإن كتب الشمائل تذكر كثيراً من الأمور الملحقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، يذكرون فيها نعل النبي عليه الصلاة والسلام، ودوابه، وسيوفه، ودروعه، وكل شيء متصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، لماذا صنف العلماء ذلك؟ لأن هذا مقام مهم وقدر عظيم لابد أن نعرف قدره وأن ننتبه له. ومن الكتب الجامعة النافعة في هذا الباب كتاب (الشفا في حقوق النبي المصطفى)، للإمام المحدث العلامة القاضي عياض السبتي اليحصبي رحمه الله. ومن الكتب المعاصرة هناك عدة رسائل علمية، والرسائل العلمية فيها مادة دسمة وجيدة، وربما تصلح لبعض طلبة العلم وهي المرادة، ومنها (محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الاتباع والابتداع) لأحد طلبة العلم اسمه: محمد عبد الرءوف، وهناك (حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء القرآن والسنة النبوية) وهناك أيضاً (خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بين الغلو والجفاء). وهناك كتب أخرى كثيرة، وكتب الشمائل والسيرة كثيرة، وهي أكثر ما ألف في الإسلام قديماً وحديثاً.

قراءة الآيات التي فيها عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم

قراءة الآيات التي فيها عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم Q نرى أن الغلو يبلغ مبلغه، وبعض الغلاة من أهل التصوف يرون أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي عدم تكرير الآيات التي فيها عتاب من الله عز وجل لرسوله عليه السلام، مثل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] أو: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]؟ A من يقبل مثل هذا؟! فهذا قرآن يتلى، والرسول يتلوه ويأمر بتلاوته، والقرآن كلام الله عز وجل، فهذا كله لا يمكن أن يقبل. وأود أن أشير إلى قضية مهمة في الطرفين المذمومين، فبالنسبة لمن يبالغ ويخرج عن حد الاعتدال يسم غيره بقضية خطيرة جداً، وهي الاتهام بعدم المحبة للنبي عليه الصلاة والسلام، فحينما تقول -والعياذ بالله-: فلان لا يحب الرسول فمعنى ذلك خطير، قد تصل دلالة هذا المعنى إلى أنه قد خرج من الملة والإسلام كله؛ لأنه لا يكون مسلماً من لا يحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد رأيت بعيني وسمعت بأذني من يقول مثل هذا بتدرج يوهم فيه الناس أن هناك فئة من الناس يبغضون -والعياذ بالله- رسول الله عليه الصلاة والسلام بحجج واهية، وهذا أمره يطول.

أسماء النبي صلى الله عليه وسلم

أسماء النبي صلى الله عليه وسلم Q لماذا سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمد ومصطفى، وهل صحيح أن له أسماء أخرى؟ A لرسول الله عليه الصلاة والسلام أسماء ثبتت بها الأحاديث الصحيحة، وذكرها عليه الصلاة والسلام في ألقابه صلى الله عليه وسلم.

دوام ذكر النبي جالب لمحبته

دوام ذكر النبي جالب لمحبته Q هل دوام ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم يجلب محبته؟ A نعم، وكذلك الصلاة عليه، وزيارة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، كل هذا يجلب محبته.

حكمة الدعاء للنبي بالأدعية المأثورة

حكمة الدعاء للنبي بالأدعية المأثورة Q لماذا نسأل الله الشفاعة والمقام المحمود لرسول الله عليه الصلاة والسلام وقد علمنا مسبقاً أنه يعطاها يوم القيامة؟ A نحن عندما ندعو بعد الأذان نقول ذلك، لكن السؤال هو: لماذا ندعو للنبي صلى الله عليه وسلم بأدعية أخرى مأثورة؟ هذا ذكره العلماء، وذلك أن هذا من فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا؛ لأنك حينما تدعو للرسول صلى الله عليه وسلم وقد أعطاه الله ذلك فأنت لن تفيد بدعائك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تستفيد بهذا الدعاء وتؤجر عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى دعائي ودعائك واستغفاري واستغفارك، لذلك ذكر العلماء هذا المعنى، وهو أن الدعاء والثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤجر عليه صاحبه. نسأل الله عز وجل أن يعظم أجورنا، وأن يلحقنا برسوله صلى الله عليه وسلم على خير فيما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من أتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام متمسكين بسنته ومتبعين لهديه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قراءة في دفاتر المذعورين

قراءة في دفاتر المذعورين العداء بين المسلمين والكفار عداء عقائدي لا يمكن تناسيه أو التغافل عنه؛ ولهذا فإن أعداء الإسلام يكيدون له ولأهله ليل نهار، ويستخدمون في كيدهم وحربهم شتى الوسائل والطرق، ولكن كثيراً من المسلمين غافلون عن أعدائهم، بل إن منهم من يوالي الأعداء ويعمل معهم في الكيد للإسلام والمسلمين!

أهمية معرفة خطط وتدبير الأعداء

أهمية معرفة خطط وتدبير الأعداء الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على جليل نعمه ووافر عطائه وعظيم كرمه ومنّه سبحانه وتعالى، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه؛ والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين وعلى من اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! نحمد الله أن هيأ هذا اللقاء الطيب المبارك، ونسأله جل وعلا أن يجعله في ميزان حسناتنا، وأن يوفقنا فيه لما يحب ويرضى. قد مضى درسنا الأول بعنوان: النقد والتقويم معالم وضوابط، وهذا هو درسنا الثاني وعنوانه: قراءة في دفاتر المذعورين. والغرض من ذلك: تصوير قضية مهمة، وتسليط الضوء على أمور لابد للمسلم من أن يعرفها ويقف عليها؛ ليتصحح عنده الفهم، وليكون ذلك عوناً له على العمل فيما يعود عليه وعلى أمته بالنفع والفائدة. وتتبادر الأسئلة من خلال عنوان الدرس: من هم هؤلاء المذعورون؟ ومن أي شيء يخافون؟ ولماذا تخوفهم من الشيء الذي يعلنون خوفهم منه؟ ومن بعد ذلك: ما هي المبررات والمغالطات التي يعرضونها للناس تخويفاً وتبريراً لما يذكرونه من الأوهام؟ وفي آخر المطاف: توضيح وبيان للحقيقة في ظل وضوء منهج الإسلام. نقصد بهؤلاء المذعورين صنفين اثنين: أولهما: فريق الأعداء. والثاني: ربما يصح أن نطلق عليه: عقوق الأبناء؛ لأن مصدر الخوف عند هؤلاء وهؤلاء هو هذا الدين الإسلامي العظيم، ويعبرون عن هذا التخوف في صور شتى ومقالات متعددة، بل في أعمال ضخمة كبيرة تبذل فيها الطاقات المادية والعلمية، وحتى الطاقات العملية التغييرية.

تخوف الكفار من الإسلام

تخوف الكفار من الإسلام المعْلَم الأول الذي نقف عنده هو: إثبات هذا التخوف، وشواهده من الأقوال والأفعال. إن الذي يتأمل يجد هذه الصرخات ليست وليدة اليوم ولا وليدة هذا الزمن الذي نحن فيه، وإنما هي قديمة، فإن المتأمل في بدايات النهضة الأوروبية الحديثة في أواخر القرن الماضي ومطالع هذا القرن يجد أنها مع كل تقدم تحرزه ومع كل نصر جزئي تحققه تنبه على خطورة الإسلام، وعلى تخوفها من بعض المقومات الخاصة التي يتمتع بها هذا الدين. فالذين دخلوا من النصارى إلى بيت المقدس توجه قائدهم إلى قبر صلاح الدين ليقول: هانحن قد عدنا يا صلاح الدين! وكذلك كانت تصريحاتهم في تلك الأيام تدل على أنه لابد أن يكون الإسلام بعيداً عن واقع الحياة بعيداً عن مخالطة القلوب بعيداً عن تصورات العقول بعيداً عن الحكم والسيطرة والتوجيه لحياة المسلمين. ولكننا نتجاوز تلك المرحلة؛ حتى لا نتحدث عن تاريخ بعيد، وإنما نسلط الضوء على الفترة القريبة التي ربما لا تتجاوز العشر سنوات إلا بزمن يسير. فنذكر بعض الملامح من النقول التي تبين هذا التخوف بشكل عام؛ ثم من بعد نخصص هذا الحديث في نقاط محددة: هذا أحد الكتاب الغربيين في مجلة (صن داء تلغراف) في عام (1978م) يقول: إن مجرد الاكتفاء بمراقبة الانتفاضة الإسلامية في الشرق الأوسط لن يفيدنا بشيء، وإذا لم نبادر إلى مقابلة هذه الانتفاضة بعنف عسكري يفوق عنفها الديني فإننا نكون قد حكمنا على العالم النصراني بمصير مهين يجلبه على نفسه إذا استمر تهاوننا في مواجهة المسلمين المتطرفين! والذي ينظر إلى هذا الحديث مع ربطه بالواقع يتعجب لهذا التخوف! فإن المتحدث يتحدث باسم دول كبرى ودول لها تقدم تكنولوجي وقوة عسكرية وسياسات خارجية؛ وفي المقابل يتحدث عن مجموعات من المسلمين الذين تنبهت عقولهم وتيقظت نفوسهم إلى وجوب تمسكهم بدينهم، وتحققهم بهويتهم، وليس عندهم من المادة -التي هي أحد مداخلات الصراع- أي شيء يذكر! ومع ذلك نجد هذه النبرة القوية المذعورة الخائفة تطالب بعنف عسكري أقوى من العنف الديني، يعني: أقوى من قوة هذه التوجهات المنبثقة عن إيمان صادق وعقيدة قوية راسخة. وفي صحيفة (الحروزاليم بوست) في عام (1978م) يقول سفير إسرائيل في الأمم المتحدة: إننا نشهد اليوم ظاهرة غريبة ومثيرة للاهتمام! وتحمل في ثناياها الشر للمجتمع الغربي بأسره! وهذه الظاهرة هي: عودة الحركات الإسلامية التي تعتبر نفسها عدوة طبيعية لكل ما هو غربي، وتعتبر التعصب ضد اليهود بشكل خاص وضد الأفكار الأخرى بشكل عام فريضة مقدسة. وهذا أيضاً تصريح له دلالته في التخوف على العالم بأسره من مجرد هذه الأصوات التي بدأت ترتفع وتنادي بالإسلام ليكون مطبقاً في واقع الحياة. ونلحظ أن التخوف يكون أكثر تخصيصاً في مسألة ربط هذه التوجهات بالواقع المعاصر! فهذه التوجهات ترى أن العداء ضد اليهودية أو ضد أعداء الإسلام فريضة مقدسة، وهذا هو مكمن التخوف الأكبر عندهم في هذا الجانب.

مقالات يهودية تبين تخوفهم من الإسلام

مقالات يهودية تبين تخوفهم من الإسلام عقدت ندوة نظمها معهد (شلواح) في جامعة تل أبيب، وهذا المعهد يعتبر أكثر المعاهد المتخصصة في دراسات الشرق الأوسط كما يسمى، اجتمعوا في هذه الندوة لدراسة هذه الظاهرة المرعبة المخيفة في تصوراتهم وفيما يرون من آفاقها المستقبلية حسب تحليلاتهم ودراساتهم. ونقتطف بعض المقالات القصيرة، ولكنها معبرة: يقول أحدهم: ما من قوة تضاهي قوة الإسلام من حيث قدرته على اجتذاب الجماهير؛ فهو يشكل القاعدة الوحيدة للحركة الوطنية الإسلامية. ويقول الآخر: إن المساجد هي دائماً منبع دعوة الجماهير العربية إلى التمرد على الوجود اليهودي. وهنا نلمح التخصيص؛ بمعنى: أن القضية ليست كلاماً عاماً، وإنما هو كلام مخصص في بعض الأمور التي هي من صميم هذا الدين. ويقول ثالث: إن الإسلام قوة سياسية واجتماعية قادرة على توحيد الجماهير وخاصة في الضفة الغربية؛ حيث يقوم علماء الدين المسلمون بمهمة توحيد الصفوف ضد اليهود. ويقوم الرابع معلناً التخوف في شكل إعلان ظاهري يشكل عنواناً رئيساً فيقول: إن الصحوة الإسلامية الجديدة تزعج الإسرائيليين كثيراً، فإسرائيل تعرف أنه إذا فشلت مبادرات السلام -في ذلك الوقت- مع مصر فإنها ستكون هدفاً للجهاد المقدس. وهنا أيضاً توضع بعض النقاط على الحروف في نوع من التخصيص ضد بعض الأمور المتصلة بالإسلام. وكذلك ترجمت جريدة القبس الكويتية نصاً لمقابلة رئيس وزراء العدو الإسرائيلي السابق قال فيها تعقيباً على مواجهات وقمع تعرض له المسلمون الملتزمون بدينهم، فحينما سئل عن هذا الأمر في بعض الديار الإسلامية وعن تصوره له ومعارضته للديمقراطية وللتعايش السلمي قال: إنني قد وافقت على ذلك! ثم قال: وأقنعت المعترضين بأنه يجب عليهم أن يتناسوا التقاليد الديمقراطية حينما يتعلق الأمر بالمسلمين!

مقالات نصرانية تبين تخوفهم من الإسلام

مقالات نصرانية تبين تخوفهم من الإسلام تقدمت بعض الصيحات المذعورة من الجهة اليهودية. وإذا واصلنا أيضاً فإننا نجد أن القضية أوسع من ذلك؛ فإننا نجدها أيضاً تعم الجانب الآخر، وهو جانب النصرانية، فنجد أيضاً أن التصريحات المعاصرة تدل على هذا التخوف الكبير. فقد ترجمت صحيفة القبس لقاءات لمجلس الأمن القومي الأمريكي، وبعض المعلومات التي تتوافر عندهم، ومن ذلك: إنه طلب تزويد الإدارة الأمريكية بما يتوافر لديها من معلومات تتعلق بالحركة الإسلامية؛ للاستعانة بها في وضع الخطط الكفيلة بالقضاء على خطرهم قبل فوات الأوان. وليست القضية في هذا الإطار فقط، وإنما تشمل دائرةً أوسع، كما يصرح أحد الكتاب الغربيين فيقول: إنه لا العالم الغربي ولا الاتحاد السوفيتي يستطيعان أن يرقبا بهدوء هذه اليقظة الإسلامية التي لو أسيء توجيهها من قبل الجماعات المتعصبة لنتج عن ذلك ليس هلاك إسرائيل وحدها فقط وإنما زعزعة استقرار جزء كبير من العالم، ولم تسلم من ذلك لا الحضارة الغربية ولا الحضارة الشيوعية. فإذاً: تجسيد الخطر وتركيزه يظهر لنا فيه أن الخائفين من هذا الخطر المتوهم أو من هذه الظاهرة الجديدة ليسوا فئةً معينة ولا عقيدةً واحدة، وإنما الكفار أجمعون؛ لأن الكفر ملة واحدة! فكل جانب من جوانب العالم الذي ينطلق من عقيدة أو تصور معين نجد أن هذا الأمر يظهر جلياً في هذه التصريحات كلها. ثم أيضاً نجد أن هذه التصريحات ترتبط بشكل ظاهر مع التغيرات المهمة في واقع الحياة. فنجد أن المقالات تبين هذا الجانب؛ فإحدى الكاتبات تصرح بقولها: إن على الغرب أن يدرك أنه أعجز من أن يواجه هذه الصحوة مواجهة عسكرية أو أن يواجهها مواجهة اقتصادية، وإن من الأفضل أن يسالم الغرب الإسلام. وأستاذ في العلوم السياسية يقول: نتنبأ بأنه خلال الأربعين سنة القادمة سيكون الإسلام الجماهيري قوة أيدلوجية في العالم! بمعنى: أن هذا هو مكمن التخوف؛ ولذلك يبدأ التصريح ضد هذا التخوف فيقول: إذاً: أبيدوا هذه الأشباح التي تنتظر البعث، أسكتوها إلى الأبد.

تركيز الأعداء على تحديد معالم الصراع مع المسلمين وإعدادهم لذلك

تركيز الأعداء على تحديد معالم الصراع مع المسلمين وإعدادهم لذلك هذه الصرخات ليست فقط مجرد تخوف، وإنما هي نوع من تركيز العداء، ونوع من تحديد معالم الصراع مع المسلمين. وإذا أردنا أن نركز هذا الجانب في غير الأقوال فإننا نجد معلومات خطيرة تبين لنا هذا الجانب، ففي عام (1980م) على سبيل المثال عقدت في الجامعات الأمريكية ومراكز الأبحاث المتخصصة بدراسات الشرق الأوسط في خلال عام واحد فقط سبعة عشر مؤتمراً وندوة؛ لتدرس الجوانب المختلفة المتعلقة بالإسلام! ثم في غير ذلك الجانب نجد هناك ما يدل على هذا في وقائع أخرى، منها: انعقد في مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة (جورج تاون) ندوة عن الإسلام والدراسات العربية لمدة يومين. وأيضاً جمعية دراسات الشرق الأوسط في مؤتمرها السنوي العشرين والحادي والعشرين في أمريكا خصصت هذين المؤتمرين لدراسة الظاهرة الإسلامية. وأيضاً جاء تصريح بأن أحد رؤساء مراكز الأبحاث تلقى مبلغاً قدره خمسون ألف دولار من وكالة المخابرات المركزية مقابل تنظيم مؤتمر عالمي عن الإسلام الأصولي. وعقدت وزارة الخارجية الأمريكية عام (1987م) ملخصاً حول الأصولية الإسلامية ووجهات نظر على السياسة الأمريكية. وأيضاً على مستوى أوروبا عقد مؤتمر أوروبي في لكسمبورج غرضه أيضاً دراسة ظاهرة المد الإسلامي.

تخوف الكفار من انتشار الإسلام في بلاد الكفار

تخوف الكفار من انتشار الإسلام في بلاد الكفار دراسة هؤلاء المذعورين تبين أنهم بالفعل يحددون كثيراً مما يخشون منه؛ فإنهم لم تصب دراساتهم فقط على الظاهرة الإسلامية التي بدأت تنبعث في ديار الإسلام، بل ركزوا الحديث أيضاً عن الإسلام الذي بدأ يتسرب في ديار الغرب وأمريكا والاتحاد السوفيتي وكل مكان في غير موطنه الأصلي كما يمكن أن يسمى؛ وإن كان الإسلام لا موطن له، وإنما هو في كل العالم وفي كل الديار. فإحدى الصحف السويدية تنشر مقالاً عنوانه: الإسلام يغزو أمريكا، وتقول: إن الإسلام بدأ ينتشر في الولايات المتحدة الأمريكية بسرعة مذهلة، وتقول الصحيفة: إن الأمريكيين -وبالأخص السود منهم- بدءوا يدخلون في الإسلام أفواجاً أفواجاً! كما يلتحق بهم أيضاً المهاجرون إلى أمريكا من شرق آسيا والشرق الأقصى. وأضافت عن إحصائيات رسمية قدمها مركز إعلام الاتحاد المسيحي في بريطانيا: بأن معدل بناء المساجد في أمريكا هو مسجد واحد في كل أسبوع. ولك أن تتخيل مدى الرعب الذي يمكن أن يستولي على أعداء الإسلام حينما تكون هذه الإحصائيات صادرة عن مراكز متخصصة من بينهم أنفسهم. وحينما يقال: مسجد في كل أسبوع، ليس المقصود أن المساجد مثل هذه، وإنما قد تكون شقة صغيرة أو صالة صغيرة تشكل مسجداً؛ وهذا في حد ذاته يثير الرعب عندهم! أيضاً: ذكرت صحيفة إيطالية عن مندوب لها في القدس المحتلة أنباء ندوة عقدت في معهد في إسرائيل تحت عنوان: الاتحاد السوفيتي وجورباتشوف وإسرائيل واليهود، ونسبت إلى مدير وزارة الخارجية السابق القول: إن الإسلام عدو مشترك لإسرائيل والاتحاد السوفيتي. وكيف يكون عدواً مشتركاً؟ في هذا إشارة إلى احتفاظ أعداد كبيرة من المسلمين تقدر بأكثر من خمسين مليون مسلم بعقيدتهم وإسلامهم، وبدء تحرك هذا الإيمان الكامن في قلوبهم؛ ليظهر بصورة جلية في بعض الظواهر التي اكتشفت أو التي ظهرت مؤخراً، كما نعلم من تداعي الأحداث وتتابعها. يقول الكاتب: لأول مرة في تاريخ الاتحاد السوفيتي وإسرائيل يجدان عدواً مشتركاً هو الأصولية الإسلامية! وهذا قد يتحول إلى نقطة حاسمة في العلاقات بين البلدين. وهذا الكلام كان قديماً، وأظن أن النقطة الحاسمة التي كان يتنبأ بها الكاتب قد حصلت كما هو معلوم. وأيضاً في فرنسا أصبحت المقالات مكثفة بشكل عجيب حول الظاهرة الإسلامية في المجتمع الفرنسي. ونعلم القصص البسيطة التي ذكرت، مثل: قصة الحجاب لبعض الفتيات المغربيات المسلمات في المدارس الفرنسية، ونعرف أيضاً قصصاً أخرى. ونذكر هنا أن وزير الخارجية الفرنسي السابق أصدر أوامره إلى كبار موظفي الوزارة لإعداد تقرير عن فرنسا ذات الألف مسجد أو الألف مئذنة، على أن يحوي كافة التفاصيل عن تأثير الأصوليين الإسلاميين. والمجلات في فرنسا الآن أغلب المقالات المنشورة عن الإسلام تنشر بعنوان: (فرنسا الألف مئذنة) أو (فرنسا الإسلام القادم) وأحد الكتاب ألف كتاباً كاملاً أسماه (فرنسا ضاحية الإسلام). وإذا كنا نرى المجتمع الغربي الذي إلى الآن الزائر له لا يرى هذه الظاهرة بذلك الشكل، إلا أن التخوف يملأ القلوب، ويسيطر على العقول، ويفكر في المستقبل، ويحلل الظواهر تحليلاً دقيقاً يعيدها إلى أصولها ومبادئها التي تتحكم في مساراتها، وأعطي هذا التخوف عندهم حجماً كبيراً جداً أكثر مما نتصور نحن، بل ربما يظن البعض أن القوم عندهم مبالغات، وما في نظرهم إلا أنهم يتنبئون بما يرون أن الحقائق تؤدي إليه. لذلك يقول جيل كيبل في كتابه: "فرنسا ضاحية الإسلام": إن هذه الانفجارة الكبرى في تأكيد الهوية الإسلامية خلال ما يقل عن العقدين الأخيرين تمثل مشكلة تواجه المجتمع الفرنسي لم يسبق له مواجهة مثيل لها من قبل. أي: مطلقاً. وهذا الأمر واضح في كثير من النصوص التي تبين لنا هذا المجال.

خطر المنافقين الموالين للكفار على الإسلام والمسلمين

خطر المنافقين الموالين للكفار على الإسلام والمسلمين تقدم ذكر فريق الأعداء، والآن نذكر فريق العاقين من الأبناء؛ الذين هم -للأسف- كما قيل: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني وغالب هؤلاء تربوا في أحضان الغرب، أو تأثروا تأثراً انهزامياً بحضارة الغرب وفكر الغرب، وانسلخوا ضمنياً في واقع حياتهم بشكل ظاهر عن الإسلام، وانسلخوا في واقع أفكارهم بشكل متستر عن واقع هذا الدين، فلذلك نجدهم يكررون نفس الصيحات، ولكن -للأسف- بشكل أعمق. وهم أكثر خطراً بالنسبة للمسلمين، مما يسبب الحزن والأسى بشكل أكبر؛ وذلك ناشئ لأنهم يتكلمون بألسنتنا، وهم من جلدتنا، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند هؤلاء كانوا في وقت مضى يسيرون مع التيار الغالب الذي كان يغطي على حقائق الإسلام، والذي كان يحكم بقوته وغلبته على عقول وقلوب الناس في أوائل هذا القرن الذي شهد انبهار المسلمين بالغرب والذي شهد الانكسار العسكري للمسلمين في ظل الاستعمار الأوروبي أو الغربي، والذي شهد في ذات الوقت الضعف العلمي في الحياة الثقافية العلمية الإسلامية. وفي ذلك الوقت كان هؤلاء القوم يعلنون عداءهم السافر للإسلام، ولا يجدون غضاضة في ذلك. وأيضاً: كانوا يشكلون بصورة عملية: التوافق المباشر والتطابق الضمني بل والمشاركة العملية في تغييب الإسلام عن واقع المسلمين وعن واقع المجتمع المسلم. وهم يعلنون هذا الأمر بصورة -وللأسف- أشد قبحاً، وأكثر بعداً عن الحق، وأكثر جرأة على الحق من الكفرة ومن الأعداء الحقيقيين.

بعض النقول التي تبين حقد المنافقين على الإسلام والمسلمين

بعض النقول التي تبين حقد المنافقين على الإسلام والمسلمين وها نحن نستعرض نقولاً سريعة؛ لنخلص إلى حقيقة الموضوع، وربما لا نذكر بعض الأسماء، وقد نذكر بعضها بحسب ما يقتضيه المقام: فهذا أحدهم يقول: هذه هي النتيجة بالضبط التي يريدها المسلمون أو هذه الجماعات المسلمة، وهي نتيجة معلنة بالسلاح في المساجد والشوارع والمعاهد؛ حيث تقام محاكم التفتيش الإسلامية جهراً، وتصدر أحكامها، وتنفذ حرق محلات الفيديو، وجلد الرجل الذي يمشي مع زوجته أو أخته، وتحطيم خشبات المسارح ودور السينما، وعندما لا يجد القاضي الذي يطارد المفسدين أو أحد المفسدين سوى القانون أو الدولة فإنه يستقيل من منصبه؛ ليؤلف كتاباً عنوانه (مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة)! وهو يقصد أشخاصاً بأعيانهم، لكن الذي يحلل هذا النص يجد أنه يريد أن يثير الرعب في نفوس الناس من الإسلام، وأن يصوره بصورة مرعبة وبعيدة عن الناحية العلمية التي يدعيها أمثال هؤلاء، وبعيدة عن الواقع الذي يشهد في كل موقف من مواقفه وحدث من أحداثه بغير كلام هؤلاء. وهم بهذا الكلام يخفون الأمور الخاصة بهم التي يخشون من ضياعها منهم. ويقول مرة أخرى: إن نجاح الجماعات الإسلامية في الاستيلاء على الاتحادات الطلابية ونوادي أعضاء هيئة التدريس فرض إرهاباً فكرياً يومياً على الأساتذة والطلاب، فأصبح من الممكن استبعاد نصوص لبعض كبار الأدباء، كـ توفيق الحكيم ونجيب محفوظ إلى آخره. ثم يقول: إن تغييراً جزئياً ونسبياً في برامج التدريس ومناهجه في مصلحة الأفكار الدينية أصبح يهدد الأمن التعليمي والنظام التعليمي! الإنسان حينما يفكر يرى أن السابقين -وإن كانوا من الأعداء- كانوا أكثر منطقية، وكانوا أكثر واقعية في عرض الصورة، وكانوا معتمدين على دراسات وعلى إحصاءات، وعلى أمور دقيقة، وليس على مجرد التهويش أو مجرد حصول فرصة للهذيان أمثال هؤلاء الذين يكتبون وينشر لهم، أو يتحدثون ويذاع لهم، أو يتولون السلطة في مواقع معينة فيمارسون بالفعل ما يقولونه بأفواههم. ومثل هذا كثير؛ فأحدهم يقول: ونبحث دائماً عن المستفيد -يعني: في الدعوة إلى الإسلام- فأنا أقول: إن المستفيد من الإسلام ومن الاستيلاء على الحكم في مصر باسم الدين -وهو يمثل كلاماً عن دولة بعينها باسم الدين- وانتقال هذا الحكم المستبد تحت راية الإسلام إلى أخرى في المنطقة هم من يتصورون ويصورون أن الحكم الديني هو خط الدفاع لمواجهة الشيوعية، فالمستفيد -إذاً- هو من يروج الآن لنوع من الرأسمالية تحت حماية دينية، وهو نوع طفيلي غير منتج برءوس أموال مستوردة. وهذا يخرج عن دائرة التحذير إلى دائرة الخصومة الشخصية! ولذلك يقول في التخويف من وجود النظام والحكم الإسلامي الذي فيه الخير كله: إن ذلك من شأنه عودة مصر والمنطقة كلها مئات السنين إلى الخلف! وهذه القضية يشوه ويخوف بها أمثال هؤلاء في هذه القضايا، وبعض هذه الصيحات تدخل في قضية أو في جزء من الناحية المنهجية في طبيعة عرضهم لهذا الاتجاه أو لهذا الأمر. ثم نذكر أيضاً بعض هذه النصوص حتى ننهي الحديث عنها؛ لننتقل إلى قضية أخرى. يقول هذا الرجل تأكيداً على أن القضية متعلقة ببعض الأمور: إذا حكم الإسلام وأردنا أن نتصور أن الإسلام لابد أن يحكم وأن يكون هو الموجه للأدب وللفن ولربط العلاقات الاجتماعية وإلى غير ذلك يقول: إذاً: من الذي سيحكم على البرامج والأفلام وكذا بأنها مؤمنة أو كافرة؟ إنهم بشر سوف يؤولون كل شيء حسب معتقداتهم السياسية ومصالحهم الاجتماعية تحت ستار الالتزام الإعلامي الرسمي من جانب الدولة بحكم أن الدولة أو أن الأمة أو المجتمع المسلم لابد أن يحكم بالإسلام. يقول: وهذه كلها عدوان صريح على ما يؤكده الدستور من حرية الفكر والتعبير والاعتقاد! وهذا الأمر يؤكد أنهم يقصدون جوانب معينة، وهذه الجوانب يراد بها أفكاراً، ويراد بها أعمالاً، ويراد بها ممارسات منحرفة عن الدين، وحينما يظهر الدين الحق والرأي الصادق الصحيح للإسلام سوف تكون هذه الأمور خارج الأقواس وخارج التأييد، لذلك يكثرون من الحديث حولها. ولذلك يقولون: إن هذه الأعمال ستصادر الأعمال الفكرية والعقلية الكبيرة، وذكروا أمثلة: مثل (مع الشعر الجاهلي) لـ طه حسين و (في الحكم) لـ علي عبد الرزاق و (الفتوحات المكية) لـ ابن عربي و (أولاد حارتنا) لـ نجيب محفوظ وغيرها من الكتب التي تمس بصورة مباشرة عقيدة ونظام الإسلام، ولذلك لم يكن لها مكان عند المسلمين، وحينما بدأ هذا الدين يحيا في قلوب الناس بدأ التخوف من هذه الظاهرة، وللأسف! يعلن ذلك بألسنة عربية وبأسماء إسلامية! إذاً: هذا هو الجانب الأول، وهي: صيحات الرعب أو التخوف على صورتها الأولى والمبسطة.

الجوانب التي تخوف الكفار والمنافقين من الإسلام

الجوانب التي تخوف الكفار والمنافقين من الإسلام النقطة الثانية: ما هي الجوانب التي تجعل هؤلاء يتخوفون أو يعلنون الرعب والخوف من هذا الإسلام ومن هؤلاء المسلمين؟ إن المتأمل في هذا الطرح يجد أن هناك ثلاثة أمور هي موضع الجدل والنقاش، وهي موضع التخوف الأكبر، وهذه الأمور الثلاثة هي من صميم هذا الدين، ولكنها كانت في أوائل هذا القرن غائبة أو ضعيفة الصوت، ولما بدأ صوتها يظهر وصورتها تتضح كان التركيز عليها أكثر، وهذه النقاط الثلاث هي: تطبيق الشريعة الإسلامية، وصلة الإسلام بالواقع والعمل السياسي، ومبدأ الجهاد في الإسلام. ولا ترى أحداً من هؤلاء إلا وهو يتطرق إلى هذه الجوانب الثلاثة إما كلها وإما بعضها على وجه الانفراد، أما ما عدا ذلك من الدوائر الأخرى فإنها لا تثار كدائرة العبادات المحضة، بمعنى: العبادات التي يراد أن تكون منفصلة عن واقع حياة الناس، أو جانب الأخلاقيات التي يرى أيضاً بأنها عبارة عن نوع من التعامل الحضاري ونوع من العلاقات الإنسانية، وكذلك الجانب الثالث الذي يسلم بعض هؤلاء به وهو: جانب حكم الشريعة فيما يسمى بالأحوال الشخصية كالطلاق والزواج، فمثل هذه لا تثار؛ بل تستخدم لتكون هي صورة الإسلام وحقيقته الكاملة، وأما ما وراء ذلك من هذه الأمور الثلاثة التي أشرت إليها في ناحية تطبيق الشريعة أو التعامل الإسلامي مع السياسة أو مبدأ الجهاد الإسلامي؛ فإن هذه الثلاثة يراد لها أن تكون بعيدة عن الواقع في حياة المسلمين. ولذلك نقف عند كل جانب من هذه الجوانب وقفات متأنية ومختصرة، ولكنها -إن شاء الله- مركزة ونافعة.

تخوف أعداء الله من قيام حكم الإسلام

تخوف أعداء الله من قيام حكم الإسلام الجانب الأول: الجانب السياسي الذي جاء أصلاً في كتاب الله سبحانه وتعالى كقواعد عامة وكأحكام تشريعية تفصيلية في بعض الأحوال، وجاء أيضاً كأقوال وتطبيقات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بعد ذلك امتداداً تاريخياً طويلاً عبر قرون كثيرة، كل هذا يراد أن يلغى، ونجد التحريف والتحوير فيه. لكن يهمنا أن نخوض أولاً مع هذا الخلل في التفكير، ومع هذا الانحراف في التصور؛ لنبين كيف يعرى الإسلام من هذه الجوانب على وجه الخصوص؛ لغرض إبقائه في دائرة الضعف التي تسهل السيطرة عليها، ويسهل تهميش دوره في واقع الحياة، وبعد ذلك ستكون وقفتنا مع الرد على مثل هذه القضايا أو الانحرافات. فأحدهم يقول: الإسلام لم يفرض نظاماً إسلامياً مفصلاً، والخلافة ليست نظاماً محدد المعالم! ومن العجيب أن يستشهد هذا وأمثاله بقول أبي بكر رضي الله عنه: (إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على خير فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني)، وأيضاً بقول عمر رضي الله عنه المشابه لهذا القول. قالوا: هذا إعلان من أبي بكر ومن عمر أنهم سيجتهدون، وأنه ليس عندهم إلا مراعاة المصلحة وتحقيق الأهداف القومية أو الوطنية -كما يدعون- وبالتالي فإنهم يعلنون للناس أن يشاركوا معهم مشاركة سياسية في النقد والتقويم، وليس هناك شيء من عند الله، وليس هناك منهج للحكم في هذا الدين، وليس هناك حدود لا يجوز تجاوزها، وليس هناك نظام يعتبر الالتزام به ديناً يدين المسلم به لله سبحانه وتعالى. بل أغرب أحدهم إغراباً عجيباً وجاء بجهل فاضح حينما قال: إن أول العلمانيين -عياذاً بالله- هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه حوّر الحكم الإسلامي، وجاء بمستحدثات بناءً على المصلحة، وليست هي منصوصة في الدين، فهو أخذ الجانب المدني وأسس الحياة، ووضع لبنة الحياة المدنية من منطلق عصري يتابع المتغيرات ويرعى المصالح، وليس له بالدين صلة ولا نسب. ويقول أيضاً: ورأي آخر نرفضه كذلك يرى أن للإسلام نظاماً في الحكم مفصل المعالم متميز القسمات أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، وألزم المسلمين من بعده بإقامته، وأنهم أقاموه بالفعل أيام الخلافة الراشدة قبل أن تتحول إلى ملك عضوض، وأن على المسلمين أن يرفضوا كل ما حولهم من أنظمة الحكم والسياسة، وأن ينحوها عن مقاعد السلطة والرئاسة؛ ليضعوا النظام الإسلامي على رأس دولتهم الجديدة. ثم يقول: هذا الكلام مرفوض وغير مقبول! ويقصد: أنه غير مقبول من الناحية العلمية، كما يدعي هو وغيره. ومثل هذا الدكتور محمد خلف الله الذي كتب كتابات كثيرة في قضايا تمس أصل هذا الدين والاعتقاد بالله سبحانه وتعالى وبالقرآن وبالسنة، وكان قد أثار موجة كبيرة من سخط الغيورين على هذا الدين، فإنه يؤكد هذا الجانب أيضاً فيقول: نظام الحكم في الإسلام نظام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل باجتهاد آخر! ولاحظ أن القضية يراد أن تقرر؛ حتى يكون هناك مجال للمدخل على هذا الحكم أو النظام الإسلامي. فإذا قلنا: إنه حكم ونظام من عند الله فإن القضية تبقى أنه ليس لأحد من البشر أن يغير، ولكن إذا قلنا: إنه اجتهاد فهنا يفتح الباب على مصراعيه للتغيير والتحوير، بل للمخالفة الصريحة لهذا الدين! فلذلك يقول: إن النظام مصدره الاجتهاد وليس النص، وما جاء عن اجتهاد يمكن أن يستبدل باجتهاد آخر؛ حتى يأتي الاجتهاد الجديد بما يحقق المصلحة، والجماعات الدينية يجب أن تترك هذه القضية؛ لتكون محل اجتهاد جديد! ويقول: إن الفكر السياسي في نظام الحكم هو فكر بشري خالص، وتستطيع المؤسسات العلمية مثل كليات العلوم السياسية أن تجتهد فيه؛ إذاً: فليس للدين شأن أو حكم أو قول فصل في هذا الميدان وهذا المجال. أيضاً: يكرس أحدهم نفس الفكرة بقوله: نحن مطالبون بأن نكون متبعين للرسول صلى الله عليه وسلم بالتزام سنته التشريعية -أي: تفسير القرآن- لأنها دين، أما سنته غير التشريعية -ومنها تصرفاته في السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء ومثلها وما شابهها من أمور الدنيا- فإن اقتداءنا به يتحقق بالتزام المعيار الذي حكم تصرفه، وهو بقاء الدولة، فقد كان يحكم فيها على النحو الذي يحقق المصلحة للأمة، فإذا حكمنا بما يحقق المصلحة للأمة كنا مقتدين بالرسول صلى الله عليه وسلم حتى -وانظر هذا الكلام العجيب الغريب التناقض- ولو خالفت نظمنا وقوانيننا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في السياسة من أحاديث؛ لأن المصلحة بطبيعتها متغيرة ومتطورة! إذاً: المسألة عنده تقتضي أننا لا نلتزم، وأن التزام السنة واتباع الرسول وتعظيمه إنما هو التزام بالسنة التشريعية التي هي -كما يدعي- تفسير القرآن، وإن كان تفسير القرآن في ذاته يرد على مثل هذه الفرية. وليته عدد بعض الشئون البسيطة وإنما عدد كل الأمور: السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء وما شابهها وما يماثلها. إذاً: كل شيء -ما عدا ركعات الصلاة وفرضية الزكاة والحج- يجوز تبديله، وانتهى الأمر إلى هذه الغاية الضيقة المحدودة التي تعارض أصل هذا الدين! وهناك تشويهات سنعرض لها بعد ذلك. والكتابات في هذا الجانب كبيرة وكثيرة جداً، بل نجد أن التركيز في كتابات من يطلق عليهم المفكرون أو المنظرون أو المستنيرون كلها بلا استثناء صبت في هذا الجانب، وتخصصت فيه، مما يدل على حرب هؤلاء لهذا الدين، وعلى عمالتهم لأعدائه. في الفترات الماضية كانوا هم المفكرين، وكانوا هم المنظرين، وكانوا هم المستنيرين، ولكن ما كانوا يتعرضون لهذه القضايا بهذا التركيز، لكن لما تقدمهم في ذلك أئمتهم وأسيادهم وأوعزوا إليهم ساروا على نفس الخطى، ومضوا في ذاك الركاب، ينعقون بما لا يعرفون، ويهرفون ويخرفون كما سيظهر لنا من بعض أقوالهم. ونستطيع أن نقول: إنه تولى كبر هذه القضايا بعض الكتب التي ركزت هجومها على هذه الأمور الثلاثة؛ وهي أمور مهمة من صميم هذا الدين، فهناك كتاب: (قبل السقوط) لـ فرج فودة، وهناك كتاب: (الحركة الإسلامية بين الوهم والحقيقة)، وهناك كتاب: (بين الفقه والشريعة والقانون)، هذه الكتب كلها صبت في هذا الجانب في حرب الإسلام.

تخوف أعداء الله عز وجل من تطبيق الشريعة الإسلامية

تخوف أعداء الله عز وجل من تطبيق الشريعة الإسلامية الجانب الثاني: جانب الشريعة وتطبيقها، وهو جانب له ملامسة إلى حد ما بالجانب الأول، لكن الجانب الأول هو أعم. يدّعي المنافقون أنه لا صلة مطلقاً للإسلام بالسياسة في أي جانب من الجوانب، وهذا الجانب الثاني هو نوع من التخصيص إلى أعلى المطالب، أو إلى أعلى الصور التي يمثلها تفاعل الإسلام مع السياسة، وهو أن ترقى إلى أن تطبق شريعة الله سبحانه وتعالى، وأن تحكم أوضاع هذه الحياة. ومن العجيب أننا نجد أن هؤلاء القوم يخلطون في ذلك خلطاً عجيباً! ومن ذلك: أن خلف الله يقول: إن القرآن الكريم كان يلفت ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس على الناس بوكيل أو مسيطر أو جبار أو ما إلى ذلك من كل ما هو من شئون الحكم والرئاسة، وعلى أساس من هذا كان القرآن الكريم يطلب إليه أن يترك أمر عقاب الناس على مخالفتهم لتعاليم الله إلى الله نفسه! وطبعاً تجد أمثال هؤلاء ينصبون أنفسهم مفسرين للقرآن، وشارحين للسنة، بل حتى متكلمين على صحة الأحاديث وضعفها!! فأحدهم يستشهد لإبطال الجهاد بالحديث الضعيف: (جئنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)، ثم حينما يأتي إلى بعض الأحاديث الآمرة بالجهاد يقول: وهذا الحديث ليس من الأحاديث الصحيحة التي يعتمد عليها! وهذا نوع من الافتراء والتجرؤ في هذا الجانب. نجد محمد عمارة يقول: إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عند ما قرره نبي العصر! يعني: أن الشريعة التي كانت على عهد محمد صلى الله عليه وسلم من المستحيل أن يزعم أحد أنها تثبت إلى هذا العصر، ويمكن أن تطبق في هذا الزمن. ويقول أحمد كمال أبو مجد: ويسرف البعض في تصوير تميز الإسلام عقيدة وشريعة عن كل ما عداه، ويتصور لذلك أن تطبيق الشريعة يعني أولاً سقوط كل التشريعات الوضعية المطبقة في بلاد المسلمين، وإقامة نظام جديد تماماً على أسس اعتقادية وأخلاقية جديدة، وهذا وهم. وهو لا يقول: إنه ليس هناك صلة بين الإسلام وتطبيق الشريعة أو بين تطبيق الشريعة وواقع الحياة، لكن يصوغها بصورة تفرغها من محتواها فيقول: إن دين الإسلام بصفة خاصة يمتد اختصاصه إلى جميع جوانب الحياة الفردية والجماعية للمؤمنين به. وهذه المقدمة تغريك بأن الرجل يتوافق مع حقيقة هذا الدين، يعني: أنه يشمل كل مظاهر الحياة، لكنه يقول: ولكنه امتداد عناية ورعاية وتوجيه، وليس بالضرورة أن يكون امتداده امتداد اختصاص وتدخل مباشر بالتنظيم وتقديم الحلول النهائية الثابتة! وما معنى أن يكون امتداد الإسلام هو امتداد رعاية وتوجيه؟ يعني: أن الإسلام يقول لك: أحسن في معاملتك، ويقول للمسلم: أنت ينبغي أن تكون مثالاً للتسامح، وأنت ينبغي أن تكون رمزاً للسلام؛ هذا معنى أنه يدخل في نطاق الحياة الاجتماعية والسياسة، ولكن في ظل رعاية وتوجيه عام، وليس في ظل امتداد نظام محدد وأحكام مشروعة. ولذلك يتضح هذا الأمر جلياً عند هؤلاء القوم، إما بصراحة سافرة وإما بالتفاف حول الأمر من غير أن يكون هناك بعد أو من غير أن يكون هناك اختلاف في حقيقة المضمون. والشريعة يصورونها أننا بعد تطبيقها سنجد نصف المجتمع مقطعي الأيدي، وثلة منهم مرجومين، وبعضهم مجلودين، وغير ذلك! والذي يتصور هذا في الحقيقة إنما يثبت التهمة على نفسه؛ لأن الإسلام لا يقطع إلا يد السارق، ولا يجلد ولا يرجم إلا الزاني، ولا يجلد إلا شارب الخمر، فالذي يتصور أن المجتمع سيتحول إلى مشوهين وذوي عاهات فإنه يحكم على المجتمع الذي يعيش فيه بأنهم شاربو الخمور، وأنهم زناة، وأنهم سارقون، وأنهم وأنهم؛ لأن الإسلام ما جاء بهذه العقوبات إلا في هذا الجانب. يقول خلف الله -وهو أكثرهم جنوحاً عن الحق وأكثرهم أقوالاً كفرية-: إن خروج المعاملات من نطاق الشرع إلى نطاق القانون قد حقق لها ألواناً من الحرية والانطلاق لم يكن لنا بها عهد من قبل! يعني: أن هذه الأنظمة في المعاملات لما خرجت عن نظام الإسلام تطورت، وأصبح لها مرونة وحرية، وقدمت بشكل جيد وحسن، ولذلك يقول: إن الشريعة كانت -والعياذ بالله- تعوق الإنسان عن الغوص في ميادين الفضاء والأجواء وميادين البحار! وأيضاً نجد أن هذه القضية تتصور في أمور أخرى حينما نجد أن الأمر يغتال قضية التاريخ الإسلامي؛ لأن التاريخ الإسلامي يمثل تطبيق الشريعة في معظم فترات التاريخ، كما سيأتي الحديث عنه. لكننا نجد أن هؤلاء يصورون القضية تصويراً آخر؛ فيجعلون النظام والحكم للإسلام الذي طبق أو الشريعة التي طبقت إنما كانت صورة من صور الجمود، وصوراً من صور التخلف. يقول محمد جابر الأنصاري: إن هذا المجتمع العربي المتحضر اقتحمته الموجة الرعوية العثمانية القادمة من سهول آسيا الصغرى بالغزو المباشر، فقطعت استمراريته الحضارية ونموه الاقتصادي والإنتاجي، كما فعلت الموجة التركية الأولى في عهد المعتصم بالمجتمع العربي. لذلك القضية التي ينبغي للمسلمين التنبه لها هي: أن حكم الخلافة وأن حكم التشريع الإسلامي كان نعمة وخيراً ووحدة للأمة، وهذه القضية المهمة تواجه هذا العداء لهذا الغرض! ولذلك هذا الكاتب يتعجب من المحاولات العجيبة التي تحاول إعادة الاعتبار للتاريخ العثماني ولتاريخ السلاطين الأتراك في العالم العربي الإسلامي؛ باعتبارهم رموزاً للجامعة الإسلامية وللكيان الإسلامي الواحد، وهذا المنحنى التاريخي الجديد للثقافة العربية الإسلامية المعاصرة مرده إلى إخفاق في الحركات القومية والتقدمية التي ثارت على الخلافة العثمانية. وشاهد الحال أننا نجد أن أمثال هؤلاء يركزون على قضية مهمة، وهي: أن تطبيق الشريعة سيأتي بقضيتين خطيرتين لا وجود لهما في الواقع، والقضية الأولى ذكرناها وهي: إقامة الحدود، والقضية الثانية ما يسمونه بإقامة النعرات الدينية أو الفتنة الطائفية بين المسلمين وغير المسلمين. وعلى هاتين النقطتين يقوم أساس حديثهم، والكلام الذي يخوضون فيه في هذا الجانب. وخلاصة القول: أنهم يريدون من هذه القضية أن يبعدوا الإسلام عن التطبيق؛ وذلك من خلال جوانب ثلاثة: الأول: أن قضية التشريع ليست محددة المعالم، وليست مطلوبة بشكل ديني. الثاني: أن هذه الشريعة فيها من الأمور التي كانت تناسب العصر في وقت مضى، ولكنها لا تناسب في عصور أخرى. الثالث: أن تطبيقها يؤدي إلى سلبيات وإلى مخاطر يصورونها للناس في هذا الجانب.

تخوف أعداء الله عز وجل من الجهاد في سبيل الله

تخوف أعداء الله عز وجل من الجهاد في سبيل الله الجانب الثالث: جانب الجهاد، وهو أحد معالم هذا الدين، بل عده بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام تأكيداً على أهميته. ونظراً لاقتران الحياة الإسلامية التي بدأت تعود إلى المجتمعات المسلمة بشمول هذا الدين وبقواه الفاعلة كان لها ارتباط بهذا المبدأ وبهذا الفرض الكفائي الذي ينتقل أحياناً إلى أن يكون عينياً، فلذلك كان التركيز على هذا الأمر وتشويهه والالتفاف حول قضاياه بشكل أو بآخر، فتجد أن هذا المبدأ الذي قام أو يقوم على أساس ديني وعلى أساس فيه حماية لهذا الدين ونشر له يحور في حس هؤلاء بطريقة ملتفة أحياناً وواضحة أحياناً أخرى. فأحدهم يقول: فلا الحرب التي سميت بحرب الردة كانت دينية، ولا حرب علي رضي الله عنه مع خصومه كانت دينية؛ لأنها كانت حروباً في سبيل الأمر -أي: الرئاسة والخلافة والإمامة- وهذه تعتبر طبيعة سياسية ومدنية، ومن ثمَّ كانت الحرب التي نشبت لأجلها سياسية ومدنية هي الأخرى، وليس لها أي مبدأ من مبادئ الإسلام. ويصور هذا الكاتب التحليل التاريخي للجهاد أنه لم يستقر على مبدأ ديني ثابت ومطلق، وإنما يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في بيئة قريش، وكفار قريش كانوا متطرفين في العداء ضد الإسلام، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر، وأن يتلافى الصدام مع قريش في ذلك الوقت، ثم لما انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة نزل قول الله سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40]، فيأتي هذا المحلل لمثل هذه الآية ويقول: الجهاد على مقتضى هاتين الآيتين ليس حرباً مقدسة مطلقة غير مشروطة، وإنما هي حرب مقيدة مشروطة، فهي تحدد السبب، وتشير إلى الأعداء، وتضع ضوابط، وتسن الأخلاقيات! ثم ينطلق ليحلل باقي الفترات التاريخية والجهاد الإسلامي فيقول: من الخطأ أن نعتبر أن قتال الدولة الأموية التي توسعت بعد الخلافة الراشدة كان جهاداً إسلامياً، بل كان عبارة عن توسع سياسي وسيطرة في ظل وجود قوة داخلية، إذا ما كان هناك استثمار لها في الحروب يمكن أن تبدل مشاكل داخلية! ويقول: الدولة الأموية كان فيها معارضة سياسية، وكان فيها نعرات تواجه القومية العربية -كما تسمى- وبالتالي كان من الحنكة السياسية التي تجمع بين أمرين تفريغ هذه المشكلات إلى الخارج، واكتشاف مناطق نفوذ أخرى. إذاً: ستتوجه هذه الكوادر والتفاعلات إلى القتال باسم الجهاد، وباسم الدين؛ حتى يصرفوا هؤلاء الناس عن معارضة الدولة إذا صح التعبير! أي: أن هذا الجهاد الذي كان في الفترة الأموية لم يكن جهاداً إسلامياً، ولم يكن فيه شهداء، ولم يكن فيه أي شيء من هذه الأشياء التي تغرينا. بل قاموا باستعراض بقية فترات التاريخ التي تتضح فيها هذه الناحية، وأظهر شيء يتحدثون عنه هو الخلافة العثمانية وما كان من شأنها وتوسعها. ثم ليس هذا فحسب، بل حتى الجهاد والحرب ضد أهل الكتاب أيضاً يفسر تفسيرات أخرى، فنجد أن الآيات القرآنية الصريحة الواضحة في الأمر بالجهاد تحور لتكون ذات أهداف محدودة. فهذا العشماوي يقول: الجهاد أو الحرب المقدسة بصريح نصوص القرآن وصحيح الواقع الإسلامي هو: دفاع عن النفس لرد عدوان أو صد أذى؛ فهو لا يكون على الإطلاق ابتداءً بالعدوان، كما لا يكون فقط مبادرة بالإيذاء، وإنما على قدر ما يكون العدوان يكون الرد، وعلى نحو ما يكون الإيذاء يكون الأذى. أي: أنه يلتزم بضوابط الدفاع، فلا يزيد عما يكفي لرد العدوان، وبهذا المعنى يكون الجهاد أسلوباً كريماً وباعثاً قوياً ودافعاً سامياً للارتقاء بالذات، والسمو بالنفس، والعلو بالروح! أي: أنه جعل الجهاد المذكور في النصوص عبارة عن جهاد النفس، وأما النصوص الأخرى فإنما تعني فقط الحالات التي كان فيها عداء معين يقتضيه الواقع السياسي الذي كان في ذلك الجانب. ثم يقول: إن المعنى السليم للجهاد فسر خطأً من جانب بعض الفقهاء، وحرف عمداً من جانب بعض السلطات في التاريخ الإسلامي؛ فبعض الفقهاء الذين أثروا على العقل الإسلامي يقولون: إن الصلة بين الإسلام وغيره من الدول والمجتمعات هي الحرب دائماً، وأن السلم ليس إلا هدنة مؤقتة ريثما يتهيأ المسلمون للحرب. وزاد البعض أنه من غير الجائز لإمام المسلمين أن يتعاقد على سلم دائم مع بلد من بلاد الحرب؛ لأن في مثل هذا السلم إلغاء لفريضة الجهاد. ولست أدري ماذا يريد بهذا البعض، ونحن نعلم أن كتب الفقه كلها بلا استثناء تشتمل على كتاب وباب كامل اسمه: الجهاد وأحكام الفيء والغنيمة، بل يقول الإمام النووي في المجموع: إن من واجبات الإمام: الغزو والجهاد في سبيل الله؛ قال: وأقله: أن يكون في العام مرة واحدة. ونجد التفصيلات والتفريعات في أحكام الجهاد وفي أحكام الجزية في كتب الفقه وغيرها.

أهمية الوقوف أمام أعداء الله عز وجل ودحر مخططاتهم

أهمية الوقوف أمام أعداء الله عز وجل ودحر مخططاتهم هذه القضايا الثلاث -كما أشرت- هي محور هذا الهجوم بشكل واضح وسافر؛ ولذلك ينبغي للمسلم أن يتنبه إلى هذه الظاهرة. والذي يتأمل في هذه الدعاوى يجد أنها ساقطة، وسقوطها سهل التوضيح لمن كان متربياً وعارفاً بالقرآن والسنة؛ لأنها أمور بدهية في هذا الدين، فحينما نقول مثلاً: إن هذا الدين بالنسبة لشموليته لهذه الحياة ينتظم جميع الجوانب حتى الجوانب السياسية نجد أن هناك معالم كاملة وشاملة تدل على هذا الأمر، وليس مجرد إطلاقات عامة؛ فإننا نجد -على سبيل المثال- في سورة التوبة أنظمة متكاملة في السلم والحرب، والمعاهدات والمعاقدات بين الدول، وهكذا قضية التعامل مع الأنظمة الأخرى. وكذلك نجد أن قضية ارتباط الحكم بالدين واضحة في كثير من النصوص القرآنية التي تؤيد ذلك، سواء مما يذكره القرآن من قصص الرسل والأنبياء، كقصة داود عليه السلام أو مما يقرره القرآن بذاته؛ فإننا نجد أن هناك صورة متكاملة لا تخفى على الإنسان حينما يتلو آيات القرآن. وأما جعل نصوص القرآن تتعلق فقط بالحوادث التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنها فقط جاءت في ظل الظروف التي كانت للمسلمين فهو نوع من إلغاء استمرارية القرآن الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وكذلك في هذا إبطال لقول الله سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وكذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ختمه الرسالات، وأن هذا الدين وهذا القرآن هو الخالد الباقي إلى قيام الساعة. وكذلك القضية الثانية نجد أن الواقع التاريخي فضلاً عن النصوص المتكاثرة القرآنية وأكثر منها نصوص السنة؛ تؤكد جانب تطبيق الشريعة الإسلامية، وأن الإسلام جاء بتفصيل كثير من الأحكام في جوانب الحياة كلها، سواءً الجوانب الاقتصادية أو غيرها؛ فنجد النصوص في كتب الفقه تستشهد بالآيات القرآنية في تحريم الربا وفي الأمور الأخرى المتعلقة بالبيع وبالشراء والمداينة وغير ذلك، وتأتي نصوص السنة لتبين الأمور الأخرى التفصيلية، مثل: الرهن، والشفعة وغيرها من الأحكام، ففيها تدقيق وتفصيل كامل. ثم نجد أيضاً أن القرآن جاء بتفصيلات دقيقة فيما يتصل بالعلاقات الاجتماعية من الزواج والطلاق والرجعة والنفقة ونحو ذلك، وهكذا فصلتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ونجد كذلك أن الجوانب الأخرى المتعلقة بجانب العقوبات أيضاً جاءت فيها الحدود، مثل: حد السرقة، وحد الزنا، ففيها تفصيلات دقيقة لا تحتمل المغالطة أو المواربة. فهذه التفصيلات مذكورة في كتب الفقه التي هي من أعظم الكتب وأكثرها؛ فإن أغزر ما كتب المسلمون هو في الفقه وفي الفروع الفقهية التي ضبطت في ظل النصوص الإسلامية القرآنية والنبوية الصريحة، أو في ظل الاجتهادات وفق قواعد وأصول معينة تستند إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما تجد حكماً ولا قضية إلا وتجد في الكتب الفقهية الموسعة تعريجاً عليها، وتفصيلاً لها، ووضع ضوابط لفروعها في ظل هذه النصوص من القرآن والسنة. ثم كذلك نجد أن التطبيق العملي في التاريخ الإسلامي كله يبرهن على هذه القضية، وأن النبي عليه الصلاة والسلام طبق شريعة الله سبحانه وتعالى في شتى المجالات.

حقيقة الجهاد في الإسلام

حقيقة الجهاد في الإسلام قضية الجهاد في سبيل الله على الصورة التي ذكرها هؤلاء غير واردة ولا متطابقة مع منهج هذا الدين في نصوص القرآن وفي نصوص السنة وفي تطبيقات الواقع العملي؛ فالله سبحانه وتعالى يقول في نداء المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، ونداءات القرآن في شأن الجهاد قوية وواضحة، كقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:38]. وقد جعل الله سبحانه وتعالى مرتبة المجاهد أعلى وأسمى من غير المجاهد، وجعل في كل حركة وسكنة في طريق المجاهد أجراً يتضاعف له، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة:120]. وهذه النصوص تدلنا على أن القضية أصيلة ومطلقة، وليست محدودة، وإنما هي لتثبيت هذا الدين ونشره ومنع من يحولون بين الناس وبين معرفته على حقيقته؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين شأن الكافرين بأنهم: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]. وكذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر شيئاً من الأعمال وبالغ في تفضيله مثلما ذكر في شأن الجهاد؛ فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن فضل الجهاد فقال للسائل: (هل تستطيع حينما يخرج المجاهد أن تقوم فلا تنام، وأن تصوم فلا تفطر؟ قال: ومن يطيق ذلك؟! قال: لو فعلت ذلك ما بلغت أجر المجاهد) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، بل إنه عليه الصلاة والسلام بين تعلق المؤمن بهذه الفريضة وبهذا الأمر في هذا الدين بأنه هو الأمر الوحيد الذي يتمنى المؤمن لأجله أن يعود إلى الدنيا ليقتل في سبيل الله لما يرى من الكرامة والأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قارع الكفر والشرك لم يكن ينطلق قطعاً من الضرورة المدنية لدولته أو من الضرورة الاقتصادية لمجتمعه، وإنما كان الأمر واضحاً وجلياً في قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، وأيضاً كان واضحاً أن القضية كانت باسم هذا الدين، ولأجل نشر راية هذا الدين، وكذلك سار أصحابه من بعده. وكل انحراف عن هذا المعنى إنما هو مغالطة للتاريخ وتفريغ لمحتواه، أما المغالطة فظاهرة، وأما التفريغ فكيف يمكن أن يفسر الإنسان أن هؤلاء المسلمين الذين لم تكن لهم قوة ضاربة خرجوا من جزيرتهم وقوضوا الممالك الكبرى والعظمى؟! وكيف فتحوا الديار شرقاً وغرباً؟! وكيف كانوا مع جهادهم وقتالهم يمثلون الحضارة والتعامل الإنساني الرائع؟! وكيف كانوا يمثلون الحرية الدينية في ظل قول الله سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]؟! حتى اعترف كل أعدائهم بأنهم مثلوا هذا الجانب تمثيلاً صادقاً وواقعاً. وخلاصة القول: أن هذا التخوف الذي يظهر من الأعداء ومن بعض الأبناء إنما يبين حقيقةً واضحة، وهي: أن هذا الدين بحقيقته الكاملة وشموليته الواقعة وتفاعله الكامل مع هذه الحياة هو الأمر الذي يخشى منه أعداء الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فإنهم يلتمسون لحربه كل طريق. والطرق في ذلك متنوعة وكثيرة ربما يأتي لها مجال حديث، لكنها تنصب أساساً في إجراءات وقائية وفي إجراءات عدائية. أما الوقائية فهي: الضرب والطعن في المبادئ، والتشكيك في الحقائق، والتزوير في التاريخ؛ حتى لا يستطيع أحد أن يستفيد أو أن يستند إلى هذه الأمور بعد أن تكون قد عراها هذا الأمر، فيكون هناك وقاية من هذا الجانب، وهذه الوقاية غايتها أن يحال بين الناس وبين الفهم الصحيح للإسلام. والإجراءات العدائية: تشمل ألواناً من الحرب الإعلامية، ومن الحرب المباشرة عسكرية كانت أو اقتصادية، وكذلك تتضمن التضييق في كل الجوانب، وخاصة من الناحية الاقتصادية. وهذه الأمور كلها يمكن أن يجدها الإنسان، ولكن اليقين الذي يكون عند الإنسان المؤمن هو وعد الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وهو وعد الله سبحانه وتعالى بأن هذا الدين هو المنتصر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]. وكذلك وعد النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر مما يكون في مستقبل الزمان بالنسبة للمسلمين وانتصار دولتهم وارتفاع رايتهم. فالمؤمن الذي يبقى على هذه الحقائق لا يحول بينه وبينها حائل، بل يمكن أن يكون هو اللبنة الصحيحة والصالحة لبناء المجتمع المسلم المتكامل، ولتطبيق شرع الله سبحانه وتعالى التطبيق الذي كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أصحابه من بعده. وهو كذلك المؤهل لأن يكون المجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى الذي يحول بين القوى التي تمنع الناس من معرفة الدين وتحول بينهم وبين الدخول فيه أفواجاً. وهذا يقتضي أموراً كثيرة، كقوة الإيمان، وصحة العلم، وصحة العبادة، ونشر العلم الصحيح، وكذلك العمل التطبيقي، وهذا هو الذي ينبغي أن يفهمه المسلمون في ظل هذه الصيحات التي تخوف منهم، والتي تتربص بهم، والتي تستعدي الجهود عليهم، والله سبحانه وتعالى غالب على أمره: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]. الله سبحانه وتعالى نسأل أن يوفق المسلمين لمعرفة حقيقة دينهم، وأن يجعلهم متبصرين بحقيقة أعدائهم، وأن يجعلهم متمسكين بما أمر الله سبحانه وتعالى وبما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مدرسة التغيير

مدرسة التغيير لقد جعل الله لنا في أيام دهره نفحات يفيض فيها علينا من الخيرات، وينزل الرحمات، ويضاعف الحسنات، ويحط عنا السيئات، ومن هذه المواسم موسم شهر رمضان الذي تتبدل فيه الأحوال والأقوال والأفعال، ويبادر الناس فيه للتغيير في سويداء القلوب وأعماق النفوس وخطرات العقول، ولاشك أن رمضان على مدى ثلاثين يوماً مدرسة عميقة الأثر في التغيير، وقوية فيما تعكسه على نفس الإنسان وقلبه.

رمضان مدرسة التغيير

رمضان مدرسة التغيير الحمد لله خالق البريات، عالم الخفيات، رب الأرض والسماوات، جعل لنا في أيام دهره نفحات، يفيض فيها الخيرات، وينزل الرحمات، ويضاعف الحسنات ويمحو السيئات، فله الحمد جل وعلا ملء الأرض والسماوات، وملء ما شاء من شيء بعد، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداًَ عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه إلى الناس كافة أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى به نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فحين يهل علينا هلال رمضان تتغير فيه أوقات طعامنا وشرابنا، وتتبدل فيه أوقات يقظتنا ومنامنا، وتختلف فيه أحوالنا وأقوالنا، ونرى صور التغيير لا تخطئها العيون في جانب المادة الملموسة، ولعلنا نبحث وراء ذلك عن التغيير في سويداء القلوب، وأعماق النفوس، وخطرات العقول، ولا شك أن مدرسة يمتد برنامجها الواسع من القول والفعل والتغير والتبدل على مدى ثلاثين يوماً لهي مدرسة عميقة الأثر في التغيير، وقوية فيما تعكسه على نفس الإنسان وقلبه، ولعلنا نشهد صوراً كثيرة تستحضرها أذهاننا ونتخيلها لهذا الشهر الكريم في كل ما مضى من أيامه ولياليه عبر سنوات وسنوات طوال، ذكر وقرآن، وبر وإحسان، إرادة وصبر، وإفادة وأجر، طاعة وتعبد، قيام وتهجد، زيادة إيمان وصحة أبدان. صور كثيرة، انتقال من الغفلة إلى الذكر، انتقال من الاجتراء إلى الاتقاء، انتقال من الشح إلى البذل، تغير حتى في كلمات الألسن، بل في قسمات الوجوه، بل في كثير وكثير مما يخفى ولا يظهر مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، انصراف عن الشهوات وإقبال على الطاعات، مباعدة من النيران ومقاربة إلى الجنان، تغير كبير نشهده ونلمسه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله صادقاً في ابتغاء مرضاته، وأن يتقبله فيما يمحو به من الآثام، وفيما يزيد به من الأجور والعطايا الجسام.

وقفات وصور في مدرسة التغيير

وقفات وصور في مدرسة التغيير ونحن في هذه الوقفات نريد أن نلفت النظر مع صور التغيير الظاهرية إلى بعض ما ينقصها ويضعف قوتها ويبدد أثرها وقد يمحو أجرها وثوابها -ونسأل الله عز وجل السلامة والعافية-.

الوقفة الأولى: الانتقال من الغفلة إلى الذكر

الوقفة الأولى: الانتقال من الغفلة إلى الذكر لدينا غفلة عن الأعمال وفضائلها، يفسرها انحسار الاقبال على بيوت الله وزيادتها في مقابل ذلك في رمضان، وكأننا لا نعرف أو لا نذكر، أو كأننا نغفل عن كثير وكثير وكثير من النصوص المحفوظة في فضائل الأجر، وثواب الصلاة، وشهود الجماعات وغير ذلك. كل خطوة تسعى إلى بيت الله عز وجل تحط خطيئة، وتكتب حسنة، وترفع درجة، وما تزال الملائكة تدعو وتستغفر للمصلي في مصلاه حتى ينصرف، وما تزال في صلاة ما دامت الصلاة تحبسك، ثم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة. غفلة كبيرة عن هذا لكثير ممن لا يشهدون الجماعات إلا في هذا الشهر الكريم، وكأنما هو سحابة صيف تمر ثم تنقشع، فإذا بهم عن المساجد يدبرون، وإذا بهم عن بيوت الله عز وجل يفرون، وهذه صورة واضحة من صور التغيير. وغفلة كذلك عن فضائل الزمان، وكأننا لا نعلم قول الله عز وجل الذي مدح فيه عباده بأنهم يستغفرون بالأسحار، وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إذا بقي الثلث الأخير من الليل ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه) وذلك الدهر كله. وكلنا أيضاً يعلم حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام فيمن يبقى بعد الفجر في مصلاه حتى تطلع الشمس وترتفع قيد رمح ثم يصلي ركعتين فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة. أين هذه الفضائل في واقع أيامنا المتتاليات؟ تكاد تكون من المنسيات، ويحيا ذكرها ويعود الاعتبار بها والاغتنام لها والحرص عليها في هذا الشهر الكريم. غفلة حتى عن فضائل الأماكن فمكة لا تبعد عن بعض الناس إلا ساعة من الزمان، غير أن قلة قليلة هي التي تتعهد البيت بالزيارة بين فينة وأخرى، وتعتمر أو تطوف بين وقت وآخر، فإذا جاء الشهر تغير الحال، وزادت الأشواق، وتعلقت النفوس بالأجر، وذكرت فضيلة عمرة كحجة، وغير ذلك مما نعلمه. كثيرة هي صور الغفلة التي نراها في واقعنا، وصور الذكر التي تهب علينا نسائمه مع حلول شهر رمضان، وتلك أمور محمودة مرغوبة تسر كل مؤمن، وتشرح الصدر، ولا شك في الوقت نفسه أن ثمة ما ينقضها أو يغيرها أو يؤثر فيها سلباً وللأسف الشديد. نجد أن هذا الشهر الكريم هو واحد من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه، وشعيرة من شعائره التي جعل الله سبحانه وتعالى لها حكماً جليلة، وفوائد عظيمة، وجعل لها خصائص، كما رأينا في اختصاص رمضان بالقرآن، وسنرى كذلك اختصاصه بغيره من الأمور والأحوال، غير أنا نرى أمراً يحز في النفس ويؤلمها ويحزنها. فإنه مع هذا القصد الواضح، والحكمة الظاهرة في مسألة الذكر والتذكر والتحفز لهذه الخيرات ثمة من يتفرغ ويعد ويجهز لكي يقضي على ذلك الذكر ويعمم الغفلة من جديد، ويوجد لها قوالب وبرامج تهدف إلى أن تغطي على العقول، وتطمس على القلوب، وتخمد نار الأشواق الإيمانية في النفوس. إنها وسائل الإعلام، تأتينا بآلاف وآلاف من المسابقات التي في كثير منها ليس لها ارتباط بهذا الشهر وفضائله وأعماله ومآثره وتاريخه، وهي لا تأتي كمسابقات عادية كما يقال، بل تأتي ببهرجها وفتنتها، ونسائها وعريها، ورقصها وغنائها، بل مع ما فيها من الحرام الذي لا شك في حرمته من وسائل الاتصال التي تتصل بها، فتأخذ منك الأموال، وتأخذ من غيرك، ثم تقسم الجوائز من هذه الأموال في قمار معلن على الشاشات، وظاهر على الصفحات، مكتوب بالأرقام، يتسابق إليه كثير من الناس ليعودوا من بعد الذكر إلى الغفلة. وهناك مسلسلات متتابعة مخصصة لهذا الشهر، لا تأتي إلا فيه ولا تعد إلا له، بل إنه -والعياذ بالله- قد نشر في الصحافة مسلسلات خاصة برمضان، وهي تهدف إلى انتقاد الدين والتدين، وتهدف إلى التحذير من الإقبال على الله عز وجل والارتباط بطاعته. في ضمن هذه الموجة الهوجاء العمياء الغبية التي يراد بها -كما يزعم بعض المتصدرين في تلك الوسائل الإعلامية- ردم أو تجفيف منابع الإرهاب، وما عرفوا أنهم بهذا يحاربون أصل الدين في أصله؛ لأننا نسمع وللأسف الشديد عن عناوين لهذه المسلسلات، وهي عناوين من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وإن كان المضمون في ذاته صحيحاً في بعض وجوه النقد فلِمَ نربطها بهذه الأسماء الشريفة؟ ولِمَ نسمي هذه المسلسلات بأسماء تلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرها في أحاديثه، وجعلها من الأمور التي نؤمن ونصدق ونوقن بها وتتعلق بها قلوبنا ونفوسنا؟ والحديث ليس فيه مجال وسعة في هذه الأبواب، غير أنا نقول: إن رمضان يذكّر، وإن رمضان يحفز، وإن وسائل الإعلام كأنما تواجه وتعارض وتصد، فاختر لنفسك إن كنت تريد أن تكون مع الصائمين الذاكرين، أو مع الصائمين الغافلين اللاهين من قناة إلى أخرى، ومن مسلسل إلى ثان، ومن مسابقة إلى أخرى، وغير ذلك من الأمور التي يشغلون بها الناس، فلا تفرغ أوقاتهم لتلاوة كتاب ربهم ولا للمكوث في بيوت الله عز وجل، ولا لسماع الذكر والموعظة. نحن في شهر ننتظر فيه أن نقطع كل أسباب الغفلة حتى نهيئ القلوب والنفوس لتقبل على الله عز وجل لتحيا من بعد موات، ولتنشط من بعد ضعف، ولتتذكر من بعد غفلة، ولتشرق فيها الأنوار بعد أن ضرب عليها الران؛ لأننا في أيامنا وليالينا الماضيات، في أوقاتنا المتتاليات ليس لنا حظ ونصيب وزاد من هذه الخيرات. كما هو في هذا الشهر، فلا يراد لنا أن نغتنم الخيرات، ولا أن نتزود بهذه الطاعات لنقاوم ما سلف من الغفلات، بل يراد لنا مرة أخرى أن نغرق في أوحال الشهوات، فالصباح تسمع القرآن يتلى في الإذاعات، وترى -إن رأيت- شاشة وهي من برنامج فتوى إلى برنامج موعظة إلى غير ذلك، فإذا غربت الشمس وإذا انتهى النهار رأيت الليل وما فيه. أي تناقض هذا؟! وأي عبادة هذه؟! وأي استقبال لشهرنا ونحن نرى تلك الإعلانات تترى عن تلك البرامج فيما يستقبل من الأيام؟

الوقفة الثانية: الانتقال من الاجتراء إلى الاتقاء

الوقفة الثانية: الانتقال من الاجتراء إلى الاتقاء كم نجترئ في أوقاتنا فلا نكاد نضبط ألسنتنا من كلام باطل ولغو هادر، أو شتم مقذع، أو غيبة محرمة، أو نميمة مؤججة للفتن والصراعات، فإذا جاء رمضان تذكرنا قول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، تذكرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم). نحن نرى في رمضان صورة التقوى وهي مشرقة، فالناس يحرصون على الاستجابة، ويجتنبون -خاصة في نهار رمضان- أقل القليل من المخالفات أو من المكروهات، حرصاً منهم على أداء العبادة على وجهها، والإتيان بالفريضة على كمالها، فتجد الناس وهم يحجمون ويضبطون أنفسهم، ويتقون مواطن الخلل والزلل، فلا تكاد تسمع تلك الكلمات، ولا تكاد ترى تلك المشاحنات، ولا تكاد تلمس النفوس المتساهلة في ارتكاب المحرمات، فهي صورة جميلة وضيئة، حتى إن السائلين يعبرون عن ذلك، فهذا يسأل ويقول: كنت أسير فأتى غبار فواجهني، فهل إن دخل غبار أفطرت؟ وذاك يسأل عن عطر أو بخور شمه: هل في ذلك ما يفسد الصوم؟ وثالث يسأل ورابع يسأل، يسألون عن دقائق الأمور؛ لأن النفوس ارتقت، والهمم نحو الطاعات سمت، ولأن الإنسان المؤمن إذا حيي قلبه فإنه يتقي الله عز وجل في صغير الأمور كما يتقيه في جليلها، وترى العيون وقد غضت عن المحرمات، والآذان وقد صمت عن سماع تلك الأمور الآثمة الماجنة، ومع ذلك -كما قلت- يهون هذا في نفوس الناس، ويجرئهم مرة أخرى على أن لا يكونوا محترزين عن المحرمات تلك الوسائل الإعلامية بما فيها من هذه الأمور المؤلمة المحزنة، ويطول الحديث ولا ينقطع عن ذلك. ولعلنا -ونحن في هذه الأوقات، وقبل دخول شهرنا- نعقد العزم على أن لا نجعل لهذه الوسائل سبيلاً لتغرقنا في بحار الغفلة بعد ذكر الله سبحانه وتعالى، ولتجرنا إلى حياض المنكرات مشاهدة وسماعاً. ونحن في موسم التقوى علينا أن نتقي عذاب الله عز وجل بفعل المأمورات وترك المنهيات. والتقوى هي غاية عظيمة من غايات الفريضة، فكيف نضيعها؟ كيف نرضى أن نخرج من غير أن نحصل عليها، ومن غير أن تعمر قلوبنا، ومن غير أن تغمر نفوسنا، ومن غير أن تشيع وتنتشر في مجتمعنا؟ لذلك احذر كل ما يناقض هذا التغيير؛ فإن التغيير جاءت به الشريعة، وجاءت به الفريضة، وجاءت به الفضائل، وجاءت به الخصائص، وجاء من لا أدري بم أسميهم، هؤلاء الذين يريدون أن يصرفوا الناس عن طريق الله، ويصدوهم عن طاعة الله، ويردوهم إلى ما هم عليه من غفلة، نسأل الله عز وجل السلامة. رمضان إن الأنفس الجرداء تزكو حين تقبل كالربيع وتورق أهلاً بيومك صائمين عن الأطا يب راغبين إلى الرضا نتشوق أهلاً بليلك قائمين لربنا وقلوبنا بالحب نشوى تخفق حسب الموفق فرحتان أجل من هذي الحياة وإن كساها رونق تلك المفاضلة، نشعر بأن لحظة في سحر في ليلة من ليالي رمضان تعدل الحياة كلها، تعدل كل تلك البهارج والزخارف، تعدل كل تلك العورات المكشوفة والمواقف المحمومة والكلمات الساقطة التي تواجهنا بها وسائل الإعلام. لمرارة الحرمان فيك حلاوة ولزهمة الأرواح عطر يعبق قد ذاقها مستروحاً من أدركوا حكم الشريعة فاستجابوا واتقوا ليت الذين استثقلوك فأعرضوا وردوا ينابيع التقى وتذوقوا ما سرهم إذ ذاك أن ممالك الد نيا لهم من دون ذلك مرفق. من ذاق عرف، عرف لذة التقوى، ولذة العبادة، ولذة الطاعة، ولذة الدموع المنسكبة، ولذة الدعوات المرتفعة، ولذة التسابيح المتوالية، ولذة كل هذه المعاني العظيمة، ولذة الصلة بالله عز وجل والاستقامة على أمره. هذه صورة نشهدها عندما نرى المساجد وهي تغص بالمصلين، عندما نرى الدعوات وهي ترفع، والدموع وهي تسكب، كل ذلك مشهد يراه المسلمون من خارج هذه البلاد من نقل صلاة التراويح من بيت الله الحرام تذرف دموعهم شوقاً لذلك، تخفق قلوبهم وأنفسهم لهفة لذلك، يرون أن كل ما هم فيه من بهرج الدنيا ونعيمها لا يساوي لحظة إذا أقبلوا إلى هذا البيت العتيق، أو إلى مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فلماذا مرة أخرى يغزونا أولئك بفتنة الدنيا ليخرجونا من لذة الطاعات، ويفسدوا علينا حلاوة العبادة. هم يفعلون فهل تستجيبون؟ هم يسعون إلى هذه الأهداف فهل أنتم موافقون؟ الأمر بيدك والحل عندك، والهزيمة بين جوانحك، والهمة في نفسك، والعزيمة أنت صاحبها، فلا ينبغي أن تصرعك هذه الفتن وتلك الشهوات الساقطة الضعيفة وأنت صاحب الإيمان القوي واليقين الراسخ والتقوى السامية المرتفعة عن كل هذه الترهات التي ينبغي أن تتنزه عنها.

الوقفة الثالثة: الانتقال من الشح إلى البذل

الوقفة الثالثة: الانتقال من الشح إلى البذل رمضان شهر الإنفاق، شهر العطاء، ليس عطاء المال وحده، بل عطاء في النفوس التي تنشرح، والابتسامات التي تظهر، والصلات التي تمتد، والزيارات التي تحصل، والألفة التي ترى، والاجتماع الذي يشهد. صورة جميلة رائعة من بذل النفوس والقلوب والأرواح، وبذل الجيوب والأموال والدرهم والدينا. لمه؟ لأسباب كثيرة، فضيلة الزمان، ومضاعفة الأجر، وكلنا يعرف ذلك في رمضان، ثم اختصاص للصدقة في شهر رمضان، كما ورد في سنن الترمذي من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصدقة صدقة رمضان). ثم ماذا؟ اجتماع الصيام والصدقة في سياق واحد من الأعمال المفضية إلى دخول الجنة، كما روى علي بن أبي طالب فيما أخرجه الترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما ذكر من الأمور التي تدخل الجنة في شأن عباد الله الصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة غرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فلما سألوا: هي لمن يا رسول الله؟! قال: لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)، والصدقة فيها في رمضان إطعام الطعام، وفي رمضان الصلاة والناس نيام، وفيه كذلك الصيام، فلما اجتمعت هذه أحب كل مؤمن أن يجمعها في شهره لعله يتعرض لنفحات الله عز وجل فيستوجب رحمته ومغفرته، وينال بإذن الله عز وجل يوم القيامة جنته. وخصيصة أخرى كذلك، وهي في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، فبقدر رحمتك بالخلق تفيض عليك رحمة الله، ونحن نعلم أن القلوب ترق في رمضان، وأن الرحمة تفيض فيه، وأن الإنسان يشارك الفقراء والأيتام والمحرومين مشاعرهم ويرحمهم، فيكون أكثر عرضة لرحمة الله سبحانه وتعالى. وخصيصة أخيرة، وهي أن ثمة نوعاً من الصدقة خاصاً بهذا الشهر يأتينا في جانبين: (من فطّر صائماً فله مثل أجره دون أن ينقص ذلك من أجر الصائم شيئاً)، فلذلك نرى الناس وهم يسارعون إلى تفطير الصائمين ليبلغوا أجرهم ويتعرضوا لرحمة ربهم. ومن جهة أخرى فإننا نعلم أن الكفارات تكفر الذنوب، وهي أنواع كثيرة، منها الصيام، ومنها إطعام الفقراء والمساكين، فاجتمعت الأسباب كلها ليعمد المسلمون إلى أن يخصوا هذا الشهر مع ارتباطهم بالقرآن، ومع كثرة الصلاة، ومع وجود الصيام بالإنفاق، فتجود به النفوس، وتسخو به، فلا يغالبها شح، بل تنتصر بإذن الله عز وجل فيها إرادة الخير وابتغاء الأجر: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. وتستحضر النفوس قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261]، كم هو الأجر عظيم! وكم هو الثواب جزيل! وكم هي أعطيات الله عز وجل التي لا يحدها حد ولا يحيط بها وصف! فعطاؤه سبحانه وتعالى غير مجذوذ.

معالم قرآنية في الحث على الإنفاق

معالم قرآنية في الحث على الإنفاق صور كثيرة تجعلنا نتذكر ونهتم ونعتني بهذه الشعيرة في الإنفاق والبذل والعطاء الذي نبتغي به أجر الله سبحانه وتعالى، ونجد لذلك بعضا ًمن المعالم والمعاني القرآنية المهمة التي يحسن الذكر لها، ولعلنا نستحضر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة)، فهذه معادلة صادقة، وهي أصدق من المعادلات الرياضية، وهي أوضح وأصدق من قضية واحد يزاد عليه فيصبحان اثنين؛ لأن هذا خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. صحيح أنه قد يكون عندي الألف، فإذا أخرجت مائة أصبح تسعمائة، لكنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر: (فيقبلها ربه بيمينه فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون عند الله مثل جبل أحد). صدقة يسيرة تضاعف حتى تصبح مثل جبل أحد، وجبل أحد محيطه إذا سرت حوله بالسيارة يبلغ ستة كيلو مترات، وانظر إلى حجمه وضخامته، ولا تظن أن هذه مجرد أمثال، بل هي خبر حقيقي صادق ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا نعتقد يقيناً أنه لن ينقص هذا المال من الصدقة من حيث الأجر الأخروي، ومن حيث البركة الدنيوية؟ ومن حيث البركة فهي في وجهين: قليل يبارك فيه فينفع ويفيض، ونرى ذلك كثيراً، ترى من عنده راتب قليل وعيال كثير وهو مبتسم منشرح الصدر، ويأتي آخر شهره وقد قضى حوائجه بحمد الله، وآخر راتبه أضعافه وأبناؤه أقل منه، ومع ذلك يشكو من الويل والثبور وعظائم الأمور، ومن ضيق ذات اليد، وليس الأمر في الكثرة ولكنه في البركة، والبركة لا تحل إلا بطاعة الله والاستجابة لأمره والإنفاق في سبيله والتفقد لعباده. وينبغي أن نوقن بذلك، وأن نراه جزماً في واقع حياتنا، ومن البركة كذلك أنك تنفق ويزيد الله سبحانه وتعالى لك ويخلف عليك؛ لأنه وعد، ووعده صادق سبحانه وتعالى. ومما ينبغي أن يحرص عليه المتصدق أمر الخفاء والسر والتجرد بالإخلاص في النفقة، كما قال جلا وعلا: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]. وفي الحديث المشهور عنه صلى الله عليه وسلم في شأن السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، ولعمري ما من بلاغة أحسن من هذا التعبير النبوي، حتى إن اليدين وهما في جسد واحد لا تعلم اليسرى ما أنفقت اليمنى، فغير ذلك من الخفاء أولى، وذلك هو معروف بصدقة السر التي لها عظيم الأجر وعظيم الأثر في الوقت نفسه. وأعظم من هذا وذاك: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، أي: تسل سخائم النفوس، وتسل ضغائن القلوب، وتطهر النفس من الشح والبخل، وتطهر نفوس الفقراء من الحسد. صور كثيرة أصبحنا نراها في مجتمعاتنا يوم ضعفت صلتنا بكتاب ربنا وبسنة نبينا وبديننا وإسلامنا. ألسنا نرى هذا وهو يحسد ذاك، وهو يتمنى لو أنه أخذ ما عنده؟ وترى الآخر وهو يشح ويبخل ويرى غيره غير مستحق لنعمة الله عز وجل. كم هي هذه الصور التي لا يغيرها إلا منهج الله وإلا عبادة الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد قال في وصف الإنسان: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، وكثيرة هي الأمور المتصلة بهذا الشأن، ولعلنا ننتبه لها، وسنعرف كذلك من بعد ما يضادها. نسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا فيه للصيام والقيام والذكر والتقوى، وأن يبعدنا ويجنبنا عن كل ما فيه غفلة ومعصية، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

العلاقة بين الصوم والإنفاق

العلاقة بين الصوم والإنفاق أيها الأخ الحبيب! ونحن نستقبل موسم التقوى نؤكد على هذه الصلة الوطيدة بين الصيام والإنفاق والجود، ولقد كان المثل الأعلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يكشف لنا عن حقيقة هذا التلازم وهذا الترابط الوثيق بين رمضان والصيام وبين الإنفاق والصدقة، ففيما روى ابن عباس رضي الله عنهما، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس)، فهل هناك تعبير أبلغ من هذا؟ هو أجود الناس، أي: بلغ الرتبة العليا في الكرم والجود والسخاء. ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم (كان أجود الناس) هذه المرتبة العليا، فهل بعد ذلك من شيء؟ لا. قال: (وكان أجود ما يكون في رمضان) أي: يزداد جوداً إلى جود، وكرماً إلى كرم، وعطاءً إلى عطاء، وسخاءً إلى سخاء. (فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) تعبير بليغ. (الريح المرسلة) أي: المطلقة. فهل تتقسط؟ وهل تأتي شيئاً فشيئاً؟ إنها تأتي مندفعة قوية هادرة، وكذلك كان هذا الوصف لجود المصطفى صلى الله عليه وسلم، وللأسف الشديد كذلك نذكر المال الذي ينفق على عكس مراد الله، وعلى عكس هذه الصورة المشرقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الإنفاق للصد عن الدين ولإغراق المسلمين في الغفلة والهوى والشهوة، كما أسلفت في ذلك، وينبغي أن ننتبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وأخبرنا الحق جلا وعلا فقال: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]، والكسب الخبيث الذي نرى صوره -كما قلت- معلنة محرم مقطوع بحرمته ليس فيه خلاف، وليس هناك تشدد بالقول بحرمته؛ لأن الآيات بذلك نطقت، والأحاديث بذلك شهدت، ومع ذلك نرى صوره كل عام تتكرر وتزداد، ولعلنا نستحضر أمراً وإن كان الفارق موجوداً، لكننا نقوله حتى نتعظ ونعتبر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، هذه صورة لأهل الكفر. وللأسف أن بعض أهل الإسلام يوافقونهم في ذات العمل: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تكون العاقبة مشابهة {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، نسأل الله عز وجل السلامة. وقال تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:116]، هذه صور خطيرة نحذر منها كل من يشارك فيها، وكل من يسعى لها، حتى المتصل إذا اتصل بهذه القنوات الفاسدة التي تستخدم الطرائق المحرمة والتي فيها ما فيها، فهو يسهم كذلك بمال في جانب وعمل وميدان محرم فيكون مشاركاً في الإثم، نسأل الله عز وجل السلامة: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]، وقد اشتكى وشكا موسى عليه السلام من ذلك الحال الذي كان عليه فرعون قوة ومالاً، ثم دعا دعاءه الشهير: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس:88]، وهذه الدعوات التي نسأل الله عز وجل أن تنصرف عن كل من يتذكر ويتعظ ينبغي أن يحذر منها الغافلون والسالكون في هذه المسالك الخطيرة ذات العواقب الوخيمة، نسأل الله عز وجل السلامة. والحق جل وعلا يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، فلن يزداد الخير ولن يضاعف أجر، ولن تكون بركة إلا فيما هو في مرضاة الله، وأما كل ما هو زيادة فيما هو من الحرام فإنها زيادة سحت له عاقبة في الدنيا قبل الآخرة، وأظن الشواهد عند كل أحد كثيرة، ويكفينا في ذلك الوعيد الشديد الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المروي من طرق شتى: (كل جسم)، وفي رواية: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به). نسأل الله عز وجل السلامة. وتأمل كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن مسعود في البخاري قال: (لما نزل فضل الصدقة كنا نحامل) أي: ليس عندنا مال. ومن ليس عنده مال فليس عليه زكاة، ولا تطلب منه الصدقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة ما كان عن ظهر غنى)، يعني: بعد أن تستغني تصدق بما يزيد. لكن الصحابة المحبين للخير الراغبين في الأجر يقولون: (كنا نحامل) أي: يعمل أحدهم حاملاً، فيحمل حتى يأخذ أجراً. لماذا يأخذ هذا الأجر؟ هل ليوسع على أهله وليدخر قرشه الأبيض ليومه الأسود؟ كلا. إنما يريد أن يحصل على شيء من المال لكي ينفق فيكتب من المتصدقين ويكون من المنفقين، فإذا كان هذا فما حال الذين عندهم فائض ثم لا ينفقون ولا يكتبون في هذا الباب؟ وحديث أبي سعيد الخدري يدل على ذلك: (من كان له فضل ماء فليعد به على من لا ماء له، من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، من كان له فضل طعام فليعد به على من لا طعام له، قال: حتى ظننا أن لا حق لأحد منا فيما فضل من ماله). فهذه فرصة عظيمة، وينبغي أن لا نجعل إنفاقنا في شيء مما حرم الله، وأن نسارع إلى تلك الميادين، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته ومرضاته. اللهم! أنطق ألسنتنا بذكرك، وأملأ قلوبنا بحبك، واجعل أقدامنا ساعية لطاعتك، وأيدينا منفقة في سبيلك، وجباهنا ساجدة لعظمتك، وألسنتنا مسبحة بحمدك. اللهم! سخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا لنصرة دينك، واجعلنا -اللهم- ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين. اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، واغفر لنا -اللهم- ما مضى وما هو آت. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. تول -اللهم- أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا. اللهم! أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات، وامح عنا السيئات، وارفع لنا الدرجات، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب الأرض والسماوات. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين. اللهم! اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، توفنا على الإسلام، وابعثنا على الإيمان، واجعلنا -اللهم- هادين مهديين، راضين مرضيين، واجعلنا -اللهم- من عبادك الصالحين، واكتبنا في أهل الجنة يا رب العالمين. اللهم! بلغنا شهر رمضان، ووفقنا فيه للطاعات والصالحات، واصرف عنا فيه الشرور والسيئات يا رب العالمين. اللهم! اجعل بلدنا آمنا رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. ووفق -اللهم- ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء. مكن -اللهم- في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه إلى كل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين؛ فإنهم لا يعجزونك، أحصهم -اللهم- عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين. اللهم! لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، يا قوي يا عزيز. يا منتقم يا جبار. أنزل -اللهم- بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واشف -اللهم- فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! فرج اللهم همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة في الإيمان واليقين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ -اللهم- عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ووسع رزقها ورغد عيشها يا أرحم الراحمين. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم صلِ وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.

المجلات غثاء وبلاء

المجلات غثاء وبلاء تُعد الجرائد والمجلات من أعظم وسائل الإعلام التي تؤثر على أفكار الناس ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولهذا حرص أعداء الإسلام وأعوانهم على بث سمومهم بين أوساط المسلمين من خلال هذه الوسائل، وللأسف الشديد فكثير من أبناء المسلمين يتلقفونها ويتأثرون بها! فيجب على كل مسلم مقاطعة الجرائد والمجلات الهابطة والمنحرفة، والوقوف أمامها، والتحذير منها.

ظاهرة انتشار المجلات والجرائد

ظاهرة انتشار المجلات والجرائد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد: فالمجلات غثاء وبلاء وبادئ ذي بدء أشير إلى أن العموم الذي في العنوان قطعاً ليس مقصوداً، فالمراد بالمجلات ليس كلها وإنما كثير منها، وكذلك هذا الكثير الذي وصف بأنه غثاء وبلاء ليس كل ما فيه كذلك، بل الغالب عليه والمعظم فيه إذ قد يوجد بين هذا الركام والغثاء بعض الآيات أو بعض الأحاديث أو بعض الموضوعات، لكن الغالب هو المقصود في هذا العنوان. وهذا الموضوع أيضاً من وجهة أخرى تكمن أهميته في أن هذه الظاهرة - أي ظاهرة المجلات- أصبح لها بروز كبير وأثر خطير إذ إنها من حيث الإعداد، ومن حيث ما تزخر به من الفتنة والمخالفات الشرعية أصبحت ذات أثر غير محمود يحتاج إلى التنبيه والكشف والبيان، ومن بعد ذلك إلى التحذير والمناوءة والمخالفة لهذه الصورة التي نحب ألا تكون في بيئتنا ولا في مجتمعنا. إن المتأمل ليجد من خلال هذه الوقفات أننا بالفعل أمام مشكلة تستحق أن تعرض، وأن يفصل القول فيها، وأن تكون الحقائق واضحة من حيث الأحكام الشرعية والمفاسد الاجتماعية، ومن حيث الوقائع والتفاعلات المترتبة على مثل هذه الظاهرة. فعلى سبيل المثال: أول وقفة لنا هي مع بعض الإحصاءات الرقمية التي تبين لنا أن المسألة جديرة بالاهتمام وفيها من الخطورة ما فيها، فإننا نجد أولاً من خلال هذه الإحصاءات أن كماً كبيراً من هذه المجلات يغزو المكتبات والمحطات والبقالات، وانتشارها كبير وبأعداد كبيرة. وأذكر على سبيل المثال: أن إحدى شركات التوزيع فقط مكلفة بتوزيع تسعة وخمسين ومائة جريدة ومجلة، وهذه شركة واحدة من بين ما لا يقل عن عشر شركات تقريباً، والإحصاء يصل إلى نحو أربعمائة، ومن هذه الأعداد والمجلات ما هو يومي ومنها ما هو نصف أسبوعي، ومنها ما هو أسبوعي، ونصف شهري، وشهري. وهذه الكثرة كلها سيتضح أيضاً أنها بحد ذاتها تلفت النظر، وهذا طبعاً جزء محدود وإلا فإن هناك أعداداً إضافية لمثل هذه المجلات مما لا يصدر أو لا يدخل إلى بلادنا وهو متوفر وموجود في ديار أخرى من ديار العالم الإسلامي. وعلى سبيل الإحصاء -حتى تتضح الصورة من خلال هذا الرقم البسيط- نجد أن كثيراً من هذه المجلات متخصصة في موضوعات أقل ما يقال فيها: الأصل أنه ينبغي أن تكون في الدرجة الدنيا من الأهمية من حيث إنها ليست قضايا ينبغي أن تشغل الأمة، ولا تتعلق بانتصارها على أعدائها ونهوضها في علمها وتقدمها التكنولوجي والحضاري، أو قضايا تتعلق بدفاعها عن نفسها وحمايتها وثقافتها وتاريخها، وأغلب هذه المجلات لا تمس الجوانب الحيوية التي تتعلق بحياة الأمة. ومن هذه الأرقام التسعة والخمسين ومائة نجد أن هناك ست عشرة مطبوعة خاصة بالرياضة، ومهما كان للرياضة -على أية تصور- من أهمية أو فائدة؛ إلا أن هذا العدد من المائة وتسعة وخمسين كثير جداً، وأعتقد أن المسألة فيها مبالغة حتى من ناحية التكرار، فاللاعبون متحدون والمباريات واحدة والمناسبات واحدة، وكل الصحف تكتب عن هذا. والمتأمل يجد أن القضية تأخذ جهداً وتأخذ مساحات وأوقاتاً وأموالاً، فتجد أن المباراة الواحدة تكتب عنها عشرات الصحف والمجلات، وكل هذا في مباراة واحدة، والنتيجة واحدة، والأشخاص نفسهم، والحوادث هي هي. وهذا يدل على أن هذا التكرار والزخم الذي تحظى به هذه القضية فيه نوع من التركيز على القضايا الهامشية وإعطائها الأولوية الأولى. طبعاً: لو استعرضا الأسماء لهذه المجلات، نجد أن بعضها يدل على مزيد من الغثائية والسخافة، إذ إن هناك مجلات متخصصة في المصارعة الحرة. وما يمكن أن يتخيل الإنسان في هذه المجلات؟ تصور المصارعين، وبدلاً أن يراهم جمهوراً متحركاً يراهم في صورة ثابتة، ويرى النتائج والمشادات التي حصلت، وكل المجلة من أولها إلى آخرها، ولا يستطيع الإنسان أن يخرج منها بفائدة مطلقاً، لا فائدة عقلية ولا فائدة علمية، ولا فائدة إيمانية ولا تطبيقية، ولا أية صورة من صور الفائدة. فضلاً عن أن هناك مجلات متخصصة بكمال الأجسام، وهذه قطعاً فيها من المفاسد الشيء الكثير ككشف العورات، إلا أن فيها معنى لتجسيد القوة البشرية والعظمة، وكلها من أولها إلى آخرها نوع من الصور والتعليقات السخيفة عن تشكيل العضلات وإبراز القوى، والمنافسات والانتصارات التي تتم من خلال هذه الألعاب والمشاركات الرياضية. وفي المقابل أيضاً: من خلال هذا العدد (تسعة وخمسين ومائة) نجد أن هناك ثلاث عشرة مجلة متخصصة في الفن، ومن أولها إلى آخرها وهي تتحدث عن الفن والفنانين والفنانات والمسرح وغير ذلك من أمور. أما بقية ذلك مما سيأتي ذكره فالفن والرياضة لها في كل مجلة سياسية أو اجتماعية أو حتى علمية نصيب في كل الأعداد. أيضاً: هناك مجلات متخصصة في المرأة، ونجد أن من هذا العدد ثماني مجلات متخصصة في المرأة فقط، ولا نقصد أنها متخصصة في المرأة أي أنها تعالج مشكلاتها، بل كلها تتحدث عن قضية المكياج والأزياء والمظاهر الاجتماعية التي أساسها مخالف للشرع، وكذا ما يتعلق به من العطور وما يتعلق به من التقاليد وما يسمونه الإتكيت والمظاهر الحضارية التي ينبغي أن تكون، وتسريحات الشعر وما إلى ذلك. وأيضاً تجد هناك من السخافة والغثائية: أن هناك مجلات متخصصة في الرسوم المتحركة، وهذه سواء قد يظن البعض أنها خاصة بالأطفال والأمر خلاف ذلك، بل روادها وقراؤها من الصغار والكبار، والذي يشهد بذلك صفحات البريد، فتجد فيها أن من المراسلين من أعمارهم في السادسة عشرة والسابعة عشرة، ويسمونهم صغاراً، وقد كانوا في عصر مضى قواداً وفاتحين، وكانوا خلفاء، وكان منهم علماء، وكان منهم مفتون، والآن هم صغار في هذه الهوة السحيقة من السخافة وتلف الفكر وتسطيح العقل. وأيضاً نجد من هذه الصور المتحركة مجلات للكبار، فبدلاً من القصة المكتوبة التي يتعب فيها يجد قصة فيها الرسوم المتحركة، لكنها بصور حقيقية، وهذه المجلات أيضاً موجودة.

سخافة الفكر في المجلات الهابطة

سخافة الفكر في المجلات الهابطة ومن هذا الغثاء في سخافة الفكر هناك بعض المجلات متخصصة في الألعاب، يعني: تكون مجلة من أولها إلى آخرها كلها في الكلمات المتقاطعة وأسماء الفنانين والفنانات وبعض الأسئلة السخيفة وبعض القضايا التي يعجب منها الإنسان، وكلها تصب في بوتقة واحدة، وهي تهميش العقل والفكر عند الإنسان المسلم؛ بحيث يبقى دائراً في هذه السخافات وهذه التفاهات ولا تشغله عظائم الأمور، ولا يدرك أن له في الحياة مهمة ورسالة. وحتى لا يُقال: إن الدعاة أو أن الملتزمين فقط يريدون كل القضايا تدور حول الدين؟ نقول: دعوا حتى هذه القضية، فما هو حجم المجلات العلمية مقارنة بهذه؟ ولا نقول: الإسلامية أو الدينية، بل المجلات العلمية؟ وما هو حجم الكتب الدراسية التي تخدم المناهج التعليمية؟ وما هو حجم المطبوعات التي فيها ما يقوي كثيراً من الجوانب النافعة، حتى لو قلنا: بعيداً عن الصورة الإسلامية البحتة؟ فهؤلاء الذين يدورون في فلك هذه المجلات لا يضعفون فقط في الجانب الإسلامي والإلتزام بل هم ضعفاء في جانب الشخصية، وفي جانب البنية البدنية نفسها، وفي الناحية التعليمية، وفي الناحية الانضباطية والسلوكية؛ حيث تجد أن كل هؤلاء الذين يتأثرون بمثل هذه يصبحون لا قيمة لهم، وأحدهم لا يحسن التفكير، ولا يحسن التدبير ولا اتخاذ الرأي ولا القيام بمهمة، بل هو شيء أشبه بالكم الزائد على هذه الحياة، كما عبر الرافعي بقوله: إن نلتزم شيئاً على هذه الحياة كنت أنت معنىً زائداً عليه. يعني لا قيمة لك. وأذكر بعض هذه المسميات لهذه المجلات: هناك مجلة اسمها (كل الألعاب)، هذه من أولها إلى آخرها في هذا، وأخرى اسمها (عالم التسلية)، وكيف توصل النقاط ببعضها؟! وكيف كذا؟! وقد يقول قائل: إن هذه لها دائرة معينة من الاهتمام، أو إن بعض الناس يهتمون بها. و A أن الدائرة المهتمة بمثل هذه للأسف كبيرة على مستوى المجتمع، وهذا يظهر في كثير من الوقائع والأشياء المنشورة فيها، والتي أيضاً يرد ذكر بعضها، حتى إنك تجد كثيراً من الكبار بل ممن يُسمون أصحاب وظائف وأصحاب عقول تجد أنه في وقت الفراغ يتفرغ لساعة أو لساعتين ليقضي فراغه في الكلمات المتقاطعة أو في الشبكة المتخالفة أو اكتشاف الصورة أو اكتشاف الأشياء التي ترد في مثل هذه المجلات!

إحصائيات عن مضمون بعض المجلات الهابطة

إحصائيات عن مضمون بعض المجلات الهابطة فهذه الصورة عن هذه المجلات إنما هي إحصائية أولية من حيث الكثرة، ومن حيث تكرار المضمون، ومن حيث فساد أو هامشية هذا المضمون، ومن خلال استقراء إحصائي لبعض هذه المجلات. وكل هذا العدد، وهذا التكرار في التخصصات ليس له أهمية في حياة المجتمع وفي تقدم الأمة. وسنعرض بعض هذه الإحصاءات السريعة عن بعض هذه المجلات، ونذكر بعض ما هو صارخ في حقائق الأرقام: مثلاً: مجلة ما يسمونها (سيدتهم) في بعض أعدادها تبلغ مائة وستين صفحة، والذي يقرؤها أو الذي يطالعها كأنه قرأ كتاباً، لكن بماذا يخرج من هذا العدد الذي فيه مائة وستين صفحة؟! وهناك معدل الصور المتوسط للصفحة الواحدة خمس إلى ست صور في كل صفحة، وأيضاً هناك ستون صفحة إعلانات، وهذه الإعلانات أغلبها صور للنساء محرمة، لأن فيها فتنة وكشف للعورات وغير ذلك. وأيضاً تجد فيها اثنتى عشرة صفحة خاصة بالأزياء، وفيها معدل خمس إلى ست صور في كل صفحة. وأيضاً فيها الألعاب والتسالي المتقاطعة بمقدار صفحتين، وبالجملة تجد أن عدد الصفحات الموجودة التي فيها كتابة تقل عن عدد صفحات المجلة التي ليس فيها كتابة! ثم انظر إلى هذه الكتابة؛ ستجد أيضاً أن هذه الكتابة فيها من السخافة الشيء العجيب! وكأننا نتدرج من عدد هذه المجلات، ثم من تخصصها في مجالات ليست مهمة، ثم في مضمونها الفارغ، ثم في فراغ المضمون الذي يعتبر مضموناً مكتوباً. وهذا يتضح في المجلات الأخرى، نذكر أيضاً منها: مجلة (زهرة الخليج)، فيها مائة وعشر صفحات، منها أربعة وأربعون صفحة إعلانات، ومعدل الصور في الصفحة الواحدة من ثلاث إلى أربع صور، وفيها صفحتان أيضاً للرشاقة والأزياء، وصفحة للتسالي، وصفحتان هنا وهناك متعلقة فقط بالصور، وصفحتان صور لأخبار الذين تزوجوا، والذين احتفلوا، والذين عملوا دعوة عشاء، والذين كان عندهم عيد ميلاد، وكل من هب ودب! وتجد هذه الإحصائية متقاربة في بعض المجلات الأخرى، فمجلة فيها ثمان وتسعون صفحة تجد أيضاً فيها نسبة عالية من صفحات الإعلان، وفيها معدل ثنتان إلى ثلاث صور في الصفحة، وأربع صفحات من صفحات الأزياء، وكذلك فيها عدة صفحات منوعات، وخمس صفحات في كل عدد تحت عنوان (أخبار ناعمة) وفيها صور لملكات الجمال وصور نساء إلى آخره! وكذلك الإحصائية تشمل عدداً لا بأس به من المجلات الأخرى مثل: نورا، وألوان، والصياد، والشراع، وصباح الخير، وفرح، وأسماء ربما لم يسمع بها كثيرون من قبل، ولعلهم من الأفضل لهم أنهم لم يسمعوا بها؛ لأنها إن لم تكن ضارة فقطعاً لن تكون نافعة؛ لأن هذه أحياناً تُسمى عند بعض الناس من الثقافة، وحقيقتها أنها من السخافة.

تهميش العقول والأفكار هدف رئيسي للمجلات الهابطة

تهميش العقول والأفكار هدف رئيسي للمجلات الهابطة وهذا هو المعنى الأول الذي نحب الوقوف عنده، وهو: أن الصورة الأساسية في هذه القضية هي تهميش العقل وتسطيح الفكر؛ ولذلك أيضاً مضمون يساعد على هذا سيأتي تفصيله. وهذه المجلات الذين يدمنون عليها تهدف في مجملها إلى أن يكون القارئ لها المتعلق بها تشغله توافه الأمور، بل حتى فوق أنها تشغله بتوافه الأمور هي أيضاً تشكل لديه عقلية حالمة ليست عقلية عملية؛ لأنها كلها في مسائل الحب، وفي الاهتمام بشراء الكماليات، وكيف يختار الأشياء التي يشتريها، وكيف كذا! وبعض الأمور التي تؤيد هذا المعنى موجودة في مضمون هذه المجلات، وبهذا تصبح القضايا الهامشية هي الأساس. ولذلك أيضاً في هذا المعنى أؤكد من خلال المضامين وأضرب أمثلة ربما أعتبرها أمثلة صارخة وقوية: في بعض الأعداد من مجلة (كل الناس) في العدد السنوي لها يأتي بدراسة خاصة بها يبلغ العدد مائتين وعشر صفحات، كلها من الأوراق الفاخرة الناعمة الصغيرة، وقيمتها خمسة عشر ريالاً، وقيمة المصحف هذا الذي يباع الآن خمسة عشر، وهذه المجلة قيمتها خمسة عشر ريال، ومع ذلك يشتريها بعض الناس كل شهر! وأضرب أمثلة للقضايا التي تطرح في هذا العدد؛ حيث شملت أكثر من حوالي أربعين صفحة لمضمون واحد وهو: مسألة شراء الأزياء والعطور ونحو ذلك، ومسألة الشراء جعلت في عدة تحقيقات في نفس هذا العدد في سبع صفحات تحت عنوان (الشراء من أول نظرة) كما يقولون: (الحب من أول نظرة) كذلك: الشراء من أول نظرة، فهل تشتري من أول نظرة أم أن المطلوب أن تعرف آراء الناس، ويحصل تحقيق صحفي، ويكون هناك مندوب في لندن يجري مقابلة، ومندوب في جدة يُجري مقابلات أخرى، ويذهبون إلى محلات الأزياء وما إلى ذلك؟!! ثم صفحتان (لماذا نشتري؟) يعني: ما هو دافع الشراء: هل هو حب الاقتناء؟ هل هو المنافسة للآخرين؟ هل هو الاحتياج؟ وبهذا تبلغ الصفحات تسعاً. ثم أربع صفحات في: الإعلان هل يؤثر على الشراء وعلى المشتري أم لا؟ وصارت الصفحات ثلاث عشرة صفحة. ثم تحت عنوان (كيف يفكر أكثر الناس في الشراء؟) أي: الذين هم في سن الشباب كيف يفكرون في الشراء؟ وهذا العنوان في ثلاث صفحات، فصارت ست عشرة صفحة. وبعد ذلك تحت عنوان (أنا اشتريت) ثلاث صفحات، فأصبحت تسع عشرة صفحة. ثم عنوان: (الإنسان والماركات)، وهل يشتري الماركة أو يشتري البضاعة؟ وهل يبحث عن الاسم؟ وما تأثير ذلك أيضاً؟ وهذا في ست صفحات، فصارت الصفحات خمساً وعشرين صفحة. وبعد ذلك تحت عنوان: الفصال في المحلات، وكيف يفاصل الإنسان؟ وهل يفاصل النساء أكثر مفاصلة عن الرجال؟ وكيف رأي أصحاب المحلات في المفاصلة؟ وكيف يصنعون؟ وأيضاً هذه في ثلاث صفحات مع خمس وعشرين صارت ثماني وعشرين صفحة. ثم: مستهلكون سوبر، يعني: الذين عندهم قوة شرائية من الأثرياء، وكيف يشترون؟ وكيف يدفعون هذه الأموال؟ وهذا في صفحتين، فصارت ثلاثين صفحة عن قضية الشراء! وأنا أتصور أن الإنسان يمكن أن يولد وأن يموت وهو لا يحتاج إلى هذا الموضوع قطعاً؛ فيشتري ما يحتاج، والقضية تنتهي، لكن انظر كيف تكون هذه القضية محوراً تحتوي ثلاثين صفحة كاملة في هذا الموضوع. وهكذا فيها من الصفحات الإعلانية ما يصل إلى هذا العدد، وبهذا يصل العدد إلى نحو ستين صفحة، بما فيه من الإعلانات، وما يلحق بذلك. فما هي هذه القضية الخطيرة في حياة الناس والتي يتوقف عليها مصيرهم والتي قد تكون بالنسبة لهم قاصمة الظهر أو التي هي نقطة تحول في الحياة؟ A هي لا شيء، لكنه نوع من إغراق الناس بالتوافه وشغلهم بالسخافات؛ حتى لا يبقى عند الناس قضايا مهمة يفكرون فيها، ولو تأمل الإنسان -لا نريد أيضاً أن نقول: القضايا الإسلامية -بل حتى القضايا التي يعيشها الناس، ألا يعيش الناس في كثير من البلاد العربية والإسلامية وهم ممحونون في المسائل الاقتصادية وممحونون في مسائل الحرية ومسائل الوظائف ومسائل البطالة؟! كل هذه القضايا تنتهي وتتلاشى لتبقى قضية الشراء ومن يشتري! فهل عند هؤلاء الناس أموال حتى يشتروا أو لا؟! وهل عندهم وقت وقد طحنتهم الحياة وسحقوا في كثير من الأوضاع وكثير من البلاد حتى يفكروا بالماركات وأنواع الماركات وكذا؟! لكن هي القضية التي يُراد لها أن تصرف أنظار الناس عن المشكلات الحقيقية في حياتهم. وأضرب أمثلة سريعة: في بعض هذه المجلات مقال في صفحتين: كيف تصعد المرأة الدرج؟! وكيف تضع طرف الأصابع أو آخر الأصابع؟! وكيف إذا كانت حافية؟! وكيف إذا كانت تلبس حذاءً؟! وإذا كان نوع الحذاء كذا فكيف يكون الصعود مع الخطوات بالترقيم: واحد اثنين ثلاثة إلى آخره؟!! وهذه مجلة أخرى تكتب عن مشكلة مع صورة وتعليق أيضاً: مشكلة ربط الحذاء بالنسبة للأطفال! وكيف تواجه الأم مشكلة ربط الحذاء بالنسبة للطفل؟! وكيف أن بعض الأمهات تتخلى عن ذلك وتشتري حذاءً من غير رباط؟! ومتى يمكن أن يدرك الطفل أو يعرف كيف يربط الحذاء؟ المهم إيجاد شيء وهمي لشغل الناس بهذه السخافات. وهكذا الكلمات المكتوبة في سؤال من الأسئلة، وكثير من المجلات تجعل صفحتين أو أكثر في السؤال والجواب السريع هذا، مجلات اسمها ويسأل فيها: (فرفوش) وآخر (خربوش) وثالث (العجوز الضاحك)، ومن الأسئلة أنه يقول له: كيف تقضي وقتك؟ فيقول: ربع الوقت أتسكع في الشوارع. وهناك أيضاً نوع من صرف الناس، فهذه مجلة تنشر عن أبي الهول وعن مشكلة أبي الهول، وما حصل له من التصدع، وتاريخ أبي الهول، وأنه شاهد على الحضارات، وكذا، وبلد مثل مصر كثير من الناس لا يجدون قوت يومهم، ولكن القضية هي أنه يُراد أن يشغل الناس عما هو مهم، فدمروا أبا الهول، ويرتاح الناس، وما أحد خسر شيئاً. وهكذا القضايا الهامشية التي تثار عن شخصيات كافرة وفارغة، مثلاً: طلاق الأميرة سارة أو كذا، وصفحات عن تاريخ: متى تمت الخطبة؟ ومتى تم العقد؟ ومتى تم الزواج؟ ومتى أول ولد؟ ومتى سافر؟ ومتى جاء؟ وتحقيق كامل عن هذه القضية وآثارها وأصدائها، وما الذي ينفع الناس من مثل هذا الأمر؟ ولكن تجد بعض الناس -للأسف- يدخلون في مثل هذه القضايا. وهكذا قضايا أخرى مثل قضية ما يسمونه فستان الزواج، وهل تشتريه المرأة؟ وإذا كانت غير قادرة على الشراء فهل تستأجر؟! والآراء في ذلك؛ فالتي ترى أنها لا تستأجر، والتي ترى أن الاستئجار يضيع تخليد هذه الذكرى، وما إلى ذلك من هذه الأمور! وهكذا القضايا والأرقام التي يقولونها: فلان ضرب الرقم القياسي في السباحة، وأطول سندويش، وأكثر لا أعرف ماذا؟! وهذه القضايا كلها تدلنا على هذه النقطة الأولى، ولعلي قد أطلت فيها، لكنها هي جوهر الموضوع، وهي أن هذه المضامين بما فيها من المكتوبات ومن المصورات والموضوعات التي تخصصت فيها إنما غرضها أن تغتال العقل، وأن تميت القلب في حقيقة الأمر؛ وحتى لا يتأمل الإنسان سيرة السابقين وسيرة السلف الصالح، وحتى سير الناس الغربيين وهؤلاء الذين كانوا بالفعل خدموا وقدموا الاختراعات والذين قادوا المعارك والذين أسسوا دول رغم أنهم كانوا كافرين، لكن لماذا لا يذكر على أقل تقدير الجوانب الإيجابية في سيرهم؟ فلماذا فقط الجوانب السخيفة والتافهة هي التي يُراد أن تنقل بين الناس وتشاع بينهم؟! أعتقد أنها قضية واضحة.

هدف الأبواب المخصصة للمراسلات في كثير من المجلات

هدف الأبواب المخصصة للمراسلات في كثير من المجلات ومما نختم به هذه القضية: الأبواب المخصصة في كثير من المجلات للمراسلات والتعارف والهوايات. تجد أنه من خلالها تتضح قضيتان: الأولى: أن لهذه المجلات جمهوراً عريضاً؛ ولذلك في كل عدد تجد خمسين أو ستين أو سبعين من هؤلاء الذين يرسلون أسماءهم وعناوينهم وصورهم. إذاً: هم يشترون هذه المجلة، ويطالعون ما فيها، إضافة إلى صفحات البريد، وترى منهم من يقول: أنا معجب بهذه المجلة، وأنا كذا. ويدور على أثر هذا التسطيح أغلب هذه الأشياء؛ إذ أغلب ما في هذه الأبواب هوايات! وكل هذه الأبواب فيها نسبة (99. 9%) من يعرضون أسماءهم وصورهم، وهم في سن الشباب؛ إذ تتراوح أعمارهم ما بين (18) أو (35) سنة، وهذا هو السن الذي فيه فورة الشباب والقدرة على العطاء، ويا ترى ما هي هذه الهوايات؟ هذه الهوايات هي: المراسلة بين الجنسين، وتبادل الطوابع، وتبادل الصور، وتبادل الآراء، و (99. 9%) هي في المراسلة، فإذا كانت هذه هوايات الشباب التي يبدعون فيها ويتخصصون فيها، فكيف يرجى أن يكون هناك قوة يعتمد عليها في شباب الأمة؟! فالذين هم الآن في دراسة ضيعوا دراستهم، وإذا كانوا في أعمال كانوا على غير الصورة التي ينبغي أن تكون، وهذا كله يدلنا على الجانب الأول الذي ذكرناه في مثل هذه المجلات.

ترويج المجلات الهابطة للقدوات السيئة

ترويج المجلات الهابطة للقدوات السيئة الجانب الثاني -وهو أيضاً جانب خطير-: جانب القدوات. لاشك أن الإنسان بفطرته ومدنيته يميل إلى الآخرين، كما يقول ابن خلدون: الإنسان مدني الطبع. يعني: يعيش في مجتمعات مدنية، وغالباً ما يحتاج الناس إلى صور وإلى قدوات ينظرون إليهم، ويكونون موضع الاحترام أو موضع التقدير، وهم موضع التلقي، وهذا شيء فطري في المجتمعات: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا وهذا البيت جمع بين صورتين: (لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم)، و (ولا سراة إذا جهالهم سادوا)، وهذه هي الصورة الثانية التي تحققها كثير من هذه المجلات. فمن هي القدوات في مثل هذه المجلات؟ إنهم بلا استثناء الفنانون والفنانات، والرياضيون والرياضيات، وأقصد بالفن: أي شيء يُسمى فناً، كالذي يشخص بالأقلام، ويلعب بالألوان، ويعتبر فناناً وعنده تشكيل، وتُجرى معه مقالات إلى آخره! فالذي يضرب نحتاً في صخر ويعطينا شكلاً ليس له أول ولا آخر يُعد فناناً، ويحتاج إلى مقابلة وإلى إبراز المعاناة والجهد الذي بذله، والخدمة التي قدمها، والتاريخ الذي سطره، والجهود التي دخل بها التاريخ إلى آخر ذلك! وتجد أن هذه المجلات تكرس هذا الجانب أحياناً تكريساً عجيباً، مع أنه ليس قضية اجتماعية، ولا قضية في حياة الناس، بل يعتبر قضية تدميرية. وأيضاً فيها كثير من التجاوزات الشرعية والمخالفات العقدية، وهذا أمر واضح، فمثلاً: تجد مجلة مثل (حريتي) تنشر صفحات عن عبد الوهاب الفنان الراحل في ذكرى الأربعين، يعني: بعد موته بأربعين سنة، وفي كل سنة تأتي ذكراه لابد أن تفرد الصفحات الطويلة عما كان يأكل؛ ومن الحلاق الذي كان يحلق له؟ ومقابلة معه، وكيف كان يحب أن يسافر؟ هل في الطائرة أم في البر؟ وكيف سافر مرة بالطائرة ثم زال الخوف منه؟ وما هي آراؤه في الحياة؟ إلى آخره. ثم تجد أيضاً صوراً بشعة وللأسف أنها تُكتب كما هي، على اعتبار أن هذا فنان، فتجد عدة صفحات في (النهضة) عن رشدي أباظة زعيم أو سيد السينما أو كذا، ومذكور في ضمنها: قصة زواجه ست زوجات؛ تزوج أولاً بمغنية فرنسية تعرف عليها في إحدى الزيارات في ملهى من الملاهي أو كذا، وبعد شهور طلقها، ثم تزوج ممثلة مصرية، وما أتم معها سنة حتى طلقها، ثم تزوج مضيفة أمريكية تعرف عليها في الطيارة، وأيضاً بعد فترة قصيرة طلقها، ثم تزوج راقصة أيضاً، وبعد عدة سنوات طلقها طلقة أولى، ثم عادت، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم بعد ذلك تزوج الممثلة الشهيرة صباح، وكان الزواج مدته ثلاثة أيام. وبعد ذلك حينما كان مريضاً وعلى وشك الموت أراد السفر للعلاج فتزوج ابنة عمه؛ حتى تكون فقط مرافقة له، وبعد أن رجع إلى بلده طلقها، فهل يُعرض هذا ليكون نموذجاً للناس؟ أم لنقده؟ أم لأي شيء يُعرض؟ وهذه المعلومات معروضة ضمن ما قدم، وضمن جهوده المباركة، وجهاده ونضاله في الفن! وهذه الصورة في الحقيقة نلحظ أنها تكرس أو تعود الناس على مثل هذه الأمور، وهذه صورة سيئة وقبيحة، لكن من خلال العرض المتكرر ومن شخصيات متكررة يُراد للناس أن يألفوا هذه الأمور، وأن يعتبروها قضايا عادية، بل هي نوع من التحرر والانطلاق من القيود والاستمتاع بالدنيا، ونحو ذلك! وتجد في المقابلات مقابلة مع ممثلة: من هي قدوتكم في الحياة؟ أو من هي كذا؟ فتقول: فلانة الفلانية سيدة الشاشة العربية، هي التي تأثرت بها، وأتمنى لو استطعت إلى آخره! ثم تجد أيضاً الثناء والتركيز على الشخصيات التي ليس لها دور في المجتمع إلا أن تسلب قوت الناس المغفلين إذا صح التعبير، ثم بعد ذلك تمارس أعمالاً ضد هؤلاء، فتأخذ فلوسهم، ثم أيضاً تحاربهم في إيمانهم وفي شخصياتهم وفي معتقداتهم إلى آخر ذلك. وتجد مثلاً مجلة مثل (صباح الخير) تنشر عن عارضة أزياء مصرية أنها فازت بجائزة سباق في حفل لعرض الأزياء، وأخذت الجائزة الأولى على أربعة وأربعين دولة، وأنها تعتبر سفيرة مصر في صناعة الأزياء، وأنها استطاعت أن تثبت كذا، وأنه ذهب الزمن الذي كنا فيه دائماً في المتأخرين، وأصبحنا الآن ننافس على المراتب العالية! وما سمعنا أن هناك من نافس وأخذ الأول في الصناعة أو الأول في الزراعة أو الأول فيما ينبغي أن يكون في مثل هذه البلاد المترامية الأطراف التي فيها أعداد غفيرة من الناس. وهكذا تجد أن من خلال هذه القدوات تُوضع بعض المعاني التي فيها مخالفات شرعية، ففي مقابلة مع إحدى الفنانات سُئلت: لو عُرض عليك أن تشاركي في تمثيل فلم عن المحجبات؟ فقالت في الإجابة: لا بأس؛ كل شيء قابل للجدل وللأخذ والرد، وليست هناك مشكلة في المشاركة؛ لأن هذه القضايا تختلف حولها الآراء! وكأنه ليس فيها حكم في الشرع، وأن هذه الأمور شخصية، وأنه لا بأس ما دام هذه ظاهرة من الظواهر يمكن أن تناقش. وسُئلت: كيف تقضي أوقات الفراغ؟ فقالت هذه الفنانة: إنها تذهب إلى البحر تستمتع وتقرأ وتتابع الحركة الفنية من خلال الفيديو! إذاً: نريد لأمهات المستقبل أن يكن على هذه الشاكلة أو على هذه الصورة! فهذه ناحية مهمة، وهي قضية التركيز على القدوات السيئة وإبرازها على أنها هي محطة الآمال ومهوى الأفئدة، وهي التي تحلم بها النساء والبنات في خدورهن، ويحلم بها الشباب الصاعد وجيل المستقبل، فكلهم يحلم في أن يكون -كما يقولون- يرى أن المجد ركلة قدم أو جرة قلم أو رنة نغم، فهذه الثلاث هي التي يُراد أن تكون فقط هي الآمال وهي الطموحات، ونحوها تتوجه الجهود، وهذا طبعاً لاشك أنه جريمة كبرى في حق المجتمع، وهذا في نفس الوقت بلاء، ويتحقق به كثير من المفاسد.

هدف المجلات الهابطة من إثارة قضية المرأة

هدف المجلات الهابطة من إثارة قضية المرأة القضية الثالثة -وإن كانت بعض القضايا متداخلة لكن نريد تفصيلها لأهميتها: قضية المرأة. وإن كنا نقول: إن معظم ما سبق من الحديث وما سيأتي وأنواع هذه المجلات إنما يستهدف المرأة أساساً أو يستخدم المرأة، يعني: هو يستهدف المرأة؛ لأن استهدافها وفتنتها وفسادها يترتب عليه شر كبير. ونحن نعلم أن كثيراً من المجلات يعتمد ترويجها على الصور التي تشكل نسبة كبيرة من صفحات هذه المجلات من صورة الغلاف التي يذهب أصحاب هذه المجلات أو الموزعون لها، ويحرصون على أن تكون الصورة لأجمل الفتيات، بل يسافرون لأجلها إلى عواصم أوروبا وأمريكا وإلى بلاد عربية وشرقية؛ ليأتوا بالصورة المناسبة، وبالتركيز المناسب، وبالأوضاع السيئة التي هي لهم مناسبة، ويستخدمون في ذلك شتى الوسائل. وهذه القضية بالنسبة للمرأة تعتمد على ثلاثة أشياء: أولاً: حرق الحجاب وإبطاله في الواقع مباشرة، ولذا فإن الصور كلها بدون الحجاب، بل فيها عري، وفيها تهتك، وفيها إغراء. وأيضاً إبداء قضية الحجاب من خلال الحوارات أنها قضية ليست لها صلة بدين، وأنه ينبغي أن تكون قضية مفروغاً منها. ثانياً: قضية الاختلاط، وأيضاً تكريس المقالات والآراء والصور وكل خدمة في هذه المجالات لتكريس هذه النقطة. ثالثاً: قضية المساواة والمزاحمة في العمل، وإبراز عمل المرأة، وأن أول امرأة تقود الطيارة هي فلانة، أول امرأة في بلد كذا تدخل قسم الشرطة، وأول امرأة كسرت حاجز الخوف ودخلت الدفاع المدني. ويُكرس هذا الجانب بشكل ملفت للنظر ليؤثر في نفوس النساء وخاصة المراهقات، ويبقى التعلق بمثل هذه الصور والحرص عليها مع الفتن الأخرى التي تبثها الشاشات الفضائية، وتلتقطها الأقمار الصناعية، فتتكامل الصورة وإذا بنا في موجة تتوجه فيها النساء وتتوجه فيها المرأة إلى كل ما فيه هتك للحياة، وكل ما فيه فتنة وتعطيل لها عن مهمتها. ومن هنا تظهر الجريمة، وتتكاثر، ويشكو الناس، والحقيقة أنهم لا يبحثون عن الأسباب، وسنعرض لبعض هذه الوقائع أيضاً من الجرائم. وأذكر أمثلة أيضا لقضية المرأة في الصحافة: تجد تعليقاً يقول: المرأة روح السوق؛ إنها تضفي البهجة بألوان ملابسها الزاهية وشطارتها في الفصال والبيع والشراء، يعني: هي لابد أن تكون جسداً بلا روح لا قيمة له، والسوق بلا مرأة لا قيمة له، وهذا هو المعنى الحقيقي المتجسد في الواقع من خلال هذه الإثارة؛ إذ يريدون أن تكون المرأة في السوق؛ لتكون متبرجة؛ ولتكون مختلطة؛ ولتكون بعد ذلك أقرب إلى الوقوع في الفواحش وفي الجرائم، بل وقوع الجريمة عليها حينئذٍ أيسر وأسهل؛ لأنها خرجت وتجاوزت حدود الشرع والحصون المنيعة التي أحاطها بها هذا الدين وحماها بها، وكل ذلك يحصن من هذه المعاني التي تُزف وتُوضع -كما يقولون- مثل السم في الجسد. وأيضاً تجد تعليقات على بعض القضايا المهمة في حياة المرأة، مثل: الزواج المبكر؛ فتُشن حرب شعواء على الزواج المبكر، وأنه لابد أولاً أن تنتهي من الدراسة، وأن تأخذ الشهادة، بل أن تأخذ الشهادات العليا؛ لأن الزمان غدار؛ ولأنها لا تأمن الأزواج؛ لأن الرجال ليس لهم أمان؛ ولأن الشهادة أمان من الفقر، وسلاح في مواجهة الحياة، وتُكرس هذه المعاني، حتى يتأخر سن الزواج عند النساء الذي هو في الأصل ينبغي أن يكون متقدماً. يقول الشافعي رحمه الله: رأيت جدة في اليمن لها إحدى وعشرون سنة. وهذا كما يقول الفقهاء: إن أقل سن تحيض فيه المرأة وتبلغ هو تسع سنوات؛ فهذه تزوجت وهي بنت تسع، ثم أنجبت وكان عمرها عشر سنوات، وابنتها بعد تسع سنوات تزوجت، فصارت بعد سنة قد أنجبت، فصار عمر الأولى إحدى وعشرين سنة، وهي جدة، وأما الآن فعمر الواحدة إحدى وعشرون سنة وهي عانس لم تصبح زوجة حتى تصبح أماً فضلاً عن أن تكون جدة! وأيضاً ارتفع مستوى الأعمار؛ ففي كثير من البلاد العربية والإسلامية معدل الزواج بالنسبة للرجال من خمس وثلاثين إلى خمس وأربعين، وبالنسبة للنساء -على تفاوت في بعض البيئات- من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين وإلى أربعين! ونحن نعلم أن الأربعين -كما يقولون- سن اليأس، وكثير من هؤلاء النساء لا يحببن أن يقعن في هذه القضايا بمثل هذه الصورة التي تُكرس في المجتمع. ويتحدثن بأحاديث لا يقبلها العقل، وهن أنفسهن أول من يعلم أنها أحاديث كاذبة، ومن هذه الأحاديث: أنها تجد متعتها في العمل وفي الكفاح، وأن الزواج أمر عارض، وأن المرأة شخصيتها في ثقافتها وعلمها وكذا، لكن في حقيقة الأمر تظهر الاعترافات، كما ظهرت على صور شتىً، منها: ما نشر في اليمن قبل فترة لا بأس بها: قصة الطبيبة التي قالت: خذوا كل شهاداتي وكل مؤهلاتي وأعطوني طفلاً واحداً! فهذه سنة الحياة، وغير ذلك مغالطة. وبعض المقالات تقول: الزواج المبكر في كثير من الأحيان يعني: الطلاق المبكر. إذاً: معنى ذلك التنفير من مثل هذا الأمر. وفي هذه المجلات أيضاً كلام على بعض قصص الأفلام وما يُعرض فيها، حتى تكون قضية المرأة قضية انحلال، ومن ذلك ما نشرت مجلة (صباح الخير) عن فلم اسمه (الجسد) يركز على أن المرأة في كل أحوالها ليست عقلاً، وليست ثقافة، إنما هي جسد للمتعة فقط! ويستطرد الكاتب في تفاصيل نفس الفلم، لكنه في نفس الوقت يروج لمثل هذه الأمور. ومن أهم القضايا التي تُكرس في قضية المرأة: الحوارات والمقابلات وقضية المشكلات، وأغلب المجلات عندها عناوين: مشكلات، مشكلة وحل، الحل والمشكلة، وما إلى ذلك. وطبعاً المشكلة هي في الحب والغرام! والحل غالباً ما يكون متلبساً بالطيش والحرام! ومن ذلك أنك تجد من تكتب وتقول: تعرفت وأنا عمري ثماني عشرة سنة على شاب أثناء رحلة إلى الخارج تقوم بها المدرسة للمتفوقين من الطلبة وتسرد القصة، والغرض هو أن الذي يقرأ القصة أو التي تقرأ القصة تعتبر أن هذه الأمور أصبحت قضية لا حرج فيها. فكونها تعرفت على إنسان معناه: أنها سافرت من غير محرم، واختلطت بالرجال، وكأنه ليس هناك إشكال، ثم تذكر بعد ذلك كيف أصيبت، وأدخلت المستشفى، وكان هذا الشاب يزورها، ثم الخطابات التي كانت بينهم! وهي قد تكون قصة حقيقية، وقد تكون غير حقيقية، لكن يُراد من خلالها أن يتسرب الفساد؛ مثلما يكون الإنسان في غرفة فيها بعض الغبار أو الغازات، ثم يمشي في الغاز شيئاً فشيئاً حتى يُخدر وهو لا يشعر، وهذا هو المقصود من مثل هذه القضية. وأيضاً تجد التكريس على التحرر من العادات والتقاليد، وأن المرأة لا بد أن تتحرر من عادات وتقاليد، ولا يقولون: إنهم يدعون إلى مخالفة دين، فتجد فتاة تقول: حقيقة أنني لم أعد أرى تلك المراهقة التي تتعلق بذراع هذا الشاب كما كنت في السابق، وذلك حينما خرجت عن كل التقاليد التي ألفتها في الوطن! وهذه كلها تُكرس في مثل هذه القضايا. وطبعاً تكاد تكون معظم هذه المجلات التي تتعلق بالفن وبالمرأة تدخل في هذا الجانب.

ترويج المجلات الهابطة لنشر الفاحشة والجريمة

ترويج المجلات الهابطة لنشر الفاحشة والجريمة القضية الرابعة: الجريمة. تعرض كثير من المجلات دائماً جريمة سواء جريمة واقعية من القضاء أو غيره، أو خيالية، وهذا العرض في حد ذاته هو نوع من التعليم والإغراء؛ لأنه يقص الجريمة، وكيف كانت خفية، وكيف عملت، والخطوات، وكذا، ثم أيضاً من خلالها يتعلق الناس بحب الفاحشة والجريمة؛ والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فالمعنى في هذه الآية: أن مجرد إشاعة الفاحشة أو قول: إنه حصل كذا وكذا، هذا في حد ذاته يكسر الحاجز في نفوس الناس؛ فلا يهابون مثل هذه الأمور، ولا يعتبرونها خطراً ولا خجلاً، وبالتالي يتعودون عليها شيئاً فشيئاً. وهذا هو الذي يحصل؛ فإذا كثر ذكر الجريمة في المجتمع تأتي تقول لإنسان: حصل كذا وكذا، فيقول لك: هذا أضعاف أضعافه يحصل، وهذه بسيطة! وكلما كثر تناول هذه القضايا يجعل إحساس الناس يتبلد نحوها، وبالتالي تعظم جرأتهم فيها. وأذكر أمثلة لذلك: هذه مجلة (حريتي) تعرض مسألة خطيرة، وهي للأسف أيضاً ظاهرة بدأت منذ فترة في مجتمعاتنا، وأرى أنها الآن تستشري، وهي: مسألة انتشار أشرطة الفيديو الجنسية. وكتبت تحقيقاً عن هذه القضية، وكيف يتم تداولها؟ وكيف كذا؟ لكن الأسلوب كان تحت عنوان: الثقافة السوداء، وهذا هو المصطلح الذي يدور بين هؤلاء الشباب، فالشريط الذي يتداولونه يسمونه شريطاً ثقافياً، ويقول أحدهم للآخر: أنت اليوم مدعو لمشاهدة شريط ثقافي، وهذا مصطلح متداول بينهم لهذا النوع من الأشرطة، فيبين هذا المحقق أو الكاتب كيف يتقابلون؟ وكيف صورة اللقاء؟ وما هي الأسعار؟ حتى تسعيرة الفيلم تختلف؛ فإذا كان نوعه أمريكياً كان سعره كذا، والسعر يكون غالياً إذا كان إنتاجه محلياً إلى آخره!! وكل هذا نوع من التعذيب، وفي نفس الوقت نوع من الإغراء لهؤلاء الشباب الذين يطالعون مثل هذه التحقيقات، إضافة إلى الصور المرافقة لهذه التحقيقات، والحقيقة أن عرض هذه الجرائم إنما هو نوع من الإغراء بها، والتعليم عليها، وكذلك تجد هذه الصورة في كثير من العرض الصحفي أو عرض المجلات التي تعرض هذه القضايا.

نظرة هذه المجلات الهابطة إلى الدين الإسلامي، ودورها في الدعوة إلى التحلل منه

نظرة هذه المجلات الهابطة إلى الدين الإسلامي، ودورها في الدعوة إلى التحلل منه النقطة الخامسة هي: قضية النظر إلى الدين الإسلامي وقضايا الإسلام من خلال هذه المجلات: نجد أن هناك كثيراً من المخالفات والتجاوزات الصارخة التي يبلغ بعضها حد الكفر عند من يعتقده، فتجد قضايا في جعل الدين قضية قابلة للنقاش وللأخذ والرد، ولكل فيها قوله! يعني: كما أننا نختلف على الطعام والشراب أيهما أحب كذلك يجعلون قضية الدين قضية نسبية لك الخيار في أن تأخذها أو لا تأخذها، ويجعلون الدين عبارة عن رأي وفكرة قابلة للنقاش والجدل. ومن ذلك بعض المقالات ترى أن هناك نسبية في كل قضية، وأن كل قضية لها وجهان مهما كانت هذه القضية، حتى لو كانت ديناً وإسلاماً وحكماً شرعياً! وحتى ننظر كيف تهمش قضية الدين والإسلام نشر تحقيق عن قضية من أخطر القضايا التي يُكرس فيها كل البلاء الذي ذكرت فيما مضى من الجريمة والمرأة ونحو ذلك، وهي قضية: استفتاء ومقابلات وتحقيق حول موقف الأسرة عندما تأتي البنت بصديقها إلى البيت، وموقف الأسرة عند يأتي الابن بصديقته إلى البيت! وطبعاً كأن قضية الصداقة الآن أصبحت حقيقة مسلمة، وكونه له صديقة أو ليست له صديقة ليس محل نظر حلال ولا حرام، لكن النظر هو هل يأتي بها إلى بيته أو لا يأتي بها! فماذا تجد الإجابات؟! بعض الأمهات، تقول: نعم أستقبله في البيت، ولا أرى في ذلك مانعاً؛ وهذا من الأفضل، حتى أكون قريبة، ولكن إذا كانت المشاعر ستتجاوز حد الزمالة فأوجه ابنتي إلى ما فيه صالحها! وكأنه ليس هناك قرآن ولا سنة ولا حديث للنبي عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، (وما تركت بعدي فتنة أضر على النساء من الرجال). هذه كل الحقائق التي يشهد بها الواقع، والتي تشهد بها الجرائم والوقائع التي تتكرر، ويأتي أيضاً أب يتفلسف في الإجابة فيقول: أنا أسمح لابنتي أن تحضر زملاءها وليس أصدقاءها! يعني: أنه فرق بين الزملاء والأصدقاء. وطبعاً لك أن تجتهد وتفكر ويمكن أن تجمع مجمعاً حتى يعطوك الفرق بين الزملاء والأصدقاء! ثم أيضاً يقول: لا بأس أن يكون ذلك؛ حتى أكون على علم، ويعتمد على الصديق من هو، إذا كانت عائلته محترمة، وكما يقولون: عائلة متأدبة ومتدينة كما يحلو لهم أن يقولوا إلى آخره! وهناك أيضاً ثالث يقول: أسمح لابنتي أن تختلط بالشباب، وتذهب إلى الجامعة، وليس هناك عيب في ذلك، لكن لا أحب أن تستقبل الضيوف في بيتي! ورابع يقول: هذا أمر طبيعي! وأُجريت أيضاً الأسئلة على نفس الشباب والشابات. فأحدهم يقول: زيارة صديقتي لي في المنزل وذهابي إليها أمر طبيعي للغاية، وليست هناك أية مشكلة، وليست هناك أية قضية! وآخر يقول: أستقبل صديقاتي في البيت بطريقة عادية؛ لأنني متعود على ذلك؛ فقد درست في مدرسة أجنبية فيها اختلاط منذ صغري، فالمسألة ما فيها شيء! ثم آخر المقال هو الذي يدلنا على أنه يُراد ألا يكون هناك شيء متعلق بالذكر في مثل هذه الأمور، يقول الكاتب أو المحقق: بعد أن أخذنا آراء الآباء والأمهات والأبناء والبنات فهل بقي في الموضوع كلمات تقال؟! وكأنه يقول: هل هناك شرع؟ وهل هناك دين؟ وهل هناك آيات أو أحاديث؟! هذا كأنه شيء ليس له موقع من الإعراب، وهذه مقاصد مرادة؛ إذ لا يعتبر أنه مجرد كلمات هكذا، وإنما هناك مغزىً مقصود هو: أن هذه الأمور خاضعة للعادات ولقبول الناس، وليس هناك شيء اسمه حكم أو شرع أو دين! وتأتي أيضاً مجلة (صباح الخير) وتنشر عن كتاب تدعي أن صاحبه يقول: إن الحجاب - بمعنى منع الاختلاط بين الرجال والنساء- إنما كان حكماً خاصاً لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم! يعني: لا يكتفون بتهميش أو بعدم ذكر حكم الشرع، بل يقومون بالتزوير وتدليس وتغيير الأحكام الشرعية وإبداء هذه الصورة.

حرص كثير من المجلات الهابطة على جعل الأمور المحرمة في الدين غير ذات أهمية

حرص كثير من المجلات الهابطة على جعل الأمور المحرمة في الدين غير ذات أهمية وهناك أيضاً التلاعبات التي تريد أن تجعل الأمور المحرمة غير ذات حرج في الدين، ففي مقابلات عن الشخصيات يقابلون الشيخ سيد المكاوي المغني، ويسمونه شيخاً؛ لأنه يغني -كما يقولون- موالات دينية، أو يقرأ القرآن ويغني! فهو بذلك شيخ، وطبعاً يذكرون في المقابلة أنه يصوم ويصلي، وأنه كذا وكذا إلى آخره. وهناك أيضاً تكريس المعاني في الطعن في الدين؛ فأحدهم يكتب مقالاً بعنوان: أرجوك لا تفهمني. يقول: أنا أكتب وأنا صائم، وبالتالي أنا متعب وعقلي مشوش، والإنسان حينما يكون صائماً دائماً يكون غير قابل للتفكير، وغير قابل لكذا ويكتب مقالاً بالفعل سخيفاً من أوله إلى آخره، ويقول في آخر الأمر: إذا لم تفهمني فأرجوك ألا تسألني؛ لأني أنا لم أفهم ما كتبت، وإذا أردت أن أشرح لك فسأزيدك غموضاً إلى غموض! والغرض هو: أن القضية متعلقة بالصوم، وإبداء الصوم في صورة مشوهة، حتى إن هناك (كاريكاتير) منشور في إحدى المجلات يقول: كل شيء في رمضان زين، المسلسلات والتمثيليات وغيرها إلا الصيام فقط وحده هو الذي كان فيه تعب! وهذه الصور يُراد منها الطعن في الدين والاستهزاء والسخرية بالأحكام الشرعية، ومعتقد هذا يكفر؛ لأن اعتقاد هذه القضايا فيها كفر. وأحدهم في (أكتوبر) وهو من أكثر الناس الذين يكتبون مقالات سيئة الدكتور عبد العظيم رمضان، كان يكتب مقالاً في شهر رمضان عن المسلسلات والتمثيليات التي أتحف التلفزيون بها الجمهور، والتي أنعشهم بها، وسلى بها صيامهم، ثم يقول: وبعض الناس من المتشددين يظنون أن مثل هذا يجرح الصوم، وهؤلاء ما فهموا حكمة الصوم؛ لأن من الصعب أن الإنسان يتخلى عن المتع؛ ولذلك جُعل الصوم فيما بين المغرب والعشاء، والحكمة من الصوم فقط التدرب على بعض هذه الأمور والمتع لوقت بسيط. يقول: ولذلك لم يمنعنا الشرع أن نكثر من الطعام بعد الصيام؛ فإنه ليس هناك غاية بأن الإنسان مع الصيام يقلل الطعام، وإذا كان ليس هناك أمر بتقليل الطعام فليزد الإنسان من كل شيء بجانب الطعام. وهكذا تجد أيضاً قضية التعدد تُثار في هذه المجلات بسخرية، وكأنه ليس فيها دين ولا حكم ولا شرع، فتجد مجلة مثل (كل الناس) تنشر في مقدمة افتتاحية مقال عام: التعدد، وتذكر أن جمعية نشأت في الكويت بعد أحداث الخليج من النساء وبعض الرجال، هذه الجمعية تدعو إلى التعدد، وتحاول أن تعرف أو تثقف النساء أو تبين للنساء أن التعدد فيه خير، وفيه أيضاً حلول للمشكلات، خاصة العوانس ومن توفي أزواجهن وكذا. فهذه الكاتبة تسخر من هذه الجمعية وتقول ساخرة للمرأة: دللي زوجك، وتلطفي، وقولي له: لو سمحت اذهب وتزوج امرأة ثانية. وهذا نوع من السخرية، ثم تقول: ولقد قبلت هؤلاء النساء هذا باستقبال حار وبإيجابية كبيرة. والإيجابية الكبيرة اللائقة بهن هي من قبل النساء أنفسهن. فكيف هذا الاستقبال؟ قالت: إذ ضُربن بالنعال وبالأحذية وشُتمن شتماً مقذعاً، يعني: أن هذا هو الاستقبال اللائق بهن في هذا الأمر. ثم هناك بحث أو تحقيق طويل في نفس العدد عن هذه القضية، وفيه نصوص وكلام خطير، منه: أن واحدة توفي زوجها، وبينما هي مقيمة في العزاء جاءتها امرأة أخرى وقالت لها: إن زوجك هو زوجي، يعني: أنه تزوج عليها من غير أن تعرف الزوجة الأولى، وأن هذا عقد الزواج، وأن له مني ابنين، فتقول القصة أو الرواية أو التحقيق: إن الزوجة الأولى التي كانت حزينة ألغت الحزن، ولبست، وخرجت، وقالت: الحزن فيه خسارة! وهذا أيضاً تلاعب في الدين والأحكام الشرعية، وكثير من الأقوال تقول: إن له إما البقاء مع الزوجة الواحدة وإما الانفصال، أما أن يكون هذا الأمر فلا يمكن بحال من الأحوال.

تعرض هذه المجلات للدعاة المسلمين والحركات الإسلامية

تعرض هذه المجلات للدعاة المسلمين والحركات الإسلامية النقطة السادسة -وهي مهمة-: التعرض للحركات الإسلامية ودعاة المسلمين: وهذا عامل مشترك في المجلات التي لها طابع فكري وعقدي، فالمجلات السخيفة هذه التي تدعي الفن، هي أصلاً ليس عندها شيء حتى تناقش هذه القضايا المهمة، لكن تجد تلك المجلات الأخرى تركز على هذه الجوانب بشكل كبير جداً، فتجد بعض العناوين تؤكد هذا الجانب في (روز اليوسف) منها: إنهم يغتالون الديمقراطية في الجزائر، و (أكتوبر) تقول: ما من بلد من البلدان كان فيه بعض المظاهر الإسلامية والقوى للعمل الإسلامي إلا وصار بلداً متطرفاً أصولياً ومرت على بلاد الجزائر وعلى ديار الشام وعلى بلاد المغرب كلها، وما كفاها ذكر البلاد العربية حتى عرجت على باكستان، وأنها أيضا دولة صارت أصولية ومتطرفة إلى آخر مثل هذه الأقوال، وهذا طبعاً مجال واسع طويل، وفيه كلام كثير.

ترويج هذه المجلات للعقائد المنحرفة

ترويج هذه المجلات للعقائد المنحرفة النقطة السابعة: الانحرافات العقدية: فهناك كلام متناقض، بل هو كلام كفري تجده في كثير من هذه الصحف، ومن ذلك مثلاً: الكلام عن أبي الهول، وأنه الإله الطيب سيد المبجلين ملك مصر العليا والسفلى ومنحوتب الثاني حبيب الإله، وحورام واهب الحياة، وهذه الكلمات منشورة في مثل هذه الصحف والمجلات. وكذلك هناك ترويج لهذه الأشياء باسم التعريف؛ فمجلة (كل الناس) ليس فيها شيء من الثقافة إلا أنها تعرف بكتاب واحد، فاختارت كتاب (الفتوحات المكية) لـ ابن عربي، وهو كتاب كله كفريات، وفيه القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، وقد كفره به كثير من العلماء، بل أكثر العلماء، فعرضت المجلة هذا الكتاب على أنه من التراث. وأيضاً قضايا الأبراج وادعاء الحظوظ، وتكتب لبعض المجلات سطوراً فتعرف لك حظك من خطك، اكتب لهم ثلاثة أو أربعة أسطر، وينشرون لك من خلال خطك أنك كذا، ويقع لك كذا، وتحصل لك مشكلات كذا، وأنت شخصيتك كذا، ونفسيتك كذا، وبعضها ترسل لها صورتك، فتقول لك: من العينين أنت إنسان متفائل، ومن وجهك أنت إنسان عندك ضيق في النظر، وما إلى ذلك، وكلها تنبؤات لمثل هذا الأمر. وفيها كذلك الترويج للقضايا الانحرافية في قضايا الموالد والأضرحة ونحوها؛ ففي بعض المجلات التي اطلعت عليها كان كثير منها عن رمضان، فماذا يكتبون عن رمضان؟ يكتبون عن ذكريات الحفلات التي تقام في المساجد أو عند الأضرحة وعند الصالحين وما يلحق بذلك، ويجعلون قضايا الدين تدور في هذا الفلك بالتركيز على مثل هذه القضايا، وتجد بعض العبارات تقول: فلنتكل على الله وعلى ذاكرتنا؛ لنتذكر ثلاث نعم أنعم الله بها على البلاد العربية، وهي: مغنية واثنان من الملحنين! تجد أيضاً بعض القضايا التي فيها طعن عقدي في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا مقال يقول: أبو هريرة يروي أحاديث تنافي الذوق السليم مثل حديث الذبابة! ويجعل عادل إمام شبيهاً بـ أبي ذر؛ يموت وحيداً، ويعيش وحيداً، ويبعث يوم القيامة وحده! هذا مقال بهذا النص في مثل هذه المجلات. وأيضاً تجد هناك مقالاً هو كفر صريح إن اعتقده صاحبه، يقول فيه: الدين واللغة والتقاليد ثلاثة أمراض اجتماعية -يعني: ينبغي أن نتخلص منها-، لقد خلق الله الإنسان وسكن فيه! وهذا جاء في ضمن مقال في روز اليوسف إلى آخر ذلك الكلام الذي فيه من الكفر ما هو خطير جداً، وهذا كله مقصود. وقد تكون هناك ألفاظ ليست صريحة في الكفر، لكن في ثنايا الكلام نوع من الإلحادية اللادينية، وإخراج عظمة الدين وعظمة الله سبحانه وتعالى من قلوب الناس، والتركيز على مثل هذه الجوانب الخطيرة والمنحرفة. وهكذا فيما يتعلق بالعقيدة والدين تجد كلمات كثيرة مدسوسة في ثنايا الكلام، وهي على هذه الصورة، وكما أشرت الأمثلة كثيرة، وسأذكر أيضاً أمثلة صارخة في بعض القضايا، ونختم بنقاط مهمة نحتاج إليها في هذا الموضوع. أذكر نصاً لعله يعبر بقوة عما هو مضمون في كثير مما ذكرنا: تقول إحدى الراقصات في مقابلة: في حياتنا اهتمامات لا داعي لها، ويمكن أن نلغيها، كمعامل الأبحاث الذرية مثلاً؛ لأننا لن نستفيد شيئاً، لكن سوف نستفيد لو أنشأنا مدرسة للرقص الشرقي؛ تتخرج منه راقصة مثقفة متألقة لجذب السياح، فلا نحتاج إلى مصانع الأسلحة والمفاعل النووية، وإنما نبني مدارس ومعاهد للرقص وكذا؛ حتى نجذب السياح، ونفتح العالم، ونتقدم على الأمم! هذه هي الصورة التي يمكن أن نلخصها في هذه المقولة، وهي واضحة جداً وصارخة؛ لأنها أتت بالمتقابلات في وجه واحد. وآخر يقول: الفضيلة والكرامة تعترضان مسيرة النجاح! وجملة القول: أن ما استعرضنا هو عبارة عن غيض من فيض، وأن البلاء حاصل في صور أخرى، منها: الصور الفاسدة والفاتنة المنشورة في مثل هذه المجلات، وكذلك الصورة العملية للفساد، بمعنى: أن القضية ليست فقط مجرد نشر مقال، بل إقبال وتكميل لبعض القضايا، ومن ذلك أبواب للزواج تكتب المرأة: أنا في عمر كذا، ولون الشعر كذا، وتخرجت من كذا! وتطلب زوجاً، وبالمقابل الرجال يكتبون، وتأتي المجلة وتنشر، فمثلاً: في العدد الذي اطلعت فيه، فيه ثلاث صفحات مكتوب: بالنسبة للمرأة كذا التي جنسيتها كذا كل الطلبات التي وردت إلينا في الزواج منها أحيلت إلينا وهي الآن في مرحلة الاختيار! بمعنى أن القضية ليست فقط كلاماً مكتوباً، وإنما تعليم عملي، وتطبيق لمثل هذه القضايا الخطيرة من خلال هذه المجلات.

الحكم الشرعي في هذه المجلات

الحكم الشرعي في هذه المجلات وقفتنا الأولى في الوقفات الأخيرة: الحكم الشرعي في مثل هذه المجلات وما فيها من هذه المضامين والصور، وما أشرنا إليه من النقاط السالفة: ولعل فتوى الشيخ ابن عثيمين مشهورة ومنشورة، وقد تعرض فيها رحمه الله للفتن المتعلقة بالمجلات، وأنه ما كان يصدق ما يقال، فلما رأى بعضاً يسيراً رأى فيها في جملتها ورمتها ما هو جدير بأن تكون محرمة، وأن فيها من الفساد شيء كثير وعريض. والفتوى مشهورة. هنا فتوى ربما ليست بمتداولة كثيراً، وهي للشيخ عبد الله الجبرين: يقول السائل: ما حكم إصدار المجلات التي تحمل الصور النسائية الفاضحة والأفكار المخالفة للشرع والمقابلات مع الفنانات والمتبرجات تبرج الجاهلية المعاصرة؟ وما حكم توزيعها وبيعها في المحلات التجارية والمكتبات؟ وما حكم شرائها واقتنائها وإهدائها؟ وما حكم المال العائد من بيعها؟ وما حكم المشاركة في تحريرها وكتابة مقالاتها؟ وهل يمكن أن تعد مجلة (سيدتي) داخلة في حكم ما مضى من الأمثلة؟ A وردت السنة المتواترة في تحريم الصور مطلقاً، ولعن المصورين وأن كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في جهنم، وأن المصورين أشد الناس عذاباً، وأنه يُكلف أن ينفخ فيها الروح، وأنهم يعذبون ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم. ثم إن التحريم يتضاعف إذا كان هذا التصوير يسبب فتنة، كصور النساء العاريات، وصور الرجال أمام النساء، وإذا كان ذلك حراماً فإن الصحف والمجلات التي تنشر ذلك قد دعت إلى الفتنة والفساد والدعارة وما هو وسيلة إلى فعل الجرائم والمنكرات، فمن أصدر هذه المجلات بهذه الصفة أو باعها أو أهداها أو اشتراها أو اقتناها فقد شارك في الإثم؛ فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الخمر وبائعها ومشتريها وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها. وكذلك هذه المجلات؛ فإن مفسدتها على الأخلاق والعفاف والأديان أعظم من مفسدة الخمر أحياناً، سيما إذا اشتملت على الأفكار المنحرفة والإعلان عن الفنانات والمتبرجات تبرج الجاهلية، فنشرها على هذه الصفة وكتابة مقالاتها واستيرادها والترغيب فيها مشاركة في الفساد، وإشاعة الفاحشة، ونشر الرذيلة، ودعوة إلى الخلاعة والتفسق والانحلال من الأخلاق والحياء، ولاشك أن مجلة سيدتهم - هكذا بخط الشيخ- من أفسد المجلات وأرذلها، ففيها من الصور الفاضحة والدعوة إلى العهر والفواحش ما لا يخفى على ذي بصيرة. فنصيحتي لمن أراد النجاة أن يبتعد عن هذه الصحف، ولا يشارك فيها أدنى مشاركة رجاء أن ينجو بنفسه ويستبرئ لعرضه ودينه، والله أعلم. وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم. وأقول: يشارك هذه المجلة فيما هي متخصصة فيه المجلات الأخرى، مثل (كل الناس)، و (زهرة الخليج)، و (المجالس)، فكل هذه مثلها في خبثها.

واجب كل مسلم تجاه هذه المجلات الهابطة

واجب كل مسلم تجاه هذه المجلات الهابطة الوقفة الثانية: الموقف العملي من هذه المجلات: من خلال الحكم الشرعي لابد أولاً من المقاطعة، وقد يقول بعض الناس: المقاطعة لا تجزئ، فأقول: المقاطعة هي أعظم سلاح، ولو أن هؤلاء أصدروا مجلات وما وجدوا من يشترونها ما صار مثل الذي صار، فمجلة (كل الناس) مثلاً بدأت بعدد من الأعداد بثمانين صفحة، ثم سبع وتسعين، ثم مائة وثلاث عشرة ثم مائة وثلاثين، ثم مائة وست وأربعين، ثم مائة وأربع وتسعين، ثم وصلت إلى مائة وسبع وتسعين، والعدد السنوي منها تبلغ صفحاته أحياناً إلى مائتين واثنتين وأربعين صفحة، وقيمتها عشرة ريالات أو خمسة عشر ريالاً في العدد السنوي، فالمقاطعة أمرها كبير ومهم. ثانياً: لابد من بيان هذه الحقائق والأحكام الشرعية للناس وتبصيرهم بها؛ ليكون هذا التحذير نوعاً من الصورة العملية في درأ الشرور والمفاسد في مثل هذه المجلات. ثالثاً: ألا يكون كثرة الفساد داعياً لعدم الإنكار عليها. فإذا قيل: هناك مجلة فيها كذا وكذا قيل: في غيرها أكثر، لا بأس كل ما وقع عندك أو ما وقع تحت يدك أو ما أخبرت به ينبغي أن يكون لك صورة عملية فيه، اكتب إلى الجهة المسئولة في الإعلام بأن هذا يخالف الشرع، ويخالف نظام المطبوعات الذي يمنع نشر صور النساء، ويمنع نشر الكلام الفاحش، ويمنع منعاً قاطعاً نشر أي كلام يتعلق أو يمس بالدين مساساً مباشراً أو غير مباشر، اكتب لبعض المشايخ وأهل العلم أيضاً بما في هذه المجلات؛ لأن لهم كلمة مسموعة قد يستطيعون بها أن يؤثروا أو يمنعوا أو أن يخففوا من مثل هذا الأمر. فإذاً: المقاطعة والتحذير وبيان المفاسد ثم الصورة العملية الإيجابية في الكتابة عن مثل هذه الأمور أمر ضروري جداً، والأمر كما أشرت، والموضوع الفتنة به عظيمة، والانتشار والرواج له كبير جداً، لدرجة أن سوق المبيعات التي تروج هذه المجلات تشكل أعداداً كبيرة جداً جداً، ويباع من هذه النسخ في بيئاتنا ومجتمعاتنا أعداد بعشرات الآلاف. وإذا تأملنا صور المراسلات البريدية نجد تقريباً أن نسبة لا تقل عن (25%) وقد تصل إلى (40%) من داخل المملكة، وفيها صور وعناوين وكتابات ومراسلات لهذه المجلات من أبناء هذه البلاد الذين تأثروا بها، وهذا واقع وحاصل، والصورة العملية أيضاً لهذا التأثر واقعة، ونراها -للأسف- في كثير من الظواهر. فهذه الظاهرة في الحقيقة وغيرها تحتاج إلى أن يتنبه الناس للخطر، وبعض الناس قد يقتنيها أو يسمح لأبنائه وبناته بمطالعتها؛ لأنه لا يرى فيها شيئاً، ولا يرى خطورة مضامينها. فالله سبحانه وتعالى نسأل أن يقينا شرورها، وأن يوفقنا لمقاطعتها ومحاربتها وتحذير الناس منها والدعوة إلى نبذها ومنعها من الدخول إلى هذه البلاد، حتى يكون هذا -إن شاء الله- نوعاً من الجهاد، ونوعاً من الدعوة إلى الله.

الأسئلة

الأسئلة

أهمية إنشاء مجلات إسلامية

أهمية إنشاء مجلات إسلامية Q لماذا لا يقوم أهل السنة بإنشاء مجلات خاصة للمرأة؟ A هذا سؤال مهم جداً، نذكر لكم أن هناك مجلة نسائية إسلامية كانت تخص المرأة اسمها (أسماء) وكانت جيدة، وتكتب مقالات، ولكن ما استطاعت أن تستمر، والذي أذكر أنه لم تصل أعدادها إلى عشرة، ثم توقفت بسبب عدم القدرة المالية، وعدم وجود توزيع، وعدم وجود الإقبال والترويج اللازم؛ لأنه ليس فيها الفتن والإغراءات التي تجعل الناس يقبلون عليها ويشترونها. ولذلك لاشك -كما يقولون- أنه بدلاً من أن تلعن الظلام أوقد شمعة، فبدل أن نقول: اتركوا هذه المجلات، لابد أن نجعل للمرأة صحيفة أو مجلة إسلامية، وفي الحقيقة نحتاج إلى أن يكون هناك صحافة ومشاركة إسلامية للأطفال وللنساء وللمجلات في كل أنواع التخصصات بوجهة نظر إسلامية. وفي بعض مجالات الطفولة بدأت -ولله الحمد- بعض القصص وبعض المجلات وبعض الأشياء تخدم إلى حد ما خدمة جيدة وتسد بعض هذا الفراغ، لكن ما يزال الفراغ كبيراً، فهذه الإصدارات تعاني من التوزيع مثلاً، فمجلة إسلامية قد تكون توزع بالآلاف في بلد ما، ثم في عدد من الأعداد قد يمنع دخول هذا العدد لأمر أو لآخر أو لاعتراض على مقالة أو على كتابة أو شيء من هذا القبيل، فهذه خسارة للمجلة لا تستطيع أن تتحملها، وكثير من المجلات الإسلامية تنشر كلاماً متزناً لا يعجب كثيراً من المتسلطين على ديار الإسلام، فتُمنع هذه المجلات، ولا تُدخل، فلا يبقى لها توزيع، والناس يبحثون عنها ولا يجدونها، فهذه كلها مشكلات واقعة في مثل هذا الأمر. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

أحكام ومناسك الحج

أحكام ومناسك الحج حج بيت الله الحرام مقصد عظيم تهفوا إليه نفس كل مؤمن، وتسعى إلى نيله روح كل موقن، كيف لا وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، ومشهد عظيم يظهر جانباً من جوانب العزة واللحمة، إلا أن هذا المعنى لابد لتحققه من شروط يجب توافرها، وأركان ومناسك يجب أداؤها، ومحرمات ومحظورات يجب على العابد اجتنابها، لكي يخرج من تلك العبادة العظيمة وقد غفرت له ذنوبه، فيعود كيوم ولدته أمه.

تعريف الحج وأدلة مشروعيته

تعريف الحج وأدلة مشروعيته هذا لقاء طيب مبارك في أيام فاضلة، وليالي مباركة، نجتمع فيه للتذكير والتعريف بهذه الشعيرة العظيمة والفريضة الجليلة لنتحدث عن فقه الحج. الحج في اللغة: القصد، وعن الخليل من علماء العربية: الحج كثرة القصد إلى من تعظمه، ومعنى أن تحج إلى مكان: أن تقصده تعظيماً له. وفي المعنى الفقهي ومن الناحية الشرعية: هو قصد مكة والمناسك لأداء مناسك مخصصة في زمن مخصوص، فالقصد والتوجه والنية إلى بيت الله الحرام للنسك حجاً كان أو عمرة على الصفة المعروفة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزمان المخصص لهذه الفريضة من أيام الحج. وأما الحج فهو أحد أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها الإسلام، ومشروعيته واضحة ثبتت بأدلة القرآن الكريم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، فالحق جل وعلا يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وفي وجوبه من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ورد حديث ابن عمر المشهور: (بني الإسلام على خمس -وذكر منها:- وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً)، وكذلك حديث أبي هريرة الذي أخبر فيه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (يا أيها الناس! إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال عليه الصلاة والسلام: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم). وأما الإجماع: فقد انعقد إجماع الأمة قاطبة على وجوب الحج وفرضيته على المستطيع في العمر مرة واحدة.

استعدادات ووصايا قبل الحج

استعدادات ووصايا قبل الحج لابد للحاج قبل أن يشرع في حجه من الاستعداد والتهيئة، وهذه أمور ومسائل مهمة في الاستعداد قبل الحج. أولاً: النفقة الطيبة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وقد ورد في بعض الآثار: أن النفقة المحرمة في الحج يكون عليه بها وزر، وكلنا يعلم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن: (ثم ذكر الرجل يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! وملبسه حرام، ومطعمه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له)، فلابد أن يتحرى الحاج لنفقة حجه المال الطيب الحلال الذي ليس فيه كسب حرام ولا مشتبه به. ثانياً: الوصية العامة: أن يوصي أهله ومن وراءه بتقوى الله عز وجل، وتوحيده، وعبادته، وأن يوصيهم بما يحتاج إليه من الوصية، كأن يذكر لهم ديونه أو الحقوق التي عليه، أو أن يذكر لهم ما له عند الآخرين، أو ما يريد أن يوصي به؛ إذ أنه يسافر وقد يكتب له الله عودة وقد يتوفاه الله، والوصية أمر مشروع مسنون ثابت ينبغي للمسلم أن يحرص عليه في كل وقت وآن. ثالثاً: التوبة الخالصة: فإن الحاج مقدم على فريضة أعظم، وأجرها تكفير الذنوب والخطايا، ورجوعه كيوم ولدته أمه، والمقبل على إنسان من الناس ليكون ضيفه لا شك أنه يختار أحسن الثياب ويتجمل بها، ويختار أفضل أنواع العطور ويتطيب بها؛ حتى يكون إقباله على من يضيفه إقبالاً حسناً، والمقبل على الله في هذه الفريضة ينبغي أن يكون قد أعلن توبته، ورد المظالم والحقوق، وطلب السماح ممن أخطأ في حقهم؛ حتى يكون متعرضاً لرحمة الله تعرضاً مناسباً وملائماً لقدومه على ربه في بيته وفي حرمه لأداء فرضه وحج بيته. رابعاًً: الصحبة الصالحة: فإن هذه الفريضة طاعة من الطاعات، وأهل الخير يذكرونك إذا نسيت، ويعينونك إذا ذكرت، ويعلمونك إذا جهلت، فتنتفع بهم، ولا يكون حالك كحال من يكون صحبته غير صالحة، فما يزالون في لغو ولهو وقول باطل، وربما جهل تؤدى به الفريضة على غير وجهها، فلا تكون كاملة فيذهب الجهد والعناء والتعب بلا فائدة. خامساً: العفة عن المحرمات: قبل الحج، وفي أثنائه، وأثناء المسير إليه، فلا يترخص في شيء من المحرمات مطلقاً. سادساً: الإخلاص لله: وهذه مسألة مهمة: فإن بعض إخواننا القادمين من بلاد إسلامية كثيرة في أحوال بلادهم بعض العادات التي قد تشوش على الإخلاص، فإذا خرجوا، خرجوا مودعين لهم في زهو واحتفاء واحتفال كبير، وإذا رجعوا غيروا ألوان بيوتهم، أو ضربوا عليها بعض الطلاء الأبيض، أو كتبوا لوحات أو نحو ذلك مما يعلم بما كانوا فيه من عبادة، وهذا قد يجعل الإنسان حريصاً على أن يلقب بالحاج، أو أن يلقب بكذا؛ فينقص ذلك من أجره، أو يشوش على نيته ويخلط فيها، فينبغي أن نترك ما هو معتاد مما ليس فيه شيء مشروع، وليس فيه مصلحة، ولا بأس أن يفرح الإنسان إذا رجع من الحج، ويدعو قرابته إلى وليمة؛ إذ ليس في هذا حرمة، ولكن لا يكون على سبيل المفاخرة والمباهاة التي قد تنقص من أجره. نسأل الله عز وجل السلامة. سابعاً: العلم بالأحكام الفقهية الخاصة بهذه الفريضة؛ فبعض الناس يذهب إلى الحج، وفي أثناء أدائه يقول: فعلت كذا وكذا. هل هذا صحيح أو لا؟ بعد أن قطعت المسافات الطوال، وأنفقت الأموال تأتي لتسأل بعد أن أخطأت وربما قد فسد حجك، لابد أن تتعلم أحكام أمر تحتاج إليه، عند الحج تتعلم الحج، إذا وجبت عليك الزكاة تعلمت أحكام الزكاة، وإذا أردت أن تقوم بعمل تجاري تعلمت أحكامه. وهكذا. أيضاً: البر والإحسان مهم، وهو من الأمور الطيبة، سواء قبل الحج أو في أثنائه، فالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل أن ييسر له الحج، ويتقبله منه، ويعينه، فإن الإنسان بدون عون من الله عز وجل لا تقضى له أموره ولا حوائجه. ثامناً: العزم على الاتباع والاقتداء برسول الهدى صلى الله عليه وسلم الذي قال: (خذوا عني مناسككم).

الإحرام

الإحرام أعمال الحج وأركانه: عندما ينوي ويتوجه إلى المواقيت يحرم من ميقاته.

تعريف الإحرام

تعريف الإحرام تعريف الإحرام، هو: نية الدخول في الحج أو العمرة أو فيهما معاً، يعني: الوقت الذي ينوي فيه الدخول في النسك حجاً كان أو عمرة. لماذا سمي إحراماً؟ لأن به -أي: بسبب الإحرام وبسبب أداء النسك -يحرم عليه ما كان عليه حلالاً، كأن يحرم عليه تغطية الرأس، ونحوها من محظورات الإحرام المعروفة.

واجبات الإحرام

واجبات الإحرام واجبات الإحرام التي لابد منها تتخلص فيه اثنين بالنسبة للرجال، وواحد عند النساء: الأول: الإحرام من الميقات: والإحرام من الميقات له حكم، وهو أمر تعبدي شرعه لنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهو لون من ألوان الاستعداد، أنت تقبل على بيت الله الحرام، والإحرام من مسافة طويلة أو بعيدة، كأنما يقول لك: انتبه! فأنت قادم إلى أقدس البقاع وأطهرها وأشرفها وأعظمها حرمة عند الله، تهيأ لذلك: اغتسل له، البس إحرامك؛ حتى تكون مستحضراً لعظمة وحرمة البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، هذا جانب. والجانب الآخر: فيه بيان عظمة هذه الفريضة، وأنها ليست بمجرد وصولك إلى الحرم بل هي قبل ذلك. الثاني: التجرد من المخيط بالنسبة للرجال: بأن ينزع ملابسه ويلبس إزاراً ورداءً أبيضين نظيفين، كما وردت بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وها هنا مسائل كثيرة منها مسألة المواقيت: فبعض الناس يتجاوزون الميقات ولا يحرمون، ويقولون: نأتي إلى جدة ونقيم بها ثلاثة أيام فنصبح بذلك مقيمين ومن ثم نحرم. وهذا ليس بصحيح، والمقيم لا يصبح مقيماً ولو أقام ثلاثاً أو شهراً أو ثلاثة أشهر حتى يكون مستوطناً بالبلد، بمعنى: أن يكون له عمل وهو مقيم بها، أو عنده زوجة، أو له والدان، وعنده بيت يقيم به، فهذا هو المقيم في جدة أو في غير جدة، أما القادم من خارج المواقيت لدخول الحرم بنية النسك حجاً أو عمرة فيجب عليه أن يحرم من الميقات، فإن تجاوزه فلابد أن يرجع إليه، وإن أحرم بعد الميقات فيلزمه الدم، وتكون عليه فدية.

سنن الإحرام

سنن الإحرام سنن الإحرام هي: الاغتسال والتطيب؛ لأن الإحرام إقبال على عبادة، والطهارة في العبادات كلها وفي الصلوات أمر مطلوب، فيغتسل لذلك ويتطيب، قالت عائشة رضي الله عنها: (طيبت الرسول صلى الله عليه وسلم بالغالية)، وهو نوع من أغلى وأطيب وأحسن أنواع الطيب، وكانت تقول: (لكأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم). متى يتطيب؟ قبل أن يدخل في الإحرام، عندما يغتسل فلا بأس أن يحرم ويتطيب، فإذا أعلن نيته ولبى أصبح محظوراً عليه، وينبغي له أن يبتعد عن وضع الطيب فيما يستدام؛ فلا يضع الطيب في نفس الإحرام، فيبقى حينئذٍ متطيباً وقتاً طويلاً، لا، بل يتطيب في بدنه أو شعره. الإحرام يكون في رداء وإزارين أبيضين نظيفين. ويسن له أيضاً: تقليم الأظافر، وقص الشعر، ونتف الإبط، وحلق العانة، ومس الطيب؛ لأنه سيصبح ذلك كله محرماً عليه بعد دخوله في الإحرام. مسألة: ورد حديث في الأضحية: (من أراد أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً حتى يضحي)، وبعض الناس ينوي الأضحية وهو لم يقلم أظافره، ولم يحلق شعره بعد، ثم يأتي في يوم الحج في اليوم الثامن وعنده التزام؛ لأنه يريد أن يضحي؛ فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً. وهاهنا سنة في أنه يقلم أظافره، والذي ذكره أهل العلم من المعاصرين كما ذكر سماحة المفتي العام: أنه يبقى على أصل ما أراد من الأضحية؛ لأنها في حقه سنة، لكن الأولى له أن يتنبه، ولو كان قد قصر وقلم أظافره قبل دخول اليوم الأول من الحج لأصبح ذلك كاملاً في حقه. -تكرار التلبية: عندما يلبي فيقول: لبيك اللهم حجاً أو عمرة، ويحسن بالحاج أن يكثر من التلبية منذ إحرامه إلى أن ينتهي من موطن التلبية عند رمي جمرة العقبة في يوم العيد.

محظورات الإحرام

محظورات الإحرام أولاً: تغطية الرأس، وهذا خاص بالرجال، وتغطية الرأس المقصود به: بمباشر وملامس، كأن يضع الطاقية أو شيئاً يغطي به رأسه، لكن هذا السقف ليس بغطاء، وكذا سقف السيارة والخيمة ليسا بغطاء أيضاً، وإلا كان ذلك مما يشق على الناس. ثانياً: لبس المخيط: وهو أيضاً الخاص بالرجال، والمقصود به: كل نوع من القماش يفصل على مقاس العضو ويخاط، لكن غير ذلك ليس كذلك. المعنى: أن الحزام الذي فيه خياطة هل هو أولاً مفصل على عضو معين؟ لا، الحذاء إذا كان فيه خياطة ليس داخلاً كذلك، إنما المقصود به الملابس. ولبس النقاب والقفازين خاص بالنساء، أي: لا تلبس المرأة القفازين ولا تنتقب، كما ورد بذلك الحديث الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم، ويجمع بينه وبين حديث عائشة: (كنا إذا مررنا بالرجال أسدلنا على وجوهنا) يعني: يكون لها غطاء لكنه لا يكون مثل النقاب الملاصق للوجه. ثانياً: حلق الشعر وقصه أو قطعه: وينبغي للإنسان أن ينتبه لذلك، وبعض الناس يكثر منه عادة نتف شعر لحيته أو رأسه، وفي الإحرام لابد أن ينتبه لهذا؛ لأنه إذا باشر ذلك بفعل مباشر منه؛ فإنه إذا قطع ثلاث شعرات وجبت عليه الفدية. أما إذا نام ووجد على مخدته شيئاً من الشعر فلا شيء عليه؛ لأنه لم يباشره بنفسه. رابعاً: تقليم الأظافر، ومس الطيب: وهنا مسألة: ما حكم ما يستخدم مما فيه طيب ظاهر؟ A ينبغي اجتنابه، مثل بعض أدوات التنظيف من الصابون وغيره التي تكون مطيبة بروائح عطرية واضحة فيستخدم غيرها؛ لأن من حكم الإحرام: أن يظهر الإنسان وهو أشعث أغبر قد تجرد من زينته أياماً معدودات، ويظهر تضرعه وافتقاره إلى الله سبحانه وتعالى. خامساً: قتل الصيد: والآن هذا قليل، لكن في السابق كان الناس وهم قادمون قد يرون الصيد ويحتاجونه. سادساً: الخطبة للزواج، وعقد النكاح، ومقدمات الجماع، والجماع، وهذه كلها حلقة واحدة متسلسلة.

كفارة من فعل شيئا من محظورات الإحرام

كفارة من فعل شيئاً من محظورات الإحرام بعض المحظورات فيها الكفارة صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، فهذه في تغطية الرأس، ومس الطيب، والأظافر، ونحو ذلك. ومنها ما يقابله قيمته، مثل قتل الصيد، بأن يدفع قيمته بما يقابله. ومنها ما يقع فيه فساد الحج، وهو أمر الجماع ونحوه. إذاً: لبس المخيط، وتغطية الرأس، وحلق الشعر، والطيب. هذه كلها الحاج مخير فيها في الفدية بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة. أما الصيد ففيه قيمة ما يقابله. أما عقد النكاح أو الخطبة فحرام ولا فدية فيه، والخلاف عند العلماء قائم: هل يصح هذا العقد أم ينبغي أن يجدد عقداً آخر غيره؟ وليس هذا موضوعنا. أما ما يلابسه الإنسان ويقارفه من أداء الشهوة أو من الأخذ بالشهوة مع أهله دون الإيلاج. فهذا إذا وقع به إنزال فعليه هدي بدنة، وإن لم ينزل فعليه دم شاة وهو مرتكب لمحرم؛ لأن الله عز وجل قال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، قالوا: والرفث هو الجماع ومقدماته من القول والفعل. أما الوطء ووقوع المرء في جماع مع أهله، فهذا على ضربين: إن كان قبل التحلل الأول، أي: قبل يوم العيد وقبل انتهائه من طواف الإفاضة، فهذا فيه أربعة أمور: 1 - بطل حجه وفسد. 2 - وعليه إكماله إلى نهايته. 3 - ويجب عليه القضاء. 4 - وتجب عليه الفدية شاة. وأما إن كان بعد التحلل الأول، فهذا فيه فدية بدنة، فإن لم يجد فعليهما -أي: الزوج والزوجة- صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعوا. يحرم مرة أخرى من التنعيم ليطوف منعماً؛ لأنه أفسد حجه، فيحرم مرة أخرى لغرض تجديد إحرامه، فإذاً ينتبه الإنسان إلى هذا.

أنواع النسك في الحج

أنواع النسك في الحج عندما يحرم الحاج فهو مخير بين أنواع من النسك في أداء فريضة الحج، هذه هي الأنواع الثلاثة المشهورة: النوع الأول: التمتع: وهو أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، ويؤدي عمرة كاملة، ويقول: لبيك عمرة، ثم يتحلل ويرجع حلالاً يلبس ثيابه، ويعاشر أهله؛ فإذا جاء يوم التروية أو اليوم التاسع أو اليوم السابع وأحرم بحج أصبحت عمرة وحجاً وبينهما تحلل وتمتع، وهذا يجب عليه الهدي في مقابل التمتع. وبعض أهل العلم يقولون: هذا أفضل النسك للآفاقي الذي يأتي من خارج المواقيت؛ لأنه سيأتي في وقت مبكر، ولابد أن يحرم من الميقات، وإذا بقي على إحرامه يشق عليه، فقالوا: وهذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء مع أصحابه، قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة، وليتحلل بها إلى الحج) فأحل من لم يكن ساق الهدي، وجاءوا بعمرة وتحللوا. النوع الثاني: القران: وهو أن يقرن بالحج عمرة، أو يحرم بالحج والعمرة معاً، يقول: لبيك اللهم حجاً وعمرة، وليس بينهما تحلل، بل يعتمر ويبقى في الحج، والحقيقة أن صفة العمل في نسك القران لا يختلف عن نسك الإفراد إلا في أمرين: النية وسوق الهدي ووجوبه؛ لأن القارن الأصل أنه ساق الهدي معه، والناس الآن لا يسوقون الهدي، لكن الذي منع بعض الصحابة من أن يعتمروا ويحلوا في حجة الوداع مع النبي عليه الصلاة والسلام: أنهم ساقوا الهدي، قال: من ساق الهدي يبقى على ما هو عليه، ويبقى قارناً بين حجه وعمرته، ومن لم يسق الهدي يجعلها عمرة ثم يتحلل. فبالنسبة للقران هو كالإفراد، ليس هناك اختلاف في الفعل؛ لكن في النية ووجوب الهدي. النوع الثالث: الإفراد: وهو أن يحرم بالحج وحده في أشهر الحج، ويقول: لبيك اللهم حجاً، وليس عليه هدي، وإذا أراد أن يعتمر بعد الحج فلا بأس، باعتبار أنه جاء من سفر بعيد حج حج إفراد وليس عليه هدي، ثم أراد أن يعتمر فلا بأس، ويخرج إلى التنعيم ويحرم ويعتمر، وقد وقع ذلك لـ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لما حاضت ثم ولم يستطع أن تعتمر قبل الحج، فحجت ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع أنا بحج، فأمر النبي عليه السلام عبد الرحمن بن أبي بكر أخاها فخرج بها إلى التنعيم، فاعتمرت وطافت وسعت رضي الله عنها). إذاً: هذه أنواع النسك الثلاثة. نحن حتى الآن لم نذكر من أركان الحج إلا ركن واحد وهو الإحرام، وفصلنا فيه؛ لأنه المدخل، وسيأتينا أيضاً ما يتعلق بالمواقيت المكانية والزمانية، من أين يحرم؟ ومتى يحرم؟

المواقيت

المواقيت المواقيت المكانية تحيط بمكة المكرمة من كل جانب، والبحر من جانب آخر، وأول هذه المواقيت: ذو الحليفة، والجحفة، وذات عرق وهي ميقات القادمين من وسط الجزيرة، وقرن المنازل، ويلملم للقادمين من اليمن وغيرها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)، فمن جاء وهو من أهل الشام ولكنه جاء من جهة اليمن، فميقاته حيث يمر من اليمن، ومن جاء من جهة المدينة ذو الحليفة إلخ. وبالنسبة للطائرات فالبموازاة، فإذا حاذوا هذا المكان أو المسافة المقاربة له أحرم الحاج من هذه المواقيت المكانية. أما المواقيت الزمانية فهي: شهر شوال، وشهر ذي القعدة، وأوائل شهر ذي الحجة حتى الدخول في النسك في يوم عرفة، وإلى آخر ليلة عرفة كما هو معلوم؛ لذلك هذه المواقيت متى عقد فيها نية الحج وأتى بعمرة وتحلل منها، أصبح داخلاً في أشهر الحج.

الطواف

الطواف لماذا بدأنا بذكر الطواف؟ لأننا لو أخذنا بالمتمتع فسوف يأتي بالعمرة ويبدأ بالطواف.

أنواع الطواف في الحج

أنواع الطواف في الحج الطواف الأول: طواف القدوم: وهذا لغير المتمتع، فهو يذهب إلى مكة في اليوم السابع أو الثامن، ثم وهو في طريقه إلى منى وإلى المشاعر، يطوف بالبيت سنة لقدومه، وليس هو من طواف الحج، وله أن يقدم سعي الحج إذا كان في اليوم الثامن على سبيل المثال، وإذا قدم سعي الحج فلا يسعى بعد ذلك في يوم العيد وذكرنا هذا؛ لأن الناس يفعلونه ويحتاجون إليه مع وجود الزحام. الطواف الثاني: طواف الإفاضة: وهو ركن من أركان الحج، ومن لم يأت به فلا حج له، أي: لا يكون حجه كاملاً، وبطل حجه. الطواف الثالث: طواف الوداع: وهو آخر ما يكون في الحج، قال عليه الصلاة والسلام: (ليكن آخر عهد الناس بالبيت الطواف)، فهو واجب عند المذاهب الثلاثة، وسنة عند المالكي.

مسائل في طوافل الوداع

مسائل في طوافل الوداع يسأل الناس: هل يصح أن نؤخر طواف الإفاضة ونجعله مع طواف الوداع؟ A نعم يجوز، مع التنبه لأمرين: الأول: أن ينوي طواف إفاضة وليس طواف وداع؛ لأن طواف الإفاضة هو الركن فيندرج فيه طواف الوداع؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ليكن آخر عهد الناس بالبيت الطواف)، فإن طفت الإفاضة أصبحت آخر عهدك بالبيت الطواف، فلا إشكال، لكن من نواه طواف وداع فلا يقع عن طواف الإفاضة؛ لأن طواف الإفاضة ركن طواف الوداع واجب. الثاني: أن يجعله آخر الأعمال، وبعض الناس يتعب -لكن هذا جزء من الفريضة- فيذهب في أثناء أيام التشريق ويقول: أنا أطوف إفاضة ووداع، ثم يرجع ويبيت بمنى، وهذا لا يصلح، فقد أتى بطواف طواف إفاضة وما زال طواف الوداع واجباً عليه.

شروط الطواف

شروط الطواف أولاً: النية: لابد أن ينوي الطواف ويعينه: هل هو طواف قدوم أم وداع؟ دون أن يعلن، لكن نيته مطلوبة حتى يحدد العبادة، ويعرف ما يؤدي أهو ركن أم واجب أم غير ذلك؟ ثانياً: الطهارة: وهذا الشرط هو الغالب من أقوال الفقهاء، وإن كان بعضهم قال بغير ذلك؛ لعدم ثبوت الدليل القاطع فيه، ولكن أقوال الفقهاء في جملتها تقول وتدل على أن الطهارة شرط في الطواف. ثالثاً: الطواف داخل المسجد وحول البيت: أي: حول الكعبة، ويكون في إطار المسجد ما دامت الصفوف ممتدة، لكن من يطوف -مثلاً- على بعد كيلو بالسيارة حول الحرم، فلا يصح؛ لأن الطواف طواف حول البيت، وليس مجرد طواف عن بعد. رابعاً: أن يكون البيت عن يساره حال البدء بالطواف: وقد يقول بعض الناس: هل يوجد أحد يطوف على العكس؟ نعم، ونرى أحياناً من صور الجهل أموراً كثيرة قد لا يظهر ذلك في الطواف لكنه يظهر في السعي؛ لأن الناس ذاهبون وقادمون في السعي، فإذا دخل من جهة المروة فقد يبدأ من هناك؛ لأنه لا يعرف شيئاً. خامساً: الطواف سبعة أشواط كاملة: وبعض الناس مع الزحام يخرج قبل أن ينتهي الشوط الأخير، فهذه العبادات توقيفية، ولو صلى أحدكم العصر وجاء بعد آخر ركعة وسلم لم تتم صلاته، فلابد أن يتم العبادة إلى آخرها. سادساً: الموالاة بين الأشواط: بألا يفصل بين شوط وشوط بوقت طويل، لكن إن جاءت الصلاة فصلى أو خرج للطهارة ورجع، أو تعب قليلاً وارتاح، فلا بأس حينئذٍ، لكن إذا طال الفصل كمن يطوف شوطين أو ثلاثة ثم لما تعب قال: أكمل يوم غد، لا يصح منه، ويبدأ من جديد إذا كان فعل مثل ذلك.

سنن الطواف

سنن الطواف أولاً: الرمل: وهو تقارب الخطا والمشي في الأشواط الثلاثة الأولى بحسب ما يتيسر، وفي الحج لا تستطيع أن تمشي ببطء أصلاً؛ لأن الزحام شديد، لكن إن تيسر فلا بأس؛ لما ثبت في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثانياً: الاضطباع: وهو أن يجعل جزءاً من ردائه تحت إبطه من تحت ذراعه الأيمن فيجعله على عاتقه الأيسر، وهذا مشروع فقط في طواف القدوم، وأيضاً بما وردت به سنة النبي عليه الصلاة والسلام. ثالثاً: تقبيل الحجر الأسود لمن استطاع، وفي الحج قد لا تستطيع أن ترى الحجر الأسود فضلاً عن أن تقبله، فلا تزاحم وتضارب حتى تصل إليه كما يصنع بعض الحجاج. رابعاً: الدعاء أثناء الطواف، دعاء وذكراً وتلاوة القرآن كله مشروع؛ لأنها عبادة ينبغي أن تشغل بذلك. خامساً: صلاة ركعتين بعد الفراغ من الطواف خلف المقام: وهي سنة من السنن، وقد وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام، ووردت القراءة فيها ونحو ذلك.

بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في الطواف

بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في الطواف - منها: ابتداء الطواف من قبل الحِجْر، وهي إحدى حالتين: 1 - إما أن يبدأ من بعده ولا ينتبه أنه بدأ من غير المكان الصحيح. 2 - وإما أن يبالغ في الاحتياط، ويبدأ من الركن اليماني ويقول: احتياطاً. 3 - والصواب: أنك لو جئت في أثناء الزحام ودخلت وأخذت نصف شوط فلا تحسبه حتى تأتي إلى مكان الحجر الأسود، ثم تشرع في الطواف. - ومنها: الرمل في جميع الأشواط السبعة، وبعض الناس يهرول طوال الوقت، وهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. - ومنها: استلام جميع الأركان، وجدران الكعبة، والتمسح بها، وهذا لم يثبت من فعل النبي عليه الصلاة والسلام. - ومنها: التكبير: وهو ثابت عند الحجر الأسود، والركن اليماني، وإن تيسر له مسحه وكبر، وإلا فلا تكبير عنده، وإن كان قد ورد عن معاوية -وهذه الرواية ليست مشهورة ولا معتبرة عند العلماء-: أنه قال: ليس شيء من أركان البيت مهجوراً، يعني: عندها كلها تكبير، ونحو ذلك. - ومنها: الوقوف عند خط بداية الطواف وقتاً طويلاً، ويلتفت ويكبر؛ فيسبب الزحام، والمسألة أيسر من ذلك، ودين الله عز وجل فيه سعة وفسحة. كبر وأنت سائر عند الموازاة والمحاذاة وانتهى الأمر إن شاء الله. - ومنها: تخصيص الأشواط بأدعية خاصة ليست ثابتة، لكن من أراد أن يستصحب كتاباً للذكر حتى يذكر الأدعية التي لا يحفظها من أذكار اليوم والليلة فلا بأس، لكن مثل: دعاء الشوط الأول ودعاء الشوط الثاني. فهذا لم يثبت، ثم في أثناء الزحام ينتهي الناس من الأشواط السبعة كلها وهو لا يزال في الشوط الأول؛ لأن الوقت ينتهي وهو لم ينته من الشوط الأول. ومنها: صلاة الركعتين عند المقام وهذه سنة، والأيسر لك وللناس أن تصليها في أوقات الزحام حيث كان من البيت، أما مزاحمة الناس ودفعهم ومضايقتهم والتوقف وقطع تتابع الطواف لوقت طويل فقد أشرنا إليه من قبل.

السعي بين الصفا والمروة

السعي بين الصفا والمروة السعي متعلق بالعمرة بالنسبة للمتمتع، وإن كان ركناً من أركان الحج للقارن وللمفرد كما سنذكره. وشروط السعي: أولاً: الترتيب بينه وبين الطواف على ما قاله أكثر الفقهاء: أن السعي لابد أن يكون قبله طواف صحيح، وإن كان بعض أهل العلم رخص عند الزحام والشدة لبعض ذوي الأعذار من النساء وغيرهم أنهم لو سعوا من غير أن يكون الطواف سابقاً صح، لكن المشهور هو ما ذكرناه. ثانياً: الموالاة بين الأشواط أيضاً في السعي، فلا يكون هناك فصل طويل بين الأشواط. والسعي سبعة أشواط، ومن الناس من يسعى أربعة عشر شوطاً، على أن الذهاب والإياب شوط واحد. ثالثاً: الخبب، أي: السرعة فيما بين الميلين الأخضرين للرجال دون النساء إذا استطاع. رابعاً: الوقوف على الصفا والمروة، والمسنون لمن استطاع أن يقف ويتوجه إلى البيت الحرام، وأن يقول دعاء الأثر المذكور: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده؛ صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بما شاء الله له أن يدعو، ولا يتعجل إن استطاع ولم يكن ثمة زحام أو مشقة، وبقدر الاستطاعة يذكر الذكر وشيئاً من الدعاء.

تنبيهات وأخطاء في السعي

تنبيهات وأخطاء في السعي 1 - البدء بالسعي من المروة؛ لأن الناس يكونون في زحام، والذي يدخل من جهة المروة من الحجاج وهو جاهل يظن أنه يبدأ من أي مكان، فيأخذ ويبدأ منها فيكون الشوط الأول ليس له، فيكون قد قصر وأتى بستة أشواط، فيحتاج أن يأتي بالشوط السابع. 2 - حساب كل شوطين بشوط واحد. 3 - الإسراع في السعي من الصفا إلى المروة، ومن المروة إلى الصفا، وإنما يسرع فقط بين الميلين قليلاً. 4 - إسراع المرأة في المشي بين الصفا والمروة لا يصح لها. 5 - تخصيص كل شوط بدعاء معين. هذا بالنسبة للطواف والسعي بالنسبة للمتمتع، والسعي عندنا ركن من أركان الحج، ويأتينا أيضاً في يوم العيد، كما سنرى بمشيئة الله تعالى.

أعمال اليوم الثامن في الحج

أعمال اليوم الثامن في الحج إذا كان اليوم الثامن من الحج وهو يوم التروية يحرم المتمتع والمفرد، وأما القارن فهو باق على إحرامه حتى يشرع في الحج، واليوم الثامن يسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يستقون فيه الماء، ويجهزون الماء لليوم الثامن وللأيام التي بعده. وأما في يوم التروية فليس هناك عمل إلا الإقامة بمنى، وأداء الصلوات الخمس في أوقاتها بدون جمع مع القصر. هذا هو عمل يوم التروية، وحكمه: أنه سنة، أي: أن من لم يذهب إلى منى في اليوم الثامن يوم التروية وذهب إلى عرفة مباشرة فحجه صحيح، وليس عليه أي فدية؛ لأنه لم يترك واجباً بل هو سنة. ولكننا لا نحرص على اتباع واقتفاء سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة في هذه الفريضة التي فعلها في العمر مرة واحدة، وقال: (خذوا عني مناسككم)؟

أخطاء الناس في اليوم الثامن

أخطاء الناس في اليوم الثامن - منها: عدم الذهاب إلى منى، وترك المبيت فيها ليلة عرفات مع القدرة، وبعض الناس يقول: نمشي في الليل قبل الزحام حتى نصل عرفة مبكراً، لا يا أخي! أنت جئت في العمر مرة واحدة لتحج فلماذا تختصر وتختزل وهي أيام؛ اجتهد فيها، وتحرى الطاعة، وتحمل ما قد يكون فيها من المشقة. - إتمام الصلاة في منى: بعض الناس يتمون الصلاة، وهذا غير صحيح بل حتى من كان من أهل مكة فإنه يقصر لا لأنها مسافة قصر ولكن لأن هذا القصر للنسك؛ لما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام. - إضاعة الأوقات واللهو عن ذكر الله في هذا اليوم وفي غيره: بعض الناس يجلسون ويشربون الدخان ويتكلمون كأنهم في مقهى وليسوا في منى، ونحن في بلاد وأماكن لها حرمتها، وفي عبادة وفريضة له عظمتها، فكيف نضيع الوقت ونغفل عن الأمر الذي جئنا لأجله؟! - ترك الجهر بالتلبية: وهذا للأسف عم عند الحجاج، وتذهب إلى منى يوم الثامن فلا تكاد تسمع ملبياً، والناس يمشون ساكتين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الحج العج والثج)، والعج هو: رفع الصوت بالتلبية، والثج هو: كثرة الذبح، وإنهار الدم في الأضاحي، وكان المسلمون إذا أحرموا كبروا، فإذا صعدوا شرفاً كبروا، وإذا هبطوا كبروا، حتى تكون المناسك كلها تضج بالتلبية لله عز وجل، والتلبية شعار الحج، فينبغي عدم تركها. - جمع الصلوات يوم التروية: أن يجمع الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، والسنة القصر بدون جمع.

أعمال اليوم التاسع في الحج

أعمال اليوم التاسع في الحج اليوم التاسع أعظم أيام الحج في فرضيته، وهنا ننبه إلى أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج وقد مر بنا الإحرام والوقوف بعرفة، ثم طواف الإفاضة والسعي، وهذه أربعة أركان من أتى بها وكان منه فيها تقصير قد يجبر بدم إن كان واجباً، أو يعفى عنه إن كان سنة.

فضل يوم عرفة

فضل يوم عرفة أما فضل يوم عرفة فمعلوم، وهو مما أقسم الله سبحانه وتعالى به في قوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1 - 3]، قالوا: الوتر هو يوم عرفة، والشفع يوم النحر، كما ورد بذلك حديث جابر رضي الله عنه عند الإمام أحمد والطبراني والبزار والحاكم وصححه، ويوم عرفة أخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أفضل الأيام، وأخبر أن صيامه يكفر عاماً قبله، وفيه فضائل عظيمة، منها: مباهاة الله عز وجل لملائكته بأهل الموقف، ومنها: ما ثبت في الحديث أيضاً: من أن الله عز وجل يغفر لأهل الموقف، إلى نصوص غير ذلك كثيرة.

معنى الوقوف بعرفة

معنى الوقوف بعرفة ليس له معنى معين، فلو كان هناك مريض ممدد على سريره جاز، إذ ليس معنى الوقوف بعرفة أن تقف على رجليك، ولكن المقصود به أن تكون بعرفة لقصد النسك والوقوف في هذا اليوم وفي هذا المكان لأداء ركن من أركان الحج، وقد وقف النبي عليه الصلاة والسلام على ناقته، ووقف في أسفل الجبل عند الصخرات، وقال: (وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف)، فحيث ما كان الإنسان يقف، ويكون داخل حدود عرفة، ويجتهد في الذكر والدعاء والعبادة وتلاوة القرآن، ولا يضيع لحظة ولا ثانية، إذ بعض الناس يضيعون الوقت في هذا اليوم وهو ساعات معدودة جداً. أقل من نصف يوم؛ لأن من السنة أن يبقى في وادي نمرة قبل عرفات؛ والنبي صلى الله عليه وسلم نزل به، فلما كان بعد الزوال دخل إلى عرفات، فكان أول فعل فعله صلاة الظهر والعصر جمعاً وتقديماً، وخطب بالناس، فإذاً هو سيدخل بعد الظهر تقريباً أو في وقت الظهر إلى المغرب، فهل في هذا الوقت القصير سيضيع الوقت، وبعض الناس يقول: نرتاح قليلاً وننام، ويفكرون في الطعام والغداء، وهل جاء الطعام أم لا؟ وهل جاء الشراب؟ وهل هو بارد أو حار؟ سبحان الله! إنك في هذه الساعات لابد أن تنسى كل شيء، ولا يبقى لك هم إلا ما جئت لأجله من التضرع والدعاء والعبادة والرغبة الصادقة في أن تعمك رحمة الله سبحانه وتعالى ومغفرته.

بعض التنبيهات والأخطاء في يوم عرفة

بعض التنبيهات والأخطاء في يوم عرفة فصعود الجبل تعبداً: بعض الناس يعتقد أنه إذا لم يصعد الجبل لم يقف بعرفات، وهذا خطأ وليس عليه دليل، بل بعضهم يستشهدون بنصوص موضوعة ليس لها أصل في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الجبل لا تصح له تسمية بأنه جبل الرحمة، وإنما هو كلام شاع بين الناس، وللجبل اسم: هو جبل آل، أو اللاني، فله مختلف جداً، لكن الناس أشاعوا فيه هذا الاسم، وليس هناك شيء متعلق بالجبل. - بعض الناس عندهم اعتقادات كثيرة: لابد أن يأخذوا بعض الشجر الموجود هناك إلى أشياء عجيبة جداً ليس لها وجود في تشريع وهدي وسنة النبي عليه الصلاة والسلام. - الوقوف خارج عرفة: بعض الناس لا ينتبه للحدود، ويبقى خارج عرفة، وهو يظن أنه في عرفة، وبعض الناس يبحث عن مكان مظلل ليبقى فيه، ومن ذلك مسجد نمرة، ومسجد نمرة مقدمته الأولى -نحو ثلثه أو أكثر -ليست داخل عرفة، وبعض الناس يدخل المسجد ويأتي مبكراً ويبقى في الصفوف الأولى في المكيف وفي الظلال ويبقى إلى غروب الشمس وهو خارج عرفة، ولم يدخل عرفة أصلاً، فعلى الناس أن يتنبهوا إلى هذا ويحذروا منه. - انشغال الناس بالكلام، وإهمالهم للدعاء والذكر. - الدفع من عرفات قبل غروب الشمس: والصحيح أن من جاء إلى عرفات قبل غروب الشمس لا يخرج منها إلا بعد غروبها، أما من كان له عذر وما استطاع أن يأتي فجاء في الليل فالصحيح أن حجه صحيح إن شاء الله. - ارتكاب المحرمات والمعاصي في عرفات وفي تلك المواطن، في الصعيد العظيم، في الاجتماع الحاشد، وتجد بعض الناس يفعلون ويقولون أموراً عجيبة. في يوم عرفة يبقى الذكر والدعاء، حتى إذا انتهى من غروب الشمس دفع إلى مزدلفة، وليس في مزدلفة إلا المبيت بها، والمبيت هو النوم بالليل، وهو واجب عند المذاهب الثلاثة، وسنة عند أبي حنيفة، والمبيت بمزدلفة واجب، ومن تركه فعليه دم، ورخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء والضعفة وللذين يخدمون الناس في السقاية وكل ما يحتاجون إليه في حجهم؛ فرخص لهم في أن يدفعوا من مزدلفة بعد منتصف الليل؛ لأن من أقام في مكان أكثر من نصف الليل أصبح يعرف بأنه بات فيه، أي: إذا مضى أكثر الليل في مكان، فيقال: بات في هذا المكان، لكن من لم يكن عاجزاً، وليس عنده امرأة، وليست لديه حاجة، فيبقى إلى أن يصلي الفجر ويسفر الصبح، ويذكر الله عز وجل عند المشعر الحرام أو في مزدلفة، ويكثر من الدعاء حتى يسفر الصبح، يعني: حتى يبدأ النور يطلع، ثم يذهب إلى منى يوم العيد. - أما جمع الحصى فليس شرطاً أن يجمع الحصى مرة واحدة للأيام كلها، فإن جمع فلا بأس، لكن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع حصيات رمى جمرة العقبة، فمن تيسر له أخذ الجمرات كلها لا بأس، ومن لم يتيسر له ذلك فيأخذها من منى في طريقه. والحصاة تكون صغيرة بين الحمصة والبندقة، وبعض الناس يبالغون في التكبير، والنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى الغلو في هذا، وقال لما جمع له الحصى: (بمثل هذا، وإياكم والغلو في الدين)، لماذا؟ لأن بعض الناس يتشددون فيما لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.

أخطاء الحاج في مزدلفة

أخطاء الحاج في مزدلفة - الإسراع وقت الدفع إلى مزدلفة من عرفات، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (عليكم السكينة، عليكم السكينة، فإذا وجد فرجة نصّ)، يعني: أسرع قليلاً، فالأمر الذي يقع فيه كثير من الناس: أنهم أول ما يصلون إلى مزدلفة يبدءون بجمع الحصى، والذي ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن أول فعل فعله عند وصوله: أداء صلاة المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، فلا ينبغي تقديم شيء على الصلاة، حتى أنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يضع رحله وقبل أن ينزلوا نزولاً كاملاً أذنوا وصلوا، فينبغي للإنسان أن يجتهد. - الاستعجال بالصلاة من غير تحرٍ للقبلة، وبعض الناس في مزدلفة يصلون -والعياذ بالله- إلى قبلات مختلفة من دون تحرٍّ لذلك، مع أن اللوحات الإرشادية موجودة ما بين مزدلفة ومكة. - الاعتقاد بوجوب التقاط الحصيات كلها: وهذا ليس صحيحاً. - أداء صلاة الفجر قبل دخول وقتها، وترى من ذلك عجائب، فترى الفجر يمتد من نصف الليل، وبعض الناس يستيقظ من منتصف الليل فإذا رأى من يصلي صلى دون أن يتحرى هل دخل الوقت أو لا؟ فيقع الخلل من الناس في هذا الأمر بشكل عجيب. - الانشغال بالصلاة، والقيام ليلة المزدلفة، لما ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة مزدلفة لم يقم الليل، ولم يصل بالليل صلاة التهجد، أو صلاة النفل والتطوع، باستثناء الوتر، والكمال في اتباع هديه صلى الله عليه وسلم. ولو أردنا أن نلتمس حكمة عدم التطوع في تلك الليلة: نم فإن وراءك غداً يوم العيد؛ فيه رمي وحلق ونحر وطواف وسعي وعمل حتى تتقوى على طاعة الله وعبادة الله، فهذا من حكمة فعله عليه الصلاة والسلام. - تأخير الدفع من مزدلفة: بعض الناس يبقى إلى الساعة العاشرة والحادية عشرة ثم يخرج، ولو استطاع أن يتابع السنة فهو الأوفق له بإذن الله عز وجل.

أعمال اليوم العاشر في الحج

أعمال اليوم العاشر في الحج اليوم العاشر هو اليوم الحافل بأعمال الحج: يوم النحر يوم العيد. أولها: رمي جمرة العقبة. وهذا من حيث الترتيب، يبدأ برمي جمرة العقبة. والسؤال هو: هل النساء والضعفة الذين تقدموا وخرجوا بعد منتصف الليل، هل يجوز لهم الرمي قبل الفجر؟ الصحيح أنه يجوز لهم ذلك، وقد ثبت ذلك من فعل أسماء رضي الله عنها، وكذلك وردت روايات في هذا صحيحة من فعل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر فيه سعة إن شاء الله. أما بالنسبة للذي يبيت بمزدلفة إلى الصبح: فله من الوقت متسع من فجر يوم العيد إلى غروب الشمس وما بعده، فيرمي متى شاء، والأمر في هذا واسع. ثانياً: الهدي أو الأضحية فمن كان عليه هدي كالمتمتع، أو كان يريد أن يضحي تطوعاً فمن يوم النحر تبدأ مشروعيته، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء بمائة من الإبل ونحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين ناقة، ثم أعطى علياً فأكمل ذبحها، وهذا من سنته عليه الصلاة والسلام. ثالثها: الحلق أو التقصير وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: والمقصرين)، فهم في الدرجة الرابعة. ومن حكم هذا الحلق: أنك تقول: كل شيء من الزينة والبهاء أتركه وأتخلى عنه ابتغاء مرضاة الله، واتباعاً لأمره، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. رابعاً: طواف الإفاضة وهو ركن، فهذا الذي قد طاف وسعى مع عمرة -المتمتع- عليه طواف وسعي آخر، والذي طاف وسعى مع القدوم -المفرد- ليس عليه سعي. طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، ويقع في يوم النحر، لكنه ممتد إلى آخر أيام التشريق، ولمن له عذر كامرأة حائض إلى آخر أيام الحج، أو مرض شخص ولا يستطيع أن يؤدي الطواف حتى يبرأ فيطوف؛ لأنه ركن لا يترك بحال من الأحوال، لذلك الأصل فيه أن يبادر لأدائه في يوم النحر إن استطاع، أو في أيام التشريق؛ لأنه يترتب على فعله التحلل الأكبر. سعي الحج: إذا طاف سعى معه سعي الحج، وهو ركن أيضاً؛ فعندنا: الإحرام، الوقوف بعرفة، ثم يطوف الإفاضة ويسعى؛ فيكون قد أتم الأركان كلها. إذاً: طواف الإفاضة إن أداه في وقته بقي عليه طواف الوداع، والسعي إن كان قد قدمه فلا سعي عليه، وإن لم يقدمه فهذا مكانه الصحيح، أو مكانه الذي ثبت فعل النبي عليه الصلاة والسلام به. وهذه الأعمال إن فعل ثلاثة من أربعة، أو اثنين من ثلاثة بالنسبة لمن ليس عليه هدي: تحلل التحلل الأول، فمن كان متمتعاً: إن رمى وحلق وذبح تحلل التحلل الأول، أو إن رمى وطاف وحلق تحلل ثلاثة من الأربعة، ومن ليس عليه هدي: يتحلل التحلل الأول. ما هو التحلل الأول؟ بعده كل محظورات الإحرام تصبح حلالاً ما عدا ما يتعلق بالنساء، فيلبس ثوبه، ويتطيب، ويلبس المخيط، ويغطي رأسه، ويقلم أظافره، ويفعل كل المحظورات ما عدا عقد النكاح أو الجماع أو مقدماته، وإذا أدى الأمر الرابع وهو طواف الإفاضة أو غيره أصبح حلالاً، وبعض الناس لا ينتبه لذلك، ويظن أنه تحلل من كل شيء، ولا يعلم أنه ما لم يتم هذه الأعمال يبقى تحلله ناقصاً، ولذلك بعض الرجال تكون امرأته تأخرت في طواف الإفاضة لعذر وتنزل مثلاً إلى جدة، فلا ينتبه ويعاشر زوجته وهي لم تتم طواف الإفاضة وليست حلالاً ولا يجوز لها ذلك، أو قد يكون هو أيضاً لم يطف؛ لأنه انشغل بها أو نحو ذلك. فينتبه الناس لهذا ويهتمون به ويحرصون عليه.

رمي جمرة العقبة

رمي جمرة العقبة هي أول الأعمال؛ فالسنة أن يجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، ويرمي بسبع حصيات جمرة العقبة، وهذا من الواجبات، ومن تركه نهائياً فعليه دم، لكن الرمي كله محله أيام التشريق، فمن فاته رمي جمرة العقبة فالصحيح أنه يجوز له أن يقضيه في اليوم الثاني أو الثالث. أما من فاته رمي الأيام كلها؛ لأنه تعب أو مرض فيجوز له أن يرمي الأيام الثلاثة كلها في آخر يوم، فيرمي ويقضي عما سبق، وهذا من السعة في دين الله عز وجل. وأما وقتها فيبدأ من منتصف الليل ويستمر إلى الغروب. تنبيهات وأخطاء: الاعتقاد أنه يرمي الشيطان، ويأتي بالأحذية ونحوها ويقذفها في الحوض وهذا ليس من دين الله عز وجل في شيء. أيضاً: الرمي بشدة، والصراخ، والبعد عن السكينة. وهذه عبادة، صحيح أنها رمي حجار لكنها عبادة، ولها أصل، ولها قصة معروفة في سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام. - التكبير: لأنه عندما يرمي يعلم أنها عبادة، والتكبير فيها مثل التكبير في الصلاة، وبما أنها عبادة وطاعة فلابد أن يستحضر فيها القلب، وأن تكون فيها سكينة وخشوع، ولذلك فإن من السنة أن يدعو بعدها. - غسل حصى الجمار: لم يثبت هذا من فعل النبي عليه الصلاة والسلام. رميها دفعة واحدة بداعي وجود الزحام، وهذا لا يصح، ويعتبر رمياً لحصاة واحدة، وعليه أن يكمل بعد ذلك ستاً؛ لأنه لابد من الرمي، وبعض الناس يدخل إلى قلب الحوض ويضعها، وهذا لا يصح، ولابد من الرمي وهو كاسمه، وأن يضعها ويحرص على أن تكون في حوض المرمى وليس في الشاخص المبني، هذه أيضاً مسألة مهمة، وهي الرمي داخل الحوض. - التوكيل في الرمي لمن لا عذر لهم: وبعض الناس يقول: أنا زوجتي وكلتني، وهي شابة في الثلاثين، وربما كانت أقوى من نصف الحجاج، لماذا يا أخي توكل؟ هذه عبادة، ولا تحتاج للتوكيل، بل تتأخر في الوقت وترمي بعد المغرب، الآن الوقت فيه سعة، وللفتوى المعروفة التي قال بها كل العلماء، ترمي أنت في الوقت المناسب، وتتفرغ في وقت المساء لتكون مع أهلك وزوجك أو أمك، لكن إذا كانت المرأة عجوزاً أو الرجل كبيراً في السن لا يقوى على المشي فلا بأس بأن يوكل، لكن بعض النساء توكل رغم قدرتها، وهذا لا يتناسب مع الحرص على العبادة. - توكيل غير المحرم: مثل سائق أو من ليس حاجاً فتوكيله بالرمي لا يصلح، فينبغي أن ننتبه.

الأضحية والهدي للحاج

الأضحية والهدي للحاج الأضحية هي العمل الثاني من أعمال يوم النحر، وليست واجبة، وإن ضحى يأخذ ثلثاً لنفسه، وثلثاً يهديه، وثلثاً يتصدق به. هذا السنة، فإن تصدق به كله كما قد يحصل الآن بأن توكل جمعية خيرية فتذبح لك الأضحية فهو جائز. وأيضاً الهدي بالنسبة للمتمتع: وهو شبيه بالأضحية، أما الفدية التي تكون ناشئة عن خطأ من الأخطاء، أو ترك واجب من الواجبات، أو ارتكاب محظور من المحظورات فهذه كلها لفقراء الحرم، والآن الفتوى توسعت بأن يعطى فقراء الحرم، وما فاض يوزع للمسلمين في البقاع المختلفة.

الحلق والتقصير

الحلق والتقصير الحلق: أن يحلق كل رأسه، ويسن للحاج أن يبتدئ باليمين، ويكون الحلق بالموسى حتى يكون هذا هو الحلق المقصود والمذكور في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. التقصير: عليه أن يعمم بالتقصير سائر الرأس ما استطاع، ويقولون: يأخذ بقدر أنملة الأصبع، يعني: قدراً قليلاً، لكن لا يأخذ من جهة واحدة فقط، بل يعمم رأسه أو يحلق الحلاقة العادية التي تقصر الشعر كله، أما المرأة فإنها تأخذ جزءاً من شعرها أو من ظفيرتها، ويغنيها ذلك عن أن تأخذ من سائر شعرها، ولا تحتاج إلى هذا، وليس مشروعاً في حقها.

طواف الإفاضة

طواف الإفاضة طواف الإفاضة ركن من الأركان، وسعي الحج أيضاً ركن من الأركان، حتى يكمل أركان الحج كلها. هذه الأعمال الأصل فيها أنها أعمال يوم النحر، والنبي عليه الصلاة والسلام ما سئل عن شيء في هذا اليوم قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج)، أي: أن الترتيب ليس مقصوداً، وهذا من رحمة الله، إذ لو كان الترتيب مقصوداً لحصل من ذلك مشقة عظيمة، فكل الناس لابد أن يرموا سوياً، ويطوفوا سوياً، لكن الآن توزع الناس على مدى أربع وعشرين ساعة: يرمون، ويطوفون، والذبح لا ينقطع، وهذه من سعة دين الله عز وجل ورحمته بعباده. أما السعي فإنه ركن من الأركان.

أعمال أيام التشريق

أعمال أيام التشريق بعد يوم العيد عندنا أيام التشريق، وهي اثنان أو ثلاثة، اثنان بعد العاشر، الحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر لمن بقي، لكن بعض الناس مع أعمال يوم النحر يظنون أن هذا يوم من أيام التشريق ويبقى اليوم الحادي عشر ويظنون أنه انتهى. ما هي أعمال أيام التشريق؟ عملان اثنان لا ثالث لهما: المبيت بمنى، ورمي الجمار الثلاث في كل يوم.

المبيت بمنى

المبيت بمنى بعض الناس ليس عنده مكان يبقى فيه في منى إلى ما بعد منتصف الليل فيذهب إلى مكة حيث سكنه أو أهله فلا بأس، لكن إن استطاع أن يبقى ويكون مع الحجاج فهو الأفضل، وحتى يشعر أنه في عبادة؛ لأنه دائماً يأخذ الرخص ولا يستحضر معاني التعبد وأداء الفريضة كما ينبغي.

رمي الجمرات

رمي الجمرات يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى. أما إذا كان عنده قضاء فيرمي هذه الثلاث، ثم يعود ويرميها مرة أخرى، وهذا الأتم، وأجاز بعض أهل العلم من المعاصرين، أنه إذا احتاج أن يرمي الثلاث في اليومين للصغرى ثم للوسطى ثم للكبرى فإن شاء الله لا حرج في ذلك، لكن المستطيع يرميها على الترتيب.

سبب تسمية أيام التشريق

سبب تسمية أيام التشريق لماذا سميت أيام التشريق بهذا الاسم؟ لأنهم كانوا يأخذون اللحم فيجعلونه شرقاً، يعني: قطعاً صغيرة ثم يجفف ليؤكل على مدى الأيام الثلاثة دون أن يطرأ عليه الفساد، لحاجة الناس، وعدم وجود ثلاجات؛ فسميت لذلك أيام التشريق. الأحكام في أيام التشريق: المبيت بمنى واجب، ومن تركه فعليه دم، الرمي للجمار الثلاث في هذه الأيام واجب، ومن تركه فعليه دم، هذه هي الأحكام المتعلقة بهذه الأيام.

ملخص أعمال الحج

ملخص أعمال الحج أولاً: من جاء متمتعاً يطوف ويسعى، أو جاء مفرداً ويريد أن يقدم سعي الحج فيطوف معه طواف القدوم. ثانياً: ينتقل إلى المبيت بمنى في اليوم الثامن، وهو سنة. ثالثاً: ينتقل منها إلى الوقوف بعرفة، وهو ركن. رابعاً: المبيت بمزدلفة وهو واجب إلى الفجر، ثم ينتقل إلى منى لرمي جمرة العقبة، ولأداء الأعمال التي ذكرناها، ومنها: الذبح والرمي، ثم طواف الإفاضة وسعي الحج. خامساً: رمي الجمار في أيام التشريق. سادساً: طواف الوداع، وهو من واجبات الحج، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليكن آخر عهد الناس بالبيت الطواف). وهنا مسألة مهمة تتعلق بالوقوف بعرفة: فالحاج إن لم يتمكن من الوقوف بعرفة إلا في الليل صح ذلك، ولو أدرك عرفة قبل الفجر ولو بقليل صح حجه إن شاء الله تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

من يجب عليه الإحرام

من يجب عليه الإحرام Q رجل له زوجة تأتي إلى أهله، يعني: عندهم إقامة لكنهم في بلده، وسوف يأتون لتجديد الإقامة، وإن تيسر الحج سوف يذهبون فكيف يحرم؟ A من يجب عليه الإحرام من الميقات هو الجازم بنية النسك حجاً أو عمرة، أما القادم لتجديد الإقامة أو لزيارة شخص، أو لعمل، أو لعلاج، وهو لا يدري هل سيحج أو لا يحج، أو قد يتيسر الأمر أو لا يتيسر؛ فإن تيسر له وعقد العزم والنية وهو داخل المواقيت فيحرم حيث هو ولا شيء عليه، وهو أعلم بنيته: هل هو قادم للحج أو لا؟ لكن من له بيت هنا مثل حال هؤلاء الناس: هذه المرأة زوجها هنا، وهي مقيمة، وهو إذا عاد فإنه يعود إلى بيته وإلى بلد له فيها إقامة، فهو عائد إلى إقامته، وليس هو من الآفاقيين، فيصح إن شاء الله تعالى أن تأتي هذه المرأة أو الرجل إذا كانت زوجته هنا أو نحو ذلك فيأتي إلى إقامته، ولا شيء عليه إن شاء الله.

حكم العمرة للمتمتع أيام الحج

حكم العمرة للمتمتع أيام الحج Q المتمتع من أهل جدة هل يصح له أن يأتي بعمرة في أيام الحج، ثم يرجع إلى جدة ويتحلل؟ A إن شاء الله لا بأس بذلك، وفيه خلاف، لكن ما دام دون المواقيت -إن شاء الله- فليس فيه شيء.

حكم إعطاء المرأة مهرها للرجل ليحج عن نفسه

حكم إعطاء المرأة مهرها للرجل ليحج عن نفسه Q امرأة ليس لها مال إلا مهرها، فهل يجوز أن تعطي المهر لزوجها ليقوم بالحج عن نفسه؟ A هذا أمر ليس مطلوباً على سبيل الوجوب. أولاً: الله عز وجل يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، والرسول عليه الصلاة والسلام فسر الاستطاعة فقال: (الزاد والراحلة)، فمن لم يكن مستطيعاً فليس عليه أن يذهب فيقترض، وهذه المرأة إن أعطت زوجها بطيب نفس منها ليحج عن نفسه فلا بأس، لكنها هي أيضاً يجب عليها الحج، إن قالت: أعطيه فيحج وهو إن شاء الله يكتسب ويعطيني مرة أخرى لا بأس، لكن للوجوب لا يجب مثل هذا على أحد.

حكم تأخير طواف الإفاضة إلى الوداع

حكم تأخير طواف الإفاضة إلى الوداع Q أخرت طواف الإفاضة مع الوداع ولكن بنية طواف الإفاضة والوداع معاً، هل يصح الحج؟ A نعم يصح؛ لأنك نويت طواف الإفاضة، وطبيعي أنك ستكون مستحضراً أنه طواف الوداع، والتحذير الذي ذكرته متعلق بمن ينوي طواف وداع دون أن يستحضر طواف الإفاضة؛ لأنه إذا أخر فهو ينتبه لطواف الوداع وينسى أحياناً طواف الإفاضة.

حكم تأخير طواف الإفاضة إلى آخر أيام التشريق

حكم تأخير طواف الإفاضة إلى آخر أيام التشريق Q ما حكم تأخير طواف الإفاضة إلى اليوم الثالث من أيام التشريق؟ A لا بأس به إن شاء الله تعالى.

حكم تأخير طواف الوداع إلى العودة من جدة

حكم تأخير طواف الوداع إلى العودة من جدة Q هل يمكن تأخير طواف الوداع إلى بعد العودة إلى جدة؟ A هذه مسألة تكلم فيها العلماء، قالوا: من ترك الحرم دون أن يطوف طواف الوداع؛ فإن خرج إلى مسافة دون القصر ودون المواقيت مثل جدة فيجوز له أن يرجع ويطوف ولا شيء عليه، وهذا قال به الشافعية وغيرهم، وهو قول معتبر رجحه النووي رحمه الله وبسط القول فيه، ولكن خذ الأكمل والأتم وطف طواف الوداع، فلا تدري: هل تبقى إلى اليوم الذي يليه أم لا؟ لكن من حيث الصحة: من احتاج ورجع إلى جدة فصحيح، لكن عليه المبادرة. وأنا أخبركم عن نفسي: لم أفعل هذا إلا مرة واحدة في حياتي، فلم أؤد ذلك الطواف إلا بعد وقت أطول مما كنت أتصور، فإن الإنسان يسوف ويسوف فينبغي المبادرة في ذلك.

التحلل الذي تحل به معاشرة النساء

التحلل الذي تحل به معاشرة النساء Q متى يحل معاشرة الزوجة في حال تأجيل طواف الإفاضة مع الوداع؟ A حتى يؤدي طواف الإفاضة، لو أخره إلى أيام التشريق، أو أخره إلى ما بعد أيام التشريق يبقى غير متحلل حتى يؤدي طواف الإفاضة.

حكم المبيت في جدة والذهاب ليلا إلى منى

حكم المبيت في جدة والذهاب ليلاً إلى منى Q ما حكم المبيت في جدة والذهاب ليلاً إلى منى؟ A من حيث الجواز لابد أن يمضي نصف الليل فأكثر ليسمى بائتاً في منى أو مزدلفة، فإن فعل ذلك رجع إلى مكة أو جدة. هذا من حيث الجواز والصحة جائز، لكن من حيث الكمال وعظمة الأجر: أخشى أنه لم يأت بما ينبغي أن يكون عليه.

حكم حلق الرأس بعد الطواف والسعي لغير المعتمر

حكم حلق الرأس بعد الطواف والسعي لغير المعتمر Q عند طواف القدوم والسعي هل يحلق الرأس؟ A لا تحلق شيئاً إذا كنت غير معتمر، أما إذا كنت معتمراً لعمرة التمتع فتحلق، ثم في يوم العيد مرر الموسى مرة أخرى وهي حلاقة ثانية؛ فتنال أجرين، وبعض الناس يقصر في الأولى ويقول: أحلق في الثانية، أحلق في الأولى وفي الثانية إن شاء الله، لكن إذا كان طواف قدوم وسعي فبعض الناس يخطئون؛ لأنه تعود في العمرة دائماً أن يطوف طواف قدوم ويسعى سعي الحج مقدماً له في اليوم الثامن -مثلاً- قبل أن يذهب إلى منى، وبعد أن ينتهي من السعي يأتيه الناس بالمقصات فيقص وهو بهذا قد وقع في محظور؛ لأنه محرم ولن يتحلل الآن، سوف يذهب إلى منى ويكمل حجه، فلا ينبغي له أن يتحلل.

حكم نسيان طواف الوداع

حكم نسيان طواف الوداع Q امرأة حجت قبل سبع سنوات، وعملت جميع أركان الحج ما عدا طواف الوداع؟ A تذبح دماً ولا شيء عليها؛ لأن طواف الوداع واجب إن شاء الله.

حكم النيابة في رمي الجمرات

حكم النيابة في رمي الجمرات Q هل يجوز للزوج رمي الجمرات نيابة عن زوجته لمرضها؟ A أما لمرضها فلا بأس. أما بسبب الزحام فلا. ففي أوقات ليس فيها زحام يرمي هو في الوقت المعتاد، ويترك زوجته يتفرغ لها ويكون في حمايتها ورعايتها في وقت ليس فيه زحام.

ما تجوز فيه النيابة من أعمال الحج

ما تجوز فيه النيابة من أعمال الحج Q هل هناك أعمال يستطيع الزوج القيام بها نيابة عن زوجته؟ A بعض الناس يبالغون فيكاد يكون حج عنها وهي موجودة، إذاً: تبقى في بلدها وهو يطوف عنها ويسعى وينتهي الأمر، فلا ينبغي المبالغة في هذا، والنساء خاصة الشابات عندهن قدرة وقوة، فتختار وقت الطواف المناسب، ووقت السعي المناسب، والله عز وجل ييسر للإنسان، والحج جهاد النساء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)، الحج جهاد النساء، فكيف تريد أن تكون مجاهدة وهي نائمة وشاربة وطاعمة دون أن تبذل جهداً. هذه بعض الأمور التي ليست داخلة في الحج مباشرة.

حكم البقاء في مكة للمتمتع

حكم البقاء في مكة للمتمتع Q هل يلزم المتمتع البقاء في مكة بعد تحلله من العمرة؟ A ليس لازماً، لكن الأصل أن يكون دون المواقيت، ولو خرج خارج المواقيت فهناك خلاف بين العلماء: هل يحتاج إلى إحرام جديد أم لا؟

حكم الإحرام لأهل جدة من مكة

حكم الإحرام لأهل جدة من مكة Q ما حكم الإحرام لأهل جدة من مكة؟ A قال العلماء: إن ميقات أهل جدة ومن دون المواقيت من بيته ومحلته، فإن خرج منها وأحرم من مكة أو من داخل الحرم فهو كمن ترك الإحرام من الميقات وتجاوزه؛ فيكون متجاوزاً لميقاته وعليه دم، فيما ذكر أهل العلم في قول كثير منهم.

حكم من شك في وقوع الحصاة في الحوض

حكم من شك في وقوع الحصاة في الحوض Q لو حدث شك في إحدى الحصوات أنها لم تقع في الحوض؟ A يرمي بدلاً منها، لكن من غير وسوسة؛ وبعض الناس قد يرمي سبعين حصاة، وهو ما زال، وإنما يكون التعبد بغلبة الظن، إذا رميت الحصاة وغلب على ظنك أنها في مكانها الصحيح انتهى الأمر، لكن لو جئت ترميها وجاء من دفعك من الجهة الأخرى وعرفت تماماً أنها لم تقع؛ فارم بدلاً منها، ولا بأس إن شاء الله.

حكم المخيمات الخارجة عن منى

حكم المخيمات الخارجة عن منى Q ما حكم المخيمات الممتدة خارج منى؟ A أفتى العلماء بأنه إذا اتصلت الخيام، وكان الحجاج موجودين فهي امتداد لمنى، ولا حرج في ذلك، ولا ينبغي التشدد في ذلك؛ لأن منى أصلاً ملأى ولا مكان فيها أصلاً.

حكم تكرار العمرة في أشهر الحج

حكم تكرار العمرة في أشهر الحج Q رجل اعتمر في أشهر الحج أكثر من مرة، وهو لا ينوي أن تكون عمرة حج؟ A الصحيح أنه لا يلزم بذلك، لكن كان عليه أن يأتي بعمرة في أشهر الحج وهو ينوي الحج، إلا إذا نوى تمتعاً، لكن إن اعتمر ولم يكن ناوياً الحج ثم حج، فليس هذا بتمتع، ولا يلزمه أن يكون متمتعاً.

حكم الطواف قبل الرمي

حكم الطواف قبل الرمي Q كنت مع والدتي ووكلتني في الرمي، وطفت القدوم والسعي يوم الثامن، وأخرت الإفاضة مع الوداع، وعجلت لوالدتي وتأخرت أنا، و Q قدمت الإفاضة والوداع، ثم ذهبت منى للرمي؛ فهل هذا صحيح؟ A يعني أن والدته طافت ورجعت إلى منى، وبقي عليها رمي، الأصل أن هذا يقع طواف إفاضة، ويجب عليها طواف وداع، وإن لم تؤده فيجبره بدم إن شاء الله ولا شيء عليه.

حكم طواف القدوم للمفرد

حكم طواف القدوم للمفرد Q هل على المفرد طواف القدوم؟ A يمكن أن يذهب إلى منى مباشرة وهو محرم، ثم يطوف ويسعى في يوم العيد وما بعده.

طواف القدوم للمعتمر

طواف القدوم للمعتمر Q هل على المعتمر طواف القدوم؟ A المعتمر إذا جاء في العمرة فيطوف ويسعى، وطوافه للعمرة هو طواف قدوم؛ لأنه عندما قدم إلى البيت أول شيء سيفعله هو الطواف.

حكم الإحرام من جدة لغير المقيم بها

حكم الإحرام من جدة لغير المقيم بها Q ما حكم الحاج إن قدم من الرياض أو تبوك، ثم أقام لفترة في جدة وأحرم منها أو من مكة؟ A لا يصح ذلك إذا كان قدومه لنية الحج أو العمرة، لكن إن قدم لعلاج أو لمراجعة في دائرة حكومية، ثم نوى العمرة أو الحج بعد أن لم يكن ناوياً، أو لم يكن جازماً بالنية ثم جزم بها وهو أعلم بنيته؛ فحيث ما نوى أحرم ولا شيء عليه.

حكم وجود النجاسة في إحرام الحاج

حكم وجود النجاسة في إحرام الحاج Q ما الحكم فيمن أصاب إحرامه نجاسة مع محاولة الإزالة بالماء، لكن بقي اللون، علماً بأن الحج كان حج الإسلام؟ A الأصل أن النجاسة هنا ليست متعلقة بالحج إنما هي متعلقة بالصلاة، فلو كانت في ردائه فينزع رداءه ويصلي ويلبس ثم يلبسه، وليس هناك حرج في أن يغير الإنسان الإحرام، وبعض الحجاج يظنون أنه إذا فك الإحرام بطل حجه، ولا يمكن أن يترك الإحرام بل يغتسل ويلبس إحراماً آخر، فمحظورات الإحرام هي ناحية معنوية، وليس منها أنك لا تفتح هذا الإحرام، أو يقولون: إذا وضعت الحزام أو الكمر فلا تنزعه إلا يوم التحلل. فهذا ليس بصحيح.

ميقات حديث الإقامة بالسعودية غير المستقر

ميقات حديث الإقامة بالسعودية غير المستقر Q أين يكون ميقات من له إقامة في السعودية وكان قدومه قريباً، فهل يحرم من جدة كأهل جدة مع العلم أنه لم يحدد بعد مكان استقراره في هذا البلد؟ A إذا كانت نية الإقامة وهو في جدة، ثم نوى الحج يحرم من جدة ولا شيء عليه، حتى ولو عينته الشركة بعد ذلك في الطائف أو الرياض، حتى الآن مقامه في جدة، ولا يعلم هل له مقام غيرها ونوى وهو هنا لا شيء عليه.

حكم العمرة بعد الحج

حكم العمرة بعد الحج Q أديت طواف الوداع ولم أسافر إلى اليمن، وبقيت في جدة، وبعد أسبوع ذهبت إلى مكة كي أعمل عمرة، فهل يجوز لي أداء العمرة؟ A يجوز إن شاء الله.

حكم التكبير عند الحجر الأسود

حكم التكبير عند الحجر الأسود Q ما حكم التكبير عند الحجر الأسود؟ A مسنون.

لزوم الهدي للمتمتع والقارن

لزوم الهدي للمتمتع والقارن Q هل على المتمتع، أو القارن دم أو هدي؟ A المتمتع والقارن عليهما الدم.

اختلاف الدم الواجب عند الهدي

اختلاف الدم الواجب عند الهدي Q إذا وقع محظور فهل يجب عليه دم غير هدي التمتع والقران الواجب عليه، ويكون عليه هديان؟ A الهدي الخاص بنسك التمتع أو القران وحده، فإذا ترك واجباً من الواجبات، أو ارتكب محظوراً من المحظورات فعليه دم آخر، ثم جنس الواجب واحد، مثلاً: من ترك المبيت بمنى ليلتين هذا دم واحد، لكن إن ترك المبيت والرمي فدمان، دم عن الرمي ودم عن المبيت، الجنس الواحد عليه دم واحد، هذا إذا لم يؤدِ الدم، يعني: إذا لم يبت في منى، ثم ذبح عن هذا المبيت، وجاء في الليلة الثانية ولم يبت. يذبح مرة أخرى، لكن إن ترك المبيت كله لأمر أو لعذر ثم أراد أن يذبح فيذبح عنه مرة واحدة.

حكم حج من عليه دين

حكم حج من عليه دين Q هل يجوز حج من عليه دين، أم يلزم استئذانه من صاحب الدين؟ A إن كان الدين حالاً وصاحبه يطلبه به؛ فالدين أحق بالوفاء، ويقدم هذا الدين وليس عليه حرج، ولا يكلف بالحج لأنه ليس بمستطيع، لكن إن كان الدين غير حال كأن كان موزعاً على مدى سنة كاملة، وأنت عندك مال تحج به، وعندك مال سيبقى لتسدد دينك؛ فلا شيء عليك، أو أردت أن تحج واستأذنت صاحب الدين في أن يؤجل دينك عاماً وأذن بذلك فلا بأس، لكن ليس واجباً عليك الحج، وإنما الوجوب على من استطاع فقط.

الحكمة من أن سائق الهدي لا يتحلل

الحكمة من أن سائق الهدي لا يتحلل Q ما الحكمة في أن سائق الهدي لا يتحلل من إحرامه؟ A لأن سائق الهدي تعظيماً للبيت لا يحل من إحرامه حتى يذبح الهدي ويقدمه لله سبحانه وتعالى.

الحكمة من الرمل والاضطباع

الحكمة من الرمل والاضطباع Q لماذا يرمل الحاج ولماذا يضطبع؟ A هذه سنة ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (خذوا عني مناسككم) وديننا بالتعبد وليس بالعقل، كما قال علي: لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه.

حج الأنبياء قبل الإسلام

حج الأنبياء قبل الإسلام Q هل ثبت أن عدداً من الأنبياء قد حجوا؟ A لا أعرف في ذلك ثبوتاً، لكن شريعة الحج من لدن إبراهيم عليه السلام، وبقيت حتى قبل الإسلام، وكان أهل الجاهلية يحجون، لكن كيف كان ذلك؟ وهل حج هود أو صالح، ما الذي سيفيدنا هذا؟ ليس هناك نص فيما أعلم عن هذا.

حكم دخول مكة والإحرام منها في اليوم الثامن

حكم دخول مكة والإحرام منها في اليوم الثامن Q كثير من الناس يذهبون بملابس عادية قبل الحج بيومين أو ثلاثة بدون نية ولا تلبية، وإذا جاء اليوم الثاني يدخل في النسك، ثم يصوم ثلاثة أيام، خاصة الذين ليس لديهم ترخيص؟ A هذا الفعل منه مخالف، وعليه ما يترتب عليه من ترك الميقات للآفاقي، وعليه دم، وإن لم يستطع الدم فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع للآية، لكن هناك مسألة يذكرها أهل العلم من العلماء المعاصرين وهي أن هذا الأمر فيه مخالفة لأمر من ولي الأمر بني في الأساس على مراعاة المصلحة، وتوفير الفرصة للمسلمين، فلا ينبغي أن يتحايل عليه، لكن من وقع منه ذلك فتنطبق عليه الأحكام التي أشرنا إليها.

صحة ما ورد من أن آدم لقي حواء في عرفات

صحة ما ورد من أن آدم لقي حواء في عرفات Q هل ورد أن آدم عليه السلام تعرف على زوجته حواء في عرفات؟ A أظن أننا لم نكن في ذلك الوقت موجودين، فليس لنا شأن بهذا، يوم عرفة هو يوم مصغر من يوم القيامة، هو تذكرة وعبرة؛ لأن الناس يكونون مجردين من ملابسهم، ليس هناك أمير ولا حقير، ولا غني ولا فقير الناس كلهم سواسية في ذلك الوقت يطلبون رحمة الله ويرجون مغفرته، وكلهم في صعيد واحد عليهم أشعة الشمس لتذكرهم بيوم الحشر العظيم، وإن كان الفارق كبيراً.

أدعية يوم عرفة

أدعية يوم عرفة Q ما هي أفضل الأدعية ليوم عرفة؟ A ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة قال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير)، وهذا دليل على أهمية قضية التوحيد في الحج؛ لأن الحج كله شعار التوحيد، بدأ من قصد الكعبة والتلبية التي فيها: لا شريك لك لبيك، وبدأ من التوحيد والتكبير الذي يظهر في كل مناسك الحج؛ لأن الحج هو تأكيد على معنى التوحيد والإخلاص لله، ونفي الشركاء في كل الأحوال، وإظهار التعبد والخضوع لله سبحانه وتعالى وحده دون ما سواه؛ فأنت تبذل مالك، وتذبح هديك، وتضني جسدك كله لله عز وجل، وتقول بلسانك: لا شريك لك لبيك، وتؤكد هذا في آخر التلبية، وتقول: لا شريك لك، ثم بعد هذا نجد بعض الناس من غفلتهم وجهلهم، وبسبب سيطرة العوائد عليهم؛ مع ذلك يرجعون إلى بلادهم، ويأتون بأمور تناقض الإخلاص، أو تخالف التوحيد، أو يدخل فيها الرياء، أو يتلبسون بصور من صور التعلق بغير الله، أو التعبد لغير الله في أنواع مختلفة من العبادة، نسأل الله عز وجل السلامة والهداية لجميع المسلمين.

حكم الحج لمن لا مال له

حكم الحج لمن لا مال له Q ما حكم الحج على من ليس لديه المال؟ A من ليس لديه مال، وليس عنده قدرة على الهدي، يمكن أن يحج مفرداً ولا شيء عليه. وبالمناسبة يسأل بعض الناس: لو أن إنساناً قال لك: تعال معي وحج على حسابي دون أن تطلب ذلك، ودون أن يكون منك تعرض له؟ لا بأس بذلك ويجوز، وبعض الناس يقول لك: لا بد أن تكون حجة الفريضة من مالك، وما قال أحد بهذا، وليس عليه دليل.

توبة من رأى عورة محارمه

توبة من رأى عورة محارمه Q رجل اطلع على عورات محرمة من بعض محارمه، فماذا عليه؟ A هذا ذنب حقه لله سبحانه وتعالى؛ فتستغفر الله عز وجل، نعني بالذنوب التي بينك وبين العباد: إن كنت ضربتهم، أو ظلمتهم، أو أخذت حقهم تعيده لهم أو تستسمحهم فيه.

حكم تغطية المرأة لوجهها في الحج

حكم تغطية المرأة لوجهها في الحج Q نرجو بيان مسألة تغطية المرأة للوجه كاملة ومفصلة؟ A ورد في الحديث الصحيح: (لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين)، لكن إسدال الغطاء على الوجه من غير الملاصقة الدائمة أمر مشروع ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها أيضاً، والمسألة واضحة أن المقصود النوع المعين الخاص بالنقاب الذي يكون على الصفة المعروفة. هذا نهي عنه في الإحرام، وجعل إحرام المرأة بوجهها وكفيها، وإن خالطت الرجال أسدلت على وجهها من غير الصفة أو الهيئة المعروفة في النقاب.

حكم صيام بعض أيام عشر ذي الحجة للحاج

حكم صيام بعض أيام عشر ذي الحجة للحاج Q هل للمتمتع أن يصوم بعض أيام عشر ذي الحجة بعد تحلله من العمرة، لما في ذلك من الأجر؟ A الأمر فيه سعة، وليس المقصود بالتحلل أن يفطر أو يصوم، إنما المقصود بالتحلل أن محظورات الإحرام حلال له، ويجوز له أن يتطيب ويمس الطيب ويعاشر أهله، ونحو ذلك.

حكم رمي الجمرات للمتعجل

حكم رمي الجمرات للمتعجل Q من تعجل في يومين هل ينبغي له أن يرمي جمرات اليوم الثالث؟ A لا. إذا رمى اليوم الثاني من أيام التشريق وخرج من منى فقد أتم حجه، وبعض الناس فيرمي لليوم الثالث، ويقول: حتى أتمم، والمقصود أن من كان قد نوى المبيت وجلس إلى غروب الشمس لا يصح له بعد ذلك أن يخرج إلا أن يبقى إلى اليوم الثالث ثم يرمي، لكن إن عزم على الخروج ثم أعاقه عائق أو زحام السيارات فليس عليه شيء حتى وإن أدركه الغروب بمنى.

حكم النيابة في الرمي للمستطيع

حكم النيابة في الرمي للمستطيع Q في أعوام مضت حج رجل وزوجته ورمى عنها، وهي قادرة، وخاف عليها الزحام؟ A ليس عليها شيء، والحج صحيح إن شاء الله، وإن حجت مرة أخرى فدعها ترمي بنفسها.

حكم من خرج من منى يوم العيد وعاد في اليوم الحادي عشر

حكم من خرج من منى يوم العيد وعاد في اليوم الحادي عشر Q حكم من نزل إلى جدة يوم العيد ولم يرجع إلى منى إلا في اليوم الحادي عشر؟ A يحسب ما الذي تركه من الأعمال والواجبات عليه وفيها دم، أما الرمي فيستطيع أن يقضيه، لكن إن لم يكن له عذر فلا ينبغي أن يفعل مثل هذا.

حكم الحلق والتقصير لمن أراد الأضحية

حكم الحلق والتقصير لمن أراد الأضحية Q هل الحلق والتقصير لمن أراد الأضحية محرم أو مكروه؟ A مخالف لسنة النبي عليه الصلاة والسلام التي وجه إليها.

حكم ربط الإحرام بالمشابك أو الأزرار

حكم ربط الإحرام بالمشابك أو الأزرار Q ما حكم من يربط الإحرام بالمشابك أو يجعل له إزاراً؟ A ليس فيه حرج، لكن لا يستخدم المخيط، ولا يربطه بمخيط.

موسم الأجر في الأيام العشر

موسم الأجر في الأيام العشر لقد خص الله سبحانه وتعالى بعض الأمكنة والأزمنة بفضائل ومزايا، حيث ضاعف فيها الأجر والثواب، ومن هذه الأزمنة التي خصها الله بفضائل: العشر الأول من ذي الحجة، فقد جعل الشرع الأعمال الصالحة فيها أفضل من الجهاد في سبيل الله، فعلى العبد أن يكثر فيها من الأعمال الصالحة، كالصلاة والزكاة والصوم والصدقة وغيرها؛ حتى ينال الأجر الكبير، والجزاء الوفير من الله العلي الكبير.

لا تخصيص إلا بتنصيص

لا تخصيص إلا بتنصيص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى على نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والهداية والاستقامة، ونسأل الله جل وعلا المزيد من فضله، والعظيم الجليل من نعمه، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته ومن اتبع هداه، وعلى من سار واقتفى واهتدى بهداه عليه الصلاة والسلام. أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا لقاؤنا المتجدد معكم في يوم الجمعة الموافق التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة عام (1418هـ) مع الدرس الثاني والستين بعد المائة الأولى، وعنوان درس هذا اليوم: عشر ذي الحجة مسائل وفضائل. ونحن نقارب توديع هذا الشهر شهر ذي القعدة، ونستقبل خلال يوم أو يومين شهر ذي الحجة، نقف مع هذه الأيام الفاضلة لنرى بعض فضائلها والأعمال الواردة فيها، وبعض المسائل التي ذكرها أهل العلم بشأنها. وأول ما نبدأ به مسألة مهمة: لا تخصيص إلا بتنصيص: فجعل خصوصية لزمان بعينه أو لمكان بعينه أو لقول بلفظه أو لعمل بخصوصه، ليس له سبيل ولا مدخل إلا عن الله عز وجل وبتبليغ رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يخص من الأزمنة زماناً ويدعي له فضلاً أو ينسب له مزايا، فإن هذا ليس لأحد من الخلق، قال الحق جل وعلا: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] فالاختيار والتخصيص حق لله سبحانه وتعالى، به فرق الله عز وجل بين بعض بقاع الأرض وإن استوت في طبيعتها، فكلها واحدة وطبيعتها واحدة، لكن الله جل وعلا فضل بعضها على بعض، وجعل لمكة وللمدينة من الفضيلة والأجر والثواب ما ليس لغيرهما، وفضل من الشهور رمضان، وفضل من الأيام أياماً سيأتي ذكر بعضها كيوم النحر ويوم عرفة وغير ذلك، وفضل في الأزمان أزماناً بعينها، فجعل وقت السحر والثلث الأخير من الليل فاضلاً على غيره من سائر أوقات اليوم: (وجعل في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن فيسأل الله شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا آتاه الله إياه) كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي يدل أيضاً على هذا التخصيص أنه لا يكون إلا بتنصيص، أنه قد تكاثرت النصوص بتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لفضائل معينة، فجاءت فضائل كثيرة في فضل يوم الجمعة، ووردت أيضاً خصائص لبعض الأيام كهذه الأيام التي نحن بصدد الحديث عنها، وورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تفضيل أقوال بعينها كما في حديث أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها التي كانت تذكر الله عز وجل، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من عندها ثم رجع وهي ما زالت في مجلس ذكرها فقال: (أما زلت على ما كنت عليه حين فارقتك؟! قالت: نعم، فقال: لقد قلت آنفاً كلمات تعدل ذلك كله: سبحان الله وبحمده: عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) فجعل النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأقوال فضيلة بعينها. وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام تخصيص أذكار بعينها، لأدواء بعينها، فذكر للأرق، وذكر عند الهم والغم ونحو ذلك، فكل هذا التخصيص كله جاء بتنصيص يدلنا على هذا. وقد ورد إبطال تخصيص سابق أو تخصيص منفرد جاء النبي عليه الصلاة والسلام فأبطله وغيره، مما يدل على أنه ليس لأحد مدخل في ذلك إلا بتبليغ الشارع الحكيم، فقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ولهم عيدان فأبطل ذلك وقال: (لنا أهل الإسلام عيدان) فخص ذلك وأبطل ما سواه. وكذلك كان لهم في بعض الأيام أعمال، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة وهم يصومون عاشوراء مع اليهود فقال: (نحن أحق بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه) فهذا كله يدل على أنه لا تخصيص إلا بتنصيص. وقد وقع الناس في الخلل عندما لم تفهم هذه المسألة، ولم يلتزم بعض المسلمين بها، فصار بعضهم يأتينا بقول من عنده، فقائل بفضيلة معينة في ليلة الإسراء والمعراج، وقائل بفضيلة بصيام في أول رجب أو في أثناء رجب، وقائل بفضيلة لمكان معين أو مزار معين أو قبر معين أو غير ذلك، ولي في ذلك كله آية من كتاب الله ولا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتنادون له ويجتمعون عليه، فتعظم بذلك الفتنة، وتنتشر البدعة، وتضعف السنة. وقد كان السلف رضوان الله عليهم يشددون النكير في هذا، ويحذرون منه أشد التحذير؛ لأنه يتناقض مع إكمال الدين وإتمام النعمة والرضا بالإسلام، والزيادة -أيها الإخوة الأحبة- كالنقص؛ لأن ادعاء الزيادة في دين الله عز وجل اتهام -والعياذ بالله- بنقص الدين، جاء هذا فزاد عليه أو استدرك وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما آتاه الله إياه، وهذه مسائل خطيرة يتهاون بها بعض الناس، ويظنونها أمراً هيناً، وهذه قصة للإمام مالك رحمه الله لما جاءه السائل وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن ميقات أهل المدينة فأخبره، فقال الرجل وهو منصرف: لأحرمن من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الإمام مالك: إنها والله الفتنة، فعاد الرجل وقال: وأي فتنة يا أبا عبد الله؟! إنما هي أميال أزيدها، أحرم من المدينة فتزداد مسافتي وأنا محرم فأنال الأجر، قال: الفتنة أن تظن أنك تعمل عملاًَ تفضل فيه رسول الله صلى لله عليه وسلم، ونحن نعلم أنه قد بلغنا كل شيء عليه الصلاة والسلام، ودلنا على الفضيلة في كل عمل وفي كل وقت وفي كل مكان، فالزيادة في مثل هذا طعن في بلاغه عليه الصلاة والسلام وجحد أو إنقاص لنبوته صلى لله عليه وسلم. فلينتبه لهذا خاصة وأنه قد انتشر في بعض البيئات والبلاد والمجتمعات الإسلامية.

فضائل الأشهر الحرم

فضائل الأشهر الحرم ننتقل إلى فضيلة عامة تتعلق بالأشهر الحرم، وبعد ذلك ننتقل إلى ما سواها من فضائل، الله عز وجل قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] هذه الحرم الأربعة هي الثلاثة المتتابعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب الفرد؛ يسمونه الفرد لأنه منفرد عن هذه الثلاثة في تتابعها، وقد جعلت هذه الأشهر حرماًَ، وكل الأشهر يحرم فيها ما حرمه الله ويعظم فيها ما عظمه الله، ولكن كانت هذه عند الجاهلية معظمة لا يمسون فيها أعداءهم، ويمسكون فيها عن الاعتداء أو عن الحرب فيها ونحو ذلك، فجعلها الإسلام كذلك أشهراً معظمة محرمة في جملتها، ولا يضاف إلى ذلك شيء لم يكن داخلاً في عموم التشريع من الإسلام، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأله سائل عما يصومه بعد رمضان فقال: (صم من شهر الله المحرم).

فضائل أيام العشر الأول من ذي الحجة

فضائل أيام العشر الأول من ذي الحجة وردت روايات كثيرة في عموم تفضيل أيام العشر من ذي الحجة التي نحن بصدد استقبالها، وقد ورد تفضيلها وتعظيمها في قول الله عز وجل {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:1 - 3] إلى آخر الآيات. قال ابن كثير في تفسيره: (والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة) كما قال ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف. وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس مرفوعاً: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام) يعني: عشر ذي الحجة. وروى البخاري عن ابن عباس تعليقاً: (أن المراد بالعشر عشر ذي الحجة) وقد ذُكرت أقوال أخرى منها: أن المراد بالعشر هي العشر الأول من محرم ذكره ابن جرير كما قال ابن كثير ولم ينسبه لأحد، ومنهم من قال: هي العشر الأول من شهر رمضان، والصحيح هو القول الأول الذي عليه الدلالات، وقد ورد في مسند الإمام أحمد من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العشر عشر الأضحى) قال المحقق: وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم عندي، والمتن في رفعه نكارة، لكن عموم ما ورد عن بعض الصحابة يؤيده، والقول الراجح والشائع عند جمهور العلم في شأن هذه العشر أنها عشر ذي الحجة. وأما وجه التفضيل لها فهو أنها دخلت في القسم الرباني، والله عز وجل له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وما يقسم به الله عز وجل فهو عظيم شريف، فقسمه سبحانه وتعالى بما يقسم به إشارة إلى التعظيم والتشريف.

فضل الأعمال الصالحة في هذه العشر

فضل الأعمال الصالحة في هذه العشر الفضيلة المشهورة لهذه العشر ما ورد في الحديث الذي خرجه البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام- يعني: أيام العشر الأول من ذي الحجة - قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) أي: خرج بنفسه وماله فذهب ماله وأزهقت روحه في سبيل الله عز وجل، كما جاء في الحديث الآخر: (من أعظم الناس أجراً رجل خرج بماله وفرسه، فذهب ماله، وعقر فرسه، وأزهقت روحه، كل ذلك في سبيل الله) فهذا استثني من ذلك، ولنا مسائل في هذا الاستثناء. هذا الحديث هو أجل وأظهر وأعظم حديث في فضيلة العشر، وهو حديث في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة المشهورة، ووجه عظمته؛ لما ورد فيه من الإطلاق الذي لم تستثن منه إلا صورة محددة بعينها، نادرة في وقوعها، قليلة في حدوثها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام) والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: ما من يوم من الأيام في كل العام أو في سائر العام العمل الصالح يكون فيه أفضل من هذه العشر، فهو تفضيل فيه معنى الإطلاق، وفيه معنى الشمول. وأما كونه عظيماً فلكونه فضل على الجهاد، وهو عمل كلنا نعلم فضيلته، وقد عده بعض أهل العلم ركناً سادساً من أركان الإسلام؛ لأن به تحفظ الأركان الخمسة ويسعى لنشرها، ويذاد عنها، قال بعض الشراح: إذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلها، صار العمل فيها وإن كان مفضولاً أفضل من العمل في غيرها وإن كان فاضلاً، ومعنى ذلك: أن العمل المفضول الذي رتبته أقل يمكن أن يصبح هو الأفضل عندما يؤدى في هذه الأيام؛ لعموم فضيلتها، وعظمة فضيلتها كما أشرنا، وتأكيد هذا التفضيل بالمقارنة بالجهاد. وسؤال الصحابة رضوان الله عليهم يدل على عظمة الجهاد وعظمة مثوبته: (فقالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد؟) فالجهاد عندهم من أعظم الأعمال أجراً، فاستعظموا أن تكون فضيلة هذه الأيام أعظم، وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام (أي الجهاد أفضل؟ فقال: من عقر جواده، وأهريق دمه)، فصاحبه أفضل الناس درجة عند الله. وكذلك سمع النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يدعو ويقول في دعائه: (اللهم أعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقال عليه الصلاة والسلام: إذن يعقر جوادك وتستشهد) فهذا هو العمل الذي استثني على وجه الخصوص. وقد ورد في الحديث بعض روايات أخرى في بعضها مع صحتها مزيد من الفوائد، وفي بعضها مع ضعفها تنبيه على ما قد يمر بالإنسان من رواية غير مقبولة عند أهل العلم، من هذه الروايات ما ذكر في مسند الإمام أحمد من ذكر بعض الأعمال التي على الإنسان أن ينشغل به في هذه العشر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم كما في رواية ابن عمر في مسند الإمام أحمد (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد). وقد ورد أيضاًَ زيادة في رواية ابن عباس وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة) ولكن هذه الزيادة إسنادها ضعيف. وقد روي من حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بسنة، وكل ليلة منها بقيام ليلة القدر) وهذا حديث ضعفه أهل العلم ولم يصححوه. وقد رويت آثار عن الصحابة في فضل العشر منها عن ابن عمر أنه قال: (ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة، ليس العشر -يعني: باستثناء العشر- فإن العمل فيها يعدل عمل سنة) وهذه رواية عن صحابي. ننتقل إلى فضيلة أخرى في ذكر عموم هذا الفضل مع تخصيصه، عن ابن عمر عند الإمام أحمد مرفوعاً: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر)، وأيضاً في صحيح ابن حبان من رواية جابر: (ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة) وأيضا رويت زيادة في هذه الرواية: (ولا ليالي أفضل من لياليهن، فقال بعضهم: أهي أفضل من عدتهن جهاد في سبيل الله؟ قال: هي أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله، إلا من عفر وجهه تعفيراً، وما من يوم أفضل من يوم عرفة) أخرجه أبو موسى المديني وغيره، وفي بعض الروايات في مسند البزار عن جابر (أفضل أيام الدنيا أيام العشر) وهذه الروايات في مجملها تشير إلى عموم الفضيلة دون فضيلة العمل. لاشك أن فضيلة العمل في أيام العشر دليل على فضيلتها، ولكن هذه النصوص التي أوردناها تدل على إطلاق الفضيلة في زمانها وأعمالها وكل ما يلحق بها، حتى يكون فيها شيء من الخير والبركة بإذن الله سبحانه وتعالى. وقد روي عن كعب أنه قال: (اختار الله الزمان، وأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم، وأحب الأشهر الحرم إلى الله شهر ذي الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول). وقد روي هذا مرفوعاً ولا يصح رفعه.

أحكام تتعلق بأيام عشر ذي الحجة

أحكام تتعلق بأيام عشر ذي الحجة

حكم صيام أيام العشر من ذي الحجة

حكم صيام أيام العشر من ذي الحجة هناك فضيلة عامة في الأشهر الحرم، وفضيلة لشهر ذي الحجة، وفضيلة للعشر، ولكن العشر هذه فيها يوم عرفة، وفيها يوم النحر، فهناك خصوصيات وفضائل متكاثرة من فضل الله عز وجل علينا، ونذكر هنا مسألة صيام الأيام العشر على اعتبار أن الصيام من أحب الأعمال إلى الله عز وجل وأخصها: ورد عن عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم أنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط) وفي رواية: (في العشر قط)، وهذا الحديث أوجد بعض الإشكال، ولذلك نعتبره مسألة للتنبيه، ذكر أهل العلم: أن صيام العشر فضيلة ثابتة لا شك فيها، وقد ورد إثبات صيامه في مسند الإمام أحمد عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر)، وقد ورد هذا الحديث أيضاً في سنن أبي داود وعند النسائي. وورد في رواية صريحة عن حفصة رضي الله عنها عند النسائي في السنن أنها قالت: (أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة). فهذا يدلنا على ثبوت ذلك عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع بين حديث عائشة وبين حديث حفصة بما يلي: أولاً: عائشة قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام العشر)، فهل يدل ذلك على أنه لم يصم؟ هي أخبرت أنها لم تره عليه الصلاة والسلام، وأزواجه غيرها كـ حفصة قد أثبتت ذلك، هذا وجه من الوجوه، وهو وجه حسن. ونقل ابن رجب عن الإمام أحمد أنه أجاب بأجوبة مختلفة، فقال مرة: هذا قد روي خلافه من غير عائشة، وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة، فمعنى ذلك: أنه رجح حديث غير عائشة على حديثها. ثانياً: المثبت مقدم على النافي، وهذا التوضيح مهم، قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً ومبيناً هذه المسألة: هذا مما يتأول، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل فيها أفضل منه في هذه الأيام) يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة، فيتأول قولها: (لم يصم العشر) أنه لم يصمه على سبيل الالتزام الدائم، أو لم يصمه لعارض عرض له كالمرض أو نحو ذلك، وقد ذكر هذا النووي رحمه الله وأشار إليه ابن رجب في "لطائف المعارف" وغيرهما.

حكم قيام ليالي العشر من ذي الحجة

حكم قيام ليالي العشر من ذي الحجة مسألة أخرى: وهي مسألة قيام الليالي العشر من ذي الحجة، إذا قلنا صيام الأيام فتأتينا مسألة قيام الليالي في هذه العشر هل هو مستحب أو ورد فيه شيء؟ قال أهل العلم: إنه مستحب؛ لأنه من العمل الصالح ومن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؛ لأنه قد ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أفضل الأعمال؟ قال: الصلاة في جوف الليل، أو في دبر الليل الآخر) ونحن نعلم أن صلاة الليل فيها فضيلة وأجر عظيم، وأن وقتها فاضل لاسيما في الثلث الأخير من الليل، هذا على العموم، إضافة إلى أنه قد وردت رواية في هذا وهي وإن كانت ضعيفة؛ فإن بعضهم يتساهل في أحاديث فضائل الأعمال ما دامت تندرج تحت أصل من الأصول، بشرط ألا يكون الضعف فيها شديداً بمرة، ووردت بعض الأقوال عن العلماء كالشافعية في استحباب ذلك، وكان سعيد بن جبير وهو الراوي لحديث ابن عباس إذا دخلت العشر -يعني: الأول من ذي الحجة- اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر. يعني: صلوا وقوموا فيها لله عز وجل، وكانت تعجبه العبادة فيها.

الذكر في العشر من ذي الحجة

الذكر في العشر من ذي الحجة ما ينبغي أن يشغل الإنسان وقته في هذه الأيام الفاضلة من الأعمال؟ قالوا: أشهر ذلك الذكر، ودل عليه قول الله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] وقوله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] قالوا في الأيام المعلومات والمعدودات: إما عموم العشر أو خصوص أيام التشريق، وكل ذلك يدخل في عموم أيام العشر وما يتبعها؛ لأنها ذات صلة بها، وقد وردت رواية عن ابن عمر عند الإمام أحمد أنه قال فيها عليه الصلاة والسلام: (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) فينبغي حينئذ أن يكثر من ذلك، وقد توسع أهل العلم في هذا، وبينوا أن المقصود لغير الحاج على وجه الخصوص التكبير مطلقاً؛ لأن ذكر الله عام، وورد في الحديث تخصيص هذا الذكر بالتهليل والتكبير والتحميد، وورد عن الصحابة رضوان الله عليهم ما يشير إلى مزيد من تخصيص التكبير؛ لأن بعض الصحابة كانوا يخرجون إلى الأسواق فيكبرون فيها، حتى يكبر الناس بتكبيرهم، ومن هنا ذكر أهل العلم اختلافاً وقالوا: هل يشرع إظهار التكبير والجهر به في الأسواق في العشر، فأنكره طائفة، واستحبه الإمام أحمد والشافعي، وخصه الشافعي برؤية بهيمة الأنعام إذا رآها، أي: بالأضحيات ونحو ذلك، والإمام أحمد يستحبه مطلقاً. وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة (أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما)، وأيضاً روي عن مجاهد أنه قال: (كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان الأسواق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك). فهذا الذكر عموماً وهذا التكبير خصوصاً من الأمور التي ينبغي الانشغال بها والإكثار منها وإظهارها، والتكبير عموماً لغير الحاج آكد وأظهر، وأما للحاج فإنه مخصص ومقيد، فإنه إنما يأتي به في أعقاب التلبية، وإنما يشرع بعد الانصراف من عرفة ومزدلفة، وبعد رمي جمرة العقبة ينقطع من التلبية، ويبدأ ويشرع في الذكر وفي التكبير، وهو أيضاً للحاج خاص في أعقاب وأدبار الصلوات، أما غير الحجاج فالتكبير والذكر لهم مستحب مطلقاً في كل وقت بلا قيد بصلاة، وبلا قيد أيضاً بأيام بعينها، بل محله العشر كلها، وهذه أيضاً مسألة من المسائل.

مسألة التفضيل بين الحج والجهاد

مسألة التفضيل بين الحج والجهاد مسألة: قد يقال: ينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد، فإذا قلنا: إن العشر مفضلة على الجهاد إلا في حالة بعينها، فالحج أفضل من الجهاد؛ لأن موعد الحج في هذه العشر إحراماً وتمتعاً، ثم يوم الثامن والتاسع والعاشر، ويلحقها أيام التشريق، ولكن ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) فكأن هاهنا تعارضاً يحتاج إلى توفيق، وليس في الأمر إشكال، قالوا: التطوع بالجهاد أفضل من التطوع بالحج، والفرض في الحج أفضل من الفرض في الجهاد؛ لأن الحج إذا أديته في هذه العشر فهو فرض عين، أما الجهاد فهو فرض كفاية. وأما التطوع بالجهاد فيكون في عمومه أفضل من الحج في خصوصه. وأيضاً قالوا: يمكن الجمع من وجهين: الأول: أن حديث ابن عباس الذي معنا في فضيلة العشر صرح فيه بأن جهاد من لا يرجع بنفسه وماله بشيء يفضل على العمل في العشر، فيمكن أن يقال: الحج أفضل من الجهاد عموماً إلا في هذا النوع من الجهاد، فيبقى كأن تقديم الجهاد على الحج مخصوص بنوع بعينه، وهو أعلى ذرا الجهاد، حيث يذهب بماله ونفسه ولا يرجع من ذلك بشيء. الثاني: وهو الأظهر كما أشار إليه ابن رجب يقول: إن العمل المفضول قد يقترن به ما يجعله أفضل من الفاضل في نفسه، فحينئذ الحج يقترن به ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد أفضل، فإن كان الحج مفروضاً فهو أفضل من التطوع بالجهاد؛ لأن الأعيان مقدمة على الكفايات عند جمهور العلماء، وقد روي هذا في الحج والجهاد بخصوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

فضل الأعمال الصالحة التي تقع في العشر على غيرها

فضل الأعمال الصالحة التي تقع في العشر على غيرها مسألة: هل كل الأعمال الصالحة التي تقع في العشر أفضل من جميع ما يقع في غيرها وإن طالت مدته أم لا؟ بمعنى: عملك في العشر هل هو أفضل من عملك في ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماً بقية العام أم أن العمل في العشر أفضل من عمل مماثل له في عشر غيرها؟ هذه مسألة مهمة؛ لأن بعض الناس في الواقع المعاصر تأثروا ببعض الأمور غير الجيدة، لا أقول: هو تأثر كنسي، لكن فيه شبه، ومنها: افعل ما شئت ثم ائت في يوم معين واستغفر أو افعل كذا وانتهى الأمر، وكونه ثبت في الحديث الصحيح عن عمل أنه يكفر أو يغفر لا نشك فيه، وفضل الله عز وجل ورحمته أوسع، لكن الركون إلى ذلك أو الإسراف على النفس؛ ليس من شأن المؤمن، وهذا نوع من الكهنوت الذي عند النصارى، افعل ثم ائت واعترف أو خذ صك غفران كما يقولون! لكن ليس هذا في دين الله عز وجل. المراد أن العمل الصالح في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها؛ حتى لا يلتبس علينا الأمر. هذه العشر ينبغي أن تكثير فيها من الأعمال الصالحة باستمرار في جميعها لا في بعضها، وما دامت خصت بالفضيلة فإنه يقبح ترك الطاعة فيها، بل ويقبح فيها أعظم فعل المعصية. المهم عملك في هذه العشر يفضل عملك في غيرها إن كان مماثلاً، أو كان في غيرها زائداً، فإن فضيلتها ترجح عن زيادة العمل في غيرها، لكنها ليست دليلاً على تفضيل ما فيها من العمل على تفضيل ما في كل الأيام بمجموعها، فهذا ينبغي أن يلتفت إليه، قال بعضهم: إنما يفضل العمل فيها على الجهاد إذا كان العمل مستغرقاً للأيام العشر كلها، فيفضل على الجهاد في عدد تلك الأيام من غير العشر، وإن كان العمل مستغرقاً لبعض أيام العشر فهو أفضل من جهاد في نظير ذلك الزمان من غير العشر، والمسألة عند الله عز وجل محسوبة، وينبغي ألا نكون متشعبين في هذا الأمر.

التفضيل بين عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان

التفضيل بين عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان مسألة مهمة: وهي أيهما أفضل هذه العشر أم الأواخر من رمضان التي فيها ليلة القدر؟ ذكر العلماء في ذلك أقوالاً، ومن ألطف ما قيل في هذا ما ذكره ابن تيمية رحمه الله واستحسنه واستجاده تلميذه ابن القيم، وهو: أيام العشر من ذي الحجة أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي العشر من عشر ذي الحجة؛ لأن تلك الليالي فيها ليلة القدر، وهي مخصوصة بعظيم من الفضل والأجر، وهذه الأيام في عمومها فيها هذه الفضيلة. وبعضهم خصه بمسألة الفرائض، أي: أن المراد ما فعل في العشر من ذي الحجة من فرض فهو أفضل مما فعل في العشر الأواخر من رمضان، وهذا أيضاً قول من أقوال أهل العلم.

فضل يوم عرفة

فضل يوم عرفة في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه لقي رجلاً من اليهود فقال له: يا أمير المؤمنين! آية من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً -انظر قوله: (لاتخذنا) فقد كان القوم يفعلون ما يشاءون باستحسانهم دون الوقوف عند حدود ما أنزل إليه من ربهم- فقال عمر رضي الله عنه: أي آية؟! فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] قال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم جمعة). انظر إلى التنبيه على هذه الفضيلة من أنها نزلت في يوم عرفة يوم الجمعة والرسول صلى الله عليه وسلم قائم بين الناس، ففيها إشارة إلى هذا. أيضاً وردت فضائل في شأن يوم عرفة عظيمة، منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) فهذا فيه تفضيل وتعظيم، أي: أن ركن الحج الأعظم الذي لا يتم الحج إلا به هو وقوف عرفة. أيضاً وردت فضيلة الصيام في يوم عرفة، فقد ورد من حديث أبي قتادة عن الرسول عليه الصلاة والسلام (أنه سئل عن صيام يوم عرفة؟ فقال: كفارة سنتين: سنة ماضية، وسنة متأخرة) وروي مثله عن سهل بن سعد في مسند عبد بن حميد، ومثله أيضاً عن أبي سعيد الخدري في سنن ابن ماجة، وروي عن أبي قتادة أنه قال: (يكفر السنة التي قبله) وهي رواية عن عائشة في المسند. وفي حديث عند الإمام مسلم طويل عن أبي قتادة يبين مثل هذا، ويشير إلى بعض الدلائل الأخرى، في هذا الحديث: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟ فغضب -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام- فقال عمر بن الخطاب: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وببيعتنا بيعة، قال: فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل صام الدهر؟ فقال: لا صام ولا أفطر، أو: ما صام وما أفطر، قال: فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم؟ فقال: ومن يطيق ذلك! قال: فسئل عن صيام يوم وإفطار يوم؟ فقال: ذاك صوم أخي داود، قال: فسئل عن صوم يوم وإفطار يومين؟ قال: وددت أن الله قوانا لذلك، قال: فسئل عن صيام يوم الإثنين؟ فقال: ذاك يوم بعثت فيه، وولدت فيه، وقال: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر، قال: وسئل عن صوم يوم عرفة؟ قال: يكفر السنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: يكفر السنة الماضية). فهذا الحديث في فضل صوم يوم عرفة. وورد في فضيلة يوم عرفة غفران ذنوب العباد من الله سبحانه وتعالى، ومباهاة الله عز وجل بأهل الموقف ملائكته، وهذه كلها من فضائل هذا اليوم الجليل العظيم، وهو يوم عرفة الأغر، الذي هو ركن الحج الأعظم.

فضل يوم النحر

فضل يوم النحر يوم النحر، يوم العيد، يوم الحج الأكبر له فضائل، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله أبدلكم يومين خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى) فهو يوم عيد ويوم تفضيل كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، قال أهل العلم: قد أبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب واللهو يومي ذكر وشكر ومغفرة وعفو، وهذه خصيصة لهذه الأمة. وقال بعض أهل العلم: عيدان في العام، وعيد يتكرر في كل أسبوع وهو عيد الجمعة. وقال بعض أهل العلم في سر الأعياد سواء في الجمعة أو غيرها: إنها تأتي في أعقاب الأركان، فالصلاة إذا أديت كاملة جاء الاحتفال بعيدها في يوم الجمعة بعد أن يكون المسلم قد أتم أسبوعاً وهو مصل قائم بالفرائض الخمس في أوقاتها في سائر الأيام، وعيد الفطر يأتي عقب ركن الصيام، وعيد الأضحى في أثناء ركن الحج، وأما الزكاة فلأنها غير محدودة بزمان، بل تجب بتمام الحول أو باكتمال النصاب أو بشروطها فلم يكن لها عيد بعدها، وأما الشهادتان والتوحيد فهو أصل الإيمان والعبادة والطاعة كلها مترتبة عليه. فهذه من فضائل هذا اليوم. وقد ذكر العلماء أن عيد النحر هو أكبر العيدين وأفضلهما، وقد بينوا لفضيلته أو تقديمه على فضيلة يوم الفطر وجوهاً: أولها: دخوله في عموم العشر التي ذكرنا تفضيلها. ثانيها: كونه يأتي في عقب يوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة؟ يوم تكفير الذنوب والخطايا، يوم اجتماع الناس في صعيد واحد، يوم يباهي الله عز وجل بأهل الموقف الملائكة. ثالثها: لوجود تفضيل وتنصيص على يوم النحر، فقد ورد في بعض أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أفضل الأيام يوم النحر). رابعها: لكونه يجتمع فيه بعض العبادات المختلفة، مثل النحر والأضحية، فإن من أعظم القربات الذبح لله عز وجل. خامسها: أن فيه إحساناً إلى الفقراء بهذه الأضحية، فيدخل السرور على فقراء الحرم على وجه الخصوص من الأضاحي، وعلى غيرهم في بلاد الإسلام كلها على وجه العموم. فهذه وجوه تفضيل عيد الأضحى على عيد الفطر، وإن كان هذا عيداً وهذا عيداً. وهنا إشارة لطيفة في قولهم: صوم العشر، المقصود بها التسع؛ لأن العاشر يوم عيد يحرم صومه، وإنما يقولون: صوم العشر تغليباً لشأن بيان الفضيلة التي أشرنا إليها في نزول هذه الآية.

تفسير قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)

تفسير قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) نشير إلى معنى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] حتى ندرك فضيلة اليوم التي نزلت فيه، قال بعض أهل العلم في تفسيرها: أكثر المسلمين لم يكونوا قد حجوا حجة الإسلام؛ لأن الحج فرض في العام السادس، وحج أبو بكر ببعض المسلمين في التاسع، وحج النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أكثر الصحابة العام العاشر، فبذلك أتموا إسلامهم؛ لأنهم أتوا بالركن الخامس، فقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فأتموا أركان الإسلام. ومنها: أن الله عز وجل أعاد الحج على قواعد إبراهيم، ونفى الشرك وأهله، وأبطل ما كانوا يجعلونه من انحراف أو تغيير وتبديل في هذا الحج. وأيضاً: إن تمام النعمة هو حصول المغفرة، وحصول المغفرة قد وقع في يوم عرفة الذي نزلت فيه هذه الآيات، ومعنى تمام النعمة حصول المغفرة، ويدل على ذلك دلائل كثيرة من كتاب الله عز وجل، منها قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2]، وقوله عز وجل: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6] أي: التطهير من الذنوب هو تمام النعمة. وقوله عز وجل: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] هذا عموم يبين أن الكمال وأن المغفرة هي النعمة التي يجد بها الإنسان أعظم الفضل، فيرضى بدين الله عز وجل الذي فيه هذه المنن والفضائل كلها. ونشير هنا إلى عظمة التشريع الإسلامي وعموم فضل الله عز وجل، فالحج فرض في العمر مرة واحدة تيسيراً، وإن كان فضله عظيماً، وهذا تيسير؛ لأن الإتيان به مكرراً فيه مشقة، فكيف ينال المرء فضيلة ما فيه من الفضل؟ جعل الله عز وجل هذا معمماً للناس عندما فضل هذه العشر كلها، فمن حج أصاب فضيلة الحج، ومن لم يحج فعنده فضيلة العشر؛ لما فيها من تكفير للذنوب، ولما فيها من أعمال صالحة، ومن رجحان فضيلة وأجر الأعمال الصالحة فيها، كما قال القائل: جعل الله عز وجل موسم العشر مشتركاً بين السائرين للحج والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قد يوفق في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج، وهذه نعمة من الله عز وجل. ليالي العشر أوقات الإجابة فبادر رغبة تلحق ثوابه ألا لا وقت للعمال فيه ثواب الخير أقرب للإصابة من اوقات الليالي العشر حقاً فشمر واطلبن فيها الإنابة

النصوص الدالة على فضل يوم عرفة

النصوص الدالة على فضل يوم عرفة روى ابن حبان في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أفضل الأيام يوم عرفة). وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال عليه الصلاة والسلام: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟) إلى آخر الحديث. وفي المسند عن عبد الله بن عمرو أنه قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين؛ يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم). وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يباهي بأهل عرفات يقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً). وعن جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ضاحين، جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير أكثر عتيقاً من النار في يوم عرفة) إلى روايات أخرى كثيرة، وهذا داخل في ضمن فضائل العشر، فللحاج هذه المزية، ولغير الحاج مزية وفضيلة الصوم التي أشرنا إليها.

حكم صيام يوم عرفة للحاج

حكم صيام يوم عرفة للحاج صوم يوم عرفة لغير الحاج مؤكد تأكيداً عظيماً، ولم يرد في فضل صيام يوم منفرد مثلما ورد في صيام يوم عرفة، فضلاً عن كونه مندرجاً في العشر نفسها، وأما الصيام للحاج فقد ورد حديث أم الفضل بنت الحارث: (أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم -وانظر إلى ذكاء نساء المؤمنين- فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن وهو واقف على بعيره في يوم عرفة، فشرب منه عليه الصلاة والسلام)، فهذا كما يقولون: "قطعت جهيزة قول كل خطيب فلم يصمه النبي عليه الصلاة والسلام عندما حج، وقد وردت رواية ضعيفة عن أبي هريرة: (أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن صوم يوم عرفة)، وقد اختلف أهل العلم في حكم صيام يوم عرفة في عرفة: روي عن عائشة أنها كانت تصومه وهي حاجة، وروي عن عثمان بن أبي العاص وابن الزبير أنهما كانا يصومانه، والصحيح الذي ذكره كثير من أهل العلم كـ الشافعي ومالك: أنه لا يستحب للحاج صيامه؛ وذلك ليتقوى الحاج على الطاعة والعبادة، ولكن من صامه فإنه لا شيء عليه، والنهي على فرض ثبوته إنما هو نهي كراهة لا نهي تحريم، أي: أن النهي إنما هو من أجل التقوي على الطاعة والعبادة، فإن استطاع أن يقوى على الطاعة والعبادة مع الصيام فلا شيء عليه في هذا.

حكم صيام أيام التشريق

حكم صيام أيام التشريق ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) أخرجه أصحاب السنن، وورد أيضاً: (أنه بعث في أيام منى منادياً ينادي: لا تصوموا هذه الأيام؛ فإنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)، وإن كانت هذه الرواية فيها ضعف كما ذكر بعض أهل العلم.

الأحكام المتعلقة بالأضحية

الأحكام المتعلقة بالأضحية وقفتنا الأخيرة عن الأضحية؛ لأنها داخلة في العشر، ونبدأ بفضيلتها: ورد في فضل الأضحية حديث قال الترمذي عنه: ضعيف لضعف بعض رواته، والحديث عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما عمل ابن آدم من عمل يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من هراقة الدم -يعني: الذبح- وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع في الأرض، فطيبوا بها نفساً) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا يعرف من حديث هشام إلا من هذا الوجه، فيه راو اسمه: أبو المثنى، ضعفه أبو حاتم جداً.

ما يستحب وما يكره في الأضحية؟

ما يستحب وما يكره في الأضحية؟ ما يستحب في الأضحية وما يكره فيها؟ ورد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، يطأ على صفاحهما -والصفح هو جانب العنق- ويذبحهما بيده ويقول: باسم الله، والله أكبر) والحديث متفق عليه، وفيه: استحباب وتأكيد اختيار الأفضل والأحسن، وما ليس فيه عيب كما سيأتي؛ لأنه قال: (كبشين أملحين)، والأملح هو الذي فيه سواد وبياض، ويكون البياض أكثر، ويدل هذا على نوع من الجمال أو البهاء فيه. وفيه: استحباب أن يذبح المرء الأضحية بنفسه إن قدر على ذلك، بل قد قال أهل العلم: وكذا يستحب للمرأة أن تذبح أضحيتها إن قدرت عليها، فقد روي عن أبي موسى: (أنه كان يأمر بناته أن يذبحن ضحاياهن بأيديهن)، وهذا مما يستفاد من هذا الحديث. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن الرسول عليه الصلاة والسلام (أنه ضحى بكبش أقرن فحيل، يأكل في سواد، ويشرب في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد) والحديث حسن أخرجه الترمذي، والفحيل هو: الكريم المختار من الفحلة، أي: الجيد، وقيل أيضاً: الفحيل: المنجب في ضرابه، وأراد به النبل وعظم الخلق، أي: يختار من الجيد. قوله: (يأكل في سواد) أي: أحاط بفمه لون أسود. وكذلك بالنسبة لقوله: (ينظر في سواد، ويمشي في سواد) إلى آخره، أي: تلك المواضع سوداء، وسائر بدنه أبيض، وهو مطابق لقوله: الأملح. وقد وردت أحاديث صحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام في اختيار الأضحية، فروى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة من حديث علي قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء)، المقابلة: ما قطع طرف أذنها. والمدابرة: ما قطع من جانب الأذن، والشرقاء: المشقوقة الأذن، والخرقاء: المثقوبة. ولعل سائلاً يقول: وما دخل الأذن بالأضحية، إنما يؤكل لحمها؟! نقول: هو عيب يبخس من قيمتها، فكأن المرء لا يضحي لله إلا بما هو هين عنده أو هين عند الناس، وهذا لا ينبغي أن يكون، بل يستحب أن تكون الأضحية من الأواسط والكرائم إن استطاع. وقوله: (نستشرف العين والأذن) أي: ننظر إلى صحتها وعظمها، وهذا مثل هذا.

سنن الأضحية

سنن الأضحية عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئاً) أخرجه الإمام مسلم وغيره، والمقصود بذلك أنه يتشبه بالمحرم، فلا يقص من أظفاره، ولا يقص شعره، ولا شيئاً من أنواع الشعور على اختلافها، وهذا فيه نوع من الاشتراك مع الحاج في بعض العمل، والاشتراك أيضاً في بعض الأجر الذي ساقه الله عز وجل لأمة الإسلام عموماً، واختلف العلماء في ظاهر هذا الحديث فبعضهم قالوا: لا يجوز لمن يريد الأضحية بعد دخول العشر أن يأخذ من شعره أو ظفره إلى أن يذبح، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وقال به ربيعة والإمام أحمد وإسحاق، وكان مالك والشافعي يريان ذلك على الندب والاستحباب، ورخص أصحاب الرأي في هذا. وأيضاً قالوا: هذا الحديث دليل على أن الأضحية غير واجبة، من أين وجه الاستدلال؟ من قوله: (فإذا أراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره)، فقوله: (إذا أراد) معنى ذلك أنه إذا لم يرد فالأمر بالخيار، وليس الأمر واجباً وإنما هو سنة مؤكدة، والنبي عليه الصلاة والسلام نحر عن نفسه، ونحر عن أهل بيته، ونحر عن أمته، وقد نحر عليه الصلاة والسلام في حجة ثلاثة وستين من الإبل قائمة ثم وكل علياً فأتم المائة، وهذا كله دليل على التفضيل، ودليل على أن الذبح لله عز وجل من أفضل القربات, وأنه من أكثر ما يتعاطاه الناس في بيان المحبة وبيان الخضوع وبيان التقرب والتذلل لله عز وجل. وبعض أهل العلم رأى أنها واجبة، وذهب إلى ذلك بعض أهل الرأي، واستدلوا بحديث مخنف بن سليم (أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم عرفة فقال: على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة) والعتيرة هي التي تسمونها: رجبية، والحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، ولكن في سنده بعض الضعف، ويعارضه تلك الأحاديث الصحيحة، فالقول الصحيح قول الجمهور، وهو أنها ليست واجبة، وقد ذكر الأكثرون أن العتيرة التي في رجب منسوخة؛ لأنها كانت تذبح في رجب تعظيماً له فيما مضى ثم نسخت بعد ذلك، وقد ورد في حديث مرفوع عن أبي هريرة: (لا فرع ولا عتيرة) والفرع هو أول نتاج الأنعام كانوا يذبحونه لطواغيتهم في الجاهلية، والعتيرة في رجب، فهذا نهي عنها، وحديث أبي هريرة هذا متفق عليه عند البخاري ومسلم.

حكم الاشتراك في الأضحية

حكم الاشتراك في الأضحية يجوز الاشتراك في الأضحية، قال جابر رضي الله عنه فيما رواه مسلم: (نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) أي: اشترك سبعة فيها، وفي حديث جابر: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) ووردت رواية عن ابن عباس: (اشتركنا في الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة) والمشهور هو الأول. وأما الاشتراك في الأضحية الواحدة فقد ورد أن الإنسان إذا ضحى ولو بشاة واحدة عنه وعن أهله جاز؛ لأنه على الاستحباب، وإذا كان على الاستحباب وليس على الوجوب على كل أحد فكأنها عنه، وأراد أن يشرك في أجرها أهله؛ فلا بأس، فهي في الأصل تجزئ عن واحد لكن لو قال: عني وعن أهل بيتي فحسن؛ لأنه روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه ضحى بكبش وقال: هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) أخرجه أبو داود والترمذي وهذا الحديث حسن، وأيضاً صح عن عائشة: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، وينظر في سواد، فلما جاء ليذبحه قال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) أخرجه الإمام مسلم، وقد سأل عطاء أبا أيوب الأنصاري عن الضحايا فقال: (كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون، حتى تباهى الناس وصار كما ترى!)، أي: بعد عهد النبي عليه الصلاة والسلام.

حكم أكل لحوم الأضحية وادخاره

حكم أكل لحوم الأضحية وادخاره يباح أكل لحوم الأضاحي حتى بعد زمن، وقد ورد أن أيام التشريق سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يشرقون اللحم ويقددونه حتى يجف، فيأكلونه خلال أيام التشريق، وكان هناك نهي عن الأكل بعد الثلاث، ولكن ورد عن جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام: (نهى عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا) فالمسألة فيها سعة، وقد نسخ هذا المنع ولا إشكال في هذا.

الأسئلة

الأسئلة

وجه التفضيل بين عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان

وجه التفضيل بين عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان Q عندما ساق ابن القيم المقارنة بين فضل العشر من ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان، فضل ليالي العشر الأواخر من رمضان، وفضل الأيام العشر من ذي الحجة، فهل نستفيد من ذلك أن قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] يقصد بها العشر الأواخر من رمضان؟ A القول في هذا أنها عشر ذي الحجة كما ورد عن ابن عباس وعن ابن الزبير، وقد ثبت ذلك معلقاً مجزوماً عند البخاري عنهما، وهو قول مجاهد وكثير من أئمة السلف والخلف من المفسرين. وأما ورود مسألة التفضيل فهي مسائل ترد على الخاطر ثم يأتي فيها جواب أهل العلم، وعموم الفضل ثابت، لكن التحديد يكون بنص أو بنقل، خاصة في مسائل التفسير، وكأن الأخ يقول: إذا قلنا: تلك الليالي أفضل من هذه الليالي فلماذا لا تكون (وليال عشر) هي العشر الأواخر؟ فكما قلنا: هي عشر ذي الحجة كما نص عليه السلف، وعشر ذي الحجة منصوص في فضيلتها الأيام والليالي مع بعضها، وليس الليالي وحدها.

الأعمال المترتبة على فضل الزمان والمكان

الأعمال المترتبة على فضل الزمان والمكان Q ماذا يترتب على فضل الزمن كليلة النصف من شعبان؟ هل معنى ذلك مضاعفة العمل، مع العلم بأنه لا بد لذلك من فائدة؟ A حقاً لا بد له من فائدة، فإذا عرفت فضيلة الزمان أو فضيلة المكان فينبغي أن تجتهد بأن تملأ الزمان أو أن تشتغل في هذا المكان بالطاعة وتكثر منها، فتكون لك فضيلة العمل نفسه، ومضاعفة الأجر لفضيلة الزمان أو المكان، مثل: أن تكون في الحرم، فأنت تعرف فضيلة الصلاة في الحرم، فعليك أن تصلي الفرائض، وأن تستكثر من النوافل، وتزيد من الأعمال والبر؛ فإن ذلك فيه خير، وكذلك تجتهد في الطاعة في الزمان الفاضل. وبالنسبة لليلة النصف من شعبان حديثها فيه اختلاف بين أهل العلم، بعضهم ضعفه وبعضهم حسنه، وقد مال إلى تحسينه بعض المحدثين من المتقدمين والمتأخرين، لكن ما خص بعمل بعينه يواظب عليه، وبعض الناس لا بد أن يأتي في ليلة النصف من شعبان بعمرة، لا بأس إن أتى بها من باب العمل الصالح، لكن كونه يعتقد أنها سنة ويواظب على ذلك كما يفعله بعض الناس من التأكيد على هذا كالسنن فهذا لا ينبغي؛ لأنه كما قال الشاطبي وغيره: لا ينبغي المواظبة على عمل بعينه من الأعمال المطلقة، وينبغي أن يتركه في بعض الأيام أو الأحوال؛ لئلا يشبه بالسنة الماضية. الأعمال المطلقة مثل: صلاة النافلة، يمكن أن تصلي في أي وقت ركعتين أربعاً عشراً، ثم قد تواظب أنت على شيء بقدر طاقتك، تواظب مثلاً على ست ركعات كل ليلة بعد العشاء، لا حرج في هذا، لكن لا ينبغي أن تواظب عليها طول دهرك وعمرك، وخاصة عندما تكون محل نظر الناس، أو كنت من أهل العلم، فقد يقول الناس: ما يواظب على الست الركعات إلا لأنه ورد فيها حديث بعينه أو نص بعينه، قالوا: فالمواظبة على ما لم يثبت على الدوام فيه بعض المؤاخذة، وقد يكون فيه شيء من الابتداع، وإن كان أصل العبادة المطلقة ليس لأحد أن يمنع أحداً منها.

حكم تقديم الحج على الجهاد والعكس

حكم تقديم الحج على الجهاد والعكس Q أيهما يقدم الحج أو الجهاد؟ A إن كان الجهاد فرض عين، والعدو قريب، وهناك إنسان لم يحج الفريضة وهو في الجبهة، وليس عنده إلا خياران لا ثالث لهما: إما أن يجاهد، وإما أن يحج، وإن قلنا: يجاهد ثم يحج فقد يستشهد في المعركة، فنقول: الله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها، إن كان لم يقصر في أداء الفريضة في وقتها فلا إشكال، ولكن لا شك أنه إذا تعين الجهاد وهو في بلد، والحج بعيد، فإنه لا يترك بلده ويذهب ليحج؛ لأن الجهاد فرض الوقت، وفرض الوقت في آنه يقدم على غيره، والله أعلم.

قاعدة المثبت مقدم على النافي وبعض أمثلة لها

قاعدة المثبت مقدم على النافي وبعض أمثلة لها Q قاعدة: المثبت مقدم على النافي هل لها أمثلة أخرى غير حديث عائشة؟ A هي قاعدة تطبق على غيرها، ومن أمثلتها ما جاء في حديث لإحدى أمهات المؤمنين قالت: (ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط) يعني: ما صلى سنة الضحى قط، وأبو هريرة يقول: (أوصاني خليلي بثلاث، وذكر منها الضحى)، وحديث عتبان بن مالك (أنه جاءه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته ضحى فصلى وصلى هو معه). فهي ما رأته، وغيرها رآه، فليس كل أحد رأى كل شيء ولا علم كل شيء، أما إذا قال: سمعته يقول كذا، فحينئذ تحتاج المسألة إلى تحرٍ، أما إذا قال لك: ما رأيت، والثاني يقول: رأيت، فهنا لا إشكال أن نقدم المثبت على النافي.

حكم صيام العشر الأواخر من ذي الحجة لمن لم يصم العشر الأول منه

حكم صيام العشر الأواخر من ذي الحجة لمن لم يصم العشر الأول منه Q ما حكم من صام العشر الأواخر من ذي الحجة إذا ما صام العشر الأوائل من ذي الحجة؟ A لا وجه للتخصيص، إن كان هو يكثر من الصوم عموماً فليصم العشر أو العشرين ما في بأس، بشرط ألا يصوم الدهر، والأفضل له ألا يصوم إلا ما يستطيعه حتى لا يبدأ في طاعة ثم ينقضها، وأفضل الصيام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صيام داود، صيام يوم وإفطار يوم).

وجه عبارة الترمذي: حديث غريب مع تضعيفه للحديث ووجه الاقتران بالحسن

وجه عبارة الترمذي: حديث غريب مع تضعيفه للحديث ووجه الاقتران بالحسن Q بالنسبة لعبارة الترمذي: حديث غريب، ما وجه اقترانه بصفة الحسن؟ A هناك اختلاف في نسخ سنن الترمذي بين قوله: حسن، أو حسن غريب، أو حسن صحيح، وقد يكون فيها بعض اختلاف في النسخ، وأما الغرابة فالمقصود بها التفرد، وليس المقصود بها الإشارة للضعف، والنص على الضعف، فيكون مقصوده أحياناً أن الحسن قد يأتي من وجه، ويترجح بطريق آخر، ولكن في هذا الحديث بعينه ما بحثته حتى أنظر هل قوله: حسن مع قوله بعد ذلك: وأبو المثنى سليمان بن يزيد فيه ضعف، فهل هناك نسخة أخرى ليس فيها قوله: حسن؟ فهنا ذكر أنه غريب مع التضعيف، والله أعلم.

طلب بإفراد الأعياد بدرس خاص

طلب بإفراد الأعياد بدرس خاص Q نقترح إفراد درس خاص عن الأعياد؟ A لعلنا إن شاء الله نتكلم عن أحكامها وآدابها وما يستفاد منها.

حكم رفع أصحاب السيارات للأجرة عند نقل الحجاج بين المشاعر

حكم رفع أصحاب السيارات للأجرة عند نقل الحجاج بين المشاعر Q أصحاب السيارات الخاصة ينقلون الحجاج بين المشاعر بمبالغ مرتفعة جداً عن الأيام العادية؛ فهل في ذلك شيء؟ A إذا كان مبنياً على التراضي فلا شيء فيه، وزيادته لها وجه؛ لأنه في الغالب يستغرق في الذهاب من الوقت أضعاف ما يذهب في أيام غيرها؛ وذلك بسبب شدة الزحام، فارتفاع له مقابل؛ لأنه قد يذهب من مكان إلى مكان بسرعة في الأيام العادية، ويأخذ أجرة خمسة ريالات مثلاً، لكن في أيام الحج يأخذ خمسة عشر أو عشرين؛ لأنه في غير الحج يستطيع أن يذهب أكثر من أربع أو خمس مرات، ويحصل على أكثر من هذا الأجر، لكن لا شك أن الرفق بالحجاج أمر مطلوب، وأن الإجحاف أو الظلم أو المبالغة الزائدة عن الحد لا تليق بالمسلم على إخوانه المسلمين، ولا تليق بمن يقيم بهذه الأرض مع من يفد إليها لطاعة الله عز وجل وحج بيته، فلابد من تقدير ظرف الحاج والإحسان إليه، وإذا ترك شيئاً أو خفف أو قلل في السعر ابتغاء وجه الله فإنه يؤجر إن شاء الله تعالى.

حقيقة الأضحية والفدية والهدي

حقيقة الأضحية والفدية والهدي Q الأضحية والفدية والهدي ما حقيقة كل واحدة منها؟ A الأضحية: هي سنة عامة للحاج وغير الحاج، تضحية لله عز وجل وابتغاء الأجر. والفدية: هي التي تكون مترتبة عن ترك واجب في مناسك الحج والعمرة في غالب الأحوال. والهدي: هو الذي يسوقه الحاج معه ويهديه إلى الحرم، وهو نوع من الأضحية، لكنه أحياناً قد يكون من ضمن النسك كما في شأن القارن بين الحج والعمرة.

حكم أخذ الظفر والشعر في العشر من أهل المضحي

حكم أخذ الظفر والشعر في العشر من أهل المضحي Q إذا أراد أن يضحي الرجل عن نفسه وعن أهله فهل يأمر أهله بألا يأخذوا من أشعارهم وأظفارهم؟ A الصحيح أن المقصود بهذا هو الذي يضحي بنفسه، أما من يضحى عنه فليس بشرط، وهذا حتى للحاج إذا أراد الأضحية، فينبغي له أن يحلق شعره وأن يقلم أظافره قبل دخول العشر، حتى لا يحتاج إلى ذلك عندما يريد أن يحرم؛ لأن من سنن الإحرام أن يحلق عانته، وأن يزيل شعر الإبط، وأن يقلم الأظافر، ويغتسل، ويتطيب، فلو أراد أن يضحي فيحسن به أن يفعل ذلك قبل شهر ذي الحجة حتى ينال الأمرين معاً إن شاء الله تعالى.

فدية الحج ووقت وجوبها

فدية الحج ووقت وجوبها Q ما هي فدية الحج؟ A إذا ترك واجباً من الواجبات فعليه فدية، ويشبهه أو قريب منه المتمتع الذي عليه ذبح الدم عن تمتعه.

حكم وطء الرجل امرأته أثناء الحج

حكم وطء الرجل امرأته أثناء الحج Q ما حكم وطء الرجل لامرأته في أيام الحج؟ A إن كان قبل التحلل الأول فإنه يبطل الحج كلية، ويجب عليه إتمامه، وعليه الفدية، وعليه الحج من قابل، ومسألة القضاء مهمة سواء في الحج أو العمرة، فمن تلبس بالنسك وشرع فيه -ولو كان تطوعاً- ثم خرج منه بغير عذر أو لعذر له فيه مأخذ شرعي فالقضاء لا بد منه.

صيام العشر

صيام العشر Q هل الأفضل صيام العشر كلها أم يوم عرفة فقط؟ وهل العتق من النار في يوم عرفة لكل الناس؟ A صوموا كلها إن كنتم غير حجاج، والعتق من النار في يوم عرفة خاص بالحجاج فيما ورد من النصوص وليس عاماً لكل أحد.

حكم حج الحائض والنفساء

حكم حج الحائض والنفساء Q بالنسبة للمرأة إذا حاضت أو نفست في أيام الحج أو قبل الحج ما عليها؟ A يجوز لها أن تهل بالحج وأن تحرم به، وأن تنوي من ميقاتها ولو لم تكن على طهر، وتؤدي كل مناسك الحج إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، فإذا طهرت طافت، ولها أن تؤخر طواف الإفاضة حتى تطوف للإفاضة وللوداع طوافاً واحداً في وقت واحد، لكن بشرط أن تنوى أنه طواف إفاضة؛ لأنه ركن.

حكم من حج عن ميت أجنبي دون أن يعلم أهله

حكم من حج عن ميت أجنبي دون أن يعلم أهله Q سائل يريد أن يحج عن أخ له في الله قد مات، فهل يجب عليه أن يخبر أهله علماً بأنه قد حج عن نفسه؟ A ليس بواجب عليك أن تخبر أهلك؛ لأن هذا نوع من الإحسان إلى أخيك أو صديقك الذي بينك وبينه معزة، وقد توفاه الله عز وجل، فتحج عنه وتنوي الثواب له فلا شيء في هذا إن شاء الله.

حكم الرجم في ثاني أيام التشريق قبل الزوال والخروج من منى بعد الزوال

حكم الرجم في ثاني أيام التشريق قبل الزوال والخروج من منى بعد الزوال Q هل الرجم في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل الزوال والنفرة من منى بعد الزوال جائز؟ A قد يفتي به بعض أهل العلم للترخيص، لكن لا بد أن تنظر فيمن أفتى به، هل هو من أهل العلم المعتبرين؛ لأن بعض الناس يسمع كلام أي واحد ويأخذ به، فإذا أخذت بقول رجل ليس من أهل العلم المعروفين من كبار العلماء، أو من مجامع الفتوى، فقد تأخذ بقول مرجوح أو تبطل حجك أو تأتي بنقص فيه، والمسألة كلها ساعة أو سويعة، وأنت قد أتيت للحج من أفق بعيد أو أتيت له حتى من قريب، لكنك قد تعبت وجهدت في أداء المناسك، فتمم ذلك، وليس في مثل هذا داع للترخص أو التعجل.

حكم من وقف في يوم عرفة بعرفة وهو غير حاج

حكم من وقف في يوم عرفة بعرفة وهو غير حاج Q من كان في عرفة واقفاً وليس بحاج، فهل هو ممن يباهي الله به الملائكة؟ A ظاهر الحديث يخص الحجاج؛ لأنهم أتوه شعثاً غبراً ضاحين؛ ولأنهم تجردوا من ملابسهم، ولكن في الحديث: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) والله عز وجل فضله عميم، وهذه الأمور لا ينبغي أن يكون فيها السؤال؛ لأن الله عز وجل يفيض بالخير على من أقبل عليه، سواء في عرفة أو في غير عرفة، والإنسان في عرفة يشاهد الناس الحجاج وهم يلبون ويبتهلون ويبكون فيكون متأثراً بهم، وقد يذهب ويحرم ولم يكن قد نوى الحج؛ لما يرى من هذا، فلعله إن شاء الله يؤجر بخدمته للحجاج، وبدعائه لله عز وجل في هذا المكان الفضيل وفي هذا الزمان الفضيل، ويكون مع القوم الذين باهى الله بهم ملائكته، وفضلهم، ووعدهم بالمغفرة والعتق، فهذه كلها مسائل كثيرة في مثل هذا.

حكم من حج عن غيره مبتغيا الأجر والثواب

حكم من حج عن غيره مبتغياً الأجر والثواب Q بالنسبة لمن حج عن رجل هل له أجر أو ليس له أجر؟ A فضل الله عز وجل عظيم، أنت إن حججت عن أبيك ألست تفعل فعلاً خيراً ابتداءً؟! وكل فعل خير له أجره عند الله عز وجل، ثم ألست تذكر الله وتتلو وتدعو؟! وبعض الناس يظن المسألة فيها انفصال، فإذا حج عن غيره فهو يدعو وليس في قلبه خشية ولا تعلق ولا رجاء في الله عز وجل! كلا، المقصود بالحج أنه عمل تصح فيه النيابة، فيستطيع الإنسان أن يؤديه ثم ينويه بجملته كاملاً عمن نواه عنه، وليس فيه أنه لا بد أن يقول: أنا أرمي هذه عن فلان، وفي غير وقت الطواف مثلاً ليس بحاج وكأنه شيء آخر، فتراه لا ينشغل كما ينشغل في حجه بالتلاوة أو الذكر، وكأنه في وظيفة، وإذا ذهب ليرمي رمى ثم يرجع!! ليس كذلك، فالأجر إن شاء الله حاصل من كل وجه بإذنه سبحانه وتعالى.

حكم من حج على نفقة غيره

حكم من حج على نفقة غيره Q من أراد أن يحج وليس عنده نفقة فأعطاه بعض الناس إما هبة وإما مودة وإما صدقة مالاً ليحج به، هل يجوز أو لا يجوز حجه حج الفريضة؟ A الله عز وجل بين لنا: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الاستطاعة الزاد والراحلة) فمن أين أتى الزاد؟ من أين أتت الراحلة؟ إذا لم يكن من حرام فلا إشكال، بل حتى لو كان من حرام يصح الحج وعليه الإثم كما ذكر أهل العلم. الإسلام يدعو المسلمين أن يعينوا إخوانهم في كل شيء، فإذا أعانك أخ لك على أن تحج معه وهو مقتدر، أو أن تحج على حسابه وهو ميسور فلا إشكال في ذلك، ولا توجد أدنى شبهة في جوازه وكماله، سواءً كان حج فريضة أو حج تطوع.

حكم إرسال الحاج بثمن أضحيته إلى بلده

حكم إرسال الحاج بثمن أضحيته إلى بلده Q الأضحية هل يرسل الحاج بثمنها إلى أهله في بلده حتى يضحوا لحاجتهم وحاجة من في بلدهم؟ A ليس هناك بأس، ولا يشترط أن يضحي الحاج في بلد الحج، لكن الحاج الذي عليه فدية فيذبحها لأهل الحرم، أما غير ذلك فجائز، والأمر في هذا واسع، وإن كان فيه بر بأهله وبقرابته فلعله يكون له بذلك أجر إن شاء الله عز وجل.

حكم ذبح الأضحية بعد أيام التشريق

حكم ذبح الأضحية بعد أيام التشريق Q هل يجوز أن أذبح الأضحية بعد عودتي من الحج هنا في جدة بعد أيام التشريق؟ A الظاهر أن الفضيلة في يوم النحر، وأتبع بها أيام التشريق؛ لأنها محل الطاعة والعبادة، ولا زالت حاجة الحجاج إليها، وأما بعد ذلك فالصحيح أنها جائزة، لكنها في غير الوقت الفاضل، والله أعلم. نكتفي بهذا، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يأخذ بنواصينا للبر والتقوى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

مقارنات في الاختبارات

مقارنات في الاختبارات تمر الأمة الإسلامية في هذه الآونة بمراحل صعبة وظروف قاسية واختبارات حاسمة، ولهذا كان لزاماً على كل فرد فيها أن يقوم بما يستطيع للدفاع عن دينه وأمته، وأن يبذل ما في وسعه لدحر العدوان وصد المؤامرات، وأن يسعى قبل ذلك كله لإصلاح نفسه وسد خلله حتى لا يكون هدفاً سهلاً تؤتى الأمة من قبله.

بين اختبارات الطلاب واختبارات الأمة

بين اختبارات الطلاب واختبارات الأمة الحمد لله جعل الدار الدنيا ممراً، والدار الآخرة مقراً، وجعل الدنيا دار العمل والبذل والابتلاء، والآخرة دار الحساب والثواب والجزاء، له الحمد سبحانه وتعالى خلق فسوى، وقدر فهدى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موضوعنا: مقارنات في الاختبارات؛ لأن طلابنا في نهاية العام يدخلون في الاختبارات. والاختبارات عندنا مهمة، ولها من الاستعداد والإعداد والتهيؤ مالها، غير أن أمتنا تمر باختبارات أكبر وأصعب، دون أن يكون هناك ما يكافئ هذه الاختبارات من الاستعدادات. ولعلنا نعرف ما ذكرته مراراً وتكراراً من أن القضية الأولى، والمسألة العظمى، والاختبار الأصعب الذي تمتحن فيه الأمة في إيمانها وعقيدتها وفي سيادتها وإرادتها، وفي مبادئها وأخلاقها وحضارتها، هو الاختبار على أرض فلسطين، وفي قضية الأقصى.

أهمية التركيز والانتباه لما يحاك للأمة

أهمية التركيز والانتباه لما يحاك للأمة وفي الاختبارات يحصل كذلك التركيز والدقة، فعندما يأتي الطلاب للإجابات يركزون في معرفة وفهم الأسئلة، ويقرءونها قراءة فاحصة، ويعيدون النظر إليها؛ ليعرفوا مغازيها ومراميها، وما قد يكون فيها من بعض الحيل المقصودة، وما قد يريده أصحاب الأسئلة من المعلمين من اكتشاف الذكاء والفطنة، واستحضار الانتباه والذكاء، ثم بعد ذلك يجيبون كل سؤال في مكانه مع الشمولية، فإنه لو أتقن إجابة سؤال واحد وحاز فيه على الدرجة الكاملة ثم ترك بقية الأسئلة فنتيجته إلى رسوب قطعاً. ثم كلنا يعلم أنه لابد من المراجعة قبل تسليم أوراق الامتحانات؛ للتأكد من دقة الإجابات وصوابها، وذلك أيضاً مطلوب في هذه القضية المهمة، وفي كل اختبارات أمتنا الملمة، فلابد أن يكون الأمر كذلك. أما هذه السذاجات أو إن شئت قل: المؤامرات والتآمر على الإسلام والمسلمين فأمرها بين، فنحن لا نكاد نرى أن القوم يقرءون الأسئلة، ولا يعرفون مغازي ما يقدم لهم من المبادرات، أو ما يطرح لهم على ما يسمى طاولة المفاوضات، بل يقرءون الأسئلة قراءة الطالب الغر الساذج الذي لا يفهمها، ثم يجيب في غير ذلك المجال، ثم يخفق في آخر الأمر. ونحن نرى تشتتاً، وليس هناك تركيز، ونحن نرى هلامية وليس هناك وضوح، ونحن نرى جزئية وليس هناك شمول، وهذه من أخطر القضايا، حيث أصبحت قضية المسلمين ومقدساتهم قضية لشعب واحد، بل ربما لجزء من شعب، بل ربما لفئة محدودة من جزء من شعب؛ حتى تتلخص بعد ذلك في أشخاص معدودين، وكأنهم هم الذين يعنيهم الأمر، وهم الذين إذا قبلوا ينبغي أن نقبل، وإذا وافقوا ينبغي أن نوافق، وكأنما ننظر إلى سؤال واحد، ونترك بقية الأسئلة، وكأننا لا ندرك أن ما يجري اليوم في أقصى الأرض يمس من في أدناها، وما يحصل من حدث في شرقها وصل تأثيره إلى غربها، فكيف ونحن أبناء دين واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد، ونحن نعرف اليوم بلا أدنى شك أن الاستهداف هو لديننا بذاته، وهو لكل مسلم منتسب للإسلام وإن لم يتحقق بحقائقه، فهو لهذه الأمة بمقدراتها ثقافية وحضارية ومادية واقتصادية، ثم نجيب هذه الإجابات، ولا نسعى إلى المراجعات قبل أن نقدم الإجابات.

استغلال الفرص

استغلال الفرص والراسب نعلم أنه قد تتاح له فرصة حتى يعوض، فإن أتيحت له فرصة فكيف تجدونه؟ هل تجدونه مهتماً مغتماً، حريصاً جاداً، يريد أن يعوض ما فات، أم أنه يعود إلى لهوه وغيه، وإلى تضييعه وتشتته، فيعاود الكرة؟ ولو عاود الكرة فرسب لأعاد عاماً كاملاً، ولو أعاد الرسوب لطرد من هذه المدارس. تلك هي النتائج ولا شك، ولكننا نرى أن الراسبين في واقع أمتنا في هذه القضية ينجحون وينتقلون إلى مراحل أخرى، ويزدادون رسوباً ويرتفعون، وهذه من المعجزات الغريبة المحيرة للعقول. ونحن لم نر أحداً من طلاب المدارس يرسب عشرات الأعوام، ثم يظل مع ذلك هو الطالب الناجح المتقدم في الفصول من مرحلة إلى مرحلة، إنه أمر عجيب! ونرى لذلك توقعاً خيالياً ونتائج عكسية ورسوباً متواصلاً. نسأل الله عز وجل أن يقي أمتنا الشرور والآثام، وأن يجعلنا ممن يأخذون بأسباب نصر الأمة وعزها، ويعملون لدفع أعدائها، وأن يسخرنا لنصرة دينه ورفع رايته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أخذ الحذر والاحتياط في جميع الأمور والأحوال

أخذ الحذر والاحتياط في جميع الأمور والأحوال الوقفة الثالثة: التوقع والاحتياط: فالطلبة عندما يذاكرون يستعدون لكل شيء، ويتوقعون أن يأتي السؤال في أي باب من الأبواب، ويتوقعون أن تأتي الأسئلة في غاية الصعوبة، ولا يعيشون على أوهام وأحلام. فلو أن أحدهم كان يذاكر درساً واحداً ويقول: ستأتي الأسئلة كلها فيه، ويقول: ستأتي الأسئلة كلها سهلة، ويقول: سيعطوننا الدرجات وننجح، فبماذا نصف هذا الطالب؟ سنقول: إنه طالب غبي خائب ومصيره إلى الرسوب. ولكننا نجد بعض الأحوال في هذه القضية، فقد حصرت الدروس والاختبارات كلها في درس واحد، وفي سؤال واحد أعدت له إجابة واحدة لجميع الأسئلة، وهذا ما نراه في قضية فلسطين اليوم، وفي مشهدها السياسي المعلن العام. إنهم يقولون: ما هي الحرب؟ ونحن نقول في تعريفها وجوابها: هي السلام، ويقولون: ما هي أدوات المقاومة؟ هل هي الأسلحة والطائرات؟ ويكون A هي السلام، ويقولون: ما هي الوسيلة الناجعة لمواجهة تهديم البيوت وقتل الأطفال وتشريد الناس؟ فيكون A هي السلام، ونظن أن النتيجة ستكون نجاحاً بامتياز، وهذا حال الطالب الخائب الذي ذكرته، ولا يحتاج الأمر إلى بيان. ولو أننا نفقه من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم مراجعة الدروس واستحضارها لوجدنا كيف تدرج عليه الصلاة والسلام مع اليهود أنفسهم، فعندما كان غدرهم في أول الأمر في دائرة معينة، وفي اعتداء على امرأة مسلمة، كانت العقوبة والإجابة في حصار وإجلاء مع سلامة الأرواح والأنفس ونقل الأموال والثروات، فلما تكرر الأمر مرة أخرى كان الجواب مختلفاً، كان حصاراً وطرداً وعقاباً مع سلامة الأرواح والأنفس، دون نقل الأموال والثروات، فلما تكرر الأمر في بني قريظة وكانت الخيانة أعظم، كان الحكم الذي وكله النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ، يوم أن حكم بأن يقتل الرجال، وأن تسبى النساء والذرية والأموال، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)، ولما دعاه النبي أن يحكم في اليهود بحسب طلبهم، وتعيينهم لـ سعد بن معاذ ظناً أنه يراعيهم، ويداهنهم، ويجاملهم؛ لعلاقات سابقة، ومصالح سالفة، فقالها سعد كلمات تدوي في سمع الزمان: (لقد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم)، لقد أراد أن يذكر نفسه بأنه لابد أن يقول بالحق، وأن يحكم بالعدل، وأن يأتي بالجواب الصحيح للسؤال المباشر، وأن يجعل العقاب المناسب للفعل الشنيع، فحكم بحكمه الذي ثبته وأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان النبي عليه الصلاة والسلام وفياً بعهده، قائماً بواجبه وبواجب أمته، لكنه كان يمثل قولة عمر رضي الله عنه: (لست بالخب، ولا الخب يخدعني)، فقد أعطى الحقوق، وأوفى بالعهود، فلما وجد الخلل، ولما وجد الطعن في الظهر كانت الإجابات مناسبة، وكانت الأحوال ملائمة، وكانت الاستعدادات والتوقعات والاحتياطات والتحسبات موجودة. وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين)، فكيف بعشر مرات وعشرين مرة؟! أين ذهبت فطنة المؤمن؟! وأين ذهبت عزة المسلم؟! وأين غيرة صاحب الحق وحميته؟ كل ذلك يطوى فيما نشهده من المشهد العام.

مراجعة الدروس الماضية لتصحيح الأخطاء

مراجعة الدروس الماضية لتصحيح الأخطاء الوقفة الثانية: المراجعة والمذاكرة: فطلابنا اليوم يعودون إلى أول درس، وإلى بداية المنهج، ويمرون عليه صفحة صفحة، ويقرءونه درساً درساً، ويراجعونه وحدة وحدة من البداية إلى النهاية؛ لأن المنهج لا يكون إلا متكاملاً؛ ولأن المنهج لابد أن يُستوعب استيعاباً شاملاً، وفي كل ذلك يمرون على الأخطاء السابقة، ويراجعون الاختبارات السالفة، ويرون كيف مرت بهم تلك الدروس، وفاتهم فقه بعضها ومعرفة بعض أسرارها، وكيف مرت بهم تلك الاختبارات فأحسنوا في بعض الإجابات وأخفقوا في تحقيق بعض النتائج، وكل ذلك يدخرونه لكي يتهيئوا لهذا الاختبار النهائي الكبير! وهنا نسأل: هل أمتنا مراجعة لمنهجها من أوله إلى آخره؟ وهل لها في ذلك مذاكرة ومشاورة؟ وأهم من ذلك: هل تعي دروس الماضي؟ وهل تراجع الاختبارات وما كان فيها من نجاحات أو إخفاقات، أم أنها تمر على ذلك مرور الكرام؟ إنها ترسب في اختبار مدريد لتواصل الرسوب بعد ذلك في اختبار أوسلو، ولتواصل المسيرة المنحدرة في المستوى الهابط فيما يأتي بعد ذلك، في صورة تبين أن الإجمال لهذا الحال الذي يتصدر فيه من يتصدر في أمتنا يدل على أن لا مراجعة، وأن لا مذاكرة، ولا منهج يقود، ولا رؤية تسدد، ولا قواعد تضبط قيادتها المتصدرة لمهامها العظمى كما ينبغي أن يكون عليه الحال. عجباً لهزيمة أمتنا في عام (1984م) من قبل شراذم عصابات اليهود عليهم لعائن الله، وكان درس الفرقة، وكان درس المؤامرة، ثم تكرر درس النكبة في الخيانة العظمى والمؤامرة الكبرى في (1967م)، ثم توالت الحيل وتواصلت الإخفاقات فيما بعد ذلك دون أن نعي دروس الكذب والمراوغة، ودروس الغدر والإجرام، ودروس المفاوضة والمناورة. فأنت صاحب حق وصاحب دار، ثم يأتيك ضيف -إن اعتبرته ضيفاً- فيحل ولا يخرج، ثم يدعي أنه صاحب المنزل، ثم يطردك، ثم يفاوضك على أن يكون لك مكان خارج الدار، أو بعد ذلك يمن عليك أن يجعلك في فنائه، ولكنك تحت قوته وسطوته، ثم يقول لك بعد ذلك: كيف تطلب أكثر من هذا؟! ونحن نرى كيف دارت الأمور حتى أصبحت اليوم هذه القضية الإسلامية الإيمانية العقدية التي تمثل بؤرة المواجهة الحضارية بين الإسلام وأعدائه؛ أصبحت اليوم تقاس بالأشبار والأمتار، وتقاس بالطرقات والشوارع، بعد أن كانت قضية الإيمان والعقيدة قضية الحق الثابت، وقضية المبدأ الراسخ.

وجوب التهيؤ والاستعداد لما تمر به الأمة من اختبارات ومصاعب

وجوب التهيؤ والاستعداد لما تمر به الأمة من اختبارات ومصاعب هنا وقفات سريعة ننظر فيها بين اختبارات طلابنا واختبارات أمتنا: الوقفة الأولى: التهيئة والاستعداد: في اختبارات الطلاب تهيئة أسرية يُعنى بها الآباء والأمهات، حيث يهيئون الأجواء، ويوفرون أسباب الراحة، ويقدمون الخدمات، ويخففون التبعات والمسئوليات على الأبناء والبنات، وإن سألتهم: ما لكم؟ قالوا: إنه موسم الاختبارات. ونجد كذلك استعداداً اجتماعياً, والمجتمع كله يراعي ذلك، فلا ترى المناسبات ولا المباريات، ولا المشاركات المعتادة في سائر الأوقات، فإن سألت لماذا؟ قالوا: لأنه موسم الاختبارات. وترى أيضاً تهيئة واستعداداً إعلامياً، فلا ترى كثيراً من البرامج واللهو والترفيه المعتاد، بل تجد الدروس والتذكير والندوات والمساءلات في قضية الاختبارات. وترى كذلك تهيئة واستعداداً نفسياً، وكل هذه العوامل توطد في نفوس الطلاب أن يثقوا بأنفسهم، وألا يتهيبوا تلك الاختبارات، وأن يقووا عزائمهم، وأن يعلوا هممهم، وأن يوطنوا أنفسهم على أن يبذلوا الجهد، ويواصلوا المسير حتى يجنوا النتائج والثمار. كلنا يدرك هذه الأجواء ويعرفها، فكيف والأمة في اختبارها الصعب، ومرحلتها المريرة التي تستهدف وجودها وإيمانها، والذي تعادي مناهجها وأخلاقها، والتي تريد اجتثاث جذورها وأصولها، فهل ترون الأسر تستعد لمثل هذا الاستعداد أم أننا نرى غير ذلك؟ إننا نرى أسراً مضيعة لمهمات التربية، وآباء مهملين لصناعة الأجيال، وأمهات متخليات عن صناعة صانعات الأجيال. ثم نرى المجتمع كذلك من المجتمعات المنشغلة وراء لقمة العيش، أو الكدح في هذه الدنيا، المنشغلة بأمور عارضة واهتمامات دنيا، فتلك هي مواسم ومسابقات الرياضات، وتلك هي مهرجانات الفنون والأفلام والتمثيليات، وتلك هي وسائل الإعلام التي تصم الآذان وتدمي القلوب، وتحزن النفوس، بكل لهو رخيص وتفاهات مغرية، وسخافات مضللة عن مشكلات الأمة ومهامها. فهل أمتنا تستعد للاختبارات العصيبة بمثل تلك الاهتمامات الهزيلة؟ إنها وقفات ومقارنات لا أحتاج فيها إلى كثير من التعليقات، ولكنها تحتاج منا جميعاً إلى كثير من التأملات والمراجعات والتصحيحات، ليس على المسار العام الذي دائماً ما نلقي عليه بالتبعات، بل على مسارنا الخاص، وعلى تكويننا النفسي والقلبي، وعلى أدائنا الأسري والتربوي، وعلى معايشتنا الحياتية والمادية، فضلاً عن طموحاتنا وآمالنا، فضلاً قبل ذلك كله عن إيماننا واعتقادنا ومبادئنا وأخلاقنا. فكيف نخوض خضم هذه العولمة الجارفة التي يراد بها تغيير الثقافة والأخلاق والفكر ونحن لا نهيئ شيئاً في تلك المواجهة، ولا للاختبارات العصيبة الرهيبة؛ فهل هذا إنصاف، وهل هذا معقول؟! ونحن ندرك أن هذه الأمة هي الأمة التي اصطفاها الله عز وجل واختارها لتؤدي أعظم دور، وتقوم بأسمى وأرقى وأعظم رسالة في هذا الوجود، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة). فالجد والاجتهاد صورة حية واقعية في اختبارات طلابنا، والوقت مستغرق في الاختبارات، والجهد مبذول فيها، والفكر منشغل بها، والإمكانات مسخرة لأجلها، وكل شيء في هذه الأيام منصب في هذا الهدف، فإن قلت: لماذا؟ قالوا: لأهميته، وإن قلت: لم هذه الجهود المضنية وسهر الليالي وإمحال الجسم وترك الراحة؟ قالوا: لأنها معمعة يوشك بعدها أن نخرج إلى النجاح والتقدم. ونحن نريد نصراً مؤزراً، وعزاً مؤثلاً، ومجداً فاخراً، وأمتنا تشهد تاريخها، دون بذل جد ولا جهد ولا اجتهاد، دون أن تسد خللاً ودون أن تنفق الأموال، ودون أن تسهر الليالي، ودون أن تتضافر كل الجهود، وأن تجتمع كل الحشود؛ لكي تتجاوز المرحلة العصيبة، والفترة القادمة من تاريخ أمتنا، من المواجهات الصعبة التي تتحداها، وذلك أمر أيضاً نراه في غير مساره الصحيح في جملة من أحوال أمتنا. فأين الأوقات المبذولة حتى في ميادين الحياة العملية؟ لقد صدرت بعض الدراسات التي تقيس مدى إنتاج الموظف والعامل في بلاد عربية وبلاد إسلامية، وبلاد غير إسلامية أو عربية، فظهر التفاوت العظيم، والبون الشاسع، وتبين أن أوقاتنا غير مبذولة حتى في تقوية أمورنا المادية، وأين نحن من بذل الأموال في الأبحاث العلمية والتقدم التقني؟ وأين نحن من بذل الجهود الفكرية في معالجة أوضاع أمتنا المختلة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وغير ذلك؟ أين نحن من هذا كله ونحن نرى الاجتماعات والمؤتمرات، ونرى الجهود والأوقات، ونرى غير ذلك يصرف فيما أشرت إليه من الجوانب التي ذكرناها، والحق جل وعلا يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، إنه ميدان العمل الذي يكون جزاؤه يوم القيامة. إن من لا يقدم عملاً لا ينال ثمرة، إن من يريد النتائج وهو ينام ملء جفنيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويرتاح ملء جنبيه، إنما هو حالم واهم لا يجني إلا ما يجنيه القابض على الهواء، وينبغي أن ندرك ذلك، قال الشاعر: لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا فكيف نريد أن نعود أمة رائدة قائدة كما هو الشأن الذي كان لنا، وكما هو الواجب المنوط بنا، دون أن نبذل شيئاً يكافئ ذلك؟! ألا نستحضر تاريخ أمتنا؟! ألا نستحضر سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم؟! ألا نستحضر الأمة التي شرقت وغربت، وجاهدت، وبذلت الأنفس والأرواح، وعمرت الدنيا، وأسست الحضارة، وتفوقت في العلوم؟! أليس هذا هو ميدان الاختبار ونحن نرى أمتنا في مجمل أحوالها متخلفة في ميدان العلم، متأخرة في مجال التكنولوجيا، متراجعة في مجالات الفكر، دون جد ولا اجتهاد.

أهمية شعور الأمة بالمرحلة التي تمر بها

أهمية شعور الأمة بالمرحلة التي تمر بها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولاشك أيها الإخوة الأحبة! أننا بحاجة إلى أن نستشعر أن أمتنا كلها، وأننا جميعاً كأفراد وأسر ومجتمعات في مرحلة اختبار، وهو اختبار صعب، ونتائجه خطيرة، وإذا لم نستشعر ذلك فلن نتهيأ للاختبارات، ولن نجدَّ ولن نجتهد، ولن نذاكر، ولن نراجع، ولن نركز، ولن نصيب، ولن ننجح، ولن نتفوق. فهل نشعر أننا في اختبار؟ راجعوا أنفسكم لتسألوا هذا Q هل نحن مستشعرون في ذواتنا وأفرادنا وأنفسنا أننا في اختبار صعب عناصره كثيرة: الثبات على الدين، والحفاظ على الهوية؟! إنه اختبار نتعرض له كل يوم عبر المداولات السياسية، والغزوات الفضائية الإعلامية، والمناقشات الثقافية الفكرية، نحن في اختبار ممحص للاستعلاء بالإيمان، والاعتزاز بالإسلام. وقد رأينا من دعا إلى تبديل وتغيير وتراجع، وغير ذلك مما نسمعه ونقرؤه، فنحن في حاجة إلى اختبار عصيب في قوة الحق، وحق القوة، ونحن اليوم أصحاب حق، ولكننا ننخذل عن نصرته، وندعو إلى ترك هذه النصرة، وأصحاب القوة بلا حق يقلبون بقوتهم الحق باطلاً موهوماً مزعوماً، ثم نعترف به ونكرسه، وندعو إلى الحفاظ عليه وإلى مراعاته، إنها أمور عجيبة! واختبارات لبعض القوم مخفقة وراسبة.

في الأمة رموز خير

في الأمة رموز خير ونحن في اختبار كبير في الانتصار على الضعف، وقهر العجز الذي يشيع في أجواء كثيرة لأمتنا، ومع ذلك أيها الإخوة الأحبة! نحن نعلم جميعاً في الاختبارات كلها أنه مهما وجد راسبون، ففيها ناجحون متفوقون، وأوائل مبرزون، وهم الذين يتصدرون تلك الصحف فيما تكتبه عن أسمائهم، وما تذكره من جهودهم، وما تسطره من مآثرهم، وما تبرزه من نتائجهم. ونحن في هذه القضية رأينا الأوائل والسابقين، ورأينا المتفوقين والمتقدمين من الأبطال المقاومين الثابتين على الحق، الرافعين لراية الإسلام الذين عرفوا كل الدروس وراجعوها، وعرفوا الإخفاقات في تلك الهزائم المتوالية، وعرفوا تلك الحيل في تلك المفاوضات المتوالية، فكان بطل واحد منهم يتعرض لجريمة في محاولة اغتياله فتسمع الدنيا كلها به، وتتحدث عنه، وقلت في نفسي وحدثت غيري: من هذا الرجل؟ هل هو رئيس دولة حتى يأتي في صدر كل نشرات الأخبار بشرق الدنيا وغربها؟ هل هو صاحب ثقل سياسي أو وزن اقتصادي؟ ماذا يملك؟ وما قيمته؟ ولمَ كل هذه الأهمية؟ حتى يعرف التافهون والرخيصون كيف تكون القيمة؛ إن قيمته كانت بوقوفه شامخاً، ورفع رأسه عالياً يوم جثا الناس على الركب، وطأطئوا الرءوس إلى الأرض، إن قيمته في استمساكه واعتصامه بما لا يزول ولا يحول ولا يتبدل ولا يتغير من عقائد الإيمان والإسلام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن قيمته وعلوه وسموه كان في أنه استطاع هو وغيره من أصحابه أن يقولوا للإجابة الخاطئة في الاختبار الصعب: لا! يوم قال آخرون: نعم، وأخذوا تصحيحات من المدرسين غير المؤهلين؛ لينجحوا نجاحاً كاذباً، وليرسبوا في حقيقة الأمر رسوباً مريعاً.

طلب النجاح في جميع الأمور

طلب النجاح في جميع الأمور إنها قضية مهمة، نحن اليوم في اختيار صعب، وكل منا يعود إليه الأمر فإن شاء أن يكون من الراسبين أو من الناجحين، أو إذا أراد أن يكون من المتفوقين، وهذا هو حال طلابنا اليوم، إنما يفكرون في هذه الدوائر، وهذا حال أمتنا في اختباراتها الصعبة، وحال كل واحد منا فيما يوجه له من اختبار، فبعضنا يرضى بالدون، ويسكن بالركون والخنوع، ويظهر أنه لا يعنى بهذا الأمر، وكيف يكون حينئذ طالباً مجداً مجتهداً راغباً في النجاح؟ إنها مخاطبة لابد منها؛ لكي نسعى إلى القمة ونطلب العزة بطريقها الصحيح، ومنهاجها القويم، خلف الذين ساروا فيها من الرسل والأنبياء، والدعاة والمخلصين، والمجاهدين والمضحين، والأشراف الأحرار الأبرار، لا خلف يهود أو نصارى، أو دجاجلة كاذبين، أو خونة منافقين، فإن السائر وراء هذا الطريق لا يفضي به إلا إلى خسران الدنيا وعذاب الآخرة، نسأل الله عز وجل السلامة. إلى أولئك النفر المتفوقين ننادي: يا نخبة الأفراد إني ناصح والنصح يقبله اللبيب العاقل المجد مهما عز ظل وارف ونجيه مهما تكبد واصل وصباحه مهما تأخر مشرق ونتاجه مهما تمنع حاصل فاستمسكوا بالصبر إن سبيلكم صعب وليل سراكم متواصل لا مثلكم عن نيل أسباب العلى متخاذل في سيره متكاسل أو تصرفن نفوسكم عن جنة دنيا يتوق لها ويشرف خامل! بل وطنوا هذه النفوس على الندى وتناولوها بالجميل وواصلوا صونوا حقوقاً للإله وحرمة لكتابه ورسوله وتخاللوا لا يرتقي درب المكارم تافه أو يبلغ العلياء يوماً جاهل لكنه عزم يبين ونية تعلي وحال يستبين وصاقل إن كان في الدنيا نعيم يرتجى فنعيمها الغرر الكرام أوائل لا نرضى إلا أن نكون أوائل، ولا أولية إلا باستمساك بديننا ونهج ربنا، وأن نعلم حقيقة الدنيا، وحقيقة الآخرة، وما الذي يضحى به لأجل الآخر، فهل نضحي بآخرتنا وديننا لأجل دنيانا، وحفاظ أرواحنا وسلامنا وأمننا، كما يدعون ويزعمون، أم أننا نؤثر أخرانا، ونقدم لأجلها مهجنا وأرواحنا، ونستحضر الصفقة الرابحة التي أخبر الحق سبحانه وتعالى بها، والتي ذكرها في آيات القرآن الكريم ترغيباً وبياناً لهذه الحقيقة المهمة التي لابد لنا أن ندركها، وأن نعيها، وأن نتشبث بها دائماً وأبداً في كل أحوالنا، ونتذكر كذلك قول رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم تخلى صهيب الرومي عن دنياه وعن ثروته، وأقبل إلى دينه وإلى أمته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!)، ذلكم هو الربح، وتلكم هي النجاة، وذلكم هو التفوق، كما قال الشاعر: ألا بعنا الإله أنفساً تزكو إذا الله اصطفاها ربح البيع جناناً وعلاً في هذه الأرض وجاها ربح البيع فهل من بائع فالضلال اليوم قد صال وتاها والشعارات وأصنام الهوى ويد الشحناء لا تلقي عصاها والجراحات وأشباح الأسى في قفار التيه تختال دُماها أين منا الأمس إذ كنا به غرة الدنيا ومشكاة ضياها موثقاً حقاً وفتحاً ناجزاً يملأ الأرض عدلاً لا يضاها وجهاداً يحمل الناس إلى قمم الإيمان يعليهم سناها وبطولات تراءت قبساً ساطعاً كالشمس في أوج ضحاها نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جملة المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم أفض علينا الخيرات، وأنزل علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وكفر عنا السيئات، برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم رحمتك ولطفك وعونك وعزك وتأييدك لإخواننا المسلمين، المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وأظهر عزهم يا رب العالمين، اللهم اجعل ما قضيته عليهم زيادة لهم في النور واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطواتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، ووحد كملتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

المرأة بين الحرية والعبودية

المرأة بين الحرية والعبودية لقد أنصف الإسلام المرأة، وجعل لها حق الحرية والاختيار في أشياء كثيرة؛ بخلاف ما يزعم الغرب من أن المرأة في الإسلام مظلومة مستعبدة، وأي استعباد أعظم مما يجري في كل البلاد المتبجحة بإعطاء أهل الحقوق حقهم؟! فالمرأة عندهم مهانة مستضعفة، وليس لها مفهوم إلا أنها محل تفريغ الشهوة كالبهائم وأشد، أما في الإسلام فإن المرأة له مفهوم آخر له معنى جميل، وذوق رفيع في الحياة الإيمانية السعيدة.

العلاقة بين الرجل والمرأة في الحياة الأسرية

العلاقة بين الرجل والمرأة في الحياة الأسرية الحمد لله المتفرد بعزته، المتعالي بعظمته، اللطيف برحمته، القوي بقدرته، خضعت له الرقاب، وذلت له الأعناق، وسجدت له الجباه، وخافت منه القلوب، وجارت إليه النفوس، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى على سائر آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته. وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في موضوع المرأة بين الحرية والعبودية، وبين الاستقلالية والتبعية، وحديثنا يختص ببعض ما يثار من الشبهات، وما يفهم خطأً لكثرة الجهالات، وأمر القوامة والطاعة من أهم الأمور التي تستقيم بها الحياة الأسرية الزوجية، وتنتظم بها الحياة الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه يحقق العدالة الربانية، والمصالح الدنيوية التي جاء بها تشريع الله جل وعلا، وطبقه وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم. الطاعة والقوامة للزوج على زوجته، وللرجل على المرأة أمر من أمور الشرع، تتجلى فيه حكم، وتظهر فيه منافع، وتستخلص منه دروس وعبر، ومع ذلك فإن أصحاب قصر النظر، أو خلل الفكر، أو زيغ المعتقد، أو فتنة الهوى يرون في ذلك من وجهة نظرهم القاصر إنقاصاً لحق المرأة، وجعلها تابعة للرجل بلا استقلالية، أو يرون في ذلك صورة من صور العبودية مستشهدين بذلك القول الرباني زعموا وكذبوا في الوقت نفسه، قوله جل وعلا: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، فقالوا: هذه درجة علو واستعلاء، وتسلط وتحكم. وكذلك ما ورد في قول الله جل وعلا في شأن النساء اللائي ينشزن على أزواجهن: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، وقالوا: هذا ضرب من الرجل للمرأة كأنما هي أمة أو عبدة أو كأنما هي حيوان أو غير ذلك مما يقال. ونحن نقف هنا وقفات عديدة نظهر فيها جهل أولئك أو تجاهل بعضهم؛ لأنهم ذكروا شقاً ونسوا غيره من الأحكام والتشريعات، ثم لم يصدقوا فيما ذكروه، بل لبسوا وأظهروا شيئاً وأخفوا أشياء أخرى. نريد أن نقف على حقيقتين اثنتين مهمتين: الأولى: ما هي حقيقة العلاقة بين الرجل والمرأة في شأن الزواج والحياة الأسرية؟ الثانية: في شأن الرجل مع المرأة بإطلاق.

المرأة طائعة مطاعة

المرأة طائعة مطاعة إن طاعة المرأة لزوجها أمر مطلوب، لكن لما نظهر هذا الشق ونخفي آخر، استمع معي إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحاكم والبزار بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ فقال: زوجها، ثم سئل: أي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ فقال: أمه)، فالمرأة هنا تطيع وهنا تطاع، فلم نغفل هذا الجانب الذي فيه إعزاز وإكرام للمرأة؟! وكذلك الجانب الأول سيظهر أثره وبيانه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في هذا الحديث أن أعظم حق على الرجل هو حق أمه، براً بها وطاعة لها، وحرصاً على رضاها. والنبي صلى الله عليه وسلم جاءه الرجل يسأله: (يا رسول الله! أي الناس أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فأين أدعياء حقوق المرأة وحريتها من هذه المنزلة الرفيعة العالية؟ وما من أحد من الرجال إلا وله أم مهما كبر سنه، أو علا قدره، أو زاد علمه، أو كثر ماله، فإنه ابن لها، عليه برها، والجنة تحت أقدامها، وطريق رضوان الله عز وجل في طاعتها، فأي إعزاز وأي إكرام لما ننظر لطاعة المرأة لزوجها ولا ننظر لطاعة الرجل لأمه؟

وجوب معاشرة النساء بالمعروف

وجوب معاشرة النساء بالمعروف أمر آخر: وهو أن قضية الضرب أو الولاية مسبوقة بتشريعات ربانية حكيمة بالغة في تقدير المرأة، معطية للمرأة أعظم الحقوق، وأكثرها طمأنينة لقلبها، وحفظاً لحقها، وحماية لعرضها، وإعلاءً لمنزلتها، يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، والآية أمر رباني قرآني بصيغة الأمر الجازم الذي لا يحتمل تأويلاً، {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، فإن الله جل وعلا بالتشريع الإسلامي والآيات القرآنية أنزل هذه الأوامر الربانية التي تفرض وتلزم الرجال أن يحسنوا عشرة النساء. وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن الآية مطلقة، {وَعَاشِرُوهُنَّ} [النساء:19]، أي: أيها الرجال عاشروا النساء بإطلاق، وإن كان يغلب على الآية تخصيصها بالأزواج في السياق؛ لكنها تشمل عشرة الأم وإحسان عشرتها بالبر والطاعة، وعشرة البنت وإحسان عشرتها بالعطف واللطف والرحمة والرعاية والتربية، وإحسان عشرة الزوجة، وذلك كما ذكر القرطبي في تفسيره: بتوفية حقها من مهرها والنفقة، وأن لا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: هي المخالطة والممازحة، فأمر الله جل وعلا بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن ليكون حسن الصلة فيما بينهم وصحبتهم على الكمال. وقال بعضهم في المعاشرة بالمعروف -أي: في تفسيرها-: أن يتصنع لها كما يحب أن تتصنع له، أي: أن يتجمل لها ويريها منه ما يرغبها فيه كما يحب أن يرى منها ما يرغبه فيها. ويقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: طيبوا أقوالكم لهن، وأحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله؛ لأن الله يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]. ثم قال: وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله ويتلطف بهم، ويوسعهم النفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة رضي الله عنها فيسبقها وتسبقه، وكان يجلس مع سائر نسائه بعد صلاة العشاء ويتعشى، ثم ينصرف إلى بيت التي هي ليلتها، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أين هذا التشريع المحكم الذي فيه إعزاز المرأة، وحسن الصلة بها، وتقديم حقها، والتلطف معها، واللين معها، من ذلك الجانب الذي يذكرونه بمعزل عن هذا كأنما يذكرون شقاً وينسون شقاً؟! كما قال قائلهم: ما قال ربك ويل للألى سكروا بل قال ربك ويل للمصلينا فقد ذكر {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] ولم يتم الآية. فالذي شرع القوامة شرع قبل ذلك أمراً من الله جل وعلا للرجال بأن يحسنوا معاشرة النساء، وأن يحافظوا على حقوقهن.

مسألة الضرب ومراحل تأديب المرأة

مسألة الضرب ومراحل تأديب المرأة ثم ننتقل إلى الشق الآخر وهو أمر القوامة، وما قد يكون من حق الزوج على زوجته، وخاصة موضوع الضرب الذي يذكرونه. أولاً: الآية القرآنية التي ورد فيها هذا الحكم وردت فيها قبل ذلك مراحل ومراتب، يقول الحق جل وعلا: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] وهنا عدة أمور ينبغي أن نتنبه لها: أولاً: أن هذا الحكم لا يكون إلا بسبب من الزوجة: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34]، فإن عقت زوجها، أو نفرت منه، أو عصت أمره، أو نكدت عيشه، أو أساءت تربية أبنائه، أو فرطت في حفظ ماله، فالأصل أنه لا شيء عليها إلا إن أساءت ابتداءً، وهذا ما ستوضحه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس الأمر في هذا التوجيه سواء كان بالضرب أو الهجر لهوىً في نفس الرجل أو تحكم أو تسلط منه، وإنما بما قد يقع من خلاف من المرأة فيما أمرها الله به في حق زوجها. ثانياً: أن هناك مراحل سابقة: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34]، قال الشافعي: وهو قوله لها: اتقي الله فإنه لا يحل لك ونحو ذلك من الوعظ، فإذا انزجرت به لم يجد أن يتجاوزه إلى غيره، فإن لم يجز ذلك نفعاً فإنه يهجرها في مضجعها، والحديث يقول: (ولا تهجروهن إلا في البيت)، لا يفعل كما يفعل بعض الناس أن يترك لها البيت كما يقولون، أو يشاهدون في التمثيليات، أنه يترك لها البيت وما فيه ويهرب أو يخرج، فليس هذا هو المقصود بهذه الآية، ثم إن لم يجد هذا ولا هذا فلنعلم أن طبائع النفوس تختلف، فامرأة لم تعرف حق زوجها، ولم تقدر قدره، ولم تذكر خيره، ولم تعترف بفضله، ثم عصت أمره، وأعرضت عن وعظه، ثم لم تأبه بهجره، فإن ضربها في مثل هذا الحال فله مشروعية فطرية منطقية عقلية وهي كذلك شرعية. ثالثاً: هناك مواصفات محددة للضرب، فليس الضرب مصارعة حرة، ولا ملاكمة قاتلة كما قد يفعل بعض الرجال الذين ينسون شرع الله، ولا يتذكرون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمر ليس مطلقاً على غاربه، فإن شرع الله محكم، وإن شرع الله عز وجل قد تضمن كل معاني الإنسانية، ومعاني حسن العشرة الأسرية حتى يحفظ مسيرة المجتمع كله. يقول الرازي في تفسيره: الذي يدل على تخفيف الضرب الابتداء بالوعظ، ثم الترقي منه للهجر في المضاجع، ثم الترقي منه إلى الضرب، وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشق. ثم ما هو هذا الضرب؟ ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عمرو بن الأحوص في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حق الزوجة على زوجها؟ قال: (أن يطعمها مما يطعم، وأن يكسوها مما يكتسي، وأن يؤدبها، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت). وورد عن ابن عباس في تفسير هذا الضرب غير المبرح الذي ورد تصريحاً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: (الضرب بالسواك ونحوه)، فهل المقصود بالضرب بالسواك هو ذلك التعذيب والإيلام، أو التسلط والتحكم؟ إنه معنى تأديبي، إنه معنىً توجيهي، إنه معنىً فيه إشارة إلى أن الأمر قد بلغ حداً تجاوزت فيه المرأة ما ينبغي أن تكون عليه. وورد أيضاً في بعض التفاسير عن هذا الضرب أنه الذي لا يكسر عظماً، ولا يشوه جارحة كاللكزة ونحوها، وكالضربة البسيطة التي قد تضربها لصديقك وأنت ممازح له. بل قد ورد في التفسير عن بعضهم: أن يضربها بمنديل ملفوف، معنىً من المعاني وليس ضرباً من الضرب المعروف الذي سيأتي ذكر بعضه. بل قد ورد في صحيح الإمام البخاري حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه معنىً عظيم، ولفتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الذين ينسون أنفسهم، وينسون حق أزواجهم، وينسون حسن العشرة، وينسون ما ينبغي أن تبنى عليه الأسرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم). قال ابن حجر في تفسيره: في الحديث استبعاد الجمع بين الأمرين، كيف يضرب ثم يعاشر؟ فإن أراد هذا فليمنع هذا، فإن النفرة تقع في قلب المرأة من ذلك التسلط أو التجبر وليس هو من دين الله عز وجل في شيء. فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم تعضيداً لما جاء في التشريع القرآني: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، فانظر إلى هذا الحديث العظيم كيف جعل خيريتك في المجتمع المسلم مرتبطة بخيريتك لأهلك، وإحسانك لزوجك وأبنائك وبناتك، إن لم يكن لك خير في أولئك فأي خير يرجى منك لغيره؟! وفي حديث عمرو بن الأحوص قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واضربوهن ضرباً غير مبرح)، وهذا لفت نظر وتنبيه منه عليه الصلاة والسلام في هذا الشأن وبيانه. وانظر إلى تطبيق عملي وقع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي في سننهما، وصححه الحاكم وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضربوا إماء الله، قال: فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عمر الذي كان يخفق الرجال بالدرة- فقال: يا رسول الله! ذئر النساء على الرجال) -أي: نشزن لما أمن العقوبة أو كما يقال: سحبت الصلاحيات من الرجل أو الزوج- (فأذن النبي صلى الله عليه وسلم بضربهن) أي: بنصف التشريع الذي ذكرناه في مرتبته وقدره وحده (فطاف بأبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء يشكين أزواجهن) وهذا يدلنا على انفتاح المجتمع المسلم، وكرامة المرأة، جاءت تشكو مما قد يكون وقع عليها من ظلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد طاف بآل رسول الله سبعون امرأة، كلهن يشكين أزواجهن ثم قال: ولا تجدون أولئك خياركم)، هؤلاء الذين يضربون أزواجهم ليسوا من خيار الناس ولا من كرمائهم، أي: إذا تجاوزوا الحد المشروع. أي كرامة، وأي شخصية، وأي مروءة عند هذا الرجل الذي يضرب زوجته ضرباً مبرحاً لا يتقي فيه وجهاً، ولا يخشى فيه أذىً أو جرحاً، فهذا لا شك أنه قد خرج عن حد المروءة المتعارف عليها بين الناس، الرجل في الجاهلية القديمة كان ربما يعف عن مثل هذا ويترفع عنه، ويقول شاعر العرب في ذلك: سمعت بأقوام يضربون نساءهم ألا شلت يميني حين أضرب زينب الرجل الشهم لا يرى ضرب المرأة إلا لوناً من ألوان الدناءة؛ لأن المرأة بطبعها وضعفها وقدرته عليها ينبغي أن لا يدفعه ذلك إلى مثل هذا. إذاً: الأمر بسبب خلاف أو تقصير أو مخالفة من الزوجة، ثم قبله مراحل سابقة، ثم هو محدود بمواصفات معينة ليس مطلقاً لمن شاء أن يفعل كما يشاء. وأخيراً: فإن له نهاية ملزمة، وله حد يتوقف عنده، وهذا الحد جاء في قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} [النساء:34]، أي: زال السبب الذي كان سبب العقوبة: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34]. وتوقف أهل التفسير عند السر في ذكر اسم (العلي والكبير) من أسماء الله في هذا الموضع بالذات، رغم قلة تكرر تلازم الاثنين في خواتيم الآيات، فقال القرطبي رحمه الله: في هذا إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب، أي: إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله، فيده بالقدرة فوق كل يد، فلا يستعلي أحد على امرأته فالله له بالمرصاد فلذلك حسن الاتصاف هنا بالعلو والكبر، وهذا أعظم إنصاف، وأعظم حرية، وأعظم حق يعطى للمرأة، فإن الله جل وعلا جعل مقام العلو والكبرياء الذي له تذكيراً وتنبيهاً وتهديداً وزجراً للأزواج أن لا يتجاوزوا الحد، فإن الله أعلى وأكبر منه. وزاد الرازي على هذا الوجه وجوهاً أخرى فقال في تفسيره في سر هذا الختم للآية القرآنية: إن النساء عندهن ضعف وعجز عن الانتصاف، فلئن عجزن عنه فإن الله العلي الكبير ينتصف لهن ممن بغى عليهن. وقال أيضاً: إن الله جل وعلا مع علوه وكبريائه لا يكلفكم أيها الناس إلا ما تطيقون، فكذلك أيها الرجال إن كان لكم علو أو تكبر أو قوة فلا تكلفوا النساء إلا ما يطقن، وكذلك الله جل وعلا مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، فلا تأخذوا النساء إذا رجعن إلى الطاعة إلى غير ذلك من الأسرار الكثيرة التي ذكرت في تفسير هذه الآية، وتنبيه المسلمين إلى الحد الذي ينبغي أن يعرفوه وأن ينتهوا إليه، ولذلك ورد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استوصوا بالنساء خيراً، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، فهذا كله تذكير وتنبيه للمسلم ووضع لهذا التشريع في مكانه الصحيح، وفي موقعه الذي ينبغي أن يعرفه المسلم. وقال الإمام ابن حجر في شرحه لبعض هذه الأحاديث: ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل، يعني: إن كان يكفي التهديد بأني سأفعل وأفعل فتخاف وترتدع وتستقيم فيكفي هذا التهديد عن الفعل، قال: لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن العشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله عز وجل. وفي حديث عائشة الذي يرويه النسائي في سننه قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة ولا خادماً قط، ولا ضرب بيده شيئاً إلا في سبيل الله، أو تنتهك حرمات الله فينتقم لله). إذاً: لو تأملنا هذا لوجدنا أن هذه الطاعة للزوج من المرأة في مصلحتها، وهي كذلك في مقابل أمر آخر مهم، وهو

وقفات مع حال الزوجة الغربية

وقفات مع حال الزوجة الغربية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى حسن معاشرة الأزواج، والقيام بحقهن، وإعزازهن، وإكرامهن؛ لأن في ذلك أثراً في تربية الأبناء من بعد، وأقف وقفة مع قليل من بعض صور الحضارة الغربية المظلمة في هذا الشأن الذي يطعنون فيه على الإسلام، أو يدعون فيه وجود النقص في تشريعات الإسلام. وقفات مع حال الزوجة وقضية الضرب أو التسلط من الرجال على النساء. بحث أعد في جامعة كاليفورنيا الجنوبية في أمريكا في أوساط الطلبة الذين يمثلون النخبة المثقفة الجامعية، تقول هذه الدراسة: إن (79%) من الرجال يضربون النساء وخاصة الزوجات منهن. وفي دراسة أخرى فحصت ألفاً وثلاثمائة وستين سجلاً من سجلات النساء في المستشفيات قال صاحب الدراسة في أمريكا: إن ضرب النساء ربما كان أكثر الأسباب شيوعاً للجروح التي تصاب بها النساء. أما إحدى الباحثات واسمها آن فلت كرفت تقول: إن ضرب النساء هو إحدى حقائق المجتمع الأمريكي، ومشكلة اجتماعية واسعة الانتشار. ومن ثم وجدت عندهم المنظمات لصد العنف عن المرأة، ونحن لا نحتاج إلى هذا؛ لأنه ليس عندنا مثلما عندهم. وهناك منظمة اسمها: منظمة الائتلاف الوطني ضد العنف المنزلي، ومقرها واشنطن عاصمة أمريكا، تقول المنسقة في هذه المنظمة: الرجال يضربون نساءهم في سائر أنحاء الولايات المتحدة؛ مما يؤدي إلى دخول العشرات من الآلاف منهن إلى المستشفيات، وقارنوا مع ضرب السواك والمنديل الملفوف والتهديد الذي ذكرناه في تشريع الإسلام. وتقول عندما سئلت عن حجم هذه الضربات وتأثيراتها: إنها تتراوح ما بين اللكمات حول العينين، والكسور، والحروق، والجروح، والطعن بالسكاكين، وجروح الطلقات النارية، وضربات أخرى بالكراسي والسكاكين والقضبان المحماة. هذه هي المرأة في حضارة الغرب اليوم! وهذا هو الرجل المتحضر الأنيق الذي يلبس من الثياب ويأتي من الكلمات ما يتأثر به بعض أبناء المسلمين. ثم تقول في تقديراتها الإحصائية من خلال منظمتها الائتلافية الوطنية ضد العنف المنزلي: إننا نقدر عدد النساء اللائي يضربن في أمريكا كل عام بستة ملايين امرأة، وقد عقد في امستردام ندوة شارك فيها ممثلون من إحدى عشرة دولة في أوروبا وأمريكا عنوانها: إساءة معاملة المرأة في العالم أجمع. ثم في دول أوروبا، وليس الحال ببعيد عن هذا، بل هو مماثل وأكثر في بعض الأحوال، فهذه فرنسا تشكو من هذه الظاهرة، وتعطي إحصاءاتها التي تصدر عن مراكزها ومراكز بحوث دراساتها تقول: إن هناك مليوني امرأة يضربن في العام الواحد. وتقول أمينة سر الدولة الفرنسية لحقوق المرأة التي تعتبر بمثابة وزارة لرعاية حقوق المرأة: حتى الحيوانات تعامل أحياناً أحسن من النساء، فلو أن رجلاً ضرب كلباً في الشارع فسيتقدم شخص ما بشكوى إلى جمعيات الرفق بالحيوان، ولكن إذا ضرب رجل زوجته فلن يتحرك أحد. وتأتي هناك إحصاءات، وأرقام أخرى، وأمور كثيرة فيها صور من هذا الاضطراب والاختلال الذي يقع في غياب التشريع الإسلامي، وفي غياب الأمر بحسن العشرة، وفي غياب الأمر ببر الأم، وفي غياب الأمر بحسن الصلة مع الزوجة إلى غير ذلك مما هو مذكور في شرع الله سبحانه وتعالى. ولسنا بصدد أن نذكر ونسرد الكثير في هذا، وحسبنا أن نقول: إن هذه أمثلة تبرز بعض الحقائق وما خفي كان أعظم، والذي يطالع ما تنشره صحفهم، وما تخرج به مراكز أبحاثهم يرى العجب العجاب في هذا الشأن وفي غيره من الشئون.

مفهوم القوامة الشرعية ودفع الشبه حولها

مفهوم القوامة الشرعية ودفع الشبه حولها إن القوامة هي نوع من الإدارة، ولا يمكن أن تكون هناك مؤسسة أو شركة ليس فيها شخص مسئول يكون له بعد المشاورة والمداولة الكلمة النهائية والفصل، وإلا لكانت الأمور فوضى، ولكان هناك تنازع وشقاق، مدير المؤسسة له حق الطاعة على الموظفين، فإن قالوا: ولماذا يكون له هذا الحق؟ فلم يطيعوه لاضطرب حال المؤسسة كلها، وتضرر الجميع بلا استثناء. وكذلك شأن الأسرة إما أن تترك فوضى فلا رب لها، وهذا لا يمكن أن يكون أمراً صالحاً أو مصلحاً، وإما أن تكون القوامة للمرأة أو للرجل، وهم يعترضون أن تكون للرجل، فلو كانت للمرأة فما رأيكم ألا يتظلم الرجل أيضاً؟ ثم انظر أيضاً إلى أمور أخرى، فإن المرأة تغلبها عاطفتها، وتفقد حسن تصرفها مع غضبها، فهذه لا تصلح للإدارة مطلقاً، لا لنقص فيها، ولكن: لأن طبيعتها تصلح لأمر آخر، وقلنا: إن الحقيقة الصحيحية للمساواة هي المراعاة وليست المساواة مع اختلاف وجود الأسباب. ثم المرأة يعتريها ما يعتري النساء من حيض وحمل ونفاس، وهذه أمور تضعفها في بدنها، وتضعفها في نفسيتها، وتضطرب حتى أحياناً في تفكيرها واهتماماتها، فماذا نصنع؟ هل نعطي للأسرة إجازة لفترة الحمل أو لفترة النفاس أو غيرها وتضطرب الأمور والأحوال؟ ثم أين خبرة المرأة في هذا الشأن الذي تتعرض فيه الأسرة لأمور كثيرة تحتاج فيها إلى خبرة بالمجتمع، ومزاولة لأعماله، ومعرفة ببعض المشكلات والمعضلات، مما لا يتوفر لها ولا يليق بها، ولا يصلح مع فطرتها وطبيعتها؟ وإذا عرفنا ذلك وعرفنا أن القوامة للرجل ليست قوامة تسلط ولا تحكم، وإنما قوامة مسئولية، فهي تكليف لا مجرد تشريف، ففيها عليه النفقة والحماية، وعليه حسن الرعاية، وأن يلبي الطلبات لما هو لازم ومحتاج إليه في شئون الأسرة والمنزل والأبناء، فليس الأمر حينئذٍ إلا نوعاً من الأسلوب الذي تمضي به الحياة على أتم وأكمل وجه فيما تتحقق به المصلحة للرجل، والمرأة على حد سواء. ولذلك يأتون فيقولون: تشترطون على المرأة أن لا تسافر إلا بمحرم، كأنها قاصرة، كأنها لا قيمة لها، كأنها كما يقولون: لا شخصية لها تتبع الرجل. ونقول: هذا من جهلكم وحمقكم، فإن الناس يعرفون أن الذي لا قيمة له هو الذي يذهب ويجيء دون أن يكون معه أحد، ولا ينتبه أحد لرعايته ولا للاهتمام به، أما عكس ذلك فغير ذلك، نحن نعلم مثلاً: أن المدير إذا خرج من إدارته أو ذهب في مهمة فإن المرافقين له يكونون أكثر من الموظف العادي أو المراسل الذي يراسل بين مؤسسة وأخرى، لا، ليست له من الأهمية والقيمة ما يحتاج إليه من المرافقين الذين يقدمون له الخدمات، أو الذين يحرصون على حمايته ونحو ذلك مما قد يكون في شأن أصحاب الحكم والسلطان، فإنه إذا خرج أو سافر لابد أن يكون له من يقوم برعايته وحمايته. والمرأة لما كانت منزلتها عظيمة، وقدرها كبير، والحفاظ عليها أمر مهم في مجتمع المسلمين؛ حفظاً للأعراض، وحفظاً للأمن، وحفظاً للمجتمع والصحة والفطرة، كان شأنها أن يوظف الرجل المحرم لها ليرافقها إيناساً لها من وحشتها، وحفظاً على عرضها، وذوداً عنها، فإن السفر عرضة لأن تتعرض فيه المرأة لسرقة أو لعدوان، أو لاغتصاب، أو لغير ذلك، ونحن نعلم -والإحصاءات في ذلك كثيرة- أن نساء الغرب لا يستطعن لا أن يسافرن، بل لا يستطعن أن يسرن في الطرقات في المدن بعد دخول الليل خوفاً من الاغتصاب والاعتداء والسرقة وغير ذلك، فالله عز وجل قد أكرم المرأة ورعاها. ومن هنا نجد أن هذه الأمور التي يظنونها قيوداً إنما هي إكراماً وإعزازاً للمرأة. نسأل الله عز وجل أن يحفظ نساءنا، وبيوتنا، وعوراتنا، وأبناءنا، وبناتنا، اللهم إنا نسألك أن تجملنا بالتقوى، وأن تجعلنا من أهل البر والتقوى، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك أعمارنا، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام نائمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، وردهم إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وألهمهم الرشد والصواب، وألزمهم كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ثبت خطوتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على سائر أعداء الدين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، واجعل بأسهم بينهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، والشيوخ الركع، والأطفال الرضع، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم عجل فرجهم، وفرج كربهم، ونفس همهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تدفع عن بلدنا هذا الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن، وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك، وارزقهم بطانة صالحة تدلهم على الخير، وتحضهم عليه، وتحذرهم من المنكر وتنهاهم عنه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر وذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

المرأة القدوة

المرأة القدوة إننا في مجتمع نفتقر فيه إلى المرأة القدوة، فكان لزاماً علينا أن نقوم بإعداد المرأة القدوة وإيجادها، وذلك لما يترتب على ذلك من المصالح والمنافع، ولأن ذلك من أعظم أسباب القوة والالتزام والحشمة والعطاء في المجتمع، وهناك معالم تتعلق بوجود المرأة القدوة، منها: أهمية وجودها في تماسك المجتمع وصلاحه، وتأثير المرأة القدوة على بنات جنسها، ومعرفتها بأحوالهن أكثر من غيرها، والحاجة الماسة لوجودها، وهناك مجالات تتعلق بالمرأة القدوة تجدونها مفصلة في ثنايا هذه المادة.

أهمية إعداد وإيجاد المرأة القدوة

أهمية إعداد وإيجاد المرأة القدوة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم أجورنا وأن يحسن خواتمنا، وأن يجعلنا منقلبين إليه على خير وفي طاعة وعلى ثبات وهداية؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أخي الكريم! موضوعنا عنوانه (المرأة القدوة) وهذا الموضوع أحسب أنه من الموضوعات التي لها أهمية عظيمة، ذلك بأنه تترتب عليه كثير من الفوائد والمصالح، كما أن فقدانه يترتب عليه كثير من المضار والمفاسد، ولعلنا نشرع في هذا الموضوع بهذه النقطة المتصلة بأهمية الموضوع وخصيصة التركيز على المرأة القدوة. فأقول مستعيناً بالله عز وجل: إن وجود المرأة القدوة من أعظم أسباب القوة والالتزام والعطاء في المجتمع المسلم، وذلك لأن وجود المرأة القدوة يعني وجود البنت الصالحة والزوجة الصالحة والأم المربية، وبالتالي وجود الأسرة الناجحة والذرية الصالحة والمجتمع المسلم المنشود، فنحن عندما نولي المرأة اهتماماً كبيراً فإننا نهيئ أسباباً عظيمة لأهم الأمور وأخطرها في بناء المجتمعات عموماً، وفي بناء المجتمع المسلم خصوصاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لهذا مزيةً بحيث جعل خصوصية لمن عال جاريتين أو رباهما بأنهما يكونان من أسباب دخوله الجنة، وكما قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (من ابتلي بشيء من هؤلاء البنات فأحسن تربيتهن والقيام بأمرهن كن له نجاة من النار). ليس هذا القول منه عليه الصلاة والسلام لمجرد معاني الشفقة والرحمة فقط، وإنما لمعاني البناء والتربية والتأسيس الذي ينتج عنه بعد ذلك، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أعظم النعم وأعظم المتاع التي يبحث عنها في هذه الحياة الاجتماعية في هذه الحياة الدنيا، وذلك عندما قال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) وعندما جعل الظفر بهذه النتيجة من أعظم نتائج الظفر وأبلغه قال عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، بعد ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم حقوق الأمهات، لما لهن من فضل في التربية والتنشئة والتعليم والتعويد على أمور الخير: (الجنة تحت ظلال الأمهات). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن البر عندما سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) (وهذا رجل يكتتب في الغزو فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إني اكتتبت في الغزو وإن أمي مريضة. قال: ففيها فجاهد).

معالم وأمور تتعلق بوجود المرأة القدوة

معالم وأمور تتعلق بوجود المرأة القدوة ننظر إلى المعالم في تلك المراحل، فنرى أن وجود المرأة القدوة بنتاً وزوجة وأماً يعني وجود هذه القنوات المهمة في تماسك وصلاح وقوة المجتمع المسلم، فليس الأمر مجرد توجيهات أو كلمات عابرة، بل هو صياغة وتأسيس وأخذ بأسباب قيام مجتمع إسلامي صالح نظيف يؤدي مهمته في هذه الحياة وفق أمر الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالأمر إذاً هو أبلغ في الأهمية وأعظم في الخطورة، ونعلم جميعاً أن كل فرد منا كان يوماً رضيعاً وربيباً لامرأة غذته بلبانها، وفي نفس الوقت غرست فيه من معاني التربية ما غرست من أمور الخير والصلاح، والأمور التي يحتاج إليها المسلم ويحتاج إليها المجتمع المسلم بوجه عام. فإذاً الأمر كما قال أمير الشعراء: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق فبإعداد الأم يعد شعب كامل؛ لأننا ندخل في هذه الدوائر من خلال تكوين الأسرة وتربية الذرية. الأمر الثاني: المرأة أبلغ في التأثير في صفوف النساء، فنحن عندما ننصب القدوات من الرجال فإن هذا لا شك أن له تأثيراً عاماً في المجتمع كله رجالاً ونساءً، ولكن خصوصية وجود المرأة القدوة له تأثير أكثر وأظهر وأشهر في صفوف النساء. فإذا قلنا للمرأة: إن الرجل مجاهد غاز في سبيل الله قالت: ذاك شأنه وتلك طبيعته. لكن إن جئنا لها بمثال من امرأة مجاهدة كان ذلك أقوى في التأثير على نفسها، ودفعها إلى أن تكون في مثل هذه المجالات والأعمال والميادين. والأمر الثالث: أن المرأة في مجمل الأمور أعلم بأحوال النساء من الرجال، فمهما كانت عقول الرجال بليغة ومهما كان علمهم غزير فإن عندهم نقصاً في معرفة أحوال النساء وطبائعهن، ولا يستطيعون أن يكونوا في مجالس النساء وفي مجتمعاتهن ليعرفوا ما قد يكون من خور أو قصور يحتاج إلى توجيه وتنبيه أو إلى إرشاد وتوضيح، ستكون المرأة القدوة حينئذ أقدر على معرفة الداء ووصف الدواء، فهي الخبيرة المعايشة المعاشرة لأولئك النساء. الأمر الرابع: هو الحاجة العظيمة للمرأة القدوة بسبب تشويه قضايا المرأة في الإسلام، فنحن نعلم أن أكثر مخططات أعداء الإسلام وجل شبهاتهم تنصب في دائرة المرأة والحياة الاجتماعية، مثل دعوى حرية المرأة، ومن نزع الحجاب، ومن الدعوة للاختلاط، ومن صور السفور والعري أو غير ذلك من الأمور، فإذا نظرنا فإنا نجد أن أكثر الشبهات والمغالطات والدعوات المغرضة أنها تنصب في هذا المجال، فلذا وجب أن نوجد من نساء المسلمين من تكون على نموذج يحتذى وقدوة تؤتسى ومعرفة تفند مثل هذه الشبهات، وتدحر مثل هذه المفتريات، لتكون لها دورها بين النساء حتى نصد هذه الغارة وهذه الهجمة الشنيعة الفظيعة التي كما نعلم أنها تعقد لها المؤتمرات وتعقد لها الندوات وتفرغ لها كثير من الطاقات وتبذل فيها الأموال وتطبع فيها المطبوعات لغرض هذا التأثير السيئ في مفاهيم المرأة المسلمة، أو المفاهيم المتصلة بالمرأة والأسرة والتربية في ميدان الإسلام. وأخيراً وليس آخراً فحاجتنا لهذا الموضوع وأهميته كبيرة؛ لأنه قد برز في مجتمعات المسلمين في مجال المرأة قدوات سيئة، واليوم إذا التفتنا لنرى الأسماء اللامعة ولنرى من يتصدرن الأقوال على صحف الجرائد أو المجلات أو من يذكرن بأنهن الرائدات لوجدنا ألسنة شانئة ممسوخة ليست بالأمثلة التي تمثل الإسلام، بل ربما لا تنتسب إليه إلا انتساب الاسم والرسم دون الحقيقة والجوهر، ولذلك كان الأمر في هذا الجانب خطيراً مهماً، خاصة إذا كانت النساء من أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا وأخواتنا. وهناك نماذج وأمثلة في مجالات متعددة للقدوة في حياة المرأة المسلمة، نبغي بذلك أن نؤكد وجود هذه المجالات، وأن نبرز الصور العملية الحية التي كانت في سير الأولين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمهات المؤمنين ومن غيرهن ممن برزن على آثارهن، ونريد من ذلك أيضاً أن نثير في نفوس النساء الغيرة المحمودة بالتنافس في مجال الخير والرغبة للتطلع إلى هذه الأمثلة السمية العلية من نساء المؤمنين، ثم لنقوم بعد ذلك بالمقارنة بين تلك الأمثلة وبين ما يموج به واقع كثير من مجتمعات المسلمين من أمثلة رديئة.

مجالات المرأة القدوة وأمثلتها في الواقع

مجالات المرأة القدوة وأمثلتها في الواقع ونمضي مع القدوة ومجالاتها وأمثلتها في حياة المرأة المسلمة، ذاكرين الأهم منها والأقل من أمثلتها، ليكون هناك فسحة لبقية عناصر الموضوع.

مجال العبادة والطاعة

مجال العبادة والطاعة هذا هو الهدف الأسمى من وجود الإنسان في هذه الحياة، كما نعلم من قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. والمرأة المسلمة في كثير من أحوالها هي أكثر تعبداً وطاعة لله من الرجل في هذه الأوقات؛ لأن الرجال شغلوا بكثير من الأعمال وتفقد الدنيا، وكثير من النساء ربما كان عندها من الوقت وهدوء البال وقلة الانشغال ما يجعلها أقدر على أن تصرف من وقتها لطاعة ربها، ولذكره سبحانه وتعالى، ودوام التبتل والانقطاع إليه ما لا يتاح لغيرها من الرجال، وهذا ينبغي أن يكون ميدان تنافس بين الرجل والمرأة، لكننا نقول: إن كانت المرأة أكثر وأظهر فهو في الآخر أنفع لنا وأنفع لأبنائنا ولأجيالنا بإذن الله عز وجل، فقد ورد في سنن أبي داود حديث لطيف، يصور لنا هذا التعاون ويصور لنا هذا التنافس بين الرجل والمرأة في طاعة الله، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم في معنى حديثه: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) صورة جميلة رائعة من التعاون والتكامل، أحسب لو أنها طبقت في بعض بيئاتنا فلو أن امرأة قامت تصلي ثم نضحت زوجها بالماء لتوقظه للصلاة ربما قابلها بالويل والثبور وعظائم الأمور وما لا تحمد عقباه. أمثلة التعاون كثيرة في سير الصحابيات رضوان الله عليهن، أذكر منها القليل اليسير من سير أمهات المؤمنين، ففي الحديث أنه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المسجد فرأى حبلاً مدلىً في المسجد فسأل عن هذا الحبل فقالوا: حبل لـ زينب رضي الله عنها تصلي من الليل فإذا تعبت تعلقت به فرد النبي صلى الله عليه وسلم هذا إلى الاعتدال وقال: ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد). وفي رواية أخرى: (فإن الله لا يمل حتى تملوا). لكن الشاهد هو هذه الصورة العظيمة للعبادة الخاشعة الخاضعة الكثيرة من أم المؤمنين رضي الله عنها، تصلي حتى يبلغ بها التعب مبلغاً لا تستطيع معه القيام فتستعين بحبل تربط نفسها أو تربط يدها به حتى تواصل عبادتها وطاعتها لله عز وجل. وتُذكر لنا صورة أخرى لبعض أزواجه، وهي جويرية رضي الله عنها عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهي قاعدة في مصلاها تسبح الله وتستغفره وتدعو، فمضى النبي صلى الله عليه وسلم لبعض شأنه ثم رجع وإذا بها في محرابها مازالت تذكر الله وتستغفره سبحانه وتعالى، فقال: (أما زلت في مجلسك الذي كنت عليه؟ قالت: نعم يا رسول الله. قال: فإني قلت بعدك أربع كلمات تعدل ذلك كله: سبحانك -اللهم- وبحمدك عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك) فجمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، لكن الشاهد الذي أردت الوقوف عليه هو استغلال المرأة وقتها في الطاعة والعبادة، ولست أريد ذكر الصور المقابلة؛ لأنا نريد أن نفردها بالحديث في كل مجال بقدر الاستطاعة.

مجال الدعوة

مجال الدعوة مجال آخر من المجالات المهمة التي قد يظن بعض الرجال والنساء أنها مقصورة على الرجال دون النساء، وهو مجال الدعوة، نحن نريد المرأة القدوة في مجال الدعوة؛ لأهميتها في هذا الجانب. وهنا دوران أساسيان للمرأة في قضية الدعوة: الأول: هو دور المساعدة. الثاني: هو دور الممارسة. أما دور المساعدة فهو أن تكون ردءاً وعوناً وسنداً وإمداداً لزوجها عندما يمضي في شئون الدعوة، أو يذهب في الغزو والجهاد في سبيل الله، أو يسعى في أمور الخير لنصرة المسلمين وإغاثتهم، فلا تعترض عليه إذ ينفق المال في هذا الباب، ولا تعترض عليه إذ يغيب الوقت الطويل في خدمة الإسلام والمسلمين، بل تكون عوناً له وردءاً في هذا الجانب، فتكون حينئذ مثلاً رائعاً، وتقدم دوراً رائداً، وتكون عنصراً فاعلاً، وتكون قوة لدعم هذا الدين، وهي بهذا كأنما تمثل صفوف الإسناد عند التقاء الجيوش، فالجيوش لها متقدمة تقاوم وتدافع وتحارب، لكن وراء هذه الجيوش المتقدمة إمدادات من الأغذية والأطعمة والمعلومات وغير ذلك من الأسباب الأخرى، فلو لم يوجد هذا السبب وهذا الردء لما استطاعت المقدمة أن تقوم بهذا الدور، ولو أن كل رجل عالم أو داعية أو مجاهد أو ساع لخدمة المسلمين وإغاثتهم وجد امرأة تطلب منه أن يبقى في بيته وأن يقصر ماله عليها وعلى ولدها، وأن يكثر انشغاله وكل وقته وكل همه لمتاعها وزينتها لما وجدنا من المسلمين من يخرج في هذه الميادين، وأبرز وأعظم وأظهر مثال للمرأة المسلمة في هذا الشأن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، تلك المرأة العظيمة التي كانت أعظم سند لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره، انظر إلى هذا المثل في المراحل المتعددة التي كانت قبل الرسالة، وفي أول الرسالة حتى حفظ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرها وذكر فضلها، وما زال يكرر من وفائه لها وبره بها بعد موتها عليها رضوان الله سبحانه وتعالى. هذه خديجة عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلو في غار حراء الليالي ذوات العدد يتفكر في هذا الكون يخلو بنفسه من تلك الجاهلية الظالمة المظلمة، ليخلص إلى الكون بصفائه ونقائه، ويسرح البصر والنظر متأملاً متفكراً، ويجعل القلب متدبراً متأملاً، كانت رضي الله عنها وأرضاها تعينه على ذلك وتعد له زاده وطعامه، وتشجعه وتساعده في هذا، ثم لما جاءت مرحلة أخرى ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة التي نعرفها ونعرف ما جاء فيها من حديث عنه عليه الصلاة والسلام، وجاء الدور الثاني بعد دور التشجيع والمساعدة وهو دور التثبيت والطمأنينة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دثروني دثروني. زملوني زملوني وقال لها: (إني قد خشيت على نفسي. فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نواب الخير) فهذه كلمات تدل على الإيمان والوعي، وعلى النصرة والتثبيت والطمأنينة، فإن الرجل إذا واجه الصعاب ووجد بعد ذلك امرأة مشفقة خائفة مضطربة فت ذلك في عضده، وانقطع ما كان من عزمه وجده، بينما لو وجد مثل المرأة المسلمة التي مثلتها خديجة رضي الله عنها لزاد ذلك في قوته قوة وفي عزمه عزماً بإذن الله عز وجل، ولم يقتصر دورها على ذلك التشجيع ولا هذا التثبيت، وإنما تحركت معه بحركة إيجابية فيها تأييد، فهناك تشجيع ثم تثبيت ثم تأييد عملي، فمضت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتخبره الخبر ولتستشيره في أمر ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر قال: (هذا -والله- الناموس الذي كان يأتي موسى، ليتني أكون فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال: عليه الصلاة والسلام أو مخرجي هم؟! قال: ما أتى رجل بمثل ما تأتي به إلا حاربه قومه -أي: نازعه قومه- ثم قال ورقة: إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) فكانت هذه حركة عملية من خديجة رضي الله عنها ثبتت رسول الله وشجعته وأيدته في مقتبل أمره وأول دعوته. الجانب الثاني في الدعوة جانب الممارسة، ليس مجرد المساندة للرجل، بل ممارسة الدعوة في صفوف النساء، وفيما يعود على مجتمعهن بالفائدة والنفع، وهذا أمره مهم؛ لأن هناك جهلاً كثيراً بين صفوف النساء، ولأن هناك عادات غير حميدة قد سرت بين كثير من النساء، وطبائع من القيل والقال، ومن المنافسة في أمور الدنيا ونحو ذلك مما تضمنته كثير من وسائل الإعلام، أو مناهج التعليم، أو قصص الأدب، أو غير ذلك مما يحتاج معه إلى أن تمارس المرأة المتعلمة المتحرقة لخدمة الإسلام والمسلمين الدعوة في صفوف النساء. ومثل عظيم من أمثلة الدعوة يذكره لنا ابن حجر في الإصابة في ترجمة أم شريك الأسدية القرشية، ذكر أنها أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت في الفترة المكية تدعو النساء إلى الإسلام سراً، وكانت تدخل على نساء قريش فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، ما كان أحد من الرجال يستطيع أن يقوم بهذا الدور في ذلك الوقت، لكن المرأة بطبيعتها تستطيع أن تزور تلك المرأة وتلك المرأة، فكانت تستغل طبيعتها النسوية وتدخل لتغزو كفار قريش في عقر دارهم، قد كان كفار قريش يأخذون المسلمين من الرجال ويعذبونهم ليصدوهم عن الدين، فإذا بالغزو يأتيهم من وسط بيوتهم ومن بين نسائهم، قال ابن حجر رحمه الله: كانت أم شريك تدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر الإسلام في النساء وبلغ شأن دعوتها قريشاً. فإذا ببيوتهم تتزعزع من الداخل، وإذا بالإسلام الذي يحاربونه في الخارج يرفع بأيدي نسائهم وعلى ألسنتهن، حينها قال كفار قريش: والله لولا قومك لفعلنا بك كذا وكذا. قالت: فحملوني على بعير ليس عليه شيء، ثم جعلوني ثلاثة أيام بلا طعام ولا شراب. حتى بلغ بها من الإعياء والشدة مبلغاً عظيماً، حتى إنها صارت لا تسمع ولا تميز، قالت: فأخذوني فأنزلوني منزلاً فأوثقوني في الشمس، واستظلوا تحت الشجر وناموا. وقد بلغ بها الأمر ما بلغ وهي صابرة محتسبة، قالت: فإذا أنا بأبرد شيء على صدري دلو من ماء من الله عز وجل. قالت: فشربت منه حتى رويت، ثم شربت حتى رويت، ثم شربت حتى رويت ثم صببت منه على بدني، فلما استيقظوا رأوا الماء فقالوا: حللت وثاقك وشربت من سقائنا! قالت: ما فعلت من ذلك شيئاً. قالوا: إن كان قولك حقاً فإن دينك دين خير، فذهبوا إلى أسقيتهم فوجدوها معصوبة لم يفكها أحد فأطلقوا سراحها. وذكر ابن حجر أنها هي المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، ونزلت الآيات في سورة الأحزاب في هذا الشأن، فانظر إلى هذا المثل، ولتنظر المرأة المسلمة إلى هذه المرأة الداعية التي استولى الإيمان على قلبها رغم سرية الدعوة وصعوبة الجهر بالإسلام، لقد كانت تغزو الجيوش وتغزو النساء، وتستميل القلوب إلى هذا الدين. وهذه أم سليم مثل عظيم آخر، تبين لنا فيه كيف ينبغي أن تؤثر المرأة الدعوة إلى الله وإلى الإسلام على كل شيء، فلما جاء أبو طلحة يخطبها ويريد نكاحها قالت قولاً حكيماً يدل على رجاحة عقل، كما يدل على بعد نظر وحرص على مصلحة الإسلام، قالت: إنك رجل كفؤ وما مثلك يرد -هذا نوع من الجزل والترغيب والاستمالة-، ولكنك رجل كافر وأنا مسلمة، فإن أسلمت فإن إسلامك مهري لا أبغي بعده شيئاً. فقال أبو طلحة الراغب فيها: وكيف لي بذلك؟ قالت: لك به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أقبلت قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (هذا أبو طلحة غرة الإسلام بين عينيه) فجاء وأسلم فكان مهرها إسلامه رضي الله عنها وأرضاها، فانظر إلى رجاحة العقل حيث قدمت مصلحة الإسلام، وكيف حملت هم الدعوة إلى الله عز وجل. وفي بعض الروايات أنها قالت له: ما مهري عندك يا أبا طلحة؟ قال: مهرك الصفراء والبيضاء -أي: الذهب والفضة-. قالت: ما أريد صفراء ولا بيضاء، ولكن إن أسلمت كان إسلامك مهري. فآثرت إسلامه ودعوته إلى الإسلام على حظ نفسها وعلى متاع الدنيا. ومثل آخر يرويه لنا بعض الصحابة رضوان الله عليهم في شأن إحدى النساء المسلمات المؤمنات، فقد روي عمران بن حصين رضي الله عنه أن الصحابة كانوا في مسيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بهم العطش مبلغاً، وإذا بهم بامرأة على حمار لها معها مزادتان من ماء، فاستسقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقته، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فبارك الله في الماء فشربوا منه، وبقي ماؤها، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنك رجل خير. ثم أسرت الإسلام في نفسها ورضيت باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتمت إسلامها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ لها صنيعها ويشكر مساعدتها للمسلمين وحسن معاملتها لهم، فكانت الحملات والغزوات والسرايا تغزو هنا وهناك، لكنها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تجتنب قوم تلك المرأة، كان النبي يوصي أصحابه في السرايا أن لا يغيروا وأن لا يغزو ذلك الحي الذي كانت منه تلك المرأة، فماذا صنعت هذه المرأة الحصيفة اللبيبة؟ قالت لقومها: هاتوا ما عندكم؟ فجمعوا لها من الطعام والتمر حتى أتت أهلها، ثم قالت لهم: أتيت من عند أسحر الناس أم أهو نبي كما زعموا؟ فقصت لهم خبر المزادتين، ثم إن تلك المرأة أسلمت وأسلم قومها، وفي بعض الروايات أنها قالت لهم: أترون أن القوم تاركوكم لا لشيء، فإنما تركوكم لأجل هذا الأمر. أي: لأجل قصتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت يوماً لقومها كما في رواية أخرى: ما أرى هؤلاء القوم تركوكم عمداً، هل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام، فانظر إلى امرأة دخل قومها الإسلام بدعوتها ليس النساء فقط وإنما الرجال والنساء، وحديثها في الصحيحين. فهذه أمثلة، وغيرها كثير أيضاً من نماذج نساء المؤمنين التي تبين هذا المجال المهم من المج

مجال التعليم

مجال التعليم المثال الثالث -وهو قريب الصلة بالذي قبله- مجال التعليم، وهذا المجال تدخل فيه الدعوة، لكنه ربما يشمل غيرها من أمور التعليم كلها من غير ما تخصيص. نحتاج إلى المرأة القدوة في مجال العلم والتعليم من الناحية الشرعية حتى تعلم بنات جنسها، وكذلك من ناحية الأمور الحياتية العامة، والعلوم النافعة التي تحتاجها النساء، فتكون باباً من أبواب التعليم والخير، وتكون أيضاً باباً يسد أبواب الاختلاط التي يريد أعداء الإسلام أن يدخلوا إلى مجتمعات المسلمين من خلالها. فهذه عائشة رضي الله عنها أعظم مثل في هذا، وهي العالمة التي كان الصحابة يراجعونها ويستفتونها، وكانت ترد عليهم أقوالهم وتصوب آراءهم رضي الله عنها وأرضاها. قال لها عروة بن الزبير -وهو ابن أختها وربيبها-: ما أعجب من علمك بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي أن هذا أمر مفروغ منه أنها تعلم القرآن والسنة بحكم حياتها مع النبي صلى الله عليه وسلم- ولكني أعجب من علمك بالطب -لقد كانت رضي الله عنها خبيرة بهذا المجال- كيف لك به؟! قالت: يا عرية -تصغير عروة -! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرض، وإن الوفود كانت تفد عليه وتنعت له النعوت -تعني: تصف له الأدوية من الأعشاب- فأحفظ ذلك مما كان يقال ويوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الشفاء بنت عبد الله العدوية كانت من عقلاء النساء، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يزورها ويقيل عندها، وكانت تعرف القراءة والكتابة، فطلب منها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلم أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وكانت امرأة راقية -أي: ترقي بالقرآن- فعرضت رقاها على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينظر فيها ويصوبها أو ينبهها إلى ما قد يكون من خطأ إن كان فيها، فأجازها وقال لها: (علميها حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها) ومجالات التعليم في شأن النساء ومايحتجن إليه من تطبيب أو تعليم في هذه الشئون من الأمور المهمة التي نحتاج فيها إلى المرأة القدوة في هذا المجال.

مجال الجهاد

مجال الجهاد المجال الرابع: مجال الجهاد، وأنا أذكر هذه الأمثلة التي ربما ينظر إليها على أنها بعيدة حتى نقطع دابر المقالة التي توهم كثيراً من النساء بأن هناك مجالات مخصوصة للرجال، وهناك مجالات مخصوصة للنساء، أما على وجه العموم فالمرأة المسلمة شاركت وقدمت أمثلة، ولها في هذه المجالات دور بحسب ما يحتاج إليه فيها، وبحسب ما تستطيعه بضوابط الشرع. هذا المجال العظيم الذي اشتهر فيه الرجال برزت فيه قدوات عظيمة من نساء المسلمين، من أبرز هذه الأمثلة نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله عنها، قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات - وليس الأمر عارضاً أو عابراً، بل متكرراً في شئون مختلفة- قالت: فكنت أخلفهم في الرحال وأصنع لهم الطعام، وأقوم على المرضى وأداوي الجرحى. تقوم بخدمات متكاملة في هذا المجال، قال ابن إسحاق: وكانت ممن بايع بيعة العقبة، وممن كانت تشهد الحرب. وروى عمر رضي الله عنه من خبر يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا رأيت نسيبة تقاتل عني). فقد كانت من النفر القليل الذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تغير ميزان المعركة لصالح الكافرين، قال: (ما نظرت يميناً ولا شمالاً إلا رأيتها تقاتل دوني) وكان معها ابنها فأصيب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (اعصب جرحك)، فالتفتت إليه أمه فعصبت جرحه وقالت له: قاتل أعداء الله في سبيل الله. ما قالت له: هذا يكفي وارجع إلى الخلف، ولا بد من أن تعالج، ولا بد من أن تذهب إلى المستشفى والعناية المركزة وغير ذلك من الأمور، بل قالت: (قاتل أعداء الله في سبيل الله. ثم نظرت إلى من أصاب ابنها وكانت ترقبه بين الفينة والأخرى حتى سنحت لها فرصة فشنت عليه الغارة فضربته ضربة بسيفها فبترت ساقه فوقع من على فرسه فضربته بسيفها فقتلته، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسيبة رضي الله عنها وقال لها: (قد استقدت يا أم عمارة -يعني: أخذت بالقود والثأر- الحمد الله الذي أظفرك، وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك) فهذا مثل عظيم للمرأة المسلمة المجاهدة، ثم أقبل ابن قمئة يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتله، فتصدت له نسيبة أم عمارة رضي الله عنها، ثم لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بلاءها قال: (بارك الله عليكم أهل بيت مؤمنين -فما شغلها القتال عن انتهاز الفرصة- فقالت: يا رسول الله! ادع الله لنا. فقال: اللهم! اجعلهم رفقائي في الجنة. قالت: أم عمارة فما أبالي بعد ذلك بما أصابني) تعني: بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم انظر إلى هذه المرأة ما الذي شغل بالها وما الذي لفت نظرها في ظرف عصيب وكرب شديد. والأمثلة في الحقيقة في هذا الجانب كثيرة، ولسنا بصدد الحصر وإنما يكفينا التمثيل.

مجال الاهتمام والطموحات

مجال الاهتمام والطموحات المجال الخامس: مجال الاهتمامات والطموحات. أي شيء كان يشغل بال المرأة المسلمة؟! أي قدوة تبرز لنا؟ فيم تفكر فيه وتطمح إليه وتحزن لأجله وتفرح لأجله؟! أما نساء اليوم فربما حزنت على لباس فاتها، أو (موضة) كما يسمونها أو (موديل) لم تعثر عليها أو نحو ذلك، وانظر إلى القدوات من نساء المسلمين أي شيء كان يلفت نظر إحداهن أو يعنيها في شأنها؟! أمثلة كثيرة جداً في هذا الشأن، منها: (أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها، كان يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيل عندها، فجاء إليها مرة فغفا عندها ثم استيقظ وهو يضحك ويتبسم عليه الصلاة والسلام، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (رأيت في المنام قوماً من أمتي يغزون يركبون البحر جهاداً في سبيل الله) ولم يكن للعرب عهد بركوب البحر في ذلك الوقت، فماذا لفت النظر في هذا القول عند أم حرام رضي الله عنها؟ قالت: يا رسول الله! ادع الله أن أكون معهم. الأمر خبر مستقبلي، والقضية في ميدان جهاد ليس هو الميدان الرئيسي للمرأة، والأمر في صورة جديدة غير مألوفة، فيها صعوبة وخطورة وهي ركوب البحر، ومع ذلك استشرفت نفسها بأن تكون في هذا الركب المجاهد، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن أكون معهم فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغزت البحر في عهد معاوية مع جيش المسلمين واستشهدت في تلك المعركة رضي الله عنها وأرضاها. ويأتينا المثل الذي لا يعطي أنموذجاً لامرأة واحدة، وإنما يقدم صورة حية لنساء المسلمين قاطبةً في مجتمع الصحابة وفي مدرسة النبوة، هذه أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها، وكانت امرأةً من نساء المسلمين عظيمة البلاء شهدت اليرموك، وقتلت بنفسها تسعة من علوج الروم، هذه المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت فصيحةً، حتى كانت تلقب بخطيبة النساء- وقالت: يا رسول الله! إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين كلهن. هي ممثلة النساء ومندوبة الاتحاد النسائي الإسلامي في عهد الصحابيات رضوان الله عليهن، قالت: يا رسول الله! إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين كلهن، يقلن بقولي وعلى مثل رأيي. فأي شيء كانت تريد؟! وأي مسألة كانت تشغل بال النساء حتى ائتمرن واتفقن وانتدبن مندوبة تتكلم باسمهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إن الله بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات قواعد البيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا علينا بالجماعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا إلى الجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا لهم أبناءهم، أفنشاركهم في الأجر؟ هذه المرأة تبين لنا ما الذي كان يهم المرأة المسلمة، والذي يشغل بالها هذه المجالات في شرع الله عز وجل، من تفضيل الرجال على النساء، وذلك بشهود الجماعات ونحو ذلك، فهل في مقابل ما تقوم به المرأة المسلمة من حفظ الزوج ورعاية الأبناء والقيام بشغل الأسرة هل تشاركه في الأجر؟ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثني على النساء وعلى خطيبة النساء، فالتفت إلى أصحابه رضوان الله عليهم وقال: (هل سمعتم مقال امرأة قط أحسن سؤالاً عن دينها من هذه؟ قالوا: لا. يا رسول الله -أي: هذه قد بلغت الغاية في هذا-. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انصرفي يا أسماء وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته وابتغائها لموافقته يعدل ذلك كله). فهذا العدل والإنصاف في شرع الإسلام، وهذا أنموذج من النماذج التي تبين لنا اهتمامات المرأة، ويظهر ذلك أيضاً في حديث أم سلمة رضي الله عنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما لنا لا يذكرنا القرآن مثل ما يذكر الرجال -هذا هو الذي أهمها ولفت نظرها- قالت: فما عجبت إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إذا هو على المنبر وأنا أمشط شعري، فلففته وخرجت أستمع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو ما نزل إليه من القرآن {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلى آخر الآية} [الأحزاب:35]). الآية ذكرت النساء والرجال، تكرر في كل وصف من الأوصاف، وهو ما ذكر في سبب نزول الآية، وأيضاً في ذلك آية التخيير التي وردت في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما جاء التخيير بقوله جل وعلا: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]. ففضلت أمهات المؤمنين الله ورسوله والدار الآخرة، وأعرضن عن متاع الدنيا. وهذا منهن طموح إلى معالي الأمور لا انشغال بسفاسفها.

مجال القوة والصبر والاحتمال

مجال القوة والصبر والاحتمال كثير من النساء والرجال يذكرون ويعرفون ما هو من طبيعة المرأة من قلة احتمالها وسرعة جزعها وضعفها، لكن ينبغي أن لا نجعل مثل هذه الأمور مبالغاً فيها، ونجعل المرأة كما هو حال كثير من نسائنا اليوم كأنها لا يمكن أن تقوم بأي شيء، ولا أن تتحمل أي أمر، ولا تقدر على أي قضية، فهذا غير مقبول، فقد ثبت نساء المسلمين، وضربن أمثلة عظيمة في هذا الشأن، ينبغي أن نعود المرأة على شيء من القوة والصبر والاحتمال في دين الله عز وجل، فهناك أمثلة كثيرة في هذا الشأن، وأبرز هذه الأمثلة مثال سمية رضي الله عنها وثباتها، وقد كان بنو المغيرة يعذبونها على الإسلام، وهي تأبى غيره حتى ماتت شهيدة، وكانت أول شهيدة في الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بها وهي تعذب وابنها وزوجها ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). وقصة الخنساء مثل عظيم في هذا الشأن لما كانت معركة اليرموك، وهذا مثل معروف، لكنه يحصل ذكره بما فيه من عظيم التأثير في هذا الباب من أبواب الصبر والمصابرة والقوة الاحتمال، فهذه الخنساء جاءت ببنيها الأربعة وقالت لهم: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم أبناء أب واحد وأم واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت أخوالكم. ثم حضتهم على الجهاد، فلم تأت بأبنائها لتقول لهم: ابحثوا عن الزوجات الفاتنات، واستكثروا من الأموال لنفعل كذا وكذا، وإنما جاءت تخطبهم لتحضهم على الجهاد وتحرضهم عليه. فمضى أبناؤها إلى الجهاد واستشهدوا جميعاً في تلك المعركة، فلما بلغها خبرهم ما جزعت ولا ضربت خداً ولا شقت جيباً، وإنما قالت: الحمد الذي شرفني باستشهادهم، وأسأل الله أن يجمعني بهم. وكانت مثلاً في هذا الشأن، وكانت وصيتها موضع تذكر لأبنائها وسط المعركة، فقد كانوا يتذكرون قولها فتزيد في نفوسهم الحمية للجهاد والمصابرة، تذكر بعض الروايات في التاريخ عن أحد أبنائها أنه كان يقول: يا إخوتا إن العجوز الناصحة قد أشربتنا إذ دعتنا البارحة نصيحة ذات بيان واضحة فباكي الحرب الضروس الكالحة فإنما تلقون عند الصائحة من آل ساسان كلاباً نابحة قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة فأنتم بين حياة صالحة أو ميتة تورث غنماً رابحة ويتذكر وصيتها، وأنها حضتهم على الجهاد، وأن بني ساسان من الفرس إنما هم كلاب نابحة، فشدوا عليهم فإنكم منتصرون. وقال الثاني: إن العجوز ذات حزم وجلد قد أمرتنا بالثبات والرشد نصيحة منها وبر بالولد فباشروا الحرب حماة في العدد وقال الثالث يتذكر وصيتها: والله لا نعصي العجوز حرفاً نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً فبادروا الحرب الضروس زحفاً حتى تكفوا آل كسرى كفاً وقال الرابع يتذكر وصيتها أيضاً: لست للخنساء ولا للأخرم ولا لأمر بالسماء الأعلم إن لم أرد بالجيش جيش الأعلم ماض على الهجوم خضم خضرم فكان هذا القول منها وهذا الصبر والثبات نموذج يحتذى ويقتدى.

مجال البذل والإنفاق

مجال البذل والإنفاق هذا مجال آخر أيضاً هو مجال البذل والإنفاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث النساء ويقول: (تصدقن يا معشر النساء؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار)، وكان بلال رضي الله عنه يطوف بالرداء فتلقي المرأة بقرطها وحليها تتصدق به في سبيل الله عز وجل، والمثل في ذلك زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم مرة لأزواجه: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى الرفيق الأعلى قالت عائشة: فجعلنا نمد أيدينا ونقيسها من هي أطولنا يداً حتى نعرف من ستكون أولنا لحوقاً -أي: موتاً- بعده. قالت: ما لبثت زينب أن لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فعرفنا أن طول يدها كثرة صدقتها؛ لأنها كانت امرأة صناعاً -تعني: عندها حرفة يدوية تصنع- قالت: فكانت تبيع فتتصدق في سبيل الله عز وجل. وقالت: عائشة في زينب قولاً جميلاً عظيماً مؤثراً في هذا الجانب قالت: (لقد ذهبت حميدةً متعبدةً، ففزع الأرامل واليتامى والمساكين من بعدها، كانت تتفقدهم وتتصدق عليهم وتحنو عليهم رضي الله عنها وأرضاها). وعائشة رضي الله عنها مثل يضرب في هذا، وهي التي تصف زينب بهذه الصفة، وهي التي جاءها عطاء مرة فقسمته كله ولم يبق عندها شيء وكانت صائمة، فلما جاء وقت إفطارها قالت لها مولاتها: يا أم المؤمنين! لو أبقيت لنا شيئاً. قالت: (لو كنت ذكرتني لأبقيت شيئاً نأكله) تعلمت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي إحدى المرات -كما في الحديث- كانت عندها يوماً شاة فأنفق منها النبي صلى الله عليه وسلم حتى ما بقي إلا كتفها، قالت: يا رسول الله! ما بقي إلا كتفها. قال: (ذهب كتفها وبقي كلها) وعائشة رضي الله عنها تعلم النساء أيضاً، فقد ورد في كتاب (الأموال) لـ أبي عبيد وغيره أن سائلاً جاء إلى عائشة رضي الله عنها ومعها بعض النسوة، فأعطته حبة عنب، فتعجب النسوة من هذا الصنيع، فقالت: كأنكن تعجبن من هذا والله إن فيها لمثاقيل ذر كثيرة. تقصد قول الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]). أي أن هذه الحبة من العنب فيها كثير من مثاقيل الذر. والأجر عند الله سبحانه وتعالى عظيم، فهذه أيضاً أمثلة في هذا الجانب وهي من الأمثلة التي تحتذى وتقتدى.

مجال قوة الشخصية ورجاحة العقل

مجال قوة الشخصية ورجاحة العقل من المجالات الأخيرة قوة الشخصية ورجاحة العقل. يسرف بعض الرجال في وصف النساء بضعف الشخصية والميل للعاطفة، حتى كأن المرأة ليس لها من إيمانها ولا وفور عقلها ولا قوة شخصيتها ولا متطلبات إيمانها ما يجعلها تقدم أمثلة رائعة أو رائدة في هذا الباب، وليس كل امرأة لا يهمها إلا حليها، أو لا يهمها إلا طعامها، أو لا يهمها إلا زينتها، ليس هذا كله في هذا الجانب، بل المرأة المسلمة بما يعطيها الإيمان من معطيات تكون متميزة في مثل هذا الجانب، فعندها من قوة الشخصية ومقتضيات إيمانها ما يجعلها تثبت على الحق، كما ضرب الله عز وجل المثل بامرأة فرعون التي كانت في وسط بيئة الكفر، ومع ذلك قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. وأم سلمة رضي الله عنها تضرب أيضاً مثلاً من الأمثلة في هذا التميز في الشخصية، لما أشارت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن صلح الحديبية لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم دون الاعتمار، وأمر الصحابة أن يحلقوا فشق ذلك عليهم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلك الناس. قالت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أمرتهم بأمر فلم يأتمروا. قالت: يا رسول الله! قد علمت ما دخل على الناس في هذا الشأن، فلو أنك خرجت إليهم فأمرت حالقك أن يحلق رأسك لابتدروا إليه) فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لمشورتها وأخذ برأيها، فتسابق الصحابة لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلق حتى كاد يجرح بعضهم بعضاً، أي: من شدة مسارعتهم إلى استجابة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقصة أم سليم لما توفي ابنها وصبرت وتلطفت لزوجها وأحسنت هي لتخفيف المصيبة عنه دليل أيضاً على قوة شخصيتها وتميزها. والشجاعة والقوة في هذا الشأن مثل مضروب لـ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وهي التي خاضت غمار تجهيز ومساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وهي التي وقفت الموقف الشجاع من الحجاج بن يوسف الذي كان سفاكاً للدماء، وكان يهابه الرجال الأشاوس، وقفت له أسماء رضي الله عنها لما أرسل إليها بعد مقتل ابنها، فأبت أن تأتي إليه، فأرسل إليها: إن لم تأتي إلي أرسلت من يجرك بقرونك. فقالت: أرسل من يجرني بقروني. فلما جاءه الرسول لبس نعاله وأتى إليها فقال: ما ترين أني فعلت بهذا -أي: بابنها-؟ قالت: أراك قد أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد عرفناه، وأما المبير فما أراه إلا أنت، فخاف الحجاج من قولها، وانسحب ورجع على أعقابه. وأمثلة أخرى كثيرة يمكن أن تذكر في مثل هذه المجالات وهذه الأبواب، وكما قلت: ليس الغرض هو ذكر القصص والأخبار، وإنما لأهمية الموضوع من جهة ولهذه المجالات الكثيرة من جهة أخرى.

وقفة مع القدوة السيئة ومعوقات مجال المرأة القدوة

وقفة مع القدوة السيئة ومعوقات مجال المرأة القدوة نقف وقفة أخيرة في هذا الموضوع تتعلق بشقين اثنين أوجز الحديث عنهما إيجازاً شديداً. الشق الأول: القدوة السيئة في الواقع المعاصر، والشق الثاني: أفكار وأخطاء تعيق مجال القدوة في صفوف النساء.

القدوة السيئة في الواقع المعاصر

القدوة السيئة في الواقع المعاصر لو أخذنا هذه المجالات التي ذكرناها وأردنا أن نقارنها ببعض الواقع في حياة كثير من مجتمعات المسلمين اليوم لوجدنا تناقضاً كبيراً، فعلى سبيل المثال: لو أخذنا جانب الاهتمامات والطموحات فالفتاة اليوم فيم تفكر؟ وفي أي شيء؟ تأمل ليس هذا عيباً فيها، ولكنها صياغة المجتمع الذي تواجهه عبر صفحات الكتاب الذي تقرؤه، والقصة التي تتسلى بها، والمشاهدة التي تنظر إليها. الفتاة اليوم همها جمالها، فلا تفكر إلا في صبغة الشعر، وفي ألوان الموضة والألبسة، ومن اهتماماتها ما يسمى اليوم بفارس الأحلام، وتجد كل الكلام والمقابلات والمقالات والمشاهدات تدور حول هذه الدائرة، ربما تجد كثيراً من نساء المسلمين -وللأسف- قد وُجِّهن هذه الوجهة، حتى يكون مجال القدوة في هذا الشأن أن نأتي بالمقابلات مع خبيرة التجميل، أو مع التي ابتكرت زياً جديداً، أو مع التي استطاعت -كما يقولون- أن تختار شريك حياتها بنفسها، ونحو ذلك من الأمور والأساليب التي تنحرف بالمرأة في مجال القدوة السيئة. كذلك مجال البذل والإنفاق والصدقة على سبيل المثال آخر الصورة الواقعية في بعض جوانبها تضاده وتعارضه، فتجد المرأة اليوم لا تنفق إلا على زينتها وعلى لبسها، وتجمع الأموال، بل ربما يحصل بينها وبين زوجها من الشقاق والخلاف وأسباب النزاع ما الله به عليم؛ لأنها تريد منه أن يقتطع من راتبه أو من ماله حتى تشتري لبساً جديداً لمناسبة جديدة أو نحو ذلك، ولا تجد عندها سخاء اليد ولا الإنفاق في سبيل الله، وتغفل عن أحوال المسلمين واليتامى والأرامل والثكالى والمغتصبات من نساء المسلمين في بقاع الأرض، وهذا جانب -أيضاً- نجده مثالاً من أمثلة القدوة السيئة التي تبرز في مجتمعات المسلمين. أضف إلى ذلك أيضاً مجالاً ثالثاً، وهو مجال قوة الشخصية، يرتبط اليوم بواقع المرأة المنحرف في بعض المجتمعات الإسلامية وبعض البيئات بأن قوة الشخصية هي أن تكون المرأة نداً للرجل، وأن تكون المرأة متبرجة لا متحجبة، مختلطة غير منحسرة عن الرجال، فإن قوة الشخصية هو المثل الذي يقدم على أن المرأة تستطيع أن تكون نداً للرجل، كأن الحياة وجدت بين المرأة والرجل للصراع والمصارعة والمحاربة، لا للتكامل والتعاون والتعاطف، فمثلاً هم يأتون بامرأة ويقولون: هذه من الرائدات أو من القائدات من أصحاب الشخصيات القوية اللواتي لهن سبق في ميادين كثيرة، ويقصدون بذلك أنها تمردت على شرع ربها ولم ترض هدي نبيها صلى الله عليه وسلم، ولم تقتد بأسلافها من أمهات المؤمنين ونساء المؤمنين، فهذا المثل أيضاً ضرب من ضروب الانحراف، والأمثلة في ذلك -كما أشرت- كثيرة متعددة، ولو أخذنا كل مجال من هذه المجالات لوجدنا أمثلة مضادةً، فعندما نقول: أمثلة الصبر والثبات نجد اليوم في مجال المرأة في كثير من المجتمعات -وخاصة المجتمعات المدنية والحضرية- أن المرأة اليوم تخاف من ظلها، وأن المرأة لو وجدت في البيت جرادة لأعلنت حالة الاستنفار وأعلنت حالة التأهب القصوى؛ لأن هناك غزواً بالطائرات النفاثة أو غير ذلك، هذه أمثلة ربما بعضها يكون من طبيعة المرأة، لكن هذه المبالغات التي وقعت فيها مجتمعاتنا أدت إلى أننا لا نجهز ولا نعد المرأة التي يمكن أن يكون لها الإسهام المطلوب والمهم في واقع حياة المجتمع المسلم. ولو قلنا: مجال العبادة والدعوة وتفرغ المرأة له لوجدنا في هذا الوقت بعض نساء المسلمين تفرغت فضيعت وقتها في سماع اللهو والغناء والقيل والقال، فبدلاً من أن تنشغل بالدعوة والتذكير فهي تنشغل بالأخبار والأقاصيص والأحوال، وما فعلت فلانة، وما لبست فلانة، حتى كأنك تجد نشرات الأخبار مفصلة تفصيلاً أبلغ من كل تفصيل عند أولئك النساء، شغلن بذلك أوقاتهن وأوغرن الصدور وفرقن الصفوف، إلى غير ذلك من هذه المجالات التي ينبغي أن تربأ المسلمة بنفسها عنها.

عوائق في طريق المرأة القدوة

عوائق في طريق المرأة القدوة الفقرة الأخيرة بعض العوائق في طريق المرأة القدوة، وأحب أن أنبه إلى أن أكثر هذه العوائق تتعلق بالرجال، فإننا قد ذكرنا إعانة المرأة للرجل وأثرها، ولعل إعانة الرجل للمرأة أبلغ أثراً وأعظم في حصول المقصود، فمن هذه العوائق أولاً: الإهمال من الرجال، فالرجل إذا أهمل تربية بناته ونصح زوجته أو زوجاته، وإذا أهمل إعطاءهم جزءاً من وقته وشيئاً من علمه وبعضاً من خبرته وجهده ومشاركة في همه وأحوال وهموم المسلمين فإن ذلك يكون عاملاً من عوامل التثبيط والممانعة، وعدم حصول نموذج المرأة القدوة الذي نطمح إليه وذكرنا بعض مجالاته وميادينه، فهذا عائق مهم من العوائق. الجانب الثاني: الإهمال بصورة عامة، فنحن نرى أن ميادين كثيرة تسهل وتيسر ويعتني بها ويبذل فيها الجهد فيما يختص بالرجال والذكور، ولا تحظى بمثل ذلك الاهتمام في مجال النساء، فدروس العلم ومحاضرات التوعية وكتب الثقافة وغير ذلك من المجالات نجد أن الغالب الأعم والجزء الأكبر يُعنى بجانب الرجال والشباب والذكور أكثر من عنايته بجانب النساء والمرأة والبنت، رغم خطورة هذا الشر كما أشرت في أول الموضوع، فالحق أنه ينبغي أن تزاد الجهود والمحاضن التربوية والتعليمية التي تحتضن الفتيات والنساء، فنحن عندنا المساجد للشباب أو للذكور وهناك ميادين ومحاضن كثيرة، بينما لا يوجد مثل ذلك بالقدر الذي يكفي ويعين ويكمل نفس الجوانب بالنسبة للنساء، وهذا أيضاً عائق من العوائق وباب من الأبواب التي تكون سبباً في التعثر في الوصول إلى القدوة. الجانب الثالث: المعارضة الجاهلة، فإن بعض الرجال مع أنه قد أهمل في أول الأمر ولم يقدم شيئاً، وإذا كانت زوجته أو ابنته تريد أن تقوم بأمر أو تستفيد من مجال من المجالات لا يكفي أنه لم يقدم شيئاً، بل يأتي ويكون عائقاً وعقبةً من دونما حجة شرعية، أو من غيرما عذر وسبب شرعي، فلو لم يكن هو معلماً لزوجته فأرادت أن تتعلم كتاباً أو تحفظ شيئاً منه -والأمر ميسور، وليس هناك حرج شرعي ولا محذورات، كما هو الحاصل في بيئتنا بحمد الله عز وجل، فرص كثيرة ومجالات عديدة ليس فيها اختلاط ولا تبرج ولا محاذير شرعية- تجده يمنع دون أي حجة، بل عنده بعض الأوهام والأغاليط التي ربما يظنها من الإسلام أو ينسبها للإسلام وليست من الإسلام في شيء. فهذه أبواب -أيضاً- يحصل من ورائها منع وإيقاف لكثير من الخير الذي يمكن أن يكتسب للنساء وللفتيات والأمهات بشكل عام، فينبغي أن يكون هناك التعاون والإيجابية لا المعارضة، فإن بعض الناس يشدد بما ليس في الإسلام، ويأتي بأمور من الأعراف والعادات أو من غيرته هو أو من حرصه هو ويريد أن يجعلها من الإسلام، وليست هي من الإسلام، فينبغي أن نتخلص منها، وقد رأينا -فيما سلف من حديثنا- أن المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتحدثت إليه في حضور الرجال، وسألته سؤالها وطلبت طلبها، ولم يكن في ذلك حرج ولا مانع شرعي، وإلا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم. ولو اقتضى أمر من الأمور فيما فيه مصلحة ومنفعة وليس فيه محذور شرعي فينبغي أن لا تكون هناك العقبات والعوائق، إلا عندما يكون هناك أمران: إما محذور شرعي بين وواضح، وإما مصلحة ضرورية للأسرة أو لربها فيما يتعلق بهذا الجانب والشأن، فينبغي أن يكون هناك التعاون لأجل هذا الأمر، والمنفعة في آخر الأمر تعود إلينا جميعاً، فلو تعلمت زوجتك لعلمت أبناءها، ولو حفظت شيئاً من كتاب ربها لكان لذلك أثره في أبنائها، ولو استقامت وصلحت وتوجهت وتوعت لكان لذلك أثره عليك وعلى بيتك وأسرتك، فينبغي أن يكون هناك مثل هذا التعاون. نسأل الله عز وجل أن يصلح نساءنا وبناتنا وشبابنا وشاباتنا، وأن يعصمنا من الفتن، وأن يقينا من الانحرافات، وأن يجعل مجتمعاتنا نظيفة طاهرة، وأن يجعلنا مؤتسين بالنبي صلى الله عليه وسلم، متبعين لسير أسلافنا من الرجال والنساء الصالحين والصالحات؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المساجد أحكام وآداب

المساجد أحكام وآداب لا يخفى على المسلم أهمية المساجد وعظيم قدرها؛ إذ هي بيوت الله عز وجل التي تقام فيها أكبر شعائر الدين وأجلها، فحري بكل مسلم أن يعرف للمساجد حقها وقدرها، وأن يعظمها حق تعظيمها، وذلك بعمارتها بذكر الله عز وجل، والتأدب فيها بالآداب الحميدة التي بينها لنا الشرع الحكيم.

أهمية المساجد ومعرفة آدابها

أهمية المساجد ومعرفة آدابها الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، رفع السماوات بلا عمد، وبسط الأرض ومد، وأفاض النعم بلا حصر وعد، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وبما يوافي ويكافئ فضله وإنعامه، له الحمد كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هو الرسول المجتبى والنبي المصطفى، علم الهدى ومنار التقى، بصر الله جل وعلا به من بعد عمى، وأرشد به من بعد غواية، وكثر به من بعد قلة. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! المساجد بيوت الله جل وعلا؛ فيها يذكر اسمه، ومنها ينادى إلى طاعته وعبادته، وفيها تحيا القلوب، وترق الأرواح، وتسجد الجباه، وتترتب بالذكر الألسنة، وتتراص الصفوف، وتتوحد وتأتلف النفوس.

فضل المساجد وعمارها

فضل المساجد وعمارها المساجد بيوت الله عز وجل لها أحكام وآداب، وقد كثر من عدد غير قليل من إخواننا المصلين شكواهم من عدم معرفة تلك الأحكام، ولا مراعاة تلك الآداب، بل تجاوزوا ذلك إلى ما هو أخطر وأعظم ضرراً وشراً، ومن ثمَّ فالمسجد وخطبته تعالج الأوضاع التي يعيشها أهل المسجد ومن يجاوره، كما تعالج أوضاع الأمة كاملة. فإن لنا في هذا المقام وقفات كثيرة، وهي لا تتحدث عن شرق أو غرب، ولا عن بلاد في هذه الجهة أو تلك، إنما تتحدث عنا وعما يجري في مسجدنا وواقعنا، ومثله وغيره كثير من المساجد. فكيف الأمر ونحن نتحدث عن بيوت الله عز وجل التي ذكر الله عز وجل نسبتها إليه فقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:18] إنها بيوت الله عز وجل، فهل هي في المقام والقدر وفي الرعاية والحفظ تعطى حقها؟! وهل نجعلها مثل بيوتنا على أقل تقدير؟! وهل نحن عندما نأتي إليها أو نكون فيها أو نتعامل في داخلها نراعي حرمتها، ونراعي مقامها؟ فقد صح عند البخاري من حديث عثمان عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له مثله بيتاً في الجنة)، فهي بيوت الله جل وعلا. والصورة الأخرى التي ينبغي أن نستشعرها ونحن نقدم هذا الحديث هي: أن عُمَّار المساجد هم أهل الله عز وجل وعباده، وهم في خلاصة الأمر صفوة من العباد والخلق الذين يجيبون نداءه، ويسعون إلى طاعته، ويقبلون إلى مرضاته، فكيف بهذه الصفوة إذا كانت تخل بالأحكام، ولا تراعي الآداب، ولا تلتفت إلى الحرمة، بل ويقع من البعض ما هو أكثر من ذلك، يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] يقول ابن كثير: شهد الله بالإيمان لعُمَّار المساجد. وذكر ابن كثير: أن عبد بن حميد روى في مسنده عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما عُمَّار المساجد هم أهل الله). ورواه البزار كذلك عن أنس. وروى عبد الرزاق عن عمر بن ميمون أنه قال: (أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن المساجد بيوت الله في الأرض، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها)؛ لكن الضيف ينبغي أن يراعي أدب المكان، وأدب المضيف، وهو الرحمن سبحانه وتعالى، فنحن في بيوته، ونحن إنما جئنا لعبادته، ونحن إنما تفرغنا لذكره، فكيف بنا نخدش ذلك أو لا نلتفت إلى الأمور الواجبة؟

ذكر الآداب المطلوبة للمسجد

ذكر الآداب المطلوبة للمسجد

التجمل والتزين لدخول المسجد

التجمل والتزين لدخول المسجد إن هذه البيوت بيوت الله سبحانه وتعالى؛ لأجل ذلك أمرنا الله ونبهنا أن نراعي ما يجب لها فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، قال ابن كثير في تفسيره: وفي هذه الآية مع ما ورد في السنة النبوية أنه يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، ويستحب الطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك. وقال السعدي: كذلك يحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن، ففي هذه الآية الأمر بستر العورة في الصلاة، واستعمال التجمل فيها، ونظافة السترة من الأدناس والأرجاس. ونحن إذا ذهبنا لزيارة أحد من الأصدقاء فضلاً عن الفضلاء تزينا لذلك، ولبسنا من الثياب أحسنها، ووضعنا من أنواع الطيب أعطرها، وجعلنا لأنفسنا من الهيئات أفضلها، فإذا جاء بعضنا إلى المساجد رأيته وهو يأتي بثياب النوم التي لا يرضى أن يستقبل بها أحداً في بيته. وربما وجدت بعضهم وهو يأتي في ثياب مهنته وقد اسود بعضها، وفي بعضها من القذر وكراهة الرائحة ما فيها، وبعضهم يأتي بملابس قد كتب عليها من الكلمات ومن الصور ما لا يليق أن يكون في بيت من بيوت الله عز وجل، وربما وجدت بعضاً وفي لباسه ما يعد مخالفاً لستر العورة إما من قصر أو ضيق أو تشبه أو نحو ذلك، وهذا خلاف الأمر الرباني لأخذ الزينة اللازمة. وكان من هيئة الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله أنه إذا خرج إلى المسجد اغتسل ولبس أحسن ثيابه وتطيب، فإذا خرج لم يكن يكلم أحداً ولا يكلمه أحد حتى يدخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصلي، ثم يشرع فيحدث بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، هكذا كانوا يعرفون حق قدومهم على بيوت الله عز وجل من غير مخيلة ولا رياء ولا مبالغة، ومن غير استهانة وتفريط وعدم مراعاة حرمة وقدر، وغير ذلك. وكذلك نذكر هنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور المعروف الذي يتبادله الناس ويتذاكرونه وكثيراً ما يخالفونه، وهو حديث جابر عند البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته). قال بعض العلماء استنباطاً من هذا الحديث: إن الآكل لهذه الثمرة قبل الصلاة تسقط عنه الجماعة، ويجب عليه ألا يصلي مع الناس لئلا يؤذيهم. والمقصود هنا كراهة الرائحة، وكل ما هو من هذا الباب داخل فيه وملحق به، فالمدخنون الذين يؤذون الناس برائحتهم شاءوا أم أبوا قد آذوا المصلين وآذوا ملائكة الله المقربين، وكانوا على هيئة ليست هي الهيئة التي يحبها الله لمن يأتي إلى بيته ليتعبد ويذكر ويسجد، ومثل ذلك من يأتون إلى المساجد بعد أن فرغوا من أعمالهم مباشرة من غير أن يتهيئوا ولو بمسح وجوههم، ولو بإزالة العرق عن جباههم، فضلاً عن أن يغيروا ملابسهم؛ ليزيلوا هذه الروائح الكريهة. وبعضهم يأتي والأقذار على بدنه أو على ثيابه، ينفرك منظره من أن تكون إلى جواره في الصف، وتضايقك رائحته، فلا تكاد تشعر بما تريد أن تقبل عليه من طاعة الله وعبادته، فبالله عليكم هل مثل هذا إذا أراد أن يذهب لزيارة صديق من أصدقائه سيذهب على تلك الهيئة؟! أهانت بيوت الله عز وجل في النفوس حتى بلغت مثل هذا المبلغ؟ وهل ذهب الاستشعار والتعظيم لبيوت الله عز وجل حتى ندخلها كأنما ندخل مكاناً لا قيمة له ولا حرمة ولا اعتبار؟! إنها صور تكررت حتى صارت مألوفة، وحتى أصبح مثل قولي هذا مستنكراً مستهجناً، أو يعد فيه من المبالغة ما فيه، وأنه تشديد في غير موضعه، فبالله عليكم إن لم نتواص بذلك في بيوت الله التي نجعلها لطاعة الله عز وجل فبمَ نتواصى من بعد؟ ونحن نعرف من هذا صوراً كثيرة، ونحسب أننا إذا تذكرنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإذا عرفنا آدابه وهديه الذي تلقاه عنه أصحابه فإننا ندرك أن المخالفة للسنة والهدي ليست في الصور المحدودة التي تجول في أذهاننا، بل هي في جملة هذا الهدي، ومنه تعظيم المساجد ومراعاة حرمتها، وأخذ الأدب اللازم واللائق بها. روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما رجل خرج من بيته يوم الجمعة واغتسل ثم ادهن وتطيب من طيب امرأته، فخرج يريد الصلاة، ثم دخل فصلى ركعتين ولم يحدث أحداً، فأنصت حتى يفرغ الإمام ثم صلى مع الناس؛ غفر الله له ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة الأخرى). فانظروا إلى مجموع الوصف كله؛ فهو الذي يوجب لصاحبه ذلك الأجر، وبقدر النقص يكون النقص، فإن من لا يراعي ذلك ولا يتهيأ له لا ينال مثل هذا الأجر في هذا الحديث. ونحن نعلم أيضاً أن النفوس تتأثر بالأعمال، فإذا جئنا لنخرج إلى المسجد استحضرنا هذه المعاني، ثم عملنا من العمل تطيباً وتطهراً وإحساناً في اللباس واستحضاراً للنية ووقاراً في الهيئة وكفاً للسان وغير ذلك؛ فإننا إن جئنا إلى المسجد حضرت وخشعت قلوبنا، وتذكرت عقولنا، وكنا على حال غير الحال التي نكون فيها.

تطهير المساجد

تطهير المساجد قال ابن كثير وغيره في قول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] قال: أن تطهر من الأدناس والأرجاس ولغو الأقوال والأفعال، فإن رفع ذكر الله ليس بمجرد تلاوة القرآن وإقام الصلاة، بل يدخل فيه مثل هذه الأمور. ونظافة المساجد أمرها مهم عظيم، وأجرها كبير، كما روى أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) فإنك حين تأخذ قشرة أو قشة صغيرة فتقمها من المسجد وتطهره وتنظفه يكون ذلك من الأعمال التي تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا العمل من ضمن الأعمال التي لها أجر خاص لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. ونرى كذلك ذلك الحديث العظيم الذي يدلنا على الفضل وعلى التقدير النبوي والمقياس الإسلامي الذي ينبغي أن نراعيه؛ روى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة: (أن امرأة أو رجلاً -وتغليب الرواية: أنها امرأة- كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تأخذ ما يكون في المسجد من الأذى والقذى فتلمه وتخرجه- فماتت، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم، ولما علم بها قال: أفلا كنتم آذنتموني حتى أشهدها؟ ثم سأل عن قبرها، فذهب وصلى عليها بعد دفنها). لقد كانت امرأة مجهولة ليست معروفة، حتى إن الصحابة عندما ماتت لم يذكروا خبرها للنبي عليه الصلاة والسلام، فالتفت إليها النبي وافتقدها وسأل عنها، وعاتب على أنهم لم يذكروا له موتها، ثم ذهب فصلى عليها عليه الصلاة والسلام. ونحن ربما نعمل العكس، فنحن الذين نوجد القذى في المسجد، ودورات مياه المساجد شاهدة بذلك، إذ يعمل الناس فيها من التخريب ومن التلويث ما كأنهم قصدوه عمداً أو أرادوه؛ حتى يجعلوا بيوت الله عز وجل بهيئة وصورة لا تليق بها، ولو كان ذلك في بيوتهم لدعوا بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكانوا أحرص ما يكونون على مثل هذه النظافة التي لا يأبهون بها ولا يحرصون عليها في بيوت الله عز وجل.

خفض الصوت وعدم التشويش والفوضى

خفض الصوت وعدم التشويش والفوضى وهناك أمر آخر: وهو الآداب المرعية في داخل المسجد: فكم تسمع من حديث ليس فيه ذكر ولا طاعة، بل ربما كان حديثاً في أودية الدنيا، أو غيبة أو نميمة، وكم ترتفع الأصوات، وكم تعلو الضحكات، حتى إن بعض الناس ربما يختلف عليه الأمر ويلتبس هل هو في مسجد أو في مكان آخر، ولا أريد أن أقول: في مقهى! استمعوا إلى هذا الحديث الذي عند البخاري في صحيحه يرويه السائب بن يزيد قال: (كنت في المسجد، فحصبني رجل -يعني: رماني بحصاة صغيرة من ورائي- فالتفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لي: اذهب فائتني بهذين الرجلين -رجلان كانا يتحدثان بصوت عالٍ- قال: فأتيته بهما، فقال: من أنتما أو من أين أنتما؟ فقالا: من الطائف. فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما -أي: ضرباً- ترفعان أصواتكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!) وفي رواية: (في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال الإمام مالك رحمه الله بكراهة رفع الصوت في المسجد مطلقاً. وقال ابن عابدين في حاشيته على مذهب أبي حنيفة: يسوغ رفع الصوت إلا أن يشوش على المصلين، ولو بذكر أو قراءة. وبعض الناس يقرأ القرآن كأنما يريد أن يسمعه خلق الله كلهم ويشوش على الآخرين. وبعضهم يتحدث بالأحاديث كأنما هو في بيته أو غير ذلك، ونرى من هذا صوراً كثيرة مزعجة تشوش على العبادة والطاعة، وقد تنفر بعض الناس من حضور المساجد وشهودها، وهذا مما ينبغي لفت النظر إليه والانتباه له، وهو أمر ظاهر وبين.

ظواهر سلبية في المساجد

ظواهر سلبية في المساجد

سلبية ظاهرة التسول في المساجد

سلبية ظاهرة التسول في المساجد إن الصورة المحزنة المؤلمة المتكررة الدائمة التي ألفها الناس حتى صاروا ينكرون على من ينكرها هي: السؤال في المساجد والتسول فيها، مع أننا نسمع قول الله جل وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] قال السعدي في تفسيره: المقصود الأمران معاً: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. فكيف تسأل في بيت الله غير الله؟ وقد كان هشام بن عبد الملك يطوف مرة بالبيت الحرام، فلقي بعض العلماء من أئمة التابعين، فسلم عليه وقال له: سلني حاجتك. قال: إني أستحي من ربي أن أسأل غيره وأنا في بيته! فلما خرج قال: نحن الآن قد خرجنا من المسجد فسلني حاجتك. قال: من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة؟ قال: من أمر الدنيا؛ فأمر الآخرة لا أملكه. قال: أنت تملك الدنيا؟ قال: لا. قال: فإني لم أسألها ممن يملكها فكيف أسألها مما لا يملكها! وهذا من الأمر المهم، ولكننا نلتفت هنا إلى حديث لو تأملنا في نصه لأدركنا أننا لا ننتبه ولا نتعلم ولا نعرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الصحيح، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري في صحيحه، يقول فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا)، فهذا لا يسأل الناس مالاً، وإنما ضلت عليه ناقته فيقوم فيقول للناس: بعيري هل رآه منكم من أحد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا). وفي رواية أخرى عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نشد عن الجمل الأحمر؟ ثم قال: لا رده الله عليه). هذه مسألة مهمة ينبغي أن نعرف أن السؤال وخاصة على الهيئة التي نراها من التشكي، وعرض ما قد يكون صحيحاً أو غير صحيح من أنواع البلاء والابتلاء الرباني، كأنما هو اعتراض على قدر الله، وكأنما هو شكوى لغير الله، ثم هو في غير موضعه الصحيح وعلى غير صفته المشروعة في حال من الأحوال، فإن أنكر مُنكِرٌ أو قال: لا تفعل هذا، تحركت القلوب برحمة غير مدركة للحكمة، وربما أنكرت على ذلك المُنكِر، وهذا من الأمور التي ينبغي التنبه إليها. وقد ذكر المفسرون في قوله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] وكذلك في قوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:29] أن الدعاء قسمان: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، فلا يسأل في بيوت الله غير الله جل وعلا.

ظاهرة عبث الأطفال وإزعاجهم في المساجد

ظاهرة عبث الأطفال وإزعاجهم في المساجد ومن ذلك الصغار من الأبناء الذين لا يعلمهم آباؤهم آداب المساجد، يعيثون فيها فساداً، ويلعبون فيها، بل إنهم قد يجعلون فيها من النجاسات والقاذورات ما لو كان عشر معشاره في بيت أحدنا لقام على ابنه ضرباً ووعيداً؛ حتى يزجره عن ذلك ويمنعه منه، وهم يسرحون أبناءهم في المساجد كأنما يسرحونهم في الملاعب أو الملاهي غير عابئين ولا آبهين بذلك. وكم كانت الشكوى من هؤلاء الأطفال في يوم الجمعة؛ حيث لا يكاد الناس أن يسمعوا الخطبة من كثرة إزعاج أولئك الصغار، وآباؤهم من رواد المساجد المداومين على الصلاة المعروفين بأشخاصهم وأعيانهم! ولكن لا يلتفتون إلى ذلك، ولا يرون أن فيه تفريطاً وتقصيراً منهم، فربما يلحقهم الإثم بما يشوشون على المصلين ويفقدونهم من الخشوع أو الانتفاع بالاستماع، وهذا أمر كثير بين، ولنا من بعد ما هو أشد وأخطر، فالله الله في بيوت الله وفي مساجد الله أن تعظم، وأن يرفع فيها اسمه، وأن يتهيأ المسلم لها بما ينبغي لها. نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يلزمنا كتاب ربنا، وأن يجعلنا مهتدين بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

من أحكام المساجد

من أحكام المساجد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

حكم تخطي الرقاب في المسجد

حكم تخطي الرقاب في المسجد أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله تعظيم حرمات بيوت الله، ومراعاة حقوقها، والتزام الأدب اللازم لها، وإن الأمر أيها الأحبة ليس فيه إمكان للإحصاء لكل المخالفات، وإلا فإن هناك كثيراً وكثيراً منها، ومن ذلك تخطي الرقاب الذي يحصل في الجمعة وغيرها، وهو منهي عنه، ومما قد وردت النصوص بأنه قد يبطل على صاحبه ويذهب أجره في صلاة الجمعة.

حكم حجز الأماكن في المسجد

حكم حجز الأماكن في المسجد ومن ذلك ما يحصل من حجز الأماكن، حيث لا يأتي الإنسان إلى الصفوف الأولى إلا متأخراً، ثم يكون قد جعل له موضعاً بغير حق، حتى لا يأخذه غيره، ولا يكون له بذلك -والله أعلم- أجر؛ لأنه لم يبكر. والمقصود بفضل الصف الأول التبكير، وأن يسابق إليه، وأن يستحقه بهذا التبكير الذي يبادر إليه.

أهمية التعاون في الحفاظ على حرمات المساجد

أهمية التعاون في الحفاظ على حرمات المساجد وهناك صور أخرى كثيرة، ومنها أمور أصبحنا نشكو منها، وذلك أن بعضاً من الشباب على وجه الخصوص يمكثون في المسجد وفي ملحقه ولا يؤدون الصلاة مع الجماعة، وهم يرونها، ويمكثون في أوقات أخرى يقضونها باللعب والهجر وغير ذلك من أمور لا تليق مطلقاً، ولا أحد من الناس يلتفت أو ينكر أو ينتبه. بل إننا قد شكونا من أمور أعظم من ذلك؛ لأننا نرى في دورات المياه إبر المخدرات؛ حيث يدخلون إلى بيوت الله ليتعاطوها في دورات المياه، أو في ملحقات المساجد، وأقول هذا لنلفت النظر أننا جميعاً مقصرون، وأننا مفرطون؛ لأننا لا نتعاون ولا نتكاتف لنجعل بيوت الله عز وجل مأرز إيمان وموطن تصحيح وتقويم وتهذيب ومحطة يخرج منها الناس باستقامة في سلوكهم وتهذيب في أخلاقهم وحسن في أقوالهم، لا أن تكون مجرد محطة عابرة أو ربما في بعض الأحوال يأتي الناس إلى المساجد ليقوموا بأعمال محرمة أو تكون ملتقىً لاتفاقات وأعمال آثمة، وذلك كله واقع حاصل غير مبالغ فيه، بل هو حقائق ألجأت إلى مثل حديثنا هذا وغيره، وهذا مما ينبغي التحرز منه خاصة في شهر رمضان؛ لأنه تكون المساجد فيه مفتوحةً وقتاً أطول، وإذا بها مفتوحة لينام النائمون، ويتحدث المتحدثون، وتضيع الأوقات، ولا تراعى الحرمات. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أن نجعل بيوت الله عز وجل مكاناً معظماً محترماً، فينبغي لنا أن نتعاون في ذلك، وأن يتكاتف فيه أهل المسجد وأهل الحي، ومصلو الجمعة جميعاً، فينبغي أن يوجد التواصي بالحق، وأن يكون التواصي بالصبر، والنصح والمنع لما يستحق المنع مما ليس مشروعاً؛ وهذا كله من التواصي الذي أمرنا به، والذي يستحق به أهل الإيمان الاستثناء من الخسران. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك لقلوبنا الصفاء والنقاء، ولأبداننا الصحة والعافية، ولنياتنا الإخلاص وقصد وجهك الكريم، ولأعمالنا الصحة وموافقة سنة نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر وثبت وأعن عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم اربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وأفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم ارحم عبادك المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! فرج اللهم همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانةً صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

الاختبارات والمسارعة إلى الخيرات

الاختبارات والمسارعة إلى الخيرات موسم الاختبارات موسم يسوده التوتر والقلق، ويكتنفه الجد والاجتهاد وشغل الأوقات بكل ما يخص تلك الفترة، والتخلي عن المشاغل والقواطع، وهذا أمر مطلوب ولابد منه، وإذا كان الأمر كذلك في اختبارات الدنيا، فكيف بالاختبار الأعظم بين يدي الله! فلاشك أن العاقل لا تخفى عليه أهمية الاجتهاد والمثابرة لاجتياز ذلك الامتحان الرهيب بنجاح وتفوق، وذلك بالمسارعة إلى الخيرات قبل فوات الأوان.

الاجتهاد في موسم الاختبارات

الاجتهاد في موسم الاختبارات الحمد لله الذي وسعت كل شيء رحمته، ونفذت في كل شيء مشيئته، وأحاط بكل شيء علمه. له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موسم الاختبارات لكل منا به تعلق، وله ارتباط، ولو أنا تأملنا في مثل هذا الموسم، وما يكون من حالنا جميعاً فيه، وحال الطلاب على وجه الخصوص، لخرجنا بكثير من الفوائد، ونريد في هذا المقام أن نخرج بقضية واحدة، أحسب أنها من القضايا المهمة التي ينبغي أن تحظى بعناية تامة ورعاية كاملة في واقع حياتنا. لننظر إلى هذه الاختبارات: مبدؤها وأساسها الذي يحرك الطاقات، والتي نبذل فيها الهم والاهتمام، ولو أن طالباً لا يشعر بأهمية الاختبار، ولا يعرف قدره، ولا يحسب حساباً للنتائج المترتبة عليه، فإن شيئاًَ لن يدفعه إلى الجد والاجتهاد، فأول مبعث كل عمل: همّ القلب، وفكر العقل، وشعور النفس، ومن بعده جدّ واجتهاد، فكم نرى من بذل الطاقات، وشحذ الأذهان، وتقوية الذاكرة، ودوام المطالعة، وكثرة المراجعة، مما يدل على طاقة كبيرة، وبذل عظيم، ثم تفرغ واهتمام، والوقت يفرغ من كل الشواغل والعوارض، بل تؤجل كثير من الأمور المعتادة، ويقلّص وقتها، فيكاد يختفي وقت الترفيه، ويقل وقت الراحة، ويتقلص وقت الطعام والشراب؛ توفيراً للوقت لما هو أعظم أهمية، وأولى بالرعاية والاهتمام. ونجد كذلك التركيز والتقديم، فإن أموراً كثيرة لا تحظى بالاهتمام في هذه الأوقات، حتى الآباء والأمهات لا يعتنون كثيراً في هذه الأيام إلا بهذه القضية المهمة، فيعطونها الأولوية على سائر المهمات والواجبات المتصلة بدورهم تجاه أبنائهم، ويرافق ذلك الحث والتشجيع، والوعد بالجوائز عند النجاح، وبالعظائم من المنح عند التفوق، وإذكاء روح الحماس، وبث الثقة في النفس؛ ليكون الاجتياز لهذه الاختبارات على أتم وأكمل وجه. ومن بعد ذلك نجد وعداً بالتعويض بالثمرة، فإن سهر هذه الليالي وقلة نومها وذهاب راحتها يهون وينسى عندما تخرج النتيجة بذلك النجاح والتفوق، فكلما تعب الطالب تلمّح عاقبة الامتحانات، فتجدد عزمه، ونشطت نفسه، وقويت همته من جديد. وفي آخر الأمر يكون الترقب والانتظار بعد انتهاء المهمة، فكل يعد الدقائق والساعات حتى تظهر النتائج، فالطلاب ينتظرون عند أبواب الصحف أو على شاشات الحاسوب، لماذا؟! إنهم يريدون معرفة الثمرة. هذه صور يسيرة مما نعرف أنه واقع في موسم الاختبارات، ولو أن أحداً أراد أن يوجد للطلاب وصفة للنجاح والتفوق، لقال باختصار شديد: المبادرة في المذاكرة والمراجعة! فلو أن طالباً كان مبادراً يدرس دروسه أولاً بأول، ويراجعها مرة بعد مرة، ويحل أسئلتها، ويفك معضلاتها دون تأخير ولا إبطاء؛ فإنه يكون مطمئن النفس، قرير العين، واثقاً من قدرته بإذن الله عز وجل على حصوله على مبتغاه ومراده، وأما المسوف المؤجل، والمتكاسل المتواني، والذي لا يستطيع أن يعطي للأمر حقه وقدره، وينهض بهمته وعزمه، فذاك الذي يكاد أن يجزم بأنه لن يحصل على النتائج العالية والتفوق.

أهمية المسارعة إلى الخيرات

أهمية المسارعة إلى الخيرات

الاعتبار بالاختبار للمسارعة إلى الخيرات

الاعتبار بالاختبار للمسارعة إلى الخيرات الذي نريد أن نخرج به مما سبق أن المسألة المهمة في نجاح كل أمر: هي المبادرة إلى إنجازه، والإتقان في أدائه، والحرص على تحصيله في وقته قبل فوات أوانه. والمسارعة إلى الخيرات درس عملي نستفيده من موسم الاختبارات، ألسنا في هذا الموسم -كما قلنا- نقدم كل شيء يتعلق بهذه الاختبارات، ونعطيه الأولوية، ونصرف فيه الطاقة، ونفرغ له الوقت، ونهيء له الأسباب، ونقطع عنه الشواغل؟! لأنا نريد النتيجة الأفضل والأكمل، فأين نحن من هذا في واقع حياتنا؟! لأن الحياة والعمر كله موسم اختبارات، وختامه انتهاء الحياة، ونتيجته يوم تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره. فالمسارعة إلى الخيرات هي أعظم أسباب النجاح في الاختبارات المسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إلى الطاعات والسبق إليها، والإقبال على أدائها دون إبطاء أو إرجاء، هل يؤجل اليوم أحد الطلاب مذاكرة اختبار الغد، ويقول: لا بأس أن أقرأ وأن أراجع في وقت لاحق؟! كلا؛ لأنه لا بد منه في هذا الوقت، وقد ضاق الزمن، وتحدد أن تكون هناك المبادرة. ولئن كان موعد الاختبار محدداً بيوم وتاريخ، فإن موعد اختبار كل واحد منا ليس له ذلك التحديد، فيمكن أن يكون غداً، ويمكن أن يكون اليوم، ويمكن أن يكون بعد عام، أو بعد عامين! فمتى يأتي الأجل؟ ومتى يخرج الإنسان من دنياه ليستقبل أخراه، ويبدأها بالسؤال في قبره، ومن بعد ذلك بين يدي ربه؟

الحث على المسارعة إلى الخيرات في القرآن الكريم

الحث على المسارعة إلى الخيرات في القرآن الكريم المسارعة إلى الخيرات صفة جُعلت لأفضل خلق الله من الرسل والأنبياء، فبعد سياق ذكر قصص كثير منهم جاء قوله سبحانه وتعالى عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] (أولئك) أي: الرسل والأنبياء، وجاء بصيغة المضارع المتجدد في معناه، أي: يسارعون دائماً وأبداً إلى الخيرات. والمؤمنون الخاشعون تلك هي صفتهم كذلك، بل هي قمة الصفات وخاتمتها، كما قال الحق جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61]، إن الذي بلغ بهم تلك الخشية وذلك الخشوع والصفاء ونقاء التوحيد، إنهم مبادرون لأمر الله، لا يتوانون عنه، ولا يتأخرون فيه، ولا يقصرون في أدائه، وذلكم هو وصف العباد الصالحين، كما قال سبحانه وتعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] ثم جاء الوصف في تفصيله: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:114]، فكل نتيجة من النتائج العظمى، ومنزلة من المنازل الكبرى، لا تنال إلا بالمبادرة والمسارعة إلى الخيرات، وذلك ما بيّنه أهل العلم وفصلوا القول فيه. قال السعدي رحمه الله في نداء الحق جل وعلا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] أي: سارعوا في الخيرات، (يسارعون في الخيرات) أي: يبادرون إليها، فينتهزون الفرصة فيها ويفعلونها في أول وقت إمكانها؛ وذلك من شدة رغبتهم في الخير، ومعرفتهم بفوائده وحسن عوائده. وقال ابن عطية رحمه الله: هذا وصف بأنهم متى دعوا إلى خير من نصر مظلوم، أو إغاثة مكروب، وجبر مهيض، وعبادة لله؛ أجابوا، فيكون أحدهم متى أراد أن يصنع خيراً بادر إليه، ولم يسوف نفسه بالأمل. فهل نحن كذلك؟! وهل نحن في المواسم العصيبة في طريقنا إلى الدار الآخرة كذلك؟! وعندما تمر بنا مواسم الاختبارات، من الابتلاءت المتنوعة التي لا يكاد يمر يوم دون أن تعرج علينا أو أن نمر بها، هل نحن على هذا الوصف أم أن التسويف والتأجيل وطول الأمل يكاد يقتل الهمم، ويفتر العزائم، ولا ينهض بأحد إلى مكرمة ولا طاعة؟ نحن نرى في السياق القرآني ما يبعث في النفس القوة على الأخذ بالطاعات، والرغبة في المسارعة إليها، فنداء القرآن كان دائماً وأبداً على هذا النحو: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

الحث على المسارعة إلى الخيرات في السنة النبوية

الحث على المسارعة إلى الخيرات في السنة النبوية يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر)، رواه أبو هريرة وهو عند الترمذي في سننه بسند حسن. بادروا فإن الأمور أعظم من أن تؤجل، وإن الأجل أعظم من أن يؤخر. وعن سعد بن أبي وقاص أنه عليه الصلاة والسلام قال: (التؤدة في كل أمر إلا عمل الآخرة)، رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وصححه ووافقه الذهبي. فيمكن أن تكون متأنياً مؤجلاً مؤخراً، إلا إذا كان العمل عمل آخرة. وتأمل في القدوة العظمى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كيف كان السابق المبادر إلى كل خير، قال أنس رضي الله عنه في وصفه للنبي عليه الصلاة والسلام: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأحسن الناس، وأجود الناس، استيقظ أهل المدينة على صوت صارخ، فسبق إليه، ورجع وهو يقول: لن تراعوا لن تراعوا!). وتأمل قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه عليه الصلاة والسلام: (كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق -أي: في شدة القتال وضراوته- نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم) فيكون في مقدمة القوم، وأول الركب؛ لأنه المسارع المسابق، ولأنه المبادر إلى الطاعات، لم يضن بنفسه، ولم يمل مع هواها، وكان كذلك في حياته كلها عليه الصلاة والسلام، حتى سارع بأمله وطموحه فقال: (والله لقد وددت ألا أقعد خلف سرية تقاتل في سبيل الله)، ثم سارع بفعله كما رأينا في هذه السيرة العطرة من بعض هذه الومضات العظيمة. (وصلى صلى الله عليه وسلم مرةً، فتجوز في صلاته، ثم مشى مسرعاً، ودخل إلى بعض بيوته، وغاب قليلاً وخرج، فرأى في عيون أصحابه السؤال والتعجب، فبادر قائلاً: ذكرت شيئاً من تبر -أي: ذهب- فخشيت أن يحبسني، ففرقته في سبيل الله). تلك هي المبادرة؛ فإن الوقت يمضي، وإن الأجل يقطع، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المعنى -كما روى ابن ماجة في سننه-: (حجوا قبل ألا تحجوا، فإنه يمرض المريض، وتعطب الدابة)، فهذا في الحث على المبادرة في الحج، فإنه قد يمرض الإنسان، وقد تعطب دابته، وقد يفوته هذا الأمر كما يفوته غيره من الأمور إن هو أخر، فلا يدري كيف سيكون حاله؟ وفي الحديث: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك). كل ذلك قاله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك امتثله وحث عليه أصحابه، فالاختبار لا يمكن النجاح فيه بالتفوق إلا بمثل هذه المبادرة، وبمثل هذا الذي نصنعه في هذا الموسم من تفريغ الأوقات، وقطع الشواغل، وتركيز الاهتمامات، وإعادة ترتيب الأولويات، وجعل الأمور في نصابها، فقد دخلت هموم الدنيا وشواغلها، ودخلت الملهيات والمغريات وصوارفها التي جعلت القلوب معلقة بغير تلك المسارعة إلى الطاعات. وتأمل هذه الكلمات التي تدلنا على معنى هذه المسارعة، وكيف تكون كما شبهنا ذلك وسنعيده بإيضاح أكثر في شأن الاختبارات. قال السعدي رحمه الله: والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات -إذ إنه ليس مجرد فعل، بل هو أكثر من ذلك- فإن الاستباق إلى الخيرات يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات! ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير وينشطها ما رتب الله عليها من الثواب، قال جل وعلا: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة:148]، ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يطلب فيها العمل على أفضل وجه، كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة في الصيام والحج والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات، وغير ذلك مما فيه الكمال. وكل هذا يدلنا على أننا إذا نظرنا إلى أحوالنا في مثل هذا الأمر وجدنا أنا مقصرون فيها. وقال أبو حيان في تفسيره: المسارعة في الخيرات تكون من شدة وفرط الرغبة فيها. أي: عن رغبة في الأمر المبادر إليه والقيام به.

حال الصحابة في المسارعة إلى الخيرات

حال الصحابة في المسارعة إلى الخيرات بعد سرد هذا التوجيه القرآني، وبعد هذه القدوة النبوية، نذكر كيف كان ذلك جلياً في حياة الصحب الكرام، كما هو معلوم في ذلك الحديث المشهور عند الترمذي في سننه من رواية عمر رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، ثم جاء أبو بكر بكل ما عنده، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أسابقه إلى شيء أبداً). وهناك رواية أخرى في شأن آخر بين الشيخين الجليلين في أمر يسير؛ ليدلنا ذلك على أن أمر المنافسة والمسارعة، والحرص على الأجر والمثوبة، والسبق إلى الخير والإحسان؛ كان أمراً في طبيعة نفوسهم. فقد روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث عمر أيضاً: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فمروا بـ عبد الله بن مسعود وهو يقرأ القرآن، فأنصت له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حسن التلاوة عذب الصوت، فقال عليه الصلاة والسلام: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد، قال عمر رضي الله عنه: فأدلجت -أي: مشيت بالليل- إلى ابن مسعود لأبشّره، فلما ضربت الباب قال: ما أتى بك الساعة؟ قلت: جئت لأبشرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبقك أبو بكر) أي: بهذه البشارة. فهذا أبو بكر وعمر الرجلان العظيمان المشغولان بجلائل الأمور، ومع ذلك في أمر خبر من الخير يستبقان، فقال عمر رضي الله عنه في مثل هذا: إن يفعل فإنه سباق في الخيرات، وما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر. وتأمل في هذه المسابقة التي أتت في صورة بديعة جملية، تدل على شيوع هذا في مجتمع المسلمين، يوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاطعة النفر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وكان أصغر القوم وأشبهم: كعب بن مالك رضي الله عنه، ومكث الثلاثة خمسين يوماً من القطيعة التامة، وكان القرآن قد أبلغ في وصف ما حصل فقال تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118] فلما نزلت آيات التوبة، أراد الصحابة أن يسبقوا بالبشارة إلى كعب رضي الله عنه، ويروي القصة كعب فيقول: (فابتدر أحدهم على فرسه لكي يصل إلي، وعلا آخر على سلع ليرفع بالصوت) -كلٌ يسابق إلى هذا الخبر لينشره- قال: (فكان الذي على الخيل أسرع، فكسوته بردة والله ما كان لي أحسن منها). هكذا كان شيوع المبادرة إلى الخيرات، لا يقول النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا يأمر أمراً، ولا تنزل آية، إلا وبادروا إلى الاستجابة والفعل والتنافس في هذا الميدان، وكان هذا هو الشأن السائد عندهم. ولذلك لما تنزلت آيات تحريم الخمر امتنعوا منها لفورهم، ولما تنزلت آيات الحجاب لبس نساء المؤمنين الحجاب من وقته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث ويحض فيستبقون. كما استبقوا في الإنفاق يوم جاء القوم من مضر، فجاء رجل من الأنصار بصرّة من ذهب كادت كفه أن تعجز عنها، بل قد عجزت! فتتابع الناس حتى اجتمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة، وسرّه هذا السباق إلى الخيرات، فقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً). والسبق له مزية، والمبادرة لها ثمرة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، فكل من سبق تميز، {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، فمن سبق إلى أمر له شرف في المنزلة، وزيادة في الأجر، ورفعة في القدر، وادخار عند الله سبحانه وتعالى، فكيف تريد المعالي ولا تبذل لها مهرها؟! وكيف تريد أن تحقق التفوق ولا تعطي له جهده: تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس قال الله عز وجل: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وإذا أردت دون ذلك فالناس مقامات، والجنة درجات، والنار -والعياذ بالله- دركات: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، تلك هي المراتب، فاختر لنفسك، وانظر هل أنت مدرك لهذا الموسم في الاختبارات أم أن الأمر على غير ذلك؟! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، المبادرين إلى الطاعات، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

فوائد وثمرات المسارعة إلى الخيرات

فوائد وثمرات المسارعة إلى الخيرات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولئن كان موسم اختبار في عام واحد ينتقل فيه الطالب من مرحلة إلى مرحلة، ويتكرر مرة بعد مرة، ونعنى به هذه العناية، ونهتم له هذا الاهتمام، ونعطيه ذلك الجهد، ونهيئ له تلك الأسباب، ونبادر إليه ونسارع، لنكون في مقدمة من يحصلون على أفضل النتائج بذلك تتعلق قلوب الآباء والأمهات، وبذلك يرتبط طموح الطلاب والطالبات؛ فعلينا جميعاً أن نخرج من هذه الاختبارات بدرس المسارعة إلى الخيرات، والمبادرة إلى الطاعات، واستباق فوات الأوقات، والمسارعة التي يكون بها في آخر الأمر -بإذنه جل وعلا- دخول الجنات، ورفعة الدرجات، وصحبة خير البريات صلى الله عليه وسلم. ليس هذا اختباراً كاختباراتنا المتكررة المعتادة، وليست نتيجته ولا ثمرته ولا فائدته كهذه الفوائد التي تنقل من مرحلة إلى مرحلة، أو يأخذ الطالب فيها شهادة أو مكافأة، أو غير ذلك من الأمور العارضة اليسيرة، التي ليس فيها كثير غنائم ولا عظيم نفع. وهناك كلمات لـ ابن الجوزي رحمه الله في هذا المعنى، نختم بها لعلها تذكرنا بهذا الشعار، يقول رحمه الله: البدار البدار يا أرباب الفهوم، فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة، وسفر إلى المستقر، والقرب من السلطان ومجاورته، فتهيئوا للمجالسة، واستعدوا للمخاطبة، ولا يشغلنكم عن تضمير الخيل تكاسل، وليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم السباق. اهـ. فليكن لنا درس وعظة من هذه الجهود التي نوفرها، والاهتمامات التي تشغلنا، وعلينا أن يكون أوكد همنا، وأعظم شغلنا، وغاية أمنياتنا، ومربط ما نحتاج إليه في حياتنا؛ هو سبقنا إلى مرضاة الله، ومبادرتنا إلى طاعة الله، وتهيؤنا لملاقاة الله. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وبارك لنا فيما رزقتنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، المبادرين إلى الطاعات، المغتنمين للأوقات، برحمتك يا رب الأرض والسماوات، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وآخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين، فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واشف اللهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز يا متين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يا من أمره بين الكاف والنون، يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها، وسعة رزقها، واحفظ اللهم أوطان المسلمين أجمعين يا رب العالمين، وانصر اللهم عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخصّ منهم بالذكر: ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

مشروعات رمضانية

مشروعات رمضانية شهر رمضان موسم الطاعات، ومحل المغفرة والرحمات، ففيه تضاعف الأجور، ويكثر إقبال الناس على الطاعات، وتمتلئ المساجد بالمصلين والتالين للقرآن، وجدير بنا أن نستغل هذا الشهر الكريم بالمشروعات الرمضانية الأخرى، وألا تكون أعمالنا فيه عشوائية، بل نجعله منطلقاً لمشاريع خيرية تنمي جوانب الخير، وتقطع وسائل الشر عن أنفسنا ومجتمعنا على الدوام.

مقدمة عن أهمية التخطيط والإعداد والعزم والتجديد والابتكار في الحياة

مقدمة عن أهمية التخطيط والإعداد والعزم والتجديد والابتكار في الحياة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمدنا بواسع رحمته، وأن يجعل مجلسنا هذا تحفه ملائكته، وأن يبلغنا وإياكم رمضان، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. رقم هذا الدرس في سلسلة الدروس العامة (181) وعنوانه: مشروعات رمضانية. ومناسبة انعقاده في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر شعبان عام (1424هـ) حيث لا يفصل بيننا وبين الشهر الكريم إلا أيام قلائل. وموضوعنا هذا أحبتي الكرام! موضوع عملي وليس نظرياً، فكل ما سنذكره من المشروعات مقترحات وأفكار لأعمال يمكن لكل واحد منا أن يقوم بها، ولعلي من البداية أقترح عليكم أن تخرجوا أقلامكم وشيئاً من أوراقكم لتدونوا هذه الأفكار آملاً في أن تتحول إلى واقع عملي. أولاً: أهمية التخطيط والإعداد، كل موسم وكل عمل في أمورنا الحياتية نخطط له ونستعد له قبل بدايته، وقريباً بدأ موسم الدراسة، وجميع الحاضرين بلا استثناء كانوا يفكرون فيه ويعدون له، وأبناؤهم يطلبون منهم ويركبون معهم حتى يتهيئوا لهذا الموسم قدوماً إن كانوا مسافرين، وسكوناً واطمئناناً إن كانوا متحركين، وشراءً للاحتياجات الناقصة، ومتابعة للأمور اللازمة ونحو ذلك، ورمضان أولى بذلك وأجدر، فهو زائر كريم ووافد عظيم، وضيف عزيز، كيف بنا لا نتهيأ ولا نخطط لاستقباله. ثانياً: أهمية العزم والمعاهدة، ما تقوله الآن وتعزم عليه لا يكون له أثر لو أنك لم تفكر فيه ولم يرد ببالك، وإذا حولت هذا العزم إلى معاهدة بينك وبين أهلك أو بينك وبين زملاء العمل أو بينك وبين أهل حيك، فإن هذا يرتقي إلى أن يكون أمراً نتوقع أن يتحقق بنسبة كبيرة، مع الانتباه لقضية مهمة، وهي أن هذه المشروعات وغيرها من أعمال البر والجد إلى حد ما تعتبر سباحة ضد التيار، لأن التيار في الغالب يميل إلى الكسل وينشغل بالتفاهة، لا يأخذ الأمور الإيمانية والعبادية على المحمل المطلوب، ولا يعنى بأمور الأمة وشئونها على الوجه اللائق، فلذلك كانت الظروف لا تساعد، فإن لم يكن عزم منك ومعاهدة مع غيرك ربما تتبدد هذه الأفكار وتتبخر دون أن تترجم إلى واقع عملي. ثالثاً: أهمية التجديد والابتكار، ونحن نعلم أن عباداتنا وفرائضنا جاء بها الوحي والشرع، وليست من بنات أفكارنا ولا نتاج عقولنا، ولن نجدد الصيام فنبتكر فيه أو نغير، ولكنا نقول: كيف نجدد في طريقة اغتنامنا للأوقات، وتعاملنا مع هذا الموسم؟! كيف نحول بعض عاداتنا السيئة ونجدد فيما يجعلنا أكثر استعداداً وقوة في التفاعل والانتفاع من هذا الموسم العبادي والإيماني؟ وأذكر لكم مثالاً: فوسائل الإعلام كلها تجدد في كل عام، وهي تجدد في ميدانها الذي يغلب عليه في أكثر قنواته الفساد والإفساد، فنحن نعرف أنه هناك باستمرار -كما يقولون- فوازير أو ألغاز أو ألعاب أو برامج أو نحو ذلك، وكل مرة يجددون، لماذا؟ حتى يكسبوا الجميع معهم، ونحن أولى بمثل هذا.

مشروعات شهر رمضان

مشروعات شهر رمضان الآن سننطلق إلى المشروعات، وسأذكر لكم في هذا الوقت القصير مائة مشروع فأكثر، كلكم سينظر إلى الورقة الصغيرة ويقول لن تكفي إلا لأقل من ذلك، لكنكم ستعرفون كيف سنصل إلى هذه المائة، وجزماً سنصل إليها إن شاء الله تعالى، فنبدأ واحداً واحداً.

المشروع الأول: حسن الاستقبال

المشروع الأول: حسن الاستقبال كل وافد وكل مناسبة نعلم جميعاً أن الجهة أو الأفراد الذين ينتظرون هذا القادم يستعدون ويعملون حفلاً للاستقبال. المدارس تعمل حفلاً لاستقبال الطلاب في المناسبات المختلفة، فيقسمون الأفراد إلى لجان: لجنة للإعلام، ولجنة للتنظيم، ولجنة لاستقبال الضيوف، فما هي المناسبة التي نريد أن نستعد لها؟ الآن وقبل أن يدخل الشهر اعقد اجتماعاً على مستوى القمة في بيتك، وتناقش مع أسرتك كيف نستقبل شهر رمضان؟! مجرد هذه الجلسة سوف يكون منها فائدة كبرى في التهيئة للصغار والكبار والأبناء والبنات؛ ليعلموا أن هناك شيئاً ما، وأن هناك حدثاً ما لا بد أن ننتبه له، خذ في هذه الجلسة أفكاراً من الأبناء، قل لهم: ماذا تريدون أن تفعلوا لاستقبال شهر رمضان؟ كلهم سيقول لك شيئاً، بعضهم سيقول لك: سنزين الغرف، لماذا؟ لنفرح بموسم الخير والطاعات. بعض الصغار قد يقول لك: أنا أريد أن أصوم في كل يوم إلى الظهر؛ لأنه صغير، نقول: أنت إذاً في ميدان مناسب، الآخرون يقولون: نريد أن نقوم بزيارات للأقارب، كل سيفكر بشيء. ثم أيضاً نقول: في مثل هذا الاجتماع نقوم بتوزيع الأدوار على الأبناء الكبار والأبناء الصغار، مثلاً: أنت مكلف بإفطار الصائم، إن كنتم كل يوم سوف تخرجون إفطار صائم، وأنتِ مكلفة بأن تقومي بإعداد بعض الأوراق وتطبعينها على الكمبيوتر حتى نهديها إلى الناس، كما سيأتي بعض أيضاً في هذا الاجتماع نذكر بالفضائل والخصائص لشهر رمضان؛ حتى نساعد الأسرة، أو مجموعة العمل، عندما نسرد هذه الفضائل سوف تفتق أفكاراً لهذا الاستقبال. ثم هناك نقطة مهمة جداً: وهي الانتباه للأخطاء والتقصير من خلال التجارب الماضية، فكثير من الأسر وكثير من الناس يقول: في الأعوام الماضية كنا نسهر ونتأخر عن صلاة الفجر، أو كنا أحياناً نفعل بعض الأمور وننام في النهار وقتاً أطول، أو كنا أحياناً نتكاسل عن أداء صلاة التراويح كاملة. إذاً: من ضمن خطط الاستقبال كيف نعالج هذه الأخطاء التي تحصل في كل عام، والتي كنا في كل نهاية رمضان نقول: إن شاء الله في رمضان القادم سوف نتلافى ذلك. إذاً: المشروع أن تجتمع اجتماعاً ليكون هناك حفل استقبال واستعداد لهذا الشهر الكريم والموسم العظيم.

المشروع الثاني: السباق مع الريح

المشروع الثاني: السباق مع الريح هذا مشروع مهم ومفيد جداً، وربما عنوانه لا يدل على مضمونه، لكننا إن تذكرنا حديث ابن عباس في الصحيح: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل حين يدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة). الرسول عليه الصلاة والسلام سبق الريح في كرمه وجوده وعطائه، نحن نريد أن نعمل مشروعاً اسمه: سباق مع الريح، قد لا نسبقها لكن نوازيها، قد يكون بعضنا خمسين في المائة وبعضنا ستين في المائة؛ قد يكون هذا المشروع على مستوى الأسرة، وقد يكون على مستوى الجيران، وقد يكون على مستوى أهل الحي، وقد يكون على مستوى زملاء العمل أو الدراسة، ما هو هذا المشروع؟ إنه مشروع التسابق في مجال الإنفاق وبذل الخير. وهنا وقفة: ليس بالضرورة أن يكون الأمر مالياً بحتاً، سنذكر هنا صوراً من السباق في مجال البذل والتبرع، وسننبه على قضية الرياح حتى لا تشوش على أحد. اجعل مسابقة بين الأبناء، كل يجمع من مصروفه مالاً يجعله صدقة لوجه الله عز وجل، ولا يعلم بها إلا رب الأسرة، ويمكن أن نخفي ذلك ونجعل لهم أرقاماً لا تعلن إلا في آخر الشهر، ويمكن أن نقول: فاز في هذا الأسبوع واحد منكم وبلغ تبرعه كذا وأنفقناه. ترى أن من عرف الرقم الذي تبرع به عرف أنه فائز، والآخرون عرفوا أنهم ليسوا فائزين، والمنافسة تشتد في الأيام التي تليها والأسبوع الذي يليه، لو كان في ميدان عمل فيمكن كذلك. ليس فقط ميدان الإنفاق والتبرع، وإنما المسابقة في ميادين أخرى أيضاً منها: التعريف والدعوة، ما معنى التعريف والدعوة؟ عرف بمجالات الإنفاق وادع إليه، قد لا يكون عندي مال، لكني أستطيع أن أقول: إن في المسجد مشروعاً لإفطار الصائم فلو أنكم تبرعتم لوجدتم من الأجر كذا وكذا، فالذي سيتبرع سيكون في رصيد حسناتك نصيب من تبرعه وأجره. كيف نتسابق إن كنا جميعاً فقراء معدمين، يمكن أن نتسابق سباقاً مع الريح في مجال التعريف والدعوة للإنفاق، وبيان ذلك وفضائله للناس، وبيان ميادينه التي يمكن أن يسير فيها. الجانب الثالث: السعي والدلالة، ليس بالضرورة فقط الدعوة للإنفاق بالقول، بل تسعى مثلاً في مشروع إفطار الصائم إلى الحمل مع الناس في إيصال الأشياء إلى مستحقيها، قم بشيء من الجهد الذي يريدونه، حتى تكون مشاركاً في هذا، أو دل عليه دلالة عملية، بأن مثلاً في زكاة الفطر تدلهم على الأسر المحتاجة التي تعرفها فيكون لك أجر الدلالة على الخير كما ورد في الحديث: (من دل على هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً). ثم أيضاً في مجال المعونة والمواساة ولو أن تتبسم في وجه المكروب، ولو أن تقف معه وتخفف عنه بكلمات ميسورة، كل هذه ميادين، فينبغي أن نعلن مشروع السباق مع الريح، صدقوني لو أننا أعلنا هذا الشعار في هذه الدوائر التي قلتها، سوف يكون له أثر لا نتخيله ولا نتوقعه، بدلاً من أن يكون التسابق الفعلي في عكس ذلك لميدانين مختلفين: إما في التخلف عن الطاعات والتكاسل عن أدائها فهذا يقول: ننام إلى الظهر، الثاني يقول: أنا أنام تقريباً إلى العصر، الثالث يقول: في الحقيقة أنا لا أستيقظ إلى قبيل المغرب، تنافس إلى الخلف إلى الوراء. أو تنافس في ميدان آخر: هذا اشترى من الطعام بألف، هذا يقول: نحن اشترينا بعشرة آلاف، هذا يقول: نحن أعددنا للعيد كذا، وهذا يقول: الإنفاق يخصنا وينحصر في ذاتنا، وربما يكون فيه من السرف والتبذير ما فيه.

المشروع الثالث: الاستضافة الدعوية

المشروع الثالث: الاستضافة الدعوية وهذا مشروع سهل ميسور: كثير من الأسر، وكثير من مؤسسات العمل تقوم بمناسبة في هذا الشهر ولو مرة واحدة، إما دعوة للإفطار أو دعوة للسحور، أو دعوة فيما بعد صلاة التراويح كنوع من التواصل أو صلة الرحم أو نحو ذلك، لم لا يكون هناك استضافة لشيخ أو داعية أو عالم أو واعظ لدقائق معدودات؟! يطرق أبواب القلوب، يستنزل بعض الرقة والخشية والخشوع في النفوس، وبذلك يكون له أثر كبير، ويمكن أن يكون ذلك في بيتك أيضاً عندما تجمع أفراد أسرتك، أو تكون هناك مناسبة عائلية موسعة، ولقد جربت هذا وكنت أجد من كثير من الناس يدعونني ويدعون غيري إلى بيوتهم، ويجمعون أفراد أسرتهم من الأبناء والأرحام والأحفاد. دعوة موجودة سيكون فيها طعام أو سيكون فيها إكرام وضيافة فلم لا نزيد عليها هذا الشيء، بدلاً من أن نقدم الطعام والشراب فقط فلنقدم الذكر والموعظة والتعليم والإرشاد بالأسلوب الحسن وبالطريقة المناسبة، وكثيراً ما يكون لهذا فائدة، حتى وإن كنت أنت تربي أبناءك وتذكرهم وتعلمهم لكن كما يقولون: (زامل الحي لا يطرب) وكل جديد له لذة، كل ضيف سوف يكون الانتفاع به متحققاً. لو جاء الضيف أو المتحدث من نفس الأسرة ربما يقولون: سمعناه من قبل، وربما بحكم المعرفة والخلطة لا يعطونه الاهتمام أو الاحترام اللازم لذلك، لكن إذا جاء الضيف كان أمر آخر، ثم هناك فائدة: أن يتعرف الأبناء أو الزملاء على طلبة العلم والدعاة، وأن يستمعوا لهم، فربما كان الحاضرون لم يستمعوا مرة إلى درس أو إلى موعظة غير خطبة الجمعة، وقد يرغب الواحد منهم ويصبح بعد ذلك يتتبع الدروس والمحاضرات والمواعظ هنا وهناك، وربما أيضاً يتعرف على هذا الشيخ فيحتاجه في سؤال أو استفتاء أو يستشيره في أمر ما، فيفتح من أبواب الخير من أثر هذا اللقاء والتعرف ما لا يعلمه إلا الله. وفي ذلك أيضاً ترغيب وتحبيب فيما سيطرح من هذه اللقاءات والموضوعات.

المشروع الرابع: الحملة الخيرية

المشروع الرابع: الحملة الخيرية نبدأ هذه الجملة بالتذكير بحديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم والذي أخبر فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع بعض أصحابه في المسجد، فدخل قوم من مضر عليهم أثر الفاقة مجتابي النمار -أي: ملابسهم مقطعة- فتمعر وجه النبي عليه الصلاة والسلام) -أي: تغير حزناً لما رأى من حالهم، وما تغير وجهه إلى بعد أن تغير قلبه ونفسه من فرط رقته ورحمته وشدة تأثره بأحوال الناس وضعفهم وفقرهم وسوء حالهم. ثم ماذا؟ هل تمعر وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله وسكت؟! انتظر النبي عليه الصلاة والسلام حتى دخل وقت الصلاة -وكانت صلاة الظهر- ثم صلى بالناس ثم قام فيهم خطيباً وبدأ بالآيات المعروفة في التقوى والأمر بها ثم قال: (تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من صاع بره، تصدق رجل من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)، دعا الناس كلهم أن يتبرعوا وأن ينفقوا، هذه حملة تبرع نبوية منذ ذلك العهد. (فأتى رجل من الأنصار بصرة من ذهب كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت، وتقدم فوضعها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام فتسابق الناس -يعني: تشجعوا- كلاً يخرج ما عنده حتى اجتمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة من شدة فرحه) لا بهذا المال؛ لأنه كان من الممكن أن يقول: يا عثمان! أخرج كذا وكذا، أو يا عبد الرحمن بن عوف! أو غيرهما من كبار التجار، ونحن دائماً إذا ذكرنا التبرعات ذكرنا كبار التجار، سبحان الله! ننسى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (سبق درهم ديناراً)، القليل من القليل كثير، عندما يكون رأس مالي ألفاً فأخرج خمسمائة، أكون قد أخرجت نصف ما لدي، أليس كذلك؟! والذي يخرج خمسمائة وعنده خمسمائة مليون لم يخرج إلا شيئاً لا يذكر، فالمسألة ليست بالكثرة وإنما بهذا التحرك الذي يترجم التكافل والتعاون الذي تزول به الحاجة ويندفع به الأذى، كما حصل في هذه الحادثة. ثم أعطى النبي عليه الصلاة والسلام أولئك المحتاجين من ذوي الفاقة، وقال في هذه الحادثة: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). فأنا أريد أن أعمل حملة للتبرع وحملة خيرية في المكان الذي أختاره، قد يكون في بيتي، قد يكون في مقر عملي، أو مع زملاء دراستي، أو مع أهل حيي، وهذا سنكرره دائماً، ما الذي نقوم به؟ اختر الموضوع أو القضية التي تريد ندب الناس للتفاعل معها والإنفاق في سبيلها، لنقول مثلاً: قضية إسلامية كقضية إخواننا في فلسطين، أو حاجة من الحاجات التي تكون في مجتمعنا وفي واقعنا، تحدث أولاً عن هذه القضية، وضح معنى وأهمية هذه القضية، اذكر الحاجة الملحة الشديدة للإعانة والإنفاق في هذا الباب، اذكر أمثلة للسبق والتسابق في هذا الميدان، اذكر أمثلة للأثر الإيجابي الذي يدخل إلى نفوس وقلوب من يعانون وينفق لهم هذا المال، ثم هيئ النفوس كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام. النبي عليه الصلاة والسلام انتظر الصلاة حتى يجتمع أكبر عدد ممكن من الناس، وحتى يكون الناس قد صلوا وركعوا وسجدوا وذكروا ودعوا وابتهلوا فيكونون في مستوى إيماني مرتفع بحيث يمكن أن يجودوا وينفقوا في سبيل الله عز وجل، وانتظر الصلاة ليذكر المسلمين بأنهم أمة واحدة، كأنه يقول: الآن قمتم إلى الصلاة غنيكم وفقيركم، قويكم وضعيفكم في صف واحد، إذاً أنتم إخوة في الله، إذاً أنتم كتلة واحدة وأمة واحدة، لماذا تكونون أمة في الصلاة ولا تكونون أمة عند الحاجات وعند الملمات، وعند سد الثغرات، وعند كل ما يمكن أن تحتاج إليه الأمة في أي باب من الأبواب؟! ولذلك فإن التأثير والتذكير مهم جداً، ثم بعد ذلك ربما لا نكون مهيئين لأن نبذل أو ننفق فلنفكر ولندبر كيف يمكن أن نترجم هذا الذي سمعناه، والأمور التي علمناها، والأحوال التي عرفناها، كم من المرات نسمع؟! كم من الخطب نسمع؟! كم من الأحاديث نسمع عن أحوال وأمور في بيئتنا ومجتمعنا أو في بلاد المسلمين؟! ولا نفكر كيف يمكن أن نعمل أو نترجم ذلك إلى حملة حقيقية توصل الخير وتسد شيئاً من الرمق أو تدفع باباً من الأذى، أو تثبت أحداً من المسلمين أو نحو ذلك؟! وفي آخر الأمر سوف ينتج عن هذا ضرب من المنافسة والمساهمة التي ذكرناها في سباق الريح، وهذا أمر فطري طبعي. ولاحظوا هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس جميعاً ولم يدع الأغنياء فقط، حتى قال: (ولو بشق تمرة)، يعني: لا أريد أن يتخلف أحد منكم عن أن يتقدم للإسهام ولو بأقل القليل، إذاً القليل من الكثير كثير أو لا؟ نحن لو قلنا: نريد من كل واحد ريالاً كل الناس يقول: يا أخي! ماذا سيصنع الريال؟ لكن لو أخذنا هذا الريال من ألف مليون مسلم كم سنجمع؟ ألف مليون ريال. لا نتصور نحن القليل من الكثير أو القليل مع الدوام، وهذه قضية سيأتي ذكرها، وهي مشروع مهم جداً لا بد من أن يحرص الجميع على تنفيذه وتطبيقه.

المشروع الخامس: المقاطعة الآمنة

المشروع الخامس: المقاطعة الآمنة ماذا نريد أن نقاطع لكي نأمن وندفع الشرور والأمراض والمشكلات الكثيرة؟ أنا أدعو أن يكون شهر رمضان شهر مقاطعة لوسائل الإعلام الفاسدة، ومعلوم أن الغالبية العظمى منها خاصة الآتي عبر الفضاء هي كذلك، وكلنا يعلم هذه الخصيصة البغيضة التي جعلوها لشهر رمضان خصيصة الفوازير، والقضية هل هي سؤال للمعرفة وللثقافة ولزيادة الاطلاع؟ خذوا صورة تعرفونها من يقدم الفوازير؟ لا بد أن تكون المقدمة الرئيسية امرأة أو فنانة، حتى ولو أن هناك رجلاً، لكن لا بد أن تكون هي موجودة، وفي الحلقة الواحدة تظهر بعشرة فساتين، وبعشر تسريحات للشعر، وبأكثر من عشر رقصات مع عشرة من الرجال، و Q أين هي الثقافة والمعلومة المفيدة؟ وكم في ظل ذلك من الفساد! وكم من الأثر السيء! وكم من ارتكاب للحرام حتى نأخذ هذه الفزورة، أو هذا اللغز! وهل جعل رمضان لكي نشغل أنفسنا بالألغاز؟ كأننا فارغون وهناك من يريد أن يملأ فراغنا، كما كان يقول الشيخ كشك رحمه الله: سلِّ صيامك فصيامك فيه ملل، ونريد أن ندخل عليه التسلية. كل عام هناك مسلسلات خاصة في رمضان ماذا تقدم لنا في غالب الأحوال؟ هل تقدم فضائل الأخلاق، أو مكارم الخصال، أو تنبه على الخلل؟ كثير مما تعلمونه، وتكون في كثير من الأحيان في أفضل الأوقات المهمة وقت الإفطار، فبدلاً من أن تذكر الله أو ترتاح لتستعد للصلاة تأتيك هذه المسليات والمرغبات من هنا وهناك، واليوم لم يعد الوقت مع هذه الفضائيات محدداً ففي وقت الإفطار يبثون ما يمكن من المشاهد؛ لأنها لا تراعي حرمة للشهر، أو أن التوقيت مختلف، فكثير من الفضائيات العربية تصوم في النهار وتفطر في الليل، وتعرفون ما معنى صيامها في النهار؟ وما معنى فطرها في الليل؟ صيامها في النهار تأتي بالقرآن وبرامج دينية في وقت العمل والنوم، وإذا جاء الليل جاء معه ما تعلمون، لكن نهار أولئك ليس مثل نهار هؤلاء، فيأتيك في الليل والنهار ما هو جارح للصيام. أسأل سؤالاً واحداً: ما الذي سينقص عندما نقاطع هذه الشاشة لمدة شهر رمضان؟ سوف نرى أثر ذلك سلامة من أمراض القلوب، وأمناً من وهن النفوس، واطمئناناً لرشد العقول، وعدم وجود أنواع من الخلل تتسرب إلى أبنائنا من مشاهدات كثيرة سيئة. سيقول بعضنا: وكيف تملأ الأوقات؟ وكأننا كما قلت: ليس عندنا اهتمام ولا عناية، وكأننا لا نعرف أين نحن وفي أي زمان نحن؟ بمعنى: لا نعرف أننا في رمضان، وأننا في موسم الطاعة، وأن مهما اغتنمنا من الوقت في الطاعات فإنه قليل، وأذكر لكم ما ذكره ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة الإمام الشافعي -وارجعوا إليها- يقول: إن الإمام الشافعي رحمه الله ختم القرآن في رمضان ستين ختمة. أعلم أن بعضاً منكم سوف يقول: هذا مستحيل، أنا أقول لكم ما قال ابن عساكر: يقول ابن عساكر -وانتبهوا إلى هذا الكلام-: فحاولت ما حاول الشافعي فلم أستطع إلا تسعاً وخمسين ختمة. إذاً المسألة ليست خيالاً، فنحن نقول: ماذا سنصنع إذا لم نشاهد التمثيلية، ونشاهد المسابقة؟! سبحان الله! عجيب أن نفكر بهذا، لكن أقول: خذوا بدائل، لماذا لا تشغلوا الأبناء ببعض الأمور النافعة؟ رسوم خاصة موجودة أو مبتكرة خاصة برمضان مثل صورة الإفطار يلونها الأبناء، أو صورة للتمر والنخل، أو صورة لمعركة بدر يلونها، فإنه سيكتسب من ذلك شيئاً مفيداً، والصغار إذا وجههم الآباء توجهوا، ويمكن بسهولة جداً أن يتوجهوا إلى أمور يرون فيها متعة، ويرون فيها قضاء للوقت، لماذا هم الآن متعلقون بمشاهدة الشاشة الفضائية؟ لأنهم وجدوا فيها المتعة وليس عندهم غيرها. أوجد بدائل أخرى: اجعل لوحة كبيرة في حائط المنزل، واطلب من الأبناء كل يوم أن يختار الواحد منهم شيئاً يكتبه بنفسه ويعلقه أو يقصه من جريدة أو مجلة، أو يختار صورة معبرة ومؤثرة ومفيدة، سوف تجد أن هناك وقتاً كثيراً، سوف يضيق عن تنفيذ مثل هذه المشروعات، وذكر الصغار بأن يبحثوا أو يقرءوا وقل لهم: أريد من كل واحد منكم أن يأتيني بقصة لبعض العلماء أو الأئمة أو أسلافنا الصالحين لمن هو في مثل عمره، مثل قصة أنس بن مالك عندما قدمته أمه للنبي عليه الصلاة والسلام ليكون خادمه وكان عمره عشر سنين، وعاش في بيت النبوة عشر سنين منذ نعومة أظفاره. قل لابن العاشرة: اقرأ سيرة أنس وائت وقصها على بقية إخوانك، ابن الرابعة عشرة والخامسة عشرة دعه يأتيك بقصة عبد الله بن عمر يوم رد في أحد، وقصة سمرة بن جندب ورافع بن خديج يوم تصارعا حتى يذهبا إلى الجهاد في يوم أحد. اجعل ابن الثامنة عشرة والتاسعة عشرة يأتيك بقصة أسامة بن زيد يوم تولى الجيش، اجعل هناك منافسات وأشياء مختلفة غير ما يأتينا من الغثاء عبر هذه القنوات، وصدقوني أنكم ستجدون وقتاً كثيراً طيباً ليس فيه تعلق وليس فيه أذى للعين بالمشاهدة وأذى للأذن بالسماع، ومشكلات نجدها خاصة اليوم مع القنوات حتى الأبناء يتصارعون هذا يريد أن يرى قناة كذا وهذا يريد كذا، لو أننا انتهينا من هذه المشكلة ستجدون أنها مقاطعة نافعة وآمنة، تسلمون بها من كثير وكثير من الشرور والأضرار والمشكلات، وأظن أننا في غنىً عن توضيح ذلك. وأما إمكانيته فأنا أجزم لكم بنسبة مائة في المائة أنها ممكنة، لن ينقص وزنك ولن يصيبك صداع في الرأس ولن يحصل لك أي شيء، بل سوف تزداد إيماناً وتقوى وخيراً، وستجد من الوقت ما تفعل فيه ما كنت تظن أنك عاجز عنه، الناس الآن يتنافسون هل سيختمون في رمضان كله ختمة أو أقل، وهناك قلنا: ستين وتسعة وخمسين!

المشروع السادس: رحلة على بساط الريح

المشروع السادس: رحلة على بساط الريح الناس يعرفون بساط الريح، تركب على بساط الريح وتذهب حيثما تشاء، أليس كذلك؟! وهذا بساط الريح سوف يذهب بك إلى بلد إسلامي، وسوف يجعلك تزور المسلمين والأقليات الإسلامية في كل بلاد الدنيا، وتذكر أن تفعل ذلك في رمضان وأن يكون ذهاباً وإياباً في نفس اليوم، هل هذا ممكن أو غير ممكن؟ إنه ممكن، وذلك بأن تقوم بزيارة ميدانية للجمعيات والمؤسسات الإسلامية، تذهب إلى الندوة العالمية للشباب الإسلامي، هناك شيء اسمه فلسطين، تدخل فلسطين تسمع وتقرأ وتطلع على التقارير والصور وأشرطة الفيديو والأفلام، تخرج بعد نصف متر إلى كشمير، تخرج من كشمير وتذهب إلى لبنان، تذهب إلى كل مكان وتستطيع أن تطلع على الأحوال بالأرقام والصور، لماذا نحن دائماً ننتظر أن تأتي إلينا الأشياء وعندما تأتي إلينا نكون منتظرين أيضاً من يفسرها لنا ومن يشرحها لنا؟ أقول: اذهب إلى جمعية القرآن الكريم، أو تحفيظ القرآن الكريم، انظر كم عدد حلقاتهم؟ كيف يصنعون في القرى؟ كم حافظاً خرجوا؟ لماذا تذهب للزيارة؟ هل لفائدتهم؟! نعم ولفائدتك أولاً، ثق تماماً أنك سترجع من هذه الزيارة بفوائد كثيرة. وبالمناسبة فلا تكون الزيارة لك وحدك، ولا بد أن تصطحب معك أبناءك، ستجد هناك معارض تريهم أحوال المسلمين وأوضاعهم، واصطحب زوجتك ونساءك، وكل هذه الجمعيات في غالبها لها أقسام وفروع نسائية، ستدخل الزوجة والمرأة وترى وتسمع ما لم تكن تعرف، وستحيط بمسائل وتلم بقضايا لم يكن لها بها علم سابق، أضف إلى ذلك أن هذه الزيارة لها أثر كبير يوم أن تقول لهؤلاء: جزاكم الله خيراً، فهم يدركون أن هناك من يقدر عملهم، ومن يذكر جهدهم ويشكرهم إن كانوا يريدون وجه الله عز وجل ويبتغون مرضاته. سوف يكون لك دور بعد هذه الزيارة، وأنا أجزم لك أنك بعد هذه الزيارة سوف تتحدث عنهم بدون قصد، وسوف تقول لمن تقابله: أنا رأيت كذا وكذا، في قضية كذا وكذا، المسلمون في البلاد الفلانية عددهم كذا وقوتهم كذا. أعطيكم أمثلة من الواقع أيضاً مثل هذه الزيارات: ألبانيا بلد مسلم كان يرزح تحت الشيوعية سبعين عاماً، وخرج منه المسلمون صوراً فقط، لم أذهب إلى تلك البلاد، لكن رأيت صوراً معبرة. صورتان لم تمحيا من ذاكرتي منذ رأيتهما قبل أكثر من عشر سنوات: صورة الإنجيل يوزع على المسلمين عند أبواب المساجد؛ لأنهم مسلمون لا يعرفون من الإسلام شيئاً مطلقاً، وسلاسل الصليب وهي معلقة على صدور أبناء المسلمين وهم لا يعرفون شيئاً من ذلك. الصورة الثانية: صلاة الجمعة صفان أو ثلاثة يصلون، ومثلهم واقفون يتفرجون، هؤلاء مسلمون لكنهم لا يعرفون شيئاً من الصلاة أبداً، ولا يعرفون الفاتحة ولا ماذا يقولون في الركوع ولا السجود، لكنهم بعاطفتهم يأتون ويشاهدون إخوانهم وهم يصلون، ألم يؤثر فيك ذلك إذا رأيته في تقرير أو في صورة متحركة أو ثابتة؟ ألا تتحدث بهذا؟ ألا تتندم على أنك مقصر شئت أم أبيت؟ أنت مقصر وأنا مقصر؛ ألست تعرف الفاتحة؟! فماذا فعلت حتى تعلم واحداً من المسلمين الفاتحة؟ وإذا ذهبت إلى مراكز الدعوة والإرشاد هنا في هذه المدينة، سوف يرونك الجولات الدعوية في القرى، إنهم يصنعون دورة كاملة لمدة أسبوع صباحاً ومساء، ما هو برنامجها؟ تعليم الفاتحة والصلاة، هنا على بعد مسافات لا تزيد عن الساعتين أو نحوها، هل تعجز أن ترافقهم يوماً وتعلم بعض الناس الفاتحة؟ سوف تزور هذه الأماكن وترى كم من الجهود العظيمة التي تبذل، سوف تحمد الله عز وجل ثم تشكر لهؤلاء، وسوف يتضح لك ما قد يغيب عنك وما قد تبثه وسائل الإسلام المعادية للإسلام وأهله، كل جمعية إسلامية تقدم الدعوة أو الخدمة أو النصر للمسلمين هي اليوم إرهابية وعدوانية وإجرامية، وقد تسمع وتسمع ثم تصدق، لكنك إن قمت بهذه الزيارة فسترى شيئاً آخر، وستدافع عن بينة وعلم، ستقول: كلا، كل هذا هراء، أنا رأيت بأم عيني كذا وكذا وكذا، أنا سمعت بأذني كذا وكذا وكذا، ثم قد تشارك وتقول: أنا بنفسي فعلت كذا وكذا، وكلام هؤلاء باطل وكذب. وللأسف أن بعض الناس مع كثرة ما يردد الإعلام إما اقتنعوا أو على أقل الأمر تشككوا في أصالة فطرنا وطيب مجتمعنا، وعراقة تديننا في هذه البلاد وفي كثير من بلاد الإسلام، حتى أن بعض الناس أصبح اليوم يتحرج أن ينفق في سبيل الله ويقول: ما أدراني أن هذا الكلام صحيحاً سبحان الله! هذه الزيارة أو الرحلة على بساط الريح سوف يكون لها أثر كبير، وأرجو صادقاً لكل من حضر في هذا المجلس ومن ستبلغونهم أن تملئوا هذه المؤسسات بالزيارات في هذا الشهر الكريم أنتم وأبناؤكم وأزواجكم، وعندما تذهب هناك ستجد نفسك منشرحة، وتدعوك إلى أن تخرج كل ما في جيبك، وأن تدعو غيرك؛ لكي تنفق وتسهم مع هؤلاء في نصرة الإسلام والمسلمين ونشر دعوته ونوره بين العالمين، وأكتفي بهذا وإلا ففي الحديث مجال رحب وميدان واسع.

المشروع السابع: صياد القلوب

المشروع السابع: صياد القلوب إذا صدت القلوب بالسهم فلن يكون صيداً محموداً بل قاتلاً، وإذا صدتها بالسنارة سوف تمزق هذه القلوب، لكن كيف نريدك أن تصيد القلوب في شهر رمضان؟! نريد أن تكون معنا في مشروع كل منا يستطيع أداءه جزماً وقطعاً، عندنا وسيلتان نصطاد بهما القلوب: الوسيلة الأولى: الكلمة الطيبة، هل تعرفون أن الكلمة الطيبة هي السحر الحلال، وهي الطُعْم الذي تستميل به النفس والقلب، الكلمة التي فيها نوع من مد جسور المودة والمحبة، ونوع من إشاعة أجواء الترابط والتكافل. الوسيلة الثانية: هي الهدية: (تهادوا تحابوا)، فالهدية هي رسول المحبة، وهي سفير المودة، وهي التي تغرس في القلب امتناناً لا بد أن يكون له أثره، أنا لا أريد منكم شراء سيارة هدية، بل أريد منكم كرتاً صغيراً ومعه كتيب صغير أو شريط؛ لأن العبرة بالهدية في رمزها بل أكثر من ذلك في خصوصيتها، لماذا أهديت محمداً ولم أهد سعيداً؟ لأن محمداً خطر على بالي، ولماذا خطر على بالي؟ لأن له مكانةً في قلبي، ولماذا له مكانة في قلبي؟ لأني أحب له الخير. هذه كلها رسائل تتضمن أن الهدايا لها قيمة عظيمة جداً، لكن احرص مع الهدية على الكتابة واجتهد إن كنت قادراً أو حتى مقتبساً أن تكتب كلمات جميلة مثل: إلى الأخ الذي كلما أراه أشتاق أن أراه، إلى الأخ الذي أحبه في الله، كلمات ثق بأثرها العظيم في صيد القلوب. أهد أشرطة، كتيبات، مطويات، وبالمناسبة أنت لن تشتري شيئاً فهذه الأشياء توزع، وأحياناً نتيجة لسوء التوزيع ترمى، ستكون موجودة بأعداد أكثر من الحاجة ماذا يصنع الناس بها؟ يتركونها، نقول: لا، خذها أنت واجعلها في ظرف وارسم عليه وردة، أو ارسم عليه قلباً كما يفعلون، اكتب عليه كلمات جميلة، ضعها لجارك، اسبق زميلك في العمل وضعها على طاولته، أنا لن أتكلم عن الفائدة التي سيجنيها من الشريط أو من الكتاب أو من المطوية، أنا أتكلم عن حقيقة هذا الفعل فقط دون أن نتحدث عن أثر ما فيه وما في مضمونه، ويمكن أن تستفيد الآن من البريد الإلكتروني، فتستطيع أن تأخذ رسومات من هذا الحاسوب وكذلك بطاقات للإهداء، وتأخذ من نفس بطاقة الحاسوب كلمات وآيات وأحاديث وترسلها مرة واحدة بضغط زر واحد إلى مائة أو ألف من أصدقائك، بل إلى مائة ألف، وهذا مشروع آخر سيأتينا حديث عنه وذكر له. هل هذه مهمة صعبة؟ هل هناك من يعجز عنها؟ أنا أقول: الجميع حتى الصغير في المرحلة الابتدائية -وأرى هنا بعض صغار السن من الأبناء- أقول: افعل هذا مع زملائك أهد لزميلك شيئاً ولو أن تكتب له فقط في هذه الورقة آية وحديثاً وتقول: هدية من أخيك المحب، سوف يكون لهذا أثره المهم والجميل.

المشروع الثامن: الضربة القاضية

المشروع الثامن: الضربة القاضية ما هي الضربة القاضية؟ هذه الضربة قاتلة ننتهي بعدها إلى الفوز الساحق. هذه الضربة القاضية مع من؟ نحن أو غيرنا سنحتاج إلى هذه الضربة القاضية مع أنماط كثيرة من العادات السيئة التي نعجز عن تغييرها، نقول: سوف نغير كذا، نبقى يوماً أو يومين أو أسبوعاً أو أسبوعين ثم نرجع، ثم نقول: سوف نترك كذا، ثم نرجع، وهكذا نبقى في معركة مستمرة والجولات متوالية، فاجعل رمضان فرصة للانتصار بالضربة القاضية، يعني: ليس هناك عودة مرة أخرى. وهنا أحب أن أقف مع الضربة القاضية في المسألة المعروفة التي يكثر ذكرها كلما جاء شهر رمضان: وهي الإقلاع عن التدخين، وقد ذكرت لكم في درسنا السابق كم أعداد الذين يدخنون في هذه البلاد، الإحصاءات تقول: خمسة عشر مليار سيجارة تستهلك في المملكة، ستمائة وثلاثة وستون مليون ريال سنوياً، فهي رابع دولة مستوردة للدخان في العالم، أكثر من عشرة مليار دولار مصاريف المستشفى التخصصي بالرياض في علاج أمراض التدخين، أعتقد أن هذه كلها ضربات قضت على كثير من شبابنا وأموالنا وصحتنا، أليست هناك فرصة لنتحول من الهزيمة إلى الانتصار والانتصار الساحق بالضربة القاضية. وهنا خطوات سريعة لمن يريد الانتصار بالضربة القاضية على التدخين: أولاً: اعقد العزم من الآن وابدأ بتقليص التدخين قبل أن يدخل رمضان. حدد اليوم الأول من رمضان موعداً للإقلاع النهائي عن التدخين، اعلن ذلك في الوسط المحيط بك في أسرتك وزملاء عملك، وقل لهم على سبيل التحدي: إن رأيتموني أدخن فأنا لست رجلاً، أو أنا كذا وكذا، أو إن رأيتموني أدخن فلكم الحق أن تخاصموني أن تقاطعوني؛ حتى تقوي عزمك على ذلك. اكتب لوحة صغيرة بخلاصة الأمراض القاتلة والأضرار الخطيرة للتدخين، وهي مبثوثة بعشرات ومئات وآلاف الصفحات في كل مكان، في الكتب وفي مواقع الإنترنت وغيرها، خذ صفحة واحدة واكتبها بخط كبير وعلقها في كل مكان تجلس فيه: على مكتبك، وعند غرفة نومك، وفي صالة طعامك؛ حتى تتذكر عندما تريد أن تشعل التدخين أنك تتسبب في تصلب الشرايين لنفسك، أنك تأخذ لنفسك فرصة للوقوع في المرض الخبيث (السرطان)؛ حتى تدرك كم تحرق من مالك، ضع هذا نصب عينيك حتى تستطيع أن تتخلص من هذا التدخين. احذر الأصدقاء المدخنين الذين ليست عندهم عزيمة على ترك التدخين؛ فإنهم من عوامل العودة إلى التدخين. زد من كل أمر يعينك على ترك التدخين مما يتعلق برمضان، ومن ذلك الدعاء الصادق لله عز وجل، ومن ذلك قوة العزيمة الناشئة من ترك الطعام والشراب في أثناء النهار، وأيضاً سوف تقوم ببعض الأعمال المهمة، وهي لطيفة ولكنها مفيدة. أكثر ما يعاني منه المدخنون في الأوساط التي لا يدخن أصحابها أمرين: رائحة الدخان، ومنظر الأسنان المصفرة. قبل رمضان اذهب إلى طبيب الأسنان ونظف الأسنان واستخدم مطيبات أو معطرات الفم؛ حتى إذا قطعت التدخين تبدأ الأمور تتضح ولا يأتي من بجوارك يقول: أنت مدخن، وحتى تتغير نفسيتك وتتهيأ له بما يدل على أنك ماض إلى تركه بالكلية بإذنه سبحانه وتعالى. تجنب الأماكن التي يكثر فيها التدخين. استحضر أو خذ معك بعض الفتاوى الواضحة في تحريم التدخين. ذكر نفسك دائماً وقل: إذا كنت تعتقد أن التدخين حلال فلماذا لا تسمي الله عند بداية شرب السيجارة، ولماذا لا تقول بعد إطفائها: الحمد لله؟! أليست كل نعمة نبدأ فنقول: باسم الله فنشرب، باسم الله فنأكل، فإذا انتهينا قلنا: الحمد لله، هل سمعتم أحداً عندما يدخن يقول: باسم الله؟! لماذا؟ لأنه يعلم أن هذا أمر خبيث كما قال الله عز وجل: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]. هل تشرب الدخان أمام من تحترمه أو تهابه؟! مثلاً: الابن هل يشرب أمام أبيه إذا كان الأب لا يدخن؟ الصغير هل يشرب أمام الكبير إذا كان يهابه ويحترمه؟ وإذا كانت (السيجارة) مناسبة وحلالاً وليس فيها شيء، فهل تعلمها لأبنائك وترغبهم فيها؟ هل سمعتم أن أحداً يصنع ذلك حتى ولو كان مدمناً للتدخين؟! هل يشتري أحد لأبنائه الدخان ويقدمه لهم ويقول لهم: خذوا واستمتعوا؟! لا أعلم أحداً يفعل ذلك. إذاً: ذكر نفسك بهذه المعاني، خذ قرارك بصدق وانجح في الانتصار بالضربة القاضية بإذن الله عز وجل.

المشروع التاسع: الإنفاق المجاني

المشروع التاسع: الإنفاق المجاني إنفاق ولكن بدون أن تدفع شيئاً، ما هو هذا؟ إنه القيام بالعمل التطوعي، فلنكن جميعاً رافعين لشعار جديد: متطوعون بلا حدود، تطوع بوقتك، ماذا تصنع هذه المؤسسات الخيرية، لديها الكثير من الأوراق التعريفية، خذها ووزعها على مقر عملك، خذها أيها الطالب واستأذن إدارة المدرسة أو سلمها لإدارة المدرسة لتوزعها على زملائك، تطوع في أن تساهم في المشروعات القائمة، هؤلاء يوزعون إفطار الصائم، اذهب واحمل معهم الطعام وقم بتوزيعه وساعدهم في هذا الباب، هناك من يريد أن يوزع هذه المواد التذكيرية من كتاب أو شريط، ساهم معهم، تطوع بوقتك، تطوع بفكرك، فكر بخطوة عملية، هناك أشياء كثيرة يمكن أن تقترحها ويكون من ورائها خير كبير، ولم تخرج ريالاً من جيبك، ولم تصنع شيئاً يكلفك جهداً، ولكنك وجدت أشياء أو أوجدت أشياء مفيدة ونافعة بإذنه سبحانه وتعالى.

المشروع العاشر: صعود بلا حدود

المشروع العاشر: صعود بلا حدود وهو مشروع مناسب جداً لرمضان، ما هو هذا الصعود بلا حدود؟ صعود ليس له منتهى! يقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي في سننه: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)، ورمضان شهر القرآن، كم من السور قد سبق لك أن عزمت على أن تحفظها ولم تحفظها؟! كم من الناس يقول: أريد أن أحفظ سورة الكهف، أريد أن أحفظ سورة يس؟ كم من الناس يقول: لم لا أحفظ القرآن؟ لو كنت صادقاً وعازماً فإن البداية المناسبة هي شهر رمضان، شهر القرآن الذي تتلو فيه القرآن كثيراً، اجعل لك في كل يوم وقتاً لحفظ بعض الآيات، خذ أقل القليل الذي يمكن أن تصعد به بعض هذه الدرجات، ثم إذا واظبت على ذلك على مدى ثلاثين يوماً في شهر رمضان، يرجى أن تستطيع بإذن الله عز وجل المواظبة فيما وراء ذلك من شهر شوال، أو الاستمرار في بقية أيام العام بدون توقف بإذن الله عز وجل، ولو لم تكن من القادرين على الحفظ، فتعلم حسن التلاوة، فكثيرون يقرءون القرآن في رمضان وفي غير رمضان وهم لا يحسنون تلاوة القرآن، لا في الحركات ولا في المدود ولا في أحكام التجويد، بدلاً من أن تختم أكثر اختم أقل، وجود بشكل أفضل، تعلم بعض أحكام التجويد، اقرأ بعض السور على من يحسنها ويتقنها من زملاء العمل، أو إمام المسجد، أو مدرسي التحفيظ، من أي جانب من الجوانب الكثيرة التي يمكن أن تتسع فيها الآفاق، ويحصل فيها كثير من الخير العظيم الذي يمكن أن تستفيد منه كثيراً. أنا قلت لكم: سوف نصل إلى مائة مشروع وأكثر إن شاء الله، فهل عند أحد منكم شيء يمكن أن يقوله؟ ما زلت سأعينكم بذكر مشروع أو مشروعين فقط، ثم نجعلكم تكملون المائة.

المشروع الحادي عشر: رحلة عبر آلة الزمن

المشروع الحادي عشر: رحلة عبر آلة الزمن مشروع رحلة عبر آلة الزمن: وهذا يمر كثيراً فيما يقدمونه من الأفلام أو التمثيليات وأن هناك من دخل في آلة الزمن ورجع إلى ما قبل مائة سنة من زمانه، وكيف يصبح غريباً في الزمان الآخر، وينسجون لك قصة تكون غريبة ومثيرة ومشوقة، نحن نريد أن ندخل في مثل هذه الآلة، وننتقل فعلاً إلى زمن آخر، كيف نصنع ذلك؟! من خلال محطات تاريخية، فلننتقل إلى المحطات التاريخية الرمضانية، اجعل يوماً لغزوة بدر، إن كان عندك صالة في المنزل أو غرفة اجعلها لغزوة بدر، كيف ستجعلها لغزوة بدر؟! اعمد إلى خريطة موجودة في كتاب من كتب السيرة فيها غزوة بدر، كبر هذه الخريطة واجعلها في هذه الحجرة، احضر كتاباً خاصاً بغزوة بدر، أخرج منه قائمة واطبع فيها أسماء الشهداء الذين استشهدوا في غزوة بدر، هذه الغرفة في يوم من الأيام في رمضان تدخل فيها أنت والأسرة أو أنت وزملاء العمل وتقول: نحن الآن في منطقة بدر، على بعد خمسين ومائة كيلو من المدينة المنورة، ونحن الآن في اليوم السابع عشر من شهر رمضان، ونحن الآن في العام الثاني من الهجرة، وتذكر كل ما يتعلق بهذه الغزوة من الأحداث، ويكون نقاش وحوار، ونرجع إلى التاريخ ونعيش داخله تماماً. وخذ بعد ذلك فتح مكة في اليوم الثامن من شهر رمضان، ومعركة عين جالوت في الخامس والعشرين من رمضان، ووفاة خالد بن الوليد في الثامن عشر من رمضان، ومعركة الزلاقة وغيرها من المشاهد الكثيرة، اختر بعضاً منها، واجعل في بيتك ركناً تاريخياً في كل أسبوع، كلف الأبناء كل أسبوع أن يعدوا الموقع والغرفة لشيء آخر، أرى البعض من إخواننا يبتسمون، ولعلهم يقولون: هذه فيها غرابة، أقول: إن الغرابة والتجديد هما اللذان سيجعلان نوعاً من النشاط والتحفيز، وثق أن أثر هذا في الأسرة -على وجه الخصوص الأبناء والزوجة وكذا الأقارب والزوار- كبير جداً. وأذكر لكم تجربة عملناها منذ سنوات عدة: أخذت مطبوعة -وقد وزعناها هنا في المسجد العام الماضي والذي قبله- عن خريطة فلسطين بين التآكل والتوسع الصهيوني، وهي تبين لنا فلسطين كيف كانت قبل عام (1948م) وكيف نقصت بعد عام (1948م)، ثم نقصت بعد عام (1967م) ثم نقصت ثم نقصت عبر الأعوام، والخريطة تمتد لتتسع مساحة اليهود الغاصبين وتغمر ديار المسلمين، هذه الخريطة منذ ذلك الوقت أراها كل يوم أكثر من مرة، وأراها في كل بداية يوم وفي كل نهاية يوم، لو أنك فعلت ذلك لعشت التاريخ بمراحله المختلفة. أبناؤنا الآن لا يعرفون عام (1948م) ولا عام (1967م)، لا يعرفون التاريخ ولا الحدث، ولا يعرفون الأسماء والمصطلحات، لا نسأل عن التاريخ البعيد، بل التاريخ القريب، من يعرف من الأبناء -الذين هم الآن في سن العشرين- عن حرب رمضان وليس عن حرب أكتوبر كما يقولون؟ ماذا يعرفون عن التغير الذي كان أثره بعض جولات الانتصار الأولى؟! ماذا نعرف عن هذا التاريخ؟! كم هو جدير بنا أن نصوره وأن نرسمه وأن نعيش فيه، وأن ندخل أبناءنا إليه، وأن نعرفهم به؛ لأنها قضية مهمة لا بد من العناية بها والحديث عنها بشكل مباشر.

المشروع الثاني عشر: حمامة السلام

المشروع الثاني عشر: حمامة السلام آخر ما يمكن أن نذكره مشروع حمامة السلام: والمقصود به أن تقوم بالمهمة بدون مفاوضات سياسية، ولا مؤتمرات دولية، ولا ألاعيب سياسية، كم من الناس تجد بينهم خصومة وسوء تفاهم وبعض المشكلات، لماذا لا تقوم بالإصلاح بينهم؛ لتنال الشرف العظيم، والأجر الكبير في إصلاح ذات البين؟ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين). كم سعينا بين الناس بالإصلاح؟! قليل، بل نحن أحياناً نكون ضد ذلك، ونكون من أسباب استمرار أو زيادة الشحناء، أنت نفسك قد تكون بينك وبين بعض أقاربك وأصدقائك خصومة أو مشكلة، لماذا لا تكون أنت حمامة السلام؟ لماذا لا تبادر إلى زيارة أرض العدو -كما يقولون-؟ زر خصمك وزر غريمك، وأنت وإياهم في حقيقة الأمر إخوة في الإسلام، وقد تكونون إخوة في القرابة والرحم والدم، لماذا لا نكبر عقولنا، ونوسع صدورنا، ونفتح قلوبنا؟ لنغتنم هذه الفرصة العظيمة لنشيع الوئام والمحبة والسلام فيما بيننا، ولنكون بالفعل صفاً واحداً ضد أعدائنا الذين يأتون بالموت الزؤام في عباءة ورداء السلام.

مشروع المشاريع أهميته ومقصوده

مشروع المشاريع أهميته ومقصوده عندنا المشروع الأخير تعرفون ما هو اسمه؟ مشروع المشاريع. الآن هذه المشاريع فكرت فيه بعضها وقرأت هنا وهناك واستنبطت وجئتكم باثني عشر مشروعاً ذكرناها آنفاً، كل منكم يخترع مشروعاً واحداً، كم عندنا هنا؟! أكثر من مائة، اجعل لنفسك أن تقترح أو أن تبتكر مشروعاً من جنس هذه المشاريع، نحن لم نذكر مشاريع خاصة بالنساء، لم نذكر مشاريع خاصة بالأسواق، لم نذكر مشاريع خاصة بمكة والمدينة والعمرة وما يمكن أن يكون فيها، لم نذكر مشاريع ومشاريع ومشاريع كثيرة، أليس كذلك؟! هذه أبواب واسعة من هذه المشاريع المختلفة. قلنا مشروعنا الأخير: هو مشروع المشاريع، هو مشروع لابتكار مشروعات مماثلة، وما زال الباب واسعاً يمكن أن تكون هناك مشروعات مع الزوجة والأبناء، مشروعات مع الأقارب والأرحام، مشروعات مع الجيران والزملاء، مشروعات في المواصلات العامة، كيف يمكن أن نقدم فيها الخدمة أو التذكرة والموعظة؟ مشروعات في جوانب مختلفة وبعضها لم أذكرها. كل ورقة سنذكرها الآن مما جاء من الإخوة سنحيلها إلى مشروع، لو أننا تعودنا دائماً أن نترجم أو نحول الأفكار إلى مشروعات، ونترجم المشروعات إلى أعمال يسيرة في البداية وقليلة في البداية، سوف نجد أنها تعظم وتكبر ويصبح فيها فائدة كبيرة وعظيمة. النقطة الثانية التي ذكرها بعض الإخوة جيدة وجديرة بالاهتمام: هي أننا ذكرنا اثني عشر مشروعاً يقول: لو أنك نقلتها إلى عشرة أشخاص وكل شخص نقلها إلى مثل هذا العدد، فسوف يكون هناك كثير وكثير من الناس الذين سوف يقومون بهذه المشروعات، ربما لا تنفذ أنت من هذه المشاريع التي ذكرناها إلا واحداً أو اثنين، لكنك إن نقلتها إلى العشرات فقد ينفذها هؤلاء بأكثر وبأقوى مما صنعت وفعلت، ربما يتيسر أن تنسخ هذا الشريط وتوصله للناس، فيكون فيه أثر أن الناس يتذكرون أو يستفيدون ويطبقون ويمارسون ويحققون هذه المشروعات، هنا تعليقات كما قلت كل منها في غالب الأحوال يصلح أن نحوله إلى مشروع.

مشروع النصرة

مشروع النصرة أحد الإخوة يقول: ذكرت حمامة السلام ولم تذكر الجهاد، وكلامه جيد، ولا زال عندي هنا مشروع مكتوب اسمه: النصرة، كيف ننصر إخواننا المجاهدين في ساحات الجهاد التي لا غبار عليها، ولم نصدق أحداً مهما قال وزاد، بل إن هذا الذي يقوم به المجاهدون في فلسطين أمر ليس له اسم أو وصف غير الجهاد، لكن قد لا تكون الفرصة مواتية فسميته النصرة؛ ليكون بالإمكان أن تقوم بما يستطاع. لكن المشروع الحقيقي هو أن تقف عند هذه القضية وبالذات قضية فلسطين، والذين هم مجاورون لحينا ويحضرون جمعتنا يعرفون أنني دائماً أعيد القول فيها وأزيده؛ لأن هذه القضية هي قضية الإسلام الأولى في هذا الزمان، وهي قضية التآمر ضد الإسلام وأهل الإسلام في هذا الموطن الذي ذكرنا فيه من النصوص والخصائص ما يبين أهميته. وليس عنا ببعيد ما قاله الجنرال العسكري من جيوش الأعداء يقول في كلام معلن: نحن -أي: المسيحية واليهودية- في حرب مع الشيطان، وقد اكتشفت أن المسلمين لا يعبدون الله وإنما يعبدون الوثن أو الشيطان. والترجمة العملية لذلك واضحة، أقول: استحضر هذه القضية، إذا قلت: أستطيع أن أنصرهم بالدعاء، إذاً فاجعله أمراً لازماً في كل دعاء، انصرهم بالتعريف اجعله واجباً حتمياً أن تعرف في كل يوم أو في كل مناسبة، انصرهم بالمال، اجعل في مالك وصدقتك وزكاتك جزءاً يخص هذه القضية، بأي وسيلة تكون النصرة ألزم نفسك بها.

كيفية ممارسة المشاريع في غير رمضان

كيفية ممارسة المشاريع في غير رمضان الآخر يقول: هل جميع هذه المشاريع يمكننا ممارستها في غير رمضان؟ إذاً نقول: هذا مشروع المشاريع المستمرة، واختر من هذه المشاريع ما يكون مستمراً، فحفظ القرآن وتلاوته ليس خاصاً برمضان، الصدقة ليست في رمضان، إذاً هذه فكرة كأنها فكرة جديدة بأن تعطيها اسماً، وتقول: كيف ستطمع في ذلك؟ أعطيكم تجربة عملية: أحد الناس جاء ورأى بعض الصناديق الصغيرة التي كانت تصنعها بعض الجمعيات الخيرية، وهي شفافة ترى فيها الأموال، ثم ذهب وسأل أين صنعت؟ فصنع منها نحو عشرين، وفي اجتماع قال لكل أسرة ورقة قال فيها: صدقة دائمة، أسرة آمنة، ووضع لهم الحديث (ما من يوم يصبح فيه الناس إلا وملكان يقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، ووضعها في كل صندوق من هذه الصناديق، ووزع عليهم الصناديق وقال لهم: اجعلوها في بيوتكم، وقولوا لأبنائكم: لا بد أن تنال هذه الدعوة من الملائكة بريال يوضع هنا في كل يوم بلا استثناء، حتى إنه يمكن أن تأخذ ثلاثين ريالاً وتصرفها ثم تضعها عند أبنائك وتقول لهم: هذه حصتي، ضغوا لي كل يوم في الصبح ريالاً. هذا مشروع مستمر دائم وهو فاعل، ويمكن للجميع أن يطبقه.

مشروع إصلاح القلوب

مشروع إصلاح القلوب كيف نصلح قلوبنا؟ إذا صلحت صلح كل شيء، فكر لنا في مشروع اسمه: إصلاح القلوب، اطلب من إمام المسجد أو شيخ أن يعطيك ورقة، اذهب إلى كتاب من كتب السلف أو الكتب المعاصرة التي تتحدث عن أمراض القلوب، خذ منه شيئاً واجمع مادة تشاور فيها بعض من ترى أنهم يفيدون، اطبع ورقة أو اجعلها كتيباً سمه: مشروع إصلاح القلوب، اطلب من إمام المسجد أن يخطب في إصلاح القلوب، انظر من يتعامل مع الشبكة العنكبوتية، أعطه هذه المعلومات لينشرها عبر الحدود وخارج الحدود؛ لأنها فضاء واسع.

مشاريع متفرقة ومقترحة من الحاضرين

مشاريع متفرقة ومقترحة من الحاضرين سوف تسمعون مشروعاً جديداً يقول: أقترح أن يصمم كل واحد منا صندوقاً صغيراً ويضعه في مدخل العمارة التي يسكن بها، ثم يضع بها أسبوعياً مجموعة من الوصايا والنصائح وتوزع على الشقق التي في عمارته، مثل: زيارة المرضى في المستشفيات، زيارة المرضى المدمنين في مستشفى الأمل، زيارة الأطفال المعاقين في معهد الأمل، زيارة المساجين في بعض السجون، وتوزيع بعض الكتيبات والأشرطة عليهم، كم صارت المشاريع؟ ما شاء الله لا تعدونها. الآن هذا يسأل سؤالاً فقيهاً ليس له صلة مباشرة بموضوعنا ونحن نريد إن شاء الله أن ننتهي، يقول: مشروع الوضوء سلاح المؤمن، والوضوء وقاية للنظر والجوارح واللسان والسمع وغيره كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، والسؤال عن كيفية الوصول إلى الأذهان لإشاعة الطهارة، وربما يذكر في هذا حديث بلال (ما أحدثت حدثاً إلا توضأت، وما توضأت إلا صليت ركعتين)، وكان هذا سبباً من الأسباب التي نال بها بشارة النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة. هل قراءة القرآن حتى الختم أفضل أم التفرغ لحفظ جزء كبير من القرآن؟ في كل خير، اجعل لك تلاوة مستمرة، واجعل قدراً خاصاً بالحفظ، واجعل قدراً خاصاً بالتأمل، وقد ذكرنا ذلك في خطب كثيرة كان عنوانها: القرآن نور الأنوار، في وقت سابق من شهور خلت. أحبتي الكرام! أعتقد أننا لولم نخرج من هذا اللقاء إلا بفائدة واحدة تقول: نحن الآن نريد شيئين: أن نتهيأ لشهرنا وضيفنا القادم، ونريد أن ننجز وأن نخرج بثمار عملية، لو خرجنا بهذا لكان يكفي. يقول عن مشروع التنفيذ: كيف نحفز أنفسنا وعزائمنا على التنفيذ ولو خمسين في المائة من هذه المشاريع النافعة، فبعد العلم يجب العمل؟ أقول من غير إعلان: كل الحاضرين الذين سمعوا فليقل كل منهم لنفسه: إنني أعقد العزم وأعطي العهد على أن أبذل الجهد إلى أقصى طاقة ممكنة لتنفيذ هذه المشروعات وغيرها من المشروعات النافعة، قولوا هذا لأنفسكم واعقدوا عليه العزم، واسألوا الله عز وجل الإعانة، وسيكون من وراء ذلك خير كثير، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يصرف عنا ما لا يحب ولا يرضى، وأن يستخدمنا في نصرة دينه وعون عباده، وإعلاء رايته، ونشر دعوته، وأن يجعلنا ممن ينصر الإسلام والمسلمين. اللهم استخدم جوارحنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك وعون عبادك يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تهل علينا هلال رمضان باليُمن والإيمان والسلامة والإسلام، وأن تجعله هلال رشد وخير وبركة علينا وعلى إخواننا المسلمين، ونسألك اللهم أن تجعله لنا شهراً خيراً مما مضى من شهور رمضان التي قمنا فيها بالصيام والقيام، ونسألك اللهم أن تجعل عملنا كله خالصاً لوجهك الكريم، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

برقيات إلى المعلمين والمعلمات

برقيات إلى المعلمين والمعلمات للتعليم أهمية كبيرة؛ لأنه يرتكز عليه محك صقل عقول البشر، ولذا كان من الأهمية بمكان الاهتمام بإعداد المدرسين إعداداً جيداً حتى يربوا جيلاً جيداً، وعلى المدرسين دور كبير في هذا الإعداد والاهتمام، فعليهم أن يطوروا أنفسهم، وأن يؤدوا مهمتهم على الوجه المطلوب.

بين يدي الموضوع

بين يدي الموضوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد: فموضوع حديثنا بعنوان (برقيات إلى المعلمين والمعلمات)، وفي بداية العام الدراسي خصوصاً يأتي هذا الموضوع مناسباً ومتوافقاً مع الاحتياج إليه والتذكير به. وأحب أولاً أن أخاطب المعلمين بأننا منهم، ونمارس مهنتهم، وليس فالمعلم الأصل أنه يُعلِم ويتعلم، بمعنى أنه لا يستكبر عن التعليم، لكنه هو في مقام التعليم والتوجيه، ولذلك جعلت عنوان الموضوع بهذه العمومية، ليس فيه إرشادات ولا توجيهات، وإنما هو هذه البرقيات التي ربما تتضمن بعض الآراء والمشاركات. الأمر الثاني: أن الاقتران في الموضوع بين المعلمين والمعلمات للأهمية في كلا الجانبين، وللمساواة من جهة أخرى، مع أن اللفظ التذكيري في الحديث إنما هو للتغليب كما يقول أهل اللغة، ومن وجه آخر لأن الحديث عن التعليم وعن المعلمين وعن الطلبة هو جانب، وجانبه الآخر يشبهه تماماً في جانب النساء من المعلمات ومن الطالبات. ثالثاً: عندما بدأت أعد في هذا الموضوع وجدت أن هذا العنوان العام إن أراد الإنسان أن يتناول معظم جوانبه لا كلها فإنه يقتضي منه دهراً طويلاً ووقتاً طويلاً وموضوعات مختلفة، فهناك المعلم من حيث إعداده، ومن حيث مواصفاته وصفاته، ومن حيث موضوعات أخرى تتعلق بطرق التدريس، ومن حيث التربية، ومن حيث مشكلة الطلاب، ومن حيث القضايا الإدارية، ومن حيث أمور أخرى كثيرة ومتشعبة ومتعلقة بهذا الموضوع، وهو موضوع طويل يستحق التفصيل، لكن لن يكون هذا في هذا المقام وحده، وربما -إذا اتسعت الفرصة- تكون هناك موضوعات أخرى متعلقة بهذا الموضوع تفرد على حدة، حتى تُعطى بعض القضايا حقها من التحضير والإعداد، ومن حسن الجمع والكتابة. وأما هذا الموضوع فهو برقيات، والبرقيات دائماً تكون مختصرة وموجزة وإن كثرت، لكنها لابد في الأساس أن تكون عبارة عن ومضات سريعة، وهذا يناسب الموضوع من جهة، ويناسب المعلمين؛ لأن المعلمين سريعون في الفهم، كما يقال عند العامة: المعلم في أي شيء هو الذي يفهم أي شيء ويفهم كل شيء بسرعة. ولذلك نحن نأخذ المعلمين بالوصف الأكاديمي كما يقال، وبالوصف العام أيضاً، فالمعلم هو الذي يتقن ويحسن ويفهم، ويؤدي الأمر على التمام والكمال كما يقال.

ذكر بعض فضائل المعلمين

ذكر بعض فضائل المعلمين سوف نركز في هذا الموضوع على جوانب محصورة ومحدودة أمضي فيها مختصراً القول، وأدع بعض النصوص والنقول إلى آخر الحديث طمعاً في أن لا نترك بعض هذه الموضوعات، وأملاً في أن تكون هذه التوجيهات أو هذه الكلمات التي أخترتها موصولة حتى تمكن الاستفادة منها بإذن الله عز وجل. أولاً: من أنتم؟ وهذا ليس بسؤال غريب، وإنما هو تأكيد وتذكير وإحياء لمعنى المعلم ومفهوم المعلم ورسالة المعلم، فنحن نريد ابتداءً أن يعرف المعلم نفسه، وعندما نذكر بعض النقاط قد يقول بعض المعلمين -وأعرف هذا من خلال ممارستي ومن خلال معايشتي لكثير منهم-: إن هذه نقاط أو مسميات أو مدلولات نظرية، ولكن الواقع يخالفها. وأيضاً سيقول فريق آخر: هذا الوصف الذي سيذكر عن المعلم لا يعترف به أكثر الناس، ولا يعرفه مجمل من لهم تأثير في واقع المجتمعات. أقول: كل هذا قد يكون حقيقة، لكن أعظم شيء وأهم شيء هو أن يعرف المعلم نفسه، وأن يكون مقتنعاً بهذا الوصف، فإذا كنت -على سبيل المثال- تعرف نفسك أنك ذو مال فلا يضرك أن يقول الناس: إنك فقير معدم. أو لا يعرف كثير من الناس أن عندك هذه القدرة، لكن إنما يحصل الخلل عندما تكون ذا مال وتظن وهماً أو خطأً أو من كلام الناس أنك فقير معدم، وهذا هو الخطأ الأكبر، ولذلك فإن المهمة الأولى أو الرسالة الأولى أو البرقية الأولى هي من أنتم أيها المعلمون والمعلمات؟! من أنتم في حقيقة كلام الله عز وجل وفي منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي دين الإسلام، وفي واقع الحياة، وفي مستقبل الأمة؟ ينبغي أن نركز على هذا المفهوم تركيزاً نظرياً، وأن يكون أيضاً قضية فكرية وشعورية تلامس القلب والنفس، حتى يمكن أن يتحمل المعلم الأخطاء الواقعة في المجتمع لفهم مهمته، ولفهم منزلته ومكانته، فمن أنتم أيها المعلمون؟! أقول في برقيات سريعة: أولاً: أنتم المرفوعون -أي: عند الله سبحانه وتعالى- لقوله سبحانه: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]. ثانياً: أنتم المندوبون -أي: عن الأمة- كما قال جل وعلا: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. ثالثاً: أنتم الوارثون -أي: الوارثون لأعلام النبوة- كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله: (العلماء ورثة الأنبياء). رابعاً: أنتم المأجورون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين عظمة الأجر الذي يلقاه معلم الناس الخير، في قوله عليه الصلاة والسلام: (من علم علماً فله أجر من عمل به، ولا ينقص ذلك من أجر العامل شيء)، وفي حديثه الآخر: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله). خامساً: أنتم المحسودون؛ لأنكم -كما سبق أن أشرت- وارثون للنبوة مأجورون من الله عز وجل، فأنتم المحسودون، أي: حسد الغبطة التي ينبغي إذا فهمها أهل الإيمان أن يتنافسوا فيها، وأن يتسابقوا إليها، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل الله آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها). سادساً: أنتم المورِّثون، فكما كنتم وارثين فأنتم تورِثون، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخصيصة عظيمة لأهل العلم، يظن بعض الناس أنها جزئية لهم، وذكر بعض العلماء أنها كلية في حديثه عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). ونصيب أهل العلم من هذا الحديث هو قوله: (أو علم ينتفع به) لكن ذكر بعض أهل العلم أن العلم من المعلمين لا يُقصد به هذا الجزء فقط، وإنما الأجزاء الثلاثة كلها، فإن التعليم في حد ذاته صدقة؛ لأن فعل الخير أياً كان صدقة، قال ذلك ابن جماعة في كتابه عن التعليم، قال: وشاهد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الرجل بعد انقطاع الصلاة قال: (من يتصدق على هذا؟). ففعل الخير في حد ذاته صدقة، فتعليمك للرجل صدقة منك عليه، ثم علم ينتفع به وهو ظاهر، أو ولد صالح يدعو له، وما أكثر ما يكون الطلبة أكثر دعاءً من الأبناء لآبائهم، فبذلك يكون المعلم ممتداً أجره وفضله وخيره لهذه الصورة الشاملة التي ذكرها بعض العلماء. سابعاً: أنتم الأولون، فكل أحد ليست له بداية إلا بالتعليم، بل إن الله عز وجل قد أشار إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19]، ففي هذه الآية دلالة على أن العلم هو الطريق إلى الإيمان، وعقد الإمام البخاري فصلاً في كتاب العلم في صحيحه فقال: (باب العلم قبل القول والعمل). فإذاً: العلم هو الأول في الاعتقاد، والأول في القول، والأول في العمل، والأول في واقع الحياة، فانظر إلى الوزراء والمدراء والأطباء والمهندسين والفقهاء، فستجد أنهم كلهم كانوا يوماً من الأيام تلاميذاً، مروا عليك -أيها المعلم- في فترة من الزمن، وتلقوا على يديك بعضاً من العلم، ولو أنك علمتهم القراءة والكتابة، فيظن بعض الناس أن معلم الابتدائية هذا في أدنى المراتب وفي أحقرها، لكنك يوماً ستجد عظيماً من العظماء أو عالماً من العلماء سيذكر الذي علمه الألف والباء، والذي علمه الكتابة، وكيف أنه كان يخطئ فيها ومعلمه يعلمه إياها، وكيف أنه عاقبه على عدم إجادته فيها في أول أمره، فهذه المفاتيح كلها وهذه المراتب كلها وهذه المناصب كلها إنما أنت بادئها، وأنت مفتتحها، وأنت الأول فيها. ثامناً: أنتم المجاهدون، وهذا ذكره العلماء، وهو مما يدل على فقههم وعميق علمهم، ذكره الخطيب البغدادي في كتابه: (الفقيه والمتفقه) عندما ذكر أن سبيل الله عز وجل يشمل التعليم والجهاد، وقال ما ملخصه: إن الجهاد حماية لبيضة الإسلام بالدفاع عن المسلمين، وإن التعليم حماية للمسلمين بالحفاظ على الدين. وابن القيم رحمة الله عليه له في هذا المعنى عبارة ضافية، فعندما أشار إلى أن العلم هو نوع من الجهاد في سبيل الله قال رحمه الله: إنما جعل طلب العلم من سبيل الله عز وجل لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد. فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان -وهذا المشارك فيه كثير- والثاني: الجهاد بالحجة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين لعظمة منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه. ثم استدل بقول الله عز وجل في سورة الفرقان المكية: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:51 - 52] فهذه الآيات نزلت والجهاد لم يشرع بعد، فالمراد به جهادهم بالقرآن والبيان والحجة الداحضة التي تبين الحق وتقيم الدليل عليه. وعندما يقول قائل: لمَ يطلقُ مثل هذا القول في كلامه رحمة الله عليه عندما قال: هو أفضل الجهادين؟ فنقول: إن الجهاد المعروف إنما تعرف فضيلته وتعرف أحكامه وتعرف أهدافه وغاياته من خلال العلم، فالعلم هو السابق على الجهاد، وهو الممهد له، وهو المهيج عليه، وهو المبين لغاياته وأهدافه، وبالتالي هو الذي ينشئه في النفوس إنشاءً، ويبينه في العقول بيانا ًواضحاً شافياً، ولذلك هذا أيضاً معنىً من المعاني. تاسعاً: أنتم المدافعون عن الأمة في أخلاقها، وفي تفكيرها، وفي حضارتها، وفي تقدمها، فإن المعلم كأنما هو أعظم جهاداً من المجاهد في واقع الأمر؛ لأنه يجاهد الجهالة بالتعليم، ويجاهد الحماقة بالتقويم، ويجاهد الشطط بالاعتدال، ويجاهد الخمول والكسل بالتوجيه إلى الجد والعمل، ويواجه أموراً كثيرة، ثم هذا كله يجاهد به في نفوس متغيره، وأفكار متبدلة، وعواطف متأججة، فعمله صعب شديد، وأثره عندما يتحقق -بإذن الله عز وجل- يكون قوياً وعظيماً، ولذلك عندما يريد أعداء الأمة أو تريد جهة ما من الجهات أن تؤثر في مجتمع أو في أمة فإن أوكد اهتمامها وأولى أولوياتها أن تتوجه إلى التعليم، فتغير المناهج -وهذه خطوة- وتصوغ المعلمين -وهذه خطوة أخرى- وإذا عملت في هذين الجانبين استطاعت أن تدمر كل المقومات، واستطاعت أن تزعزع العقائد في النفوس، واستطاعت أن تحرف السلوك، واستطاعت أن تغير طرائق التفكير، واستطاعت أن تجعل هناك الهزيمة النفسية إلى آخر ذلك مما يعلن في قضايا الغزو الفكري ونحوه، فالمعلم أو المعلمون هم المدافعون عن هذه الأمة عندما يقومون بواجبهم ورسالتهم على النحو المطلوب. عاشراًً: أنتم المصلحون لما يفسده الآخرون، فقد يفسد الطالبَ أهلُهُ، وقد يفسده مجتمعه، وقد يفسده أحياناً ما يسمعه أو ما يراه أو ما يقرؤه، ومهمتك أنه كلما حصل عطل وحصل خراب أن تصلح، وهذا في حق المعلم مهم جداً ومتحقق فعلاً؛ لأن المعلم أثره مستمر؛ لأنه يبقى مع الطالب وقتاً طويلاً وسنوات عديدة، ومن خلال مواقف متكررة، ومن خلال تدريس وتعليم ونشاط وغير ذلك، بينما المخربون الآخرون أحياناً يكون دورهم مقصوراً، إما مقصوراً بالوسائل، وإما مقصوراً في الوقت والزمن، فيبقى عامل الإصلاح في المعلمين أغلب وأنجح وأكثر تأثيراً واستمرارية من غيره إذا هم أتقنوه وأحسنوه، كما يقول بشير الإبراهيمي الذي كان رئيساً لجمعية العلماء في الجزائر في أوائل القرن التاسع عشر، يقول للمعلمين: أنتم معاقد الأمل في إصلاح هذه الأمة؛ فإن الوطن لا يعلق رجاءه على الأميين الذين يريدون أن يصلحوا فيفسدون، ولا على هذا الغثاء من الشباب الجاهل المتسكع الذي يعيش بلا علم ولا عقل ولا تفكير، والذي يغط في النوم ما يغط، فإذا أفاق على صيحة تمسك بصداها وكررها كما يكرر الببغاء. فنحن نرى أن المعلمين هم المصلحون وهم المقومون، فإذا كنت -أخي المعلم- مرفوعاً عند الله، مندوباً عن الأمة، ووارث

دور المعلم في نظر المجتمع إليه

دور المعلم في نظر المجتمع إليه وأقف هنا وقفة يسيرة أذكر فيها بما قلته قبل أن أبدأ هذه البرقيات أو هذه الكلمات، سيقول كثير من المدرسين: ما أجمل هذه الكلمات! وما أحسن هذه العبارات! وما أحسن هذه الاستدلالات! لكن أنا المدرس وأنا المعلم المسكين الذي ينظر إليّ الناس شزراً، ولا يرون لي قيمة، ولا يرون لي نفعاً، وربما جاء ولي أمر الطالب يصب عليّ جام غضبه، وربما جاء المدير يفضفض عن نفسه بما يلقيه عليّ من التبعات، وربما جاء الطلاب المشاكسون والأغبياء المتبلدون، فبعد هذا كله تريد أن تقنعني بأنني في هذه المنزلة الرفيعة العالية؟ فأقول ما قلته أولاً: هذا كلام فيه آيات قرآنية، وفيه أحاديث نبوية، وفيه معانٍ واقعية، وفيه تجارب تاريخية، وفيه إمكانية تطبيقية، فالأمر بيدك، وأنت حيث تريد لا حيث يريد الناس، فإذا أردت لنفسك أن تكون كما يقولون فهذا بيدك لا بيد عمرو كما يقال، وإذا أردت أن تكون كما ينبغي أن تكون فيمكن أن تغير ذلك وأن تفرضه على الناس من حولك.

أثر القناعات الخاطئة على الآخرين

أثر القناعات الخاطئة على الآخرين ثم هنا نقطة أخرى وهي مهمة جداً: ما تأثير القناعات الخاطئة عند الآخرين، أي: من غير المعلمين؟ الخطر عندما ينظر المعلم إلى نفسه نظرة خاطئة، فهنا يقع الخطأ، فلا يعرف أن له مهمة عظيمة ولا رسالة ولا فائدة، إذاًَ لماذا يعمل؟ وكيف سيعمل؟ وبأية نفسية سيتوجه إلى عمله؟ والآخرون لسنا معنيين بهم في هذا المقام، فإذا أقنعت نفسك بهذا فستسمع كل كلام فلا يؤثر فيك، وتسمع كل احتقار فلا تكترث له، حتى تكون حينئذٍ بهذه الانطلاقة مصلحاً ومغيراً لأفهام الآخرين بإذن الله عز وجل. وأيضاً: عندما يكون بعض الآباء أو بعض المدراء أو بعض قطاعات المجتمع لا تدرك هذه الأهمية فمن الذي سيغيرها؟ أقول: التغيير بأيدي المعلمين في كثير من الجوانب أقوى من أي جهة أو من أي تيار غيرهم، لأسباب كثيرة: أولها كثرة المعلمين، وانظر إلى أية دائرة من الدوائر كم عدد موظفيها وكم عدد الموظفين القائمين بمهمات التعليم والتدريس! وانظر أيضاً إلى المحتاجين إلى الخدمات في أي قطاع، خدمات الجوازات، أو خدمات المطارات، أو أي خدمات أخرى، ستجد أنهم فئات قليلة، لكن التعليم كل الأمة تمر خلاله، وكل مولود في هذه الأعصار في بيئات كثيرة وفي بيئاتنا لابد أن يمر بهذا التعليم. فإذاً بكثرتكم لو أنكم فهمتم ووعيتم وأجمعتم وقررتم وعملتم وواصلتم يمكن أن تغيروا كل هذه الأفكار وكل هذه التصورات الخاطئة، ثم عندكم ثروة عجيبة يمكنكم أن تغزوا عقول الآباء والأمهات من خلال أبنائهم، ويمكنكم أن تغزوا المجتمع من خلال الذين تخرجونهم على أيديكم ويكونون غداً موظفين ومعلمين ومهندسين وأطباء إلى غير ذلك، فيمكنكم أن تغيروا كل شيء؛ لأن عندكم أكبر قوة تغييرية، وهي: القوة البشرية، فلا يتغير بالقوة المادية ولا بالقوة الإعلامية ولا بأي قوة أخرى -وإن كانت هذه لها تأثيرها- مثل ما يتغير بالقوة البشرية والقناعة الفكرية والتربية السلوكية والحقائق الإيمانية التي تزرعونها في طلابكم، فيمكن أن تغيروا، ولا يكون التغيير الإيجابي في غمضة عين وانتباهتها، ولا بين عشية وضحاها كما يقولون، وإنما لهذا وقته، لكن المهم أن تكون مقتنعاً به، وأن تكون مستوعباً له، وأن تكون متفاعلاً معه، حينئذٍ يمكن أن يكون لك مثل هذا الحظ. وأما هذه النظرات التي أشرت إليها عند بعض إخواننا المدرسين فأذكر لهم بعض ما قد يوافق هوى بعضهم من باب الفكاهة، أو من باب التحميس أو النظر إلى بعض النماذج، فالأستاذ الشيخ علي الطنطاوي حفظه الله عز وجل له مذكرات، وفي كثير من كتبه كلام عن المدرسين من حيث همومهم وأعبائهم، وتجد أحياناً عندما يصف لك دور المدرس وهو يصحح الكراريس كما يسميها أو وظائف الطلاب كما يسميها والأوراق وغيرها تجد أنك تحزن لهذا المدرس حتى كأنك في جنازة ومأتم، وتجده أحياناً يعبر بتعبيراته الأدبية بأمور لا يقصدها ولا يعنيها، وإنما يعبر عن حقيقة المعاناة التي لا يلمسها الآخرون، فهو يعبر عن هذا ثم يقول: وماذا حظي بعد ذلك؟ يقول: بعض الطباشير التي يقذفها عليّ الطلاب، وبعض الأمور كذا وكذا وكذا إلى آخره. وكما عبر شاعر معلقاً ومعارضاً لقصيدة شوقي في المعلم: قم للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولاً فهذا القائل من أهل التعليم أو من المتعاطفين معهم قال: شوقي يقول وما درى بمصيبتي قم للمعلم ووفه التبجيلا ويكاد يطلقني الأمير بقوله كاد المعلم أن يكون رسولاً لو جرب التعليم شوقي مرة لقضى الحياة شقاوة وخمولاً يا من يريد الانتحار وجدته إن المعلم لا يعيش طويلاً ويعني بقوله: (ويكاد يطلقني الأمير) أمير الشعراء. وهو وإن كان قد يعاني لكن كما قلت: لابد أن يدرك هذه القيمة العظيمة لأهميته ومنزلته، والحديث برقيات، والبرقيات لا بد أن تكون مختصرة.

عمل المعلمين

عمل المعلمين سؤال ثانٍ: ما هو عملكم؟ وهذا أيضاً أشير فيه أشارات سريعة: أولاً: المعرفة والتعليم؛ لأن هذا هو الأمر الأول المتبادر إلى الذهن، وأن المعلم يعلم الطلاب، أي: يعطيهم معلومات يعرفونها ويحفظونها، ثم يسألون عنها فيكتبونها، وهذا في حد ذاته جزء أساسي لاشك في أهميته، لكنه ليس وحده كما سيأتي، فقضية التعليم عندما تُفهم بهذا المعنى تكون حشواً للمعلومات في الرءوس، وتكون في الوقت نفسه عملية مملة يرى الطالب أنها أثقل عليه من الجبال العظيمة الشاهقة؛ لأنه تُسرد له المعلومات سرداً، ويُحشى بها عقله حشواً، كما كان أحد الأساتذة الذين درست عندهم في مرحلة جامعية عليا يقول: كان المدرسون يجهلونكم ستة عشر عاماً حتى جئتم إليّ تتعلمون. ثم قال: المطلوب من كثير من الطلاب -أي: في أسلوب التعليم- أن يحفظوا أوراقاً معينة، ثم يأتي يوم الإختبار فيتقيئونها على الورق، ثم ينتهي الأمر إلى هنا. إذاً هذه المهمة ينبغي أن تعرف بقدرها، وأن تعرف بأساليبها وطرائقها، كما سأشير إلى بعض ذلك لاحقاً. فأول عمل هو التعليم، والتعليم هو كما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم) فالتعليم له طرائق، وله وسائل، وله أساليب محببة إلى النفوس، ومقربة إلى الأفهام والعقول، وهذه كلها ينبغي أن لا تخفى على المدرس. ثانياً: مع المعرفة والتعليم لابد من صياغة التفكير، وهذه مهمة عظيمة، وهذا عمل خطير جداً؛ لأن المعلومات وحدها ما تنشئ شيئاً، ولا تقوم معوجاً، ولا تحرك ساكناً، ولا تدفع إلى فضيلة، ولا توجه إلى مهمات الأمور ومعاليها، لكن من أهم الأشياء صياغة التفكير، فالمعلم ينبغي أن يضع الأسس الصحيحة للتفكير السليم، وللمبادئ التي ينبغي أن تكون مسلمات، وللأخلاقيات التي ينبغي أن تكون أموراً متعارفاً عليها مقراً بها لا خلاف في أهميتها وفضيلتها، بمعنى أن المعلم يحتاج من خلال التعليم ومن خلال العملية التعليمية كلها أن يصيغ الفكر الصحيح، فمثلاً: هناك هزيمة نفسية عند كثير من أبناء المسلمين، ويرون -أو يرى بعضهم- أن المسلمين متخلفون، وأن غير المسلمين متقدمون، وقد يرى بعضهم في أفكارهم تشويشاً حول هذا المعنى بأن أولئك تقدموا لأنهم -مثلاً- تخلوا عن دينهم، كما كان يقال في أوائل هذا العصر، وقد انتهت هذه المقولة إلى حد كبير. أيضاً: هناك تفكيرات أخرى أن قضايا العلم مرتبطة بالأجناس، فتجد عند بعض الطلاب هذا المعنى، فأحدهم يقول لك: يا أخي! الغربيون الأمريكيون عقولهم كبيرة، وهم الذين يمكن أن يخترعوا، ولا يتصور أن يكون في بني الإسلام أو في بني العروبة من عنده عقل مبدع أو منتج أو مفكر. وهناك أيضاً أمور وأسس ثابتة في أمور الدين وأمور العقائد لابد أن يتصورها الطالب، وأن يحسن التفكير في أن هذه لا مساس بها، ولا مفاوضة عليها، ولا مجاملة فيها، ولا مداهنة فيها، إلى غير ذلك. هناك أيضاً قضايا متعلقة بتاريخ الأمة وبمقوماتها الأخلاقية والفكرية ينبغي أن تكون أيضاً من مهمة المدرس، وهذه لها أثرها العظيم والكبير. ثالثاً: التربية السلوكية مع الصياغة الفكرية، فأحياناً عند بعض الناس نظرات فكرية ممتازة، فأحدهم يقول: ينبغي أن يكون كذا، والحقيقة أن الأصل هو كذا. وهكذا هذه الأمور في قضية المعلمين بأنهم كذا وكذا وكذا، فهذه نظرية وقضية فكرية، لكن ما هو التطبيق الواقعي؟ إن من الطلاب -خاصة في سنوات تعليمهم الأولى وفي سنوات الشباب- من عندهم صور الخلل السلوكي والانحراف العملي التطبيقي، ومن مهمة المدرس الأولى ومن أعظم وظائفه العملية أن يقوَّم هذه السلوكيات، وأن يعوَّد الكاذبين على الصدق، وأن يمنع المنحرفين عن الانحراف، إلى غير ذلك مما هو معلوم في كثير من الصفات التي قد توجد في بعض الطلاب والشباب في مراحل سني حياتهم الأولى، وفي فترات المراهقة ومقتبل الشباب، والمرحلة التي يمر بها الطلاب في أثناء دراستهم التعليمية، فلا شك أن هذه البصمات التأثيرية السلوكية أهم بكثير جداً من الناحية المعرفية التي ذكرتها أولاً، ولذلك ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وهذا الحديث رواه الإمام مالك بلاغاً، وقال ابن عبد البر: روي من وجوه موصولة أخرى صحيحة، وأخرجه غيره. وهذا المعنى هو الشق الآخر لمهمة النبي عليه الصلاة والسلام، فقد بعث معلماً وبعث مربياً، فالتعليم من غير التربية لا يؤتي ثمرته، بل يكون على العكس من ذلك، والأحاديث والمعاني الإسلامية في هذا كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. رابعاً: العمل والبناء، فمن مهمة المدرس عندما يعطي المعرفة ويصوغ التفكير، ويوجِد التربية والسلوك، أن يوجه هؤلاء الطلاب إلى أن يشقوا الطريق العملي في الحياة والبناء، وأن يكونوا مبدعين في تخصصاتهم، وأن يكونوا عاملين لمصلحة أمتهم، وأن لا يكون هذا كله مرتبطاً بنفسية ليست مندفعة للعمل، بنفسية ترى واقع الأمة فتستسلم له بدلاً من أن تغالبه وتكافحه، فهذه الروح الحركية القوية هي من أعظم المؤثرات التي يُحتاج إليها والتي هي من مهمات المدرس والمعلم في طبيعة عمله.

الأمور المطلوبة من المعلمين

الأمور المطلوبة من المعلمين ننتقل إلى نقطة ثالثة، وهي: ماذا نريد منكم؟ إذا قلنا لكم: من أنتم وما هو عملكم فماذا نريد منكم لتحققوا هذين الغرضين معاً؟ نريد منكم أموراً -أيضاً- كثيرة جداً، لكن -كما قلت- هي برقيات وومضات.

مشاركة المعلم مع الطلاب

مشاركة المعلم مع الطلاب الأمر السابع: المشاركة مع الطلاب، وهذا -أيضاً- أمر مهم، وهو متعلق بشيء من التجديد والابتكار، لكنه يستحق أن يفرد وحده، ودائماً قضية المشاركة في الأعمال البشرية تُعد من الأمور المهمة، فعندما تكون مهمة المدرس أو واقعه أن يلقي درسه من أول الحصة إلى آخرها ولا يجعل هناك مشاركة للطلاب فإنه يفقد كثيراً من الإيجابيات العظيمة والمهمة في الوقت نفسه، فأي صورة من صور المشاركة لها فوائد. أولاً: لها فوائد في بناء الشخصية، وفي تقدير الطالب واحترامه، فعندما يشارك برأيه أو بانتقاده أو بإجابة سؤال أو بإبداء الرأي فهذه تنمي فيه شخصيته، وتعطيه منزلته وقدره واحترامه، وهذا أمر مهم، بدلاً من أن يقول للطالب: اسكت لا تتكلم، لا تلتفت، لا تنظر، وكأنما هو شيء لا قيمة له. الأمر الثاني: أن يجد المدرس تقويم عمله عندما يسأل الطلاب، وعندما يشاركهم سيجد النتيجة هل فهموا أم لم يفهموا، وهل تفاعلوا أم لم يتفاعلوا، وهل أعجبوا أم لم يعجبوا إلى آخر ذلك. أيضاً تضاف إلى ذلك فائدة، وهي أنه يستطيع أن يميز الفروق بين هؤلاء الطلاب، فيرى الجيد، ويرى من عنده مواهب، ويرى من عنده طموحات، إلى آخر ذلك، بينما قضية الإلقاء -وهي صورة واحدة من صور التعليم- تفقد المدرس هذه المشاركة المهمة، والتي لها أثر كبير جداً في هذا الجانب. وأيضاً في قضية مشاركة الطلاب قضية مهمة جداً، وهي تلمس ما عندهم من العيوب والخلل والمشكلات في الوقت نفسه في بعض الأحوال، فهذه المشاركة مهمة إلى حد كبير.

العلاقات بين المدرس وطلابه خارج الفصل

العلاقات بين المدرس وطلابه خارج الفصل الأمر الثامن: العلاقات خارج إطار الفصل. أي: مع الطلاب، وكما قلت: الموضوع متشعب، فقد يكون هناك جانب للعلاقة بين المدرسين مع بعضهم، ومع الإدارة، ومع المنهج، وأشياء أخرى كثيرة، لكني اخترت ما أرى أنه يصلح أن يكون أمراً عاماً كلياً. والعلاقات مع الطلاب خارج الفصل تشمل أموراً كثيرة، منها العلاقات من خلال الأنشطة، وهذه الأنشطة الطلابية هي أصلاً أمور مقررة نظاماً، لكنها أحياناً تكون بمثابة الحبر على الورق، وأحياناً عندما تنفذ تكون بمثابة الصورة الشكلية، فالمطلوب من المدرسة أن يكون عندها جمعية دينية وجمعية كشفية وجمعية علمية، والمدير مكلف بهذا، وذلك بأن يصدر قراراً، والمدرس هو المسئول الثاني عنها، حيث إنه مكلف بذلك؛ إذ كيف يصدر قرار باختيار مجموعة من الطلاب ويمضي الأمر دون أن يكون هناك أي فائدة لا للمدرس ولا للطلاب؟! وهكذا غير النشاط لابد من علاقة شخصية يمد فيها المعلم جسوراً بينه وبين طلابه ليحقق محبتهم له وارتباطهم به واتباعهم له وتأثرهم بتوجيهاته، بمعنى: أن يعتبر أن طلابه مدعوون يمارس معهم الدعوة والوعظ والإرشاد والإعانة وحلول المشكلات، وهذا أمر مهم للطلاب وللمدرس نفسه، وقد يظن بعض المدرسين أن هذا عبئاً على عبء، ويرى بعض المدرسين أنه إذا كلف بنشاط كأنما ألقيت فوقه صخرة مع الصخور التي يحملها، مع أنه لو نظر نظرة أخرى لرأى هذا تجديداً وتنفيساً وتغييراً للنمط الذي يحيط به في أثناء التعليم أو مهنة التعليم وحدها. فأقول: مهمة الأنشطة يتحرر فيها الطلاب من الهيبة التي قد تكون أحياناً متكلفة بين الطالب ومعلمه في الفصل، فيتحرر منها الطلاب من إطار المنهج والتدريس، ويتحرر منها الطلاب من الخوف من خصم الدرجات، ومن الخوف من الاختبارات، فيبدون مشاعرهم، وتستطيع أن تكتشف ما عندهم، ثم تستطيع أن تمارس ما ذكرته من مهمتك ورسالتك في الشطر الأول من هذا الحديث الذي فيه منزلتك ومهمتك في هذه العملية التعليمية، وكذلك العلاقات الشخصية من أبوابها هذه الأنشطة الطلابية، وهي أمر مهم كما أشرت إليه.

تغلب المعلم على الأمور الإدارية والروتينية

تغلب المعلم على الأمور الإدارية والروتينية الأمر الثامن هو: التغلب على الأمور الإدارية والروتينية. وهذه أشرت إليها سابقاً إشارة عابرة، فكثيراً ما يشكو المدرسون من أن العبء الدراسي الذي عليهم كبير، وأنا أعلم أنه كذلك كبير، فالتعليم في حده الأعلى يبلغ أربعاً وعشرين حصة أسبوعية بالنسبة للمدارس، أي: بمعدل خمس حصص في كل يوم، وأربع حصص في يوم واحد، وهذا عبء كبير ولا شك. ثم العبء الآخر الذي يشكو منه المدرسون أيضاً هو بعض الأمور التي هي من جانب منها إيجابية، ومن جانب منها سلبية، مثل هذه الاختبارات الشهرية، فهي -لاشك- أساليب لتقويم الطلاب، ولإلزامهم بالمراجعة والدراسة؛ لأنهم لا يراجعون ولا يدرسون غالباً إلا إذا اضطروا إلى ذلك تحت قهر وجبر الاختبارات، وفي الوقت نفسه هي تشكل للمدرس عبئاً هائلاً؛ لأنه قد يكون في كل فصل -مثلاً- عدد الطلاب خمسة وعشرين طالباً، ويكون يدرس خمسة أو ستة فصول، وقد يكون عدد الطلاب حوالي ثلاثمائة طالب، وهذه إحصائيات أحيل المدرسين فيها إلى كتابات الطنطاوي، فإنه أتى بها بالأرقام والتفصيلات بصورة أدبية جميلة، ثم عنده عدد من المواد، وكل طالب في الاختبارات هذه يكتب صفحتين أو ثلاث صفحات، فإذا حسبت هذه الصفحات وحسبت المواد فمتى سيقرؤها؟ وتأتيه إجابات تسد نفسه، فهذا العبء كله إضافة إلى عبء دفتر التحضير وغير ذلك. أقول: لاشك أن هناك دائماً دراسات أو مطالبات بإعادة النظر دائماً في الأمور المتعلقة بالطريقة التعليمية أو بالمناهج التعليمية وبالأساليب التربوية إلى غير ذلك، لكن أقول: التغيير منوط بالمدرسين أكثر منه بغيرهم؛ لأنهم أكثر عدداً، ولأنهم لو أرادوا لكانوا أقوى صوتاً، ولأنهم أكثر ممارسة، فيمكن أن يقدموا ما قد يصبح الأسلوب الأمثل أو الأفضل في بعض ما قد يرونه يحتاج إلى تقويم. وفي الشق الآخر في الوقع العملي أقول: لو أراد المدرس أن يخفف هذا العبء فكيف يفعل؟ أولاً: هناك أمور متعلقة بالناحية النفسية والإيمانية، فعندما يستحضر المدرس أنه يؤجر على ذلك ويثاب، وأنه يكتب له بهذه الأعمال على كثرتها حسنات عند الله عز وجل فلا أشك أن هذا مما يخفف العبء عند المعلم المسلم. ثانياً: عندما يشعر بأنه من خلال هذا يسهم في هذه المهمة العظيمة التربوية التوجيهية لهذا الجيل الذي يريد أن يكون -بإذن الله عز وجل- جيلاً نافعاً صالحاً لهذه الأمة الإسلامية في مستقبلها القريب قبل البعيد فلا شك أن هذا يهون عليه. وأيضاً هناك أمور فنية نقسمها إلى قسمين: القسم الأول: أمور فنية في الإتقان والتجديد والإبداع، فهذا دفتر التحضير عندما ينظر إليه المدرس يجد أن فيه ما يُسمى بفكرة الدرس والأهداف العامة وطريقة العرض، ولو أنه كان دائماً حريصاً على التجديد والابتكار والاستزادة من كتب أخرى ومن أساليب تربوية جديدة ومن بحوث تنشر أو قضايا تثار حول هذه المعاني لاستطاع دائماً أن يجد أن عنده جديداً يفيد به نفسه، ولا يصبح عمله مكرراً، فإن العمل المكرر أسهل من العمل الجديد، فالعمل الجديد يخرج منه الإنسان بالنشاط؛ لأنه يؤمل فيه شيئاً جديداً، ويرى فيه بعداً جديداً لم يكن في الذي قبله. القسم الثاني: قسم قد يسميه بعض المدرسين شقاً تحايلياً، وأرى أن كثيراً من المدرسين يلجئون إليه؛ لأنه يخفف العبء بصورة عملية ذكية، وهو طريقة الأسئلة التي يميل إليها الآن كثير من المدرسين خاصة في الاختبارات الدورية، حيث يعتمد على أن لا يتيح للطلاب الفرصة في إكثار الكلام والكتابة، بل السؤال وجوابه، كما يقال: (كلمة ورد غطائها) حتى يخفف عن نفسه العبء، ولكن أيضاً بأسلوب علمي يستطيع أن يكتشف من خلاله الطالب وقدرته. وأيضاً من الطرائق الجديدة التي يمكن أن يستفيد منها -وهذه أمور جديدة الآن يأخذ بها بعض المدرسين- الاستفادة من التقنيات الحديثة كالكمبيوتر، وقد يرى بعض المدرسين أن هذه أمور صعبة، لكن عندما يكون قد تعلم في هذا الكمبيوتر فإنه يستطيع أن يضع الأسئلة، ويضع الفقرات المنهجية ضمن برامج معينة، ويصحح، ويفعل نحو ذلك في وقت وجيز. وأيضاً بعض المدرسين يلجئون إلى طرائق تبادلية مع بعض المدرسين في تخفيف هذه الأعباء، وأقول: هذا كله حسن بحيث لا يكون هناك تفريط من المدرس في واجبه، ولا تقصير منه في هذا الواجب؛ لأن المدرس في الوقت نفسه هو قدوة، وهذا واجب عليه من قبل الجهة التي كلفته بهذه المهمة، وهو يفرض على طلابه واجبات، فكيف يريد أن يؤدي الطلاب واجباتهم وهو لا يؤدي واجبه؟! فهذه أيضاً قضية لابد أن يلتفت إليها المدرسون، وعليهم أن يحاولوا قدر الاستطاعة أن يستفيدوا منها، ثم أن يحاولوا أن يفيدوا في المجال التغييري فيما يرون أنه قاصر في العملية التربوية التعليمية.

المعلم قدوة

المعلم قدوة الأمر الخامس: القدوة، والقدوة أمرها أيضاً عظيم وواضح وواسع، ونعني بها القدوة في المجالات كلها، القدوة في الناحية العلمية، والقدوة في الناحية السلوكية، والقدوة في الناحية الفكرية، والقدوة في الناحية المظهرية. فمسألة القدوة في المدرسين مسألة مهمة جداً؛ لأن أعين الطلاب معقودة بمعلميهم ومدرسيهم، خاصة في سن الصغر، في المرحلة الإبتدائية والمتوسطة، حتى الثانوية، فإذا كان المدرس جيداً فإن الطلاب لا يرون إلا معلمهم ومدرسهم، وبذلك يتبين أن تأثير القدوة في هذا الجانب عظيم جداً.

التجديد والابتكار

التجديد والابتكار الأمر السادس: التجديد والابتكار، فكثيراً ما يكون النظام التعليمي يصبغ المعلم بالتكرار، وأنا أعلم بعض المعاناة عند المدرسين وأسوقها، وأوافق كثيراً منهم في بعض هذا القول، فالمعلم مطلوب منه نظاماً أن يحضر ما يسمى بكراس أو دفتر التحضير، وهذا يراه بعض المدرسين أمراً شكلياً لا قيمة له، وأمراً يفعلونه كما يفعل الطالب الواجب المقرر عليه من المدرس، فكما يراه ثقيلاً يراه المدرس ثقيلاً، وكما سيسأل الطالب عن واجبه يعلم المدرس أنه سيسأل عن دفتر تحضيره، وبالتالي يكتبه متثاقلاً، ثم المطلوب منه في كل عام أن يجدد هذا الكراس، وإن كانت المادة نفسها والمنهج نفسه، ثم أيضاً عنده نظام أن هناك درجات على الأسئلة الشفهية، واختبارات شهرية ونحو ذلك، فهذا الروتين يجعل المدرس أحياناً كالآلة، قد حفظ المنهج حفظاً من كثرة ما ردده، وفي كل مرة وفي كل عام وفي كل فصل وفي كل مادة لا يأتي بأي شيء جديد، ولا يأتي بأي أسلوب يغير الملل عن نفسه هو أولاً ثم عن طلابه ثانياً، ومن هنا نجد النظرة التي أشرت إليها سابقاً، فالمدرس إذا كان على هذا الوصف تجده دائماً مهموماً مغموماً؛ لأنه يكرر كل شيء، والتكرار مع الاستمرار لا شك أنه شيء قاتل، وأمر محطم للمعنويات، بل أحياناً يكون مبلداً للأفكار، فالمدرس عندما يكرر يصبح ليس عنده مجال، أو لا ترى أحياناً فيه مجالاً للإبداع، ولا للابتكار ولا للتغيير، وإنما أصبح كالآلة، المنهج معروف والطريقة معروفة والاختبارات معروفة، والطلاب الكسالى لا أمل فيهم، والمتفوقون لا يحتاجون إلى جهده وشرحه؛ لأنهم سريعون في الفهم ويقرءون ويتوسعون، وهذا يفقد المدرس كثيراً مما ينعش نفسيته، ومما ينفع طلابه، فقضايا التجديد والابتكار أمرها معلوم حتى في منهج النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف كان يلقن الصحابة ويعلمهم؟ أولاً: يتكلم كلاماً بطيئاً لو شاء العادّ أن يحصيه لأحصاه، وكان يكرر القول ثلاثاً حتى يُفهم عنه، وكان مرة يبدؤهم بالسؤال حتى يستثير الأذهان، وأحياناً يبدؤهم بالمعلومة، ويطلب منهم الاستنتاج، وأحياناً يستخدم -كما يقولون- وسائل تعليمية مثل الخطوط أو التشبيهات أو الأمثال، وأحياناً يستغل موقفاً معيناً مع أصحابه ليلفت نظرهم إلى قضية من القضايا التعليمية أو التربوية أو التوجيهية، وأمثلة هذا كثيرة جداً، فلماذا لا يستخدم المدرس هذه الطرائق وهذه الأساليب؟ ولماذا لا يغير أحياناً بعض الأنماط؟ ولماذا لا يجعل هناك أحياناً صورة من صور المشاركة مع الطلاب أو مع بعض الطلاب؟ ولماذا لا يغير أحياناً؟ وإن كان في بعض الأحوال قضايا إدارية أو نظامية تعوقه، ولكن يمكن بقدر الاستطاعة أن يفعل بعض هذه الأمور، بأن يخرج طلابه -مثلاً- من الفصل ليعطيهم الدرس في الهواء الطلق في بعض الأحوال، أو أي صورة من صور التغيير التي تبعث في نفسه الجد والنشاط، وكذلك تبعث في طلابه، وتجعله مدركاً لمهمته وغايته بدلاً من أن يكون مكرراً لنفسه، وهذه قضية أيضاً مهمة جداً.

الصبر

الصبر الأمر الرابع: الصبر. كنت مع أحد المدرسين نتناقش حول ما قد يُطرح في هذا الموضوع، فكان يقول لي: الصبر هو الذي يحل كل المشكلات المتعلقة بالمعلمين وبعملية التعليم. والحقيقة أن أكثر الناس احتياجاً للصبر هم المعلمون؛ لأنهم يواجهون البلادة، ويواجهون الجهالة، ويواجهون الحماقة، ويواجهون أحياناً الصلافة، وكل هذه المعاني يواجهها المدرس، إضافة إلى مواجهة العناء والتعب والإرهاق، وأنا أعلم أن المدرسين سيقولون: لماذا لم يكن هناك حديث عن هذا المدرس الذي يقف خمس حصص أو خمس ساعات في كل يوم، ومهمته أن يبدأ حصته بالكلام وينهيها بالكلام طول الوقت، ومهمته بعد ذلك أن يكتب، وأن يسأل، وأن يعاقب، وأن يراقب، وأن يدقق، إلى غير ذلك؟ وأقول: هذا كله لنا فيه وصفة واحدة هي الصبر، ولذلك جُعل الإيمان شطرين: شطر شكر وشطر صبر، والنبي عليه الصلاة والسلام قد بين عظمة الصبر في هذا المعنى، والحقيقة أن الصبر -أيضاً- فن؛ لأن الطلاب أحياناً يتنافسون في كيفية إخراج المدرس عن صوابه وإغضابه وامتحانه في سعة صدره وحلمه. فالصبر حقيقة -أيضاً- أمر مهم جداً في هذا الجانب.

تواضع المعلم ولين جانبه

تواضع المعلم ولين جانبه الأمر الثالث: التواضع ولين الجانب، والحقيقة أن في بعض الأحوال تجد المدرس يفتعل الهيبة والوقار، وهما أمران مهمان للمعلم ولشخصيته، لكنه يظن أو يتصور هذه الهيبة وذلك الوقار والاحترام بصورة خاطئة، فلا يمكن أن تَفْتَرَّ شفتاه عن ابتسامة، ولا يمكن أن يُرى إلا مقطب الجبين مكشر الوجه، ولا يُسمع منه إلا الكلام الجاد والحاد في الوقت نفسه، ويرى الطالب حينئذٍ أنه أمام عقبة صعبة شديدة قاسية مغلقة، فلا يمكن أن يكون هناك تواصل، بينما التواضع ولين الجانب له أثره الكبير في أداء المهمة التعليمية والتربوية والسلوكية التي أشرنا إليها، وبعض المدرسين القدماء ربما تجدهم أحياناً يوصون بعض زملائهم الجدد بقولهم: أحذر أن تقول كلاماً هيناً، ولا تصاحب طالباً، ولا تقدم أي صورة من صور التواضع واللين. وهذا خطأ.

استشعار المعلم مسئوليته

استشعار المعلم مسئوليته أولاً: استشعار المسئولية، وبدون هذا لا يدرك المدرس منزلته ورسالته، ولا يؤدي عمله ومهمته، ولذلك المنهج الإسلامي ينشأ في كل أمور الإنسان على أنه مسئول بين يدي الله عز وجل، لكننا عندما ننظر إلى التخصيص نجد أن التخصيص قد ورد في أمور بعينها، ومنها العلم، كما في الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع)، ومنها: (عن علمه ماذا عمل به)، ومعلوم أيضاً أن من أول الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة الذي علم ليقال: عالم. ولم يعلم بالإخلاص والقيام بالمهمة والمسئولية كما أراد الله سبحانه وتعالى، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول: (إني لأخشى أن يقول لي الله عز وجل يوم القيامة: يا عويمر! -وأبو الدرداء اسمه عويمر - فأقول: لبيك يا رب. فيقول: ما عملت فيما علمت؟) فعندما يستشعر المدرس مسئوليته حينئذٍ يمكن أن يعول عليه كثيراً بإذن الله عز وجل.

الأمانة العلمية

الأمانة العلمية الأمر الثاني: الأمانة العلمية، وهذا يقتضي منه أموراً كثيرة، وأذكر منها بعضاً: أولها: الإتقان في مجال التخصص وفي مادته العلمية، فإن هذا من أعظم الأمور المعينة على قيامه بمهمته، فلابد من أن يستفيد دائماً، وأن يراجع دائماً، وأن يبحث كثيراً، وأن يحاول دائماً أن يكون متمكناً تمكناً جيداً. ومن الأمانة العلمية -أيضاً- ما أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم أمام الصحابة وأمام الملأ من المسلمين عندما جاءه السائل يسأله عن الساعة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ولا حرج إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم. فهذا من الأمانة العلمية. ومن ذلك أيضاًً -وهو مندرج في هذا الباب- أن يقبل من طلابه ومن زملائه ما قد يلفتون نظره إليه من خلل أو خطأ فيما قال أو فيما أشار إليه، وهذا أيضاً أمر مهم جداً. ومن الأمانة العلمية مسئوليته عن علمه، فهو مسئول عن صيانته وحفظه، فهذا العلم الذي عنده ينبغي أن يصونه وأن يحفظه، فبعض المدرسين -وهذا يحصل كثيراً بسبب التكرار وبسبب الأمور والأوضاع الإدارية والفنية التي يمر بها المعلم- يتخرج من جامعته، فيبدأ في التدريس، وبدلاً من أن يستزيد من علمه إذا به يتآكل علمه؛ لأنه كان يدرس في الجامعة موضوعات كثيرة، وكتباً كبيرة، ومسائل دقيقة، فلما جاء إلى التدريس جاء إلى مستوىً معين من الطلاب ينبغي أن يعطيهم بقدر ما هو مقرر في المنهج، وبقدر عقولهم وأفهامهم، فنزل إلى مستواهم وبقي معهم، وضيَّع كل ما أخذه من العلم مما ليس في هذه المناهج، وانتهى أمره إلى أنه أصبح متخصصاً في هذه الكتب، بمعنى أنه -إذا صح التعبير مع الاعتذار للمعلمين- مثله مثل الطالب الذي يتمرس في المنهج، ولو أن طالباً درس المنهج ورسب وأعاد مرة ثانية أو درس دروساً خصوصية أو كذا لكان -كما يقولون- طالباً معيداً، أي: عنده خبرة يمكن أن يكون مدرساً مثل المدرس، ولا فرق بينه وبين المدرس الذي ذكرنا وصفه وكلامه؛ لأنه حصر نفسه في هذا الجانب، ولذلك ينبغي للمدرس أن لا يكون بهذا الأمر.

ماذا يراد من المعلمين؟

ماذا يُراد من المعلمين؟ وقبل أن أختم الحديث أشير إلى نقطة أخيرة: ماذا يُراد منكم؟ أقول فيها: إن الذي يراد من المدرس هو أن يكون المقيَّم لكل خطأ؛ لأن المعلم -كما يقول أهل التربية والتعليم- هو الأساس في العملية التعليمية، فإن كان في المناهج نقص أو فيها خلل أو فيها مخالفات أو أخطاء فالمعول في تصحيح ذلك على المعلم، وإن كان في الطلاب وطريقة تلقيهم للعلم خطأ أو في طريقة نظرتهم للعلم خطأ أو في طريقة استفادتهم للعلم خطأ فالمعول في إصلاح ذلك على المعلم، وإذا كان النظام التعليمي نفسه هو في حد ذاته فيه أخطاء وفيه عيوب أيضاً فيمكن أن يتغلب أو أن يكون المقوم أو الذي يخفف هذه الأمور أو يغيرها إلى أمور صالحة هو المعلم. وهنا سيقول المدرسون والمعلمون: تطلب منا وتطلب منا وتطلب منا ولا تطلب من الآخرين؟! فأقول: نعم. المفترض أن تكون العناية بالمعلم هي في الرتبة العليا على كل المستويات، سواء في قطاعات التعليم، أو في قطاعات الدولة، أو في قطاعات النظر إلى العلماء، أو في قطاعات الاقتصاد، أو في قطاعات السياسة والاجتماع، فالمعلم هو الذي له أكبر الأهمية في هذا الجانب، فينبغي أن تكون وسائل الإعلام تخدم العملية التعليمية والتربوية، وينبغي أن تكون الصحافة والبحوث والمؤتمرات والتوجيهات كلها تخدم هذا الجانب، لكننا نتكلم فيما يوجه لكم، وذاك حديثه آخر، وجانبه آخر قد تكونون أنتم جزءاً من المشاركة في هذا، وغيركم يشارك فيه، لكن نقول: نحن نطالب المعلمين بما هو في أيديهم، وبما نرى أنهم قد يكونون قريباً منه بإذن الله عز وجل. وأقول: نحن في آخر الأمر نرى أن كل ما نريده من المعلمين وما يضيفه غيرنا هو مطلوب منهم، وهو مأمل فيهم، وهو مرجو -إن شاء الله عز وجل- أن يُعانوا عليه إذا أخلصوا النية لله عز وجل، وهذا ما أختم به في هذه النقاط.

توجيهات جامعة للمعلمين

توجيهات جامعة للمعلمين وانتقل إلى ما أشرت إليه في أول الحديث مما أردت أن يكون في آخره حتى لا يزدحم الموضوع، فهذه مقولات لبعض أهل الفضل والعلم في بعض التوجيهات الجامعة والمهمة بالنسبة للمعلمين، وأبدؤها بعبارة نفيسة ومقالة جيدة رغم وجازتها إلا أنها تلخص كثيراً من الأمور، فأقولها أولاً ثم أذكر قائلها أو كاتبها ثانياً. يقول حفظه الله وأجزل مثوبته: لا ريب أن المعلم هو المربي الروحي للطالب، فينبغي أن يكون ذا أخلاق فاضلة وسمت حسن حتى يتأسى به تلامذته، وينبغي أن يكون محافظاً على المأمورات الشرعية بعيداً عن المنهيات، حافظاً لوقته، قليل المزاح، واسع البال، طلق الوجه، حسن البشر، رحب الصدر، جميل المظهر، ذا كفاية ومقدرة وسعة إطلاع، كثير العلم بالأساليب العربية ليتمكن من تأدية واجبه على الوجه الأكمل، ولا شك أن من يُعنى بدراسة النفس البشرية من كافة النواحي ويبحث عن الأسباب الموصلة إلى معرفة الطريقة التي يمكن بواسطتها غرس العلوم في هذه النفس بسهولة ويسر سوف يحصل على نتائج طيبة في كشف خفاياها وما انطوت عليه من مشاعر وأحاسيس، ومدى تقبلها للمعلومات المراد غرسها فيها، وسيخرج من تلك الدراسة والبحث معلومات هي في الحقيقة من القواعد العامة التي يقوم عليها صرح التعليم، وهذه القواعد يمكن إجمالها في أنه إذا ما أراد أي معلم أن يغرس معلوماته في أذهان تلامذته فلابد له قبل كل شيء أن يكون ذا إلمام تام بالدرس الذي وكل إليه القيام به، وذا معرفة بالغة بطرق التدريس، وكيفية حسن الإلقاء، ولفت نظر طلابه لطريقة جلية واضحة إلى الموضوع الأساسي للدرس، وحصره البحث في موضوع الدرس دون الخروج إلى هوامش قد تبلبل أفكار التلاميذ وتفوت عليهم الفائدة، وأن يسلك في تفهيمهم للعلوم التي يلقيها عليهم طرق الإقناع، مستخدماً وسائل العرض والتشبيه والتمثيل، وأن يركز اهتمامه على الأمور الجوهرية التي هي القواعد الأساسية لكل درس من الدروس، وأن يغرس في نفوسهم كليات الأشياء، ثم يتطرق إلى الجزئيات شيئاً فشيئاً؛ إذ المهم في كل أمر أصله، وأما الفروع فهي تبع للأصول، وأن يركز المواد ويقربها إلى أذهان التلاميذ، وأن يحبب إليهم الدرس ويرغبهم في الإصغاء إليه، ويعلمهم بفائدته وغايته، آخذاً في الحسبان تفهيم كل طالب ما يلائمه باللغة التي يفهمها، فليس كل الطلبة على حد سواء، وأن يفسح المجال للمناقشة معهم، وتحمل الأخطاء التي تأتي في مناقشاتهم لكونها ناتجة عن البحث عن الحقائق، وأن يشجعهم على كل بحث يفضي إلى وقوفهم على الحقيقة، آخذاً في الحسبان عوامل البيئة والطباع والعادات والمناخ؛ لأن تلك الأمور تؤثر تأثيراً بالغاً في نفسيات التلاميذ ينعكس على أفهامهم وسيرتهم وأعمالهم، ولهذا فإن المسلم به أن المعلم النابه الذكي الآخذ بهذه الأمور يكون تأثيره على تلامذته أبلغ من تأثير من دونه من المعلمين، ومهمة المعلم أشبه ما تكون بمهمة الطبيب، ومن واجبه أن يعرف أمور طلابه ومدى حظ كل واحد من الذكاء، وعلى أساس هذه المعرفة يقدر المقاييس الأساسية التي يسير عليها نهجه في مخاطبة عقولهم وأفهامهم، وتلك من أهم أسباب نجاح المعلم. وهذا من كلام سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، فيه جمع لكثير من الصفات، في وجازة من الألفاظ وحسن في العبارات. وهنا أيضاً عبارة من مقتطفات اخترتها، وكثير منها يتعلق ببعض ما سبقت الإشارة إليه، يقول الأستاذ أحمد جمال رحمة الله عليه: إن العلماء الذين يحفظون العلم في صدورهم ولا ينقلونه إلى غيرهم ليسوا علماء؛ لأن واجبهم أن يورثوا العلم الذي تعلموه للجهلاء علماً ومعرفة، وللسفهاء أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ودعوة إلى الخير. إذاً فالمعلمون هم العلماء حقاً، وهم ورثة الأنبياء صدقاً، ومما قاله من الكلام الجيد الحسن في الحقيقة أنه قال: إن المدرس ينبغي أن يطبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). واستدل بقول أحد التربويين عند أن سأله المعلم فقال له: كيف ينبغي أن أكون في تعليمي؟ فقال: كما كنت تحب أن يكون معلمك وأنت طالب. فعندما تكون طالباً تحب من المدرس أن يشرح، وأن يعيد، وأن يكون حسناً في تعامله، وأن يكون وأن يكون فأحب للطلاب ما تحبه لنفسك. وهنا عبارة جميلة أشرت إلى صورة منها وقال فيها: يرتكب المدرسون خطيئة كبرى حين يتخذون من منصة الدرس عرشاً إذا ما جلسوا عليه تخيلوا أنفسهم معلقين بالثريا، ورأوا طلابهم دونهم إلى الثرى، فما يرضون أن توجه إليهم من أسئلة الطلاب ومناقشاتهم إلا ما اتفق مع أصول اللياقة والأدب، ولا يسمحون لأي طالب يفكر بأن يتجاوز معهم الحدود بنقاش أو جدال، ويخطئ مدرسو المواد الدينية بصفة خاصة عندما يصطنعون الغيرة على حرمات الله وأحكام دينه فيقذفون الملامة في وجوه الطلاب الذين يبدو منهم بعض التساهل أو التهاون في أحكام الدين وآدابه، أو الطلاب الذين يكثرون الجدل حول بعض شئون العقيدة وأصولها. فينبغي أن يكون المدرس صدره رحباً وأسلوبه علمياً مقنعاً في هذا الباب. وهنا مقالة جميلة لـ بديع الزمان النورسي يقول في وصف العلم -وهذا مما يفرح المعلمين أيضاً-: العلم شيء بعيد المرام، لا يُصاب بسهام، ولا يُقسم بالأزلام، ولا يُكتب للئام، ولا يُرى في المنام، ولا يُقبص باللجام، ولا يُؤخذ عن الآباء والأعمام، ولا يزكو إلا متى صادف من الحزم ثرىً طيباً، ومن التوفيق مطراً صيباً، ومن الطبع جواً صافياً، ومن الجهد روحاً دائماً، ومن الصبر سقياً نافعاً، وغرضاً لا يُصاب إلا لافتراش المدر، واستناد الحجر، ورد الضجر، وركوب الخطر، وإدمان السهر، واصطحاب السفر، وكثرة النظر، وإعمال الفكر. فهذا كله مما هو مطلوب منكم مما هو داخل في مهمتكم. وهنا أيضاً عبارت لـ بشير الإبراهيمي يقول فيها: ربوهم على الرجولة وبُعد الهمة، وعلى الشجاعة والصبر، وعلى الإنصاف والإيثار، وعلى البساطة واليسر، وعلى العفة والأمانة، وعلى المروءة والوفاء، وعلى الاستقلال والاعتزاز بالنفس، وعلى العزة والكرامة، وعلى التحابب والتسامح، وعلى حب الدين والعلم، وكونوا لتلاميذكم قدوة صالحة في الأعمال والأحوال، لا يرون منكم إلا الصالح من الأعمال والأحوال، ولا يسمعون منكم إلا الصادق من الأقوال إلى آخر ما قاله في هذه العبارات. وأكتفي بهذا لأنتقل إلى بعض الأسئلة والملاحظات في إيجاز سريع، وبعضها -كما قلت- إضافات، وأنا قلت في أول الحديث: إن الموضوع مقصور على جزء يسير من جوانب الموضوعات المتعلقة بالتعليم.

الأسئلة

الأسئلة

أسلوب العقاب بين الإفراط والتفريط

أسلوب العقاب بين الإفراط والتفريط Q ما رأيكم في الأسلوب الأمثل لعقاب الطلاب أو زجرهم نتيجة تقصيرهم في دروسهم أو سلوكهم بعدما منع منعاً باتاً العقاب البدني للطلاب بحجة أنه يوغر قلوب الطلاب ويزرع فيهم الكراهية للتعليم والتعلم؟ A أحد المدرسين -جزاه الله خيراً- أعطاني ملفاً يجمعه لنفسه، يجمع فيه مقالات عن التعليم، وهذا من التجديد والاهتمام في التعليم، حتى يكون بالفعل عنده حيوية، فكان مما رأيت مقابلات صحفية لبعض المدرسين والتربويين، قال: صدر قرار منع العقاب البدني أو الذي يُسمى الضرب كما يقولون في التعبير الواضح أو المباشر، وقرأت هذه القصاصات فلم أر قولاً واحداً منها يؤيد أن يكون هناك إطلاق دائم شامل لمنع العقاب البدني، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (واضربوهم عليها لعشر) فهي وسيلة، لكن عندما يكون هناك خطأ في الأخذ بالوسيلة لا يبرر هذا الخطأ إنكار أثر هذه الوسيلة من الناحية التربوية، وإنما يُقوَّم الخطأ، وتوضع له الضوابط، ومما اشتكى منه هؤلاء المدرسون في هذه اللقاءات التي اطلعت عليها أنهم قالوا -وهذا ليس على إطلاقه-: المدرس إذا لم يكن عنده ضرب فإنه يستهان به، ولا يكون له قيمة. وبالفعل قد وقع في بعض الأحوال أن المدرس لما لم يصر له صلاحية الضرب صار للطلاب صلاحية الضرب، وتقع بعض هذه الأمور، فالمسألة تحتاج إلى تقدير حقيقي وواقعي من خلال الأمور التربوية، حتى إن التربويين أنفسهم يقولون: إن الضرب وسيلة تربوية عندما تكون بقدرها. بل قد ذكر الله عز وجل الضرب في تقويم الزوج لزوجته فقال: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اضربوا ضرباً غير مبرح، ولا تقبحوا، ولا تقربوا الوجه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال عليه الصلاة والسلام: (علقوا السوط في البيت حتى يراه أهل البيت) وهذا أيضاً حديث صح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما ذكر بعض أهل العلم من المحدثين، لكن لا يعني ضرب الزوج لزوجته، فقد نهى النبي عن ذلك في وجه آخر فقال: (لا يضربن أحدكم زوجته ضرب الأمة -أو ضرب غرائب الإبل- ثم يأتي من آخر الليل ليجامعها) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فالمسألة فيها نظر شامل، وليس الضرب بحد ذاته وليس منعه بحد ذاته هو الحل، فهل صلحت أحوال الطلاب وأحبوا العلم ورغبوا فيه وتفانوا فيه وارتفعت مستوياتهم عندما مُنع الضرب؟ الجواب يعرفه كثير من المدرسين! فنسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، وأن يبارك في الجهود والأعمال، وأن يصلح أحوال المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين. وصل -اللهم- وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

عموم الحديث عن المعلم

عموم الحديث عن المعلم Q جل حديثك يخص مدرسي المواد الدينية، فهل يشمل ذلك مدرسي المواد الطبيعية كالرياضيات والكيمياء ومدرس اللغة الإنجليزية؟ A لم يكن حديثي كذلك، بل الحديث عام يشملهم كلهم، لكن لكوننا لم ننص عليهم ظُنَّ أننا أئمة مساجد ونتكلم في المسجد فلا نتحدث إلا عن هؤلاء، وقد يكون في حديثي تقصير حيث لم أشر إلى ذلك بصورة واضحة.

كل عمل فيه أجر إذا خلصت فيه النية لله عز وجل

كل عمل فيه أجر إذا خلصت فيه النية لله عز وجل Q هل الذي يقوم بعمل إداري في التعليم كمدير أو نحو ذلك له ثواب؟ A كل بحسبه، ولا شك أن أي عمل -حتى في غير التعليم- تعمله تنفع به وتؤدي دوراً وواجباً لا شك أن فيه أجراً إذا أخلصت النية فيه لله عز وجل. وأيضاً ننبه بعض الإخوة إلى قضية لم نذكرها، وهي قضية محاولة ربط المنهج الذي يدرسه المدرس -خاصة في المواد غير المباشرة في التوجيه كالمواد الدينية- فيربط من خلال الفيزياء أو الكيمياء ببعض المعاني الإيمانية، وبعض المعاني التربوية، وبعض التشبيهات، هذا أيضاً مهم؛ لأن بعض المعلمين يكرس الحصة للدرس، ولا يخرج إلى مواضيع أخرى مطلقاً، ويشير بعضهم إلى أنه لا يخرج إلى ربط المادة بأمور أخرى تربوية، وهنا إفراط وتفريط، فبعضهم لا يفعل ذلك مطلقاً، وبعضهم يترك الرياضيات ويترك الفيزياء، ويحدثهم بموعظة وخطبة جمعة في الدرس، وهذا ليس أيضاً تصرفاً صالحاً ولا محموداً، وبعض المدرسين يشكون -ولهم حق في ذلك- أن المنهج إلى حد ما كثيف، وليس هناك وقت يسمح بالخروج كثيراً، ولذلك هناك العوامل الأخرى التي ذكرتها في الأنشطة وفي العلاقات الشخصية إلى آخر ما ذكرت.

ما ورد في فضل العلماء يدخل فيه المدرسون

ما ورد في فضل العلماء يدخل فيه المدرسون Q هناك من يرى أن الفضل الذي يذكر للعلماء وليس للمدرسين، فما صحة هذا الرأي؟ A هذا خلل في الفهم؛ فإن معلم الناس الخير بالمنهج الإسلامي الصحيح وبالنية الصحيحة والغاية الصحيحة يدخل في عموم هذا، ولا شك أن هناك تفاوتاً في الفضل بين أهل العلم، فعالم الشرع قد يكون أفضل، وأحياناً قد يكون العالم بالعلوم التي يسمونها دنيوية أفضل إذا كانت نيته أصلح، وإذا كان جهده أعظم، فكل قضية تُصنف باعتبارها وبحالتها الخاصة، أما العموم فيدخل فيه هؤلاء المدرسون ولا شك في هذا.

كيفية التخلص من سآمة تكرار الحصص

كيفية التخلص من سآمة تكرار الحصص Q أحس بالملل والسآمة من تكرار الحصص وكثرتها، فماذا أفعل؟ A قد ذكرت بعض الأمور التحايلية، وبعض الأمور النفسية، وبعض الأمور التجديدية، فلعل في بعضها ما يفيد.

ذكر بعض الكتب التي تفيد المدرس في طرق التدريس ووسائله

ذكر بعض الكتب التي تفيد المدرس في طرق التدريس ووسائله Q هل هناك مراجع لطرق التدريس وطرائق التعليم ووسائل التوجيه والإرشاد؟ A كثير من المدرسين الذين يدرسون تخصصاتهم التي يسمونها تربوية أو بعض المدرسين إذا تخرجوا يأخذون بعض الدورات التربوية، وسمعت من كثير منهم شكوى متكررة أن هذه الموضوعات التربوية كثير منها يعتبرونها لا فائدة لها، وأنها كلام في كلام، وفي بعضها نظريات تربوية غربية، وقال فلان وقال علان كما يقولون. فأقول: جزء من هذا حق، وجزء منه ليس كذلك، وهناك فوائد، لكن لعل السائل يسأل عن بعض هذه الأبعاد من وجهة نظر إسلامية، فأنا أوصي الإخوة المدرسين في قضايا التربية وطرائق التدريس ببعض الكتب فيما أعلم؛ لأني لست من المهتمين أو المتخصصين أو الذين عندهم اطلاع واسع في هذا، فبالنسبة لكتب التربية -والتربية شاملة تشمل المدرس وإمام المسجد والواعظ والأب لأبنائه- هناك كتب لفضيلة الأستاذ محمد قطب، منها: (منهج التربية الإسلامية) وله بعض كتب أخرى أيضاً في هذا المجال، وهناك كتب للدكتور مقداد الذي حصل على جائزة الملك فيصل في الدراسات التربوية، فله كتب نفيسة وبحوث جيدة جداً، لكني أرى أنه غير معروف ولا مشهور بين أهل الصلاح والشباب الملتزمين في كثير مما أسمع منهم، لكن له كتب ورسائل كثيرة، منها كتاب عن التربية الإسلامية، وله بحوث منشورة في ضمن البحوث التي ينشرها مركز التربية لمجلس التعاون لدول الخليج، وله رسالة أو كتاب صغير (الطريق إلى العبقرية) وفيه كلام عن تربية الموهوبين أو التربية التي تفجر الطاقات التي فيها مواهب ونحو ذلك، فكتاباته في هذا جيدة، ثم اطلعت في أثناء تحضيراتي لهذا الموضوع على كتب الحقيقة فيها فائدة، منها كتاب (منهج التدريس في مدرسة النبوة) للدكتور سراج وزان، وهو من مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، هذا الكتاب فيه بحث جيد وأسلوب حسن في عرض هذا الموضوع، وهناك كتاب ضخم فيه موضوعات أوسع من قضية التربية والتعليم، وهو (التعليم في المدينة المنورة من عصر النبوة إلى عصر آخر كتاب فيه قضية التعليم). وكل الكتب التعليمية التي ألفها العلماء السابقون فيها هذه المعاني، وفيها هذه التوجيهات التربوية، ومنها كتاب (التعليم والتعلم) وكتب كثيرة للزرمودي، وهناك أيضاً كتاب (تذكرة السامع والمتعلم) لـ ابن جماعة، وكتاب (الحث على طلب العلم وآدابه) لـ أبي هلال العسكري، وغيرها من الكتب التي تكلمت عن العلم، و (أدب الاستملاء) للسمعاني، كل هذه فيها توجيهات كثيرة جداً في هذا الجانب.

المسلم بين اليأس والأمل

المسلم بين اليأس والأمل لقد ذم الله سبحانه وتعالى اليأس في كتابه الكريم، وذكر أنه ليس من صفات المؤمنين الصادقين مع الله، الموقنين بوعد الله، وعند النظر إلى الواقع وما عليه المسلمون من حال قد يدب اليأس إلى النفوس، لكن على الإنسان أن يتفاءل، وأن ينظر إلى جوانب الخير، وأن رحمة الله وفرجه قريب، فيبعث الأمل في نفسه ويقضي على اليأس.

مبشرات في زمن اليأس

مبشرات في زمن اليأس الحمد لله الذي هدانا للإيمان، وأكرمنا بالإسلام، ووفقنا للطاعات، وجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، وجعل من بعد العسر يسراً، ومن بعد الشدة فرجاً، أحمده سبحانه وتعالى على عظيم نعمه، وتوالي مننه، ودوام بره، وعظيم لطفه، هو سبحانه وتعالى أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! المسلم بين اليأس والأمل؛ موضوع حديثنا اليوم نستكمل به ملامح الشخصية الإسلامية. وإن الأمر الأول الذي يكتنفه يأس عند بعض النفوس، ويلج به قنوط على بعض القلوب: أحوال أمة الإسلام في كثير من البقاع والديار. إن المسلم لينظر إلى الشرق والغرب، فيرى أحوال المسلمين لا تحزن عدواً ولا تسر صديقاً، فإذا بلادهم قد مزقت تمزيقاً وإذا وحدتهم قد قطعت تقطيعاً وإذا بعض ديارهم قد سلبت وإذا كثير من أعراضهم قد اغتصبت وإذا البطون قد بقرت وإذا العيون قد سملت وإذا البيوت قد هدمت وإذا المساجد قد دمرت وإذا المصاحف قد دنست وإذا بألوان من العناء والبلاء، وصور من المعاناة والشقاء، ونيران ودخان تحيط بأحوال كثير من المسلمين في كثير من بقاعهم وديارهم، وإذا صور أخرى ربما تكون أشد وأعظم، إذ كثير من ديار الإسلام قد نحت كتاب الله عز وجل عن تحكيمه في واقع الحياة، وكثير من ديار الإسلام قد سارت تبعاً لشرق أو غرب، وكثير من المسلمين قد لجوا في المعاصي، وخاضوا في الشهوات إلا من رحم الله. وهنا يسري إلى النفوس بعض اليأس والقنوط، وعدم وجود الأمل في إصلاح الأحوال وتغيرها وتبدلها، وما ينبغي لمسلم أن يكون عنده يأس من روح الله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. إن الأمل في الله عظيم، وإن الخير في هذه الأمة عميم، وإن المسلم لو تمعن قليلاً ولو تفكر يسيراً لرأى أن من وراء هذه الظلمات نوراً يوشك أن ينشق عن فجر مشرق وضاء بإذن الله، وما ذلك على الله بعزيز، وإن أحوال الأمة اليوم هي خير بكثير مما كانت عليه في أوقات مضت، وليس ذلك محض ادعاء، ولا ذلك موافقة للعواطف والمشاعر، ولا تخديراً لمشاعر الحزن والأسى والألم في نفوس كثير من أبناء المسلمين، ولكنه أمر الأمل الذي ينبغي أن ينبعث في القلوب، والثقة التي ينبغي أن تعظم في الله عز وجل، واليقين الذي ينبغي ألا يخالطه شك في صدق وعد الله سبحانه وتعالى، وأن العاقبة للمتقين. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن هذا الدين عظيم: (ما من بيت مدر ولا وبر إلا ويدخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)، قول صادق من الرسول المصدق صلى الله عليه وسلم، وقد بشرنا بفتح القسطنطينية، وفتحت كما أخبر عليه الصلاة والسلام. وشق البشارة الأخرى أمل في نفس كل مؤمن، ويقين في قلب كل مسلم لا يمكن أن يتزعزع أو أن يداخل مسلماً فيه شك أو ريبة بأي حال من الأحوال، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نبأنا بما يكون في مستقبل الأيام، وقد أخبرنا بعز هذا الدين ورفعة الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا به لا يمكن أن يكون إخباراً يتطرق إليه أدنى شك بصورة من الصور، فإننا ننتظر وقوع ما أخبرنا به وحصوله، ولكن العمل هو الذي يبعث الأمل، فإن الآمال من غير أعمال إنما هي خيالات وأوهام، وإنما هي أضغاث أحلام، فينبغي للمسلم أن يعرف أن الأمل في الله ينبغي ألا ينقطع، وأن اليأس من روح الله سبحانه وتعالى ورحمته ينبغي ألا يخالط نفسه وقلبه وعقله بأي حال من الأحوال. انظر إلى أحوال الأمة اليوم ألا ترى تضاعفاً لأعداد المصلين والساجدين؟ ألا ترى أوبة من كثير من الشاردين والمعرضين؟ ألا ترى غيرة من كثير من اللاهين والعابثين؟ ألا ترى أن أمة الإسلام كلما ازداد الضيم عليها والظلم الواقع على أبنائها، والإجرام المحيط بها، ازداد أبناؤها تشبثاً بدينهم، واستمساكاً بإسلامهم؟ ألم يقع في فترة مضت من هذا الزمان عندما احتلت ديار المسلمين، أن بعض الناس بدلوا دينهم، وغيروا أخلاقهم، والوا أعداءهم؟ انظر اليوم إلى أحوال كثير من المسلمين وهم يلاقون أشد أنواع العناء بالبوسنة والهرسك وكشمير وغيرها، ما فتنهم ذلك عن دينهم ولا تخلوا عن إسلامهم، هذه صور مشرقة، هذه آمال عريضة، فإن وراء ذلك خير عميم في فئام من المسلمين، ألا نرى اليوم صغارهم وهم يدرجون إلى المساجد في أول سنهم؟ ألا ترى اليوم فتيانهم وهم يتحلقون على كتاب ربهم؟ ألا ترى اليوم شبابهم وهم يتواصون ويعظ بعضهم بعضاً بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا ترى اليوم أشياخاً قد فرغوا أنفسهم لطاعة الله، وبذلوا أموالهم لنصرة دين الله؟ فما بالك أخي المسلم لا تنظر إلى عظيم فضل الله، ولا تنظر إلى عظيم منة الله؟ إن الأمر قد بدا فيه كثير من الخير والأمل: في كل عين يقظة وبكل دمـ ع صحوة كالنشر كالطوفان وإذا العروبة راية معقودة لله للتوحيد للفرقان وإذا شعوب المسلمين عزيمة من سفح تطوان إلى اليابان ألم تر اليوم مسلمين ما كنا نسمع بهم من قبل، يصلون لله في أقاصي الصين في شرق الأرض، ويصلون لله سبحانه وتعالى في أقصى بلاد الغرب؟ ألم تر مسلمين ما كنا نعرف بلادهم، ولا كنا نسمع عن أحوالهم، عاشوا دهوراً طويلة تحت حكم الشيوعية أو تحت حكم أي ذلة كفرية، ثم بعد السنوات الطوال، وبعد الاضطهاد العظيم، وبعد البلاء المتواصل خرجوا من تحت الأرض مسلمين، وانبعثوا بعد هذه السنوات مؤمنين، ولله موحدين، ولراية دينه رافعين؟ إن هذا أمل عظيم، وخير عميم، ألا ترى اليوم جهاد المسلمين قد انبعث في كثير من البقاع الإسلامية، جهاداً خالصاً لله عز وجل يرفع راية الإسلام؟ إنها آمال عريضة في أحوال الأمة ينبغي ألا تقنطنا من رحمة الله عز وجل، وينبغي أن ندرك أن وراء الشدة فرجاً، وأن بعد الضيق مخرجاً، وأن مع اليسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. فليفعل أعداء الإسلام بالأمة ما شاءوا، فإن في القلوب إيماناً يستعصي على الانتزاع، وإن في النفوس يقيناً يستعصي على الشك والارتياب، وإن في الأعمال بإذن الله عز وجل مواصلة ومضاعفة، حتى يأذن الله أن تعود للأمة وحدتها من بعد فرقتها، وقوتها من بعد ضعفها، وعزها من بعد ذلها، وما ذلك على الله بعزيز.

شهادة التاريخ بالعاقبة للمتقين

شهادة التاريخ بالعاقبة للمتقين وانظر أخي المسلم إلى التاريخ يصدقك هذه الأنباء، إن المسلمين قد مرت بهم أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، لا تقل عما يحل بهم اليوم، ألم تسمع عن جيوش التتار الغازية البربرية الوحشية المدمرة الفتاكة التي ما تركت أخضر ولا يابساً، والتي أتت على كل معنى من معاني الإنسانية، ودمرت كل معلم من معالم الحضارة البشرية، ألا ترى تلك الأحوال؟ ألم تقرأ عن دخول التتار إلى بغداد سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة؟ قال ابن كثير في تاريخه: إن عدة من قتلوا في بغداد في ذلك الوقت نحو ثمانمائة ألف نسمة، ويذكر في رواية أخرى أنهم يزيدون عن ألف ألف، أي عن مليون. قال: قتلوا حتى هربوا إلى بيوتهم، ثم دخلوا عليهم في بيوتهم حتى صعدوا إلى أسطح منازلهم، ثم قتلوا حتى صبت ميازيب بيوتهم من دمائهم، وبقوا أربعين يوماً يستحر فيهم القتل من أولئك التتار الكفرة الهمجيين. ثم ماذا بعد ذلك أيها الإخوة؟! بعد عامين اثنين فقط، في الخامس والعشرين من شهر رمضان، في يوم جمعة أغر للعام الثامن والخمسين وستمائة للهجرة كانت معركة عين جالوت، عندما عادت الأمة إلى ربها وتوحدت في بعض صفوفها، وأخلصت في كثير من المعاني لربها، جاءت عين جالوت لتكون نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، ودحراً وكسراً للتتار المعتدين. ثم بعد ذلك دخل التتار في دين الله أفواجاً وصاروا مسلمين، بمقياس العقل والمادة، لا يمكن لأمة هزمت مثل هذه الهزيمة وحلت بها مثل هذه المصيبة أن تقوم لها قائمة، أو أن ينشط لها أبناؤها في هذه الفترة الوجيزة من الزمان. فينبغي ألا يكون هناك يأس، فالأمل في الله عز وجل عظيم، والأمل كما أشرت يحتاج إلى العمل، انظر أخي المسلم إلى ما قص الله عز وجل علينا من شأن الأنبياء والمرسلين المصلحين، الذين يغيرون الأحوال بأمر الله سبحانه وتعالى لما بعثهم وأرسلهم إلى أقوامهم: نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما خالطه يأس ولا فتر عن العمل، ولا انقطع منه الأمل، ولذلك حتى في الوقت الذي كان الطوفان قد بدأ ما زال عنده أمل في ابنه: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا} [هود:42]، يناديه إلى اللحظات الأخيرة إلى الثواني الأخيرة! والنبي صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا له: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، فظل موصولاً بالله سبحانه وتعالى طول عمره، وخرج بعد أن صدت مكة عنه إلى الطائف، ثم وجد بها ما وجد من الأسى ومن المعارضة فرجع، ثم جاءه ملك الجبال مبعوثاً من الله عز وجل يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: (لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت)، فيقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، الموصول القلب بالله، العظيم الثقة بالله، العظيم الأمل في وعد الله، الذي يحب الخير للناس: (لا، ولكن لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز وجل)، وقد كان كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. ألم نر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من مكة مهاجراً مطارداً ثم لم يلبث أن عاد إليها بعد أعوام قليلة فاتحاً منتصراً؟

لا قنوط من رحمة الله

لا قنوط من رحمة الله أيها الإخوة الأحبة! ينبغي أن يكون في نفوس المسلمين أمل عظيم في الله سبحانه وتعالى. وهنا أمر آخر يقع لبعض أهل الإيمان والإسلام، ممن غلبت عليهم الشهوات، وممن غرقوا في بحار المعاصي والسيئات، وإذا بهم تأتيهم وساوس الشيطان، وأوهام النفس الأمارة بالسوء فتقول: قد تدنست بالخطايا، وغرقت في مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، فأنى لك النجاة؟ وكيف لك الخلاص؟ قد سدت الأبواب، وانقطعت الأسباب، ويأتي الشيطان ليقعدك وعندك ما هو أعظم من كل هذه المعاصي، عندك إيمان في قلبك، وتوحيد بالله سبحانه وتعالى، يأتي ليسد عليك الأبواب، وليدخل على قلبك اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، ولتنقطع عن إخوانك المسلمين، ولئلا يكون لك دور في نصرة هذا الدين، بحجة وهمية؛ وهي أنك قد وقعت في المعاصي. وانظر أخي المسلم! إلى الأمر الذي يبدد هذا اليأس، ويبعث الأمل قوياً موصولاً في نفسك، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، آية من أعظم آيات الرجاء في القرآن: (قُلْ يَا عِبَادِيَ) سماهم عباداً له؛ لأنهم موحدون لأنهم مؤمنون وإن كانوا عصاة خاطئين: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) أي: في المعاصي والشهوات والملذات والمخالفات، (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) لا تقنطوا من رحمة الله مهما تعاظمت ذنوبكم! ليس ذلك دعوة لارتكاب المعاصي، وإنما دعوة لمن قد وقع ليخرج من هذه الورطة والوقعة. (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) ما خلا الشرك، في الحديث القدسي الصحيح عن رب العزة والجلال: (ابن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا بملء الأرض معاصي وذنوب وخطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لقيتك بقرابها مغفرة)، إن هذا الأمر يحتاج منك إلى التوبة والاستغفار، ثم إلى مواصلة العمل في مرضاة الله سبحانه وتعالى. يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) (إن الله إذا بقي الثلث الأخير من الليل ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟)، وذلك الدهر كله (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، وفي حديث آخر صحيح أيضاً: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم تطلع الشمس من مغربها). فضل الله عظيم، والأمل في رحمته كبير! وفي سنن النسائي وأبي داود وابن ماجة وعند الإمام أحمد بسند صححه بعض أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)، توبوا إلى الله واستغفروه في اليوم والليلة مائة أو سبعين مرة، فقد كان ذلك فعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلا يأس من روح الله، ولا يأس من رحمة الله، حتى وإن كنت من العصاة.

الأمل في رحمة الله عند الضيق والشدائد

الأمل في رحمة الله عند الضيق والشدائد وأمر ثالث أيضاً يدخل به اليأس والقنوط على نفوس بعض الناس: عندما تضيق بهم الأحوال، وتقل في أيديهم الأموال، وتنسد طرق الرزق أمامهم وأمام سعيهم، فإذا بالرضا عن قضاء الله لا يلج إلى قلب أولئك، فتجدهم متكدرين معترضين ساخطين، غير متأملين في نعم الله عليهم، وغير متفائلين في الأمل الذي يمكن أن يفتحه الله عز وجل في مستقبل الأيام. وما ينبغي أن يكون هذا حال المؤمن، فإن نعمة واحدة من نعم الله عز وجل عليك لا يكفيك عملك كله شكراً لها، فإذا وجدت شيئاً من الضيق في باب من الأبواب، فانظر إلى الصحة التي آتاك الله إياها، وانظر إلى السلامة والأمن الذي هيأه الله لك، وانظر إلى الأولاد الذين رزقهم الله إياك، وانظر إلى ما سلف من الرزق الذي أجراه الله عز وجل بين يديك، وانظر إلى القليل الذي آتاك الله عز وجل كيف بارك لك فيه، وانظر إلى غيرك ممن هو أدنى منك في أبواب الرزق؛ لتذكر نعمة الله عليك، ولتشكر الله سبحانه وتعالى، وتذكر قوله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] قد أجدبت الأرض، وأقفرت من الماء حتى لم يعد هناك أمل، فإذا الله عز وجل ينزل رحمته. وهكذا هذا الأمر يحتاج أيضاً إلى عمل، يحتاج إلى التضرع والدعاء، يحتاج إلى الصلاة والاستسقاء، يحتاج إلى أن تتعرف على الله في الشدة والرخاء، ينبغي ألا تكون حالك كحال أهل الكفر أو أهل الغفلة والطغيان، الذين لا يلتفتون إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، والذين يطغون بالنعم إذا جاءتهم، ويكفرون بالله عز وجل إذا سلبهم بعض النعم. أما المؤمن فإن أمره كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: كله له خير؛ فإن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، فهو في كل حال من الأحوال على خير. واعلم أن كل بلاء يحل بك أو ضيق يواجهك في حياتك إنما هو تكفير للسيئات ورفع للدرجات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (حتى الشوكة يشاكها العبد المؤمن يكفر الله عز وجل بها من خطاياه)، فاحمد الله عبد الله، ولا تيأس من نعمة الله ولا من رزق الله، ألم تر فقراء من الله عليهم فجأة بسعة الرزق من إرث أو من عمل لم يكونوا يحتسبونه؟ والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] لم نضيق بما قدر الله عز وجل علينا ثم نتنكب الطريق ونريد توسعة الرزق من خلال الحرام، فنقبل الرشاوي، ونغش، وندلس، فإذا قيل: لم تفعل هذا؟ قال: لأن أبواب الرزق ضاقت ولم يكن هناك من طريق إلا هذا! فسبحان الله كيف نريد عطاء الله بمعصية الله! وكيف نريد أن يفرج الله عنا ونحن نضيق على أنفسنا ونسد الطريق بيننا وبينه سبحانه وتعالى بمثل هذه المعاصي! وهنا مثل جاء في كتاب الله عز وجل لنأخذ منه الدرس والعبرة من غير ما تطويل كما في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، لما جاءته ملائكة الله، يقول الله جل وعلا: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:52 - 55]. فهذه صورة أخرى: بعض الناس يحرم الولد ويبحث هنا وهنا ثم ينقطع الأمل، والله سبحانه وتعالى قد قص علينا في قصة إبراهيم أنه كان قد بلغ من الكبر عتياً، فجاءته البشارة فلم يصدقها لأول وهلة؛ لأنه لا يعرف هؤلاء المبلغين لهذه البشارة، فلما قالوا: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} [الحجر:55] أي: من عند الله عز وجل، لم يكن عنده أدنى شك في وعد الله عز وجل، وفي البشارة التي بلغها إياه ملائكة الله سبحانه وتعالى. وكم ممن حرموا من الذرية عاشوا سنوات طوالاً ثم رزقهم الله عز وجل! فلا يمكن للمؤمن أن ييأس من أي أمر في هذه الحياة ما دام موصولاً بالله سبحانه وتعالى، وأكثر ما يقع اليأس عندما تحل المحن ويكثر البلاء، ويشتد كيد الأعداء، وتحيط بالمسلم أو بالمسلمين النكبات من كل مكان، هنا يقع في بعض القلوب وهن، ويسري إلى بعض النفوس يأس وقنوط، وينبغي ألا يكون ذلك ممن قلبه معمور بالإيمان، وإن الله سبحانه وتعالى قد قص علينا من قصص الأنبياء والمرسلين ما هو درس وعظة وعبرة في هذا الشأن: فهذا موسى عليه السلام يخرج ومعه بنو إسرائيل من مصر، ويتبعه فرعون وجنوده، ثم يعترضه البحر أمامه، وفرعون بجيوشه وسيوفه وحرابه من ورائه، فإذا ببعض بني إسرائيل ممن لم يعمر الإيمان قلبه ولم تعظم ثقتهم بالله عز وجل: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لا أمل لنا في النجاة مطلقاً، وجاء رد موسى عليه السلام بقدر ما كان على عظيم الأمل وكماله: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] لا يمكن أن تكون هذه هي النتيجة؛ لأن هناك وعداً من الله سبحانه وتعالى، ولم يكن موسى عليه السلام إذ ذاك يعلم كيف سيكون الخلاص؟ هو يعلم أن ثمة خلاصاً لكنه لا يعلم كيف يكون، ثم جاء السبب اليسير: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]، فلما مر موسى ومن معه وجاء فرعون ومن معه أطبق البحر عليهم فماتوا غرقى. والنبي صلى الله عليه وسلم في أثناء الهجرة لما كان مختفياً في الغار وتتبع قصاص الأثر أثره وأثر أبي بكر حتى وقفوا على فم الغار. يقول أبو بكر: (لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟). وانظر إلى صحابة النبي رضوان الله عليهم عندما حلت بهم بعض الهزيمة في أحد: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وانظر إليهم في الأحزاب وقد اجتمعت عليهم ظروف عصيبة ورهيبة: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. هكذا كان أملهم في الله عز وجل، إنهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة، إنهم مستقيمون على أمر الله، ثابتون على دين الله، يعلمون أن الفرج من عند الله سبحانه وتعالى، فينبغي ألا يسري اليأس إلى نفوسنا، وألا يداخل القنوط قلوبنا، فإن الأمل في الله عظيم، وإن الخير في أمة الإسلام عميم. أسأل الله عز وجل أن يفرج هموم المسلمين، وأن ينفس كروبهم، وأن يعجل نصرهم، وأن يقرب فرجهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

صور من الواقع تبعث الأمل في النفس

صور من الواقع تبعث الأمل في النفس الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى تعظيم الثقة بالله، وعقد الأمل في عطاء الله سبحانه وتعالى، وإن اليأس عند الشدائد -كما قلت- هو الذي يحيط بكثير من أحوال الأمة اليوم، ولنا عبرة فيما سلف من قصص الأنبياء والمرسلين وفي سير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن صور الثبات التي تقع في واقع الأمة اليوم لتبعث الأمل عظيماً، فإننا نرى شدة، وإننا نرى وحشية واعتداءً وبغياً، وكل تحطيم لمعاني الكرامة الإنسانية، ومع ذلك نجد -بحمد الله عز وجل- عند كثير من إخواننا المسلمين المعذبين المضطهدين المظلومين لجوءاً إلى الله عز وجل، وعودة إلى الله سبحانه وتعالى، وانقطعت آمالهم وانقطع رجاؤهم إلا في الله سبحانه وتعالى، وهنا يحصل الأمر الذي ينبغي أن يكون وهو أن يدب اليأس لا إلى المسلمين، وإنما إلى الكافرين، أن يأتيهم اليأس أنه لا أمل في تغيير المسلمين عن إسلامهم، ولا في نزع إيمانهم، ولا في تغيير صلتهم بالله وارتباطهم، ولا في تقطع أواصرهم، فعندما ابتلي المسلمون في البوسنة أو في كشمير أو أي مكان ماذا كان قولهم؟ دعاء لله، ثم اتصال بإخوانهم المسلمين، هكذا كان الأمر، ولذلك يقول الله جل وعلا: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3]، ما معنى هذه الآية؟ قال ابن كثير في تفسيره: أي: أن المشركين قد يئسوا أن يرجع أهل الإسلام عن إسلامهم، في أول الأمر كانت قريش تغري بالأموال، ثم بعد ذلك صارت تلهب بالسياط، ثم بعد ذلك صارت تضيق بالحصار، كل ذلك أملاً في الارتداد، وفي أن يرجع المسلمون إلى كفرهم وشركهم. لما فشلت كل هذه المحاولات دب اليأس في قلوب الأعداء أنه لا أمل فيمن خالط الإيمان قلبه، لا أمل فيمن سجد لله سجدة إذا ثبت بإذن الله عز وجل على إيمانه، ورسخ بقدمه على طريق رضوان الله سبحانه وتعالى، وهكذا ينبغي أن يكون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك في معنى آخر عندما قال: (إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم). وهذا الأمر ينبغي أن يكون عندنا شيء كبير من الأمل، وينبغي لك أخي المسلم ألا تكون موصوفاً باليأس؛ لأنه صفة أهل الكفر كما قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23]. ينبغي لك ألا تكون كحال الإنسان إذا كان مجرداً عن الإيمان مما أخبرنا به الله عز وجل في القرآن عندما قال جل وعلا: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود:9 - 10]: قال ابن كثير في تفسيره عن حال هذا الإنسان بلا إيمان: إذا وقعت له شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة للمستقبل، وكفر وجحود بالنسبة لماضي الحال، كأنه لم ير خيراً من قبل قط، وحال الإنسان كما قال الله جل وعلا: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49]، يدعو الله بالمال وبالأولاد وبسعة الرزق، ويعطيه الله عز وجل ما قدره سبحانه وتعالى، فإذا أخذ منه بعض نعمه إذا هو يئوس قنوط. ينبغي ألا يكون هذا حال المسلم، ينبغي أن تكون أخي المسلم راضياً بالقضاء، شاكراً على النعماء، صابراً على الضراء، مواظباً على الدعاء، مؤملاً في الله سبحانه وتعالى في الشدة والرخاء، ينبغي أن تكون دائم الصلة بالله عز وجل، وإن الفجر بعد الليل لا بد أن يطلع، وإن النور بعد الظلام لابد أن يسطع، حقيقة كونية لا شك فيها. وانظر إلى قصة يوسف وأبيه يعقوب عليهما السلام، بعد أن ذهب يوسف ومرت به سنوات لا يعرفون له خبراً، ولا يأتيهم عنه ذكر من قريب ولا بعيد، ثم بعد ذلك يأتي ابنه الثاني ويقبض عليه العزيز في قصة السرقة المعروفة، ثم يرجع الأبناء وقد يئسوا، فيقول يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، قبل ذلك قالوا له: (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:85 - 86]، بث شكواك إلى الله، وأصغ بما حل بك إلى الله، واترك الأمر لله، فإن الله جاعل لكل أمر ولكل ضيق مخرجاً بإذنه سبحانه وتعالى، ولكن الآمال كما أشرت تحتاج إلى الأعمال، ولا بد أن نعرف أن العاقبة للمتقين: أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد فأطلق لروحك إشراقها ترى الفجر يرمقنا من جديد فالله الله في الأمل في الله، والله الله في الرجاء في الله، والله الله في الأعمال من التوبة والاستغفار، ومن التضرع والدعاء، ومن البذل والسخاء، ومن العمل لكل ما يحبه الله ويرضاه، والعمل لكل ما من شأنه رفعة هذه الأمة، ونصرة هذا الدين، حتى يعود العز المفقود، والوحدة الضائعة، والقوة المبددة، وما ذلك على الله بعزيز، وقد نصر الله عز وجل أهل الإيمان، ووعده قائم: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقاعدته التي جعلها بشرى لأهل الإيمان قاعدة مطردة لا تتخلف: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، ولكنه جعل لذلك شروطاً وجعل له قواعد وسنناً: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم اجعلنا من العاملين بالطاعات، والمبتعدين عن المعاصي والسيئات، والمسارعين إلى الخيرات، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى، وأن تصرف عنا ما لا تحب وترضى، اللهم إنا نسأل الثقة بك، والتوكل عليك، والإنابة إليك، والرجاء فيك، والخوف منك، والإخلاص لك، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك، وأفقر الفقراء إليك، وأغننا بفضلك عمن أغنيته عنا، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة يا رب العالمين! اللهم قد تبرأنا من حولنا وقوتنا إلى حولك وقوتك يا رب العالمين! اللهم فأمدنا بالإيمان واليقين، اللهم وأمدنا بالعمل لهذا الدين، اللهم ووفقنا لنصرة إخواننا المسلمين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا، وأن تثبت على طريق الحق أقدامنا، وأن تجعل الجنة مأوانا ومتقلبنا يا رب العالمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم عجل فرجنا، وقرب نصرنا، ونفس كربنا، اللهم اغفر سيآتنا، وامح زلاتنا، وأقل عثراتنا، وتقبل حسناتنا، وارفع درجاتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، والشيوخ الركع، والأطفال الرضع، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم مشردون فسكنهم، اللهم رضهم بالقضاء، وصبرهم على البلاء، اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم رد كيد أعدائهم في نحورهم، واجعل تدبير أعدائهم تدميراً عليهم يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر الجلي، والمقام العلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

المسلم بين البذل والبخل

المسلم بين البذل والبخل البذل والكرم من الصفات الحميدة التي جاء الشرع بمدحها والحث عليها، وذلك لما لها من الآثار العظيمة النافعة على الفرد والمجتمع، وبالعكس من ذلك فقد جاء بذم البخل والتنفير منه، وذلك لما له من الآثار السيئة، فعلى المسلم أن يبذل في وجوه الخير كل ما يستطيعه من أنواع البذل، ويجب عليه أن يحذر من داء البخل؛ فإنه داء عضال.

مسارعة المؤمنين إلى مرضاة الله

مسارعة المؤمنين إلى مرضاة الله الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور الليل على النهار ومكور النهار على الليل، نحمده سبحانه وتعالى هو ذو الجود والكرم، وهو واهب النعم، نحمده كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد في الأولى والآخرة كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، دعانا إلى الطاعة والإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ووعد المستجيبين المتقين بالنعيم في الجنان، وتوعد الجاحدين المخالفين بعذاب النيران. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المسلمون! " المسلم بين البذل والبخل" هو موضوع حديثنا في هذا المقام، نستكمل به الأضواء على ملامح الشخصية الإسلامية، ولابد أن ندرك ابتداءً أن هذه الحياة الدنيا في تصور الإسلام وفي يقين المؤمن إنما هي دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، ومن ثمَّ فإن هذا التصور يجعل التعلق بالحياة الدنيا والبذل فيها يخضع لهذا التصور الإيماني الإسلامي الذي يجعل الآخرة أوكد الهمَّ، والذي يجعلها غاية الغايات، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]. إن المسلم في حقيقة إسلامه وإيمانه باذل منفق معطٍ في كل ما يحبه الله ويرضاه وفي كل باب من أبواب نصرة دين الله، وفي كل ميدان من ميادين الدعوة إلى الله، وفي كل موقع من مواقع الجهاد في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى قد جعل سمة أهل الإيمان والتقوى الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى والبذل في مراضيه جل وعلا، فقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:2 - 3]. وأهل التقوى هم الذين ذكر الله عاقبتهم ومثوبتهم عنده سبحانه وتعالى فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وأول وصف من أوصافهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، والله جل وعلا عندما جعل هذا الوصف سمة لأهل الإيمان جعل الإنفاق عاماً مطلقاً فقال: (ينفقون في السراء والضراء).

أوجه البذل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

أوجه البذل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالضرورة أن يكون البذل محصوراً في المال وحده، وإنما المسلم يبذل من علمه، ويبذل من وقته، ويبذل من جهده، ويبذل من سماحة نفسه، وأعلى أنواع البذل وأرفعها أن يبذل نفسه وروحه رخيصة في سبيل الله عز وجل.

بذل المال لوجه الله تعالى

بذل المال لوجه الله تعالى وهنا كان بذل أهل الإيمان في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكان بذله عليه الصلاة والسلام أيضاً في شأن المال هو أعظم أنواع البذل، فهذا ابن عباس رضي الله عنه يصف المصطفى عليه الصلاة والسلام وصفاً عجيباً فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة). قال الشاعر: ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم وقال آخر: لو لم تكن في كفه غير نفسه لجاد بها فليتق الله سائله فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، ولا يمنع مالاً، بل قد تجوز مرة في صلاته وأسرع فيها، ثم انفتل خارجاً من المسجد، ثم غاب في بيته، ثم خرج إلى الصحابة فرأى علائم الاستفهام والاستغراب مرسومة على وجوههم فقال: (إني ذكرت شيئاً من تبر -أي: ذهب- فخشيت أن يحبسني، فأنفقته في سبيل الله). ومضى الرسول الكريم الذي دانت له الدنيا وجاءته الخيرات من كل مكان إلى ربه ومولاه ودرعه مرهونة عند يهودي في بعض طعام كان يأخذه عليه الصلاة والسلام، وكان يمر الهلالان والثلاثة -كما تقول عائشة وما يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وما كان ذلك عن فقر وحاجة، وإنما كان عن بذل وإنفاق وسماحة في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30] فهذا وصف أهل الإيمان، وهذا وصف أهل القرآن أنهم يرجون تجارة لن تبور، أرباحها أضعاف مضاعفة، وتأمينها عند من لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى.

بذل النفس في سبيل الله

بذل النفس في سبيل الله وأيضاً كان عليه الصلاة والسلام يرسم لنا صورة البذل في أمر النفس والروح في الجهاد في سبيل الله، فكم من غزوة خرج فيها وكان قائد المسلمين ومقدمهم! وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشجع الشجعان وفارس الفرسان يقول: (كنا إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكون في المقدمة عند مواجهة الأعداء، ولم يكن عليه الصلاة والسلام من الجبناء، وفي يوم حنين ارتبكت جيوش المسلمين، وجاء أولها على آخرها، ومقدمها على مؤخرها، واضطربت الصفوف، ورجع أهل الفتح من المسلمة الذين لم يثبت إيمانهم بعد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء له يقال لها: دلدل. والبغلة ليست من الدواب التي تسرع حتى تكون دابة هروب وفرار، بل هي دابة استقرار وقرار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يثبت في مكانه ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب). ثم يدعو العباس لينادي أهل الهجرة وأهل بدر، حتى تجمع الناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى عظيم حديثه عليه الصلاة والسلام الذي أخبر فيه عن بذل النفس والروح في سبيل الله، وأنه لا يتمنى إلا أن يقتل في سبيل الله، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثانية، ثم تعاد إليه روحه، فيقتل في سبيل الله ثالثة، وذلك لما يرى المجاهد من ثواب الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111]. وانظر إلى هذه الصفقة العظيمة (إن الله اشترى) فالمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وقد اشترى الأنفس قبل الأموال، فالسلعة هي الروح التي بين جنبيك، هي خفقان قلبك، هي حياتك في هذه الدنيا الدنيئة، ثم الثواب والأجر والقيمة المعطاة: (جنة عرضها السموات والأرض). لما سمع الصحب الكرام ذلك الوعد العظيم من الله سبحانه وتعالى قالوا: لا نقيل ولا نستقيل، هذه بيعة نثبت عليها، هذه صفقة نصر عليها، هذا عهد نمضي عليه حتى آخر لحظة من لحظات الحياة.

بذل بالأخلاق الحسنة للمسلمين

بذل بالأخلاق الحسنة للمسلمين وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يجسد لنا كل صور البذل في أروع مراتبها وأرفع مقاماتها، ويبينها لنا في مقاله وفي حاله الذي نقل لنا من سيرته صلى الله عليه وسلم العطرة. عندما نتحدث عن البذل فإن كثيراً من الناس يحصرونه ويقصرونه في أمر المال، وأؤجل الحديث عنه لما يشيع بين الناس من معرفة أوصافه وما يتعلق به؛ وأتحدث عن أنواع البذل الأخرى التي لا يفقهها كثير من الناس، والتي يقصر فيها كثير من الناس؛ فهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نبذل من سماحة نفوسنا، فهاهو عليه الصلاة والسلام يبين لك أن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأن إدخال السرور على المؤمن من أعظم أبواب الخير والبذل والإحسان، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام صدراً رحباً وسع جميع الصحابة، ووسع الجهلاء والغلظاء من الأعراب، وما ضاق عنهم حلمه عليه الصلاة والسلام، بل وسعتهم أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة، وبذل لهم من عظيم صبره، وبذل لهم من سماحة نفسه عليه الصلاة والسلام. فاستأسر القلوب، وسبى المشاعر والنفوس، وخطف الألباب والأبصار؛ فكان قدوة عظيمة لكل من جاء إليه ولكل من كان معه ولكل من التف حوله، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. وكان عليه الصلاة والسلام يبذل من وقته فهذا سائل يسأل، وذاك مستفتٍ يستفتي، وذاك طالب حاجة يطلب السعي معه في حاجته، وتلك امرأة عجوز لا يؤبه لها تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقوده إلى أي سكك المدينة شاءت؛ حتى يقضي عليه الصلاة والسلام لها حاجتها، فلا يستكبر من ذلك ولا يستنكف، بل يبذل عليه الصلاة والسلام لكل صاحب حاجة ما يليق بحاجته.

بذل الدعوة وهداية الناس

بذل الدعوة وهداية الناس ثم بذل عليه الصلاة والسلام في باب عظيم من أعظم الأبواب التي يقل فيها البذل، وهو بذله في الدعوة وهداية الناس، وإرشادهم إلى الخير، وحرصه على أن يمنعهم من الوقوع في الهلاك والتردي في عاجل دنياهم وعاقب أخراهم، فهو عليه الصلاة والسلام لم يترك موقفاً من المواقف ولا مجمعاً من المجامع ولا بقعة من البقاع إلا وسعى ليوصل إليها دعوته، فكان في الفترة المكية يغشى مجالس قريش وصناديدها، مع أنهم كانوا أهل علو واستكبار وأهل إيذاء وإهانة للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. وكان صلى الله عليه وسلم يلقي دعوته لله سبحانه وتعالى، فيبذلها للضالين والكافرين والمعرضين فضلاً عن المقبلين والراغبين والطالبين، وما كان صلى الله عليه وسلم يمنع شيئاً من علم وهدى وإرشاد، بل كان يسعى إلى بذله؛ حتى كان يتتبع القبائل في مواضعها؛ فخرج إلى الطائف، ثم هاجر إلى المدينة، ثم مضى بعد ذلك مرة أخرى إلى الطائف فاتحاً، ثم مضى مجاهداً، ثم أرسل الكتب إلى الملوك من حول الجزيرة كلها، وكانت نفسه تتقطع حسرات على ضلال الضالين وكفر الكافرين، حتى قال جل وعلا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أي: أنت مهلك نفسك في إثر أولئك القوم المعرضين تريد أن تردهم عن موارد الهلاك، كما أخبر عن نفسه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش والدواب يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار).

اقتداء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم برسول الله في البذل

اقتداء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم برسول الله في البذل ولذلك أخذ الصحابة من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخصلة العظيمة؛ خصلة البذل في سبيل الله عز وجل بكل صوره وأشكاله، فإذا بالصحب الكرام باذلون في سبيل الله عز وجل أموالهم وأوقاتهم وعلمهم ودعوتهم وأنفسهم التي بين جنوبهم، فهذا مثل عظيم من الأمثلة التي فيها أروع صور البذل لفرد واحد من مدرسة النبوة العظيمة: وهو أنس بن النضر رضي الله عنه، وذلك عندما لم يتهيأ له أن يشهد بدراً، خرج في أحد وقال: (ليرين الله ما أصنع). وهذا تهييج للنفس، وقطع للأمل، وإعلان للبذل في سبيل الله عز وجل، فلما دارت الدائرة وشاع في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال: (فعلامَ الحياة من بعده؟ موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم مضى منطلقاً يخترق الصفوف، ويعانق السيوف، ويدخل بين أهل الكفر، يجندل منهم يميناً وشمالاً، وهو يقول: (واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد). وانظر إلى بذل الصديق رضي الله عنه الذي سخر ماله كله خدمة لدين الله ونصرة لدعوة الله، فإذا به يعتق الأرقاء ممن أسلموا في مكة، وإذا به يجهز موكب الهجرة، وإذا به في يوم تبوك يأتي بماله كله، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله)، هكذا كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم. وهذا عمر الفاروق كان من أعظم الباذلين من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بذل من مشاعره رحمة وشفقة ورعاية لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، فكان يسأل عن صغيرهم، ويتحرى شأن كبيرهم، وينظر في كل شئونهم، ولا يطمئن له جنب ولا تغمض له عين إلا أن يبذل كل ما يستطيع من طاقة وجهد نصحاً لأمة الإسلام والمسلمين، وحرصاً على مصالح المسلمين. وهكذا كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم يضربون الأمثلة، والمقام يضيق عن ذكر الأمثلة فضلاً عن الإحصاء أو الاستقصاء.

وعد الله عز وجل بالإخلاف على من أنفق في الخير

وعد الله عز وجل بالإخلاف على من أنفق في الخير المسلم باذل من نفسه ومن ماله، والوعد من الله عز وجل قائم مطلق لا يتخلف، قال عز وجل: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، أي: وما أنفقتم من شيء قليل أو كثير مال أو غير مال فهو يخلفه، فمهما أنفقت يعوضك الله إياه. وانظر إلى علماء الإسلام كم بذلوا من أوقاتهم! وكم أفنوا من أعمارهم! وكم أذهبوا من نور أبصارهم فيما يتعلق بالعلم الشرعي الذي يبلغونه لأمة الإسلام من بعهدهم! فانظر رحمك الله ما أخلف عليهم الله من مباركة الأوقات، فجاءونا بالكتب المطولات والموسوعات التي لا نستطيع اليوم أن نقرأها فضلاً عن أن نفهمها، فضلاً عن أن ننشئ مثلها أو قريباً منها. والله عز وجل وعد أنك إن أنفقت أو بذلت شيئاً في سبيل الله أن يخلفه، فالإخلاف هو من الله سبحانه وتعالى، والتعويض هو من الله جل وعلا، وكل شيء تبذله يأتيك عاجله في الدنيا -بإذن الله عز وجل- قبل الآخرة.

بذل أعداء الإسلام أموالهم في الصد عن سبيل الله عز وجل، وواجب المسلمين تجاه ذلك

بذل أعداء الإسلام أموالهم في الصد عن سبيل الله عز وجل، وواجب المسلمين تجاه ذلك والله سبحانه وتعالى قد بين لنا كل هذه الجوانب، وبين لنا أن أمر الإنفاق والبذل عظيم، وأنه ينبغي للمسلمين ألا يتخلفوا عنه في الوقت الذي يتسابق فيه أهل الكفر فيبذلون أموالهم، ويبذلون عصارة أفكارهم، وخلاصة عقولهم، وذروة علومهم؛ ليكون ذلك في مواجهة الإسلام والمسلمين. ثم أريد أنا وأنت أن نصد عدوان المسلمين وأن ننصر المسلمين، ونحن لا نخرج شيئاً من أموالنا! ولا نبذل قليلاً من أوقاتنا! ولا نريد أن نتعب أجسادنا! ولا نريد أن نقلق راحتنا! ولا نريد أن نفارق زوجاتنا وأولادنا! أي شيء هذا؟! قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36] فقال: (ينفقون) أتى بصيغة المضارع التي تدل على الاستمرار في كل زمان ومكان وحال، فهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، ولكن: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. لكن أين الذين ينفقون ليدعوا إلى سبيل الله، بل لينصروا دين الله. إن هذا لا يمكن أن يواجه إلا ببذل مماثل، كما كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وأسلاف أمتنا من الأئمة الأعلام الذي شرقوا وغربوا في طلب العلم، والذين شرقوا وغربوا في الجهاد في سبيل الله، والذين شرقوا وغربوا لينصروا دين الله عز وجل، كل ذلك ينبغي أن نعيه، وأنه خصلة أساسية من خصال المسلم الحق، فإنه منفق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وباذل لنصرة دين الله.

ذم البخل وأهله

ذم البخل وأهله أما البخل فليس من شأن أهل الإيمان في شيء، وأما الإقتار والتردد والتخاذل فلا يليق بالمسلم سيما عندما يتعلق الأمر بالأمة والدين، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: (إن الولد مبخلة مجبنة) وهذا يبين لنا بعضاً من العوائق التي تشد إلى الأرض، وتشغل بالدنيا، وتحول دون البذل في سبيل الله. إن الأبناء مبخلة، أي: عن الإنفاق والبذل في سبيل الله، (مجبنة) أي: عن الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، قال عز وجل: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، يبين الله جل وعلا لنا هذه المعاني حتى ندرك أننا نحتاج إلى أن نفك القيود؛ لتكون نفسونا مهيأة للبذل في سبيل الله، فما بالنا نبذل من الأوقات أطولها وأفضلها لنحصل معاشنا، ثم نبخل أن نبذل من الأوقات شيئاً يسيراً نسعى فيه في الخير وننصر به أهل الإسلام، ونسعى فيه لمعاونة مسلم، أو لإغاثة ملهوف، أو لتعليم جاهل، أو لدعوة غافل؟! وما بالنا نبذل من أموالنا أكثرها وأشرفها في مآكلنا ومشاربنا وبيوتنا ودورنا ومظاهرنا الزائفة، ثم نبخل أن ننفق في سبيل الله سبحانه وتعالى. وما بالنا نجهد ونرهق في أمور الدنيا، وربما في أمور اللهو والمتاع، ثم لا نريد أن نتعب ولو يسيراً، وأن نعرق ولو قليلاً، ونحن نسعى في طاعة الله ومرضاة الله؟ إن المسلم شأنه البذل، وينبغي أن يجتنب البخل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. أسال الله جل وعلا أن يجعلنا من الباذلين في سبيله، ومن الناجين من البخل في كل باب من أبواب الخير، ونسأله جل وعلا أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

المنفق والبخيل عند الله

المنفق والبخيل عند الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله عز وجل أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى البذل في سبيل الله، وأقف بكم مع مثل ضربه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليبين لنا صورة البذل وصورة البخل، ولنستخرج من هذا المثل الآثار النفسية والحسية والدنيوية والأخروية لأمر البذل من جهة، ولأمر البخل من جهة أخرى. في صحيح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما) أي: هذه الحلة سابغة وضيقة، وحسبك بهذا الوصف والتشبيه الأولي، ثم انظر إلى أثر البذل وأثر البخل، يقول: (فكلما هم المتصدق اتسعت بصدقته-أي: توسعت وتفسحت عليه- حتى تغشى أنامله -أي: تطول حتى تصبح قد وصلت إلى أنامله- وتعفو أثره) أي: كلما مشى كان طولها يمحو الآثار من وراءه. ومعنى هذا التشبيه: أن هذه السعة هي سعة الرزق، وسعة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وهي السماحة واليسر، وهي التوفيق والسداد، وكأن المسلم المنفق إذا وفقه الله كلما رفع حجراً وجد تحته ذهباً، وكلما طرق باباً وجد وراءه رزقاً، إنه وعد من الله عز وجل ووعد من رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما نقص مال من صدقة). فالجبة تتسع على المنفق حتى تعفو أثره، ومعنى عفو الأثر في هذا الحديث: محو الآثام والسيئات. قال: (وما يزال البخيل يبخل، وكلما همَّ بصدقة ثم امتنع عنها قلصت عليه -أي: هذه الحلة أو الجبة- وضاقت كل حلقة بمكانها) أي: تضيق ضيقاً شديداً، فإذا بهذا الضيق هو ضيق في الرزق، وضيق في الصدر، وضيق في الحال، وضيق في السعادة، فلا تجد إلا هماً متراكباً، ولا تجد إلا فقراً متتابعاً، ولا تجد إلا غضباً متوالياً، وهذا أثر من آثار ترك الإنفاق في سبيل الله عز وجل، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فلو رأيته -أي: عليه الصلاة والسلام- يوسعها فلا تتسع. فالذي لا ينفق يريد أن يبحث عن أبواب الرزق ويريد أن يزيد من المال، فإذا بالله عز وجل يسلط عليه من النكبات ما يمحق بركة المال ويذهب أثره الذي ينتفع به، وإن لم يحصل شيء من ذلك أو كثير منه فالعاقبة الأخروية جديرة بالمؤمن أن يتأمل فيها، وأن يفكر فيها، وانظر إلى ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10]. وتأمل كيف يكون التيسير للعسر، فإن الله جل وعلا يجعل ذلك بصور وأشكال قد يفقهونها وقد لا يفقهونها، والله جل وعلا يقول: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180]، فلا تظنه خيراً لك بأن يزداد رصيدك، وتؤمّن مستقبلك، بل هو شر لك إن لم تخرج حق الله، وإن لم تحرص أن تغالب نفسك لتنفق أكثر في سبيل الله. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مضرة عليه في دينه.

الحث على البذل في أبواب الخير

الحث على البذل في أبواب الخير يقول الله جل وعلا في آيات متتابعات من سورة محمد: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36]، قال ابن كثير: الله جل وعلا غني عنكم، لا يطلب منكم شيئاً، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء؛ ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجع ثوابه إليكم. ثم يقول الله جل وعلا: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، وكلنا من خلق الله جل وعلا، وكل الرزق من عنده، وكل ما في الدنيا وباطنها وظاهرها وما بين السماء والأرض له جل وعلا، ولو أنه أمرنا أن ننفق مالنا كله وأن نعطي كل ما لدينا لكان في ذلك حرج، ولنتج عنه بخل، لكنه سبحانه وتعالى ما جعل ذلك إلا بقدر يسير، وليس إلا لإخوان لك في الإيمان والاعتقاد من ذوي الحاجات؛ ليعود النفع إليك، ويكتب الأجر والثواب لك. قال قتادة: قد علم الله سبحانه وتعالى أن في إخراج المال إخراج الأضغان، وتنشل به الأحقاد من القلوب، وينتزع به الحسد من النفوس، ويحصل به الوئام والمحبة والتكافل والتعاون بين أهل الإسلام، ولذلك يقول ابن كثير في هذا: صدق قتادة؛ فإن المال محبوب إلى النفس، ولا يمكن أن يخرجه الإنسان إلا إلى محبوب أعظم منه، وهو حبه لله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]. ثم يقول جل وعلا: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38]، يقول ابن كثير: إنما نقص نفسه من الأجر، وإنما يعود وباء ذلك عليه، كما مر بنا في تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} [محمد:38] أي: عن كل ما سواه سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد بسط في هذه الآيات الصور الكثيرة التي تحذر وترهب المسلم من أن يكون من البخلاء غير الباذلين في سبيل الله عز وجل. وفي صحيح البخاري وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثل له -أي: يوم القيامة- شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه -يعني: بشدقيه- فيقول: أنا مالك). والأحاديث في ذلك كثيرة.

البخل صفة من صفات أهل النفاق

البخل صفة من صفات أهل النفاق واعلم أخي المسلم أن البذل هو صفة المسلم، وأن البخل هو صفة أهل النفاق، فاربأ بنفسك أن تكون منهم، والله جل وعلا يقول في شأن المنافقين: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]. ويخبرنا الله سبحانه وتعالى عن شأنهم وعن شأن بعض أحوالهم فيقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} [التوبة:75 - 76] والنتيجة: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77] أورثهم وجعل لهم نفاقاً في قلوبهم أي: فساداً في القلوب لما أخلفوا الوعد مع الله، وخلف الوعد مع الخلق من صفة المنافقين، فكيف إذا كان مع الله سبحانه وتعالى؟ فالمسلم لابد أن ينتبه إلى هذه المعاني الخطيرة. وننتبه أيضاً إلى الحديث الذي ورد في سنن الترمذي وعند الإمام أحمد في مسنده، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي)، فصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهمية البذل والإنفاق في سبيل الله عز وجل

أهمية البذل والإنفاق في سبيل الله عز وجل جاء عند الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: (البخيل بعيد من الجنة بعيد من الناس)؛ لأن الجنة تحتاج إلى بذل، وتحتاج إلى أن يدفع الثمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، فلا تنال بالقليل، بل لابد من الكثير، ولا تنال بالتقصير، بل لابد من الحرص على التسديد والمقاربة، كما أخبر عليه الصلاة والسلام، فلذا لابد أن نعود أنفسنا على البذل والإنفاق في سبيل الله عز وجل، والعطاء بكل صوره وأشكاله، بذلاً من سماحة النفوس، وبذلاً من الأخلاق التي يتعودها المسلم، وبذلاً من وقتك، وبذلاً من جهدك، وبذلاً من دعوتك، وبذلاً من علمك، وبذلاً من نفسك بكل ما تستطيع في مرضاة الله سبحانه وتعالى. فأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الباذلين المنفقين، وأن يجعلنا من العاملين لنصرة دين الله عز وجل، والمخلصين له سبحانه وتعالى، والداعين إلى دينه، والمجاهدين في سبيله. نسألك اللهم أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً. اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، ووفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب وترضى، وثبت أقدامنا، وأحسن ختامنا، واجعل عاقبتنا خيراً من عاجلتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعلنا من ورثة جنة النعيم، واقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم زد إيماننا، وعظم يقيننا، اللهم ضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، اللهم امح سيئاتنا، وأقل عثراتنا يا أرحم الراحمين! يا أكرم الأكرمين! يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويأمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد. اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والمشركين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم يا قوي يا عزيز! يا منتقم يا جبار! يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا نسألك اللطف والرحمة لعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والأسرى والمسجونين والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تفرج عن إخواننا في البوسنة وفي الشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم عجل فرجهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل الدائرة على أعدائهم، اللهم اجعل عدوان الأعداء رداً في نحورهم، اللهم واجعل عدوانهم تدميراً لقوتهم، وتقويضاً لدولتهم، وتفريقاً لكلمتهم يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نسألك أن تزيل عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! والحمد لله رب العالمين.

المسلم بين النصيحة والفضيحة

المسلم بين النصيحة والفضيحة للنصيحة منزلة عظيمة في الدين الإسلامي، بل هي الدين كله كما قال ذلك رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، ولها شروط وضوابط ينبغي مراعاتها حتى تؤتي ثمارها؛ فإنها إذا خرجت عن شروطها وضوابطها انقلبت إلى فضيحة، وجاءت ثمارها معكوسة.

تعريف النصيحة

تعريف النصيحة الحمد لله الذي حبب إلينا الطاعة والإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأرشد إلى النصيحة والبيان، وحذر من الفضيحة والبهتان، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد في الأولى والآخرة، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، جعله الله عز وجل خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وبعثه إلى الناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا جميعاً اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موضوع حديثنا هذا هو عن (المسلم بين النصيحة والفضيحة) نستعرض فيه ملامح الشخصية الإسلامية. وقد سلف لنا الحديث على أن المؤمن مبلغ عن الله، وداعٍ إلى دين الله، ومرشد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ناطق بالحق، داعٍ ومرغب في الخير، وهذه السمة هي من أعظم سمات المسلم، والنصح هو أيضاً أمر عظيم يؤدي به المسلم ذلك البلاغ، ويحقق به ما كلفه الله جل وعلا به. فالنصيحة: هي كلمة جامعة لإرادة الخير وحيازته للمنصوح، وأصلها بالاشتقاق اللغوي: من نصحت الثوب إذا خطته، أو من نصحت العسل إذا صفيته، فالمقصود بها: رتق العيوب، وسد الخلل، والتصفية ونبذ ما لا يليق بالمسلم، وتحذيره من المخالفة، وزجره عن المعصية، وجذبه إلى الطاعة، ليخلص من الشرور والآثام، وليبعد عنه آثارها العظام، وهذا الأمر هو الذي ينبغي أن يتنبه له المسلم. والنصيحة هي من أعظم ما يكلف به المسلم، بل هي الحد الذي لا ينفلت ولا ينفك عنه مسلم، كما قال جل وعلا: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91]. وقد تعجز عن بعض الفعل لعذر شرعي، لكن نصحك لله ولرسوله ونصحك للأمة ولعباد الله، أمر ينبغي أن ينطوي عليه قلبك، وأن ينطق به لسانك، وأن يكون ديدنك في حياتك كلها مع كل إخوانك، بالأسلوب الحسن، وبالمنهج الشرعي، ووفق الهدي النبوي الذي علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الله جل وعلا لنا في قصص الأنبياء والمرسلين شعاراً قاله بعضهم وطبقه كلهم: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68]. والنصح فيه إخلاص وأمانة ومحبة للمنصوح وإرادة الخير له؛ فإنما المسلم هو الذي يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، فإن هداه الله إلى الطاعة وإن وفقه إلى الخير، أحب أن يشاركه سائر إخوانه في تلك الطاعات وفي المسارعة والمسابقة إلى الخيرات.

مكانة النصيحة في دين الإسلام

مكانة النصيحة في دين الإسلام لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مكانة النصيحة، كما في الحديث العظيم المشهور الذي رواه تميم الداري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم). فهذه النصيحة رحبة المدى، متعددة الأنحاء، وهي أمر عظيم في هذا الدين، ولذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) قال أهل العلم: أي: قوامه وعماده وأساسه النصيحة؛ لأن بها سياج لسائر المأمورات؛ ولأن بها حماية من سائر المنكرات، ولذلك قال بعض أهل العلم في هذا المعنى: إن المراد أن غالب الدين يدور على النصيحة، وقد جاءت عنه عليه الصلاة والسلام أحاديث أخرى فيها مثل هذا المعنى، كقوله: (الحج عرفة).

واجب المسلم في النصيحة لإخوانه

واجب المسلم في النصيحة لإخوانه وتأمل تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لكي تقوم بهذه المهمة دون الخروج عما ينبغي أن تكون عليه أثناء أدائها، فهذا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يروي لنا مبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم)، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي زاده في بيعته: (والنصح لكل مسلم). ولنعلم أيضاً الحديث المشهور المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه في ذكر حقوق المسلم على المسلم ومنها: (إذا استنصحك فانصحه أو فانصح له) فهذه حقوق وواجبات، وهذه معالم وسمات ينبغي للمسلم أن يرتبط بها، وأن يحرص عليها، فما معنى نصحك لإخوانك المسلمين؟ وأي دلالة تؤديها هذه الكلمة؟ إنها ليست مجرد كلمات عابرة تقولها أو أمراً أو تذكيراً تقوله مرة واحدة أو في شأن واحد، بل الأمر أوسع من ذلك وأرحب. وأقف بك -أخي المسلم- مع قول الإمام النووي في بيان ما يجب عليك من النصح لإخوانك المسلمين؛ لترى أن في هذا الأمر من العظمة والاتساع والتنوع والتعدد ما هو جدير أن تلتفت له، وأن تعتني به، وأن تبذل فيه من جهدك وطاقتك وعلمك ووقتك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. هذا الإمام النووي رحمة الله عليه يقول في شأن النصيحة للمسلمين: إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، وأن يكره لهم ما يكرهه لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك. فانظر -رحمك الله- إلى عظيم هذه الأمور والواجبات، وإلى ما ينبغي أن يشيع بيننا من النصائح والمواعظ والأمر والنهي؛ فإن ذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه الدين، أي: قوامه وأساسه وغالبه.

فضل المسلم الناصح

فضل المسلم الناصح هذا الفضيل بن عياض أحد أئمة التابعين يبين لنا ويرشدنا فيقول: ما أدرك عندنا من أدرك بكثير صلاة ولا صيام، وإنما أدرك من عندنا بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة. لا يبلغ المسلم المراتب العالية بمجرد كثرة صلاته وصيامه -وإن كان هذا مما يؤمر به- ولكن بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة، فإن هذه هي المعاني الإيمانية القلبية والمعالم التربوية النفسية وأثرها الظاهر في النصح للأمة والإخلاص لها. وعن الحسن البصري رحمة الله عليه أنه قال: لو شئتم أن أقسم لكم لأقسمن: إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، والذين يحببون عباد الله إلى الله، ويمشون في الأرض بالنصيحة. ويقول في مقالة أخرى: يجب عليك لأهل قبلتك أربع: تعين محسنهم، وتحب تائبهم، وتستغفر لمذنبهم، وتدعو لمدبرهم. فانظر -رحمك الله- إلى هذه الكلمات كم فيها من الإشراقات والأنوار، وكم فيها من بيان الإيمان وصفاء القلب، وكم فيها من تهذيب النفس وطهارتها! إن واجبك تجاه إخوانك أن تعين المحسن على إحسانه، وأن تحب التائب لإقلاعه، وأن تكون مستغفراً للمذنب رجاء أن يعفو الله عنه، وأن تدعو المدبر، وأن تسير في إثره، وأن تلح عليه، وأن تلحقه وتدركه علك أن تكون سبباً في إنقاذه من النار بنصحك له ودعوتك له، فهذه كلها من الأمور المهمة.

الفرق بين النصيحة والفضيحة

الفرق بين النصيحة والفضيحة ووقفتنا التي نفرق فيها بين ما ينبغي وما لا ينبغي، وما ندعو إليه وما نحذر منه، وبين ما بين لنا الشارع محاسنه وبين ما حذرنا من مساوئه؛ هي تلك النصيحة عندما تنقلب إلى فضيحة، وعندما يجهر بها في المجالس، وتشاع في المجامع، وتعلن بالصوت المرتفع، وتجبه بالأسلوب السيئ البغيض المنفر، فليست حينئذ تؤدي أثرها، ولا تكون على صواب وسواء في نهجها. فهذا الفضيل بن عياض يبين لنا الفرق فيقول: إن المؤمن يستر وينصح، وإن المنافق والفاجر يهتك ويعير. فإن كنت مؤمناً مخلصاً في محبتك لإخوانك فاستر عليهم قصورهم وعيوبهم، ثم اخلص بالأسلوب الحسن والحكمة والموعظة الحسنة إلى قلوبهم وإلى آذانهم وإلى عقولهم، وانصحهم بالتي هي أحسن، فإن سترك عليهم مظنة قبولهم منك، وإن سترك عليهم عون لهم على الإقلاع عن الذنوب. أما التجرؤ بهتك أستار الناس والتلفظ بمعايبهم على سبيل التنقص والتعيير فليس من النصيحة في شيء، وقد نقل ابن رجب عن السلف أنهم كانوا يقولون: من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره. ونقل عن سلف الأمة أنهم كانوا يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه، أي: على وجه الإعلان والمجابهة وإشهار العيوب، قال: ويحبون أن يكون الأمر سراً بين الآمر والمأمور، فإن هذا من علامات النصح، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها. فإن كنت مخلصاً فما الفائدة في إعلان المعايب؟ وما الذي يرجى من إشهار الأخطاء؟ وإن كنت تريد التغيير ومنع الواقع في المنكر عن منكره فالطريق الشرعي أن تفضي بنقدك له مباشرة، وأن تسر له بالنصيحة بينك وبينه، فإن ذلك أدعى للقبول وحصول التأثير. وبعض الناس بحجة النصيحة يقعون في الفضيحة، وبحجة إحقاق الحق يقعون في عين الباطل، فتجد بعضهم كأنما يذيع نشرة أخبار يقول عن هذا كذا وعن ذاك كذا، وهذا فعل كيت وكيت، وذاك قال كذا وكذا، وقد اطلعت من هذا على هذا وهذا! وما تجلس في مجلس إلا وتسمع منه من الكلمات والفحش ما هو محذور، وما هو خطر جليل عظيم. إن الله جل وعلا يحذرنا بقوله جل وعلا: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]، قال ابن عباس وغيره من سلف الأمة في تفسير هذه الآية: القول الخبيث والكلمات الخبيثة للخبيثين. وقال ابن جرير مرجحاً هذا المعنى: لا يصدر القول القبيح إلا من القبيح، ولا يصدر القول الطيب إلا من الطيب. والنبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي برزة الذي رواه أبو داود والإمام أحمد وسنده صحيح- يحذرنا من هذا تحذيراً لو تأمله المسلم لما تجرأ على هتك أعراض إخوانه وفضحهم بحجج وهمية وبمناهج فيها من الخطأ ما فيها، يقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتتبع عورات المسلمين يتتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته)، فقوله: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه) أي: لم يخلص الإيمان إلى التمكن من قلبه والتأثير في نفسه وظهور آثاره في فعله، قال: (لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتتبع عورات المسلمين يتتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته) فهل بعد هذا البيان من بيان؟ وهل بعد هذا التحذير والوعيد من وعيد؟

المحاذير التي تحصل بسبب النصيحة العلنية

المحاذير التي تحصل بسبب النصيحة العلنية فانظر -أخي المسلم- إلى المحاذير والآثار التي تقع من هذا العمل: إن القائل بالنصيحة على رءوس الأشهاد، والمعلن للأخطاء في المحافل والمجامع، والمكرر لهذا الفعل في سائر أوقاته وأحواله يرتكب أموراً فيها محاذير شرعية كثيرة:

سوء الظن بالمسلمين

سوء الظن بالمسلمين الأمر الأول: سوء الظن بالمسلمين: لأن هذا هو المذهب الذي يدفعه إلى ما بعده، والله جل وعلا قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، وفي الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث).

التجسس

التجسس الأمر الثاني: التجسس: لأن سوء الظن يدفعه إلى أن يتحقق بزعمه، فيبحث مستمعاً متنصتاً، أو ناظراً متجسساً، أو باحثاً متعقباً عن عورات المسلمين وعن سقطاتهم وعن فلتات كلماتهم، بل ربما تجرأ فدخل بكلامه إلى داخل قلوبهم وإلى خبايا نياتهم، والله جل وعلا قال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، والنبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تجسسوا، ولا تحسسوا).

الغيبة

الغيبة الأمر الثالث: أمر الغيبة: وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغيبة، كما في الصحيح أنه سئل: (يا رسول الله! وما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، فليست الغيبة أن تقول شيئاً في حقيقته كذب، بل الغيبة أن تقول شيئاً صحيحاً، لكنك تخالف بإشاعة هذا الأمر، ولا تجعل طريقك الصحيح بالنصح المباشر إلى الواقع في المنكر.

عدم التثبت من الأقوال والأفعال

عدم التثبت من الأقوال والأفعال الأمر الرابع: ترك الأمر القرآني في التثبت من الأقوال والأعمال والأحوال: فإن الله جل وعلا قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وكثير من ناقلي هذه الأقوال إنما ينقلون أقوالاً لا خطام لها ولا زمام، فإن قلت له: هل سمعت بنفسك، أو رأيت بعينك؟ قال: بل قالوا! ويسند إلى مجاهيل لا تعلمهم، أو ثقات عنده، وحسبك بتوثيقهم أنهم مجروحون، كما قال عمر بن عبد العزيز عندما بلّغه بعض الناس خبراً عن آخرين: إن كنت كاذباً فحسبك بالكذب إثماً، وإن كنت صادقاً فحسبك بالنميمة إثماً. فنقل الخبر على سبيل التنقص والتعيير وإشهار العيوب إنما هو من هذا الجانب.

عدم الستر على المسلم

عدم الستر على المسلم الأمر الخامس: مخالفتهم لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالستر على المسلمين: فأين نحن من هذا النداء الذي حضنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الستر، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن فرج عن مسلم فرج الله عنه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)؟ فلم يجترئ ذلك الفاعل على فضح المسلم؟ نسأل الله عز وجل السلامة.

الفحش والبذاءة

الفحش والبذاءة الأمر السادس: وقوعه في محظور آخر لا يليق بالمسلم، وقد تنزه عنه النبي صلى الله عليه وسلم وبين فظاعته وحذر منه، وهو الفحش في القول؛ لأن كثيراً من الناس يقولون: فلان قال كذا وكذا، ثم ينقلون الألفاظ البذيئة، وقد يصفون الأفعال القبيحة، فهم بأنفسهم يقولون هذه المقالات، ويصفون هذه الأعمال التي لا ينبغي أن تكون على لسان المؤمن، ولا في مجامع المسلمين. فلا ينبغي أن توصف الفواحش وأن تذكر الأقوال البذيئة؛ هذا مما ينبغي أن تصان عنه المجالس. وأن تحمى منه القلوب والنفوس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والفحش والتفحش!)، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا طعاناً ولا صخاباً في الأسواق، كما في ورد في وصفه عليه الصلاة والسلام.

الآثار المترتبة على قلب النصيحة إلى فضيحة

الآثار المترتبة على قلب النصيحة إلى فضيحة فانظر -رحمك الله- كم من المحظورات قد ارتُكبت عندما فُعل هذا الفعل؟ ثم انظر مرة أخرى إلى الآثار المترتبة على انقلاب النصيحة إلى فضيحة:

عدم قبول النصيحة

عدم قبول النصيحة أولاً: عدم القبول لهذه النصيحة: لأن النفوس تصد عما يكون فيه إظهار لعيبها، وإشهار لخطئها، فإذا نصحت الرجل في الملأ من الناس أو أظهرت عيبه من ورائه فغالب الأحوال أنه لا يرتدع، بل يصر ويمضي على معصيته، ويبقى على مخالفته، ثم قد يلتمس لها تأويلاً، وقد يبحث لها عن دليل؛ وما ذلك إلا بسبب ما وقع في نفسه من أثر سوء فعلك ومن أثر فضحك له.

تغير القلوب

تغير القلوب الأمر الثاني: تغير القلوب وحصول الشحناء والبغضاء، وشيوع سوء الظن والريبة بين الناس: فإن الذي فضحته لا شك أنه في الغالب يضمر لك في قلبه كرهاً، ويحمل لك في نفسه شراً، والآخرون الذين سمعوا تغيرت قلوبهم، وزادت ريبتهم، وتحقق تخوفهم وحذرهم، فيحصل من وراء ذلك ما لا يليق بأمة الإسلام من إساءة الظن، وتتبع العثرات، وترقب المحاذير والمعايب، وهذا كله فساد لأصل المودة والأخوة الإيمانية الواردة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وهذا يبعث على تغير القلوب. وفي حديث معاوية رضي الله عنه الذي رواه أبو داود وابن حبان بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنك إن تتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت تفسدهم)، أي: إنك تعلمهم كيف يسيئون الظن بغيرهم، وتعلمهم كيف يجترئون على حرمات إخوانهم، وتعلمهم كيف تنصرف ألسنتهم بالغيبة من أثر هذا الفعل، وكم في إفساد القلوب وإفساد النوايا والطوايا بين أهل الإسلام وأهل الإيمان من آثار وخيمة وعواقب عظيمة!

إشاعة الفاحشة

إشاعة الفاحشة الأمر الثالث: إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا: فالله جل وعلا قد نهى عن ذلك وحذر منه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة} [النور:19]، فهذا التحذير معناه: ألا يذكر المرء وقوع الفواحش، وألا يذكر من ذكرها؛ حتى لا يكون في ذلك تسهيل للناس إلى الوقوع فيها، أو إرشاد لهم إلى طرائقها، أو تهوين من خطرها وفظاعتها، أو عدم التفات لما وقع في الآيات والأحاديث من التحذير منها، وذلك كله من أعظم الأمور وأخطرها، ولذلك ورد عن بعض السلف في شأن إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا أنه قال: اجتهدوا أن تستروا العصاة؛ فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام، أي أنه يظهر المجتمع المسلم كأنه مجتمع فحش وجرائم وأمور لا تليق بصفاء القلوب ولا بنقاء السرائر ولا بالصلة بالله؛ فينبغي أن يحذر المرء من ذلك.

الاشتغال بعيوب الآخرين عن عيوب النفس

الاشتغال بعيوب الآخرين عن عيوب النفس الأمر الرابع: انشغال مثل هؤلاء الناس بعيوب غيرهم عن عيوبهم: وحسبك بهذا أثراً خطيراً؛ لأن كثيراً من أولئك قد تفرغ في وقته وفكره لتتبع أخطاء الناس وفضحهم بحجة أنه يظهر الحق، وهذا في غالب الأحوال ينسى نفسه، ويغض الطرف عن عيبه، ويقسو بذلك قلبه، وقد قال ابن رجب: فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة. أما صاحب العقل الصحيح والقلب الحي فإنه يدرك ويفرق بين ما هو نصيحة وبين هو فضيحة. وعن الحسن البصري أنه قال: من سمع بفاحشة فأفشاها كان كمن أتاها، وما تزال الفاحشة تفشو بين المؤمنين حتى تصل إلى الصالحين فهم خزانها. أي: يمسكون عن نشرها وإشاعتها لئلا يسهل على الناس ذكر مثل هذه الأمور. فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل النصح والإخلاص، وأن يجعلنا ممن يجتنبون هذه المحاذير ويبتعدون عن هذه الآثار، ونسأله جل وعلا أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وقفات من هدي السلف وتوجيهاتهم في باب النصيحة

وقفات من هدي السلف وتوجيهاتهم في باب النصيحة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله عز وجل، وإن من التقوى إخلاص النصح لأخيك المسلم على الوجه الشرعي، وإن من التقوى تجنب هتك ستر المسلم وفضحه على رءوس الأشهاد إلا ما كان محتاجاً إليه منصوصاً عليه لك فيه مستند من شرع الله جل وعلا، وذلك ليس إلا في النادر من الحالات التي ذكرها أهل العلم، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: (ما بال أقوام يفعلون أو يقولون كذا وكذا؟)، فبيانك الأمر مغنٍ عن بيان فاعله أو قائله إن كنت تريد الإصلاح والنصح والتغيير بما يرضي الله سبحانه وتعالى. وأقف أيضاً وقفات يسيرة مع أقوال سلفنا وتوجيهاتهم وإرشاداتهم، وهم القوم الذين قد عظم الإيمان في قلوبهم، وغزر علمهم، وصح عندنا حسن اعتقادهم، وظهر لنا كثير من آثار تقواهم وورعهم، فهم ممن نستهدي بهديهم وممن نقتفي آثارهم: هذا أبو بكر عبد الله بن عبد الله المزني يقول ناصحاً لنا وموجهاً كلمات جميلة انتخبت بعضاً منها: احملوا إخوانكم على ما كان فيهم، كما تحبون أن يحملوكم على ما كان فيكم، وإذا رأيت من هو أكبر منك سناً فقل: هذا خير مني؛ قد صام وصلى وعبد الله قبلي، وإذا رأيت من هو أصغر منك فقل: هو أحدث مني سناً، وأقل ذنوباً، واتخذ أكبر المسلمين لك أباً وأوسطهم لك أخاً وأصغرهم لك ابناً، أوتحب أن تعذب الطفل الصغير، أو تظلم الشيخ الكبير؟ ولتشتغل بذنوبك عن ذنوب العباد، واشتغل بالتوبة والاستغفار، وليسعك ما أنعم الله به عليك عما أنعم به على العباد، واشتغل فيه بالحمد والذكر والشكر، ولا تنظروا لذنوب الناس كالأرباب، وانظروا إلى ذنوبكم كالعبيد. وأحب أيضاً أن أنبه إلى ما نبه إليه الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه في مقالة عظيمة مؤثرة اقتبسها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحتاج منا إلى التأمل والانتباه! يقول فيها: (أيما رجل أشاع على امرئ مسلم كلمة هو منها بريء؛ ليشينه بها، كان حقاً على الله أن يعذبه بها يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال)، وهذا اقتباس من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطويل الذي رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه البيهقي في سننه عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في ضمن حديثه: (ومن بهت مؤمناً -أي: قال فيه بهتاناً وافتراءً ما ليس فيه- حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي فيما قال بمخرج وليس بخارج). وهذا التحذير يبين لنا ما يترخص فيه بعض الناس من إشاعة القول من غير تثبت ولا بينة، بل بعضهم قد يعلم كذب القول ويشيعه، وذلك له أسباب ودوافع ليس هذا المقام مقام ذكرها، ومن أكثرها: الحسد لأهل الخير والصلاح، أو لمن يوفقه الله عز وجل لإرشاد أو لإصلاح أو لتقدم في أمر من الأمور، فإن الحسد يوغر الصدور، ويحمل على ارتكاب عظائم الأمور. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرشدنا إلى تحقيق هذه المعاني الإيمانية التي ينبغي أن ننتبه لها حيث قال: (لا تعجبكم من الرجل طنطنته، ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل). وروى ابن أبي الشيخ في (التوبيخ والتنبيه) عن أعرابي أنه قال: إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع، فمن نطق بقبح فإنما استمده من قبح ما في قلبه، ومن نطق بفحش فإنما ذلك استمداد من قلبه. والله يعلم إن قلبي لك شاكر ولساني لك ذاكر، وهيهات أن يظهر الود المستقيم في القلب السقيم؛ فإن القلب المريض الذي قد غشه صاحبه بالبغض لأهل الإيمان أو الحسد لأهل السبق في الخيرات إنما يصدر عنه -غالباً- ما لا يكون لائقاً بالمسلم. وهذا أكثم بن صيفي ينصح بنيه قائلاً: يا بني! كفوا عن ذكر مساوئ الناس تصف لكم صدورهم. فالنصيحة أيها الأخ المسلم! مطلوبة منك وواجبة عليك، لكنك ينبغي أن تخلص فيها لله أولاً، وأن تكون فيها على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانياً، وأن تمضي في تكرارها والثبات عليها ثالثاً، وأن تحذر أن يخالط قلبك شيء مما حذر الله ورسوله منه، أو أن يخالط قلبك ما لا ينبغي أن يكون تجاه أخيك المسلم؛ فإنك تبغض منه معصيته، وتحب منه ما كان من طاعته، وتود من قلبك لو أقلع عن المعصية؛ فإن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. واحذر مما يقع فيه كثير من الناس من الفضح، والهتك، والتجسس، والغيبة، وإشاعة الفواحش، وكن واقفاً لأولئك القوم بالمرصاد نصحاً لله ولرسوله، وبين لهم الآثار الوخيمة، وبين لهم المحاذير الشرعية التي يقعون فيها أثناء ذلك، فسلف الأمة -كما أثر عن كثير من علمائهم وفضلائهم- كانوا لا يغتابون أحداً، ولا يسمحون في مجالسهم أن يُغتاب أحد، فإن تكلم أحد نهوه، فإن سكت وإلا قاموا من المجلس؛ لئلا يكونوا في ذلك مشاركين. واعلم أخي المسلم! أن من أعظم الحرمات حرمة المسلم في عرضه وماله ودمه، فقد جاءت النصوص حافظة لهذا المعنى معظمة له، فاحذر أن تكون واقعاً في هذا، والله أسأل أن يرزقنا جميعاً العلم النافع والعمل الصالح. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم وفقنا للصالحات والخيرات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وامح عنا السيئات، وأقل لنا العثرات يا رب العالمين. اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية. اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، ولا تخزنا اللهم يوم العرض عليك. اللهم اجعلنا ممن أخلصوا دينهم لك، اللهم اجعلنا ممن حرصوا على اتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم اجعلنا من الناصحين لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم يا رب العالمين. اللهم اجعلنا من القائلين بالحق والداعين إلى الخير والمتبعين لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، برحمتك وقوتك يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد المسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، اللهم أبطل مكرهم، اللهم رد كيدهم في نحورهم، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك اللهم في نحورهم، اللهم أنزل بهم سخطك وعذابك وبأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والأسرى والمسجونين، والمشردين والمبعدين. اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، والأطفال الرضع، والشيوخ الركع، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم قرب فرجهم، ونفس كربهم، وفرج همهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! والحمد لله رب العالمين.

المسلم بين الظن واليقين

المسلم بين الظن واليقين اليقين أمر مطلوب، وواجب على العبد أن يكون على يقين في إيمانه واعتقاده وعبادته وقبوله ونقله للأخبار، فأهل الظنون والشكوك لا ينظرون إلى العاقبة، ولا يدرون ما يحمله ظنهم من أثر على نفوسهم، وضعف في قلوبهم، وشك في أمرهم، فتجد اعتقادهم مهزوزاً، وإيمانهم مشكوكاً، وهكذا عاقبة كل من لم يسلم إلى نصوص الوحي أمره، ويقدر كتاب الله حق قدره، ويعظم سنة محمد صلى الله عليه وسلم حق التعظيم.

حقيقة الظن في الشرع

حقيقة الظن في الشرع الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، رفع السموات بلا عمد وبسط الأرض ومد، وأفاض النعم بلا حصر وعد، أحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، نحمده جل وعلا حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، ودعا إلى الطاعة والإيمان، ووعد عند الاستجابة بالنعيم في الجنان، ونهى عن الكفر والجحود وتوعد على ذلك بعذاب النيران. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، جعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وبعثه كافة للناس أجمعين، ورحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

تعريف الظن في الشرع

تعريف الظن في الشرع أيها الإخوة المؤمنون! حديث اليوم: المسلم بين الظن والقين: نستكمل به صورة الملامح الأساسية للشخصية الإسلامية، وقد سلف لنا حديث عن المسلم بين الفردية والجماعية، واليوم نقف هذه الوقفة مع هذا الموضوع الذي له أهمية كبيرة؛ لما له من تعلق بالواقع في التصورات والاعتقادات، ولما له من صلة وطيدة بالطاعات والعبادات، ولما له من أثر واضح في الممارسات والسلوكيات. فالظن: قصور عن العلم القاطع، وعدول عن الدليل الساطع، ورجم بالغيب، واعتساف في غير حق، ولذلك فإن الله جل وعلا قد بين لنا صورة الظن وحقيقته، حتى ندرك أن المسلم ينبغي ألا يكون من أهل الظنون، ولا من أهل الشك والارتياب، وإنما من أهل العلم واليقين بإذن الله عز وجل. يقول جل وعلا: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36]، فالحق أمر واضح قاطع، له الأدلة الساطعة، وله مصداقيته في الواقع، والظن بعيد عن هذا، لا يغني عن الحق شيئاً، ولا يكون عنه بديلاً. ويقول الله جل وعلا في شأن أهل الكتاب، وما رجموا به من الظنون، وما انحرفوا به من العقائد: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء:157].

أثر الظنون على الناس

أثر الظنون على الناس ويبين الله سبحانه وتعالى أن الظنون تعصف بالناس عصفاً، وتأخذ بالعقول أخذاً إلا من رحم الله عز وجل من أهل الإيمان ومن اعتصم بمنهج القرآن وتابع المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116]. إنهم أقوام رضوا بالتلفيق، وأخذوا بالتشكيك، وما عرفوا النور في آيات الله سبحانه وتعالى، وما عرفوا الاستقامة في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عرفوا الثبات على الحق والاعتصام به؛ لأنه الطريق الموصل إلى رضوان الله عز وجل من غير حيرة ولا اضطراب، ومن غير شك ولا ارتياب.

الظن صورة من صور الجاهلية

الظن صورة من صور الجاهلية والله سبحانه وتعالى يبين لنا أن الظن في حقيقة أمره إنما هو صورة من صور الجاهلية التي لا تعرف لله عز وجل قدراً، ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم وقاراً، ولا تأخذ من نهج كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يقول جل وعلا: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] أي: كما يظن أهل الجاهلية في الله سبحانه وتعالى. ويقول جل وعلا: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]، فالظن والهوى شيء آخر يختلف عما جاء به الله عز وجل من الهدى والحق واليقين. ومن ثم أخي المسلم! لابد أن تكون من أهل الإيمان واليقين، من أهل العلم والمعرفة والحجة، لا تكن ممن يرجمون بالغيب، ويظنون ظن السوء.

وجوب الاستمساك باليقين في الإيمان

وجوب الاستمساك باليقين في الإيمان وانظر إلى الملامح المنهجية في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتدرك أنه لابد لك من الاستمساك باليقين، والبعد عن الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً في أمر الاعتقاد والعبادة، وفي أمر الإيمان، وهو أساس حياة الإنسان المسلم. يقول جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، إنه إيمان مبني على يقين، وعلى دليل واضح، وعلى حجج وبراهين ساطعة، ينبغي أن يكون هذا هو ديدنك لتدخل في وصف أهل الإيمان الذين قال الله جل وعلا فيهم: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4]، واليقين: علم جازم لا يخالطه شك، ولا يمازجه ريب، ولا يغيره ظرف ولا يبدله قهر، ولا إجبار؛ لأنه مستند إلى أسس ثابتة، وإلى أدلة قاطعة لا تتغير مطلقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعلها آيات تتلى في كتابه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثم إن الله جل وعلا قد جعل في هذه الحياة الدنيا من آياته ومن خلقه سبحانه وتعالى شواهد تدل على وجوده وتنبئ عن عظيم صفاته وكماله سبحانه وتعالى، حتى يصل المؤمن إلى اليقين، وحتى يرى هذه الأدلة المبسوطة في كتاب الله عز وجل، والأمثلة التي ضربها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما وبين لهم المنهج الحق بالاعتقاد الصحيح بالله سبحانه وتعالى، يقول جل وعلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]، فإنه لا رضا بدون منزلة اليقين في الإيمان والثبات عليه، والاعتقاد الجازم به. ويقول جل وعلا لسائر الخلق أجمعين: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20]، ينبغي أن تكون على بينة من أمرك وعلى وضوح في اعتقادك، لا يمكن للمسلم أن يجعل في إيمانه شكاً، أو أن يدخل في يقينه ظناً، فإن ذلك هو عين الانحراف وهو مبدأ الشرك، وهو طريق الجنوح عن التوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى، ولذلك لابد أن يكون موقفك أخي المسلم! موقف الرافض لكل تشكيك في دين الله، وإن كثر القائلون به، وإن كثر الداعون إليه، وإن كثر الملبسون فيه: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام:57]، لو كفرت الدنيا كلها، ولو شك البشر جميعاً في حقائق الإيمان الثابتة بالآيات القرآنية القاطعة ما تزحزح المؤمن عن إيمانه قيد شعرة، ولا شك في دينه قيد أنملة؛ لأنه على بينة من ربه سبحانه وتعالى. {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]، هذا المنهج مرفوض عند المسلم ليس له مكان، إذا جاء الحشد الكبير، وإذا جاءت الشبه المتكاثرة فإنها لا قيمة لها عنده، أما أهل الزيغ وضعف الإيمان وأهل قلة العلم، فإنهم يميدون شمالاً ويميناً، وإنهم يضطربون فيقولون: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]. بل لابد لك -أيها المسلم- ألا تلقي بهذه الأمور جانباً فحسب، بل ينبغي أن تدحضها بالآيات والأدلة الواضحة، وأن تكون على بينة من أمرك تحفظ بها إيمانك، بل وتستطيع أن تكشف زيغ الزائغين، وضلال المبطلين، كما قال جل وعلا: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم:10]، هؤلاء الرسل جابهوا أهل الشك فيما شكوا فيه، وأقاموا الأدلة حتى بينوا بطلان قولهم، فينبغي أن تكون كذلك أيها المسلم! {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج:3 - 4]. لابد أن تدرك أن عندك من الحق ما يدحض الباطل، وأن عندك من نور الوحي ما يبدد كل ظلام للشبهة مهما تكاثف، لابد أن تكون على يقين قوي راسخ بما عندك من الحق، وأنه هو الكمال، وأنه هو الدين الذي يرتضيه الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، لاشك في ذلك ولا ارتياب، وهو الكمال كما قال جل وعلا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. وانظر يميناً ويساراً، وانظر في كثير من بقاع الأرض، وانظر إلى كثير من أحوال المسلمين لترى كيف تسرب الشك إلى نفوسهم؟ وكيف دب الضعف إلى إيمانهم؟ وكيف صاروا في حيرة من أمرهم؟ ذلك أنهم لم يأخذوا اليقين من منبعه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذلك أنهم أصغوا آذانهم للباطل، وجعلوا قلوبهم نهباً للشهوات والشبهات، تعمل فيها فتفتك بما فيها من إيمان، لأنه إيمان وراثة وعادة، ولم يكن إيمان يقين وعبادة لله سبحانه وتعالى. {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:65]، ويخاطبهم الله جل وعلا ليبين لنا الطريق الذي ندحض بها حجج المبطلين: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران:66]، وأكثر المتكلمين بغير الإسلام وبغير القرآن والسنة في أمور الاعتقاد وفي أمور الكون وفي أمور الآخرة، إنما هم ممن يظنون ظناً وما هم بمستيقنين، إنما هم من المتبعين للظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، إنما هم من أهل الظن الذي هو ظن الجاهلية، وقد كثرت الأقوال في مجتمعات المسلمين حتى بدت تزاحم -عند من ليس عنده ثبات- كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصار الناس يأخذون من زيد وعمرو، ويأخذون من شرق وغرب، ويقارنون ويقابلون؛ فاضطربوا وتحيروا وزاغوا، وكثرت في مجتمعات المسلمين صور الشرك والانحراف العقدي، وانتشرت بينهم البدع، وتمكنت منهم الخرافات، وصاروا ألعوبة في أيدي أهل الأهواء، وأهل الباطل، وأهل المصالح الذاتية، ذلك أنه إذا لم يكن هناك يقين فهناك مهاوٍ كثيرة، ومشارب عدة مختلفة يبقى فيها الإنسان حائراً مضطرباً حتى يأذن الله عز وجل أن يرده إلى الحق بإذنه سبحانه وتعالى. فهذا أمر اليقين في الاعتقاد.

وجوب الاستمساك باليقين في العبادات

وجوب الاستمساك باليقين في العبادات وأنتقل بك أخي المسلم إلى أمر العبادة، فلابد أن تكون فيها على يقين، وقد يعجب بعضكم ويتساءل: هل نحن في شك مما افترض الله علينا؟! فأقول: إن بعض ما سأشير إليه يبين الواقع أن الارتباط به، والمعرفة له، والثبات عليه ليس كما ينبغي أن يكون من أهل الإسلام والإيمان. فينبغي أن تكون على يقين بفرضية العبادة وأهميتها، وانظر أمثلة حية لذلك في سير السلف الصالح رضوان الله عليهم: كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، أي أنه قد بلغ به الإعياء والمرض والتعب مبلغاً لا يستطيع معه أن يسير إلا معتمداً على رجل عن يمينه وآخر عن شماله. كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقف في الصف ليكون مع الجماعة، أولئك قوم عرفوا الفرضية واستيقنوها، أما الذي ينام ملء عينيه وهو يسمع الأذان ويسمع الإقامة، أفيكون يقين هذا قد استكمل في عبادته وفرضية الله سبحانه وتعالى لها عليه؟! والنبي صلى الله عليه وسلم عندما يحذرنا ويبين لنا خطورة ترك العبادة أو الصلاة على وجه الخصوص من بين أنواع العبادة إنما يدلنا على الأهمية، وعلى أن اليقين ينبغي أن يبلغ بها مبلغاً عظيماً، فيقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم)، هذا التهديد والوعيد العظيم يدل على أن أولئك القوم قد قصروا تقصيراً، وفرطوا تفريطاً، ولم يبلغوا من الارتباط واليقين بفرضية العبادة وأهميتها ما ينبغي أن يكون عليه المسلم. ولابد لك أيضاً من يقين بأثر العبادة ونفعها، ولذلك صور عملية، فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]. التطبيق العملي من النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، أي: كلما وقعت معضلة، كلما حصلت مشكلة، كلما حصل بلاء كان الفزع والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى بالصلاة، تحققاً باليقين في أثر هذه العبادة وفي نفعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (الدعاء مخ العبادة) والصلاة فيها الذل والخضوع، وفيها الانكسار والتضرع، وفيها الدعاء والمناجاة لله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. فهل نحن يقيناً نطبق مثل هذه المعاني الواضحة في الآيات القرآنية، أم أن كثيراً من المسلمين إذا وقعت به مشكلة لجأ إلى هذا وذاك، وفكر في مخرج من هنا وهناك، والتمس طريقاً من يمين ويسار، ولم يتوجه قلبه للارتباط بالله سبحانه وتعالى والدعاء له. نحن قد رأينا في تاريخ أمة الإسلام أموراً عجيبة وفريدة تدل على كمال اليقين في هذا، ألم يقف النبي صلى الله عليه وسلم -وقد وعد بالنصر في يوم بدر، لما دنا الأمر وأوشكت الصفوف أن تلتحم، ويرفع يديه إلى السماء يقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً، اللهم أنجز وعدك الذي وعدتني)، ويلح في الدعاء حتى يسقط رداؤه عن منكبيه صلى الله عليه وسلم؟ إنه التطبيق العملي الذي يدل على اليقين الراسخ، أين نحن من الدعاء في مواطن البلاء؟ أين نحن من الالتجاء لله عز وجل عند حلول الفتن؟ أم أن الذي يحصل في واقع كثير من بيئتنا نوع من الجدال والاختلاف والنزاع، وتفرق الآراء، وتعدد الأهواء، وننسى ربنا سبحانه وتعالى، وننسى يقيننا بعبادتنا. ثم انظر إلى اليقين الذي ينبغي أن يكون أثره ونفعه في أمر تتعلق به النفوس، وترتبط به القلوب في إخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]. لابد أن نوقن بهذا المعنى، وأن هذه الفريضة فيها تطهير للنفس من أوضارها ومن أمراضها وأخلاطها، تطهير من البخل والشح والحسد والبغضاء، وأن فيها نماء للمال {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (ما نقص مال من صدقة) فهل عندما نخرج زكاتنا، أو نخرج بعضاً من أموالنا يكون في قلوبنا ذلك اليقين الذي كان في قلب أبي بكر رضي الله عنه لما تصدق بماله كله في سبيل الله عز وجل، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟! قال: أبقيت لهم الله ورسوله)؟ ذلك هو اليقين الراسخ، لا الظن الذي يقع منا اليوم، فنخرج المال من جهة ونحسب الحسابات من جهة أخرى، ونؤمن للمستقبل من جهة ثالثة، ونعد لما قد يحصل من أمور وظروف؛ لأن اليقين قد ضعف؛ ولأن الظن قد تسرب إلى النفوس؛ ولأن الثقة بالله عز وجل لم تبلغ المبلغ الذي كان عليه صحب محمد صلى الله عليه وسلم.

منهجية الإسلام في تلقي الأخبار

منهجية الإسلام في تلقي الأخبار

وجوب التثبت في الأقوال ونقل الأخبار

وجوب التثبت في الأقوال ونقل الأخبار الظن يقع في مجال ثالث هو من أكثر المجالات التي يقع فيها الاضطراب في مجتمع المسلمين اليوم، في واقع الأخبار تلقياً ونقلاً. ما هو منهجك -أيها المسلم- في هذا الأمر المهم؟ كيف تتلقى الأخبار؟ وكيف تعرف الوقائع؟ هل أنت ممن يأخذون بالظنون، ويقبلون الأقوال دون بينة أو حجة؟ أين أنت من المنهج القرآني والمسلك النبوي؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]. والنبي صلى الله عليه وسلم في موقف عصيب وشديد يرفع لنا هذا الشعار لئلا نأخذ أي خبر دون تمحيص، ودون اختبار ودون تحقق ولو كان المخبر لنا ممن نحسن به ظناً، فلابد أن يكون عندنا ذلك المنهج في التروي والتثبت والتحقق، يأتي أحد الصحابة وقد رأى أمراً فظيعاً هائلاً خطيراً، وقد رأى مع زوجته رجلاً، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد غلا الدم في عروقه وانتفخت أوداجه من شدة الغضب، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا وكذا، فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام: (البينة أو حد في ظهرك). إن هذا أمر عظيم! إنها تهمة خطيرة! لابد من الدليل الذي لا ينزل عن مرتبة اليقين حسبما ثبت في الشرع من لزوم أربعة شهود في مثل هذا الأمر، فإن الأمور لا تلقى على عواهنها، وإن الأقوال لا تطلق حسب ما تطلقها ألسنة القائلين بها؛ لأننا نحن أهل إيمان أهل برهان أهل دليل لا يمكن أن نقبل أي قول وخاصة إن جاءت هذه الأقوال من المجروحين أو المنكرين أو غير المعروفين بالصلاح والاستقامة، أو تلقفتها الآذان من إذاعات شرقية أو غربية لا تدين بدين الإسلام، بل قد يكون عندها مكر به وإرادة سوء بأهله، فينبغي أن يكون هذا دأبنا وهذا نهجنا. ثم في نقل الأخبار يأتينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الإمام مسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)، ما بال الألسنة لاغية؟ ما بالها لا تسمع خبراً حتى تذيعه في كل مكان، وحتى تنطق به في كل مجلس قبل أن تتثبت منه، وقبل أن تنظر بعد التثبت إلى آثاره الإيجابية والسلبية؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري في الأدب المفرد: (بئس مطية الرجل زعموا). كثيراً ما تسمع قولاً فتسأل قائله: هل رأيت بأم عينيك؟ هل سمعت بأذنيك؟ هل حضرت بنفسك؟ فيقول: كلا، بل قالوا أو زعموا أو أخبروني من أولئك القوم؟ إننا لا نريد هذا المنهج الذي سرت بسببه كثير من الفتن، وكثير من صور الإرجاف في مجتمع المسلمين، والله جل وعلا قد بين لنا أن هذا الاستناد باطل: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات:151 - 152]، يقولون ويقولون ويقولون، يقصون ويقصون ويقصون، يزعمون ويذيعون، لا يعنينا من ذلك إلا ما دل الدليل عليه أو ما احتفت به القرائن.

كيف نتلقى الأخبار

كيف نتلقى الأخبار بحسبنا أن نحسن كيف نتلقى الأخبار، كما يحسن بنا أن نحسن كيف ننقلها، وإلى من ننقلها، وكيف نعرضها؟ حتى لا يقع من وراء ذلك ما لا تحمد عقباه، والله سبحانه وتعالى قد قص علينا قصة عظيمة تتعلق بهذا الجانب، وبالجانب الذي هو مرتبط به وهو جانب معاملة المسلمين، وأنت وأنا وبعض منا قد يقع منه ظن السوء في هذا وذاك، وقد يستسلم للشك في إخوانه المسلمين من حوله، لكلمة سمعها أو لمقالة لم يتثبت منها. والله عز وجل قد قص لنا في القرآن قصة عظيمة جعل فيها لأمة الإسلام درساً عظيماً ونافعاً، امتد في الزمان شهراً كاملاً، وكان يتعلق بأعظم إنسان كان في هذا الوجود وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ويتعلق بعرض عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وذلك عندما أثار أهل النفاق ما أثاروه، فجاء التوجيه لأهل الإيمان: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]. أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يدخل إلى بيته، فتلقاه أم أيوب وتقول: هل سمعت يا أبا أيوب ما يقال؟ قال: وما يقال؟ قالت: يقولون في عائشة كيت وكيت! فقال: يا أم أيوب! أوكنت فاعلة ذلك؟ أي: طبقي ذلك على نفسك، أترضينه لنفسك؟ قال لها: يا أم أيوب! أوكنت فاعلة ذلك؟ فانتفضت وقالت: معاذ الله! فقال: والله لـ عائشة خير منك ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خير مني. لم هذه الظنون المرجفة؟ لم هذه الأوهام السوداء التي تجعلك تنظر إلى هذا شزراً، وتحمل لهذا غلاً وبغضاً من غير ما شيء إلا كلام ساقط أو اتهام باطل؟! انظر إلى الآية القرآنية: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]، {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] بهتان أن تنال من عرض أخيك المسلم، بهتان أن تنطق بالفاحشة فتشيعها بين أهل الإيمان وفي مجتمع الإسلام، أين أنت من اليقين؟ أين أنت من (البينة أو حد في ظهرك)؟ سيما إذا تعلق الأمر باتهام في عرض، وأخطر من ذلك باتهام في اعتقاد فهذا يكفر وهذا يبدع وهذا يفسق وهذا يرجم بالغيب، نسأل الله عز وجل السلامة من هذا.

تجنب سوء الظن

تجنب سوء الظن ويأتينا قول الله جل وعلا منبهاً ومحذراً ومبيناً المهاوي والمزالق التي تبدأ بسوء الظن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، قف عند هذه المرحلة، لا تسمح للأوهام والشكوك أن تأتي إلى قلبك عن أخيك المسلم، فإذا لم تفعل قال جل وعلا: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]. وإذا قادك الظن إلى أن تتجسس لتتحقق فاستمع لقول الله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، فإذا تجسست أو عرفت من غير ما تجسس فأردت أن تقول: فعل وفعل أو قال وقال، جاءك قول الله عز وجل: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12]، حتى لو كان الأمر حقاً: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته). أين منهج الإسلام؟ أين الآداب المحمدية النبوية من مجتمعاتنا التي ضعف فيها مثل هذا النهج الإيماني؟ الظن إن لم توقفه قادك إلى التجسس، فإن لم تقف عنده قادك إلى الغيبة، فإن لم تقف عنده فاستمع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول كما في الصحيحين: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً) فإن عاقبة ذلك هو التباغض والتدابر، وإذا أردتم أن تكونوا إخوة في الله عز وجل، متآلفين متحابين، فخذوا بهذا المنهج باتباع اليقين، واتركوا الظن والرجم بالغيب من غير بينة ولا حجة. أسأل الله جل وعلا أن يعصمنا بالحق، وأن يجعلنا من أهل الإيمان واليقين، اللهم إنا نسألك أن تحسن ظنوننا بإخواننا المسلمين. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الفرق بين أهل اليقين وأهل الظن والأوهام في المحن

الفرق بين أهل اليقين وأهل الظن والأوهام في المحن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى حسن الظن بالمسلم. وقد ذكرت لك أخي المسلم! ما ينبغي أن تكون عليه من اليقين وترك الظن في شأن الاعتقاد والعبادة، وتلقي الأخبار ونقلها، ومعاملة إخوانك المسلمين، وهأنذا أقف وقفة مع بعض الأمثلة القرآنية التي تنبئنا عن العاقبة الوخيمة التي يبلغها الإنسان إذا لم يأخذ باليقين الذي جاء عن رب العالمين، ونرى في ذلك مواقف أهل اليقين، ومواقف أهل الظن والشك والريبة. ذكر الله سبحانه وتعالى حال المسلمين في يوم الأحزاب وما أدراك ما يوم الأحزاب؟ يوم اجتمع فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته شدة الجوع مع شدة الخوف مع شدة البرد: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]، في المواقف العصيبة الرهيبة: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]. أولئك أهل الشك والريبة، أولئك أهل الفتنة والنفاق قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، أما أهل اليقين: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، رأوا الجموع تنقض عليهم من كل جانب، وتحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم، لكن ما اضطرب يقينهم، ولا ضعفت في الله ثقتهم، ولا حارت في المنهج أفكارهم، بل كانوا على يقين راسخ وزادهم البلاء يقيناً. وانظر إلى موقف آخر في قصة قارون الذي كان من قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]. ويصور لنا القرآن الحالة التي انقسم فيها الناس إلى فريقين، يقول جل وعلا: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]، بهذه الأبهة الدنيوية، والعظمة البشرية، والقوة الإنسانية، فإذا بالضعاف في يقينهم، المختلطين في عقولهم، المشدودين إلى الأرض، المرتبطين بالشهوات؛ يقولون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، لم يلتفتوا إلى كفره وجحوده، لم يلتفتوا إلى فسقه وفجوره، ولكنهم التفتوا إلى دنياه إلى عظمته الموهومة إلى بهرجه الزائف. أما أهل الإيمان: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، أولئك قوم يجعلهم يقينهم ينظرون إلى ما وراء الأحداث، ينظرون إلى ما وراء الصور الظاهرة، قوم قالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]، اثبت على إيمانك وابق على يقينك فإن من وراء ذلك أجراً، وإن من وراء ذلك خيراً. وهكذا تمضي الأمثلة القرآنية الكثيرة، ومنها مثال أختم به في هذا المقام من أمثلة الاستكبار التي ينجرف إليها أحياناً مجتمع كامل من المجتمعات، يقص الله علينا ذلك في قوله جل وعلا: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، هكذا يبين الله عز وجل أن الذين يركنون إلى الدنيا وأسبابها المادية ظنوا أنهم قادرون عليها وعلى حصادها وعلى خيرها، فجاءهم الأمر من الله عز وجل لما شكوا في قدرته، ولما نسوا أقداره وحكمته، وهكذا يقع لصاحب الظن السيئ ما يحل به مما يقدره الله من البلاء. فينبغي أخي المسلم أن تعرف موقفك الحق بين الظن واليقين، فلا ترض أن تكون من أهل الضعف أو أهل الشك أو أهل الظنون والرجم بالغيب، وكن من أهل اليقين. أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل الإيمان واليقين، وأن يجعلنا من الثابتين على هذا الدين، وأن يجعلنا من الدعاة إليه وإلى دينه سبحانه وتعالى. اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية. اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، ولا تخزنا اللهم على رءوس الأشهاد، اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا، وأن تجعل خير أعمارنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، واغفر لنا إنك رءوف رحيم، اللهم إنا نسألك لقلوبنا الصفاء والنقاء، ولأبداننا الصحة والعافية، ولأعمالنا القبول ومضاعفة الأجر والثواب. اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا، وأن تكفر عنا سيئاتنا، وأن تضاعف لنا حسناتنا، وأن ترفع لنا درجاتنا، وأن تقيل يا ربنا عثراتنا. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم اجعلنا من الدعاة العاملين، واجعلنا من العاملين المخلصين، واجعلنا من المخلصين المقبولين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المعذبين في كل مكان يا رب العالمين؛ اللهم رحمتك بالأطفال الرضع، والشيوخ الركع، والنسوة الثكالى، والصبية اليتامى، اللهم عجل فرجهم، وفرج كربهم، اللهم ارزقهم الصبر واليقين، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم اجعل عمل ولاتنا في رضاك، اللهم ووفقهم لهداك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اصرف عنا الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

النصيحة شروط وفوائد

النصيحة شروط وفوائد تعتبر النصيحة جزءاً مهماً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يقوم الدين إلا به، وبها يحصل النفع الكثير والقضاء على منكرات كثيرة، ولكن ينبغي للناصح أن يتعلم آداب النصيحة وشروطها، حتى تؤتي ثمارها وتقع في موقعها.

شروط النصيحة

شروط النصيحة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: (النصيحة شرائطها وفوائدها): نستكمل بهذا الموضوع ما سبق من حديث عن النصيحة التي نحتاج أن تكون خلقاً وصفة شائعة بيننا، يقدمها العالم للجاهل، والكبير للصغير، والولي لمن ولاه الله أمرهم، وتكون كذلك شائعة فيما بيننا من حيث تربيتنا عليها، حرصاً على أدائها، وتقبلاً لها، وتقديراً وإجلالاً واحتراماً لمقدمها، لما يبذله من خير يريده لنا. وقد رأيت من بعض الإخوة اهتماماً بأننا مقصرون في واجب النصح فيما بيننا، وفيما نراه من أحوال حياتنا العامة، في بيوتنا، في مجتمعاتنا، في أحيائنا، في مساجدنا، فلعلنا في هذا المقام نؤكد على أهمية النصيحة والتناصح. ونقف مع الشروط والصفات التي تجعل النصيحة كاملة نافعة، حتى نأخذ بالأسباب التي تقود إلى حصول المقصود.

العلم بما ينصح به

العلم بما ينصح به وأول هذه الشرائط والأسباب: العلم بما ينصح به: فلا ينبغي أن تتقدم بنصح في أمر لا تعلمه، ولا تعرف فيه حكم الله، وليس لك اطلاع فيه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النصيحة أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وإنها دعوة إلى الله لابد فيها من علم وفهم وإدراك: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، قدم العلم على ما ينبني عليه بعد ذلك من العمل. ويقول الحق جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] (على بصيرة) أي: على علم وبينة ومعرفة تامة وواضحة. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] والحكمة: وضع الشيء في موضعه، ولا يمكن أن تضعه في موضعه ما لم تكن به عالماً، وبالأحوال والظروف المحيطة مدركاً، وذلك ما ينبغي أن يكون. ومن فقه أئمتنا أنهم نبهوا على أهمية العلم قبل العمل، وقبل النصح والإرشاد الذي لابد أن يكون قوامه ذلك العلم، فمما أثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: العامل بغير علم يفسد أكثر مما يصلح. وهذا أمر بين نحتاج إليه، وكم من صور سنعرض لها يتقدم فيها من ينصح وهو ينصح بالباطل! وينصح بما يخالف النفع والفائدة المبنية على أساس الشريعة الإسلامية.

عمل الناصح بما ينصح به

عمل الناصح بما ينصح به وأما الثاني للكمال في هذه النصيحة فهو عمل الناصح بما ينصح به: فإن القدوة الحسنة لها أثرها في النفوس، فإن وافق الفعل القول كان ذلك أبلغ في الفهم والمعرفة وفي القبول والإقبال على هذه النصيحة، ولقد ورد الذم كثيراً وعظيماً لمن يخالف قوله فعله، ولمن لا يلحق القول بالفعل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. وفي سياق ما ذكر من صفات مذمومة كان عليها بعض أهل الكتاب قول الحق جل وعلا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، ولا يعني ذلك -كما أشرنا من قبل- أن تترك النصح إذا رأيت الخطأ وأنت غير مستقيم، فإن النصح في هذه الحالة يكون نصحاً للآخر ونصحاً لك، وذلك يقودك إلى مراجعة نفسك: ما بالي أقول لا تفعلوا وأنا أفعل؟ ما بالي أقول اجتنبوا وأنا ارتكب؟ فيكون ذلك عظة للإنسان. لكننا نتحدث هنا عن الكمال الذي يجعل للنصيحة أثرها النافع والمفيد، ومن حديث أسامة بن زيد وهو صحيح، ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن عقاب رجل في يوم القيامة صفته: أنه يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، قال صلى الله عليه وسلم: (فيؤتى به يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه -أي أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى؛ فيطلع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). وتلك صورة من العقاب المعنوي والحسي ساقها النبي صلى الله عليه وسلم تذكيراً وموعظة، وتحذيراً وترهيباً من مثل هذا السلوك. ولا شك أننا ندرك تماماً أن المخالفة بين القول والفعل من أسباب عدم قبول النصيحة، وحصول أثر الدعوة، ومن هنا جاء الخطاب القرآني على لسان نبي من أنبياء الله عز وجل: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، لا أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أخالف وأكون أنا الذي أفعله، فيكون ذلك كما ذكر ابن القيم من صفات علماء السوء الذين يعظون الناس بأقوالهم، ويصدونهم عن سبيل الله بأفعالهم، فشبههم بالذين يصطادون الناس بالصد والإعراض عن سبيل الله عز وجل وعن دينه سبحانه وتعالى.

إظهار الحرص والتجرد عند النصح

إظهار الحرص والتجرد عند النصح الثالث: إظهار الحرص والتجرد عند النصح: أما الحرص فنقصد به إظهار الحرص على ذلك المنصوح، وأن تبدي له غاية الشفقة به، وعظيم الرحمة له، وأن تجسد له أنك تريد له الخير، وتضمر له الحب، فإن ذلك من أعظم الأسباب التي تغزو بها النصيحة القلوب والعقول. ولعلنا نستحضر هنا الوصف العظيم الذي وصف به نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فهو الذي فاض قلبه بالرحمة فكان يشفق على كل عاصٍ، ويحزن لكفر الكافر، ويريد أن يكون الناس كلهم في سياق رحمة الله عز وجل ورضوانه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السياق مبيناً صفته مع الناس: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تتقحمون فيها)، كما ورد في بعض الروايات. فكأن الناس قد انساقوا وتسارعوا إلى النار غفلة عن الله عز وجل أو كفراً به أو ولوجاً في المعاصي، وتأتي هداية النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ورحمته لترد الناس عن هذا المصير السيئ والخاتمة الشقية إلى حياض دين الله عز وجل. ومن هنا رأينا مواقف رحمته كيف أثرت في نفوس العتاة الصادين عن دين الله! فتتت قسوة قلوبهم وألانتها بما كان من هذا الحرص والإظهار للمحبة والشفقة. وكيف نريد أن يقبل منا النصح والمنصوح قد يرى أننا لا نضمر له إلا شدة، ولا نريه إلا غلظة، ولا يسمع منا إلا فظاظة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، والله جل وعلا صدر الآية بالرحمة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، فالله الله عندما ننصح أن يكون إظهار هذا المعنى مهماً. والمعنى الآخر هو التجرد: أي التجرد عن المصلحة والمنفعة، إنما أنصحك لوجه الله لا أريد منك جزاءً ولا أنتظر منك شكوراً، ولا أرقب منك أن ترد لي المعروف مادة أو شيئاً من ذلك، وذلك لسان حال الرسل والأنبياء كلهم فيما قص القرآن من خبرهم: (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس:72]. ويوم يتنزه الناصح والداعي عن المطامع وحطام الدنيا تعلو مكانته عند الناس، ويعظم قدره في عيونهم، ويرون صدق إخلاصه، فيكون لذلك أثره في القبول: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، ما لي عندكم من غرض، ولا فيكم من أرب، إلا أن يجري الله الخير على يدي بما أقول، إبراء لذمتي، وبما أرقب من النفع استجابة لدعوتي. فالله الله في مثل هذا السلوك؛ لأنه هو الذي يقود بإذن الله إلى حصول الأثر.

التلطف في الأداء قولا وفعلا

التلطف في الأداء قولاً وفعلاً الشرط الرابع: التلطف في الأداء قولاً وفعلاً، وليس ببعيد عما ذكرناه، كذلك إظهار المشاعر القلبية، وهذا إظهار للأسباب الظاهرة فعلاً وقولاً، واستمع إلى هذه الآية العظيمة التي تبين ذلك الأمر بياناً شافياً: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وهي آية عظيمة في بلاغتها، وفيها روعة لا يمكن أن يحيط كلام الناس بعظمتها. (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) فتلك في باب والأخرى في باب آخر، فإذا جاءتك السيئة أو وقعت الخطيئة أو حصلت المخالفة: (ادْفَع) أي: ادفعها وبددها، فهل يكون ذلك بالقوة؟ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ليس بالحسنى بل بالتي هي أحسن، أي: بغاية ما يمكن من الإحسان والتلطف الذي يحصل به الأثر بإذن الله عز وجل. وكثيراً ما تسمع من الناس غير ذلك، فإن أسيئ إليك وأردت أن تكون واسع الصدر وأن ترد الإساءة بإحسان جاءك من يقول لك: لم ترض بالهوان؟ ولم تقبل بالذل؟ لو كنت مكانك لرددت الصاع صاعين، إن مثل هذه الأقوال نصائح على غير المنهاج القويم، وإن كان لكل مقام مقال كما سنذكر في بعض الأحوال. انتبه إلى مثل هذا المعنى وهو الذي تكررت به الآيات في سياق الخطاب والحوار في النصح لعتاة وطغاة كبار، يقول الحق جل وعلا: {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:25 - 26]. انتبه لهذا المعنى: (قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا)، نحن أهل حق وأهل إسلام وإيمان قد نخاطب أهل كفر وطغيان وعصيان، نقول: (لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) كأننا نقول لهم: لا تنظروا في الابتداء إلى أننا أهل حق وأنتم أهل باطل، وإنما نقول لكم: تأملوا وتدبروا، ورحم الله مصعب بن عمير يوم دعا في المدينة فجاءه أسيد بن حضير مرسلاً من سعد بن معاذ يقول: اخرج عنا ولا تفرق بيننا! قال: أوغير ذلك؟ قال: ما عندك؟ قال: تجلس فتسمع، فإن أعجبك الذي قلنا وإلا أعطيناك الذي أردت، قال: لقد أنصفت. كلام منطقي من عاقل، فسمع فشرح الله صدره، ونور قلبه، ونطق بالتوحيد لسانه، ورجع إلى سعد داعياً، فأسلم سعد وأسلم من بعد سعد قومه كلهم. تأمل هذا المعنى فإنه عزيز وقليل من الناس من يحسنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13]، وكلمة: (يا بني) هي أسلوب تلطف وتودد، وترغيب وتحفظ، وهو أب يمكن أن يكون آمراً وزاجراً ولا شيء غير ذلك، لكنه عندما أراد أن تكون موعظته بليغة ونافعة، ونصيحته مؤثرة وبالغة حينئذ قال: (يا بني). وإذا رأينا أبا الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام يخاطب أباه وقد كان زعيم الكفر في وقته: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، هذا المعنى (يا أبت) لم ينقص حقه، ولم ينس قدره، ولم يخف عليه أن مثل هذا المدخل قد يكون له أثره. وقصة موسى وفرعون معروفة: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44]. هذه معان كثيرة نحتاج إليها، ولذلك قد يكون من هذا إظهار شيء من التودد والتلطف أو التقدير والاحترام بقصد التأثير، فإن وقع ذلك فالحمد لله، وإن لم يقع فأنت قد أديت ما عليك، ومن أصر على معصيته فعاوده بين فينة وأخرى بأسلوب يناسبه، مرة فيه لين، ومرة قد يكون فيه شدة. وهذا أمر مهم والنبي صلى الله عليه وسلم عندما خاطب ملوك الأرض من حوله ذكرهم بمناقبهم ومناصبهم؛ لأنهم بها يخاطبون وإن كانوا ليسوا معظمين في الميزان الإيماني والإسلامي، فكتب إلى الملوك فقال: (إلى هرقل عظيم الروم)، (إلى كسرى عظيم الفرس). وفي قصة المسلمين في الحبشة ما يدل على ذلك، فلما خاطب جعفر بلسان المسلمين النجاشي قال: (أيها الملك) فأعطاه مقامه الذي هو فيه؛ حتى يكون ذلك التوقير داعياً إلى إصغائه، ولو أنه أهمله أو أنكره أو جفا عليه أو احتقره؛ لما كان له أن ينصت له أو أن يصغي إليه.

الاختيار المناسب للأسلوب

الاختيار المناسب للأسلوب الخامس: الاختيار المناسب للأسلوب بحسب الظروف المتغيرة: ومن ذلك اختيار الأوقات المناسبة، وهذا أمر عزيز في النصيحة، فكم من نصيحة نقذفها في وجه صاحبها وهو في أوج غضبه، أو وهو في شدة أزمته أو كربه فلا يكاد يسمع شيئاً. خذوا هذا الموقف: اختصم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم اثنان، فعلت أصواتهما، حتى احمر وجه أحدهما وظهرت أوداجه في رقبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من بعد: (إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فسعى بها رجل)، يعني: سمعها رجل من النبي صلى الله عليه وسلم فذهب بها إلى الرجل وقال له: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا (فمن شدة غضب الرجل وفورته قال: اذهب عني فإني لست بمجنون)، أي: تقول لي: استعذ من الشيطان وكأن الشيطان قد ركبني! لو كان هذا في وقت بعده بقليل لربما كان أنسب. وخذوا فقه العظيم النبي صلى الله عليه وسلم عندما: (جاءه حكيم بن حزام فسأله مالاً فأعطاه، ثم جاء في وقت آخر فسأله فأعطاه، ثم جاء ثالثة فسأله فأعطاه، ثم قال له: يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه). سأله في أول مرة وهو محتاج فأعطاه، لو قال له في ذلك الوقت: السؤال ليس مناسباً والتسول ليس مطلوباً لقال: إنما يريد أن يصرفني، ولا يريد أن يعطيني، لكنه أعطاه، والمرة الثانية أعطاه، والمرة الثالثة أعطاه، فلما أشار له إشارة أن التطلب لهذا المال قد لا يكون مناسباً وقعت النصيحة والموعظة في موقعها، وعلم أنه ما قال له ذلك لأنه بخيل -فحاشاه عليه الصلاة والسلام- أو لأنه لا يريد أن يعطيه، وإنما قاله له لمصلحته، فعرف ذلك بعد أن اختار الوقت المناسب وبعد أن سد له حاجته في مرة واثنتين حتى لا تذهب به الظنون بعيداً، فأي شيء أثر ذلك في حكيم؟ قال: (فما سألت أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مت)، وفي عهد أبي بكر أرسل له عطاءه المستحق له من بيت المال فرده قال: (والله لا أرزأ أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي عهد عمر رد عطاءه. انظروا كيف تغلغل أثر هذا في نفسه حتى إنه لم يعد يأخذ شيئاً ولو كان له فيه حق؛ لأن نفسه سمت وارتفعت عن أن يأخذ بعد أن فقه هذه النصيحة فقهاً له أثره العظيم في حياته. والتخول بالموعظة كان من هديه عليه الصلاة والسلام، فهذا أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود كان يعظ الناس ويذكرهم كل خميس قالوا: وددنا يا أبا عبد الرحمن! لو أنك ذكرتنا كل يوم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا، إذاً: كلهم لهم به عليه الصلاة والسلام اقتداء وهم لأثره في اقتفاء، ولذلك كانت أفعالهم على هذا النحو العظيم المؤثر النافع. وكذلك من ضمن ما يدخل في الوقت المناسب المراوحة والمزاوجة بين الإسرار والإعلان: فنصيحة الفرد غالباً ما يكون الأفضل فيها والأتم أن تكون في السر بينك وبينه، وأما نصيحة العموم إذا فشا أمر، فالخطيب يريد أن يذكر، والعالم يريد أن ينبه، والناصح يريد أن يحذر، ولا بأس بذلك، ولكنه وإن كان معلناً فينبغي أن يكون للعموم، ليس فيه تحديد، فكم من حادثة كان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر فيها وينصح على الملأ ولكن يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ثم ينبه. لست في حاجة أن أقول: فعل فلان أو أن أصف وصفاً يعلم الناس كلهم أن المقصود به فلان وفلان، فذلك لم يعد نصيحة بل فضيحة، ولذلك فإن مراعاة مثل هذه الصفات لها أثرها في أن تقع النصيحة على الوجه المطلوب. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأرشد الآراء وأصوب الأفعال، وأن يجعل ذلك العمل كله خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الأسباب الداعية إلى النصيحة

الأسباب الداعية إلى النصيحة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى النصح للمسلمين كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، ولعلي هنا أقف وقفات سريعة: هل نحن في حاجة إلى النصيحة والتناصح فيما بيننا؟ كلكم سيقول: نعم، وأزيد هذا تأييداً فأقول: عندنا أسباب كثيرة: منها: كثرة وغلبة الجهل الذي عم كثيراً من المسلمين، فلا يكادون يعرفون أحكاماً كثيرة من دينهم، ولا يكادون يقيمون أركاناً وفرائض من شعائر الإسلام، فيحتاجون إلى النصيحة في مثل ذلك. وأمر آخر: وهو شيوع المخالفات سواء كان ذلك في وقوع الانحراف بالابتداعات، أو كان ذلك في ارتكاب المحرمات، أو كان في الإصرار والتشبث بالعادات رغم ما فيها من المخالفات، وذلك أيضاً نلمحه ونراه. ويضاف إلى ذلك: ضعف التدين والورع، وقلة الاحتفال والاهتمام بأمر الدين، ولذلك نرى الناس يسألون عن العمل من أمور الدنيا يريدون الإقدام عليه، أو قضية يحتاجون إليها، ولكنهم قل أن يسألوا في أمر من أمور دينهم يحتاجونه، بل يسألون من الناحية الفنية أو الاقتصادية أو العملية، وبعد أن يمضوا في هذا العمل وينتهوا منه أو يقطعوا فيه شوطاً يقولون: هل في هذا محظور شرعي أو فيه حرمة أو فيه شبهة؟! ذلك كثيراً ما يؤخر، وهذا أمره خطير. ومن الأسباب: هذا الزخم الواسع من الغزو المتنوع في انحراف الفكر وانحلال السلوك عبر الوسائل المختلفة من هذه الفضائيات أو الإذاعات أو الشاشات أو الشبكات أو غير ذلك مما أصبح معه الناس دائماً في تأثر سلبي، يحتاج إلى مقابلة بهذا النصح والتذكير بإذن الله عز وجل. ومن ذلك أيضاً: الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة بسبب ما تيسر من أسباب الحياة وترفها، مما يحتاج دائماً إلى نصيحة تقرع ناقوس الخطر، وتنبه إلى حقيقة الحياة الدنيا وإلى نهايتها وزوالها وإلى ما بعدها.

صور من النصائح المعكوسة

صور من النصائح المعكوسة ثم أمر آخر: هناك نصائح معكوسة ومقلوبة، من يسمعها ويصغي إليها لا يصل إلى الخير بل إلى ضده: وللأسف أن صوراً منها تشيع في واقعنا، ولها كذلك في التاريخ وفيما سجلته آيات القرآن أدلة وأمثله: فرعون أطغى أهل الأرض وأكفرهم يقول عن موسى عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، فهو ينصح الناس ويحذرهم من موسى عليه السلام ويقول: أخشى أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد. ويقول عن نفسه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فرعون يقول: أنا الذي أنصحكم وأبين لكم الحق. وهكذا نجد صوراً كثيرة في حياة الناس وفي واقعنا اليوم من هذا الأمر، حتى إنك إذا نصحت بأسلوب حسن وعلم عنك ذلك، يأتيك من يقول: ما لك وللناس؟! دع الخلق للخالق، لا تدخل بين البصلة وقشرتها، لماذا تكلف نفسك ما لا تطيق؟! وهل كلفت بأمر الناس؟! وكأنه يقول لك: كن وحدك لا تنطق لسانك بالحق، ولا تنكر بالقلب، ولا تغير باليد، ولا يتمعرن وجهك لمنكر، ولا يتغيرن قلبك لمفسدة ونحو ذلك، كأنما ينصحك بأن تترك أمر الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. في أحوالنا الاجتماعية بم تنصح الزوجة أحياناً؟ احذري لا يتسلطن عليك، انتبهي لا يأخذن من مالك، كوني له بالمرصاد، ترقبيه في كل لحظة. والزوج يقولون له: انتبه من البداية، لابد أن تضرب بيد من حديد، هذه نصائح شائعة، ويقدمها أصحابها على أنها نصائح، وهي من المخاطر والمزالق العظيمة.

كيفية النصيحة لعامة المسلمين؟

كيفية النصيحة لعامة المسلمين؟ أخيراً نصيحتنا فيما بيننا: نحن عامة المسلمين الداخلين في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، كيف ننصح لبعضنا؟ أولاً: التعليم والإرشاد: علم أخاك بما ترى أنه لا يعلمه وأنت تعلمه، أرشده إلى مواطن الحق والخير، ومحض النصح فيما تشير به عليه. ثانياً: الرعاية والإعانة والإسناد: إن كانت له حاجة فبادر إلى سدها، إن كان في كرب فبادر إلى التنفيس عنه فإن ذلك من ألوان النصح له كذلك. ثالثاً: الأمر والنهي والنصرة الحقيقية: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! عرفنا كيف ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تمنعه أو تردعه عن الظلم، فتلك نصرته). كذلك الإحسان والستر: أحسن إليه، واستر عليه، وكن معه على ذلك الشأن الذي تحب أن يكون لك من الآخرين. ومن ذلك: التعظيم والتوقير: ونعني بذلك تعظيم حقوق المسلمين، وتوقير قدرهم، فإن للمسلم على المسلم حقاً لابد أن يؤدى، وإن له حرمة لابد أن ترعى، وذلك في عرضه ودمه وماله؛ فكيف تغتابه وكيف تستهزئ به وتسخر منه وكيف لا تعطيه قدره وكيف تشعره بالإهانة أو الاحتقار أو الازدراء والآيات في النهي عن ذلك كثيرة معروفة! ومن ذلك كف الأذى عنه: وكم من الأذى يأتي منا إلينا وفيما بيننا، ولعلنا أيضاً نحتاج إلى التعاون على البر والتقوى فهو من أعظم صور النصح بين المسلمين، وميادين ذلك كثيرة. نحن نرى في مساجدنا قصوراً وخللاً ومخالفات؛ لكننا نكاد لا نسمع من ينطق بالنصح بالأسلوب المناسب وفي السر وبالطريقة الملائمة، نحن نأتي إلى المساجد ونرى كثيراً من الشباب وغير الشباب لا يجيبون النداء ولا يتوجهون إلى الصلاة، فلا يكاد يذكرهم أحد أو ينصحهم، نحن نرى من يشتم ويسب ويلعن فلا نقول له: انتبه فإن ذلك يعود عليك، ولا تكن كذلك، فإنك إن تعودت ذلك صار لك ديدناً، وصار لك سمة سيئة ونحو ذلك. فهذه الصور التي في واقعنا تحتاج أن نشيع النصح، ولكننا كثيراً ما نتأخر أو نتخلف لأسباب ذكرناها فيما مضى، فلعلنا أن نتعاون تعاوناً حقيقياً، وأن نستفيد من مثل هذه الكلمات استفادة عملية، فلنشع هذا النصح فيما بيننا في أحوال مسجدنا هذا، وفيما يقع فيه من أمور أو مخالفات. كم نرى من أناس يدخلون إلى المساجد بثياب قذرة ورائحة منفرة، ولا يذكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينهى عن أكل بعض الطعام كالثوم لئلا يكون له أثر ورائحة كريهة تؤذي المصلين، وتؤذي الملائكة الذين يحفون بالمصلين! وكم من صور أخرى نراها في اعتداء على حقوق المسجد، وقد تحدثت في ذلك، ولكن لم نجد ما ينبغي أن يكون من تعاون لدرأ هذه المفاسد. وينبغي أن نشيع النصح والوعظ لمن يجاورون المسجد في كل الأمور والأحوال، سواء كان ذلك في العبادات أو كان ذلك في الأحوال الاجتماعية والتعليمية وغيرها، فإن المسجد هو قلب المجتمع المسلم النابض، وهو الرئة التي يتنفس بها، فلو تعاونا على ذلك لكان لنا من وراء ذلك خير كثير. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وأن يجعلنا من عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والناصحين، ونسأله جل وعلا أن يكتبنا في جنده المجاهدين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين؛ احفظ لهذه البلاد أمنها وأمانها، وسلمها وسلامها، ورغد عيشها ورخاءها، يا أرحم الراحمين يا رب العالمين اللهم رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم يا رب العالمين اللهم من كادنا فكده، ومن حاربنا فاخذله يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين والمرضى في كل مكان يا رب العالمين اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم واجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون!

نحن أمة الإسلام

نحن أمة الإسلام لقد فضل الله تعالى الأمة المحمدية على سائر الأمم رغم أنها آخرها، وجعل لها من المميزات ما لم يجعلها لأمة قبلها، فمن ذلك: إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً لها، وتخفيف الصلاة عنها، وجعلها خير الأمم، وحفظ كتابها من التغيير والتبديل، وهذا كله لم يقع لأمة متقدمة أبداً، فينبغي علينا أن نعتز بديننا، وأن نفخر به، وأن نتمسك به قولاً وعملاً وتطبيقاً ودعوة إليه، فهذا هو الذي أراده الله عز وجل منا.

واجب المسلمين نحو الإسلام

واجب المسلمين نحو الإسلام Q هذا وصفنا نحن أمة الإسلام في كتاب الله عز وجل، فما واجبنا؟ وما حالنا في واقعنا؟ لا نريد أن نفخر بالأقوال وأن نترك الأعمال، لا نريد أن نعيش على التاريخ الذي مضى، ونترك الواقع الذي بين أيدينا، إن مقتضيات هذا التمييز والتفضيل عظيمة جداً، وأذكر منها أربعة من المعاني المهمة:

الاعتزاز والافتخار بهذا الدين

الاعتزاز والافتخار بهذا الدين الأمر الأول: الاعتزاز والافتخار بهذا الدين، أنت مسلم تنتمي إلى كوكبة الرسل والأنبياء كلهم، أنت مسلم من أمة خاتم الأنبياء وسيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم، أنت مسلم أسلمت نفسك لله رب العالمين؛ فافتخر بذلك واعتز، أين اعتزاز المسلمين بدينهم؟! ربما كثير منهم اليوم لا يريد أن ينتسب إلى الإسلام، وربما يخفي إسلامه، وربما يستحي أن يظهر شعائر الإسلام في نفسه أو أهله، وربما يجامل أو يداهن أو ينافق أو يغالط، وربما يأتي ليبين محاسن الإسلام في وهمه وهو منهزم نفسياً، يريد أن يدفع ما يبطله المبطلون، وما يزيفه المزيفون عن هذا الإسلام من تهم لا صحة لها؛ فإذا به ينتحل ويتمحل أموراً، والأصل أنه ينبغي أن يتشرف وأن يفتخر وأن يعتز بهذا الإسلام، وأن يكون راسخ اليقين بأن هذا الدين صحيح، وكل حكم فيه حكيم، وأنه صالح لكل زمان ومكان، فما بال بعض المسلمين ضعفت هذه الثقة في نفوسهم، وتزعزع هذا اليقين في نفوسهم، وأصبحوا متميعين، غير مفتخرين بالإسلام ولا معتزين؟!

العمل والتطبيق

العمل والتطبيق الأمر الثاني: اللازم ليس مجرد الدعاوى والفخر، وإنما بعد الاعتزاز والافتخار: العمل والتطبيق، فأين حياتنا وواقعنا من أمر الله عز وجل، ومن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم؟! سؤال يطرحه كل امرئ على نفسه، وينظر إليه وإلى جوابه في واقع أسرته وبيئته ومجتمعه، وإلى واقع الأمة الإسلامية في كثير من أقطارها ودولها، أليس كثير منها قد نحى شرع الله، وأخر كتاب الله، وقدم على ذلك أقوال البشر وقوانين أهل الأرض؟! أليس في كثير من ديار الإسلام ومجتمعات المسلمين إعلان الحرب على الله عز وجل، وإبراز للمخالفات البين تحريمها بالدليل القطعي من كلام الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والأمر في ذلك لا يحتاج إلى مزيد تفصيل وبيان، وإنما يحتاج إلى اتعاظ وادكار، وإلى مراجعة ومحاسبة.

القيام بالجهاد والتضحية في سبيل نصرة الدين

القيام بالجهاد والتضحية في سبيل نصرة الدين وأخيراً: لا بد لنا أيضاً من أمر رابع نحمي به حمى هذا الدين، ونحمي به مقدرات المسلمين، وهو أمر الجهاد والمدافعة والتضحية في سبيل الله وفي سبيل نصرة هذا الدين، ما بال كثير منا إذا انتقص ماله أو نقصت وظيفته أو وقع له شيء من الضرر في أمور حياته أصابه الغم والهم، وسعى هنا وهناك، وإذا اعتدي على دين الله، واستهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهكت حرمات المسلمين؛ لم تقم لهم قائمة، ولم يتحرك لهم نبض، ولم يتغير لهم وجه، ولم يتحرق لهم قلب؟ أين غيرة الإيمان؟! وأين صدق الالتزام بهذا الإسلام؟! اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، وأن توفقنا للعمل بالصالحات، والمسابقة والمسارعة إلى الخيرات، اللهم إنا نسألك أن توفقنا وأن تهدينا. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

واقع المسلمين في الانسياب وراء اليهود والنصارى

واقع المسلمين في الانسياب وراء اليهود والنصارى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الحرص على كل ما أمر الله جل وعلا به لا سيما الولاء والبراء الذي هو من صلب هذا الدين، ومن أصل عقيدة المسلمين. أيها الأحبة الكرام! ما أسلفت ذكره أمثلة يسيرة، وإلا ففي كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة، وأدلة عديدة تبين لنا أن أمة الإسلام أمة متميزة تخالف غيرها، وقد هدى وأرشد النبي عليه الصلاة والسلام في كثير من الأمور إلى المخالفة الصريحة الواضحة للأمم السابقة حتى يبقى لأمة الإسلام سمتها المتميز، وهذا السمت فيه تخفيف وتيسير، ورفع للحرج والمشقة، وتفضيل وتعظيم للأجر، وتقديم للمسلمين على غيرهم، وأيضاً له تبعات والتزامات ينبغي أن نحققها في أنفسنا اعتزازاً بهذا الدين وعملاً به، ودعوة إليه، وجهاداً في سبيل نصرته، وكثير من هذه الأوصاف في حقيقة الأمر قد غابت عن كثير من المسلمين، واتصف بها غيرهم، وإذا رأيت بعض المسلمين ربما لم تستطع تمييزهم؛ لأنهم أخذوا بصفات كثيرة مما جبل عليه اليهود والنصارى، وأهل الكفر والشرك، ومن ذمهم الله عز وجل وقبح أوصافهم وأفعالهم، فأصبح الأمر مختلطاً، فحتى يكون لنا تميزنا وفضيلتنا نحن أمة الإسلام ينبغي أن نحرص على هذا الأمر كله.

دور العلم في إصلاح النفس

دور العلم في إصلاح النفس لابد من إصلاح النفس من الجهل إلى العلم، فأمة الإسلام اليوم كثير من أبنائها لا يعرف دينه، ولا يقرأ قرآنه، ولا يطالع حديث وسنة وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل كثير من أبناء الإسلام اليوم يعرف عن سقطة الناس وسفلتهم أكثر مما يعرف من أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا ينبغي أن نستعجب ونستغرب مما يحصل إذا رأينا كيف أصبحت النفوس ضعيفة من كثرة جهلها بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر شيخ الإسلام أن النفس بطبيعتها يغلبها الهوى، وينبغي لكل أحد -كما قال- أن يعرف أن النفس جاهلة ظالمة، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح. فكيف يكون العلاج؟ قال: لابد من علاج الجهل بالعلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم. قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، وكل الأنبياء استعاذوا من الجهل، وليس المقصود بالجهل مجرد عدم العلم، بل هو عدم الالتزام والعمل بهذا العلم كما هو معلوم. فلنطالب أنفسنا جميعاً بأن نعظم ونزيد ونواصل الصلة بكتاب الله مداومة على تلاوته، وإحساناً لترتيله، وتأملاً وتدبراً في معانيه، واجتهاداً في الأخذ بأحكامه والتحلي بآدابه، وحرصاً على نشره وتعليمه والدعوة إليه، وذلك فيه من الأثر والخير ما فيه.

أهمية الذكر في إصلاح النفس

أهمية الذكر في إصلاح النفس لابد من الانتقال من الغفلة إلى الذكر، فالنفوس غلب عليها الران، والقلوب اشتدت فيها القسوة، وأظلمت النفوس من كثرة ما تركت من الطاعات والواجبات، ولابد في إصلاح النفس من هذا التذكر؛ فإن أحوالنا اليوم تدعو إلى لفت النظر؛ فإن نفوسنا كأنما هي في نوم بلا يقظة، وتسويف بلا حزم، وابتلاء بلا اعتبار، وكأن القلوب قد عميت، وكأن النفوس قد ركعت، كثير منا في عقول سادرة، وألسن لاغية، وآذان للباطل مصغية، فلا الآيات تُتلى، ولا الأحاديث تُروى، وربما تُتلى وتُروى ولكنها لا تجد آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية، ولا أنفساً متقبلة، ولذا لابد أن ننتبه، قال ابن كثير رحمه الله في قوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]: أي: لا توضع الموعظة في غير أهلها الذين لا يعتبرون ولا يتذكرون بها، والله سبحانه وتعالى قد وصف الغافلين وصفاً ينبغي أن نحذر منه، وصفاً يخلع قلب كل مسلم، ويجعله ينتبه ويرتاع حتى لا يكون من أهل هذا الوصف، وهو قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فهل يرضى أحدنا أن يكون كالأنعام، وأن يكون كأنه لا قلب ولا عين ولا أذن له؛ لأنه لم يعتبر؛ ولأنه لم يتذكر؛ ولأنه ما زال غافلاً؛ ولأنه ما زال في الغي سادراً؛ ولأنه ما زال بالشهوات منشغلاً؛ ولأنه ما زال في الملذات منغمساً؟! هذه صورة -للأسف الشديد- تعمنا إلا من رحم الله، وإذا تذكرنا تذكرنا بقدر الحادث الذي مر، وبقدر النكبة التي مرت ثم عدنا من بعد ذلك إلى غفلتنا لنستمر في نومنا وغينا دون أن نجعل من هذه الأحداث محطات تغيير وأسباب تحول حقيقي دائم نحو ما ينبغي أن تكون عليه أحوالنا، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعتبر بها. كان أسلافنا من أصحاب القلوب الحية، والنفوس المطمئنة ذات التأثر العظيم، ولذلك نسمع من أقوالهم، ونعرف من أحوالهم إذا قرأنا سيرهم ما يلفت نظرنا إلى هذا المعنى، رأى بعض الناس الخوف في وجه أحد السلف فسألوه فقال: ذكرت ليلة صبحها يوم القيامة، وكما قال قائلهم: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. فأديموا المحاسبة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعتبروا بالأحداث الجارية، قال عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]، فهذه صفة قد ذم الله بها أولئك القوم من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن نهجه سبحانه وتعالى، فما بالنا نجعل ذلك من صفاتنا وخلالنا؟! نسأل الله عز وجل السلامة.

أهمية العمل في إصلاح النفس

أهمية العمل في إصلاح النفس لابد من التحول من الكسل إلى العمل، فكثيرون منا أخلدوا إلى الراحة، وأصبحوا يستثقلون أدنى درجات الحركة والنشاط فيما هو من الفرائض والواجبات، فضلاً عما هو فوق ذلك من السعي في مصالح المسلمين، والعمل على الإصلاح والتغيير، والتنادي إلى البر، والتعاون على البر والتقوى، وهذا -وللأسف الشديد- نادراً ما نجده، بينما نجد كدحاً وجداً وسبقاً وحثاً في مجال حياتنا الدنيوية، وكسبنا المادي، وطلبنا للترقي المعنوي، وغير ذلك مما نرى الناس يبذلون فيه عامة وقتهم، ومعظم جهدهم، وخالص فكرهم، ولا يكون لإسلامهم وإيمانهم وأحوال أمتهم مثل هذا الاعتناء والاعتبار والأخذ بالأسباب المهمة، والله عز وجل دعانا للعمل بجد وبعزم وبحزم، وجعل العمل هو المناص فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105]، وعندما دعينا للعمل دعينا بصيغ عظيمة، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، فهذه كلها صيغ تدلنا على أن الكسل والخمول لا موقع له ولا مكان له في صفة المسلم الحق، فكيف إذا كان المسلم في زمن ضعفت فيه الأمة، وذهبت هيبتها، وضاعت قيمتها، وتسلط عليها أعداؤها؟! إن الكسل حينئذٍ يكون جريمة عظمى، ويكون صورة من صور موات القلوب والنفوس، نسأل الله عز وجل السلامة.

واقع المسلمين في الانسياب وراء اليهود والنصارى

واقع المسلمين في الانسياب وراء اليهود والنصارى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الحرص على كل ما أمر الله جل وعلا به لا سيما الولاء والبراء الذي هو من صلب هذا الدين، ومن أصل عقيدة المسلمين. أيها الأحبة الكرام! ما أسلفت ذكره أمثلة يسيرة، وإلا ففي كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة، وأدلة عديدة تبين لنا أن أمة الإسلام أمة متميزة تخالف غيرها، وقد هدى وأرشد النبي عليه الصلاة والسلام في كثير من الأمور إلى المخالفة الصريحة الواضحة للأمم السابقة حتى يبقى لأمة الإسلام سمتها المتميز، وهذا السمت فيه تخفيف وتيسير، ورفع للحرج والمشقة، وتفضيل وتعظيم للأجر، وتقديم للمسلمين على غيرهم، وأيضاً له تبعات والتزامات ينبغي أن نحققها في أنفسنا اعتزازاً بهذا الدين وعملاً به، ودعوة إليه، وجهاداً في سبيل نصرته، وكثير من هذه الأوصاف في حقيقة الأمر قد غابت عن كثير من المسلمين، واتصف بها غيرهم، وإذا رأيت بعض المسلمين ربما لم تستطع تمييزهم؛ لأنهم أخذوا بصفات كثيرة مما جبل عليه اليهود والنصارى، وأهل الكفر والشرك، ومن ذمهم الله عز وجل وقبح أوصافهم وأفعالهم، فأصبح الأمر مختلطاً، فحتى يكون لنا تميزنا وفضيلتنا نحن أمة الإسلام ينبغي أن نحرص على هذا الأمر كله.

دور العلم في إصلاح النفس

دور العلم في إصلاح النفس لابد من إصلاح النفس من الجهل إلى العلم، فأمة الإسلام اليوم كثير من أبنائها لا يعرف دينه، ولا يقرأ قرآنه، ولا يطالع حديث وسنة وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل كثير من أبناء الإسلام اليوم يعرف عن سقطة الناس وسفلتهم أكثر مما يعرف من أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا ينبغي أن نستعجب ونستغرب مما يحصل إذا رأينا كيف أصبحت النفوس ضعيفة من كثرة جهلها بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر شيخ الإسلام أن النفس بطبيعتها يغلبها الهوى، وينبغي لكل أحد -كما قال- أن يعرف أن النفس جاهلة ظالمة، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح. فكيف يكون العلاج؟ قال: لابد من علاج الجهل بالعلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم. قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، وكل الأنبياء استعاذوا من الجهل، وليس المقصود بالجهل مجرد عدم العلم، بل هو عدم الالتزام والعمل بهذا العلم كما هو معلوم. فلنطالب أنفسنا جميعاً بأن نعظم ونزيد ونواصل الصلة بكتاب الله مداومة على تلاوته، وإحساناً لترتيله، وتأملاً وتدبراً في معانيه، واجتهاداً في الأخذ بأحكامه والتحلي بآدابه، وحرصاً على نشره وتعليمه والدعوة إليه، وذلك فيه من الأثر والخير ما فيه.

أهمية الذكر في إصلاح النفس

أهمية الذكر في إصلاح النفس لابد من الانتقال من الغفلة إلى الذكر، فالنفوس غلب عليها الران، والقلوب اشتدت فيها القسوة، وأظلمت النفوس من كثرة ما تركت من الطاعات والواجبات، ولابد في إصلاح النفس من هذا التذكر؛ فإن أحوالنا اليوم تدعو إلى لفت النظر؛ فإن نفوسنا كأنما هي في نوم بلا يقظة، وتسويف بلا حزم، وابتلاء بلا اعتبار، وكأن القلوب قد عميت، وكأن النفوس قد ركعت، كثير منا في عقول سادرة، وألسن لاغية، وآذان للباطل مصغية، فلا الآيات تُتلى، ولا الأحاديث تُروى، وربما تُتلى وتُروى ولكنها لا تجد آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية، ولا أنفساً متقبلة، ولذا لابد أن ننتبه، قال ابن كثير رحمه الله في قوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]: أي: لا توضع الموعظة في غير أهلها الذين لا يعتبرون ولا يتذكرون بها، والله سبحانه وتعالى قد وصف الغافلين وصفاً ينبغي أن نحذر منه، وصفاً يخلع قلب كل مسلم، ويجعله ينتبه ويرتاع حتى لا يكون من أهل هذا الوصف، وهو قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فهل يرضى أحدنا أن يكون كالأنعام، وأن يكون كأنه لا قلب ولا عين ولا أذن له؛ لأنه لم يعتبر؛ ولأنه لم يتذكر؛ ولأنه ما زال غافلاً؛ ولأنه ما زال في الغي سادراً؛ ولأنه ما زال بالشهوات منشغلاً؛ ولأنه ما زال في الملذات منغمساً؟! هذه صورة -للأسف الشديد- تعمنا إلا من رحم الله، وإذا تذكرنا تذكرنا بقدر الحادث الذي مر، وبقدر النكبة التي مرت ثم عدنا من بعد ذلك إلى غفلتنا لنستمر في نومنا وغينا دون أن نجعل من هذه الأحداث محطات تغيير وأسباب تحول حقيقي دائم نحو ما ينبغي أن تكون عليه أحوالنا، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعتبر بها. كان أسلافنا من أصحاب القلوب الحية، والنفوس المطمئنة ذات التأثر العظيم، ولذلك نسمع من أقوالهم، ونعرف من أحوالهم إذا قرأنا سيرهم ما يلفت نظرنا إلى هذا المعنى، رأى بعض الناس الخوف في وجه أحد السلف فسألوه فقال: ذكرت ليلة صبحها يوم القيامة، وكما قال قائلهم: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. فأديموا المحاسبة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعتبروا بالأحداث الجارية، قال عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]، فهذه صفة قد ذم الله بها أولئك القوم من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن نهجه سبحانه وتعالى، فما بالنا نجعل ذلك من صفاتنا وخلالنا؟! نسأل الله عز وجل السلامة.

أهمية العمل في إصلاح النفس

أهمية العمل في إصلاح النفس لابد من التحول من الكسل إلى العمل، فكثيرون منا أخلدوا إلى الراحة، وأصبحوا يستثقلون أدنى درجات الحركة والنشاط فيما هو من الفرائض والواجبات، فضلاً عما هو فوق ذلك من السعي في مصالح المسلمين، والعمل على الإصلاح والتغيير، والتنادي إلى البر، والتعاون على البر والتقوى، وهذا -وللأسف الشديد- نادراً ما نجده، بينما نجد كدحاً وجداً وسبقاً وحثاً في مجال حياتنا الدنيوية، وكسبنا المادي، وطلبنا للترقي المعنوي، وغير ذلك مما نرى الناس يبذلون فيه عامة وقتهم، ومعظم جهدهم، وخالص فكرهم، ولا يكون لإسلامهم وإيمانهم وأحوال أمتهم مثل هذا الاعتناء والاعتبار والأخذ بالأسباب المهمة، والله عز وجل دعانا للعمل بجد وبعزم وبحزم، وجعل العمل هو المناص فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105]، وعندما دعينا للعمل دعينا بصيغ عظيمة، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، فهذه كلها صيغ تدلنا على أن الكسل والخمول لا موقع له ولا مكان له في صفة المسلم الحق، فكيف إذا كان المسلم في زمن ضعفت فيه الأمة، وذهبت هيبتها، وضاعت قيمتها، وتسلط عليها أعداؤها؟! إن الكسل حينئذٍ يكون جريمة عظمى، ويكون صورة من صور موات القلوب والنفوس، نسأل الله عز وجل السلامة.

استحباب صيام عاشوراء ومخالفة اليهود فيه

استحباب صيام عاشوراء ومخالفة اليهود فيه وأثني في هذا المقام بما بدأت به في شأن صيام عاشوراء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حث عليه وأمر به وصامه عليه الصلاة والسلام، وأمر بأن يصام يوماً قبله أو يوماً بعده، وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة، وقد ذكر أهل العلم أن صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: أولها وأعلاها: صيام يوم عاشوراء ويوماً قبله ويوماً بعده. المرتبة الثانية: أن يصوم يوم عاشوراء، وأن يصوم يوماً قبله وهو اليوم التاسع. المرتبة الأقل: أن يفرد صيام يوم عاشوراء وحده، ومن لم يكن له في ذلك عذر فإنه يكون قد ترك الأولى، ووقع في خلاف ما حث عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أن يخالف اليهود بأن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، ويوم غد هو تاسع أيام هذا الشهر (تاسوعاء)، فأذكر نفسي وإخواني بأن نصوم هذا اليوم والذي بعده، ومن استطاع فالذي بعده، وكذلك نحث أنفسنا ونحيي هذه المعاني التي ذكرناها مع هذه السنة في نفوسنا، فنحن نريد أن نطبق السنة، وأن ننتبه إلى المعنى العظيم الذي نبهنا إليه النبي عليه الصلاة والسلام عندما بين المخالفة، وعندما بين الفضيلة بقوله: (أنا أحق بموسى منهم)، فنحن أحق بالرسل والأنبياء؛ لأننا على نهج قويم، وعلى دين عظيم، وعلى اتباع لنبي كريم عليه الصلاة والسلام، فالله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم ووفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، اللهم إنا نسألك أن توفقنا للصالحات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آت برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا أرحم الراحمين! اللهم املأ قلوبنا بالإيمان بك، وأنطق ألسنتنا بالدعوة إليك، وسخر جوارحنا في العمل لنصرة دينك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم أذل الشرك والمشركين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المسلمين المؤمنين، المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، اللهم رحمتك بهم، اللهم إنا نسألك أن تفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، اللهم ثبت أقدامهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جائعون فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وانصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، واجمع كلمتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أنعم على بلاد المسلمين بالأمن والأمان والسكينة والسلام، اللهم ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واجمعهم على كلمة الحق يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

السعادة والنجاة في الصلة بالله

السعادة والنجاة في الصلة بالله لا سعادة للعبد، ولا حياة يغمرها الفرح والسرور والطمأنينة إلا بالقرب من الله سبحانه وتعالى، والصلة به، واللجوء إليه، والتذلل والخضوع له، وإذا ما ابتعد الإنسان عن طاعة مولاه، وهجر أماكن الطاعة والعبادة، استبدل الفرح بالحزن، والطمأنينة بالضنك، والبشاشة بالكآبة، والرضا بالسخط.

السعادة الحقيقية

السعادة الحقيقية الحمد لله، لا إله غيره، ولا رب سواه، جعل طمأنينة القلوب في ذكره، وزيادة النعم بشكره، وجعل السعادة في طاعته، وجعل اللذة في عبادته، له الحمد سبحانه وتعالى، شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالقرآن، وهدى البصائر بالإيمان، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد في كل حال وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله والحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، بعثه الله إلى الناس كافة أجمعين، وأرسله رحمةً للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا الله وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته. وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! السعادة والنجاة في الصلة بالله حقيقة لابد من اليقين بها، ولا مخرج إلا بامتثالها وتطبيقها، كم في الصدور من ضيق ومن حرج! كم في القلوب من هموم وغموم! كم في الحياة من مشكلات ومعضلات! كم في العلاقات من سوء وانقطاع! كم في الأبناء من عقوق وتمرد! وفي الحياة من صورٍ مختلفة من الابتلاءات! يفضي المرء بها إلى شقاء عظيم، وإلى بلاء كبير، وهي في أصل خلقتها سنة الله جل وعلا في الحياة: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] إنها حياة ابتلاء، من لم يكن له بالله صلة صار في ابتلاء وشقاء، وإن المرء ليتأمل فيجد في حياة الناس في الجملة أسباباً كثيرة من أسباب النكد والهم والغم، فذاك حزين كاسف البال؛ لأنه لا يجد ما يريد وما يطمع فيه من المال، وذاك حزين متألم لما وجد من خصومة زوجته وعقوق أبنائه، وهذا متذمر من سوء جيرانه وأذاهم، والأخير متألم مكوي بنار في قلبه من ظلم الطغاة والجبابرة؛ وقهرهم له، وأخذهم لحقه، فأي شيء يسري عن تلك النفوس وما فيها من الأحزان والآلام؟! وأي شيء يسكب في تلك القلوب الحزينة الكسيفة الطمأنينة والسكينة؟! وكيف تخلص السعادة واللذة إلى النفوس والأرواح رغم كل هذه البلايا والرزايا؟! إن الدنيا كلها وما فيها من متع وشهوات لا يمكن أن تحل هذه المشكلات، ولا أن تزيل تلك الهموم، وإن أسباب القوة المادية من جاه وسلطان لا يمكن كذلك أن يكون لها أدنى أثر ولا أقل فائدة، إنه لا بد لنا أن نعرف أصل خلقتنا: قبضة طينٍ ونفخة روح: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] إن الأرواح أثر من نفخة روح الله عز وجل! إن القلوب والنفوس لا يطعمها ولا يغذيها ولا يشبعها ولا يرويها غذاءٌ وشرابٌ وطعامٌ من أثر هذه الحياة الدنيا! وإنما غذاؤها روحي، وإنما ريها رباني، وإنما تطلعها لما في الملأ الأعلى، لا بد أن ندرك هذه الحقيقة، وإلا يكن الأمر كذلك فإنه الشقاء المحتوم، والبلاء الدائم، والهم العظيم، والغم المتوالي، وذلك ما نشكو منه، وذلك ما نحس به؛ لأن القلوب لم يخلص إليها روحٌ من الله عز وجل من أثر التعلق به، وحسن الصلة به، وذلك ما دلت عليه الآيات، وما استنبطه العلماء، وما بينته وقائع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلنقف هذه الوقفات التي نحن في أمس الحاجة إليها مع صعوبة وشدة وشقاء وعناء هذه الحياة.

من كلام السلف في أسباب السعادة

من كلام السلف في أسباب السعادة قال إبراهيم بن شيبان: من أراد أن يكون معدوداً في الأحرار، مذكوراً في الأبرار؛ فليخلص عبادة ربه. إنك بدون ذلك التعلق تبقى عبداً مأسوراً لحاجتك، ذليلاً لمن تمد إليه يدك غير الله، مقهوراً لكل من تخافه غير الله سبحانه وتعالى، أما إذا علقت القلب به، وأخلصت النية له، ووجهت القصد والوقت والجهد في طاعته ومرضاته، فأنت حر الأحرار، وأنت بر الأبرار، وأنت الناجي من عذاب النار بإذنه سبحانه وتعالى، وكذلك نجد هذا فيما كان يقوله أسلافنا. سئل ذو النون رحمه الله: فيم يجد العبد الخلاص؟ وكلنا نسأل هذا السؤال كلنا نريد الخلاص كلنا نريد النجاة كلنا نريد السعادة، فقال رحمه الله: الخلاص في الإخلاص، فإذا أخلص تخلص من كل هم دنياه، تخلص من كل تسلط أعدائه، وتخلص من كل حاجات نفسه الدنية الدنيوية؛ ليبقى سامياً عالياً مرتقياً على الدنيا وما فيها، وعلى أهل الدنيا جميعاًَ، فإن قوته وصلته بالله تعطيه من الغنى والاستغناء ما لا يكون أهل الأرض كلهم يوازون عنده جناح بعوضة كما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، ونحن لنا مطامع إذا علقناها بالله وجدنا الخير والسعادة والحرية، وإذا علقناها بأسباب الحياة لم نجد ما يشبع النهمة ويروي الظمأ، ثم كنا أسرى ضعفاء لا نستطيع أن نحقق مرادنا في دنيانا، ونحشى ألا نحقق نجاتنا في أخرانا. قال ابن تيمية رحمه الله: كلما طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له، وحريته عما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، فإن احتجت إلى غير الله فأنت أسيره. وتأمل أخي المؤمن ماذا تريد من الدنيا؟ وماذا تريد في الآخرة؟ اسأل نفسك، وتلمس الإجابة، فإنك تجدها كلها متعلقة بأمر الله وطاعته، وتعليق القلب به، وربط الحبال بما عنده سبحانه وتعالى، ألست تريد تكثير الحسنات وتكفير السيئات؟ استمع لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5] ألست تريد العلم والفقه والفهم؟ استمع لقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] ألست تريد الفرج والرزق ورغد العيش؟ استمع لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] ألست تريد الفرح والسرور والسعادة؟ استمع لقول الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] المعين عذبٌ متدفق فأين الواردون الشاربون؟ والطريق واضحٌ مستقيم فأين السالكون المشمرون؟ تأملوا لنجد أن شقاءنا مغروس في نفوسنا بما أعرضت عن ذكر الله، وبما فرطت من التعلق بالله سبحانه وتعالى، لنجد أن كل ما نحتاج إليه كما أسلفنا القول في بدء حديثنا مبدؤه ومنتهاه، أوله وآخره، سراؤه وضراؤه، دنياه وأخراه مرتبطٌ بحقيقة التعلق بالله، ألستم تعرفون أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ ألسنا نحفظ قوله: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)؟ ألسنا نعرف فقه الابتلاء الذي يزيل الهم والغم، وينفس الكرب في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا تعب ولا همٍ ولا غمٍ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)؟ ألسنا نعرف وصيته العظيمة قالها لغلامٍ في مقتبل عمره: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)؟ أين نحن من هذا؟! نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى كتابه، وإلى هدي رسوله، وأن يروي ظمأ قلوبنا، وأن يطهر كدر نفوسنا بالإقبال عليه والتعلق به، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء فيه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

كلام نفيس لابن القيم في السعادة

كلام نفيس لابن القيم في السعادة قال ابن القيم رحمه الله في إطلالة قرآنية، واستنباطات روحانية، ودلالات علمية تكشف حقيقة الحياة البشرية، وتدل على سبل النجاة الحقيقية، قال رحمه الله تعالى: (قوله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:21] متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه، ومفاتيح تلك الخزائن بيده، وأن طلبه من غيره ممن ليس عنده ولا يقدر عليه أمرٌ غير محمود ولا معقول. وقوله جل وعلا: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد لم يرد لأجله ويتصل به فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:21]، واجتمع كل ما يراد له في قوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42]، فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى، وتحت هذا سرٌ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه). إنها حقائق القرآن، إنها الوقائع الحقيقية في حياة البشرية، أفلا ترون غير المسلمين عموماً وبعض المسلمين الشاردين عن طاعة الله خصوصاً، كيف تيسرت لهم أسباب الدنيا، وكيف كسروا حواجز الحرام فأكثروا من شهواتها وملذاتها، وكيف تيسرت لهم كثير من الأسباب التي يتمناها غيرهم من الناس، فهل خلصت السعادة إلى نفوسهم؟! وهل سكنت الطمأنينة قلوبهم؟! كلا والله، إنك لترى الشقاء مرسوماً على جباههم، وبادياً في وجوههم، وظاهراً في حزنهم، ومتجلياً في كسف بالهم، إنك تراهم وقد ملكوا الدنيا وأسبابها وهم ما يزالون في نكد وبلاء وضيق؛ لأن شقاء الدنيا كله قد جمعته وأوجزته حقيقة ربانية في شطر آية قرآنية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] ضنكٌ في كل شيء، ضنكٌ في أسباب الحياة المادية والمعنوية، ضنك في أسباب الحياة الفردية والجماعية، ضنك في أسباب الحياة الداخلية والظاهرية، ضنك لا يكاد ينفك عنه أحدٌ إلا إذا أقبل على الله، وعلق قلبه بالله، وأفضى بعوالج ولواعج قلبه ونفسه إلى خالقه ومولاه، لا يمكن أن يتخلص من همه وغمه إلا بتلك المناجاة والتضرع إلى الله، والإقبال على الله، فإنه لا يسد فاقة القلب ولا يلم شعثه إلا الإقبال على الله، ولا يمكن لأحدٍ أن يطلب تلك السعاة والراحة إلا من هذا الطريق، وإلا فإنه محجوب مردود على عقبه غير بالغ مقصده، ولا نائل إربه، وتلك الحقيقة تنطق بها الآيات، وتشهد بها الوقائع في حياة الناس، وهذه كلمات أخرى تدل على ذلك وتؤكده في كل صور الحياة النفسية والقلبية التي يحتاجها كل إنسان على سبيل العموم، وكل مؤمن مسلمٍ على سبيل الخصوص، إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزنٌ لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكنه إلا الاجتماع إليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً، وها نحن أيها الإخوة الأحبة نوضح هذه الحقيقة فهل إلى مراجعة من سبيل؟! وهل إلى مصارحة من طريق تجعلنا ندخل السرور إلى نفوسنا، ونذهب الهم والحزن عن قلوبنا، ونشيع اللذة والحبور والسرور في أرواحنا؟! استمعوا إلى نداء القرآن الفريد العجيب: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وكل شيء خفته فررت منه، وكل شيء يمكن أن يكون سبباً -ولو بتقديرٍ- في شيء من ضرٍ لا يتصور أن يكون علاجه وبرؤه منه لكنها الحقيقة الربانية، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] كلما أظلمت الدنيا في وجوهكم فروا إلى الله كلما تعاظمت المشكلات والصعوبات فروا إلى الله كلما ضاقت الصدور وقست القلوب فروا إلى الله كلما جمدت الأعين وقحطت الدموع فروا إلى الله كلما لغت الألسن وأكثرت من الباطل فروا إلى الله تجدوا عنده كل ما يملأ قلوبكم ونفوسكم أنساً وسعادة وسروراً، وذلك أمره بينٌ وقد فقهه أسلافنا وعلماؤنا وأئمتنا، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى ذلك كله، فهو أمرٌ يفقهه ويعرفه -بل يذوقه ويستشعره- كل مؤمن يقبل على الله ويقف بين يديه، ويتوسل إليه، ويتضرع إليه، وذلك مما تشهد به وقائع أحوالنا، فعندما تتغير أحوالنا في بعض الأوقات عند الملمات أو في المناسبات والطاعات نشعر بأثر ذلك، ونشعر بلذة في لحظات نقيسها ونزنها بسنوات وسنوات؛ لأنه ليس هناك أثقل ولا أجمل ولا أفضل من تلك السعادة النفسية الروحية التي فيها هدوء البال، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب، ورشد العقل، وسكينة تفيض على الإنسان كل هذه المعاني الطيبة الحسنة.

قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين

قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أنموذج نتلمس فيه كل ما قلناه من تلك المعاني، أنموذج في فريضة الصلاة التي افترضها الله عز وجل علينا في كل يوم خمس مرات، لنرى كيف يمكن أن تكون هذه الصلاة هي سعادة دنيانا، ونجاة أخرانا، وراحة نفوسنا، وطمأنينة قلوبنا، وانشراح صدورنا، وهدوء بالنا، ولذة حياتنا، وسعادة أفراحنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] كلما ادلهمت الخطوب، وعظمت الرزايا، فلنفعل ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، (كان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة) ألق فيها همك، واطرح فيها بين يدي ربك شكواك، وارفع إليه مناجاتك، وتضرع إليه، فإن ذلك يحقق لك كل طمأنينة وسكينة، وتأملوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يوجز الدنيا ومتاعها، ويجعل الكفة الراجحة في سعادة القلب والنفس في هذه الصلاة: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، تلك من متاع الدنيا، لكن قرة العين وهي منتهى السعادة، وغاية اللذة، وقمة السرور، وأقصى ما يجد الإنسان فيه راحته وسعادته، قال عليه الصلاة والسلام: (في الصلاة تلقي همك، وتبث شكواك إلى ربك ومولاك) فأي شيء من هم يبقى بعد ذلك؟! وكان عليه الصلاة والسلام ينادي بلالاً فيقول: (أرحنا بها يا بلال! أرحنا بها يا بلال!) راحة من كل تعب، وهدوء من كل صخب، وسعادةٌ من كل شقاء نجدها في تعليق القلوب إلى الله، وسجود الجباه لعظمته سبحانه وتعالى، وتسبيح الألسنة له، وذكرها له سبحانه وتعالى، ونرى ذلك واضحاً فيما بينته سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف نزيل الكدر والهم والغم؟ كيف نطهر الأبدان والأرواح؟ (أرأيتم لو أن نهراً غمراً يجري بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا، يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) ويمحو كذلك سبحانه وتعالى كدر النفوس، وهم القلوب، وضيق الصدور بإذنه جل وعلا، وكذلك نجد ذلك في السير والأحاديث والنصوص، وحسبنا في ذلك أن نذكر الحديث العظيم الذي أخبر فيه نبينا صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال أنه قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله جل وعلا: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله جل وعلا: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: حمدني عبدي وذلك بيني وبينه، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). تأمل أنت العبد الفقير الحقير إذا وقفت بين يدي الله كل كلمة تتلوها من آياته يرد بها عليك، إذا وقفت بين يدي الله في مقام الصلاة والمناجاة فإن الله يرى مقامك، ويسمع مناجاتك، ويرد على تلاوة آياتك، فأي شيء أعظم من ذلك!، وأي مقام أرفع من هذا! تأمل هذا واعلم أن هذا أنموذج فحسب، وإلا ففي الذكر فسحة واسعة، وفي الدعاء لذة غامرة، وفي الإحسان إلى الخلق سور عظيم، وفي كل طاعة من طاعات الله عز وجل ما تسكن به النفوس وتسعد. نسأل الله عز وجل أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، اللهم زك نفوسنا، وطهر قلوبنا، واشرح صدورنا، وأنر بصائرنا، واهد عقولنا، وثبت أقدامنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل طاعتك أحب إلينا من دنيانا، اللهم اجعل ذكرك أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، اللهم اجعلنا مقبلين على طاعتك، متلذذين بمناجاتك، اشرح اللهم بها صدورنا، وطمئن بها قلوبنا، اللهم علق قلوبنا بطاعتك ومرضاتك، لا تجعل لنا في الدنيا قصداً إلا إليك، ولا رغبةً إلا فيما عندك، ولا رهبة إلا من عذابك، نسألك اللهم أن تجعلنا منيبين إليك، متوكلين عليك، خائفين منك، راجين فيك، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم إنا نسألك أن تستخدمنا في طاعتك، وأن تسخر جوارحنا في مرضاتك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن تحسن ختامهم، وترفع في الآخرة مقامهم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا ومثوانا ومنقلبنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، احصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم اجعل الخلف في صفوفهم، اللهم رد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واشف فيهم صدور قومٍ مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا وأذلوا عبادك المؤمنين وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم عليك بهم أجمعين يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم وعظم يقينهم يا رب العالمين! واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

تأملات في الهزائم والانتصارات

تأملات في الهزائم والانتصارات إن الله عز وجل إذا قال فإن قوله حق، وإذا وعد فإنه لا يخلف الميعاد، وقد وعد سبحانه وتعالى هذه الأمة بالنصر والتمكين، إلا أن هذا النصر متخلف فهذه الأيام، وما ذاك إلا بسبب التضييع لدين الله، والبعد عنه سبحانه وتعالى، وكثرة المعاصي والفواحش، والمجاهرة بها في بلاد المسلمين، فإذا رجعت الأمة إلى دين الله، وعملت بأسباب النصر، عندها يتحقق موعود الله لها بالنصر والتمكين.

إعلان النصر قبل المعركة

إعلان النصر قبل المعركة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على آلائه التي لا تعد ولا تحصى، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته، واقتفى أثره، وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة. أما بعد: أيها الإخوة الأحبة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله جل وعلا أن يُكتب هذا اللقاء في موازين حسناتنا، وأن يرزقنا من ورائه نفعاً، وأن يكتب لنا به أجراً. وأبدأ بعد شكر الله جل وعلا بشكر أخي فضيلة الشيخ عبد الوهاب الذي كان سبباً في هذا اللقاء، وأشكر الإخوة الحضور الذين أحسنوا الظن بما قد ينتفعون به من سماع هذا الموضوع، وأما بُعد الشقة واختلاف البلاد فإني أقول: ما جئت من بلد ناء إلى بلدي بل جئت من كبد حرى إلى كبدي ولقيا الوجوه الطيبة والإخوة الصالحين تذكر بالآخرة، وتعين على الطاعة، وتجدد العزم، وتقوي الهمة، وتبعث روحاً جديدة يأنس بها الإنسان، ويشعر أن له إخوة معه على الدرب والعهد، مهما اختلفت ديارهم أو لهجاتهم أو أفكارهم من حيث تعليمهم ومراتبهم الاجتماعية والعلمية، وهذا أمر يشعر به أهل الإيمان بلا خلف أو تفرقة بينهم. موضوع حديثنا هو: (تأملات في الهزائم والانتصارات) فإنه يسلط الضوء على هذا الموضوع من جهة المواقع الفاصلة، والأحداث الكبرى في بعض مراحل تاريخ الأمة المسلمة، والله سبحانه وتعالى قد قص علينا قصص السابقين، وساق لنا قصص الأنبياء والمرسلين؛ لنتدبر فيها، ونستقي منها العبرة، ونقرأ بين سطورها وفي ثناياها الدروس التي كتبها الله سبحانه وتعالى في قواعد محكمة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وكما قضى الله سبحانه وتعالى بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، وكما قضت حكمته سبحانه وتعالى أن قطع على نفسه الوعد بأنه يدافع عن الذين آمنوا، وربط الشرط بمشروط في قوله جل وعلا: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] غاية الأمر أننا نريد أن نسلط الضوء لنقرأ فيما وراء الأحداث، ولنتأمل في الأمور التي قد لا يكترث الناس بها، ولا تخلد في أذهانهم، ولا تبقى في عقولهم. اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضاع قوم ليس يدرون الخبر إن أمة لا تقرأ تاريخها لا يمكن أن تعرف حاضرها، ولا أن تخطط لمستقبلها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] هذه الدنيا كلها بما فيها من الأحداث درس وعبرة يظهر للمؤمن فيها قدر الله عز وجل النافذ، وحكمته البالغة، ومشيئته التي لا يردها شيء، وكذلك تظهر له من خلالها الصورة الحقيقية لأسباب النصر، والصورة الحقيقية لأسباب الهزيمة. وأبدأ بالنقطة الأولى: إعلان النصر قبل المعركة: معلوم أن الانتصار لا يعلن قبل اللقاء، وأنه في المعارك والمهام يبقى الجزم بالنصر حتى اللحظات الأخيرة غير معروف، لكن سنأخذ ومضات سريعة نرى فيها أن النصر أعلن قبل بدء المعركة في كثير من الأوقات، وذلك ينبئ عن أن الذي جزم بهذا النصر قبل اللقاء قد استحضر أموراً معينة، ورأى أسباباً مهيأة، وعرف حقائق إيمانية لا تزول ولا تتغير، فجزم بذلك في أول يوم من أيام الله عز وجل. في يوم الفرقان يوم بدر الأغر، لما قضى الله عز وجل أن يلتقي محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الميامين بكفار قريش، ولم يكونوا قد تهيئوا لذلك، وعندما صفت الصفوف، وتعين اللقاء ماذا صنع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ توجه إلى الله عز وجل وهو يناشد ربه ويسأل مولاه، ويلحف في المسألة، ويلح في الدعاء، ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً، اللهم هذه قريش جاءت بفخرها وخيلائها -ويلح عليه الصلاة والسلام- اللهم نصرك الذي وعدتني، حتى سقط الرداء من كتفه الشريف صلى الله عليه وسلم، ويبكي أبو بكر رضي الله عنه ويقول: حسبك يا رسول الله! فإن الله منجز لك ما وعد)، أي: يكفي هذا الإلحاح وهذا الدعاء، فماذا حصل بعد ذلك؟ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بحفنة من الحصى، ورمى بها في جهة الكفار وقال: (شاهت الوجوه، ثم قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، هذا مصرع عقبة بن أبي معيط، هذا مصرع أبي جهل، هذا مصرع أبي، هذا مصرع أمية بن خلف)، ويعين مواضع مصرعهم، قال الرواة في السير: فما أخطأ واحد منهم ما أشار به صلى الله عليه وسلم، لقد حكم عليه الصلاة والسلام بالنصر؛ لأنه كان يعلم من أصحابه قلوباً مؤمنة بالله، وجباهاً ساجدة لله، وصفاً موتد العرى بالمحبة والألفة في الله عز وجل، فتحققت أسباب النصر، فأعلنه عليه الصلاة والسلام قبل بدء المعركة. وفي موقف أكثر شدة وضراوة وقسوة على المسلمين، اجتمع فيه عليهم شدة البرد، مع شدة الجوع، مع شدة الخوف، مع كثرة العدو، مع خيانة الذي كان نصيراً، وذلك في يوم الأحزاب الذي وصفه الله عز وجل وصفاً عجيباً فقال سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] في ذلك الموقف العصيب، وقد اجتمعت قريش وغطفان ومن معهم من بعض القبائل والأحابيش، وأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وحاصروها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ به وبأصحابه الأمر مبلغاً عظيماً من شدة الجوع والخوف والبرد، ثم يرسل عليه الصلاة والسلام السعدين ليستجليا له خبر قريظة، قال: (فإن كانوا على العهد فأظهروا ذلك، وإن كانوا قد نقضوا فالحنا لي لحناً أعرفه ولا يعرفه غيري)، فلما بلغه الخبر عليه الصلاة والسلام بنقض قريظة للعهد، وكان ذلك بمثابة الطعنة من الخلف، وبمثابة آخر حجر من أحجار البناء الذي يظن في الصورة المادية أنه بدا متهالكاً متداعياً، يوشك أن يسقط على الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه، عندما بلغه هذا الخبر كبر عليه الصلاة والسلام وقال: (الله أكبر، الله أكبر، أبشروا بالنصر)، في عمق المأساة، وفي شدة الكرب، يكبر عليه الصلاة والسلام ويجزم بالنصر، ولم يكن يعرف له سبباً، ولم يكن يعرف من وحي الله عز وجل ما سيقع بعد، ولكنه رأى أسباب النصر: أمة موحدة لله عز وجل، ما لانت ولا داهنت في دينها، ولا باعت مبادئها، ولا غيرت عهدها مع الله عز وجل، أمة متوحدة مترابطة قلبها قلب رجل واحد، فقال عليه الصلاة والسلام: (أبشروا بالنصر). فجاء نصر الله عز وجل من حيث لم يحتسبوا، ولم يشعروا، ولم يعرفوا، فإذا بالريح تطفئ النار، وتكفئ القدور، وإذا بـ أبي سفيان زعيم القوم ينهض ناقته ويقول: يا أهل مكة! لا مقام لكم فارجعوا، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، وبث في قلوب الكفار الرعب، وجاء النصر. وقد يقول قائل: إن هذا الإخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم وحي فله أن يعلن النصر قبل المعركة، ولكني أقول: إن هذا ليس من هذا النحو، وإن كان المصطفى عليه الصلاة والسلام مسدداً بالوحي، لكن الأمر كان منه عليه الصلاة والسلام نظراً في هذه الأسباب؛ ولذا قد وقع من غير الرسول عليه الصلاة والسلام من أهل الصلاح والإيمان من هذه الأمة الإسلامية من جزم بالنصر، كما وقع من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في عام (702هـ) في موقعة (شقحب)، عندما تلاقى المسلمون والتتار، فقد كان شيخ الإسلام رحمة الله عليه يحرض المسلمين على القتال، ويحثهم على الجهاد، ويأمرهم بالدعاء، ثم يقول: والله! إنكم لمنصورون عليهم هذه الكرة، فيقولون له: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. سبحان الله! يجزم ويحلف، وإذا قيل له: قل: إن شاء الله يقول: إن شاء الله تحقيقاً، أي: أن ذلك واقع لا محالة، ولكنه بمشيئة الله عز وجل، لا تعليقاً كأنه يشك في نصر الله عز وجل، لم جزم شيخ الإسلام بذلك وليس هو ممن يوحى إليه قطعاً؟ هو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه قد رأى بأم عينيه ملامح النصر تتحقق في الأمة المسلمة، فعلم أن قوماً قد لجئوا إلى الله عز وجل، ونابذوا المعاصي، وتوحدت صفوفهم، سينصرهم الله عز وجل؛ لأن وعده لا يتخلف: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. هذه الومضة ليست هي مقصودنا في الحديث، إنما مقصودنا أن النصر والهزيمة لا يتعلق بالأمور المادية الظاهرة، وإنما يتعلق أكثر ما يتعلق بالأمور والأسباب المعنوية الإيمانية التي فيها وفاء بعهد الله، والتزام بشرع الله سبحانه وتعالى.

النصر بعد الهزائم الساحقة

النصر بعد الهزائم الساحقة ومضة أخرى تدلل على هذا وتقودنا إلى لب حديثنا. النصر بعد الهزائم الساحقة، إن الأمة التي تهزم هزيمة شديدة وقاصمة وقوية لم يتوقع لها أن تنهض من كبوتها، ولا أن تعود إلى عزتها بسرعة، وهذا أمر في المقاييس المادية معروف ملموس، لكننا سنجد كما سأضرب بعض الأمثلة من مواقف التاريخ في حياة الأمة المسلمة ما يعكس هذه الصورة، وذلك يدلنا على أن الهزائم القوية لا تبلغ أحياناً من المهزومين مبلغاً إذا كانت لم تصل إلى إيمانهم، ولم تنل من عزائمهم، ولم تزعزع صلتهم وثقتهم بالله عز وجل، ولم تجعلهم ممسوخين في أفكارهم وفي مبادئهم وفي اعتزازهم بشخصيتهم ودينهم، ولذلك نجد هناك مواقع حاسمة في تاريخ الأمة: في عام (491هـ) اقتحم النصارى بيت المقدس وأخذوها، ودخلوا إلى المسجد الأقصى، وقتلوا فيه من المسلمين كما يذكر ابن كثير نحو سبعين ألف نفس، حتى غاصت ركب الخيول في دماء المسلمين! هزيمة مروعة، وفظاعة من القتل والوحشية تنخلع لها قلوب الرجال الأشداء فضلاً عن غيرهم، ومع ذلك يذكر التاريخ بعد عامين اثنين فقط في عام (493هـ) أنه التقى بعض جيش المسلمين من أهل الشام مع أولئك النصارى فكسروهم كسرة لم يسمع التاريخ بمثلها، ذكر ابن كثير في البداية والنهاية: أن عدة جيش النصارى كان نحو ثلاثين ألفاً قتلوا عن بكرة أبيهم، وما بقي منهم إلا ثلاثة آلاف أسر بعضهم، وجرح بعضهم، وهرب بعضهم! أولئك الذين هزموا لم يزل فيهم من أسباب النصر ما هيأ لمجموعة قليلة منهم أن يتحققوا بأسباب النصر، ارتباطاً بالله، وثباتاً على منهجه، فنصرهم الله عز وجل وهم لم تهدأ جراحهم بعد، ولم يتنفسوا الصعداء بعد أن هزموا في تلك الموقعة الشديدة. وفي عام (656هـ) دخلت جيوش التتار بغداد، ونعلم سيرة التتار وقصصهم وما عندهم من الفظاعة والهول، ثم بعد عامين اثنين، وفي يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك في عام (658هـ) تأتي موقعة عين جالوت، ويُهزم فيها التتار، وهم الجيش الذي لا يقهر كما يقال، الوحوش التي لم تكن تنتسب إلى البشرية في ذلك الوقت عند الناس، يكسرون كسرة ما سمع بمثلها من قبل، لماذا؟ لأن بعض الأسباب كانت قد تحققت. وقبل ذلك كان الانتصار الأعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أعقاب أحد، لما دارت الدائرة على المسلمين في آخر المعركة، ومضى منهم إلى الله عز وجل سبعون من الشهداء، وأثخن البقية بالجراح، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، ثم رجعوا إلى المدينة، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي أهل أحد أن يخرجوا، لأي شيء؟ هل طلبهم أو ندبهم أن يخرجوا للعلاج أو ليخففوا من آثار ما وقع بهم؟ أمرهم أن يخرجوا ليلحقوا بـ أبي سفيان ومن معه من مشركي قريش، هذا وجراحهم ما تزال تنزف دماء! وما يزال الواحد منهم يحمل يده المقطوعة أو رجله المقطوعة! وأمر ألا يخرج معهم أحد أبداً ممن لم يشهد أحداً، فماذا كان موقف الصحابة؟! ما تخلف منهم رجل واحد: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:172 - 173] خرجوا وما تخلف منهم رجل واحد؛ لأن الهزيمة لم تبلغ نفوسهم فتضعضعها، ولم تبلغ إيمانهم فتضعفهم، بل كان إيمانهم أعظم من الجبال الرواسي، وهممهم أعلى من ذرى السحاب؛ ولذلك استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما اعتبروا مهزومين، بل خرجوا وأقاموا في حمراء الأسد ثلاثة أيام أو أربعة أيام بلياليها، ولما أنصرف أبو سفيان قال: ما بلغنا من القوم مبلغاً، ما قتلنا محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا قتلنا أبا بكر ولا عمر، ولا استأصلنا شأفتهم، ولا غزونا مدينتهم. وكان يفكر بالرجوع، فإذا بأحد الأعراب يمر عليه فقال: ما خبر محمد؟ قال: رأيته يجد هو وأصحابه في أثركم، فلاذ أبو سفيان بالفرار إلى مكة قناعة بالنصر الهزيل الذي وقع له. إذاً: إذا لم تنل الهزيمة من الإيمان ومن النفوس والعزائم فإن الجولة القادمة وشيكة الوقوع بإذن الله سبحانه وتعالى، وقد فطن لهذا أعداء الأمة، فلم يكن اعتناؤهم -بعد دراسة طويلة للحروب الصليبية- بكسر المسلمين عسكرياً وحربياً فحسب، بل كانوا يريدون أن يطيلوا أمد الهزيمة دهراً طويلاً، وأن يعمقوا تأثيرها في النفوس والقلوب والعقول والسلوكيات والأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ حتى ينخروا في بنيان الأمة، فلا تقوم لها قائمة في تصورهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

بيت المقدس وما حصل فيه من هزائم وانتصارات

بيت المقدس وما حصل فيه من هزائم وانتصارات الوقفة الثالثة: وهي لب موضوعنا: نريد أن نقف في بعض المفاصل التاريخية؛ لنقرأ بين السطور ماذا وقع في الهزائم؟ وكيف وقعت الانتصارات في تاريخ الأمة المسلمة؟ هذه المفاصل كثيرة، وسأذكر منها اثنين بالتفصيل، وإن سمح الوقت ذكرنا ثالثاً. الأول: ما يتعلق بحقوق بيت المقدس، والثاني: سقوط بغداد، والثالث: موقعة شقحب؛ لأن فيها دروساً عظيمة جداً. في بيت المقدس لننظر كيف كان توجه المسيحيين في ذلك الوقت؟ وكيف توجهوا لقتال المسلمين؟ وبأي منطق وتحت أي مبدأ تجمعوا؟ نقرأ في سطور التاريخ وفي وقائعه ما ينبئنا عن أن في كل جولة لابد من تحقق أسباب، ومن رؤية معالم هي التي تكون بها الهزيمة أو يقع بها -بعد إذن الله عز وجل- النصر، تجمع المسيحيون تحت راية المسيحية، وتنادوا باسمها، وهذا المكمن الذي ينبغي أن يعلم المسلمون أنه لا نصر لهم إلا تحت راية الإسلام، وإلا أن يتنادوا باسم نصرة العقيدة والإيمان، أما غير ذلك فقد رأت الأمة هذه الصورة، وتجرعت مرارتها حينما تجمعت مرة باسم القومية، وأخرى باسم البعثية، وثالثة باسم الاشتراكية، فهوت بها كل واحدة إلى هاوية وبعد سحيق. في ذلك الوقت ماذا كان من المسيحيين؟ إمبراطور القسطنطينية يبعث إلى ملك آخر من ملوك المسيحية في ذلك الوقت، ويناديه بنداء يستصرخ فيه الهمة لقتال المسلمين، فماذا يقول؟ يقول: إلى رجال الدين والدنيا تحية وسلاماً، أيها السيد العظيم! حامي حمى العقيدة المسيحية، أود أن أحيطك علماً بما وصل إليه تهديد الأتراك -يعني: السلاجقة المسلمون- للإمبراطورية الإغريقية المسيحية المقدسة، فهم يعملون فيها السلب والتخريب كل يوم، ويتوغلون في أراضيها دون انقطاع، وكم من مذابح وتقتيل وجرائم تفوق حد الوصف يقترفونها ضد المسيحيين الإغريق -وهذا أكثره كذب- فضلاً عن السخرية والتحقير، فإنهم يذبحون الأطفال والشباب داخل أماكن التعميد، حيث يريقون دماء القتلى محتقرين بذلك المسيح؛ لذا أستحلفك بمحبة الله وباسم جميع المسيحيين الإغريق أن تمد لنا وللمسيحيين الإغريق العون والمساعدة، وذلك بتقديم جميع جنود المسيحيين من كبير وصغير، فضلاً عن العامة ممن يتسنى جمعهم من بلادك. فهذا تناد باسم الإيمان والعقيدة الباطلة، وتناد بالنصرة بالقوة الفعلية المؤثرة، وليس بمجرد القول أو الشجب أو الاستنكار أو البيانات، وليس تحت راية علمانية أو اشتراكية أو غيرها، فهكذا كان تجمعهم في ذلك الوقت، وكانت نظرة حديثهم. بل إن الذين كانوا يقودون تلك الحروب ويؤججونها ضد المسلمين هم زعماء الدين، فهذا البابا أريان الثاني يوجه في مؤتمر كليرمونت في ذلك الوقت نداءه إلى أبناء الملة المسيحية كلها، فيقول: يا شعب الفرنجة شعب الله المحبوب المختار! لقد جاءت من تخوم الصين ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة، تعلن أن جنساً لعيناً -يقصد به المسلمين- أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين، وخربها بما نشره فيها من أعمال السلب والحرائق، ولقد ساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب، وهم يهدمون الكنائس بعد أن دنسوها برجسهم. إذاً: مرة أخرى نداء العاطفة العقدية الإيمانية، ثم يقول: ألا فليكن لكم من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا ومنقذنا تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! وهنا يربط بمبدأ مهم وهو القدوات التاريخية التي ترتبط بها الأمة لارتباطها بمنهج الله، فتثير فيها الهمة والعزيمة، واليوم يغير التاريخ ويدلس لتغيب القدوات الصالحة، ويغيب الأئمة من العلماء، ويغيب القواد من المجاهدين، وتظهر القدوات الفاسدة التي لا تقدم ولا تؤخر، بل حقيقة دورها أنها تشوه وتمسخ، وأنها تغتال وتقتل كل قيمة إيمانية، وكل همة وعزيمة وقوة في صفوف الأمة. ثم يقول أيضاً لتتضح لنا الأسباب: طهروا -ولو قلنا هذا الكلام للمسلمين لكانوا أولى به وأحرى- قلوبكم إذاً من أدران الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث. إذاً: طالبهم بأن يزيلوا الأحقاد، وأن يمنعوا الخلاف والنزاع لتتوحد الصفوف، ونصب لهم هدفاً يهمهم ويشغل بالهم؛ حتى تتلاشى الأسباب الثانوية العارضة للاختلافات التي يثيرها الأعداء ليفرقوا صفوف الأمة، هذه صورة موجزة لما كانوا يتنادون به. فماذا كانت صورة الأمة المسلمة في ومضات؟ كان أحد ملوك المسلمين حاكماً للموصل في ذلك الوقت، وبعد سقوط بيت المقدس أراد أن يجمع بعض الجيوش لمحاربة النصارى، لكن الأسباب كانت غير مهيأة ولا مواتية فماذا حصل؟ قتل هذا الملك المسلم في يوم العيد بعد الصلاة في وسط المسجد غيلة، فماذا وقع بعد ذلك؟ كتب ملك الفرنجة إلى طغتكين الذي جاء بعده كتاباً فيه كلمات موجزة، لكنها تنبئ أن القوم كانوا ينظرون إلى أسباب الهزيمة لائحة أمام أعينهم، فقال كلاماً جميلاً ذكره ابن كثير رحمة الله عليه، يقول: إن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها. كيف تنتصر وبينها هذه الخلافات؟ كيف تنتصر والأحقاد تتسلط عليها؟ كيف تنتصر وهي ليست موجهة نحو إعلاء كلمة الله ورعاية مصلحة الأمة المسلمة؟

ما قام به صلاح الدين من الإصلاحات قبل تحرير بيت المقدس

ما قام به صلاح الدين من الإصلاحات قبل تحرير بيت المقدس ننتقل إلى الوقت الذي جاء فيه نصر الله عز وجل، وكلنا يعلم أن النصر وتخليص بيت المقدس جاء بقدر الله على يد صلاح الدين، والناس كلهم يقولون: جاء صلاح الدين وانتصر يوم حطين، وخلص القدس من الصليبيين، وكأن المسألة انحصرت في تلك المعركة التي خاضها صلاح الدين رحمة الله عليه، والأمر ليس كذلك، فإن صلاح الدين خاض قبل هذه المعركة أربع معارك هي أشد وأشرس وأقوى، وهي من أعظم ما هيأ النصر لذلك اليوم العظيم في يوم حطين، لم يأت صلاح الدين هكذا ليجمع جيوشاً بالقوة، ثم ينتصر بعد ذلك، بل حارب في مواقع أربع قبل أن يلاقي النصارى في حطين، حارب الكيانات الفاسدة، وحارب الجهالات الخاطئة، وحارب الانحرافات المفسدة، وحارب الفرقة القاتلة، وسأذكر ذلك بشيء من الإيجاز. حارب الكيانات الفاسدة التي كانت تعمل في الأمة من الفساد والتدمير أكثر مما يعمله أعداؤها؛ لأنها في حقيقة الأمر أعدى من الأعداء، وكان مما هيأ الله عز وجل لـ صلاح الدين وأجرى على يديه أن قوض الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية التي أضاف إليها الذهبي في سير أعلام النبلاء وصف اليهودية فقال: الدولة الرافضية العبيدية اليهودية. فقبل أن يتوجه إلى بيت المقدس أزال هذا الورم السرطاني الذي ظل يرزح على الأمة المسلمة وفي بلادها دهراً طويلاً، وعاث فيها فساداً في الاعتقاد، وتخريباً لمقدرات الأمة، وممالأة لأعدائها، فتوجه صلاح الدين رحمة الله عليه ومهد له من قبل نور الدين زنكي، فتوجه أولاً ليستأصل هذه الدولة الرافضية، وبالفعل قوض ملكها ودخل مصر فاتحاً، وألغى وجودها من التاريخ، وجعلها صفحات مذكورة في طيات التاريخ، ولم تقم لهم بحمد الله عز وجل قائمة في عهده وإلى سنوات طويلة بعده رحمة الله عليه، وسيأتي لنا آثار ذلك جلية واضحة، ثم ماذا؟ كان من أشهر أعمال صلاح الدين رحمة الله عليه أنه رأى في الأمة انحرافات سلوكية كثيرة، كانت الخمور والخمارات والفساد والانحراف مستشرياً يضعف في الأمة إيمانها، ويحقق فيها من أسباب البلاء ومن أسباب نزول سخط الله عز وجل، وارتفاع رحمته، وبعد نصره سبحانه وتعالى الشيء الكثير، فكان من جملة أعماله المباركة أن وجه جهوده للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإزالة أسباب الفساد، فأغلق الحوانيت، ومنع شرب الخمور، وعاقب المخالفين، وطهر المجتمع المسلم من الإعلان بالحرب على الله عز وجل من خلال المجاهرة بالمعاصي، ولا يمكن أن تتوجه للعدو والسهام مغروسة في ظهرك من أثر هذه المعاصي التي ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن آثارها الوخيمة ليست على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الأمة والكون كله، وقد ذكر كلاماً عجيباً، لولا ضيق الوقت والمقام لذكرت شيئاً منه. طهر صلاح الدين هذا المجتمع المسلم من هذه الأوضار والمعاصي، وكانت معركة قوية هيأ بها الأمة لحصول النصر. ثم كانت هناك جهالات خاطئة، وكان هناك ضعف في الناحية العلمية، وقلة في التعلق بعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك شطحات صوفية، وكانت هناك خرافات قد عشعشت في العقول وغير ذلك من الأمور، فجعل دأبه أن يقوي وينشط الحركة العلمية التي تقوي الأمة وتربطها بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربطها بعلمائها وقادتها، ولذلك عمل عملاً كبيراً في تنشيط الحركة العلمية، وبنى المدارس التي كثير منها في بلاد الشام ومصر يعود إنشاؤه أو إحياؤه لـ صلاح الدين رحمة الله عليه، كالمدرسة الأشرفية والصالحية والعادلية وغيرها، فكثير منها قوي أثرها في عهد صلاح الدين، فنشر علم الكتاب والسنة، وربط الأمة بسلفها وبعلمائها، ووطد أركان هذا العلم في المجتمع، فكان ذلك أيضاً توطئة ومعركة خاضها رحمة الله عليه. ثم سعى بعد ذلك إلى معركة الفرقة القاتلة، حيث كان المسلمون إمارات مختلفة، وبعضها متنازعة، وبعضها متناحرة، فسعى إلى ضم بعضها إلى بعض، فضم مصر إلى الشام، ثم أرسل أخاه إلى اليمن، وأخذ اليمن معه، ثم جمع كثيراً من بلاد المسلمين تحت راية واحدة، واجتمعت الكلمة عليه، وانضوى تحته الأمراء والقادة، فقدمت الأمة حينئذ أسباب النصر: صلة بالله عز وجل، وتحققاً بصدق الارتباط به، وصحة الاعتقاد فيه سبحانه وتعالى، ثم ارتباط بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، علماً ونشراً ودعوةً، ثم بتطهير المجتمع من المعاصي والمفاسد، ثم بتوحيد الأمة تحت راية واحدة، فلم تكن بعد ذلك حطين إلا تحصيل حاصل وختاماً لهذه الجهود التي قام بها صلاح الدين. ولعلنا أيضاً نقف مع ومضات تاريخية نرى فيها هذه الصورة، كيف اجتمعت لـ صلاح الدين؟ وكيف كان حال الأمة في ذلك الوقت، بعد أن رأينا ومضات من حالها وقت سقوطها؟ الملك المظفر كان ملك حماة، وبنى النصارى حصناً إلى جوار دمشق، وبدأوا يناوشونه ويؤذونه، فكتب إليهم طالباً أن يهدموا هذا الحصن، فقالوا: نعم نهدمه، ولكن تدفع لنا أجرة بنائه، فدفع لهم مائة ألف، فطمعوا وزادوا، فكتب إلى صلاح الدين يستشيره. إذاً: كان صلاح الدين مرجعاً لأولئك، فاستشاره في هذا الأمر، فماذا قال له صلاح الدين حتى نرى تأثيره رحمة الله عليه؟ يقول: إن هذا الرأي الذي قد أزمعت عليه ليس بشيء، وإن الله تعالى سيسألك عن إعطائهم هذا المال، كيف تعطي أعداء الله عز وجل المال وأنت قادر على المسير إليهم، والرأي أن تصرف هذا المال على الأجناد، وترغبهم في الجهاد، بدل أن تصرف المال لأعداء الله، فأعد العدة لذلك، وسر بعساكرك إليهم، والله تعالى في معونتك ونصرك. ثم يصور لنا صلاح الدين وقد كاتب الأمراء والقواد ليحتشدوا لهذه المعركة (حطين)، فيقول في رسالة له إلى المظفر صاحب مصر في سنة (579هـ): وقد كاتبنا أمراء الأطراف باستعدادهم لاستدعائهم -أي: يستعدوا لنستدعيهم- وأن يحزموا في جميع العساكر أوامرهم لأمرائهم. فماذا كانت النتيجة؟ يقول: فما منهم إلا من يسابق إلى تلبية النداء، ويسارع إلى إجابة الدعاء، ويعشق -ولا عشق لقاء الأحبة- لقاء الأعداء أكثر من عشقه لقاء الأحبة. إذاً: قد سرت في الأمة روح جديدة لم تكن موجودة فيها وقت سقوطها؛ لأن سقوط بيت المقدس لم يكن لقوة النصارى، فقد جاء النصارى من أواسط آسيا، ووصلوا إلى بيت المقدس وقد هدت قواهم، وقد لاقوا بعض المجاعة في الطريق، وجاءوا في صورة مرهقة وكانوا متعبين، ولكن وجدوا من هم أتعب منهم، وأضعف منهم، فانتصروا عليهم تماماً، مثل الجدار المتداعي المتصدع إذا وضعت يدك عليه سقط، وليس ذلك من قوة يدك، ولكنه من ضعف ذلك الجدار، وما انتُصر على أمة الإسلام يوماً إلا لضعفها لا لقوة أعدائها مطلقاً، فهنا ذكر لنا صلاح الدين هذه الصورة في استجابة الأمة.

دور صلاح الدين والعلماء في تحرير بيت المقدس

دور صلاح الدين والعلماء في تحرير بيت المقدس ثم انظروا إلى دور العلماء في عهد صلاح الدين لما جعل لهم مكانتهم البارزة، وجعل لهم قيادتهم الرائدة، وجعل لهم كلمتهم المسموعة، كتب القاضي الفاضل إلى صلاح الدين يقول له: لأن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، والامتثال لأمر شريعته -العالم يقول للقائد والأمير- والمعاصي في كل مكان بادية، والمظالم في كل موضع فاشية. يعني: لابد أولاً أن تصلح هذا الجانب، وأن تصحح هذه الأوضاع الخاطئة. ويقول في رسالة أخرى يشخص الداء الذي في الأمة قبل أن تواجه أعداءها: إنما أوتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، ثم يقول له: ولا نغتر بكثرة العساكر والأعوان، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل فلاناً، فكل هذه مشاغل، وليس بها النصر، وإنما النصر من عند الله، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها والنصر به واللطف منه، وأستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل. هذه هي القيادة العلمية الراشدة الموجهة التي تكشف الخلل وتبين الخطأ، وتدعو إلى الإصلاح الذي فيه صلاح ما بين الأمة وخالقها سبحانه وتعالى. ثم انظروا إلى روح الأمة في ذلك الوقت، المسلمون في عكا حوصروا حصاراً شديداً، لكن ما بلغ شدة الحصار من نفوسهم وعزائمهم، وكانوا يستنجدون بـ صلاح الدين ليفك عنهم الحصار، فكتبوا إليه يقولون له: إنا قد تبايعنا على الموت، ونحن لا نزال نقاتل حتى نقتل، ولا نسلم هذا البلد أحياء، فانظروا كيف تصنعون في شغل العدو عنا، ودفعه عن قتالنا، ثم المحاصرون هؤلاء المستضعفون يقولون لـ صلاح الدين: فهذه عزائمنا، وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو، أو تلينوا له، فأما نحن فقد فات أمرنا، نحن قد بعنا أنفسنا لله، وتبايعنا على الجهاد، فلا تلينوا للعدو ولا تضعفوا أبداًَ. ثم نجد هذه الصور واضحة جداً في قوة المسلمين، وترابطهم وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى، من ذلك ما تشير إليه أيضاً وقائع التاريخ أن صلاح الدين كاتبه أحد ملوك النصارى عندما كان يحاصر عسقلان، فأراد هذا الملك أن يكتب صلحاً مع صلاح الدين قبل الشتاء حتى يرجع إلى بلده، فكتب كتاباً فيه أنه إذا لم يكتب الصلح في هذه الأيام القريبة وإلا فإنه سيضطر أن يشتي في هذه البلاد، وإذا أدركه الشتاء فلن يستطيع أن يتحرك وينتقل، فماذا كتب له صلاح الدين؟ كتب له كلاماً جميلاً ونفيساً، يقول: أما النزول عن عسقلان -يعني: ترك الحصار- فلا سبيل إليه، وأما تشتيته -يعني: بقاؤه وجنده في هذه البلاد في الشتاء- فلابد منه؛ لأنه قد استولى على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، وإذا أقام إن شاء الله، -يعني: إن ذهب وإن بقي- سيأخذها المسلمون بإذن الله عز وجل، ثم يقول: وإذا سهل عليه أن يشتي هنا ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين، وهو شاب في عنفوان شبابه، ووقت اقتناص لذاته، ما أسهل علي -يقول صلاح الدين - أن أشتي وأصيف وأنا وسط بلادي، وعندي أولادي وأهلي، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى ينزل الله سبحانه وتعالى نصره. هذه روح الأمة ومواقفها في ذلك الوقت. ولما كتب الله لهم النصر ما طغوا ولا بغوا ولا جحدوا نعمة الله عز وجل، ولا فسقوا ولا فجروا، بل صورت لنا كتب التاريخ والمراسلات في ذلك الوقت ما صنع المسلمون، وبأي شيء فرحوا، لم يفرحوا بالأموال، ولا بالبلاد، ولا بالديار، وإنما فرحوا بنصرة دين الله، وتطهير مساجد المسلمين من أوضار المسيحية والتثليث، فكتب القاضي الفاضل من مصر يهنئ صلاح الدين بحطين، ويخبره عن أهل مصر فيقول: والرءوس إلى الآن لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها؛ شكراً لله عز وجل، وكلما فكر -يعني: يقول هو عن نفسه- الخادم أن البيع -يعني: الكنائس- تعود مساجد، والمكان الذي كان يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة يقال فيه: إنه الإله الواحد، يعني: لا أعظم عندي من هذا الفرح، ولا أجمل منه، ولذلك لما كتب صلاح الدين يبشر أخاه بالنصر، قال له: وعاد الإسلام بإسلام بيت المقدس إلى تقديسه، ووضع بنيان التقوى إلى تأسيسه، وزال ناموس ناقوسه -زالت النصرانية- وبطل بنفس النصر قياس قسيسه، ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد، وامتلأ ذلك الفناء بالأتقياء الأماجد، وطنت أوطانه بقراءة القرآن، ورواية الحديث وذكر الدروس، وحديث هدي الهدى، وزارها شهر رمضان مضيفاً لها نهارها بالتسبيح، وليل فطرها بالتراويح. وقال الخطيب القاضي زكي الدين في أول خطبة في يوم جمعة في المسجد الأقصى بعد فتحه وتحريره، قال مخاطباً صلاح الدين: جددتم الإسلام أيام القادسية، والملامح اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ثم قال لهم: فاقدروا هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة. إذاً: رأينا كيف تحقق النصر عندما جاءت هذه الصورة بعد تهيئة أسبابها.

بغداد وما حصل فيها من هزائم وانتصارات

بغداد وما حصل فيها من هزائم وانتصارات الموقف الثاني: سقوط بغداد أكثر تأثيراً وأبلغ وأعمق في تجلية صورة الهزيمة والنصر، ذكر ابن كثير هذه الحوادث في شهر محرم من عام (656هـ)، والحقيقة أن نص ابن كثير يغني عن كل تعليق، وكل ما نذكره هنا في هذه الوقائع ينبغي أن نربطه بواقع الأمة، ولا يحتاج ذلك لا إلى تعليق، ولا إلى تفصيل، بل إن الناظر يرى ذلك أمام عينيه، ويسمع أحداث ما يقع للمسلمين بأذنيه، فلا يكاد يخطئ شيئاً من ذلك أبداً، والتاريخ -كما يقولون- يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة؛ لأن الأمر مرتبط بسنة الله عز وجل قال تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].

أسباب سقوط بغداد على يد التتار

أسباب سقوط بغداد على يد التتار يقول ابن كثير في وصف تلك الوقعة: جاء التتار إلى بغداد، وجاءت إليه أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة، ومعه أميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله! أول بلاء أن يكون من المسلمين من ينصر أعداء الدين على إخوانه المسلمين، وهذه البلية التي ما يزال المسلمون مبتلون بها في هذا العصر، فترى بعضهم يحالف أعداء الله ضد إخوانه من المسلمين ومن أولياء الله، قال: جاءت إليهم أمداد صاحب الموصل تقدم فروض الولاء والطاعة، وتقدم المعونة والنصرة لهم، فهذا أعظم بلاء وأعظم سبب من أسباب الهزيمة، ثم قال: وأحاطت التتار بدار الخلافة- يعني: قد دخلوا إلى بغداد- يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حضاياه، وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً -قبل ذلك لم يكن يعلم من أمره شيئاً- وأحضر السهم الذي رميت به الجارية بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم. فأمر الخليفة عند ذلك بالاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة. يعني: أنهم دخلوا البلد ووصلوا إلى دار الخلافة، والخليفة في مجلسه والجارية ترقص بين يديه، فلما جاءها السهم وقتلت فزع فزعاً شديداً، وأمر بالاحتياط والتحرز، وهذه يبين لنا أن هذا الداء من أعظم أسباب البلاء في الأمة المسلمة وكما يقول الشاعر: إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص فعندما يكون الذي ينتظر منه الجد والتحفظ والتيقظ، والأخذ بأسباب مصالح المسلمين، ورفع رايتهم، وتحقيق أسباب عزتهم لاهياً ساهياً غافلاً نائماً لا يدري عن أمره شيئاً، فهذه صورة مفزعة، وبمجرد أن يتأمل فيها الإنسان يحكم عليهم بالهزيمة وهو مغمض العينين من غير تفكير. يقول ابن كثير رحمة الله عليه في وصفه لخليفة الوقت في ترجمته: ولكن كان فيه لين، وعدم يقظة، ومحبة للمال وجمعه، ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعها إياه الناصر داود بن المعظم، كان قيمتها نحواً من مائة ألف دينار، فاستقبح هذا من الخليفة، وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير. ولعل سائلاً أن يسأل أين الجيوش؟ كيف دخل التتار ووصلوا إلى دار الخلافة؟ فهذا جواب ابن كثير رحمة الله عليه يقول: وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش قد صرفوا عن إقطاعاتهم- الأجور والرواتب- حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لحالهم، ويحزنون على الإسلام وأهله. هذا حال الجيش الذي كان في ذلك الوقت؛ لأن الخليفة لم يكن متفرغاً لتقوية الأمة، ولا لإعداد الجيش، ولا لتحقيق قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، ولا لتحقيق قول النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) فكانت هذه جيوش بغداد، الجنود يستعطون ويطلبون العطايا من الناس في الأسواق وأبواب المساجد، فهؤلاء العشرة آلالاف البقية الباقية، إذاً: ضاعت الأمة عندما ضاعت قوتها وهيبتها وشوكتها. لماذا كان جيش بغداد على هذه الصورة؟ هذا هو السبب الرابع وهو السبب الخطير الذي يسميه الناس اليوم: الطابور الخامس الذي يعمل في الأمة أكثر مما يحتاج الأعداء، ومما يأملون ويتوقعون. قال ابن كثير: وكل ذلك عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي. كان وزير الخليفة رافضياً شيعياً خبيثاً متمالئاً مع الأعداء، فهو الذي فعل هذه الأفاعيل، يقول ابن كثير: حصل هناك نزاع بين أهل السنة والشيعة نهبت فيها الكرخ محلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك. فكان هذا مما أهاجه على أن دبر للإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ أن بنيت بغداد وإلى هذه الأوقات؛ ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو هذا الرجل، وماذا كان قد صنع من قبل؟ قال: وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط أسمائهم من الديوان، فكانت العساكر في أيام المستنصر قريباً من مائة ألف. وجاء التتار وهم عشرة آلاف من المتسولين! بسبب هذا الوزير الخبيث، قال: فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل ذلك عليهم، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال. وهذا هو الداء الدوي الذي ينخر في جسم الأمة اليوم عندما يكون في صفوفها أصحاب العقائد المنحرفة التي تسعى جاهدة إلى أن تدمر الأمة، وفي قلوبها من الحقد والضغينة أعظم مما في قلوب الأعداء، وهم أكثر عوناً للأعداء وإخلاصاً من بني جلدتهم -أي: من الأعداء أنفسهم- وهذا هو الذي ذكره ابن كثير رحمة الله عليه. وسبب خامس يذكره لنا تتمة لهذا السبب قال: لما ذهب الخليفة ليقابل هولاكو ومعه هذا الوزير الرافضي, ومعه أيضاً خادمه نصير الدين الطوسي، وكان هذا نصير الدين الطوسي عند هولاكو، وقد استصحبه عندما فتح بعض قلاع المسلمين. وكان نصير الدين ممن ينسبون إلى المستنصر العبيدي، ويريدون أن يجددوا الدولة العبيدية التي أزالها صلاح الدين بجهاده الذي أشرنا إليه، قال ابن كثير رحمة الله عليه: وكانوا يريدون إبطال السنة، وإقامة الرفض، وإقامة خليفة من العبيديين، ولكن الله سبحانه وتعالى ما أمهلهم حتى مات هذا الوزير الرافضي في العام نفسه، ثم لحقه ابنه بعده بستة أشهر! ثم يقول ابن كثير: ولم ينج أحد من الناس سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ممن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي. إذاً: كانوا صفوفاً وطوابير خامسة، ويمالئون الأعداء، ولذلك لم يصبهم ضرر، هؤلاء الذين يظهرون لنا أنهم أولياء وأحباء، لا يؤمن غير المسلم على أمة الإسلام أبداً، لا في دينها وعقيدتها، ولا في مقدراتها وثرواتها، ولا في أوضاعها وأحوالها وأخلاقها مطلقاً، وهذا التاريخ هو الذي يحدثنا بذلك حديثاً شافياً واضحاً. ثم وصف ابن كثير رحمة الله عليه ما وقع من الهول الشديد، حيث كان الناس يقتلون ويبادون، أربعون يوماً والسيف يعمل في أهل بغداد، وكانوا يهربون إلى الأسطحة فيقتلونهم في الأسطحة حتى سالت ميازيب بغداد من دماء المسلمين! قال رحمة الله عليه: عدة من مات من المسلمين: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف -يعني: مليون- وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف. وهذا يدل على عظيم الهول.

معركة عين جالوت وما أحرزته من نصر عظيم

معركة عين جالوت وما أحرزته من نصر عظيم بعد سنتين نعود إلى جولة أخرى وهي جولة عين جالوت، وعندما نتأمل سنجد ومضات النصر ظاهرة أيضاً، فهنا المظفر قطز أجرى الله على يديه هذا النصر، ماذا كان من حاله؟ سمع بأمر التتار، وأخذهم لبلاد الشام، وأنهم يريدون أن يتوجهوا إلى مصر فماذا صنع؟ ما انتظرهم ولكن توجه إليهم بجيوشه، قال ابن كثير: وقد اجتمعت الكلمة عليه حتى انتهى إلى الشام، يعني: اجتمعت الكلمة من بعض القواد والأمراء المسلمين، ووصف هذا الملك بأنه كان شجاعاً وصالحاً، قال ابن كثير: لا يتعاطى شيئاً مما كان يتعاطاه الملوك والأمراء في ذلك الزمان، أي: من المعاصي والمفاسد. فاجتمع هو والتتار في عين جالوت في الجمعة في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، فكانت النصرة -ولله الحمد- للإسلام وأهله، فهزموا التتار المنتصرين قبل سنتين في بغداد، والذين فعلوا تلك الأفاعيل، فهزموا، وتتبعتهم جيوش المسلمين حتى بلغوا دمشق، ثم تبعوهم إلى حلب، وهم يفرون، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة تجاوزت عشرات الآلاف، إلى ما يقرب من مئات الآلاف. هذا النصر يدل على مثل هذه الصورة عندما تهيأت بعض أسباب النصر، قال: وقتلت العامة في ذلك الوقت في وسط الجامع شيخاً رافضياً مصانعاً للتتار على أموال المسلمين. وهكذا وطهروا ذلك المجتمع من مثل هذه الانحرافات. ثم قال ابن كثير في وصف قطز: وكان شجاعاً بطلاً، كثير الخير، ناصحاً للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيراً، قال: ولما كان في القتال قتلت فرسه، فظل يقاتل وهو واقف ينتظر الإمداد، فجاء بعض الأمراء ليعطونه فرساً بديلاً عنه، فرفض ذلك وظل يقاتل، قالوا: لماذا لم تقبل ونحن نريد ألا تهزم فينهزم بك الإسلام والمسلمون؟ فقال: أما أنا لو قتلت فكنت أذهب إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه. هذه المواقف تبين لنا ملامح الهزائم وأسبابها كما تبين لنا ومضات الانتصارات وأسبابها. إذاً: أيها الإخوة! المقصد هو أننا عندما نرى نصراً فإننا ينبغي لنا أن ننظر إلى ما قبله، ونرى صورة الأمة وأحوالها في ذلك الوقت، وكذلك أمر الهزيمة، فإن مثل هذه الصور تبين لنا أن سبب الهزيمة التي تقع على المسلمين اليوم إنما هو بمثل هذه الأسباب التي ذكرت من ضعف قوتها العسكرية، ومن غياب القيام بالواجب من قياداتها السياسية، ومن وجود التفرقة والاختلافات والمنازعات فيما بينها، وكذلك في إعلانها للمعاصي ومجاهرتها بها، وإعلانها الحرب على الله سبحانه وتعالى بما تجهر به من معاصي، وهذا هو الذي ينبغي أن نفقهه وأن نفطن إليه، وأن نعرف توجه أعداء الأمة لترسيخ هذه المعاني والمعالم في حياة الأمة.

أسباب الهزيمة الموجودة في الأمة

أسباب الهزيمة الموجودة في الأمة التغيير والنصر يأتي متأخراً، وحديثنا كان يقدم الهزائم على الانتصارات؛ لأننا إلى حد ما في ظلال الهزائم، والانتصارات هي الأمل المفتقد بإذن الله عز وجل، وقد بدت بشائره وتبدو هنا وهناك في عودة الأمة إلى دينها، ورجوعها إلى ربها، واعتزازها بشخصيتها وإسلامها وإيمانها وولائها لله، وبراءتها من أعداء الله سبحانه وتعالى، وأخذها بأسباب الوحدة والألفة والاجتماع، ونبذها لأسباب الفرقة، وإن كانت هذه الصور ما تزال جزئياً هنا وهناك باقية، ويسعى أعداء الله عز وجل إلى إطالة أمدها، وإلى تعميق آثارها، وإلى توسعة دائرتها حتى لا تقوم للمسلمين قائمة؛ ولذلك أكثر ما يبتلى به المسلمون الشقاق والنزاع، وأكثر ما يسلط عليهم ليفتنوا هو الفساد والانحراف؛ ولذلك أريد أن أوجز الحديث لأختم هذا اللقاء فيما يتعلق بتكريس أسباب الهزيمة في الأمة.

أسباب الهزيمة في مجال السياسة

أسباب الهزيمة في مجال السياسة هناك أوضاع ومجالات تكرس أسباب الهزيمة في الأمة، والحديث عنها الأصل فيه أن يطول، لكن الإشارة إن شاء الله تغني عن الإفاضة والتوسع، وهي مجالات كثيرة سلط أعداء الله عليها الجهود؛ لتبقى في الأمة أسباب الهزيمة والضعف، وذلك في مجالات ثلاثة رئيسة ومهمة، ربما تكون هي أبرز وأظهر هذه المجالات. أولها: في المجال السياسي، وذلك بزرع الفرقة بين المسلمين على مستوى دولهم، وتقطيع أوصالهم، وإثارة النزاعات العرقية، والخلافات الحدودية، وغير ذلك من هذه الأسباب. ثانياً: تنحية شرع الله عز وجل في كثير من بلاد المسلمين، وتغييبه عن واقع الحياة. ثالثاًًً: الموالاة لأعداء الله عز وجل، والسير في فلكهم، والتحقيق لأطماعهم في بلاد المسلمين، والموافقة لهم في مخططاتهم، والسير وراءهم فيما يخططون ويدبرون من كيد وتدمير وهدم لبلاد المسلمين، وكذلك أيضاً في صور أخرى متعددة يطول ذكرها.

أسباب الهزيمة في مجال التعليم

أسباب الهزيمة في مجال التعليم المجال الثاني: مجال التعليم الذي يصبغ الأمة بصبغات شتى، بحسب ما يوجه ويصب في أذهان أبناء الأمة المسلمة في شرق الأرض وغربها، فإذا بنا نجد مظاهر منها: الفصل بين التعليم الديني والمدني كما يسمى. التضييق على التعليم الإسلامي. تغيير المناهج وإبعادها عن الروح الإسلامية، وربط الأمة بدينها وبتاريخها، وذلك ظاهر في كثير من بلاد الإسلام والمسلمين، حتى إن كل توجه يصبغ أول ما يصبغ الأمة عبر مناهج التعليم؛ ولذلك نجد هذه الصورة واضحة حتى أن بعض البلاد اختزلت تاريخ الأمة المسلمة اختزالاً مشيناً، فنجد أن حظ تاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتجاوز سبعة أسطر، وحظ تاريخ عثمان رضي الله عنه الطويل المديد لم يتجاوز خمسة أسطر في مناهج بعض البلاد العربية الإسلامية، وهكذا يسلط على الأمة في هذا المجال والميدان كثير من الأدواء والانحرافات التي تعمق هذا الجانب، وتغير الأفكار، وتشتت الأذهان، وتقطع الأمة عن تاريخها، والمجالات في ذلك كثيرة، حتى إن التعليم الإسلامي يجعل له منزلة أدنى من غيره، كما يعلم الجميع أن بعض البلاد لا تدخل المواد الدينية في النجاح والرسوب، يرسب الطالب أو ينجح في المواد الدينية فليست هناك مشكلة، أو لا تدخل في معدلات النسب والتقديرات من الامتياز وغيره، إضافة إلى اغتيال وإضعاف منابر التعليم الإسلامي ذات الأثر والتاريخ العريق، وتفريغها من مضمونها ومحتواها، وتحويرها وتحويلها إلى صور لا حقيقة لها أو إلى مظاهر لا باطن لها.

أسباب الهزيمة في مجال الإعلام

أسباب الهزيمة في مجال الإعلام أخيراً المجال الخطير: وهو مجال الإعلام الذي يغير في الأمة، ويرسخ فيها كثيراً من مجالات الانحراف والأخطاء العقدية والسلوكية والفكرية، ويظهر ذلك من صور شتى كثيرة، أبرزها وأهمها: وجود التناقض بين الحكم والواقع، فبينما يأتي البرنامج الذي يسمى برنامجاً دينياً وينشر فيه أن حكم الغناء الحرمة، وحكم الرقص الحرمة، ثم بعده يأتي هذا الغناء وهذا الرقص! فيشعر الناس بالتناقض أو أن يقبلوا هذين، على أن كلاً منهما له حكمه كما يقولون: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، أو أن يضطرب الناس فيظنون الحلال حراماً، والحرام حلالاً، إضافة إلى ما يسلط على الأفكار والمعتقدات من انحرافات، فضلاً عما يفتك بالمسلمين من قضايا الانحراف السلوكي عبر الخلاعة والمجون وغير ذلك. ثم أمر مهم وخطير وهو: تعظيم الأجنبي غير المسلم، وإعطاؤه صورة من الحضارة والعلو والرفعة، حتى إنه لا يظهر إلا بصورة الممجد المعظم، بينما غيره من المسلمين لا يعطى مثل هذه الصورة. وأيضاً: تسليط الأضواء في مجتمعات المسلمين ليس على الأخيار، ولا على الأبرار، ولا على الدعاة العاملين، ولا على العلماء المخلصين، وإنما تسلط الأضواء على من تاريخهم يشهد بخيانتهم للأمة، وانحرافهم عن نهج الله عز وجل، وإن كانوا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، فهذه المجالات كلها تكرس أسباب الهزيمة وصورها في واقع المجتمعات؛ ولذلك البشائر التي تبدو في الأفق من هذه الصحوة الإسلامية ينبغي أن تعلم أن البداية هي في علاج هذه الانحرافات والأخطاء، وفي وقف سير الأضرار التي تجرف المجتمعات المسلمة من جراء هذه الميادين والمجالات، وأيضاً أن تعلو بإذن الله عز وجل راية الحق والجهاد. وقد ظهر للمسلمين عياناً أن الأمة إذا ارتبطت بدينها، ورفعت شعار التوحيد، وأرادت أن تقاتل وتحارب، وأن تواجه أعداءها باسم الله، راجية من الله عز وجل أن يحقق لها النصر كما ظهرت صور ذلك أيضاً في كثير من المواطن والبلاد الإسلامية هنا وهناك.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من قال: لو ذهب بوش من الرئاسة فإنه لن يذهب من قلوبنا

حكم من قال: لو ذهب بوش من الرئاسة فإنه لن يذهب من قلوبنا Q ما رأيك في قول أحد الصحفيين الكويتيين: لو ذهب بوش من منصب الرئاسة فإنه لم ولن يذهب من قلوبنا؟ A يعني: من قلبه هو وأمثاله، أما قلوب المسلمين والمؤمنين فلم يدخل إليها حب غير أولياء الله عز وجل حتى يخرج منها، وهذا لا شك أن مثل هذه الصور هي التي تعبر لنا عن صور الهزيمة النفسية التي هي مقدمة الهزيمة العسكرية والمادية.

حكم الخلاف والتشهير بأخطاء العلماء

حكم الخلاف والتشهير بأخطاء العلماء Q ما تعليقكم على وجود بعض الدعاة الذين يشككون بتوجهات مشاهير الدعاة المخلصين؟ وما دور هذا في تفريق كلمة الأمة؟ A كل ما هو من أسباب الفرقة والنزاع ينبغي ألا يذاع ولا يشاع، وألا يكون من أبناء الأمة من يفت في عضدها، نعم هناك قضايا، وهناك أمور واجتهادات، لكن لا ينبغي أن تكون سبيلاً للتفرقة، وأذكر هنا نقطة؛ لأن هذا الموضوع أظنه يكثر الحديث عنه: مسألة الألفة والمحبة والائتلاف والاجتماع هي أساس التعاون والتناصح، والسعي والأخذ بأسباب نصرة الأمة، وتحقيق نشر الدعوة، والجهاد في سبيل الله عز وجل، فإذا لم توجد الأولى لم توجد الثانية، وإذا تأمل الإنسان في تاريخ الأمة، وأنا أوصي الإخوة جميعاً أن يكثروا من قراءة التاريخ؛ لأن القراءة في التاريخ تفيد في الوعي، وتقوي أيضاً الإيمان؛ لأنه يرى الإنسان مصارع الكفر والبغي، وكيف تدور الدائرة على الكافرين، وكيف تقع الهزيمة بالمسلمين إذا تخلوا عن أمر الله عز وجل إلى غير ذلك. أقول: هناك أمور ثلاثة هي التي يختلف فيها الناس إما على الإمارة والسلطة، وإما في مجال الحكم والتشريع والاجتهاد فيه، وإما في مجال وسائل العمل والدعوة، ولو تأملنا في تاريخ الأمة فإننا نجد أن القدوات كانوا يعرفون ما يقع فيه الاختلاف السائغ والاجتهاد المشروع، فلا يجعلونه سبباً للنزاع، وكان عندهم أمر مهم جداً هو الذي ينبغي أن نفتش عنه بأنفسنا وهو: صدق التوجه لله عز وجل والإخلاص له، وصدق النصح للمسلمين، وإرادة المصلحة العامة، وألا يؤثر في نفوسنا بعض الأهواء أو الانتصار للنفس أو النظر إلى مكاسب شخصية أو غير ذلك، عندما عهد عمر رضي الله عنه إلى الستة من العشرة المبشرين بالجنة بالخلافة وقال: أنتم ستة اختاروا من بينكم من يكون خليفة للمسلمين، لو قلنا الآن لستة: اختاروا من بينكم من يكون مسئولاً عن هذه الطاولة لاختلفوا، فكيف وهؤلاء يريدون أن يكون أحدهم خليفة للمسلمين؟! ماذا صنع عبد الرحمن بن عوف؟! وانظروا ذلك في سير أعلام النبلاء في ترجمته، خرج من بينهم وقال: اجعلوا الأمر لي فيمن يلي منكم، وليست لي يعني قال: أنا لا أريد الخلافة وليست لي، ولا أتعلق بها، لكن اجعلوني أنا الذي أختار من بينكم، إذاً: خرج هو من حب السلطة أو الميل إليها، وراقب الله عز وجل وأخلص له، ونظر في مصلحة الأمة، ولم يلتفت إلى هذا. وعند الاجتهاد في الأحكام الفقهية قد اختلف العلماء والأئمة المعتبرون، وما كان اختلافهم ليؤدي إلى فرقة، وفي التراجم كثير من هذا الباب، فالإمام أحمد كان يدعو للشافعي، فحين يسأله ابنه عنه يقول: يا بني! الشافعي للناس كالشمس للدنيا، والعافية للأبدان، فانظر هل لهما من بدل أو عنهما من عوض؟! وهو بينه وبينه اختلاف في مسائل لا تعد ولا تحصى. ويقول الشافعي: خرجت من بغداد ما خلفت فيها أورع ولا أعبد ولا أزهد ولا أعلم من أحمد بن حنبل. وفي ترجمة الشافعي في سير أعلام النبلاء أنه تناظر هو ويونس الصدفي في مسألة حتى علت أصواتهما، وافترقا، فلما لقيه من قابل أخذ الشافعي بيد يونس وقال له: يا أخي! ألا يصح أن نختلف ونأتلف؟! يعني: نختلف في مسائل الاجتهادات، ونأتلف في القلوب ووحدة الأمة، بدلاً أن نفرق الصفوف، فعلق الذهبي على ذلك تعليقاً جميلاً، وأثنى على الشافعي بهذا الفقه، وهذا النفس النفيس. وهذا بابه يطول كثيراً، وفي وسائل الدعوة والعمل للإسلام أيضاً يختلف الناس في آرائهم وفي تصوراتهم؛ لما قد يكون أولاً، وما قد يكون آخراً، والوسيلة مشروعة والأمر يعود إلى خير، ولا يمنع ذلك من بذل النصح، ومن التناظر والتشاور، فإن الإنسان القاصر بالحق يرجع إلى الأولى وإلى الأحق، ولذلك الإمام أحمد رحمة الله عليه في فتنة خلق القرآن كان موقفه معروفاً مشهوداً، وكان موقف الإمام أحمد بن نصر الخزاعي أيضاً معروفاً مشهوداً، فقد رأى أن هذه الفتنة عميقة وطويلة، فرأى أنه لا بد من مواجهتها بعمل علمي دعوي، فاختفى ومعه بعض تلاميذه يعلمهم عقيدة أهل السنة والجماعة، ويبين لهم خطأ هذه العقيدة التي تزعمها المأمون في ذلك الوقت، وبلغ اختفاؤه خمسة وعشرين عاماً، ذكر الذهبي والخطيب البغدادي أيضاً في تاريخه أنه بلغ عنده عدداً كبيراً ممن عرفوا هذا المنهج الصحيح، وأنكروا هذا الخطأ، حتى كان له أمراء بالرصافة وبالكرك، وكادوا يثبون على الخلافة ليغيروا هذا الخلل تغييراً صحيحاً جذرياً، فبلغ أمرهم إلى الخليفة فقتل أحمد بن نصر الخزاعي وصلب جسمه في بغداد ورأسه في سر من رأى. ولما كان يذكر أحمد بن نصر رحمة الله عليه عند الإمام أحمد كان يثني عليه ويمدحه، ويقول: ذلك رجل جاد بروحه في سبيل الله، وإن كان هذا رأى أسلوباً في مواجهة هذا الأمر، وذاك رأى رأياً آخر، لكن الكل كان ينافح عن دين الله، ويبغي مصلحة عباد الله عز وجل، وينصح لدين الله سبحانه وتعالى.

الانتقام من صلاح الدين الأيوبي

الانتقام من صلاح الدين الأيوبي Q ألا تعتقد أن الحرب على إخواننا الأكراد وتفتيتهم شيعاً بواسطة البعثيين والغربيين وغيرهم إنما هو انتقام من صلاح الدين؟ A انتقام من صلاح الدين ومن المسلمين، وكل معلم إسلامي؛ لأن صلاح الدين كردي مسلم، وكرديته ما اشتهرت، ولكن إسلامه هو الذي اشتهر، وما كان يفتخر بكرديته، ولا نشر كرديته، ولكنه افتخر بالإسلام، والتزمه، ورفع رايته، فكتب الله على يديه النصر. عندما دخل الجنرال غورو الفرنسي إلى دمشق في عهد الحروب الصليبية ذهب إلى قبر صلاح الدين وقال: يا صلاح الدين! ها قد عدنا، وهكذا الحروب الصليبية في البوسنة والهرسك، وفي الأندلس وفلسطين، وما أشبه الليلة بالبارحة، فإن التاريخ يعيد نفسه، وقد عقدت مرة مقارنة بين أوضاع وأحوال المسلمين في البوسنة والهرسك، وبين ما كانت عليه أحوال المسلمين في الأندلس مقارنة متتابعة كاملة، واستشهدت فيها بأشعار الأندلسيين على أحداث اليوم، فكانت مطابقة بالكامل، واستشهدت ببعض قصائد وأشعار وأقوال المعاصرين اليوم، ووصفت بها أحداث الأندلس فلم تخطئها مطلقاً، وهذا موضوع محاضرة كاملة بعنوان (ما أشبه الليلة بالبارحة). وقارنت أيضاً مرة بين أحداث فلسطين وبين أحداث البوسنة والهرسك، ومرة بين أحداث كشمير وبين أحداث أفغانستان؛ لأن التاريخ يعتمد على قضايا هي التي تسمى السنن الاجتماعية التي لا تتبدل ولا تتغير، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل والعقائد والأديان واضحة، وهذه كلها موضوعات مستقلة كل منها ألقي في محاضرة كاملة، ودرس مستقل، فيه هذه المقارنات بالشواهد التاريخية، والأقوال التي يذكرها مثل هذا السائل جزاه الله خيراً، مثل أن القوميين العرب وغيرهم من بعثيين قاتلوا في خندق واحد مع الصليبيين، فمن ترك دين الله فلا تسأل عنه بعد ذلك، فإنه يمكن أن يقع منه أي شيء.

صنفان من الناس تصلح الأمة بصلاحهم

صنفان من الناس تصلح الأمة بصلاحهم Q من أهم أسباب التخلف في حياة المسلمين؟ A قال العلماء: صنفان من الأمة بصلاحهم يصلح الناس، وبفسادهم يفسد الناس: الأمراء والعلماء؛ ولذلك هذه المسألة من أهم مسائل المجتمعات كلها، ومعلوم أن الناس يتأثرون بمن يكون منصوباً للقدوة أمامهم؛ ولذلك لا بد أن يكون هذا الأمر، ومن فقه الإمام أحمد رحمة الله عليه أنه كان يدعو دائماً لولي الأمر، وأن يصلح الله سبحانه وتعالى الخليفة، وأن يعيده إلى الله وإلى منهج الحق؛ لأنه بهذا الصلاح يعود أو يقع خير كثير، وهكذا كان أهل الإيمان يقومون بالواجب والدعوة والإصلاح والتغيير، وكذلك لا يغفلون عن الدعاء، ونحن أيضاً ينبغي ألا نغفل عن الدعاء.

ترك اليأس والعمل بجدية لهذا الدين

ترك اليأس والعمل بجدية لهذا الدين Q ألا ترى أننا مخطئون في نظرتنا التفاؤلية لحال المسلمين الآن مع هذه الفتن، فإنه مع هذه الرجعة الطيبة إلا أنك تكاد تجزم أنه لا يثبت في الصعاب إلا قليلون؟ A أقول تفاءلوا بالخير تجدوه، وأقول: إن في الأمة نبضاً جديداً قد سرى، وفيما يظهر وفيما يستقرئ الإنسان من التاريخ أن هذا النبض سيتنامى ويزداد بإذن الله عز وجل، مهما كثرت الصعوبات والظروف، ولكن ما قدر الله عز وجل من تغير الأحوال لن يتغير في غمضة عين وانتباهتها، ولا بين ليلة وأخرى، وفي الأمة من الأمراض والأدواء، وفيها من أسباب الفتنة والبلاء شيء كثير، لكن البداية تبشر بخير، وكما يقولون: طريق الألف ميل يبدأ بالخطوة، فلا تيأسوا من روح الله عز وجل، والإنسان مطالب بالعمل، والثمرة من الله سبحانه وتعالى.

رؤية في كتاب التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر

رؤية في كتاب التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر Q ما رأيكم في التاريخ الإسلامي لـ محمود شاكر؟ وما هي أبرز الملاحظات عليه؟ وهل الوثائق فيه محققة؟ A ليس عندي فيه كبير تفصيل حتى أحكم عليه، لكن فيه مزية جمع وإيجاز لهذا التاريخ، وتجميع لكثير من مشاهده، أيضاً مزية أخرى أحسبها له أنه لا يجمع فيه ما يجمعه غيره من المتأخرين الحاقدين من المواقف التي تشوه صورة الإسلام، والروايات التي يقصد بها أصحابها التشويه والغمز واللمز، ومع ذلك لا يخلو أن يكون فيه خطأ؛ لأن روايات التاريخ ينبغي أن نفهم أنها ليست مثل الروايات الحديثية، وأن فيها أموراً من الضعف وعدم التحري الذي يكون في روايات الحديث، وهناك من حرروا بعض المواقف واجتهدوا فيها، مثل محمد صادق عرجون في كتابه عن خالد بن الوليد وعن عثمان بن عفان، وفي كتابه عن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث حاول أن يسلط الضوء على الروايات التاريخية بالتحقيق، وله في ذلك جهد مشكور، وكذلك كتاب العواصم من القواصم الذي سلط الضوء على فترات مهمة وقضايا خطيرة في تاريخ الأمة، وكشف عنها، وكذلك روايات الزبير بن بكار عن مسائل في تاريخ الفتنة التي وقعت في العصر الإسلامي الأول، وينبغي للإنسان ألا يتعجل بالنقد والإسقاط كلية، ولكن أحسب أن الكتاب فيه منفعة خاصة، وأنه جمع كثيراً من التاريخ واختصره وهذبه، بحيث يكون قريباً، وإن كان القارئ للتاريخ سيجد أنه لا غنى له عن بعض التفاصيل والوقائع المهمة، وله كما قلت حسنات، منها أنه يبرز جوانب مضيئة ومشرقة، فمثلاً في كلامه عن الخلفاء الراشدين ذكر في آخر سيرة وتاريخ أبي بكر رثاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر، ومدحه له مدحاً عظيماً، وثناءً عاطراً، كأنه يشير إلى ما كان بين الصحابة من الألفة والتعظيم، خلافاً لمن يريد أن يشكك في ذلك، ويثير بعض الروايات المغرضة هنا وهناك.

كتب لابد منها في قراءة التاريخ

كتب لابد منها في قراءة التاريخ Q تاريخنا قد نسي فلم يقرأ، فهلا دللتنا على كتاب نستطيع قراءته، ونفهم التاريخ منه فهماً صحيحاً بعيداً عن آراء الشيعة؟ A هناك كثير من الكتب التاريخية القديمة ينبغي ألا نغفل عنها، والرواة كانوا يروون كل شيء، وكلما عنده في هذا الباب يرويه، ما صح وما لم يصح، فينبغي للإنسان أن يتفطن ويتنبه، والفترة التي كتب فيها التاريخ في الأول كانت هناك تأثيرات سياسية وعقدية لها أثرها، وأنا أوصي من أراد أن يتوسع بتاريخ ابن كثير، ففيه كلام نفيس، ورغم أنه يسرد أحداثاً لكن له تعليقات وومضات كأنها خلاصات للدروس والعبر من غير أن تشعر، وفيه كثير من الأمور النفيسة، وحبذا من يستخرج منه بعض الأمور ويقربها في كتب صغيرة نافعة، وتاريخ نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي مذكور في كتاب الروضتين لـ أبي شامة الذي ذكر فيه أحوال الدولة الزنكية، والدولة الصلاحية الأيوبية، فإن فيه أيضاً كثيراً من الأمور المهمة والمفيدة.

الحلول المخرجة من مأزق الأمة اليوم

الحلول المخرجة من مأزق الأمة اليوم Q إذا كان هذا حال الأمة فما هو الحل؟ A الحل ألا ننام ثم نستيقظ وقد انتهت الأمور، ولا أن نجلس في المساجد وندعو وينتهي الأمر، ولكنها سنة الله عز وجل تحتاج إلى جهد وجهاد، وابتلاء، وصبر ومصابرة، حتى يأذن الله عز وجل بأن يحقق نصره، وأن تتكامل هذه الجهود. وينبغي أن نعلم أن الأمر يمتد مع الزمن ومع من هنا وهناك في شرق الأرض وغربها من المسلمين في كل مكان، قد يهزم المسلمون في مكان وينتصرون وتقوى شوكتهم في مكان آخر، وهذا من رحمة الله عز وجل، ومن عجائب التاريخ أنه في الوقت الذي كانت تسقط فيه الأندلس كانت جيوش المسلمين العثمانيين تدق أبواب فيينا في أوروبا الشرقية، وفتحت البوسنة والهرسك في ذلك الوقت الذي سقطت فيه الأندلس تماماً! وحقائق التاريخ تشهد بذلك كثيراً، والله سبحانه وتعالى ناصر عباده، ومنجز وعده، والله نسأل أن يختم لهذه الأمة بالنصر والعز والتمكين في قريب الزمان بإذن الله عز وجل. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

غزوة أحد مواقف وصور

غزوة أحد مواقف وصور السيرة النبوية العطرة معين لا ينضب، ونهر لا يجف، وبحر مليء بالفوائد والعبر والدروس، وإن سنة الله عز وجل قد مضت أن هذا الدين لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقة فوق البقاع، ولا يتحقق منهجه بين الناس إلا بجهد من أبناء هذا الدين، وتضحية من أتباعه المخلصين، يسبق ذلك ويرافقه ويعقبه توفيق من الله عز وجل.

صور من كيد الأعداء للمسلمين

صور من كيد الأعداء للمسلمين الحمد لله ولي المؤمنين، ناصر الموحدين، كتب العزة لعباده المسلمين، وجعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين. أوهن كيد الكافرين، وجعل الدائرة على المعتدين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آن، نحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله له عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه كافة للناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فهذه وقفات مع كيد الأعداء لأمة الإسلام في العهد النبوي الكريم، نقفها من خلال بعض الأحداث في غزوة أحد التي كانت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، والسيرة -كما نعلم- معين لا ينضب من الدروس والعبر والحكم والأحكام التي تجلت في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليمه لأصحابه، وهديه وإرشاده لأمته، كما تجلت في ذلك الصراع بين الحق والباطل، والكيد من أهل الكفر، وإعمال الفتك والنخر في جسد الأمة الإسلامية من قبل أهل النفاق، وسوف ننظر إلى بعض هذه المواقف لنرى أعداء الداخل والخارج، ليكون لنا بذلك نورٌ يكشف ما يحل بمجتمعات الإسلام اليوم، ولندرك في ضوء هذه القصص التي وقعت في السيرة النبوية وما تنزل في شأنها من الآيات القرآنية ندرك حقيقة أعدائنا ممن هم مزروعين بين صفوفنا، أو مقيمين بالعداء على خطوطنا، أعداء الخارج من أهل الكفر، وأعداء الداخل في داخل مجتمعات المسلمين من أهل النفاق، لننظر إلى هؤلاء وهؤلاء كيف كانت مواقفهم وأفعالهم في غزوة أحد، حتى يكون ذلك معيناً ومبصراً لنا لما نكون فيه وعليه في حياة أمتنا الإسلامية وقد امتدت بها كثير من صور العناء من كيد وإجرام الأعداء.

التهييج والتحريض ضد المسلمين

التهييج والتحريض ضد المسلمين روى ابن هشام وغيره من أصحاب السير بدايات نشوء التوجه لغزو المسلمين من قبل الكافرين في أحد. قال ابن هشام: مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم يوم بدر؛ فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا. ففعلوا ذلك. إنها الدعوة والتحريض، والإثارة والتهييج، وإذكاء نار العداوة في القلوب، وإشعال جمر الغضب على أمة الإسلام، وزرع الخوف من المسلمين لأنهم الخطر الداهم والعدو الغاشم حتى تتوحد الصفوف في العداء نحوهم، وتتوجه القوى المادية والمعنوية بالكيد لهم، هكذا صنع صفوان وعكرمة وغيرهما ممن مَنَّ الله عز وجل عليهم بعد ذلك بالإسلام وصاروا من خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الصورة الحية المتحركة تبين لنا كيف يعمل أهل الكفر في صفوفهم ويأزون أصحابهم أزاً، ويدفعونهم دفعاً، ويستخرجون منهم العون والتأييد المادي والمعنوي، فإذا بهم يجوبون الآفاق، كما يقع اليوم في هذه الدنيا التي نرى فيها تكالب أعداء المسلمين على هذه الأمة المستضعفة في شرق الأرض وغربها. فكم من دور لمثل ما وقع من عكرمة وصفوان وعبد الله بن أبي ربيعة وغيرهم يقع اليوم في التأليب على أمة الإسلام والمسلمين، وعلى مجتمعات المسلمين في كثير من بقاع الإسلام: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]، انطلاق، ومشي، وسعي، وحركة، وتأليب، وعرض، وتقليب للحقائق، وتزوير للصورة، وتشويه لأمة الإسلام حتى ينشأ العداء في القلوب، وتتوجه القوى لحرب أمة الإسلام. قال ابن إسحاق رحمه الله: ففيهم -أي: هؤلاء- كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. هؤلاء قد ذكر الله عز وجل شأنهم بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على تجدد فعلهم وتكرره في كل زمان، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بأية ملة كانت غير ملة الإسلام كفروا بالله عز وجل، وكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، (إن الذين كفروا) بهذا الوصف المطلق العام الشامل {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} أي: في كل زمان ومكان وموقف، لماذا؟ {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، ويحولوا بين الناس وبين الإسلام. ثم يخبر الله عز وجل عن العاقبة التي ينبغي أن نوقن بها، ولكن ينبغي أيضاً أن نعمل لتحقيقها {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}، وكم نرى من إنفاق الأموال وتدبير الخطط، واستغلال العقول والأفكار الخبيثة والمكر والدهاء الخبيث لكي تقع الدائرة على أمة الإسلام والمسلمين؟

استغلال كل الطاقات لحرب الإسلام

استغلال كل الطاقات لحرب الإسلام انظر إلى مواقف أخرى حتى ندرك ما يحل بواقعنا الإسلامي اليوم، فهذا أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي أحد من أسروا في يوم بدر من الكفار، وكان فقيراً ذا عيال وحاجة، رق له قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يفيض رحمة، ونفسه التي تجود كرماً، فمن عليه بالفداء والعتق دون مال ودون شرط، ورده إلى أهل مكة سالماً غانماً من غير ما شيء، فأي شيء فعل هذا الرجل؟ لا شك أن إحسان النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر في نفسه، ولا شك أن هذه المعاملة الإسلامية العظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سلت سخيمة قلبه وشحناء نفسه، فجاءه صفوان بن أمية وقال له: يا أبا عزة! إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك. استغلال لطاقات الكفر كلها، للطاقات الإعلامية والسياسية والقتالية وكل قوة أو قدرة يمكن أن تكون موجهة ضد الإسلام والمسلمين. إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، واخرج معنا لتكون محارباً بلسانك لا بسنانك، فقال أبو عزة: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مَنَّ عليَّ فلا أريد أن أظاهر عليه. كان هذا هو الموقف المتوقع من أبي عزة، فقال له صفوان: أعنا بنفسك فلله عليَّ إن رجعت -أي: سالماً- أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. تأجيج وإغراء وتثبيت لأهل الكفر ليكونوا في مواجهة واحدة ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المسلمين، فهذا رجل واحد لم يتركوه، كان واقفاً على الحياد فأتوا ليحرفوه، كان متردداً فدفعوه، وخامداً فحمسوه وشجعوه، ثم تعهدوا وتكفلوا له بأمور المادة والحياة الدنيوية: (فلله علي إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر) كذا قال صفوان بن أمية رضي الله عنه، وهو في ذلك الوقت على كفره وشركه. حتى هذا الرجل الواحد الذي ليس عنده من سلاح غير لسانه وشعره دعي إلى ذلك، فلما قيل له ذلك تزعزع عن موقفه، وتحرك ليكون حربة موجهة للإسلام والمسلمين، وليكون قوة تضاف إلى قوة أهل الكفر ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتحرك وانطلق في تهامة يدعو بني كنانة ليكونوا مع قريش ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام.

استغلال الإمكانيات الفردية وانتقائها

استغلال الإمكانيات الفردية وانتقائها هناك مواقف أخرى تستغل كل شيء، وكل طاقة، وكل صغير وكبير، لتحشد الحشود، وتجيش الجيوش، وتوجه القوى ضد أمة الإسلام، دعا جبير بن مطعم رضي الله عنه وأرضاه -وكان على كفره وشركه آنذاك- دعا غلاماً له حبشياً يقال له: وحشي. يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ، كان رامياً بالحراب شهيراً، وكان عبداً حبشياً حقيراً، وكان كماً مهملاً لا قيمة له، فجاء يستنهضه ويبعث همته ويعلي منزلته، ويعده بمستقبل زاهر ليسدد حربته إلى صدور أهل الإسلام، وليكون مع غيره ممن لهم سبق في عداء أمة الإسلام لينضم إليهم، فقال له: اخرج مع الناس، فإن قتلت حمزة عم محمد صلى الله عليه وسلم بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق. أي: يعتقه ويخرجه من الرق إلى الحرية، فخرج وحشي ليست له مهمة إلا قتل حمزة رضي الله عنه، وقتله وحشي رضي الله عنه وأرضاه، وكان ذلك من أعظم ما أثر في نفسه حتى هيأ الله له عملاً رأى أنه بإذن الله عز وجل يشفي غليله من ذلك الفعل الذي وقع عندما قتل بحربته مسيلمة الكذاب، ثم كان يقول: قتلت بحربتي هذه خير الناس وقتلت بها شر الناس. يعني حمزة بن عبد المطلب لما كان وحشي كافراً وحمزة مسلماً، ويعني بعد ذلك مسيلمة الكذاب لما كان وحشي مسلماً مجاهداً ضد مسيلمة وقومه. فهذا فرد واحد جيء به لتكون له مهمة واحدة وأمر محدد معين، المقصود أن يبلي في حرب الإسلام والمسلمين بلاءه، وأن يتحرك حركته بما يستطيع، وهكذا نرى هذه الصورة التي تدلنا على هذا التجييش والانتقاء للطاقات، ومعرفة كل إمكانية حتى توظف في اتجاهها الصحيح في حرب أمة الإسلام؛ لأن الذين كفروا لا يمكن أن يوادعوا، ولا أن يهادنوا، فضلاً عن أن يحبوا أو أن يناصروا، فضلاً عن أن يعينوا أو أن يوافقوا أمة الإسلام في شيء مطلقاً، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، حقائق القرآن تنطق، وآياته مخلدة إلى قيام الساعة تخبرنا بما علمنا الله عز وجل إياه من حقائق أهل الإيمان والكفر.

استخدام النساء لبعث الحمية في القلوب

استخدام النساء لبعث الحمية في القلوب قال ابن هشام في غزوة أحد: فخرجت قريش بحدها وجدها وحديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة. ليس ذلك فحسب، وإنما كما قال ابن هشام: وخرجوا معهم بالضعن -أي: النساء- خرجوا معهم بالنساء التماس الحفيظة وأن لا يفروا. حتى يكون وجود نسائهم وأعراضهم مهيجاً لهم على الثبات والقتال، ومانعاً لهم من الفرار والنكوص، وقد رأوا ما رأوا في بدر من قبل ذلك، فأرادوا أن يخرجوا بالنساء ليكملوا تجييش جيوشهم، وليجعلوا كل قواهم في الرجال والنساء والعبيد والأحرار والصغار والكبار موجهة وجهة واحدة في حرب الإسلام والمسلمين، فخرج كبراؤهم بنسائهم، خرج أبو سفيان ومعه هند بنت عتبة، وعكرمة بن أبي جهل خرج بـ أم حكيم بنت الحارث، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بـ فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وكان والدها قد قتل في يوم بدر، وخرج صفوان بن أمية بـ بردة بنت مسعود الثقفية؛ خرج الكبراء بالنساء حتى يجيشوا ويقووا توجههم ضد الإسلام والمسلمين، ولا يكون هناك مجال للتراجع أو التخاذل، فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قام النساء بدورهن في حرب الإسلام والمسلمين، وقامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها على رءوس الرجال يحرضنهم على القتال ويقلن: ويهاً بني عبد الدار ويهاً حماة الأديار ضرباً بكل بتار ويقلن: إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق فراقاً غير وامق أي: غير محب. فكن يحرضن على القتال ويؤلبن عليه، وكانت هذه أيضاً صورة من صور تكامل العداء الذي توجه به كفار قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والمجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، وهي صورة تتكرر وتظهر بهذا التكامل الذي لا يخفى على عين البصير ولا على إدراك العاقل، فإن أمة الإسلام اليوم لا شك أنها تواجه مثل هذه الصور من العداء مع اختلاف وعظمة في الإمكانيات، وكثرة في أولئك الأعداء، وكيد ومكر في التخطيط والدهاء، كثيرة هي الصور التي تشابه في أصلها وتفوق في عظمتها وقوتها وشدتها ما كان عليه كفار قريش في حربهم وعدائهم للإسلام والمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلسنا نرى صورة تتجدد لتلك الحشود التي تحشد ضد الإسلام والمسلمين؟ أولسنا نسمع أبواق الإعلام التي تشوه صورة الإسلام وتتهم أمة الإسلام بالدموية ونحو ذلك؟ أولسنا نرى صور كل فتنة وسبيل من أسباب الكيد والإغراء، وصورة من صور المكر والدهاء وهي تحاك ضد الإسلام والمسلمين؟ وما أمور المسلمين في البوسنة أو كشمير عنا ببعيد، أو في غيرها من بلاد الإسلام، فإن الأمر جد واضح {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وهم على هذا النهج سائرون، وهذه صورة من الصور ومواقف قليلة في غزوة أحد فحسب، فما ظنك بغيرها؟ وما ظنك بحشود كانت قبل ذلك وبعد ذلك؟ وما ظنك بكيد وكيد كان مثله واضحاً بيناً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

أثر عمل المنافقين بين صفوف المسلمين

أثر عمل المنافقين بين صفوف المسلمين حتى ندرك ما ينبغي أن نستخرجه ونتعلمه من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وندرك الحقائق القرآنية التي تبين أن أهل الكفر قائمون منتظرون لأية فرصة أو غفوة أو هفوة حتى يسددوا سهامهم، ويرموا بنبالهم، وينزلوا كيدهم وغضبهم وحقدهم على أمة الإسلام نتلوا قول الله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102]، ينتظرون غفلة أو ثغرة أو ضعفاً، فلا تكن أنت ولا يكن غيرك من أهل الإسلام موضعاً يلج منه أعداء الإسلام ضد المسلمين، وقد أخبر الله عز وجل بحقيقة ما في قلوبهم لما قال: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105]، هذا هو الشأن فيهم، وهذا هو الخبر الصادق القرآني عما في قلوبهم، وهكذا نجد الآيات القرآنية تكشف لنا كثيراً من هذا الذي ثبت وظهر في سيرة وأحداث ما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وما كان بين أعدائه في ذلك الوقت. ولإن كان هؤلاء الكفار هم الصورة الظاهرة للعداء فإن أهل النفاق هم الصورة الخفية المتلونة الشديدة في أثرها من صور العداء؛ لأن أولئك قد باينوا وفارقوا وواجهوا وأظهروا وأعلنوا، أما أهل النفاق فقد اندسوا بين الصفوف وأضمروا غير ما أعلنوا، وهم يطعنون من وراء الظهر كما يقال. فننظر أيضاً إلى بعض الصور التي جاءت في غزوة أحد، لنرى صورة أكثر أهمية وخطورة فيما يتعلق بالأضرار التي تقع على المسلمين في كل زمان ومكان من أهل النفاق الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في بعض حديثه عن بعض صورهم في أحاديث كثيرة، وكان فيما قاله حديث آخر الزمان من حديث حذيفة: (هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، إن أمر النفاق بدأ ونجم بعد غزوة بدر لما علت راية الإسلام، وانتصر حزب الإيمان وحزب الرحمن، حينئذٍ قالوا: لا مناص من أن تدخلوا تحت الراية، وتندرجوا في الصف حتى لا تكونوا مفارقين مخالفين. فدخلوا في صف الإسلام وهم على الكفر مقيمون، والبغضاء والحقد والكيد في قلوبهم قد انطوت عليه نفوسهم وأضمروه فيها، فماذا كان لما جاءت غزوة أحد؟ كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر أن يبقى في المدينة ويتحصن فيها، حتى إذا غزاها أهل الكفر كان للمسلمين قدرة على صدهم وردهم وإيقاع الهزيمة بهم، ثم كان بعض المسلمين من المتحمسين الذين لم يشهدوا بدراً وأرادوا شرف الجهاد وطمعوا في أجر الاستشهاد كانوا يرون الخروج، حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ولبس لأمته ودرعه، ثم عزم على القتال. وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين يرى الرأي الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البقاء في المدينة، فماذا صنع؟ خرج مع الجيش المسلم حتى إذا كان الجيش بالشوط -مكان بين المدينة وأحد- انخذل عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه ممن وافقه من قومه على نفاقه، انخذلوا بثلث جيش المسلمين ورجعوا، وقال عبد الله: أطاعهم وعصاني، وما ندري علام نقتل أنفسنا؟ فلحقهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله رضي الله عنه، لحقهم ليردهم ويذكرهم بإيمانهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران:167]، وتعذروا بحجج أهل النفاق، ومضى عبد الله بن أبي يخذل الناس، حتى إذا آيس منهم عبد الله بن عمرو بن حرام دعا عليهم. فانظر إلى هذا الموقف، فبعد أن تألبت قريش، وجاءت الأخبار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الجيش العرمرم الذي جاءت به قريش، وهو أكثر من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، ومع ذلك ينخذل عبد الله بن أبي في اللحظة الحاسمة وفي الوقت العصيب، وهكذا هو شأن أهل النفاق، يختفون ويظهرون بمظهر الموافق، حتى إذا جد الجد، ودنت ساعة المواجهة، أو احتاج المسلمون إلى النصرة أو التثبيت كان دورهم الخذلان والتثبيط، وهكذا فعل عبد الله بن أبي بهؤلاء المسلمين. ثم قد ذكر أهل السير من الأحداث ما يدل على أن أهل النفاق لم يرجعوا كلهم، وإنما رجع بعضهم، وبعضهم واصل المسيرة وظهرت مقالاتهم وأفعالهم في أثناء الغزوة، وكان من خبر أولئك ما ذكره بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152] قال: المقصود بأولئك بعض أهل النفاق من الرماة الذين تركوا مواقعهم وانصرفوا إلى الدنيا؛ لأنهم كانوا قد خرجوا إليها. وكذلك ما روي أيضاً في السير من أن بعضهم لما بلغه شائعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بدأت الدائرة في آخر المعركة تدور على المسلمين قال بعضهم وخرج ما في قلوبهم: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان. ثم قالوا: إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم. وهذا الزبير رضي الله عنه يروي أيضاً -كما ورد في أسباب نزول بعض الآيات التي جاءت في أحد- قال: إني لأسمع قول معتب بن قشير وأنا في الحلم كالنائم -عندما غشيهم النعاس لتثبيتهم وتطمينهم في غزوة أحد كما حصل في غزوة بدر أيضاً- قال: إني لأسمع قوله وهو يقول: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]. فكان هذا تثبيطهم في الغزوة، ثم جاء دورهم أيضاً بعد الغزوة، ووافقوا اليهود في المقالة التي أشاعوها بين أهل الإسلام توهيناً لهم وتثبيطاً، وزرعاً للزعزعة بين الصفوف، قالوا: لو كان نبياً ما ظهروا عليه ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه. وقال المنافقون للمسلمين أيضاً: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذي أصابكم. وهكذا نجد هذه المواقف التي تمثل صورة أكثر تأثيراً في العداء والخذلان في داخل صفوف المسلمين من أهل النفاق، ولو تأملنا لوجدناها تتكرر كثيراً في حياة الأمة الإسلامية اليوم، مما يستدعي أن يحرص المسلمون على معرفة حقيقة أعدائهم في داخل صفوفهم وخارجها، والله سبحانه وتعالى قد بين مصير أولئك وأولئك، فقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، وهذه العاقبة الختامية، ولكن المسلمون مطالبون أن يرفعوا راية الإسلام، ويحموا حوزة الإسلام والمسلمين، ويحافظوا على حرمات المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فالله نسأل أن يرد عنا كيد الكائدين، ويخذل عنا المعتدين، ويحمينا من شرور الكافرين والمنافقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

حقيقة الولاء والبراء بين الكفار والمنافقين

حقيقة الولاء والبراء بين الكفار والمنافقين وإن المسلم ينبغي له أن يتأمل في آيات القرآن وأحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليدرك الحقائق، ويتلمس طريق النجاة، والصراط المستقيم الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر الله عز وجل عنه في تلك الوصية الجامعة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. وإن المتأمل يجد الحقيقة القرآنية في أمر مهم نذكر به، ولعلنا نختم به الحديث عن هذه الصورة الموجزة في غزوة أحد، وهو أمر التعاضد والتناصر والولاء الذي يجمع أهل الكفر وأهل النفاق، فقد أخبر الله عز وجل بذلك في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، فهم يوالي بعضهم بعضاً، ويناصر بعضهم بعضاً، ويعين بعضهم بعضاً، ويثبت بعضهم بعضاً، ويتبادلون فيما بينهم كل ما يعينهم على تحصيل حظوظهم الدنيوية، والنيل من أهل الإسلام في كل مكان، والله عز وجل أخبر أيضاً عن أهل النفاق فقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، أخبر عن حقيقة فعلهم وحقيقة تعاضدهم وولائهم، وأنهم بعضهم من بعض، ولحمتهم واحدة، ودينهم واحد، وقد دعا الله جل وعلا أمة الإسلام إلى أن تحرص على موالاتها ومعاداتها فتجعلها لله سبحانه وتعالى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وكما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الولاء والبراء عقيدة إيمانية، وكما دعانا القرآن الكريم بآيات تتلى إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وكما بينت الآيات القرآنية في غير ما آية ضرورة ولاء المسلمين بعضهم لبعض، وبرائهم من أعداء الله عز وجل، ولو تحقق ذلك في كل مسلم وفي كل مجتمع لبرئنا كثيراً من أضرار أولئك المندسين في الصفوف، ولبرئنا كثيراً أيضاً من الأوهام والأغلاط التي تجعل بعض المسلمين ربما يحسن الظن بالأعداء، أو يواليهم، أو يناصرهم، أو يكون معيناً لهم -والعياذ بالله- على غيره من المسلمين، وهذا أمر ينبغي أن نتفطن له، وهذه الغزوة يتجدد الحديث عنها دائماً، ونجد فيها وفي غيرها من أحداث السيرة مواقف ودروساً وعبراً تستحق التأمل، ولعل هذه الصورة المبسطة توقظنا إلى الحقيقة الواقعة الشاهدة الناطقة بها أحداث هذا العالم اليوم في تألبه وتكالبه على أمة الإسلام، وسعيه لحربها من داخل صفوفها ومن خارجها {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وكما قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، لكنه جل وعلا قد اشترط الشرط فقال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، فأروا الله عز وجل من قلوبكم وولائكم وبرائكم والتزامكم بدينكم ما يجعل أمر الله بالنصر يتنزل على أمة الإسلام، ويعود -بإذن الله عز وجل- لها سالف عزتها وعظيم مجدها ووحدتها وقوتها التي كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهود الإسلام الزاهرة في أوقات كثيرة. وفي هذا المقام نذكر أنفسنا أيضاً بالأعمال الصالحة التي ندبنا إليها في الأوقات الطيبة المباركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله)، وفي روايات توضيحية تفسيرية لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحسنة بعشر أمثالها) فشهر بعشرة أشهر، وستة أيام تعدل شهرين، فيكون ذلك عدل السنة كلها. فاحرص أخي المسلم على أن لا تفوت على نفسك هذا الأجر العظيم، وأن لا تجعل حظك من رمضان والصوم ينقطع بنهاية أيامه، والاستقامة أمر عظيم، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما استوصاه ذلك الرجل قال: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، فالاستقامة على الطاعات والخيرات من مؤشرات القبول الذي نرجوه من الله سبحانه وتعالى لصيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا، ومن بشائر الخير التي يمنُّ الله بها علينا؛ لأن الطاعة تثمر الطاعة، والقبول يولد العمل الصالح بإذن الله عز وجل. نسأل الله جل وعلا أن يتقبل أعمالنا، وأن يعيننا فيما بقي من أيامنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم! تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وطرفاً دامعاً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأرد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والنفاق والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! إنا نسألك أن تنزل سخطك وغضبك وعذابك على الكافرين، وعلى المعتدين على عبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم! اجعلهم عبرة للمعتبرين، لا ترفع -اللهم- لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم! سود وجوههم، ونكس راياتهم، وأذل أعناقهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! وفق العلماء والدعاة العاملين لنصرة الإسلام والمسلمين في مكان يا رب العالمين، اللهم! وعليك بسائر أعداء الدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! ثبت إيمانهم، وزد يقينهم، وعجل فرجهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

غزوة أحد درس التضحية والثبات

غزوة أحد درس التضحية والثبات ما زالت أمة الإسلام مذ وجدت الأمة الولود التي تضحي بأبنائها في مواقف الشدة، لتعلن بذلك مواقف الثبات على الدين، وتعلي راية المسلمين، وتقول للعالمين: نحن على درب الأنبياء لن نهين أو نستكين، والأمثلة على ذلك كثيرة، ويشهد بذلك التاريخ من بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما وقع في غزوة أحد، حيث أبدى المسلمون أمثلة من التضحيات وكتبوا في صفحات التاريخ دروساً لا تنسى.

وقفة مع تضحية أهل الباطل وثباتهم على باطلهم

وقفة مع تضحية أهل الباطل وثباتهم على باطلهم الحمد لله، الحمد لله العزيز الغفار، المنتقم الجبار، مكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل؛ أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، نحمده جل وعلا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً ننال به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، نحمده جل وعلا على كل حال وفي كل آن، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه وكان أبعدنا عنه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

دروس السيرة معين لا ينضب

دروس السيرة معين لا ينضب أيها الإخوة المؤمنون! حنين كثير وشوق كبير يشدنا دائماً إلى السيرة النبوية العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، لنجلس في أفياء أحداثها مجلس التلاميذ الذين يتلقون العلوم والدروس النافعة المفيدة في أمور العقيدة والإيمان، والعبادة والأحكام، والسيادة والقيادة، والحرب والجهاد، والسلم وإدارة شئون الحياة؛ إنها مدرسة كاملة لإعمار هذه الدنيا على منهج الله عز وجل، وللسعي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى في الآخرة. وإن الوقفة التي نحب أن نقفها اليوم تتصل بأحداث غزوة أحد التي كانت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، وقد كانت لنا وقفات كثيرة سابقة، وفي كل مرة نأخذ ومضة من ومضاتها، ونقف مع درس من دروسها؛ لأنها معين لا ينضب من هذه الدروس والعبر والفوائد والمنافع، وإن درس اليوم الذي نقف عنده هو: درس التضحية والثبات؛ فإن سنة الله جل وعلا قد مضت أن هذا الدين لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقة فوق البقاع، ولا يتحقق منهجه بين الناس إلا بجهد من أبناء هذا الدين يسبقه ويرافقه ويعقبه توفيق من الله عز وجل. إن هذا الدين لابد له من علم ينشر، ودعوة تبذل، وأموال تنفق، ومهج وأرواح تزهق في سبيل الله عز وجل، إنه ليس أمراً هيناً؛ إنها الرسالة العظيمة الخالدة، إنها الأمانة الكبيرة الماجدة: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، ويخاطب الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، إنها أمانة هذا الدين والرسالة الخاتمة من رب العالمين، الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للناس أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها يوم يقوم الناس لرب العالمين. هذه الرسالة العظيمة، وهذا الدرس الكريم نقف مع ومضات منه لنرى صورته في غزوة أحد، ولست معنياً بالوقوف مع الأحداث وترتيبها، وإنما نأخذ هذا الدرس الواضح الجلي في هذه المعركة العظيمة من معارك الإسلام الخالدة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم برفقة الصحب الكرام الغر الميامين الأبطال الشجعان رضوان الله عليهم أجمعين. وقبل أن نأخذ هذا الدرس من الصحابة رضوان الله عليهم نقف وقفة مع الجانب المناوئ للمسلمين، نقف وقفة لنرى صوراً من تضحية أهل الباطل، ونماذج من ثباتهم على باطلهم لا لشيء إلا تشبثاً بحمية الجاهلية، وإعزازاً لمذاهب الكفر، وإرغاماً للإسلام وأهله، فإن الكفر أيضاً لا ينتشر إلا ووراءه جهود تبذل، وأموال تنفق، وجهود وأعمال كبيرة، أفيكون أهل الباطل أحرص على باطلهم، وأغير على كفرهم، وأبذل له من أهل الحق والإيمان؟ لم يكن ذلك أبداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بل كان أهل الإيمان هم السابقون في تضحياتهم، الشامخون في ثباتهم رضوان الله عليهم أجمعين. لما انتهت غزوة بدر كانت جراح مشركي مكة عظيمة غائرة، ونكبتهم وخسارتهم فادحة، وعظمتهم قد مرغت في التراب، ونفوسهم تشتعل نيراناً للأخذ بثأر كفارهم وقتلاهم من النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ولم يكن الأمر مقتصراً على بدر؛ فقد كانت بين بدر وأحد وما بينهما من السرايا ما أظهر الله عز وجل به كلمة الإسلام، وكان آخرها: سرية زيد بن حارثة، التي عرض فيها لقافلة من قوافل قريش التجارية، ورغم أنهم تجنبوا طريق المدينة إلا أن سرية زيد بن حارثة أدركتهم وسبت كل مالهم وتجارتهم وفروا هاربين، فما كانت صورة استعدادات أهل الكفر؟ وما هي تطبيقاتهم العملية في ميدان المعركة؟

بذل أهل الباطل لأموالهم

بذل أهل الباطل لأموالهم لما نجت قافلة قريش الأولى في بدر ولقي المشركون الهزيمة، قال زعماؤهم وكبراؤهم: يا معشر قريش! إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم؛ فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً. هذه القافلة التجارية التي كانت سبب غزوة بدر نريد أن تنفق لتجهيز الجيوش، وقيام الحملات الإعلامية، وتكتيل الصفوف لحرب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام تجارة موسمية كاملة، وخاطب قريش كبار تجارهم: إن هذه الأموال نريد أن تحول لتكون وقوداً للتعبئة العسكرية علنا أن ندرك من محمد صلى الله عليه وسلم ثأراً، فأجابوا إلى ذلك؛ فباعوها كلها وأنفقوها في حرب الإسلام والمسلمين، وكانت تلك القافلة كما ذكر أصحاب السير: ألف بعير كاملة، وخمسين ألف دينار؛ أنفقت كلها لحرب الإسلام والمسلمين، ونزل في ذلك كما ذكر بعض أهل السير والتفسير قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]. المهم أنهم ينفقون ويبذلون ونراهم اليوم يجددون تلك السيرة، ونراهم اليوم وهم يتنادون من كل مكان، لسان حالهم كما أخبر الله عز وجل في كتابه المحكم الكريم في شأن الكافرين وندائهم لبعضهم البعض: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]، ولذلك تنادوا فأنفقوا الأموال لتجهيز الجيوش وحرب الإسلام والمسلمين، وهم اليوم يتنادون لذلك، وتصب الأموال بالملايين لتكون حرباً وقنابل وقذائف تصب على رءوس المستضعفين من إخواننا في البوسنة أو الشيشان أو فلسطين أو الهند أو في أي مكان من بلاد الإسلام والمسلمين.

تضحية أهل الباطل بأرواحهم

تضحية أهل الباطل بأرواحهم لننظر إلى صورة أخرى لنرى كيف يكون الباطل مدافعاً عن حقه وهو على باطل؛ حتى ندرك أن أهل الحق هم أولى بذلك. قبل أن تبدأ المعركة كان من المتعارف عليه أن الراية دائماً في بني عبد الدار من قريش، وكان النضر بن الحارث هو حامل رايتهم في يوم بدر، وقد وقع أسيراً في أيدي المسلمين، ووقوعه في الأسر دليل على الخزي والذلة والجبن والخور، فلما جاءت معركة أحد جاء أبو سفيان القائد العام لجيوش كفار مكة يخاطب بني عبد الدار حتى يثير حميتهم، ويحضهم على التضحية والثبات، فيقول لهم ويناديهم: يا بني عبد الدار! قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إن زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه. وما كانت العرب أبداً لترضى بالذل والصغار، فصاح بنو عبد الدار: أنسلم لك الراية؟ لترين غداً كيف نصنع؟ وقد ثبتوا ثباتاً يعجب المرء منه، ويأخذ منه في الوقت نفسه درساً وعبرة. كان حامل رايتهم طلحة بن أبي طلحة العبدري سيد بني عبد الدار، فلما بدأت معركة أحد خرج مختالاً يطلب المبارزة، وكان فارساً من أشجع الشجعان الأبطال عند العرب، فهاب الناس لقاءه، ثم تقدم له الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، فلم يلبث أن وثب الزبير وثبة عظيمة حتى كان معه على جمله، ثم صرعه من جمله فألقاه في الأرض، ثم ذبحه رضي الله عنه وأرضاه، فماذا صنع بنو عبد الدار بالراية التي أعطيت لهم؟ تقدم لها أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة ورفع الراية مرة أخرى، وصار ينادي: إن على أهل اللواء حقاً أن تخضب الصعدة أو تندقا وظل يقاتل حتى جاءه حمزة رضي الله عنه وأرضاه، أسد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بسيفه البتار ضربة على كتفه خلع بها يده، حتى بلغ سيفه إلى رئته فقتله، ثم جاء بعد ذلك أخوه أبو سعد بن أبي طلحة العبدري ورفع اللواء مرة أخرى وهو ينادي ويشمخ بلسان بني عبد الدار مرة ثالثة، ثم جاءه بعد ذلك سعد بن أبي وقاص فرماه بسهم فأصاب حنجرته، فاندلقت لسانه فمات من حينه، ثم حمل اللواء بعد ذلك مسافع بن طلحة ابن أبي طلحة ثم جاءه سهم من عاصم بن ثابت رضي الله عنه فقتله، ثم حمل الراية أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة ثم قتل، ثم جاء أخوه الثالث وهو الجلاس بن طلحة ثم قتل، ستة نفر من بيت واحد ثلاثة إخوة وثلاثة أبناء لواحد من هؤلاء الإخوة، ثم تنادى بنو عبد الدار فحمل الراية منهم أرطأة بن شرحبيل، فجاءه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله، فحمل الراية شريح بن قارض منهم أيضاً فقتل، ثم جاء أبو زيد عمرو بن عبد مناف العبدري فقتل، ثم جاء ولد لـ شريح بن هاشم فقتل حتى فني في هذه الراية من بني عبد الدار عشرة منهم متواليين من كبارهم وزعمائهم وأشرافهم، فحمل الراية بعد ذلك غلام حبشي لبني عبد الدار يقال له: صواب، وأبلى في حمل الراية أكثر مما أبلى أسياده من بني عبد الدار أنفسهم، حتى قطعت يداه فبرك على الراية بصدره وعضديه، حتى قطعت عنقه وهو يقول: اللهم آعززت؟ أي: هل قمت بحقها؟ فانظر رحمك الله كيف كان أهل الباطل يتوقدون غيرة وحمية وجاهلية يثبتون ويضحون لأجل باطلهم وجاهليتهم الزائفة وأمجادهم الباطلة، وأهل الإسلام يريدون أن ينالوا الشرف اليوم دون أن يضحوا، أو أن يبذلوا، أو يثبتوا، ويريدونها هينة سهلة وهم ينامون ملء عيونهم، ويأكلون ملء بطونهم، ويضحكون ملء أشداقهم ما كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم!

صور من ثبات وتضحية أهل الإيمان

صور من ثبات وتضحية أهل الإيمان سنرى صور التضحية والثبات في سيرة الأصحاب رضوان الله عليهم، وها نحن نقف هذه الوقفات الأعظم والأجل والأجلى في أخذ الدرس والعبرة من صحب النبي صلى الله عليه وسلم.

أبو دجانة وعصابة الموت

أبو دجانة وعصابة الموت هذا أبو دجانة نادى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد ورفع سيفه: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، فتنادى له الصحابة رضوان الله عليهم وتسابقوا إليه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟ قالوا: وما حقه يا رسول الله! قال: أن يقاتل مقبلاً غير مدبر)، فتراجع بعضهم لا جبناً وإنما خوفاً أن يقصروا بالوفاء، فتقدم له أبو دجانة وقال: أنا يا رسول الله! وورد في بعض روايات السيرة أن الزبير تقدم له فمنعه منه النبي وأعطاه لـ سماك بن خرشة أبو دجانة رضي الله عنه، فلما أخذه عصب على رأسه عصابة حمراء فقالت الأنصار: عصب أبو دجانة عصابة الموت، وظل يمشي مشية مختالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)؛ لأنه موطن إعزاز للإسلام والمسلمين، فماذا صنع أبو دجانة رضي الله عنه؟ عندما أخذ السيف وبدأت المعركة صار ينادي: أنا الذي عاهدني خليلي ونحن في السفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول ثم فلق به هام المشركين، وشق صفوفهم، وخاض في الموت، وفي حمام الهلاك وهو يجندلهم عن يمينه وشماله، قال: حتى خلصت إلى فارس يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا هو امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب به امرأة، وكانت هذه هند بنت عتبة رضي الله عنها فقد أسلمت فيما بعد وحسن إسلامها، كانت قد تلثمت وحاربت، وكانت من أشجع المحاربين في تلك المعركة، قال الزبير في بعض روايات السيرة: فرأيت فارساً لا يجد أحداً من المسلمين يزفف -أي: في آخر الرمق- إلا وأجهز عليه، فقلت: لعله يلقاه أبو دجانة، فما زلت أنظر حتى التقيا، ثم رفع أبو دجانة سيفه ولم يمضه، فنظرت فإذا هي هند بنت عتبة. وهكذا فعل أبو دجانة رضي الله عنه.

أسد الله حمزة

أسد الله حمزة نأتي إلى موقف آخر لـ حمزة أسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذاك الذي كان الموت يتربص به في ميدان المعركة، لكنه مات غيلة وغدراً، كان رضي الله عنه قد فلق الهام، وقطع الرقاب، وشق صفوف المشركين شقاً، ثم لم يصمد له أحد، ولم يستطع أحد أن يواجهه، حتى جاء وحشي رضي الله عنه وقد أسلم فيما بعد وصار من الصحابة، لم يكن عنده مهمة في هذه المعركة إلا أن يغتال غيلة وغدراً وخسة ودناءة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فظل يكمن في أماكن معينة حتى أصاب منه غرة فأنفذ فيه حربته فقتله لوقته رضي الله عنه وأرضاه.

قمة من قمم الثبات النبوي

قمة من قمم الثبات النبوي أما المثل الأعظم الذي سنجعل وقفتنا معه؛ فهو المثل الذي تتقاصر دونه الأمثلة، والشجاعة التي تظهر كل شجاعة دونها بمراحل، شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم، القدوة العظمى في التضحية لهذا الدين والثبات عليه والدعوة إليه. لما دارت الدائرة على المسلمين بعد نزول الرماة، وبعد أن كانت الجولة لهم، واشتد الاختلاط في صفوف المسلمين، وبدأت المعركة ينفرط عقدها، كان النبي عليه الصلاة والسلام في تسعة نفر من أصحابه، وكان من المتبادر إلى أذهان أهل الضعف والخور، أو إلى أذهان أهل السلامة أن من الأصلح له أن ينسحب بهذه الكوكبة حتى يرجع إلى المدينة، حتى يسلم أصحابه أو حتى يسلم هذه الأمة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان مضرب المثل والقدوة، كان علي بن أبي طالب يقول: كنا إذا احمرت الحدق، وحمي الوطيس؛ نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم. كان دائماً هو المقدم عليه الصلاة والسلام، فماذا صنع في ذلك الموقف؟ صاح: (يا عباد الله! هلموا إلي أنا رسول الله)، وهو يعلم أن صوته سيسمع عند المشركين قبل المسلمين، وكان الأمر كما كان، لقد سمع المشركون هذا النداء، وكان يعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا سيسمع وأن الجموع ستجمع، وأن الجيوش ستتوجه نحوه عليه الصلاة والسلام، لكنه أراد أن يبين للأمة أن الثبات في الجيوش بثبات قياداتها، وأن المضي بمضي كرامها، ولذلك نادى هذا النداء العظيم ليقول كما قال بعد ذلك في يوم حنين: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فما كان له صلى الله عليه وسلم أن يتخلف عند مواضع التقدم، أو أن يتراجع في مواضع الثبات عليه الصلاة والسلام. نادى هذا النداء ثم تجمعت الجيوش من حوله، فكانت صورة رائعة من صور تضحية الصحابة وفدائهم قل أن يجود التاريخ بمثلها مطلقاً، لذلك تجمع أولئك القوم حول النبي عليه الصلاة والسلام، حتى شج وجهه الكريم، وسال دمه على جبهته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، حتى قال عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم؟). درس لنا كيف ضحى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق أجمعين؟ وبذل لأجل هذا الدين، وخاض غمار المعارك حتى سال دمه ولقي الموت؟ ونحن نريدها هينة سهلة، لو كانت هينة سهلة لكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الإكرام للصلاح لكان أحق المكرمين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان النصر يهدى لأحد لأهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه درس للأمة أنه لا يمكن أن ترفع لها راية، ولا أن تقوم لها قائمة، ولا أن ينتشر دينها، ولا أن تقوى قوتها وتعظم سيادتها إلا بالبذل والتضحية في سبيل الله عز وجل، والثبات على هذا الدين، فلذلك رسم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصورة المشرقة الرائعة في الثبات والتضحية في سبيل الله عز وجل حتى كان موئلاً تجمع حوله الصحابة من جديد، وانتهت المعركة نهاية مشرفة، وقد كان من الممكن أن تكون نهايتها أسوأ وأعظم شراً في الهزيمة على المسلمين، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة من نفسه. فإذا كان الرسول قد دمي وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما على أحد بعده أن يصيبه في سبيل الله عز وجل ما هو أشد وأعظم وأنكى من هذا. نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا في رسوله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وأن يجعلنا ممن يتأسون بأصحابه رضوان الله عليهم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

من أجلى صور الثبات في غزوة أحد

من أجلى صور الثبات في غزوة أحد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أبواب التقوى: التضحية لأجل هذا الدين بكل غال ورخيص، بالنفس والنفيس، بالأموال، بالوقت، بالجهد، بالفكر؛ فإن لهذا الدين علينا حقاً، وإن لهذه الرسالة في عنقنا أمانة ينبغي أن نؤديها ونحرص على تبليغها. ونمضي أيضاً مع بعض الأمثلة الأخرى لنرى صوراً من الدروس في هذا الباب:

أنس بن النضر مثال الإقدام والثبات

أنس بن النضر مثال الإقدام والثبات فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه يقول قبل المعركة، وهو الذي فاتته غزوة بدر، وفاته شرف تلك الغزوة العظيمة، يقول: لئن أشهدني الله عز وجل يوماً كيوم بدر ليرين ما أصنع؟ قسم عظيم يُبرز فيه هذا الصحابي الجليل أنه سيبذل وسيضحي وسيثبت ويقدم لهذا الدين ما تقر به أعين المسلمين، وما يرضى به عنه الله رب العالمين، يقول ذلك لا قولاً رخواً وهو متكئ على أريكته، ولا يقول ذلك وهو في مجلس اللهو واللعب؛ وإنما يقوله مقسماً بالله عز وجل في مواطن الجد والعز. فلما جاءت المعركة وجاءت هذه الدائرة، مر أنس رضي الله عنه ببعض الأنصار وقد سرت شائعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تجمع حوله المشركون وحصل ما حصل، فمر أنس ببعض الأنصار وقد قعدوا على هامش المعركة، وسألهم: ما بكم؟ قالوا: أما شعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات؟ فقال كلمات تسجل في صحائف التاريخ، وتخلد في ذاكرة المسلمين، وتنقش في قلوبهم صوراً محفورة لا تنسى من صور الثبات والتضحية، ومعرفة المنهج، ووضوح الرؤية عند الصحابة رضوان اللهم عليهم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم! لئن مات النبي عليه الصلاة والسلام فما قيمة الحياة بعده؟ ولئن أهينت المقدسات، وانتهكت الأعراض، واعتدي على الدين فما قيمة الحياة؟ هل يبقى المسلم في هذه الحياة ليأكل وينكح مثل بقية الأنعام والدواب والهوام؟ إن المسلم أجل وأرفع من أن تكون هذه غاياته، إنه صاحب مهمة ورسالة يقدم حياته كلها لأجل رسالته وإعلاء رايتها؛ فإن أصيب في دينه أو في رسالته؛ فإنه لا يمكن أن يرضى بالذل في هذه الحياة، ولا يمكن أن يبقى ساكناً وادعاً، بل ينبغي أن يتحرق قلبه، وتتحرك جوارحه، وينطق لسانه، وتنطلق أقدامه، وتنفق أمواله، ولو اقتضى الأمر أن تبذل مهجته وروحه في سبيل الله عز وجل كما فعل الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ونداء أنس رضي الله عنه ينادي كل المسلمين: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم مضى أنس رضي الله عنه إلى ميدان المعركة، مضى إلى الغبار المثار، إلى السيوف التي تبرق في الضحى، إلى الأعناق التي تقطع، والدماء التي تسيل؛ فلقيه في أثناء مسيره سعد بن معاذ فقال له: إلى أين يا أبا عمرو؟! فسطر أنس رضي الله عنه أيضاً الجواب بكلمات عظيمة: واهاً لريح الجنة، والله إني لأجدها دون أحد. قوم أيقنوا بما أخبر الله عز وجل به، واستيقنوا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلموا أن طريق مرضاة الله إنما تكون من طريق إعزاز دين الله عز وجل، ونصر عباد الله، وعدم رضى الذل لدين الله عز وجل. واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد، ثم انطلق رضي الله عنه، قال سعد: فما استطعت أن أمضي مضيه، ولا أن أفري فريه، فمضى يقتل ويضرب حتى استشهد رضي الله عنه وفي جسمه بضع وثمانون ما بين ضربة سيف أو طعنة رمح أو موضع سهم، حتى ما عرف وجهه، وإنما عرفته أخت له ببنانة أو شامة. لم يعرف من شدة ما أصابه من ضرب. قال بعض الصحابة: فأحصيت ما به من ضربات فلم أجد في ظهره منها ضربة قط. كان مقبلاً غير مدبر، ولم تأته الضربات من ظهره؛ لأنه لم يول ولم يهرب، وإنما كان مضحياً ثابتاً، ولذلك ضرب مثلاً عظيماً من أمثلة التضحية والثبات على دين الله عز وجل.

أمثلة وصور متفرقة للثبات

أمثلة وصور متفرقة للثبات وعن ثابت بن الدحداح رضي الله عنه: أنه مر بفئة من الصحابة الأنصار من قومه، ورأى بعضهم وقد تردد وتذبذب وحار وتبلبل، فقال: يا معشر الأنصار! إن كان محمد قد مات فإن الله عز وجل حي لا يموت، قاتلوا على دينكم فإن الله مظهركم وناصركم. هكذا كانوا يعرفون أن المسألة مسألة منهج ومبدأ، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوسهم عظيماً فدين الله عز وجل أعظم، وإن كان ارتباطهم بالرسول عليه الصلاة والسلام وثيقاً فارتباطهم بالله عز وجل أوثق؛ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما أخبر ثابت أيضاً في هذه المقالة: قاتلوا على دينكم فإن الله مظهركم وناصركم. ثم مضى ثابت رضي الله عنه، ولم يكن هذا الكلام منهم كلاماً عابراً، بل مضى وقاتل حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه. وهذه صورة ثالثة: مر مهاجري بأحد الأنصار وهو يتشحط في دمه وقد أصيب إصابة قاتلة، مر به وقال متسائلاً ومستغرباً: يا فلان! أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال هذا الذي يفارق الحياة ويستقبل الموت: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم. صحابة يتواردون على معنىً واحد، مما يدلنا على أن تربيتهم وإيمانهم ومنهجهم كان واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، ولذا لم يتذبذبوا ولم يتراجعوا ولم ينخذلوا، وإنما كانت فترة من فترات الاضطراب والفوضى، ثم جاء نداء النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت القدوة المثلى لتجمع الصحابة رضوان الله عليهم، ولست بصدد ذكر الفداء والتضحية التي كانت من الصحب الكرام حول النبي صلى الله عليه وسلم، سبعة من الأنصار واحداً إثر آخر يقفون حول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، يفتدونه بصدورهم وظهورهم، يهلكون واحداً إثر واحد، وكان معه سبعة من الأنصار واثنان من المهاجرين فقضى الأنصار واحداً إثر الآخر حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا أصحابنا)؛ لأنهم تقدموا وكان الآخرون لم يكتب الله عز وجل لهم الشهادة في ذلك الوقت، كانوا ينضحون عنه النبل، ويتلقون عنه السيوف، ويذبون عنه الأعداء، وضحوا وثبتوا ثباتاً عجيباً في وقت كان الأصل أن يكون حالهم الفرار والهرب؛ فقد انفرط عقدهم ودارت الدائرة عليهم.

حنظلة الغسيل وشوقه إلى الجهاد

حنظلة الغسيل وشوقه إلى الجهاد مثل أخير أقف عنده؛ لأنه مثل يبين لنا الصورة التي تعيقنا عن الانطلاق لرضوان الله عز وجل، والمضي لنصرة دين الله سبحانه وتعالى، والعمل لأجل نصرة هذا الدين في كل مكان. هذا حنظلة بن أبي عامر، كان أبوه يسمى أبا عامر الراهب، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق؛ لأنه كان من أشد أعداء الإسلام، أما ابنه حنظلة فقد كان صحابياً جليلاً من خيار الصحابة، كان عرسه في ليلة أحد، ودخل على زوجته وهو حديث عهد بعرس -في يوم الدخلة التي نسميها اليوم- وإذا به يسمع المنادي يقول: يا خيل الله اركبي! يسمع النداء إلى الجهاد، يسمع الانتقال من أحضان المرأة إلى الانتقال إلى أحضان الموت، يسمع الانتقال من العيش الرغيد إلى العيش الشظف الشاق، فإذا به لا يفكر ولا يتردد ولا يضعف ولا يركن إلى الأرض، ولا تلفته الزوجة الحسناء، ولا البيت المهيأ، ولا العطر والطيب بل يشتاق شوقاً عظيماً، ويتحرك حركة هائلة، وينخلع من بيته وزوجته، ويمتطي فرسه ويمضي مع المجاهدين إلى سبيل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، رسمها الصحابة صوراً حية. ما متاع الآخرة في الدنيا إلا قليل! عرفوا ذلك فاشتاقت له نفوسهم. ومضى حنظلة مقاتلاً ومجاهداً يشق الصفوف، كان يقصد أبا سفيان رضي الله عنه؛ لأنه كان قائداً لجيش المشركين في تلك المعركة حتى أوشك أن يصل إليه ويقتله، فإذا بـ شداد بن الأسود يأتيه من جنبه أو من خلفه فيضربه ضربة فيستشهد، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شأن حنظلة أنه كان لم يغتسل من الجنابة بعد، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الملائكة تغسل صاحبكم ما بين السماء والأرض) وتطهره لينتقل إلى الجنان وإلى الحور العين التي وعد الله عز وجل بها الشهداء.

التضحية والثبات درب السلف الأوائل

التضحية والثبات درب السلف الأوائل إن كل صور التضحية بالأهل والديار والأموال والأنفس ظهرت في هذه المواقف التي كانت للصحب الكرام رضوان الله عليهم، وخطوا لنا بكلماتهم في سمع الزمان كلمات تدوي لا تنسى، وخطوا لنا بأفعالهم صوراً تحتذى وأمثلة يقتدى بها، نسوقها لنا، نحن الذين شغلنا بالدنيا، وأخلدنا إلى الأرض، وانصرفنا إلى مصالحنا وذواتنا، ونسينا أمتنا، وديننا، ودعوتنا، ورسالتنا، إلا من رحم الله. ونبث هذه المواقف أيضاً إلى إخواننا المسلمين في البوسنة والشيشان وفلسطين وكشمير وكل مكان ليروا كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام، فقد لقي مثل ما يلقون؟ وكيف كان موقفه وموقف الصحابة رضوان الله عليهم؟ إنها صور تبعث القوة في نفوس المؤمنين، وتعيد الحياة إلى القلوب التي ذوت فيها الحياة، وإلى السواعد التي صارت كالأيدي الشلاء؛ ينبغي لنا أن نجدد هذا المعنى في نفوسنا، إنه لا يمكن لنا أن نحيي معاني هذا الدين، وأن نعلي رايته دون أن نضحي في سبيل الله عز وجل، فإذا لم نستطع أن نضحي بشيء من أوقاتنا، وقليل من أموالنا، وبعض من جهودنا فكيف سنضحي يوماً ما بأنفسنا في الجهاد في سبيل الله عز وجل، لابد أن نوطن أنفسنا على أن نكون على سنن الصحابة رضوان الله عليهم، أن نأخذ من هذه المدرسة النبوية هذه المعاني التربوية الإيمانية، وأن نحقق بعضاً من الشعور أننا من أبناء هذه الأمة، ومنتسبون لهذا الدين، ونحظى بشرف اتباع محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. أتباع محمد حملة رسالة، وناشرو دعوة، ومجاهدون في سبيل الله عز وجل. أتباع محمد ليسوا من أهل الدنيا، ولا من أهل الانشغال عن الآخرة، ولا العمل لذوات أنفسهم والانشغال بمصالحهم الذاتية الأنانية؛ هذه لها حدها وقدرها ومشروعيتها، لكن النفوس العظيمة والإيمان العظيم يدعو صاحبه إلى ما دعا إليه أنس بن النضر، وحنظلة بن أبي عامر رضي الله عنهما، وإلى ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم يوم أحد. ينبغي أن نحيي هذه المعاني حتى نعالج هذا الفتور والخور والضعف والتعلق بالدنيا الذي في أنفسنا، فلئن كانت هذه صورة شامخة سامقة في حياة الصحابة ونحن في سفح سحيق فينبغي أن نحرك أنفسنا، نعم نحن بحمد الله اليوم في خير كثير، نعم قد دب الإيمان في القلوب، وشاع الإسلام في الصفوف، وتنادى المسلمون باسم الإسلام بوادر خير تحتاج إلى أن نرويها بتضحياتنا، ونغذيها بأرواحنا، ونحييها بكلماتنا ومواقفنا. نسأل الله عز وجل أن يسخرنا لخدمة هذا الدين، وأن يجعلنا من نصرائه في كل مكان، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يسخرون أموالهم وجهودهم وأوقاتهم وأرواحهم في سبيل نصرة هذا الدين، وإعلاء راية الله في كل مكان. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم أبدل أمتنا من بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلتها عزة، ومن بعد فرقتها وحدة. اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وألهمهم الرشد والصواب، اللهم اجعلهم بكتابك مستمسكين، ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، وفي آثار الصحابة سائرين، نسألك اللهم أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وفرق كلمتهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم أبطل كيدهم، وأحبط مكرهم، واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم، اللهم ارزقهم الصبر والثبات واليقين، اللهم اجعلهم من أهل الصبر على البلاء والرضا بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت لهم زيادة في الإيمان واليقين ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم قرب نصرهم، وعجل فرجهم، اللهم إنا نسألك أن تثبتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تخفف عنهم وأن ترفع عنهم يا أرحم الراحمين! اللهم واجعلنا في نصرة دينك وسخرنا في الدعوة إلى دينك، نسألك اللهم أن توفقنا لكل ما تحب وترضى، وأن تصرف عنا ما لا تحب ولا ترضى. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك، واجعلهم مسخرين في رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم

عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم لقد عظم الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ورفع مكانته ومنزلته على سائر الخلق، ورفع ذكره، فقرن اسمه باسمه في الأذان والصلاة والدعاء وغيرها من العبادات، وهذا يدل على علو منزلته صلى الله عليه وسلم وقدره عند ربه، فيجب على كل مسلم أن يعظمه، ويوقره، ويعزره، وذلك بالدفاع عنه، والاقتداء به، والصلاة عليه، وغير ذلك من أوجه التعظيم والتبجيل.

مقدمة عن حقيقة العظمة ومعناها ونصيب النبي عليه الصلاة والسلام منها

مقدمة عن حقيقة العظمة ومعناها ونصيب النبي عليه الصلاة والسلام منها الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، له الحمد سبحانه وتعالى لا يضل من استهداه، ولا يحرم من استعطاه، ولا يخيب من رجاه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، ونسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا البيت من بيوته على غير أرحام تربطنا، ولا مصالح تجمعنا، أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، إنه ولي ذلك والقادر عليه. عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم موضوع جليل، فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام كان قمة سامقة تتقاصر دونها القمم، وكانت مكانته رفيعة تتوارى معها المكانة والمنزلة مهما علت وسمت، وكما نرى النجم مضيئاً مشعاً وله جماله وبهاؤه فإذا أشرقت الشمس لم يعد له أثر، فكذلك كل عظمة وكل قدر وكل مكانة لأحد من الخلق هي دون مقام وعظمة ومكانة رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ولا شك أنه شرف عظيم لنا جميعاً المتحدث والسامع أن نطرق مثل هذا الموضوع، نشنف به آذاننا، ونسعد به نفوسنا، ونشرح به صدورنا، فإن ذكر الله جل وعلا وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة حق ومقام وقدر ذات الله سبحانه وتعالى، والوقوف على مكانة وقدر رسوله صلى الله عليه وسلم مما يحيي القلوب، ويهذب النفوس، ويقوي العزائم، وقد أسلفنا حديثاً في مفتتح هذه السلسلة المباركة عن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره شعبة عظيمة من شعب الإيمان، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة، بل منزلتها ورتبتها فوق منزلة ورتبة المحبة؛ وذلك لأن كل محب ليس معظماً، فأنت ترى الوالد يحب ولده ولكنه حب تكريم وليس حب تعظيم، وحب حنو ورحمة وليس حب إجلال وتقدير وتبجيل. فلذلك إذا جمع العبد المؤمن تجاه رسوله صلى الله عليه وسلم المحبة التي أسلفنا القول فيها ثم توجها وكملها أو أسسها وبناها على قاعدة التعظيم والتوقير للمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يكون قد نال حظاً عظيماً وشرفاً كبيراً، وأتى على أمر من الأمور التي هي من أصول إيمانه، وقواعد إسلامه، ومنطلقات التزامه، ولذلك ينبغي لنا أن نفرح وأن نسعد وأن نفخر بما وفقنا الله جل وعلا إليه من الحديث في مثل هذا الموضوع، والله جل وعلا قد نادانا وذكرنا في سياق آياته إلى أهمية تعظيم وتوقير وتعزير رسوله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] فالمعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زمرة المفلحين بإذن الله جل وعلا. والتعزير كلمة معناها التعظيم والنصر، والتوقير كما جاء في معجم مقاييس اللغة: أصل يدل على ثقل في الشيء، فإذا قلت: إنك توقر فلاناً فمعنى ذلك أنه ذا ثقل وذا مكانة، ومنه الوقار: وهو الحلم والرزانة التي تدل على رزانة الإنسان وعدم خفته وطيشه، ووقرت الرجل إذا عظمته، ومنه قوله جل وعلا: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] كما أسلفنا، والتوقير أيضاً بمعنى: التبجيل والتعظيم. قال ابن جرير في تفسيره: فأما التوقير والتعظيم فهو الإجلال والتفخيم. وقال ابن تيمية رحمه الله: التوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه من كل ما يخرجه عن حد الوقار، ولذلك تأتي هذه الكلمات كلها بمعنىً مترادف. أحبتي الكرام! إن الحديث عن عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم حديث لا تمكن الإحاطة به، كما لا يمكن أن يجمع ماء البحر في كأس؛ فإن جوانب عظمته، ووجوه رفعة قدره وصور علو مكانته أكثر وأعظم وأشهر وأوسع من أن يحيط بها حديث في مثل هذا المقام، بل قد صنف العلماء ودونوا وتوسعوا وجمعوا وأوعوا، وما جاء ما فعلوه كذلك على ما كان وما ينبغي أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك عندما طرقت هذا الموضوع وجدت أنه لا بد لنا أن نقتصر ونختصر منه ما لعله يفي بهذا المقام، ويتناسب مع هذا الوقت، ومن هنا أردت أولاً أن نبدأ بشيء يتعلق بالمعنى والدلالة، وبالفائدة والأثر فهذا الذي أوجزناه من المعنى مقصودنا به بيان الكلام الذي يأتي عن هذه العظمة ووجوهها، ثم إن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين أساسين اثنين سنقسم الحديث عنهما لاحقاً: عظمة في ذاته الشريفة عليه الصلاة والسلام، وما كان له من الخصائص، وما عرف به من الشمائل، وما سجلته سيرته من المواقف، وما سمت به شخصيته في كل جوانب الحياة المختلفة. وجانب آخر -وهو في تصوري أعظم وأكبر- وهو جانب عظمة الإنجاز والثمرة، قد يكون لي خصيصة، قد يكون لي شرف نسب، قد يكون لي كثير علم، قد يكون عندي بعض الذكاء والفطنة، لكن ذلك وإن كان من وجوه العظمة لا يغني شيئاً ما لم يثمر ذلك كله نتيجةً وإنجازاً. وفعله عليه الصلاة والسلام وأثره الباقي إلى قيام الساعة أعظم وجوه عظمته كما سيأتي.

فوائد استشعار عظمة النبي صلى الله عليه وسلم

فوائد استشعار عظمة النبي صلى الله عليه وسلم أما فائدة هذه العظمة وحديثنا عنها فإني أقول: إنه يمكن لنا أن نذكر فائدتين اثنتين تكفينا لنجعل هذا الموضوع موضع اهتمامنا ورعايتنا: الفائدة الأولى: المحبة والإجلال، فإنك لن تعرف شخصاً وتدرك عظمته، وتعرف علمه، وتلم بجوانب سماحته وخلقه وفضله، إلا غرست في قلبك محبته ومالت نفسك إليه. الفائدة الثانية وهي مهمة أيضاً: التأثر والاقتداء، فالنفوس بطبيعتها مجبولة بالاقتداء والتأسي بالعظماء، ألا ترى الكثرة من البشر، لكنك في كل جيل، وفي كل أمة، وفي كل بلد ربما لا تجد إلا أعداداً قليلة هي التي تذكر في الناس وتشتهر بينهم، ويدور حديث الناس عنهم، أولئك الذين يتصدرون الناس لما لهم من وجوه العظمة، ولما لهم من بصمات وآثار الإنجاز والتأثير والفائدة والنفع، فحينئذ يكونون رواداً قواداً والناس على آثارهم مقتدون: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

وجوه العظمة الذاتية للنبي صلى الله عليه وسلم

وجوه العظمة الذاتية للنبي صلى الله عليه وسلم لقد اقتصرت في كل جانب من هذه الجوانب على عشرة وجوه فحسب، والعشرة وراءها عشرات أخر، ولها من النصوص والشواهد القرآنية والنبوية من الأدلة ما هي عشرات وعشرات أخرى.

أخذ العهد والميثاق من الأنبياء والرسل للإيمان به ونصرته

أخذ العهد والميثاق من الأنبياء والرسل للإيمان به ونصرته الوجه الأول: أخذ العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] روى أهل التفسير عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية قولهما: (ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره -أي: أمر الله ذلك النبي- أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بُعث فيهم محمد عليه الصلاة والسلام وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه) وهذا فيه رفعة للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لعظيم مكانته بين الأنبياء، وتعريف وتشريف بين البشرية جمعاء، إذ إن الله جل وعلا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يكون إلا في آخر الزمان، وأنه خاتم الأنبياء، فعلام جعل الميثاق على كل نبي بعث أنه يقر إن بعث محمد وهو حي أو بعث في أمته بعد وفاته أن يأخذ العهد والميثاق على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى نصرته واتباعه؟ أفلا ترون ذلك عظمة بين العظماء وهم الرسل والأنبياء؟! أفلا ترونه يدل على النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ودينه وكتابه؟! والأعظم الأكمل أن جعل الله عز وجل حكمته مستوفية لكل ما أراده من الهداية التامة والكمال في هذه الرسالة، فجعل كل رسل الله وأنبيائه عليهم العهد، وأمروا أن يأخذوا على أتباعهم وعلى أممهم العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأن ينصروه، ولا شك أن هذا وجه ظاهر واضح بين في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم.

إعلام أهل الكتاب بصفته

إعلام أهل الكتاب بصفته الوجه الثاني: إعلام أهل الكتاب بصفته صلى الله عليه وسلم والتعريف به، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى على وجه الخصوص، وفي رسالة موسى عليه السلام وما أنزله الله عليه من التوراة، وفي رسالة عيسى عليه السلام وما أنزله الله عليه من الإنجيل ذكر مفصل، ووصف دقيق، وسمات معنوية وأخرى حسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا النبي الذي سيبعثه الله من بعد هو نبي عظيم، ومكانته عالية، وقدره رفيع، ومن هنا ذكرت هذه الأوصاف، قال جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ما معنى (كما يعرفون أبناءهم؟) أي: كما لا يشك الرجل أن هذا الابن من صلبه لعلمه بحاله وحال زوجه، بل قد أحياناً لا يكون عنده من الجزم بهذا مثل ما عنده من الجزم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ بما ذكر من أوصافه الدقيقة في هذه الكتب، والله جل وعلا قد قال أيضاً: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] التوراة ليست كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل الإنجيل على محمد صلى الله عليه وسلم، لكن ذكره فيهما مشع، وصفته فيهما ظاهرة، وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص الحديث الذي يرويه البخاري حين سئل عن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أكثر الصحابة علماً بكتب أهل الكتاب، فقال: (أجل، والله! إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفض ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عمياً، وآذناً صماً، وقلوباً غلفا). ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا في الكتب السابقة، لا شك أن فيه تنويهاً وإشادة به، وتشريفاً وتكريماً له صلى الله عليه وسلم.

ختم النبوات بنبوته

ختم النبوات بنبوته الوجه الثالث: ختم النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ودائماً نقول في حديثنا المعتاد: ختامه مسك، أليس آخر عمل تعمله يكون أكثر إتقاناً وأوضح كمالاً؟! قد تكون صاحب تجربة أو حرفة كنجار، ففي أول أمرك تصنع لكن بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة آخر عمل تقوم به يكون مستوفياً لوجوه الكمال والعظمة، ويكون على أحسن وأتم شيء؛ لأنك قد أتقنت وجربت وخبرت وعرفت. قال ابن القيم رحمه الله في خلق آدم: فجعل الله خلق آدم وهو أبو البشر متأخراً عن خلق كثير من المخلوقات من الملائكة والجن وغيرهم، ولا يكون المؤخر إلا معظماً، ثم ذكر وجوه العظمة في خلق آدم. والرسل والأنبياء صفوة الخلق قال عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] ومع ذلك هذه الصفوة لا شك أن خاتمها هو صفوة الصفوة عليه الصلاة والسلام، فلما جعله الله خاتم الأنبياء فمعلوم أن الخاتم هو الأفضل والأكمل، فكانت نبوته وكانت شخصيته وكانت عظمته أتم وأكمل شيء في سلسلة ذهبية مشعة مضيئة من رسل الله وأنبيائه عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، وإن كان سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بتواضعه يقول: (لا تفضلوني على الأنبياء)، وقال: (لا تفضلوني على يونس بن متى) لكنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة)، هذا بناء ناقص، وبقي شيء يكمله ويجمله، قال عليه الصلاة والسلام: (فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) وهذا من وجوه العظمة.

عموم رسالته

عموم رسالته الوجه الرابع: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، عندما يكون هناك إنسان له قدرات معينة كأن يكون مدرساً متخصصاً في علوم التاريخ، ماذا يدرس؟ إنه سيدرس مادة التاريخ أليس كذلك؟ لكن لو قيل لك: إن مدرساً معيناً جعلوه يدرس في التاريخ والجغرافيا والفيزياء والكيمياء ونحو ذلك ماذا ستقول عنه؟ ستقول عنه: إنه رجل عظيم؛ لأنه استطاع أن يفعل هذا كله أو استطاع أن يقوم بمهمات عديدة لا يقوم بها إلا أشخاص كثر. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم الله جل وعلا يقول الله في نبوته ورسالته: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] بعثه الله إلى الثقلين من الإنس والجن، كل البشر منذ بعثته وإلى قيام الساعة هم من أهل أمة الدعوة التي توجه إليها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعون إلى الإسلام وإلى القرآن وإلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جابر بن عبد الله المشهور قال عليه الصلاة والسلام: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم) إلى آخر الحديث. إذاً: لن تكون هذه المهمة الواسعة لكل الناس، ليس هو نبياً ولا رسولاً لقوم معينين، ولا لرقعة معينة، بل للعالمين. إذاً: هذه عظمة تتناسب مع هذه المهمة الكبيرة التي لا تحدها الجغرافيا، ولا يقطعها الزمن، ولا تتعلق ببيئة ولا بلغة ولا بثقافة، بل رسالة شاملة عامة أنيطت بخير الخلق صلى الله عليه وسلم، وهو لها أهل، ولعظمتها كان هو كذلك عظيماً كعظمة ما أسنده الله عز وجل إليه، وما كلفه به، وما ابتعثه لأجله في هذه البشرية.

إقسام الله بحياته وببعض الأمور المتعلقة به

إقسام الله بحياته وببعض الأمور المتعلقة به الوجه الخامس: الأقسام الربانية المتعلقة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذه وجوه عظمة لم تكن لأحد من الخلق إلا له عليه الصلاة والسلام: لقد أقسم الله بحياته فقال جل وعلا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر هذه الآية، رواه البيهقي وابن أبي شيبة. ونحن نعلم وندرس في التفسير: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1 - 2] نقول: هذا قسم، والله عز وجل له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، ولا شك أن هذا القسم للفت النظر إلى تعظيم هذه المخلوقات التي أقسم الله بها، فكيف وهو يقسم بحياة محمد صلى الله عليه وسلم؟! إن في ذلك دلالة على تعظيم الله لهذه الحياة ولصاحبها عليه الصلاة والسلام. وأقسم الله عز وجل ببلده فقال سبحانه وتعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1 - 2]. وأقسم الله سبحانه وتعالى بالأمور المتعلقة به كما في قوله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3] القسم هذا كان لنفي القطيعة التي زُعمت عندما فتر الوحي قليلاً في أول ما نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام. ومن القسم بالأمور المتعلقة به أيضاً قوله عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2] هذا القسم متعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه عظمة لا تخفى ولا تحتاج إلى تعليق.

رفع ذكره وتقديم اسمه على غيره

رفع ذكره وتقديم اسمه على غيره الوجه السادس: رفع ذكره وتقديم اسمه صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] ذكر القاضي عياض في كتاب (الشفاء في حقوق المصطفى) كلاماً نفيساً جميلاً يقول فيه: قوله: (ورفعنا لك ذكرك) أي: رفعنا لك ذكرك فلا يذكر الله جل وعلا إلا وتذكر معه. فنحن إذا جئنا لندخل في الإسلام أو لنذكر الشهادة قلنا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وإذا ذكرنا توحيد الله وإخلاص العبادة ذكرنا نبوة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم. إذا جئنا في الصلاة نصلي فإننا نذكر الله ثم نصلي بالصلاة الإبراهيمية التي فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكاد تجد ذكراً إلا وفيه ذكر لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يمر بك أيها المسلم يوم إلا وأنت تذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام، في الأذان تذكره، في الصلاة تذكره، في كثير من الأذكار تذكره، كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم صليت عليه مع من يصلي عليه، فذكره مما لا يكاد ينقطع منه المسلم بحال من الأحوال، وهذا من عظمة ما أكرم الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن تعظيمه تقديمه لاسمه إذا ذكر الأنبياء في القرآن كما في قوله جل وعلا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ} [النساء:163] إلى آخر الآية وكذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزاب:7] وهؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم.

حفظ الله له وللوحيين الكتاب والسنة

حفظ الله له وللوحيين الكتاب والسنة الوجه السابع: التكفل الرباني بالحفظ المتعلق به، وقد جاء الحفظ له وجاء الحفظ لكتابه ولسنته صلى الله عليه وسلم. أما حفظه عليه الصلاة والسلام فقد قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] كان النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يحرس، كان الصحابة يتناوبون حراسته ليلاً ونهاراً؛ خوفاً عليه من الأعداء، فلما نزلت هذه الآية رفع الحرس. ومن لطائف ما ذكر من محبة وتعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر وتزوج صفية بنت حيي بن أخطب بنت زعيم اليهود الذي كان من ألد أعداء الإسلام وقتل، فلما بنى النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الزوجة من أمهات المؤمنين كان في طريق عودته إلى المدينة، وعُملت له قبة ودخل عليها، فلما أصبح نظر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عند قبته أبو أيوب الأنصاري وهو قائم بسيفه، فقال: مالك يا أبا أيوب؟ قال: يا رسول الله! خشيت عليك من هذه المرأة، قد قتلت -يعني: في المعركة- أباها وزوجها وأخاها وعمها وقومها فخشيتها عليك يا رسول الله) يعني: أن الصحابة كانت قلوبهم معلقة به عليه الصلاة والسلام، فخاف عليه من ذلك، لكن نزلت هذه الآيات تبين عصمة الله لرسوله عليه الصلاة والسلام. كذلك قال الله سبحانه وتعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:94 - 96]. أما حفظ الله جل وعلا لكتابه ففي قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، أما حفظ السنة التي بينت القرآن فهي تبع لذلك، وهذا لم يكن إلا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، أهل الكتاب قال الله عز وجل عنهم: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44] معنى ذلك أن الأحبار أوكل إليهم حفظ كتاب الله، فما الذي جرى؟ قال الله عنهم: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]، أما كتاب الله الذي أنزله الله على رسوله عليه الصلاة والسلام وهو القرآن فقال عنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].

ربط الإيمان به وطاعته بالإيمان بالله

ربط الإيمان به وطاعته بالإيمان بالله الوجه الثامن: ربط الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته ومبايعته بالله رب العالمين، فإذا ذكر الإيمان بالله ذكر معه الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]، وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف:158]، وقال في الطاعة: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال في المبايعة: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10].

التوقير الرباني له في مخاطبته وندائه

التوقير الرباني له في مخاطبته وندائه الوجه التاسع: التوقير الرباني في ندائه ومخاطبته له صلى الله عليه وسلم. الرسل والأنبياء في القرآن ذكروا بالنداء بأسمائهم: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ} [هود:48] {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، ولا تجد في القرآن: يا محمد! أبداً إنما يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:28] خطاب الله جل وعلا لرسوله فيه دلالة على عظمة قدر رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الخطاب الرباني كلام رب العالمين سبحانه وتعالى يظهر فيه هذا التعظيم، فأي تعظيم أعظم من تعظيم الله سبحانه وتعالى؟! وأي مكان ومنزلة يمكن أن تستنبط بأكثر مما تستنبط من الآيات القرآنية التي تنزلت في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في ندائه ومخاطبته؟!

إجابة الله عنه ودفاعه عنه

إجابة الله عنه ودفاعه عنه الوجه العاشر والأخير في هذه الطائفة من وجوه العظمة: الإجابة والدفاع الرباني عنه عليه الصلاة والسلام، إذا قرأتم الآيات في شأن الرسل والأنبياء تجدون أقوال خصومهم والذين عارضوهم والملأ الذين خالفوهم، ثم يأتي الرد على لسان النبي نفسه، على سبيل المثال: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:60 - 61]، ولو قرأتم في سورة هود وفي سورة الأعراف قصص الأنبياء لرأيتم أقوال الكافرين والجاحدين المناوئين وردود الرسل والأنبياء عليهم. لكن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكرت الأقوال عنه فإن الرد لم يأت منه، وإنما الرد من الله عز وجل فهو الذي رد عنه، وأجاب عنه، وهو الذي دافع عنه سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:22 - 28]. وكذلك في سورة الحاقة تقرءون الآيات وفيها الرد والإجابة الربانية، وفي هذا إشارة إلى رفعة ومكانة وقدر وعظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

عظمته صلى الله عليه وسلم المتعلقة بأمته وغيرها من الأمم

عظمته صلى الله عليه وسلم المتعلقة بأمته وغيرها من الأمم نحن تكلمنا في طائفة متعلقة بذاته مباشرة عليه الصلاة والسلام، أما الآن فالحديث عن عظمته المرتبطة بأمته والأمم الأخرى.

كونه أولى بالأنبياء من أممهم

كونه أولى بالأنبياء من أممهم الوجه الأول: كونه صلى الله عليه وسلم أولى بالأنبياء من أممهم، الله جل وعلا يقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68] أي: أن محمداً صلى الله عليه وسلم أولى بإبراهيم من قومه حتى الذين آمنوا به؛ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو الذي أراد الله عز وجل أن يختم به هذه الرسالات، وهو الذي جاءت رسالته بالإيمان بكل الرسل والأنبياء؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح المتفق عليه: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة)، وكذلك عندما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فلما سأل عن ذلك؟ قالوا: يوم نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون فنحن نصومه لذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (نحن أحق بموسى منهم، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والمؤمنون من أمته هم أولى بالرسل والأنبياء من أتباعهم الذين حرفوا وبدلوا؛ لأننا نؤمن بكل رسل الله ولا نفرق بين أحد منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعظم رسل الله وأنبياءه ويقول: (لا تفضلوني على الأنبياء)؛ إجلالاً لهم، واعترافاً بفضلهم، ولأن سلسلة النبوة كلها سلسة التوحيد وسلسلة الإسلام التي بعث الله بها الرسل جميعاً.

كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم

كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم الوجه الثاني: كونه صلى الله عليه وسلم: {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] وهذه منزلة عظيمة، أنت الآن قد تدعي أحياناً أنك أولى بابنك من نفسه، فتقول لابنك: أنا أولى بك من نفسك؛ لأني كنت السبب في وجودك؛ ولأنني أرعاك، ولأنني أعرف أموراً أكثر منك، ولأنني أسعى في الدفاع عنك، فأنا قد فعلت لك ما يكون حقي عليك أكثر من حقك على نفسك، قد يتصور الناس هذا، وإن كان لا أحد يقر بأن أحداً أولى بغيره من نفسه، لكن القرآن يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) متفق عليه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا إن شئتم: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)) [الأحزاب:6]) فهو أولى بنا من أنفسنا، من أين لنا الهداية؟! من أين لنا معرفة الحق؟! من أين لنا النور الذي نسير به في ظلمات هذه الحياة؟! أين حياة قلوبنا؟! أين زكاة نفوسنا؟! أين رشاد عقولنا؟! أين استقامة أعمالنا؟! أين صلاح أحوالنا؟ إن مرجعه إلى ما أكرمنا الله به من الهداية التي بعث بها محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو أولى بنا من أنفسنا، وقد ذكرنا في حديثنا عن المحبة: أنه يجب علينا ويلزم أن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبنا لأنفسنا التي بين جنبينا.

امتنان الله على عباده ببعثته

امتنان الله على عباده ببعثته الوجه الثالث: منة الله جل وعلا ببعثته على العباد والخلائق؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] أي: أن الله منّ على البشرية ببعثة هذا الرسول الكريم؛ ليستنقذها من الضلال إلى الهدى، وليخرجها من الظلمات إلى النور. ومنّ الله سبحانه وتعالى بهذه البعثة عليهم لما فيه نجاح أمرهم في دنياهم وفلاح أمرهم في أخراهم بإذنه سبحانه وتعالى، والله جل وعلا يقول: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] واستطراداً أقول: انظروا إلى الآيات التي جاءت في سياق القول الرباني، ففيها تقديم التزكية على التعليم، والآيات التي جاءت في سياق القول البشري في قصة إبراهيم عليه السلام قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]؛ لأن التزكية في المنهج الرباني هي أولى من العلم، وهي الثمرة التي ينبغي أن يركز عليها أهل العلم؛ لأن العلم إذا لم يثمر طهارة قلب وزكاة نفس فليس بعلم نافع للإنسان، بل قد يكون حجة عليه نسأل الله عز وجل السلامة. أذكر أيضاً هنا حديثاً لـ عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه حيث يقول: (لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قسم الأموال في المؤلفة قلوبهم من مسلمة الفتح، وأعطاهم حتى يتألف قلوبهم ولم يعط الأنصار كما كان يعطيهم، فوجد بعض الأنصار في نفوسهم شيئاً، لماذا أعطى الرسول هؤلاء ولم يعطنا؟ كأنهم رأوا أنه أعطاهم لقرابتهم منه؛ ولأنهم من قريش أو نحو ذلك، وعلم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فجاء إلى الأنصار وقال لهم: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم وموجدة وجدتموها علي؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟ وكانوا كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنُّ، ثم قال عليه الصلاة والسلام متأدباً ومعطياً الحق من نفسه لهم: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله؟! أجيبوني! قالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: أما إنكم لو شئتم لقلتم: ألم تأتنا فقيراً فأغنيناك؟ وطريداً فآويناك؟ أما إنكم لو قلتم لصدقتم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً وسلكت الأنصار وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الناس دثار، والأنصار شعار، ففرح الأنصار وبكوا حتى اخضلت لحاهم من الدموع) وذلك من تأثرهم، وهذا من بيان وجه منة الله عز وجل على الخلق ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف كانت منته ظاهرة في قوله لأصحابه رضوان الله عليهم، ومنته أعظم على من جاء بعد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.

كونه أكثر الأنبياء أتباعا

كونه أكثر الأنبياء أتباعاً الوجه الرابع: كونه عليه الصلاة والسلام أكثر الأنبياء أتباعاً من الأمم والخلق، وهذا ظاهر في أحاديث كثيرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام منها: حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، وفي حديث أنس أيضاً عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنا أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة) رواه مسلم، وفي حديث آخر لـ أنس أيضاً قال: (لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد) رواه مسلم، وهذا لا شك أنه من وجوه العظمة والإكرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث أيضاً مشهور من رواية ابن عباس: (عرضت علي الأمم فجعل النبي يمر ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم فقلت: هذه أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق فإذا سواد يمد الأفق، ثم قيل لي: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء فإذا سواد عظيم قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بغير حساب) متفق عليه.

كونه رحمة للعالمين

كونه رحمة للعالمين الوجه الخامس: كونه رحمة للعالمين ليس للإنس فقط بل وللجن، وليس للبشر والجن وإنما للبهائم كما قال عليه الصلاة والسلام في شأن واحد: (إن الحيتان في جوف البحر لتستغفر لمعلم الناس الخير)؛ لأن أثر العلم ينتفع به كل الخلائق، ولا أريد أن أستطرد، لكن اليوم يقولون لك مثلاً: الحفاظ على البيئة، وتلوث الهواء، وغير ذلك من الأمور التي يراعون فيها الحقوق والمصالح التي تتعلق بحياة البشر وليس بالبشر أنفسهم، بينما لو رجعت إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى هديه، وإلى أقواله، وإلى أفعاله لوجدت ذلك ظاهراً فيها بما هو أعظم وبما هو أسبق من كل ما يقال. الله عز وجل يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] والرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيما رواه الحاكم في المستدرك وصححه، والطبراني والبزار من حديث أبي هريرة: (يا أيها الناس! إنما أنا رحمة مهداة) وفي حديث أبي موسى قال: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها).

كونه أمانا لأمته

كونه أماناً لأمته الوجه السادس: كونه أماناً وأمنة لأمته، وذلك ظاهر في قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] رسل وأنبياء أهلك الله أقوامهم في وجودهم وفيهم ذوو قرابتهم، وفيهم من لهم به صلة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أبعد الله عز وجل عن أمته المحق الكامل أو العذاب العام؛ وذلك بسبب وجوده عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون) رواه مسلم أي: ما يكون من فتنة ومحنة وبعد عن دين الله، وابتلاء يقدره الله عز وجل لحكمته.

ادخاره دعوته لأمته يوم القيامة

ادخاره دعوته لأمته يوم القيامة الوجه السابع: ادخار دعوته صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة، وهذا معروف في الحديث المشهور من رواية أنس: (لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيبت، وجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) فهذه خصيصة لرسول الله عليه الصلاة والسلام لها أثرها على أمته.

شهادته على الأمم والأنبياء يوم القيامة

شهادته على الأمم والأنبياء يوم القيامة الوجه الثامن: شهادته على الأمم والأنبياء يوم القيامة، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] وقال جل وعلا: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89] والآيات معلومة في هذا، ثم شهادة الأمة كما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] مقام عظيم أن يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم على البشرية كلها على اتباعهم لأنبيائهم أو مخالفتهم لهم.

شفاعته للأمم عامة وأمته خاصة

شفاعته للأمم عامة وأمته خاصة الوجه التاسع: شفاعته للأمم كلها عامة ولأمته خاصة، وذلك حين يكون الفزع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتي ويسجد بين يدي الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: (ويفتح علي بمحامد لم يفتحها علي من قبل، فيقال له: ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط) فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم في الخلائق فيقضي الله عز وجل بينهم، كل الخليقة والبشرية من أولها إلى آخرها يشفع لها محمد صلى الله عليه وسلم في يوم الهول الأعظم والكرب الأضخم يوم القيامة؛ ليقضي الله عز وجل بين الخلائق. وأعطي أيضاً عليه الصلاة والسلام أنواعاً كثيرة من وجوه الشفاعة لأمته صلى الله عليه وسلم في أحاديث الشفاعة الطويلة، ولا يسمح المقام بذكر ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند مسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع) صلى الله عليه وسلم.

خيرية صحابته وأمته

خيرية صحابته وأمته الوجه العاشر: خيرية أمته وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين، فمن أثر هذا التعظيم لرسول الله انعكس الأثر على أمته: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بعثت من خير قرن من بني آدم قرناً فقرناً حتى كنت من القرن الذي كنت فيه)، وقال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). هذه وجوه أخرى من وجوه العظمة، وهناك وجوه خاصة بعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة، فمن عظمته في يوم القيامة حمل لواء الحمد، وأنه أول من يفتح له باب الجنة، وأول من يدخل الجنة عليه الصلاة والسلام، وهي نصوص كثيرة لعلكم ترجعون إليها وتطالعونها.

عظمة الإنجاز والثمرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

عظمة الإنجاز والثمرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

سمو الدعوة

سمو الدعوة عظمة الإنجاز في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أتناولها من وجهين: الوجه الأول: العظمة في سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، منذ أن نزل قوله جل وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ثم تلا ذلك: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1 - 3] إلى قوله جل وعلا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] قام النبي عليه الصلاة والسلام فلم يجلس، وتحرك فلم يسكن، ونطق فلم يسكت، وجاهد فلم يداهن، كانت حياته من أولها إلى آخرها دعوة، وحمل أمانة الله، وبلغ رسالة الله، وأدى أداءً عظيماً هو أجلى ما يكون في صورة الآية القرآنية التي تأتي في الكلام على الرسل والأنبياء: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]. ثم إذا رأينا سمو الدعوة في جانب آخر غير الجهد والجهاد والبذل والتضحية؛ فإن نوحاً عليه الصلاة والسلام ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً؛ لكن كل الابتلاء الذي مر بالرسل والأنبياء، وكل الجهد الذي بذله الرسل والأنبياء كله موجود في سيرة ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سيرته ما هو جامع لكل ما تفرق من دعوة غيره من الأنبياء من إسرار وإعلان، ومن دعوة ملأ ودعوة خواص، ومن موافقين ومخالفين، ومن ابتلاء بالهجرة، أو ابتلاء بالقتال، أو ابتلاء بالكيد، أو ابتلاء بالاستهزاء، أو ابتلاء بالإغواء، أو ابتلاء بالإغراء، كل ما تفرق في سير الأنبياء جمع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كما نعلم على ذلك القدر العظيم في دعوته عليه الصلاة والسلام. ومن ذلك سموه في دعوته على حظوظ نفسه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي سبى قلوب الناس وخطف أبصارهم وأمال نفوسهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، والأحداث في سيرته كثيرة جداً أذكر منها على وجه السرعة: الرجل الذي جاء والنبي عليه الصلاة والسلام نائم تحت ظل شجرة وأخذ السيف وقال: (ما يمنعك مني يا محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الله، فارتعد الرجل واضطرب قلبه وسقط السيف من يده فأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ) فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. واتفق عمير بن وهب رضي الله عنه قبل أن يسلم مع صفوان بعد بدر على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يدعي أنه يطلب أسيراً له، وهو يريد أن يغتال النبي عليه الصلاة والسلام، فلما جاء قام عمر يستأذن ويقول: دعني أضرب عنقه، ثم أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به فأسلم، وقال: (خذوا أخاكم فعلموه دينه). وثمامة بن أثال أسر، وتمكن النبي صلى الله عليه وسلم منه، وهو سيد بني حنيفة، وربطه النبي صلى الله عليه وسلم في سارية في المسجد، ثم قال: (مالك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تطلب الفداء يأتك المال، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام أطلقه، وجعل له كامل الحرية، وكانوا يكرمونه في أسره، فخرج فاغتسل ورجع وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم منع قريشاً أن تأتيهم حبة من الحنطة من بلاده حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وانظر إلى مسائل أخرى في سمو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام في إيثاره للحق، وفي تأليفه للقلوب عليه الصلاة والسلام، والمواقف كثيرة يضيق المقام عن حصرها. كذلك كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل؟! كيف كان رد أهل الطائف عليه عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؟! لقد ردوا عليه بأقبح رد، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم يرمونه بالأحجار حتى دميت أقدامه الشريفة عليه الصلاة والسلام. وانظروا كيف كان شأنه يوم أحد لما دمي وجهه الشريف، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وكسرت رباعيته عليه الصلاة والسلام، وهو يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). ويوم أن جاءه ملك الجبال وقال: (أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله). كانت الدعوة كل شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كانت مع كل خفقة قلب ومع كل دفقة دم في عروقه، فدعوته ورسالته ودينه كان هو أوكد همه وأعظم شغله، لقد كان ذلك في كل حركة وسكنة، وفي كل لفظة وسكوت، كان كل همه كيف يغرس تلك الدعوة في القلوب! خذوا هذا الموقف الأخير: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على جار له يهودي، وابنه غلام في مرض الموت فقال له: قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله حتى تنجو من النار، فنظر الغلام إلى أبيه فقال له أبوه: أطع أبا القاسم -حتى الذين لم يؤمنوا كانوا يرون عظمته صلى الله عليه وسلم- قال: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام وخرج ثم لم يلبث أن مات، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد الذي نجاه بي من النار) فرح عليه الصلاة والسلام، انظروا إلى فرحه يفرح بهداية الناس، نحن اليوم إذا رأينا مخطئاً دعونا عليه بالويل والثبور والعظائم، واكفهرت وجوهنا في وجهه، وأصبحنا عوناً للشيطان عليه، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان يفتح صدره وقلبه للناس. في مسند الإمام أحمد لما جاء ذلك الشاب يقول: (يا رسول الله! ائذن لي في الزنا)، أسلم ولكنه كان يمارس هذه الشهوة، وتعرفون قوتها وتمكنها من النفس، ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اغرب عن وجهي، لو جاءنا أحد اليوم وقال هذا الكلام لأحدنا لقال له على أقل تقدير: ألا تستحي؟! كيف تقول لي مثل هذا الكلام؟! لكنه عليه الصلاة والسلام قال: (أترضاه لأمك؟! أترضاه لأختك؟! والناس كذلك لا يرضونه، ثم وضع يده الشريفة على صدره ودعا له، قال الشاب: فما كان شيء أبغض إلي من الزنا). انظر إلى هذا السمو العظيم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم!

سمو التربية

سمو التربية الوجه الثاني: العظمة في سمو التربية، انظروا إلى الرجال الذين أخرجهم محمد صلى الله عليه وسلم، هذا عمر رضي الله عنه ماذا كان يعبد؟! قال: (كنا نعبد أصناماً أحياناً من تمر، يقول: فإذا جعنا أكلناها) ماذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته يعبدون؟! من هو أبو بكر؟! من هو عمر؟! من هؤلاء الناس؟ عرب لا يعرف الناس عنهم ذكراً، عندهم من الخصال الذميمة، وعندهم من الأحوال البغيضة، وعندهم من الجاهلية المستحكمة ما هو عظيم جداً لا يكاد يتصور من بشاعته. يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه وقد ولي أمر مكة: (كنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم والله ما لنا طعام إلا ورق الشجر في أيام الحصار، يقول: وما منا اليوم إلا وهو أمير على مصر من الأمصار) خرجوا قادة عظاماً، خرج الحزم في قيادة أبي بكر، وخرجت عدالة عمر، وخرج حياء عثمان، وخرجت شجاعة علي، ومن أعظم وجوه عظمته صلى الله عليه وسلم أنه كان يعرف الرجال؛ فلذلك قال لـ عمر: (لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فج عمر) وفي ذكر صفات الصحابة عند الترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: (أشدهم حياءً عثمان، وأصدقهم لهجةً عمر، وأشجعهم علي، وأقرؤهم أبي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) كان يعرف خصائص كل رجل من أصحابه، كان يعرف كيف يدخل إلى القلوب، وكيف يغير العوائد، حتى أخرج لنا هذه الكوكبة العظيمة، التي لن يكون لها مثيل في جملتها في وقت واحد وزمن واحد أبداً في التاريخ، قد يكون آحاد من الناس له مراتب أو ربما مناقب أو ربما عبادات أو إيمانيات أو أعمال صالحة تقرب من بعض الصحابة، لكن لن يكون هناك جيل تجتمع فيه من الخصائص والصفات والخير والعمل مثل ما كان عليه الصحابة رضوان عليهم، نحن اليوم لو جاء أب وربى أبناءه وكانوا علماء وكانوا صالحين وكانوا ذوي أخلاق حسنة، ماذا يقول الناس عنهم؟ يقولون: فلان يكفيه هذا الابن من أبنائه، خلفه وجعله في هذا الوضع وهذا الحال، فكيف بهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما قال شوقي: يكفيه شعب من الأموات أحياه أي عظمة أفضل من عظمة تخريج الرجال وصناعة الرجال؟! وليس هناك أحد صنع مثل ما صنع رسول الله عليه الصلاة والسلام في مثل هذا. فمن أعظم وجوه العظمة: هو ما أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه البشرية من أعيان أصحابه رضوان الله عليهم، وما كانوا عليه من إيمان وتقىً وهدى وصلاح، وما كانوا عليه من قوة وحسن عمل حتى شرقوا في الأرض وغربوا، وفتحوا القلوب والبلاد وأصلحوا العباد، وكان خيرهم رضوان الله عليهم أساساً مازلنا إلى يومنا هذا نتفيأ ظلاله، وننتفع بما صنعوه خدمة لدينهم وتبليغاً لدعوتهم واتباعاً لرسولهم صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك استمساكاً بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وهذا باب واسع، وهو حري وجدير أن يكون لافتاً للنظر، بل إن بعضاً من غير المسلمين، وخاصة من المعاصرين المستشرقين أكثر ما يذكرونه في وجوه عظمته صلى الله عليه وسلم أنه استطاع أن يحول أمة عابثة لاهية قصارى ما عندها حروب فيما بينها، وليس عندها طموحات ولا آمال؛ إلى أمة ملكت ثلثي المعمورة التي كانت معروفة في ذلك الوقت، في زمن وجيز من عمر الزمان، حتى قام عقبة بن نافع يخاطب البحر ويقول: لو أني أعلم أن وراءك أرضاً وقوماً لخضتك في سبيل الله عز وجل. وحتى بر الأمير المسلم قتيبة بن مسلم بقسمه وجاءوا له بتراب من الصين ليطأ عليه بقدمه إبراراً لقسمه. وحتى وقفت جيوش المسلمين على أبواب النمسا في القرون القريبة الماضية، ودخلوا في عهد عبد الرحمن الغافقي التابعي إلى جنوب فرنسا. إن هؤلاء الرجال العظام الذين خرجتهم مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم وأنجبهم الصحابة رضوان الله عليهم هم أعظم ثروة وأعظم دليل على عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

توجيهات ونصائح لتحقيق تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم

توجيهات ونصائح لتحقيق تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أنتقل بكم أيها الإخوة إلى بعض التوجيهات المباشرة لنا في كيفية تحقيق تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

توجيهات قرآنية تحث على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم

توجيهات قرآنية تحث على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أولها: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، بعض الناس يقول: محمد بن عبد الله، وكأنه يتحدث عن محمد من أبنائه، أو صديق من أصدقائه، لا ينبغي ذلك، لا يذكر النبي عليه الصلاة والسلام إلا بذكر نبوته ورسالته، لا يذكر إلا بذكر ما ينبغي له من التوقير والتعزير والتعظيم والتبجيل، لا يذكر إلا بذكر فضله عليه الصلاة والسلام. قال الطبري في تفسيره لهذه الآية: هذا نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع وألا يقولوا: يا محمد؛ لأن بعض الأعراب أجلاف كانوا إذا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم دعوه وهو في حجراته في عز الظهيرة في وقت الراحة: يا محمد! يا محمد! اخرج إلينا، فنزلت الآيات: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]. وأيضاً قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] لا ينبغي لك أن تسارع إلى الأشياء، وأن تبدي الآراء قبل أن تعرف ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن الآيات الجامعة في التوجيهات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب:53] فكلما يدخل في هذه الدائرة ممنوع منه. وكذلك قوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57] قال ابن تيمية رحمه الله في الاستدلال بهذه الآية: يستدل بها على وجوب قتل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وابن تيمية ألف كتاباً مشهوراً اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ودلل فيه على أن من اعتدى على رسول الله عليه الصلاة والسلام بالشتم والعياذ بالله فإنه مباح الدم؛ لأن هذا أمر عظيم وفيه دلالات كثيرة منها: أن الله عز وجل قرن أذاه بأذاه. وأنه قرن طاعته بطاعته. وأنه فرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى بقية المؤمنين. وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ورأيت في هذه الآية كلاماً نفيساً لبعض العلماء قالوا: ولا يجوز تبعاً لذلك رفع الصوت واللغط عند قبره صلى الله عليه وسلم، فإن حرمته ميتاً كحرمته حياً؛ ولذلك لما جاء اثنان من أهل الطائف إلى المدينة في عهد عمر، ورفعا أصواتهما عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بهما عمر فجيء بهما قال: (من أين أنتما؟ قالا: من الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً؛ ترفعان أصواتكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألم تسمعا قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2]؟). وقد كان ثابت بن قيس خطيب النبي عليه الصلاة والسلام جهوري الصوت، ولما نزلت هذه الآية اعتزل مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، فسأله عن ذلك فقال: إني جهوري الصوت أخشى أن أتكلم فيعلو صوتي على صوتك فيحبط عملي فأهلك، فكانوا يراعون مقام وقدر وعظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الذي ينبغي أن يكون في حياتنا.

أهمية تعظيم القلب واللسان والجوارح للنبي صلى الله عليه وسلم

أهمية تعظيم القلب واللسان والجوارح للنبي صلى الله عليه وسلم التعظيم محله القلب، فأول تعظيم مطلوب منا هو التعظيم من القلب بالاعتقاد الجازم بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وتقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين. ومن تعظيم القلب استشعار هيبته عليه الصلاة والسلام، وجلالة قدره، وعظيم شأنه، واستحضار محاسنه ونحو ذلك. ثم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم باللسان، وذلك بحسن ذكره، وبدوام الصلاة عليه، والثناء عليه عليه الصلاة والسلام. ثم تعظيم الجوارح، وأعظمه العمل بشريعته، واتباع سنته، والتزام أوامره ظاهراً وباطناً.

مدى ارتباط تعظيم آله وأزواجه وأصحابه بتعظيمه عليه الصلاة والسلام

مدى ارتباط تعظيم آله وأزواجه وأصحابه بتعظيمه عليه الصلاة والسلام من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم توقير وتعظيم أزواجه رضوان الله عليهن أمهات المؤمنين، وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلهم حق على أمة محمد أن يوقروهم ويعظموهم، ما كانوا مستقيمين على أمر الله سبحانه وتعالى. ومن ذلك توقير أصحابه رضوان الله عليهم، قال النووي: الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع؛ ولذلك من انتقص أحداً من أمهات المؤمنين، أو أحداً من الصحابة فإنه مغموز في دينه واعتقاده؛ لأنه طعن فيمن زكاهم الله عز وجل، وفيمن هم من ذوي قرابة النبي عليه الصلاة والسلام، وحسبك أن كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بقين في عصمته بعد أن مات عليه الصلاة والسلام، فلا يطعن في أمهات المؤمنين إلا من زاغ قلبه نسأل الله عز وجل السلامة!

ومضات مشرقة رائعة من صور تعظيم الصحابة لرسول الله عليه الصلاة والسلام

ومضات مشرقة رائعة من صور تعظيم الصحابة لرسول الله عليه الصلاة والسلام أخيراً أختم بهذه الومضات المشرقة الجميلة الرائعة من صور تعظيم الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبي أيوب الأنصاري بعد أن وصل إلى المدينة قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم في سفل وكنت وأم أيوب في علو -يعني: في الشرفة العليا- قال: فما طابت نفسي فقلت: يا رسول الله! كن أنت في علو ونكون نحن في السفل، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: إنه أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في السفل -يعني: حتى يأتي الناس والضيوف- فكان أبو أيوب يسير على حافة حجرته لا يسير في الوسط، يقول: حتى لا أطأ بقدمي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال: انكسر إناء ماء، فجئت بلحاف ليس لي ولا لـ أم أيوب غيره فجعلنا ننشف الماء حتى لا يقع شيء منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم! وروى البيهقي في شعب الإيمان (أن الصحابة كانوا إذا كلموا الرسول صلى الله عليه وسلم خفضوا أصواتهم، ومنهم أبو بكر حيث قال: لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله عز وجل أي: كأنني أتكلم مع صديق بهدوء، وهذا فيه نوع من التوقير والتعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك في حديث البراء يقول: خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير من السكون والهيبة والصمت؛ إجلالاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام. وعن بريدة بن الحصيب فيما رواه البيهقي قال: كنا إذا قعدنا عند الرسول صلى الله عليه وسلم لم نرفع رءوسنا إليه إعظاماً له. وهذا عمرو بن العاص يقول: لم أكن أستطع أن أنظر إليه عليه الصلاة والسلام هيبة له. وكانوا يقولون: ما كان أحد ينظر إليه صلى الله عليه وسلم ويملي عينه من نظره إلا أبو بكر وعمر وقلة من الصحابة، أما الباقون فلا يصنعون ذلك من هيبته. وهذا ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام صغير ينام عند خالته زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فيقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم حذاءه، وإذا به يتأخر قليلاً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما لك أجعلك حذائي فتتأخر؟! قال ابن عباس: يا رسول الله! ما ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك يكون معك، لا بد أن يتأخر عنك -أي: كيف أكون أنا في نفس الصف الذي أنت فيه- فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك) رواه الإمام أحمد في مسنده. وفي حديث أنس: (أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير)، أما الآن فبعض الناس يأتيك، ويقرع عليك الباب بشدة، ويصيح عليك، ليس هناك أدب ولا توقير ولا احترام. وروى مسلم من حديث أنس قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحالق يحلقه ويطيف به، فما تقع شعرة إلا في يد رجل) أخذوا شعر النبي عليه الصلاة والسلام. وكذلك لما احتجم عليه الصلاة والسلام أخذ ابن الزبير الدم وشربه كما في الحديث المشهور. وكان الصحابة في المدينة إذا رزقوا بالأولاد يذهبون بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكهم ويبرك عليهم ويدعو لهم بالبركة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء؛ حتى يغمس النبي صلى الله عليه وسلم فيها يده، ثم يرجعون به إلى ذويهم. هذه وجوه من تعظيم الصحابة لنبيهم صلى الله عليه وسلم. نسأل الله عز وجل أن يعظم مقام وقدر ومكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبنا، وأن يجعلنا معظمين له في قولنا، وفي اتباعنا لسنته والتزامنا بهديه عليه الصلاة والسلام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)

معنى قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) Q ما معنى قوله تعالى: {النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]؟ A كلمة (أولى) نعرفها جميعاً، أنا أولى بهذا الشيء يعني: أحق به، بمعنى: أن النبي عليه الصلاة والسلام أحق بنا من أنفسنا، لو كان لنا مال فهو أحق به منا، وكذلك نفوسنا التي بين جنبينا هو أحق بها منا، وهذا ليس من قولنا، وإنما هو من قول الله عز وجل: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وهذا أمر ظاهر.

وجه تمني النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون امرأ من الأنصار

وجه تمني النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون امرأً من الأنصار Q ذكرت في حديث حنين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار) فهل يجوز مثل هذا التمني؟ A ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام جائز في حقه قطعاً، وهو دلالة لغوية بلاغية تربوية نفسية أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشعر الأنصار بمكانتهم وبقربهم منه وبمكانهم عنده؛ حتى يزيل ما خالط نفوسهم من ذلك الحزن، لما رأوا تقسيمه للغنائم في غيرهم، فلا ينبغي استشكال مثل هذه الأمور التي أحياناً ترد؛ لأننا ليس في قلوبنا ونفوسنا من التعظيم والتوقير، وليس في أذهاننا من الفهم والإدراك ما ينبغي أن نكون عليه على الوجه الصحيح.

صيغة الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وأكملها

صيغة الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وأكملها Q ما صيغة الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام؟ A أبلغ الصيغ وأكملها وأتمها الصلاة الإبراهيمية، وهي التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة بالروايات المختلفة، كرواية ابن مسعود وغيره رضي الله عنه، وأما ما وراء ذلك مما فيه تعظيم مطلق فلا بأس به على ألا تكون بصياغة معينة، بعض الناس يقول: هذه صلاة فلان، وهذه صلاة فلان، ويجعلونها على صيغة معينة ويقولون: لابد أن تقول: صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة، لا، ما تعبدنا الله بذلك، ولا تعبدنا بذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن لنا أن نقول: اللهم صل على رسول الله عليه الصلاة والسلام ما تعاقب الليل والنهار، وما اختلف الملوان، وأمور تكثير الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا بأس بها إن شاء الله تعالى.

حقيقة محبة وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم

حقيقة محبة وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم Q من الناس من يحب النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمه في قلبه، ولكنه من الناحية العملية يستحي أن يطبق سنته، وذلك مثل: تقصير ثوبه، وإعفاء لحيته، وأحيانا يصل الأمر إلى أن يقصر في الواجبات؟ A لكل شعور تصديق من العمل. لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع هذا ضرب من الضعف في اليقين والإيمان، وضرب من الضعف في العزيمة والإرادة، ما دمنا عرفنا سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنه يجب علينا تعظيمه، فما بالنا لا يقودنا ذلك التعظيم الذي في قلوبنا وفي ألسنتنا إلى أفعالنا وأحوالنا؟!

التوفيق بين أخذ ابن عمرو للإسرائيليات مع نهي عمر عنها

التوفيق بين أخذ ابن عمرو للإسرائيليات مع نهي عمر عنها Q كيف نوفق بين أخذ عبد الله بن عمرو بن العاص للإسرائيليات وزجر النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان في يده صحف من التوراة؟ A ليس هناك إشكال ولا تعارض، النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمر وفي يده صحف من التوراة، فضرب في صدره وغضب وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! والله! لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي) إنكاراً لذلك حتى لا يروج، لكن عبد الله بن عمرو بن العاص اختلط باليهود بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف كثيراً من كتبهم، فهو عالم بذلك.

الراجح من الأقوال في آخر ما نزل من القرآن

الراجح من الأقوال في آخر ما نزل من القرآن Q كيف يكون ترتيب آيات القرآن حيث أن آخر آية كما يقول العلماء: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]؟ A القول الراجح أن آخر آية أنزلت من كتاب الله قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] وفي رواية عن ابن عباس: (أنها نزلت قبل وفاة النبي عليه الصلاة والسلام بتسع ليال)، وأنا أعلم وجه السؤال، حيث إنني ذكرت قوله: {اقْرَأْ} [العلق:1] إلى قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، ولم أقصد أنها آخر آية ولكن أقصد أن معنى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي: الموت، وهو إلى آخر نفس من أنفاسه عليه الصلاة والسلام، فكان مرتبطاً بدعوته وتبليغها للناس أجمعين، ولذلك في مرض موته وعند آخر لحظات حياته كان يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، لا تجعلوا قبري عيداً) إلى آخر ما هو معلوم مما كان من شأنه عليه الصلاة والسلام. نسأل الله عز وجل لنا ولكم الأجر والمثوبة والنفع والفائدة، وأن يعلمنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً ينفعنا، وأن يطهر قلوبنا، ويزكي نفوسنا، ويصلح أحوالنا، ويرشد عقولنا، ويهذب أخلاقنا، ويحسن أقوالنا، ويصلح أعمالنا، ويخلص نياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قمم ورجال

قمم ورجال تاريخنا تاريخ مجيد، صفحاته من ذهب، وكلماته من نور، يضيء الطريق، ويزيل الغشاوة عن القلب؛ فهو يحكي حياة قمم شامخة ساطعة رائعة لمن تدبرها، وأراد أن يسير على منوالها، ويحذو حذوها، ففي كل ناحية قمة لها نور يملأ الأفق الرحب، والسماء الواسعة.

سبب ذكر قصص السلف الأوائل

سبب ذكر قصص السلف الأوائل الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه؛ نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة. ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة. أما بعد: فنسأل الله جل وعلا أن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب، وأن يوفقنا للحق والصواب، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يملأ قلوبنا بحبه وحب نبيه، وحب كل من يقربنا إلى حبه، وأن يلهمنا طاعته، وأن يقينا ويسلمنا من معاصيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونحمد الله جل وعلا على تجدد هذا اللقاء، وموعدنا فيه مع الدرس الخامس والثلاثين بعد المائة الأولى، وعنوان هذا الدرس: قمم ورجال. ونحن في هذه الأعصر قد ضعف في الغالب إيماننا، ووهت في الأكثر عزائمنا، وتخلخلت عند الكثيرين العزائم، وصار الناس -إلا من رحم الله- يرضون بالأقل الأدنى، ويتركون الأكثر الأعلى؛ لأنهم إما قد شغلوا بسفاسف الأمور وتوافهها، وإما أنهم لم يجدوا على الطريق قدوات تشعل في قلوبهم الحماسة، وتذكي في نفوسهم الغيرة للمبادرة إلى ميادين الخير والسباق إلى قمم العلاء والرفعة، وذرى المجد والعز التي تسنمها أسلافنا رحمة الله عليهم أجمعين. وفي هذا المقام نطوف في صفحات التاريخ، وفي تراجم الرجال لنقف على بعض سير القوم الذين بلغوا الذرى في معالي الأمور ومهماتها، ونالوا قصب السبق في ميادين الخير وطرقاتها من أولئك الأسلاف الذين سجل التاريخ وقائع حياتهم وكلماتهم بمداد من ذهب على صفحات من نور، ذلك أنهم أثمر إيمانهم، وأزهر إسلامهم، وجاءت في سيرتهم تلك المعاني العظيمة والمواقف الكريمة التي ارتقوا بها قمماً كثيرةً في الإيمان والإخلاص والصبر والجهاد والإنفاق وحفظ الأوقات والثبات، ونحو ذلك من من الأمور الكثيرة. فلعلنا أن نعرج على بعض هذه القمم، ونقف مع بعض رجالها؛ لننظر في هذه القيم والسير ما لعله يحيي قلوبنا، ويهيج إلى مثل هذه المعالي نفوسنا، ولعلها أيضاً قصص وسير تحسن في نفوسنا، وتبقى وتخلد في عقولنا، فنثيرها في مجالسنا، ونذكرها لأحبابنا، ونعلمها ونلقنها لأبنائنا بدلاً من أن تكون القمم اليوم هي القمم التافهة الدنية الرخيصة، والتي نستمع ونقرأ في أحايين كثيرة عنها، فإذا بقمة للفن، وقمة لكذا، وقمة لكذا، وتنصرف الأذهان إلى من شغل هذه القمة، ومن الذي سيخلف صاحب هذه القمة في قمته، وكلها ليس لها من القمم أصل ولا وصل ولا سبب ولا نسب، وإنما هي الموازين التي انعكست، والقيم التي ارتكست، والأهواء التي استحكمت في الناس وشاعت في مجتمعات كثير من المسلمين، نسأل الله عز وجل السلامة منها. وكنت تصفحت كثيراً في كتب مختلفة من كتب التراجم، بعضها عام وبعضها خاص في مواضيع بعينيها، وكلما قرأت وجدت أن البحر ممتد، وأن الأمواج المتلاطمة كثيرة، وأن مثل هذه السير كبحر لا ساحل له ولا قعر، وأن من أراد أن يعيش في سير السابقين لينظر إلى تراثهم وأمجادهم فإنه ينقضي عمره دون أن يحيط بشيء يسير مما سطروه وخلدوه من المآثر العظيمة؛ ولذا سنمضي مع هذه السير والقمم والرجال على غير نسق ولا نوع من الضبط أو التركيز فيها، وإنما نمضي مع بعض قمم وبعض رجالاتها، ثم نخلص إلى غيرها؛ حتى ننتفع، وليس فيما سأذكره مجال كبير للتعليق، فإن مثل هذه القصص فيها من العظة والعبرة ما يغني عن كثرة التعليق عليها.

قمة الإخلاص والتجرد لله تعالى

قمة الإخلاص والتجرد لله تعالى أول قمة نشرف عليها: قمة الإخلاص والتجرد لله سبحانه وتعالى؛ التي هي من أزكى ثمار الإيمان، ومن أدل دلائل صدق التوحيد لله سبحانه وتعالى، ومن أرجى أعمال العباد في الدنيا وفي الآخرة عند الله سبحانه تعالى؛ فكم كان أولئك القوم يسرون بأعمالهم، ويتجردون فيها لوجه الله الكريم، ولا يسمحون أن تخالط نفوسهم شيء من العزمات أو الهمم أو المقاصد التي تصرفهم عن وجه الله عز وجل، ولا يدعون إلى العجب بأعمالهم إلى نفوسهم طريقاً، وكما قلت: يضيق المقام عن ذكر مآثر أولئك القوم.

قمم أخلصت لله طلب العلم

قمم أخلصت لله طلب العلم ذكر بعض أهل العلم: أن هشاماً الدستوائي -وهو من العلماء- قال: والله ما أستطيع أن أقول: إني ذهبت يوماً قط لأطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل. من شدة إخلاصهم كانوا ينكرون على أنفسهم، فعلق الذهبي على هذا تعليقاً ذكر فيه كثيراً من أصناف الناس الذين يخوضون ميدان العلم وليس لهم في الإخلاص حظ ولا نصيب، فقال الذهبي: والله ولا أنا، أي: ولا أنا أستطيع أن أقول: إني أخلص لله عز وجل في هذا. وقد كانوا مخلصين، لكنهم من شدة إخلاصهم لم يكونوا يجزمون بإخلاصهم، فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قوم منهم أولاً لا لله، وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، وكما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وهذا أيضاً حسن. ثم نشروا العلم بنية صالحة، ثم قال الذهبي في أصناف من خلفهم ومن جاء بعدهم ممن لم يطلب العلم لله: ونرى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله، وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب، فظلموا وتركوا التقيد بالعلم، وركبوا الكبائر والفواحش؛ فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء، وبعضهم لم يتق الله بعلمه، بل ركب الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ فوضع الأحاديث، فهتكه الله، وذهب علمه وصار زاده إلى النار، وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً؛ غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يريده ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو. كما قال بعضهم: ما أنا بعالم ولا رأيت عالماً، وكان الذهبي يقول هذا وهو في منتصف القرن الثامن الهجري تقريباً، فكيف بمن جاء بعده في أعصرنا هذه؟! نسأل الله عز وجل السلامة. وكما قلت فإن الأبواب كثيرة في مثل هذا الباب، ومما يؤيد هذا مقالات الأئمة، كما قال بعض السلف لما سئل: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن كلامنا لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق. وهكذا تجد أن الإنسان يتأمل في سير أولئك فيرى مثل هذه المواقف العظيمة الجليلة التي تدل على مثل هذا الباب العظيم من أبواب الخير.

قمم أخلصت لله العبادة

قمم أخلصت لله العبادة فهذا جعفر بن البرقان يقول: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح، وتقوى وورع، فكتبت إليه قائلاً: يا أخي! بلغني عنك فضل وصلاح، فأحببت أن أكتب إليك، فاكتب إلي بما أنت عليه. يعني: اكتب لي عن حالك وأعمالك حتى أنتفع بها. فكتب له يونس: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذلك بعيد. ثم عرضت عليها مرةً أخرى ترك ذكرهم إلا من خير، فوجدت أن الصوم في اليوم الشديد الحر بالهواجر أيسر عليها من ترك ذكرهم. فهذا أمري يا أخي، والسلام. فهو يبين له أنه ما زال في مجاهدة نفسه في ترك الأمور التي يخرج بها عن طاعة الله سبحانه وتعالى. وهذا علي بن الحسين كان يتخفى في ظلمات الليالي، ويخرج حاملاً على ظهره بعض الأقوات والأرزاق، فيتفقد بها فقراء المدينة؛ فيطرق عليهم أبوابهم بالليل، فيضع عندهم ما يتيسر من صدقته، ثم يختفي لئلا يعلم بشأنه أحد، فلما مات وانقطع هذا العمل الذي كان يتحدث الناس به عرفوا أنه من صنيعه رحمه الله ورضي الله عنه، وهكذا كانوا يفعلون الأعمال الصالحة التي لا يقدر عليها إلا النادر من الناس، ثم هم مع ذلك يتخفون بها، ويسدونها. وهذا ابن المبارك إمام عظيم من أئمة التابعين، كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وينفق على طلبة العلم الأموال الطائلة. قال محمد بن المثنى: حدثنا عبد الله سنان، قال: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرطوس، فصاح الناس: النفير! أي جاء وقت الجهاد، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان خرج رومي فطلب البراز، فخرج إليه رجل من المؤمنين فقتله، ثم طلب البراز، فخرج إليه ثان ثم ثالث حتى قتل ستةً من المسلمين، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان! إن قتلت، فافعل كذا وكذا -أي: أنه يوصيه- ثم حرك دابته بعد أن تخفى وبرز للعلج فقاتله ساعةً ثم قتله، ثم طلب المبارزة، فخرج له علج آخر من الروم فقتله حتى قتل ستةً منهم، ثم طلب البراز فخافوا منه، فضرب دابته وغاب بين الصفين، ثم غاب فلم نشعر بشيء، ثم إذا به يقول لي -في الذي كان-: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحد وأنا حي، فذكر كلمةً - أي: من الوعيد الشديد- لأنه كان قد اضطر أن يشير إليه إشارةً إن قتلت فافعل كذا وكذا. وهذا محمد بن كعب القرظي يروي لنا رواية عجيبةً فريدة عن رجل أغفل التاريخ ذكر اسمه؛ لأنه كان من الأتقياء الأخفياء، قال: أصاب الناس في المدينة قحط، فخرجوا يستسقون فلم يسقوا، قال: فكنت متوسداً -متكئاً- على ساريتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الناس متزراً بإزار وعلى كتفه آخر، فطرح رداءه، ثم جعل يدعو فاستمعت إليه، فقال: يا رب! إن أهل مسجد نبيك صلى الله عليه وسلم استسقوك فلم تسقهم، فأقسمت عليك يا رب إلا سقيتهم، فقال- أي: محمد بن كعب -: مجنون هذا الذي يقسم على الله عز وجل، قال: فما لبثت أن سمعت صوت الرعد، ثم غشي الناس المطر، ثم إذا بالرجل يحمد الله عز وجل، ويقول: من أنا حتى تجب دعوتي، قال: ثم انتصب إلى ساريته، فقام يصلي، فلما خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح، فخرجت وراءه، فإذا به يرفع ثوبه -من كثرة الماء في الطرقات من المطر الذي أكرم الله عز وجل به العباد- فرفعت ثوبي وتبعته، ثم خفي عليَّ فلم أعرف موضعه. قال: فلما كانت الليلة الثانية كنت متوسداً ساريتي في المسجد، فجاء الرجل فعرفته، فقام فصلى، فبقي حتى إذا خشي الصبح ركع وأوتر، ثم دخل في غمار الناس فصلى الصبح فتبعته حتى دخل داراً من دور المدينة فعرفتها وعلمتها، ثم جئت في صباح اليوم فإذا بالرجل إسكافي-يصنع الأحذية ويصلحها- فجئت فسلمت عليه فعرفني، فقال: هل لك من نعل فأصلحها، فنظرت إليه، فقلت: ألست صاحبي البارحة والتي قبلها، فغضب علي، وقال: إليك عني، ثم مضى ودخل داره، فذهبت عنه، فانتظرته الثالثة- أي: الليلة الثالثة- فلم يحضر، فذهبت إليه في اليوم الرابع، فما وجدت له أثراً في بيته، فقال لي بعض من حوله: ما صنعت بالرجل؟ قلت: أي شيء كان منه؟ قال: ما لبث بعد أن كلمته حتى دخل فجعل ما عنده من جلد ومتاع، فخرج فلم نعلم به، ولم نر له أثراً. فكذلك كان أولئك القوم في شدة إخلاصهم لله سبحانه وتعالى وتوقيهم وطلبهم لأن يكون عملهم لوجه الله جل وعلا؛ ولذلك كانت لهم في هذا سير عجيبة عظيمة. ومن ذلك: أن مسلمة بن عبد الملك جاء وسأل عن حسن أهل البصرة- الحسن البصري - خالد بن صفوان، فقال له خالد في وصف الحسن: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، يعني: أنا أعرف الناس به، فأي شيء وصف به خالد الحسن رحمه الله؟ قال: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبههم قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه. فقال له مسلمة: حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم؟ ومن عبر هذه المقالة: أن مما أصابنا قلة القدوات الذين يتأسى بهم الناس، ويكونون في القوم كالقلوب النابضة الحية تبث الحياة في الناس، وتعيد إليهم ما سلف من قوة إيمانهم، وصدق يقينهم، وثبات أقدامهم، ولجوئهم إلى ربهم، وافتقارهم إلى بارئهم سبحانه وتعالى.

قمة الخشية والخوف من الله

قمة الخشية والخوف من الله إذا تأملت قمة أخرى وباباً آخر من الأبواب العظيمة التي افتقدناها وغابت عن حياتنا -إلا من رحم الله- وهي أمر الخشية لله عز وجل، والخوف منه سبحانه وتعالى الذي أقض مضاجع أسلافنا، وأجرى مدامعهم، حتى خدت على وجوههم أخاديد، واسودت منها وجوههم، وكانوا على خوف دائم، وتذكر مستمر لله عز وجل وللآخرة، حتى إن المرء ليعجب مما كانوا عليه من الخوف والخشية رغم ما كانوا عليه من العلم والإيمان، وهكذا لا يزيد الإيمان المرء إلا خشيةً لله عز وجل، ولا تزيده الغفلة إلا بعداً عن الخشية وركوناً إلى قسوة القلب، عياذاً بالله عز وجل. هذا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراوية أحاديثه الشهير؛ لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قال: بعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إلى الجنة أو النار. وهذا الإمام أحمد، قيل له: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟ فحينئذ لابد أن ينزعج القلب، وأن يكون أقرب إلى الخوف والخشية من الله عز وجل إذا استحضر ذلك وتأمله، وكان ذاكراً له متأملاً فيه. وهذه قصة فيها نموذج وقمة من قمم الخشية والبكاء من خشية الله عز وجل، وفيها بيان التأثير الذي يكون لأولئك الذين ملئت قلوبهم خوفاً وخشيةً، وذرفت عيونهم دمعاً ثخيناً من خشية الله عز وجل: هذا مخول يقول: جاءني بهيم العجلي يوماً فقال لي: أتعلم لي رجلاً من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني- يريد مرافقاً له ليكون معه في رحلة الحج، وقد كان السفر في تلك الأيام طويلاً-؟ قال: نعم، فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين فجمعت بينهما، واتفقا على المرافقة، ثم إنه رجع وقال: كيف لي أن أرافق هذا؟ قلت: وما له؟ قال: حدثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر، فهذا ينغص علينا سفرنا كله، قال: قلت: ويحك! إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكر؛ يرق قلب الرجل فيبكي، أو ما تبكي أنت أحياناً؟ قال: بلى، ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جداً من كثرة بكائه، قال: قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به، قلت: أستخير الله، فلما كان اليوم الذي أرادا أن يخرجا فيه وتهيئا، جلس بهيم في ظل حائط، فوضع يده تحت لحيته وجعلت دموعه تسيل على خديه، ثم على لحيته، ثم على صدره، حتى والله رأيت دموعه على الأرض، قال: فقال لي صاحبي: يا مخول قد ابتدأ صاحبك، ليس هذا لي برفيق، قال: قلت: ارفق لعله تذكر عياله ومفارقته إياهم، ولما سمعه قال: والله ما هو بذاك، وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة، وعلا صوته بالنحيب، قال: يقول صاحبي: يا أخي! والله ما هي بأول عداوتك لي وبغضك إياي، ما لي ولهذا إنما كان ينبغي أن ترافق بينه وبين داود الطائي وسلام أبي الأحوص حتى يبكي بعضهم إلى بعض حتى يشتفوا أو يموتوا جميعاً، قال: فلم أزل أرفق به، وأقول: ويحك! لعلها خير سفرة تسافرها، قال: وكان كثير الحج، رجلاً صالحاً إلا أنه كان رجلاً تاجراً إلى آخره. فلما رجعا من الحج جئت أسلم على جاري الذي رافق العجلي، فقال: جزاك الله يا أخي عني خير الجزاء، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر العجلي، كان والله يتفضل عليَّ في النفقة وهو معدم وأنا موسر، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي وهو شيخ ضعيف، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم، قال: فقلت: فكيف كان أمرك معه في الذين كنت تكره من طويل بكائه؟ قال: ألفت والله ذلك البكاء، وسر قلبي حتى كنت أساعده عليه، حتى تأذى بنا أهل الرفقة- الذين كانوا معهم في القافلة- قال: ثم والله ألفوا ذلك فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد؟ قال: فجعلوا والله يبكون ونبكي. فكان هذا من آثار أولئك القوم، وما كانوا عليه في مثل هذه السير العظيمة الجليلة التي كانوا فيها، والأمر في هذا كما أسلفنا يطول، وقد كان أسلافنا من الأئمة والعلماء والعباد والزهاد عندهم من الأمر ما يضيق ذكره في مثل هذه العجالة.

قمة الحفاظ على الوقت

قمة الحفاظ على الوقت ثم نطوف أيضاً بباب آخر من الأبواب الجليلة في حياة أسلافنا، وفي القمم التي ارتقوا عليها، ومن هذا: الحفاظ على الوقت: والوقت أشرف ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع عندما ننظر إلى سير أسلافنا رحمهم الله نجد أن الأمر في هذا عجيب غاية العجب، ونرى في سيرهم ما لعل بعض الناس ينكره ويعده من المستحيل، أو من الغرائب التي لا تصدق، أو مما يذكر على سبيل المبالغة، ولم يكن من ذلك شيء، ولكن القوم كانوا أهل جد وعمل، كما كانوا أهل إخلاص وورع وخشية، ومن ثم كانوا يشمرون عن ساعد الجد في حفظ الوقت، وطلب العلم، والأخذ بأسباب العبادة والطاعة لله عز وجل، حتى جعلوا أوقاتهم كلها مشغولةً بالخير والطاعة، ويجد المرء في ذلك عجباً في سير أولئك القوم. من ذلك: ما روي عن بقية بن مخلد القرطبي صاحب المسند الشهير، وكان من أصحاب الإمام أحمد وأخذ عنه الحديث، يقول عنه حفيده في ترتيب يومه وعمله وعبادته واستثمار وقته: كان جدي قد قسم أيامه على أعمال البر، وكان إذا صلى الصبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف سدس القرآن، وكان يختم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويخرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده فيختم قرب انصداع الفجر، وكان يصلي بعد حزبه من المصحف صلاةً طويلةً جداً، ثم ينقلب إلى داره -أي: بعد ورد الصباح الطويل- وقد اجتمع في مسجده الطلبة، فيجدد الوضوء ويخرج إليهم -ليعلمهم ويحدثهم- فإذا انقضت الدروس صار إلى صومعة المسجد فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المبتدئ بالأذان، ثم يهبط، ثم يسمع إلى العصر -يعني: يحدث الطلبة إلى العصر- ويصلي ويسمع إلى ما بعد صلاة العصر، وربما خرج في بقية النهار فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده ثم يصلي ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسرد الصوم إلا يوم الجمعة، ويخرج إلى المسجد فيخرج إليه جيرانه فيتكلمون معه في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء ويدخل بيته فيحدث أهله، ثم ينام نومةً قد أخذتها نفسه، ثم يقوم. هذا دأبه إلى أن توفي، وكان جلداً قوياً على المشي، قد مشى مع ضعيف في مظلمة إلى إشبيلية، ومشى مع آخر إلى إلبيريا، ومشى مع امرأة ضعيفة إلى جيان، وهو من أهالي قرطبة. فهذا يوم عملي من أيام أسلافنا رحمة الله عليهم. وهذا مثل آخر للإمام عبد الغني المقدسي في شأن أوقاته، قال الذهبي في ترجمته: كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجر ويلقن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً، ثم يقوم ويتوضأ ويصلي ثلاثمائة ركعة بالفاتحة والمعوذتين إلى قبل الظهر، وينام نومةً ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع أو النسخ -أي: كتابة العلم- إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر، وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء وينام إلى نصف الليل أو بعده، ثم قام كأن إنساناً يوقظه، ثم يتوضأ ويصلي إلى قرب الفجر، وربما توضأ سبع مرات أو ثمانية في الليل، وكان يقول: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبةً، ثم ينام نومةً يسيرة إلى الفجر، وهذا دأبه. وقال عنه ابن أخته: كان الحافظ جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا وطلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعداوتهم، ورزق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمر. وهذا ابن عساكر أحد كبار أئمة المسلمين في التصنيف، وقد صنف من الكتب ما يعجز كثير منا عن أن يقرأها في حياته كلها، فله تاريخ دمشق الذي تم طبعه بالطباعة الحديثة التي معنا، فإنه يبلغ نحواً من ستين مجلداً أو أكثر، وقد صنف من الكتب العظيمة الكبيرة ما الله سبحانه وتعالى به عليم، وهذا الحافظ الجليل يدلنا عمله على ما كان عنده من اغتنام للأوقات، وما كان له من استثمار لها. ومثله أيضاً ابن عقيل الحنبلي الشهير صاحب كتاب الفنون الذي يعد من أكبر كتب أهل الإسلام، كان يقول عن نفسه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عقد الثمانين -يعني: بعد الثمانين- أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي حتى أختار سف الكعك -الكعك يجعله دقيقاً- وتحسيه بالماء على الخبز لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ توفراً على المطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجل تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة. وابن الجوزي رحمه الله أيضاً هو من كبار المصنفين في تاريخ الإسلام، كان يروي عن ابن عقيل أنه كان دائم الاشتغال بالعلم، وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغوامض والدقائق، وهكذا نجد أن الباب في هذا يتسع، والمقام فيه يطول، والأخبار فيه كثيرة جداً.

قمة الإنفاق في أبواب الخير

قمة الإنفاق في أبواب الخير ننتقل إلى باب آخر من الأبواب الجليلة العظيمة التي تتصل بالإنفاق في أبواب الخير المختلفة التي كان أسلافنا رحمهم الله تعالى يحرصون عليها ويرون أنها من الأمور المهمة التي يحتاجون إلى تذكرها، والتواصي والعمل بها. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابي الجليل الشهير يختبر بعض أصحابه يقول مالك الدار مولى عمر: أمرني عمر وأعطاني أربعمائة دينار، وقال: اذهب بها إلى أبي عبيدة، ثم امكث ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع بها، فذهب بها الغلام، فقال: يقول لك أمير المؤمنين خذ هذه، فقال أبو عبيدة: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان. حتى أنفذها -أي: حتى فنيت كلها- فرجع الغلام إلى عمر وأخبره، فوجده قد أعد مثلها -أربعمائة أخرى- لـ معاذ بن جبل فأرسله بها إليه، فقال معاذ: وصله الله، يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ، فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بها إليها، ورجع الغلام فأخبر عمر فسر بذلك، وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض. وهكذا نجد أن السيرة تتوالى في هذا، وتكثر وتعظم عند الصحابة ومن جاء بعدهم، ومثل ذلك ما ورد في سيرة طلحة عندما جاءه مال من حضرموت فجعل يقسمه، وجاءه مال آخر في آخر وقت النهار، فجعل يريد أن ينام حتى يصبح، فقال لزوجته: أي شيء يصنع إنسان معه مثل هذا المال؟ فقالت له: إذا أصبحت فاقسمه، فقال: إنك خيرة بنت خير، أو إنك فاضلة بنت فاضل، وكانت زوجته أم كلثوم بنت أبي بكر، فلما أصبح قسم حتى نسي نفسه وأهله. ومن ذلك أيضاً ما كان يصنعه السلف في الإنفاق على طلب العلم، فإنهم لم يكونوا يدخرون المال للأثاث والرياش، ولا للطعام والشراب وإنما كانوا ينفقونه في سبيل الله ولطلب العلم وتحصيله، كما في سيرة عبد الرحمن بن أبي ربيعة الذي نعلم من سيرته أنه كان إماماً من أئمة أهل العلم بالمدينة، وكان شيخاً للإمام مالك، فقد خرج أبوه إلى الغزو والجهاد وخلف عند أمه ثلاثين ألفاً وقال لها: أنفقي بها على نفسك وعلى ولدك، ثم لما رجع من الغزو والجهاد بعد فترة من الزمن سألها عن المال، فقالت: يكون خيراً إن شاء الله، امض إلى الصلاة ثم عد، فلما ذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد حلقة من حلق العلم وفيها رجل يحدث والناس حوله يأخذون عنه ويتلقون منه، فسر بهذا المنظر وأعجب بهذا العالم، ثم مضى إلى زوجه ويسأل مرةً أخرى عن المال؟ فقالت له: ماذا رأيت في المسجد؟ قال: رأيت كذا وكذا، قالت: أيسرك أن يكون عندك ثلاثون ألفاً أو يكون لك ابن مثل هذا؟ قال: بل مثله عندي أعظم من أمثالها، فقالت: فإني أنفقتها كلها في تعليم ابنك، فهذا هو ابنك عبد الرحمن بن أبي ربيعة! وهكذا كانوا ينفقون في هذا الباب؛ حتى إن جل ما كان عندهم من تحصيل الأموال لا يؤخرونه إذا كان في سبيل تحصيل العلم وطلبه، فهذا علي بن عاصم كما في ترجمته في تذكرة الحفاظ للذهبي، وهو علي بن عاصم الواسطي مسند العراق الإمام الحافظ الكبير كان يقول: دفع إليّ أبي مائة ألف درهم، وقال: اذهب فلا أرى وجهك إلا بمائة ألف حديث. وهذا لا شك أنه من أعظم الأبواب المهمة التي تميز بها أسلافنا عما هو في واقعنا. وهذه أيضاً سيرة أخرى للإمام هشام بن عبيد الله الرازي كما ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ، قال موسى بن نصر: سمعته يقول: لقيت ألفاً وسبعمائة شيخ، خرج مني في طلب العلم سبعمائة ألف درهم، أي: في تحصيل العلم وطلبه. فتجد أن هذه الثروات الطائلة كانوا ينفقونها في طلب العلم؛ لما له من عظيم الأثر وعظيم الاهتمام والعناية عندهم، وربما تجد الناس اليوم ينفقون على أمور من الكماليات والتوافه التي ينبغي أن يترفعوا عنها ما هو أضعاف أضعاف مثل هذا، فإذا جاء الأمر للإنفاق في سبيل الله أو تحصيل العلم أو شراء الكتب أو نحو ذلك استعظموا هذا الذي ينفقونه. وقد كان من عجائب السلف أنهم ربما أرملوا وبلغوا الشدة العظيمة من الحاجة والفاقة، ولم يكونوا يفرطون في شيء من العلم إلا في أشد الظروف وأحلكها. هذا موقف فيه عظة وعبرة يبين لنا عظمة ما كانوا يحرصون عليه من العلم، وينفقون فيه من المال موقف من سيرة أبي الحسن الفالي المحدث الأديب الشاعر الذي كانت وفاته سنة ثمان وأربعين وأربعمائة للهجرة، تقول الرواية عنه: كانت عنده نسخة من كتاب الجمهرة لـ ابن دريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم بستين ديناراً، وتصفحها فوجد بها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي المذكور، وهذه الأبيات تقول: أنست بها: يعني بهذا الكتاب. أنست بها عشرين حولاً وبعتها فيا طول وجدي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقار وصبية صغار عليهم تستهل شئوني فقلت ولم أملك سوابق عبرتي مقالة مكوي الفؤاد حزين وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين كأنما يكون فقد أحد أبنائه، فلما رأى الشريف هذه الأبيات مكتوبةً عليها رد عليه نسخته وترك له دنانيره. وهكذا نجد هذا الباب من الأبواب في الإنفاق في طلب العلم قمة من القمم التي رقى إليها كثير من الرجال من أسلافنا رحمة الله عليهم.

قمة في طلب العلم

قمة في طلب العلم هذه قمة أخرى تتعلق بالعلم وطلبه، والتعلق به، والتفرغ له، وإنفاق الأوقات في تحصيله حتى بلغوا العجب العجاب في مثل هذه الميادين، وحتى حفظ العلماء منهم ليس العشرات ولا المئات ولا الآلاف، بل مئات الآلاف من الأحاديث والروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى بلغوا الغاية في دقة الحفظ وتجويده، والتفرغ للعلم والتعلق به، ولسنا بصدد ذكر ما يتعلق بالحفظ والعلوم وإن كان هذا باباً واسعاً، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله سئل عن الحافظ هل يسمى حافظاً إذا حفظ مائة ألف؟ قال: لا، قالوا: مائتي ألف؟ قال: لا، حتى بلغوا أربعمائة ألف؟ قال، لا، قالوا: خمسمائة ألف؟ قال: لعله. أي: لعله أن يكون حافظاً أو يسمى حافظاً. وكان عند الإمام أحمد مائتا جراب كلها فيها نسخ من الأحاديث عن سفيان بن عيينة وليس فيها رواية، فكانوا يخرجونها له، فكان يعرف كل حديث منها، ويقول: هذا حدثني به فلان عن سفيان، وكلها عن سفيان، لكنه يحفظ إسناده لها عن سفيان ويميز بينها مع كثرتها، وكانوا يحفظون من العلوم والأحاديث واللغة - كما قلنا- ما لا تبلغه عقولنا تصوراً؛ لقلة هممنا وضعف عزائمنا في مثل هذه الأبواب، ولكني أذكر شيئاً مما يتعلق بتعلقهم بالعلم، وعظيم ارتباطهم به في صور وأحوال شتى، فهذا أبو علي الفارسي الحسن بن أحمد الفسوي الذي كانت وفاته سنة سبع وسبعين وثلاثمائة للهجرة: وقع حريق ببغداد، فذهب به جميع علم البصريين، واحترقت كثير من كتبهم، قال هذا: وكنت كتبت ذلك كله بخطي، وقرأته على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئاً البتة، إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد بن الحسن، قال: سألته عن سلوته وعزائه. يعني: ما الذي حصل له عندما احترقت كتبه؟ واليوم ربما نجد بعض الطلاب بعد الاختبارات يمزقون الكتب بأنفسهم، أو يرمونها في الطرقات، وكأنها لا قيمة لها عندهم، بل هي في الحقيقة لا قيمة لها عندهم، قال: سألته عن سلوته وعزائه في هذا، فنظر إلي عجباً، فقال: بقيت شهرين لا أكلم أحداً حزناً وهماً، وانحدرت إلى البصرة لغلبة الفكر علي، وأقمت فيها مدةً ذاهلاً متحيراً. من شدة حزنه كأنما فقد ابناً من أبنائه، وكما قال القائل: وفقد الكتاب كفقد الصواب فيا هول من قد أضاع الكتب وهذا لعل فيه تذكرة لطلبة العلم أن يحافظوا على كتبهم. وهذا ابن جرير إمام من أئمة العلماء المشهورين، وصاحب التفسير والتاريخ، وصاحب الكتب العظيمة كتهذيب الآثار وغيره؛ الذي نعلم من علمه أنه قال: تنهضون لكتابة التاريخ؟ قالوا: كم يكون؟ قال: يكون ثلاثين ألف صفحة، قالوا: إن ذلك أمر تفنى فيه الأعمار، وتعجز عن مناظرته الأبصار، فلما رأى ضعف همتهم، اختصره في ثلاثة آلاف، وهذه الثلاثة آلاف هي تاريخ الطبري الذي بين أيدينا مطبوعة في نحو ستة أو سبعة مجلدات، هذا المختصر الذي اختصره لهم؛ لأنهم كانت همتهم ضعيفة في زمنه، هذا ابن جرير يروي عن نفسه ما قلت. سنذكر بعض ما يتعلق بطلب العلم من القصص، وتعلقهم به، يقول ابن جرير: مضيت يوماً إلى النخاسين الذين يبيعون الإماء والرقيق في طريقي، ورأيت جارية تعرض للبيع، حسنة الصورة كاملة الوصف، قال: فوقعت في قلبي، ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله، فقال لي: أين كنت الساعة؟ فعرفته- بالخبر- فأمر بعض أسبابه-أي: غلمانه- فمضى فاشتراها وحملها إلى منزلي، فجئت فوجدتها، فعلمت الأمر كيف جرى، فقلت لها: كوني فوق- حتى يتبين براءة رحمها من الحمل -قال: وكنت أطلب مسألةً من العلم، فإذا بها قد اختلت علي- تشوش فكره- فاشتغل قلبي عن علمي، فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاسين، فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي، فأخذها فقالت له: دعني أكلمه بحرفين، فقالت: أنت رجل لك محل وعقل، وإذا أخرجتني ولم تبين ذنبي لم آمن أن يظن الناس بي ظناً قبيحاً، فعرفني ذنبي قبل أن تخرجني، فقال لها: ما لك عندي عيب غير أنك شغلتيني عن علمي، فقالت: هذا أسهل عندي. بالنسبة لها هذا أمر سهل؛ لأنها ليست تعرف مثل هذه الأمور ولا مثل هذه المسائل. ومن لطيف ما يذكر من تعلقهم بالعلم وحرصهم عليه: أن أبا عبيد القاسم بن سلام الإمام الشهير كان يفكر في مسألة؛ فأقضت مضجعه طوال ليله فلم ينم، فكلما اضطجع قام، حتى إذا فتح له فيها قام يقفز ويصيح فرحاً بها، وما زال كذلك حتى أصبح. من شدة فرحهم بمسألة من مسائل العلم تفتح عليهم، أو أمر يتصل بهم في مثل هذا، وكانوا يعرفون للعلم قدره ومنزلته، وأنا كما ذكرت سأشير إلى ما يتعلق بالعلم من جوانب ليست هي من صلب العلم؛ لأن صلب العلم لو تحدثنا عنه لكان الأمر يطول بنا وهو أمر قد سلمنا فيه بعجزنا، ولكن أذكر بعض الملح التي تبين ما هو أعظم من مجرد الحفظ والعلم، وشدة تعلقهم به وكونه هو مدار حياتهم. فهذا الحافظ ابن عساكر يروي هذه الرواية يقول: سمعت ابن الأكفاني يحكي عن بعض مشايخه أن أبا الحسن بن داود كان إمام داريا- منطقة قريبة من دمشق- فمات إمام جامع دمشق، فخرج أهل البلد إلى داريا ليأتوا به- أي ليكون إماماً بعد الإمام الذي مات، فماذا صنع أهل داريا؟ - قال: فلبس أهل داريا السلاح، وقالوا: لا نمكنكم من أخذ إمامنا، فقال أبو محمد عبد الرحمن بن نصر وكان رجلاً حكيماً: يا أهل داريا، ألا ترضون أن يسمع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إلى إمامكم، هذا فخر عظيم أن أهل دمشق جاءوا يطلبون إمامكم، وافتقروا إليه، فقالوا: قد رضينا، وهذه صورة من صور المجتمع الذي كان يعيش فيه أولئك القوم في سير وأماكن وتواريخ مختلفة. ومن ذلك أيضاً: الضنك والعناء الذي لقيه بعضهم في تحصيل العلم، وهذا باب واسع عظيم قد أفرده بعض المعاصرين بالتصنيف، فأفرد فيه كتاباً هو من نفائس الكتب المعاصرة التي ينبغي لطالب العلم أن يقرأ فيها، وأن يحرص على اقتنائها، وهو صفحات من صبر العلماء على تحصيل العلم وشدائده للشيخ عبد الفتاح أبو غدة حفظه الله، من ذلك قصة المحمدين الثلاثة، وقد أوردها الذهبي في السير، وهم: محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، وهؤلاء كل واحد منهم إمام كبير من أعظم وأشهر الأئمة والعلماء، هؤلاء الثلاثة توافقوا في طلب العلم، حتى أرملوا وافتقروا، ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع حتى كادوا أن يهلكوا، فماذا صنعوا؟ اجتمعوا ليلةً في المنزل الذي كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة، وبينما هو في أثناء الصلاة إذا بالشموع ورجل من قبل والي مصر أحمد بن طولون يدق عليهم الباب، ففتحوا، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقالوا: هو ذا. وأشاروا إليه، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ قالوا: هذا. فأخرج صرةً فيها خمسون دينار وأعطاها إياه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق؟ قال: هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرةً فيها خمسون دينار، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ وكان رابعاً لهم أيضاً، فقيل: هو ذا، فدفع إليه مثلها، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس -نائم في وقت الظهر- فرأى في المنام قائلاً يقول: إن المحامد -أي المحمدين هؤلاء- طووا كشحاً جياعاً فأنفذ إليهم هذه الصرر، وهو يقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه ليزيدكم، فهذا أيضاً مشهد أو صورة من هذه الصور الكثيرة.

قمة في الثبات عند الشدائد

قمة في الثبات عند الشدائد ننتقل إلى باب آخر من الأبواب؛ وفي كل باب من هذه الأبواب قصص كثيرة، ولعلنا نقف عند باب من الأبواب العظيمة المهمة، وهو: باب الثبات والصبر عند الفتن والشدائد، ورب رجل صبر في الضراء، ولكنه عند السراء صار عكس ذلك، ورب رجل كانت له مواقف في الثبات عند الشدائد، ولكنه عند الإغواء والإغراء لا يثبت، ولكنا نقف هذه الوقفات لنرى بعض الصور التي في سير أولئك القوم مما يدلنا على أنهم بلغوا فيها الذروة والغاية في الثبات. ومن أول ما نبدأ به: قصة عبد الله بن حذافة السهمي رحمه الله ورضي الله عنه، وهو الصحابي الجليل المشهور الذي نعلم من قصته ما كان من أسره، ثم إن ملك النصارى عرض عليه أن يتنصر وأن يعطيه نصف ملكه، فقال: لو كان ملكك ومثله معه وملك العرب ما رجعت عن ديني، فقال: اقتلوه، ثم أمرهم أن يصلبوه ثم يضربوا عن يمينه وشماله، فما تحرك عن موقفه وهو يعرض عليه، ثم أتى بأسيرين من أسارى المسلمين فغمسهما في قدر فيها زيت يغلي فيدخلان لحماً ويخرجان عظماً، فبكى رضي الله عنه ودمعت عينه، فقال: إلي به- لعله أن يكون قد رجع عن موقفه- فقال: كلا، وإنما هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعر رأسي أنفس تلقى كلها في سبيل الله عز وجل، فلما عجز عنه الطاغية قال له: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، قال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبل رأسه وقدم بالأسارى على عمر فأخبره خبرهم، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ، فقبل رأسه، رضي الله عنهم أجمعين، فثبت في مثل هذه المحنة العصيبة الشديدة. وكذلك كان ثباتهم في مثل هذه المواقف العظيمة واضحاً وجلياً كما في قولة أخرى يذكرها لنا شريح القاضي الذي كان من أئمة التابعين ومن المشاهير المعروفين من السلف الصالح رضوان الله عليهم، ونجد أيضاً قصصاً كثيرة في هذا، ومن ذلك الثبات عند فتنة الإغراء، وخاصةً فتنة الإغراء بالمال. هذه الرواية يرويها عبد الرزاق، عن النعمان بن زبير الصنعاني: أن محمد بن يوسف بن يحيى بعث إلى طاوس بسبعمائة دينار أو خمسمائة دينار، وقيل للرسول: إن أخذها الشيخ منك فإن الأمير سيحسن إليك ويكسوك، يعني أن يقبل هدية الأمير، فقدم بها على طاوس، فأراده على أخذه فأبى، فغافله ثم رمى بها في كوة البيت؛ لأن الرسول يريد أن يقول: قد أخذها منه حتى ينال مكافئة الأمير، فرجع وقال لهم: قد أخذها، ثم بلغهم عن طاوس شيء يكرهونه من مخالفة أو قول، فقال: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول، فقال: أين المال الذي بعث به الأمير إليك؟ قال: ما قبضت منه شيئاً، فرجع الرسول، وعرفوا أنه صادق، فبعثوا إلى الرجل الأول وبعثوه إلى طاوس، قال: أين المال الذي جئتك به؟ قال: هل قبضت منك شيئاً؟ قال: لا، فنظر حيث وضعه فوجده، فإذا بالصرة قد بنى العنكبوت عليها، فذهب بها إليه، أي: ما نظر إليها ولا التفت، ولا رأى منها شيئاً. وهكذا نجد أيضاً في هذا الباب قصصاً كثيرة لكثير من أعلام السلف رضوان الله عليهم. ومن صور الثبات أيضاً عند مثل هذه الفتن: أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة إبان ولاية عمر بن عبد العزيز عليها، فصلى سليمان بالناس الظهر، ثم فتح باب المقصورة واستند إلى المحراب واستقبل الناس بوجهه، فنظر إلى صفوان بن سليم، فقال لـ عمر: من هذا، ما رأيت أحسن سمتاً منه؟ فقال له عمر: هذا صفوان، قال سليمان: يا غلام كيس فيه خمسمائة دينار، فأتاه به، فقال لخادمه: اذهب به إلى ذلك القائم، يعني: عند المسجد أمامه، فأتى حتى جلس إلى صفوان وهو يصلي، ثم سلم فأقبل عليه، فقال: ما حاجتك؟ قال: يقول أمير المؤمنين: استعن بهذه على زمانك وعيالك، قال صفوان: لست الذي أرسلت إليه، فقال له: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: اذهب فاستثبت، فولى الغلام، وأخذ صفوان نعليه وخرج، فلم ير بها حتى خرج سليمان من المدينة؛ حتى لا يتعرض لمثل هذا الموقف. كما أن هناك جوانب أخرى من الثبات عند فتنة النساء على وجه الخصوص، فإن هذه فتن عظيمة كان فيها لأسلافنا من العباد وأهل الصلاح مواقف. قال محمد بن إسحاق: نزل السري بن دينار في درب بمصر، وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها، فعلمت به المرأة، فقالت: لأفتننه، فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها، فقال: ما لك؟ فقالت: هل لك في فراش وطي، وعيش رخي، فأقبل عليها وهو يقول: وكم ذي معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا فيا سوأتا والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا وأعجب من هذا قصة يذكرها أبو الفرج: أن امرأةً جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فقالت: هل يرى أحد وجهي وجمالي ولا يفتن بي، كانت تفرح بذلك، فقال لها: نعم. عبيد بن عمير، فقالت: أتأذن لي في فتنته، فأذن لها، فأتت لـ عبيد بن عمير كالمستفتية في ناحية من المسجد الحرام، فكشفت عن وجهها، فقال: استتري، فقالت: إني قد فتنت بك، فقال لها: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، فقال: أخبريني: لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو دخلت القبر وأجلست للمسائلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: لا، قال: صدقت، قال: فلو أردت المرور على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: لا، قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو وقفت بين يدي الله للمسائلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: اتقي الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها، فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون -البطال: الذي ليس عنده عمل- فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، وكان زوجها يقول: ما لي ولـ عبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروساً، فصيرها راهبة.

قمة في الجهاد

قمة في الجهاد لعلنا أن نقف وقفةً يسيرةً فيما يتصل بالجهاد وأسلافنا وما كانوا عليه فيه، وهو أمر عظيم، وبابه واسع، ولكن نذكر بعض ذلك. قال ثابت في شأن صلة -وهو من التابعين-: إن صلة كان في الغزو ومعه ابنه، فقال: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك. يقدم ولده للموت وللشهادة حتى ينالها، وحتى يصبر هو فيحتسب أجره، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم صلة فقتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كنتن جئتن لتهنئنني، وإن كنت جئتن لغير ذلك فارجعن. فكانت تطلب التهنئة على شهادة زوجها وابنها. وخالد بن الوليد علم المجاهدين القواد من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان يقول: ما ليلة يهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب؛ أحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أصبح فيها العدو. فكان هذا دأب تعلقهم ومحبتهم ورغبتهم في الجهاد في سبيل الله. وقصة الخنساء وأبنائها الأربعة مشهورة في ذلك، لما قالت لهم: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم، والله ما نبت بكم الدار، ولا أقحمتكم السنة، ولا أرداكم الطمع، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم، ولا أوطأت حريمكم، ولا أبحت حماكم، فإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا لقتال عدوكم مستنصرين بالله. فانصرفوا بعد وصية أمهم، وشدوا على العدو، وكان كل واحد منهم عندما يشد يقول أبياتاً من الشعر، فقال قائلهم: يا إخوتا إن العجوز الناصحه قد أشربتنا إذ دعتنا البارحه نصيحةً ذات بيان واضحه فباكروا الحرب الضروس الكالحه فإنما تلقون عند الصائحه من آل شاسان كلاباً نابحه قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة فأنتم بين حياة صالحه أو ميتة تورث غنماً رابحه ثم شد الذي يليه وهو يقول: والله لا نعصي العجوز حرفا قد أمرتنا حدباً وعطفا منها وبراً صادقاً ولطفاً فباكروا الحرب الضروس زحفا حتى تكفوا آل كسرى كفا وتكشفوهم عن حماكم كشفا إنا نرى التقصير عنهم ضعفا والقتل فيهم نجدةً وعرفا ثم شد الذي يليه وهو يقول: لست للخنسا ولا للأخرم ولا لعمرو ذي الثناء الأقدم إن لم تزر في آل جمع الأعجم جمع بني شاسان جمع رستم بكل محمود لقاء ضيغم ماض على الهول خضم خضرم إما لقهر عابر أو مغنم أو لحياة في السبيل الأكرم تفوز فيها بالنصيب الأعظم ثم شد الذي يليه وهو يقول: إن العجوز ذات حزم وجلد والنظر الأوفق والرأي السدد قد أمرتنا بالصواب والرشد نصيحةً منها وبراً بالولد فباكروا الحرب نماءً في العدد إما لقهر واحتياز للبلد حتى قضوا جميعاً شهداء، فحمدت الله سبحانه وتعالى على استشهادهم، وسألت الله عز وجل أن يلحقها بهم على الخير والثبات في الأمر. والباب في هذا واسع، والمواقف كثيرة جداً، ويضيق المقام عن ذكرها وحسبنا أن طوفنا ببعض منها، والأبواب والتراجم في ذلك كثيرة، والفضائل لأسلافنا عظيمة، سواء منها ما كان في إيمانهم أو عبادتهم أو إخلاصهم أو خشيتهم أو إنفاقهم، أو انشغالهم بمعالي الأمور دون سفاسفها، أو اتباعهم للحق وانصياعهم له وارتباطهم به، وإيثارهم له، وكذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل إلى آخر المواقف العظيمة والميادين الفسيحة التي كان لهم فيها سبق عظيم. فنسأل الله عز وجل أن يجعل مثل هذه السير باعثة لنا على الخير، ورائدة لنا في ميادين الخير والطاعة والسبق إلى رضوان الله سبحانه وتعالى، وأن نسعى لنقتفي آثار أولئك الرجال، وأن نشمر عن ساعد الجد والعمل؛ لنرقى إلى تلك القمم العالية الشامخة، عَلَّ الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الأجر والثواب، وأن يجدد بنا بعض ما سلف من تاريخ أئمتنا وعلمائنا وقوادنا الصالحين العابدين المؤمنين المخلصين لله رب العالمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونسأله جل وعلا أن يلحقنا بهم على خير، وأن يجعلنا ممن يتأسون بهم، ويأخذون من سيرهم، ويهتدون بهديهم؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين، وصَلَّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

التدرج في بعث الهمم

التدرج في بعث الهمم Q لا يخفى ما عليه بعض الناس أو أكثرهم من ضعف الهمم وخور النفوس في هذه الأعصر عن أن تصل إلى هذه القمم -إلا من رحم الله- فهل من تدرج مناسب نحث به نفوسنا الضعيفة شيئاً فشيئاً حتى تبقى على الطريق القويم؟ A لا شك أن المنهج في هذا مهم، وإن كان حديثنا لم يتعرض له؛ لأننا أردنا فقط أن نقف هذه المواقف ونستجلي هذه السير، ونخوض في هذه الميادين؛ حتى نهيج النفوس؛ ونبعث العزم -بإذن الله عز وجل- وإلا فإن الإنسان بالفعل يحتاج إلى شيء من التدرج، ويستعين ببعض الأمور، منها: أولاً: صدق الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وحسن الصلة به جل وعلا. وثانياً: لزوم الطاعات والبعد عن المعاصي والمنكرات؛ لأنها ظلمة للقلب، وحاجب عن التوفيق، ومانع من المضي في طريق مرضاة الله سبحانه وتعالى. وثالثاً: استشارة الخبراء والعلماء وأهل الإيمان والتقوى والورع، وطلب الموعظة منهم، وطلب الرأي السديد منهم. ورابعاً: مجالسة الصالحين والأخيار والعلماء ومن يتداولون هذه السير؛ حتى يسمع الإنسان منهم دائماً ما يحرك عزمه ويقوي همته في طاعة الله سبحانه وتعالى. وخامساً: الحزم لحفظ الوقت وعدم تضييعه، وترك المجاملات التي تضيع الأوقات قدر الاستطاعة، وهذا لابد فيه من نوع من الجد والصرامة والتحفظ والاحتياط والاحتراز؛ لأن مراعاة الناس ومجاملاتهم تذهب الأوقات وتضيع كثيراً من الأعمال والمنجزات، فينبغي للإنسان أن يحرص على هذا. وسادساً: أن يكثر الإنسان من قراءة سير العلماء والأئمة، من مثل هذه السير التي عرجنا على بعض منها، وهي نزر يسير من بحر كثير، متلاطم الأمواج كما أشرنا، فلو قرأ في سير أعلام النبلاء، أو تهذيبه، أو صفة الصفوة، ونحو ذلك من الكتب التي فيها تراجم للصحابة والتابعين وبعض العلماء والأئمة، وقرأ في صفحات التاريخ فإن هذا مما يقوي العزم، ويشد الهمة بإذن الله عز وجل. وسابعاً: أن يكثر من الدعاء لله سبحانه وتعالى في أن يثبته ويعينه على مثل هذه الأمور، ولا شك أيضاً أن التدرج مطلوب سواءً في الناحية العلمية أو العملية، أي في ناحية تفصيل العلوم وحفظها، وفي ناحية العبادات والأخذ بها؛ حتى يكون الإنسان في الوسط بإذن الله عز وجل. ومما أحببت أن أشير إليه مما يضيع الأوقات ويضعف الهمم، والقضية التي يضيع فيها وقت كثير من الناس في متابعات صحفية أو إذاعية، في أمور ليست من الأمور التي تعود على الإنسان بالنفع والفائدة في علمه أو إيمانه أو معرفة واقعه، وإنما هي في اللهو أو الترف أو نحو ذلك، فينبغي للإنسان أن ينتبه لمثل هذه الأمور التي تضيع وقته. وهنا بالنسبة لحفظ القرآن وطلب العلم ليس هذا مقامه، وموضوعنا الذي طرقناه إنما هو للتذكرة والعظة، وليس هو موضوعاً علمياً، إنما أحببنا فيه أن نجول هذه الجولة في هذه الرياض النضرة، والأجواء العطرة لعلنا أن نقتبس ونأخذ منها ما ينفعنا -إن شاء الله عز وجل- ويقوي عزائمنا، ومن علم فالعلم حجة عليه، ومن علم كان حجة على من لم يعلم أن يبلغه وأن ينشر ذلك بنفسه، وفي إخوانه وأبنائه وخاصةً صغار السن متى تلقوا في مقتبل عمرهم هذه السير وتهيأت لهم الظروف المناسبة؛ لكي يقرءوا ويحفظوا ويجدوا ويعملوا ويتربوا على الطاعة والعبادة، فإنه يرجى أن يكون عندهم ما ليس عند آبائهم الذين قد فاتهم من الوقت، وفاتهم من الظروف المناسبة ما أقعدهم عن مثل هذه القمم، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للهدى والتقى والخير والصلاح، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.

الأمة في مواجهة الغمة

الأمة في مواجهة الغمة إن ما نشاهده اليوم من تسلط الأعداء على المسلمين، والهيمنة الكاملة للكافرين، يجعل اليأس يدب إلى قلب المسلم، ويجعله يستسلم للواقع المرير، إلا أن ديننا علّمنا ألاّ نيأس، وأن نتحصن بالإيمان، ونتحلى بالصبر، ونقوي اليقين في قلوبنا، وأن النصر للإسلام وإن تأخر، وإلى جانب ذلك علمنا أنه لابد من الاهتمام بصلاح القلوب والنفوس، وتقوية الإيمان واليقين وغيرها من أسباب النصر، وأنه لابد من الإعداد التام لمواجهة الباطل وحزبه، حتى يندحر شرُّه، وتنكسر شكوته.

نزول الملمات بالأمة وكيف تواجه

نزول الملمات بالأمة وكيف تواجه الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، له الحمد سبحانه وتعالى وعد بنصر عباده المؤمنين، وجعل لهم في الأرض الاستخلاف والتمكين، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاد، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

وهن الأمة وضعف عزائمها

وهن الأمة وضعف عزائمها أيها الإخوة المؤمنون! أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، تحيط بأمتنا في هذه الأيام، ونحن نقف هذه الوقفة مع الأمة في مواجهة الغمة، ولعلنا نرى صوراً مخجلة إذ نجد أن الأمة في مجموعها كأنها لا تملك من الأمر شيئاً، وكأن الحال كما قال القائل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود ونرى أن الآراء ما زالت متباعدة، وأن الأفكار ما زالت متباينة، وأن الوحدة ما زالت بعيدة. من جهة ثالثة: نرى صوراً من زيغ الفكر، وضعف اليقين، وانحراف السلوك، بل نرى حقيقة النفاق والممالأة والمصانعة التي تزيد الأمة ضعفاً ووهناً، والتي تزيد أعداءها تسلطاً وتمكناً. إننا لا نشك أن كل أحد منا عليه واجب، وفي عنقه مسئولية، وليست المهمة قاصرة على دولة أو أخرى أو حاكم أو آخر أو عالم أو مؤسسة، بل كل واحد في عنقه أمانة، وعلى كاهله مهمة. ومن ثم فإننا ينبغي أن نعيد القول ونكرره، وأن نعاود المدارسة والمذاكرة في أحوال أمتنا التي هي في حقيقة أمرها مجموع أحوالنا، وإذا أردنا أن نؤكد هذه المعاني فينبغي لنا أن نكون صرحاء لا نستخدم التعمية الإعلامية، ولا الألاعيب السياسية، ولا المداهنات والمنافقات التي نجدها ليس في حياة الأمة على مستوى الدول والحكومات، بل على مستوى الأفراد والتجمعات، فلا بد أن نكاشف أنفسنا من خلال أنوار اليقين في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بد أن نكتشف خللنا وعيوبنا من خلال النظر في سنن الله سبحانه وتعالى الماضية التي نقرؤها في صفحات التاريخ الغابرة، ونشاهدها ونراها في الوقائع المعاصرة. وعندما نكون كذلك ربما يكون هذا أول طريق للإصلاح وتغيير هذه الأحوال، ولكن لا يمكن أن نتصور أن يكون طريقاً قصيراً ينتهي في غمضة عين وانتباهتها، أو في أيام قلائل أو أعوام يسيرة، ولا يمكن كذلك أن نعتقده طريقاً سهلاً مذللاً مفروشاً بالورود، بل فيه عقبات عظيمة، وهوائل جسيمة، وفيه ابتلاءات ومحن وفتن لا يصبر لها ولا يجتازها إلا الخلص من المؤمنين الصادقين، والمسلمين المستسلمين لرب العالمين.

أهمية الإيمان واليقين لجمع الكلمة وتحقيق النصر

أهمية الإيمان واليقين لجمع الكلمة وتحقيق النصر وهذه وقفات كلية جامعة في الأمور المهمة لمواجهة هذه الملمة. أولاً: الإيمان واليقين: وقد نكرر القول ونزيده، وليس في ذلك من ترف ولا سرف، ولا شيء ممل، بل هو عين اليقين؛ لأن ثوابتنا لا تتغير، ولأن أسس ومناهج الحل والتغيير لا تتبدل، ولأن بين أيدينا كتاباً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وسنة هي وحي يوحى من رب العالمين. ونحن قد قلنا في حديثنا عن القرآن -ولعل هذا الحديث يعد موصولاً به- إن واجبنا نحوه حسن فهمه، وقوة اليقين به؛ أن نحسن التدبر والتأمل والتفكر والمعرفة، والعلم والتعليم في كتاب الله عز وجل، وأن نرسخ الإيمان واليقين بكل حقائقه وبكل وعوده، وبكل سننه، وبكل أوامره وبكل نواهيه، لا بشيء دون شيء: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، تلك صفة أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، الذين كان إيمانهم زائغاً، بل لم يكن إيماناً حقيقياً ألبتة. قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، هل من يقين بهذا؟ وهل له أثر في الواقع، أم أنه يمر على أطراف الألسنة وتكاد تنكره العقول، أو تعافه النفوس، والله جل وعلا يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]؛ القائل رب الأرباب وملك الملوك الذي بيده ملكوت كل شيء من إليه يرجع الأمر كله. وبيده الأمر كله، ويقول جل وعلا متفضلاً ممتناً وهو المستغني عن العباد: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، فهل يكون الحق الذي أوجبه على نفسه باطلاً؟ حاشا لله جل وعلا، ومن كان في نفسه ذرة شك في ذلك فليراجع إيمانه ويقينه، وليتفقد إسلامه وحقيقة دينه، فإن الأمر عظيم، والخطب جليل! وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]. مادام النصر لا تخفق راياته مادام جند الإسلام لا يظهر علوهم ولا تبدو غلبتهم، هل فيما جاء في كتاب الله شك، أم أن هناك ضعفاً في اليقين ومخالفة لشروط ذلك النصر؟!

وعد الله بالعاقبة للمتقين

وعد الله بالعاقبة للمتقين قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]. العاقبة هي نهاية الأمر، ولا بد أن تكون لأهل الإيمان والتقوى، رضي بذلك من رضي، وشك فيه من شك، لكن أهل الإيمان يوقنون به ويرونه رأي العين، ويؤكدون أنه قادم لا محالة. نعم، قد يتأخر يومه، وقد يعظم البلاء قبله، لكنه قادم لا محالة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وكما قص علينا، وبين لنا فيما جرى على رسله وأنبيائه صفوة خلقه عليهم الصلاة والسلام، حين قال أتباعهم: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. ماذا يرى الناس اليوم؟ وما الذي يتسرب إلى قلوبهم مما يرون؟ أليسوا يرون أصحاب الباطل والكفر أصحاب سيطرة وهيمنة أصحاب قوة وهيبة؟ أليست لهم الكلمة العليا في المشهد السياسي؟ أليست لهم القوة العظمى في الواقع العسكري؟ أليست لهم الهيمنة القوية في الميدان الاقتصادي؟ يتسرب اليأس إلى النفوس، ويدب الشك إلى القلوب، أين هذا من هذه الآيات؟ أين هذا الواقع الذي لا يرى فيه لأهل الإيمان شوكة قوية، ولا راية مرتفعة، ويرى الناس ويسمعون ويشاهدون القول في الأحداث التي تتعلق بأهل الإسلام وبلاد الإسلام، ويرون التفاعلات في الشعوب فما يكادون يسمعون لساناً عربياً مبيناً، ولا وجهاً مسلماً مشرقاً، يرون المتخاذلين في أمور الأمة وأحوالها كفرة فجرة من شرق وغرب. ويدب إلى النفوس يأس، ويسري إليها شك، وينبغي أن يكون أول العلاج هو دفعه ونفيه ورفضه ومنعه بكل الأحوال؛ لأنه لا مجال له عند أهل الإيمان واليقين، بل يكون يقيناً مقابلاً. {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، إنها نظريات ثابتة قاطعة جازمة، إنها بالتأكيد التي تصدر أن: {اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، والنصر ثابت مطرد، و (يصلح) صيغة مضارع مستمرة، والإفساد واحد في كل مذهب وملة ونحلة، فينقلب السحر على الساحر ويرد السلاح إلى نحر راميه، لا بد أن يوجد يقين بذلك ومن بعده عمل نتحدث عنه.

مواقف من انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم باليقين

مواقف من انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم باليقين يقول الله جل وعلا: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]. لقد قاله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قبل بدر عندما خرج غير معد ولا مستعد، ثم واجه جيشاً يبلغ ثلاثة أضعاف عدده وعدته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم؛ هذا مصرع أبي جهل! هذا مصرع أمية! هذا مصرع عقبة بن أبي معيط!) فلم يخطئ واحد منهم المكان الذي عينه له صلى الله عليه وسلم. إنه اليقين بنصر الله! قاله أبو بكر يوم رأى محمداً صلى الله عليه وسلم يرفع يديه ويلح في الدعاء حتى يسقط رداؤه عن منكبيه، ثم يقول: (حسبك يا رسول الله! إن الله منجز لك ما وعد). أفليس هذا اليقين الذي نفتقده؟! أوليس هذا الإيمان الذي إذا غاب من قلوبنا لم يكن لنا بعد ذلك قيمة ولا وزن، ولا كلمة ولا هيبة ولا عزة؟ ينبغي أن ندرك حقائق الأمور. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، أي شيء كانوا بنو إسرائيل وأي قوة كانت مع موسى عليه السلام؟! ألم يكن فرعون هو فرعون القائل: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؟ ألم يكن فرعون هو صاحب القوة والبطش والجبروت؟ لكن لما قال أصحاب موسى {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] نطق لسان الإيمان واليقين، فقال موسى عليه السلام: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] فانفلق البحر، فنجا موسى وغرق فرعون، وذهبت قوته بجند من جنود الله عز وجل. أولم يقل أبو بكر رضي الله عنه يوم الغار: (لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله معنا)، لقد كان يقينه عظيماً عليه الصلاة والسلام يوم كانت حباله بالله موصولة، يوم كان قلبه بالله متعلقاً، يوم كان توكله على الله صادقاً، يوم كانت تقواه لله خالصة، يوم كانت إنابته إليه دائمة، عندما يكون ذلك كذلك تتحقق الأمور. {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] أفليس لنا يقين بذلك؟ أفنظن أنه سيصيبنا أمر إذا أرادت أمريكا أو روسيا أو غيرها؟ كلا والله، لا يبلغ أولئك القوم شيئاً إلا بإرادة الله وقدره الذي يشاؤه، لحكمة يعلمها جل وعلا.

نماذج من انتصار المسلمين باليقين

نماذج من انتصار المسلمين باليقين ثم انظر إلى وقائع هذا اليقين في النخبة والصفوة الذين رباهم عليه الصلاة والسلام في يوم الأحزاب يوم الشدة، وقد كررنا المثل؛ لأننا نمر بهذه الحالة، ولأننا نراهم يتداعون علينا، ولأن الجيوش والجنود تحيط من كل جانب، ولأن الأحزاب تتحزب وتتألب، ماذا قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] ويوم قال لهم القوم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] قال الله في وصفهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. ولم يكن ذلك في عهد الأصحاب فحسب، بل تاريخنا ينطق بذلك وقد أسلفنا القول فيه، ألم يقل ابن تيمية في معركة (شقحب) عام (702هـ) أي بعد سبعة قرون من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يبشر الناس ويثبتهم: إنكم لمنصورون والله إنكم لمنصورون! فيقولون: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، جزماً لما يرى من اليقين، وما يظهر من الإيمان، وما يبدو من شمس الصلاح والاستقامة. ننتبه إلى هذا، فإنه هو الذي يثبتنا بإذن الله عز وجل، إن هذا الإيمان واليقين يثبتنا ويعطينا عدة أمور مهمة أولها: الإدراك والوعي والفهم الذي ندرك به الحقائق، لئن كانت للباطل جولة بل وألف جولة فإن جولة الحق آخرها، وإنها جولة إلى قيام الساعة.

تأخير النصر قد يكون للتمحيص

تأخير النصر قد يكون للتمحيص وإننا لندرك حين نكون على هذا الإيمان واليقين سنة الابتلاء: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]. غيب الله فيه حكم، وفيه ابتلاء، عندما نكون موقنين ندرك أن هذه من صفحات الابتلاء تنقلب، ويأتي بعدها النصر والرخاء: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]. وكذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، أفهذه القوى عجولة أن تهزمها قوة الله جل وعلا؟ كلا. إن رعباً في القلوب إن خلفاً في الصفوف إن ريحاً تهب إن أرضاً تتزلزل إن بحراً ينشق إن أدنى شيء مما أراده الله عز وجل يدمر كل تلك القوى، ولكنها حكم الله عز وجل ينبغي أن نتأملها في الآيات والأحاديث والسنن. ويأتينا من بعد ذلك الثبات وعدم التراجع: وهو أمر مهم، فلا يثبت إلا مستيقن، ولا يمضي في طريقه شامخ الرأس إلا مؤمن معتز بإيمانه، ولذلك لا تستغربوا عندما ترون المواقف المخزية؛ لأنها ليس لها رصيد من إيمان ولا أساس من يقين، كيف نرتقب لمن خلت قلوبهم من الإيمان ونفوسهم من اليقين أن يقفوا مواقف عزة؟! أو أن تكون لهم في المواجهة قوة؟! ذلك تفسير واضح بدهي من خلال الفقه الإيماني في آيات الله سبحانه وتعالى. الأمر الثالث: الرجوع والالتجاء إلى الله: إن من عرف الخلل أدرك أنه لا بد من الإصلاح بالرجوع إلى الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]. كل شيء تخافه تفر منه إلا الله، فإنك إن خفته فررت منه إليه، لا ملجأ ولا منجى لنا منك إلا إليك، وعجباً يرى المرء هذه الأحوال العصيبة وما زال الفن رافعاً راياته، والرقص ضارباً دفوفه، وما زالت الأمة كأنما هي نائمة نوماً لا تستفيق منه. فمتى سيستيقظ أولئك الغافلون؟ هل يستيقظون إذا طرقت أبوابهم ووقعت السقوف فوق رءوسهم؟! أم إذا أصابتهم البلية في أنفسهم وأزواجهم وأموالهم؟! هل بعد هذا كله ليس هناك مدكر ولا معتبر، ولا منزجر ولا راجع إلى الله سبحانه وتعالى؟ ومن بعد ذلك الثقة والقوة: ثقة بالله، وقوة بقوة الله عز وجل، فإنه لا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى.

أهمية الإصلاح والاستقامة في مواجهة الملمات

أهمية الإصلاح والاستقامة في مواجهة الملمات الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، له الحمد سبحانه وتعالى وعد بنصر عباده المؤمنين، وجعل لهم في الأرض الاستخلاف والتمكين، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاد، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

ضعف الاستقامة سبب لتأخير النصر

ضعف الاستقامة سبب لتأخير النصر الأمر الثاني: الإصلاح والاستقامة: وهو أمر بدهي ونتيجة تلقائية للإيمان واليقين، ألم نقل: إنه يجعلنا نعي وندرك؟ ألم نقل: إنه يجعلنا نرجع ونلتجئ؟ ألم نقل: إنه يجعلنا نثق ونتقوى بالله؟ إذاً: أصلح حالك وحال أهلك، وحال مجتمعك، أصلح قلبك ونفسك، أصلح فكرك وعقلك، أصلح منطقك وقولك، أصلح حالك وعملك، يصلح الله عز وجل كل شيء من حولك، وقد جعلها الله عز وجل أسباباً منوطة بأخرى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] أين نصر دين الله في واقع حياتنا نحن الأفراد؟ لا تنظروا إلى الأمم، لا تنظروا إلى الحكومات، انظروا إلى ذوات أنفسكم، هل أقمتم الإسلام في نفوسكم؟ هل جعلتموه سمة ظاهرة في بيوتكم؟ من هي تلك المرأة المتبرجة؟ من هو ذلك الشاب الضائع؟ ما هي تلك المنكرات الظاهرة؟ ما هي تلك الكلمات الفاجرة؟ من أين تصدر في مجتمعاتنا وأممنا؟ إنها مني ومنك ومن هذا ومن ذاك، ونحن نعلم أن المعاصي حاجبة لرحمة الله، مانعة لتنزل نصر الله، ما يدريك أن تبرج تلك المرأة وأن تسكع الشباب من أسباب تأخر النصر، ومن أسباب تسلط الأعداء، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، بما كسبت أيدي الناس؛ فكل كلمة نابية مخالفة لشرع الله، وكل منكر مرتكب مخالف لما حرم الله، كل واجب متروك منقطع فيه عن الاستجابة لأمر الله؛ هو من أسباب هذا التأخير للنصر، ومن أسباب هذا الوهن في الأمة، ومن أسباب تضييع النصر، وتأخر التمكين، وتسلط الأعداء.

كل فرد مسئول عن صلاح نفسه ومن تحت يده

كل فرد مسئول عن صلاح نفسه ومن تحت يده قد يقول القائل: وماذا عساي أن أفعل؟ ولئن قال كل كذلك فنقول له: خذ آيات القرآن: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]. ونقول له: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، ونقول له: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. هل هذه تنوب عنك فيها الحكومات، أم يحملها عنك العلماء، أم يخفف وطأتها في حسابك الدعاة؟ إنك مسئول بين يدي الله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لفلذة كبده: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئاً). فاعلم أنك مسئول! وهذه قضية مهمة، وهي مبدأ الطريق، ومفتاح الإصلاح والاستقامة، لا يكن أحدكم إمعة، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم، لم نلغو مع اللاغين ونخوض مع الخائضين؟! ولا يكون لنا ممانعة نسلم بها أنفسنا، ونقوم فيها بواجبنا تجاه أبنائنا؟ إن شخصيتك إن كانت قرآناً يتلى، وإن زوجتك إن كانت نموذجاً أمثل، وإن ابنك إن كان مربى تربية إسلامية صحيحة، فهذا كله يصب في خدمتك لأمتك، ويصب في قيادتك لهذه الأمة، ونحن نرى أحوالاً كثيرة، فكم هناك من خلل بين الأزواج والزوجات؟ كم من ظلم وبغي وتسلط بغير حق من الأزواج على الزوجات؟ وكم من تفريط وتقصير من الزوجات في حق الأزواج؟ كم من عقوق من الأبناء للآباء؟ وكم من تفريط وتضييع من الآباء للأبناء؟ وكم من معاملات زائغة وكم من انحرافات فاجرة وكم وكم وكم؟ ثم بعد ذلك نسأل: أين نصر الله؟ ونسأل: لم يتسلط علينا أعداء الله؟! وهذا مما ينبغي لنا أن نتأمله وأن نتدبر فيه، وهذا هو الأمر المهم الذي نحتاجه ولا بد لنا منه، وكما قلنا: لا تكن إمعة، ولا نريدك أن تكون تابعاً، بل نريدك أن تكون قائداً وزعيماً في الخير والحق والدعوة إلى إصلاح القلوب، وقوة العزائم. أرشد العقول ببيان وتعليم، حرك الهمم والعزائم بأمثلة مضروبة، لم لا يكون أحدنا كما قال الله عز وجل في دعاء عباده: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]؟ كل منا لو كان قائداً في الحق ورائداً في الخير وسابقاً إلى المعالي، لوجدنا هذه الروح وهي تلتهب، والمنافسة وهي تشتعل، والهمم وهي تعلو نحو التشبث بمرضاة الله وإصلاح أحوالنا، وكل منا مسئول، فنسأل الله عز وجل أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية العمل والإعداد لمواجهة الأعداء

أهمية العمل والإعداد لمواجهة الأعداء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.

أمر الله للمؤمنين بإعداد القوة

أمر الله للمؤمنين بإعداد القوة ثالث الأمور التي نتحدث عنها العمل والإعداد: فإن الصلاح والاستقامة في ميادين العمل الذي يصلح به المرء نفسه في عبادته وطاعته، وأما العمل والإعداد فعلى مستوى الأمة، وقد قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] قال ابن كثير: والمقصود بذل أقصى الطاقة والقوة في كل ما أمكن، والقوة المقصود بها كل ما يتقوى به على العدو. (ترهبون به عدو الله) قال الطبري: تخزون به عدو الله، وقال ابن كثير: تخوفون به عدو الله. وقال غيرهم: الخوف مع الاضطراب هو حقيقة ذلك الإرهاب، (وآخرين من دونهم) كل أعداء الإسلام. وقد قيل لـ عنترة: بم نلت هذه الشجاعة حتى صار ذكر اسمك يرعب القلوب؟! قال: كنت أعمد إلى الرجل الرعديد الجبان فأضربه ضربة قوية ينخلع لها قلب القوي الشجاع، فهناك يكون الاعتبار بالأول لمن وراءه.

فوائد إرهاب العدو

فوائد إرهاب العدو ذكر الرازي رحمه الله في هذا الإرهاب الإسلامي المطلوب وجوهاً من الفوائد والمنافع أولها: أن لا يجترئ الأعداء على ديار الإسلام، ومتى كان لهم في ذلك حلم لو كان هناك أهل إيمان وإحسان، وأهل قوة وهيبة. ولذلك نقول كما قال الرازي رحمه الله أيضاً: إنه ربما يقودهم الخوف إلى الإذعان من غير قتال، ودفع الجزية مهادنة ومصالحة. الأمر الثالث: أن هذه القوة والإرهاب قد تكون داعيةً لهم إلى الإيمان؛ لأنهم يرون أصحاب الإيمان وهم أهل قوة، وأهل بسط، وأهل هيمنة، وأهل عزة، فيرون أن ذلك ما يكون إلا لخير في هذا الدين فيؤمنون به. كذلك من الفوائد: أنهم لا يعينون غيرهم من الكفار، إن كانوا قد امتنعوا بأنفسهم فإن الرهبة من أهل الإيمان تمنعهم أن يكونوا سنداً لغيرهم، وقد كان ذلك كذلك في عصور الإسلام الزاهية. ومن ذلك أيضاً: العزة في أهل الإسلام كما قال الرازي: أن يثبت الإيمان في القلوب وأن يعتز المسلمون بإسلامهم. والأحوال اليوم منقلبة، والقوة ضائعة، والرهبة لا وجود لها، ترى كثيراً من المؤمنين وهم مطأطئون برءوسهم، وهم يشعرون بشيء من الاحتقار والذلة لعدم يقينهم وإيمانهم الصحيح، ولعدم فهمهم ووعيهم التام؛ لكن ذلك واقع في حقيقة الأمر.

فوائد القوة إذا كانت في جانب المسلمين

فوائد القوة إذا كانت في جانب المسلمين ينبغي لنا أن ننتبه إلى هذا الإعداد والقوة التي تؤمن المختارين لهذا الإسلام، فلها فوائد عديدة: أولها: أن أهل الإسلام والإيمان بحاجة إلى من يحمي بيضتهم من يذب عن أعراضهم من يمنع تدنيس مقدساتهم من يحفظ أرواحهم وأموالهم. الأمر الثاني: إرهاب أعداء الله عز وجل. الأمر الثالث: أنها إقعاد عن مواجهة دعوة الإسلام، فإذا عرف الناس قوة الإسلام تركوا له الطريق يمضي، وإذا به يغزو القلوب بالحق واليقين والبرهان، لا بالقوة والعنف كما يزعمون، وإذا بنا أيضاً نجعل القوة في آخر الأمر تحطيماً للقوى الباغية الظالمة الجائرة التي تصد عن دين الله، وتتسلط على خلق الله، وتظلم عباد الله. وحق لأهل الإسلام أن يتولوا وأن يكونوا أهله، فذلك هو شأنهم، وذلك هو فرضهم وواجبهم، ولقد قالها ربعي بن عامر في كلماته التي تحفظونها يوم خاطب القوى العظمى في زمانه: (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). واليوم نعرف أنه عالم القوة، فأي شيء يتحدث اليوم؟ هل هو العدل: كلا. هل هو المنطق؟ كلا. هل هو القوانين؟ كلا. هل هي الإنسانية؟ كلا. إن الناطق اليوم هو القوة، فلا قول ولا كلمة إلا لصاحب قوة.

سنة الله في الأخذ بالأسباب

سنة الله في الأخذ بالأسباب ينبغي لنا أن نبذل هذه الأسباب، والأسباب من سنن الله عز وجل ينبغي الأخذ بها معنوياً ومادياً قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، أمرت مريم وهي امرأة ضعيفة في وقت المخاض أن تهز جذع نخلة، وما عسى أن تهز فيه! لكنها أخذت بالسبب، وجاءت النتيجة من الله سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعقلها وتوكل)، وقد ضرب عليه الصلاة والسلام المثل في هجرته، فأخذ للأمر عدته وأهبته وتخطيطه الكامل التام، ثم جاءت بعد ذلك عناية الله عز وجل لتجبر كل نقص في تدبير المسلم، وكل خلل فيما أعده من الأسباب، وذلك هو الذي نرتقبه ونأمله. أما بلا إيمان ويقين، وبلا صلاح واستقامة، وبلا عمل ولا إعداد، فإن سنن الله ماضية لا تحابي أحداً، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أولى خلق الله بأن تنكسر أو تتخلف سنن الله عز وجل في حياته، ولكن لما خالف بعض أصحابه يوم أحد دارت الدائرة، وشج وجهه، وسال الدم على جبهته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، فلئن كان ذلك كذلك مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فكيف بمن دونه ممن هو بعده؟ نسأل الله عز وجل أن يرد الأمة إلى دينه رداً جميلاً، ونسأله أن يصرف عنها الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إن قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداةً مهديين، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيهما، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وارفع درجاتنا، وضاعف حسناتنا، برحمتك يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيها أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك يا رب العالمين! وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أنزل في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطئمناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين. وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

غنائم العابدين وخسائر الغافلين

غنائم العابدين وخسائر الغافلين إن لله مواسم ونفحات، يغتنمها أهل الطاعات، ويضيعها أهل المعاصي والشهوات في اللهو والملذات، ومن أعظم تلك المواسم: شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران، وخير ما في هذا الشهر العشر الأواخر، تلك الليالي المباركات، التي فيها ليلة هي خير من ألف شهر، وإن الناظر في أحوال سيد الخلق عليه الصلاة والسلام وأصحابه في العشر الأواخر ليرى البون الشاسع والفرق الواسع بيننا وبينهم، وربما كان أكثرنا على العكس تماماً من نهجهم والسير على خطى دربهم، فينبغي الاهتمام والجد لاغتنام المواسم الكريمة، والأوقات الشريفة، فيما يقرب العبد من ربه ومولاه.

فضائل رمضان وحال النبي عليه الصلاة والسلام في العشر الأواخر

فضائل رمضان وحال النبي عليه الصلاة والسلام في العشر الأواخر الحمد لله، الحمد لله على ما أفاض من الخيرات، وما وهب من الرحمات، وما كتب من مغفرة السيئات، وما تمنن به وتفضل من مضاعفة الحسنات؛ له الحمد رب الأرض والسماوات، نحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، له الحمد سبحانه وتعالى دائماً أبداً ما دامت السماوات والأرض. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ علم الهدى ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ونور الرعاية الإلهية؛ أشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

استحضار فضل الله وشرف الزمان

استحضار فضل الله وشرف الزمان أيها الإخوة! غنائم العابدين وخسائر الغافلين في هذه الأيام الشريفة والليالي المباركة، ولم يبق من شهرنا إلا سبعة أيام، وهانحن إذا تأملنا واعتبرنا وجدنا أمرين لابد لنا من استحضار معانيهما، ومن تذكرهما: أولهما: فضل الله سبحانه وتعالى بما جعل من فضل الزمان، وما أكرمنا به من شرف المكان، وما وعدنا عليه من مضاعفة الأعمال والأجور، وما جعله في هذا الموسم من محو الخطايا والآثام. والثاني: هو عقل العاقلين، وفطنة المؤمنين، وتلهف العابدين، كي لا تضيع بقية الأيام، ولا تذهب سائر الليالي التي هي أشرف أيام وليالي شهر في العام، وأفضل عشر في الشهر وفيها ليلة القدر، حتى تكون القلوب موصولة معلقة بالله راغبة في ثوابه، مقبلة على طاعته كلما فتر عزمها أو ضعف جدها وسيرها جاءها من نداء الإيمان ومن فضل الرحمن ما يشد العزم، ويضاعف العمل. ونحن في هذه الأيام المباركة والليالي الفاضلة حري بنا أن نعيد التذكر لفضل الله، ونعيد الحساب لتقصيرنا في طاعة الله، وننتبه إلى أن الأيام والليالي إذا انقضت لا تعود، وأن مواسم الخير يوشك إذا تقوضت خيامها أن يرجع الناس فائزين رابحين، أو خاسرين محرومين، وكل مؤمن وعاقل يختار لنفسه الأمثل. وإذا كانت الأيام والليالي فيها من شأن الدنيا والآخرة، وراحة النفس، ولهو القلب مع جد العمل في الطاعة والذكر؛ فإن هذه الأيام والليالي لا تنبغي فيها الشركة، ولا يحسن فيها الاختلاط، بل لابد أن تكون ممحصة خالصة للطاعة والعبادة، وأن تكون ذات انقطاع عن الدنيا وتعلق بالآخرة، وهجر للغفلة وانغماس في الذكر، وقطع للخلائق واتصال بالخالق، وحياة للقلوب والأرواح، وهجر لحياة الجسوم والأشباح؛ فإننا في سائر أيامنا وليالينا يكاد يكون حظ الطاعة ونصيب العبادة قليلاً إلا من رحم الله.

حال النبي صلى الله عليه وسلم في العشر

حال النبي صلى الله عليه وسلم في العشر لعلنا في أول وقفاتنا نرى الصورة المثلى والقدوة العظمى صلى الله عليه وسلم، أعظم الخلق عبادة لربه، وأشدهم خشية منه، وأكثرهم ذكراً له، وأعظمهم تعلقاً به، وأكثرهم وسعياً إلى رضوانه، فأي شيء كان حاله، وكانت عبادته صلى الله عليه وسلم؟ ليس في رمضان ولا في عشره الأواخر بل في سائر الأيام والليالي. ومع ذلك فلنا أن نتصور ونتدبر في حاله الذي وصف به في هذه الأيام والليالي الفاضلة، لعلنا ونحن نقف هذه الوقفات -التي نكاد نحفظها- ندرك تماماً أنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويلقننا درساً عظيماً ينبغي ألا ننساه أبداً، وألا ننساه في هذه الأيام خصوصاً؛ فمن حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله)، وفي صحيح مسلم رواية أخرى تحتاج إلى مزيد تأمل: (كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره). ونحن نعلم ما كان اجتهاده في غيره: كان يقوم حتى تتفطر قدماه، ولا يدع قيام الليل في سفر ولا حضر، ويذكر الله في كل أحواله، ويستغفر الله في يومه وليلته مائة مرة، وكان صلى الله عليه وسلم أعظم عباد الله عبادة له. فكيف نتصور أنه كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره، أي اجتهاد فوق هذا الاجتهاد؟ وأي عبادة تزيد على هذه العبادة! إنها دروس عظيمة من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، إنه يقول لنا: لابد من الزيادة، لأجل فضيلة هذا الشهر، وإدراك ختامه في هذه الليالي العشر، والتعرض لموافاة وموافقة ليلة القدر، ونيل عظيم الأجر بما هو أعظم من ألف شهر، أنريد ذلك ونحن نائمون غافلون وفي الأسواق لاهون وسائرون؟! أنريد ذلك ونحن ما نزال نتحدث بلغو القول وباطله؟! أنريد ذلك ونحن ما يزال ليلنا مع القنوات والأحجيات والألغاز؟! أنريد ذلك ونحن لا نزيد عما مضى في شهرنا بل ننقص منه؟! أنريد ذلك ونحن في كل طاعتنا وعبادتنا لا نبلغ عشر معشار ما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم؟! لعلي أترك لكم فرصة أن تتفكروا وتتدبروا كيف كان اجتهاده في هذه الأيام؟ وأي شيء يزيده على ما هو عليه من طاعة الله وعبادته؟ وهذا حديث الترمذي من رواية أم سلمة قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه). وفي رواية الطبراني من حديث علي رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان، وكل صغير وكبير يطيق الصلاة). وفي رواية أنس في وصف حاله في العشر: (إذا دخلت طوى فراشه، واعتزل النساء)، إنه إعلان أنها أيام غير الأيام، وليالي ليست كالليالي، وزمان يخرج عن زمان الدنيا إلى الآخرة، ووقت يستقطع من لهو الحياة وغفلتها إلى ذكر الآخرة والتعلق بها، ووقت لا تنبغي فيه الشركة ولا يحسن فيه الاختلاط بحال من الأحوال، فما بالنا نزيد من الاختلاط والتخليط حتى تقل العبادة، وتعظم الغفلة، ويندر الذكر، ويعظم اللهو، نسأل الله عز وجل السلامة.

غنائم العابدين في رمضان

غنائم العابدين في رمضان هذه امرأة من الصالحات تقول لزوجها في وصف أحوال المؤمنين: قد ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن بقينا. تأمل هذا، وتأمل بعد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم سير الأصحاب، واذكر بكاء المتهجدين، وتأمل أحوال العابدين، وانظر إلى سير القائمين الركع السجود من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم من الصالحين، وقل مثلما قالت هذه العابدة: يا نائم الليل كم ترقد قم يا حبيبي قد دنى الموعد وخذ من الليل وأوقاته ورداً إذا ما هجع الرقد من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنزل أو يجهد قل لذوي الألباب أهل التقى قنطرة العرض لكم موعد متى يكون حظنا من الذكر والقيام إن كنا في هذه الأيام من أهل الغفلة والنيام؟!

التعرض لرحمة الله تعالى ومغفرته في أواخر رمضان

التعرض لرحمة الله تعالى ومغفرته في أواخر رمضان وإذا تأملنا وجدنا أن حالنا تحتاج إلى نوع من العزم والحزم والجد والشدة التي لا تسمح بقليل من التفريط فضلاً عن كثيره، ولا تسمح بشيء من الانشغال فضلاً عن سعته، وذلك ما ينبغي أن نتذكره ونحن ندرك تقصيرنا، ونعرف تفريطنا، ونستحضر عظمة وكثرة ذنوبنا، ونعلم كم هي غفلتنا ولهونا. إذا ما أوجعتك الذنوب فداوها برفع يد بالليل والليل مظلم ولا تقنطن من رحمة الله إنما قنوطك منها من ذنوبك أعظم فرحمته للمحسنين كرامة ورحمته للمذنبين تكرم من هذا المحروم الذي لا يتعرض للرحمة؟ من هذا الشقي الذي يعرض عن موسم المغفرة؟ من هذا الذي يغفل وينشغل بالأسواق في موسم يمكن أن نقول: إنه أعظم المواسم؟ عندما نتأمل أبواب السماء مفتحة، وأبواب الجنة متزينة، والموسم قائم، والرب سبحانه وتعالى قد وعد عباده بليلة القدر، فكيف لا تجري للمؤمن على فراق هذا الشهر الدموع؟ كيف لا ننتبه لذلك ونحن قد لا يكون لنا إليه رجوع؟ لابد أن ننتبه وندرك أن هذا الموسم وهذه الأيام جديرة أن نتأمل ما ذكر فيها من فضل الله، ومن ضرورة التعبد والتفرغ لطاعة الله.

استدراك ما فات واغتنام رمضان قبل الفوات

استدراك ما فات واغتنام رمضان قبل الفوات إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، ومن كان قد أحسن فعليه بالتمام، ومن كان قد فرط، فليتدارك في حسن الختام، وإنما العبرة بالختام. سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن كل أمان لئن فنيت أيامك الغر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفاني حري بنا أن نبكي على أنفسنا دماً لا دموعاً إذا فرطنا في هذه الأيام، قد نقول بعد أسبوع أو بعد مضي الشهر: ليتنا فعلنا، ليتنا لم نفعل! قلها الآن وأنت ما زلت في هذه الأيام، وما زال بينك وبين الشهر سبعة أيام، قل ذلك قبل أن تقوله بعد فوات الأوان، وقبل أن تقوله بعد ألا يكون رمضان، أو بعد ألا تكون عشر ولا ليلة قدر، ولا عتق من النيران اختص به هذا الشهر لمزيد فضل وزيادة أجر وعظيم مضاعفة للثواب. فهذه نعمة الله، وإننا أحياناً نصنع صنيع الحمقى والمغفلين، فنترك ما بأيدينا ونتحسر عليه من بعد، ونفرط فيما ساقه الله عز وجل من رحمته وفضله إلينا، ثم نعض أصابع الندم عليه، وليس ذلك مرة واحدة بل مرات، وليس موسماً واحداً بل مواسم، وليس عاماً واحداً بل أعوام، ونجدد القول مرة أخرى ونقول: سنجتهد في عام قادم. ويأتي رمضان القادم، فلا أقول إنه يكون شراً من الذي قبله، لكن التغير والتغيير يكاد يكون غير ملموس، فهل عميت القلوب؟ هل ماتت النفوس؟ هل ضلت العقول؟ هل لم يعد لنا في حالنا وتذكرنا واتعاظنا ومواسم الخير التي يسوقها إلينا ربنا فرصة لنغير؟! ومتى يتذكر الغافل إن لم يتذكر في هذه الأيام؟ ومتى يقوم النائم إن لم يقم في هذه الليالي؟ ومتى يدع المذنب الذنب إن لم يدعه في هذا الموسم؟ ومتى يبكي الواحد منا على حاله وذنبه إن لم يبك في هذه الأيام والليالي؟ جدير بنا أن نتنبه حتى لا نندم بعد فوات الفرصة العظيمة من بين أيدينا: أتترك من تحب وأنت جار وتطلبهم وقد بعد المزار وتبكي بعد نعيهم اشتياقاً وتسأل في المنازل أين ساروا تركت سؤالهم وهم حضور وترجو أن تخبرك الديار فنفسك لُم ولا تلم المطايا ومت كمداً فليس لك اعتذار سنعض أصابع الندم عضاً شديداً إن نحن فرطنا في هذه الأيام التي نحن فيها، والليالي التي نحن نتفيأ ظلالها، ونستنير بأنوارها، ونترقب فيها ليلة القدر العظيمة. كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله، وكان ذلك -كما قال العلماء- قطعاً لانشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلياً لمناجاة ربه، وذكره ودعائه، وكان صلى الله عليه وسلم يحتجز حصيراً يتخلى فيه عن الناس فلا يخالطهم، ولا يشتغل بهم. ومعنى الاعتكاف كما قال أهل الإيمان: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق.

دعوة إلى عقد العزم على الاجتهاد والتعرض للرحمات

دعوة إلى عقد العزم على الاجتهاد والتعرض للرحمات يا ليلة القدر وهذه أيامها يا موسم المغفرة وهذه لياليه إننا نعقد العزم في هذه اللحظات ألا نضيع الأوقات، وألا ننشغل بالشهوات والملذات، وألا ننصرف إلى الأسواق والمشغلات، وألا نعمي قلوبنا بمشاهدة المسلسلات في الفضائيات. اعزموا الآن على أن نجعل عشرنا خيراً مما مضى من شهرنا، وأن نجعل ما بقي من أيامنا ليس فيها حظ إلا لطاعة ربنا بقدر طاقتنا وجهدنا. ولذلك ينبغي لنا أن نجتهد حتى نتعرض لرحمة الله، ونوافي فضل الله، ونشعر بأننا قد بذلنا من جهدنا وطاقتنا ما نتعرض به لرحمة الله عز وجل. يا ليلة القدر للعابدين اشهدي يا أقدام القانتين اركعي واسجدي يا ألسنة السائلين جدي واجتهدي يا رجال جدوا رب داع لا يرد لا يقوم الليل إلا من له عز وجد ليلة القدر ليلة الأنس بالطاعة والقرب، والمؤمنون يقبلون عليها، والغافلون يفرون منها بالغفلة واللهو والبعد؛ فاختر لنفسك يا أخي ما تحبه في أخراك، واختر لنفسك ما تظن أنه لا يكون وقد بقي من عمرك وأجلك لحظات، فاعلم أنها هذه هي اللحظات، فإن كنت ستفعل شيئاً، أو تستغفر من ذنب، أو تجد في عمل؛ فدونك هذه الأيام وهذه الليالي، واعلم بأنها موسم كل خير. إن أردت سؤالاً أو حاجة أو تفريج كربة أو شيئاً من كل حاجات أخراك ودنياك، فاعلم أن هذه هي الأيام والليالي التي يخلص فيها الدعاء الذي أمرنا الله عز وجل به: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، أمرنا بالدعاء ووعدنا بالإجابة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]. ادعوا ربكم تضرعاً وخفية دعاء ينبغي ألا ينقطع في هذه الأيام والليالي، وألا يتوقف في قنوت وسجود وخلوة واعتكاف حتى لا نكون من المفرطين في هذا الموسم العظيم، ولعلنا نتذكر أيضاً ونعتبر بأن هذا الموسم هو موسم المسارعة إلى الخيرات، وموسم عظيم في كل ما نحتاج إليه من الخير والذكر والاعتبار والادكار. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على الاجتهاد في هذه العشر ما لم نجتهد في سائر الشهر، ونسأل الله عز وجل أن ينيلنا برحمته ليلة القدر، وأن يكفر فيها عنا الوزر، ويضاعف الأجر، ويمنّ علينا بالعتق في ختام الشهر. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

خسائر الغافلين عن رمضان ولياليه

خسائر الغافلين عن رمضان ولياليه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد:

من لم يزك نفسه في عشر رمضان فاته التوفيق

من لم يزك نفسه في عشر رمضان فاته التوفيق أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإنه لحري بنا أن نتأمل في حالنا، وأن ننتهز هذه الفرصة العظيمة، وهذه الأيام والليالي الفاضلة، إنها أيام القلوب والأرواح لا أيام الجسوم والأشباح، اعتكاف ننقطع به عن دنيانا، وصيام وقيام ننقطع به عن طعام وشراب إلا في أقل قليل مما يقيم الأود ويعين على الطاعة. إنها أيام من لم يجد فيها الفرصة ليزكي نفسه، ويطهر قلبه، ويمحو ذنبه، ويجدد عهده، ويؤكد توبته؛ أن يكون قد ضيع تضييعاً عظيماً وفرط تفريطاً كبيراً يخشى ألا يكون له بعده استدراك، لأنه مضى في غفلته، واستسلم لشهوته، وقعد مع كسله وعجزه وركونه إلى دنياه. إن ما نحتاج إلى التدبر فيه هو: أن نجعل هذه الأيام خالصة لله عز وجل، وفرصة لعلاج أدواء القلوب وأمراض النفوس، تلك القلوب التي قد اسودت من كثرة المعاصي والآثام، وأظلمت بكثرة ما قارفت من السيئات والمحرمات، تلك الأحوال التي تكاد أن تغرقنا في دنيانا فلا نرى مساحة تذكرنا بأخرانا، تلك الأيام والأعوام المتعاقبة التي ليلنا فيها نوم دائم أو سهر عابث، أفلا نجعل لنا حظاً من ليل ذاكر خاشع متبتل يكون لنا فيه حظاً من تعرضنا لرحمة الله عز وجل؟

التحذير من الانشغال عن العبادة بالأسواق

التحذير من الانشغال عن العبادة بالأسواق إن الأسواق التي تفتح أبوابها، والناس الذين يرتادونها، والشراء الذي يشغل الناس، واللهو الذي يعصف بكثير من إخواننا المسلمين جدير بنا أن نتعاون على منعه ودرئه وتغييره، ولو كان عند الناس معرفة حقيقية لرأوا أن أعظم شيء يحتاج إلى الإغلاق والقطيعة التامة في هذه الأيام هي الأسواق، انظروا ما كان يفعل أسلافنا، أتعرفون عن أي شيء كانوا ينقطعون عنه في هذه الأيام؟ إنهم ينقطعون عن دروس العلم، وعن السؤال والفتوى، وأعمال من البر كثيرة، لماذا؟ لأنهم يرون أن هذه الأيام والليالي ينبغي أن تكون خالصة، ليس فيها انشغال حتى بطلب العلم وتعليمه على ما فيه من الفضل، فإذا أغلقت الدروس وأغلقت الكتب لأجل القيام والذكر والتلاوة والدعاء، فما بال الأسواق مشرعة؟ وما بال الملهيات والمشغلات تتضاعف وتزداد؟ ونسعى إلى مزيد من الشراء والصفق في الأسواق، ونشتري ما نسميه حلوى العيد، ولباس العيد وغير ذلك. نجمل ظواهرنا ولا نعنى ببواطننا، نجمل هذه الأجساد ولا نزين القلوب ولا الأرواح، كم هي هذه المآسي محزنة ومؤلمة؟ وكم هي وللأسف عظيمة وكثيرة، ومتكررة ودائمة؟ وكم تسمعون ذلك وربما تقولونه، فأي حال هذا الحال الذي لا يتغير فيه الخطأ الذي يجمع الناس على خطئه، والأمر الذي يوقن الجميع بأن غيره على أقل تقدير أولى منه؟ قد تقولون: لا نملك من الأمر شيئاً، فأسأل نفسي وإياكم: هل تملكون أمر نفوسكم؟ وهل تملكون أمر بيوتكم؟ وهل تملكون أمر نسائكم وأبنائكم وبناتكم؟ أم أنكم تفرطون فيما تملكون وتلقون باللوم على غيركم فيما لا تملكون، وأنفسكم تغرون، وبمثل هذه الترهات تنشغلون ولا تستيقظون. كلنا ذاك الرجل الذي يحتاج إلى وقفة لابد أن تكون قوية وحازمة وشديدة ومؤكدة، وفي كل عام نقول ذلك، وسنظل نقول ذلك، وينبغي أن نقول ذلك، وينبغي أن نتواصى بذلك، حتى نغير في واقع أنفسنا، ونغير في داخل بيوتنا، ومن بعد نغير في دائرتنا ومجتمعنا، حتى تعود أمتنا إلى سالف عهدها. في مثل هذه الأيام ليس هناك شعار ولا عمل ولا شيء يذكر إلا الطاعة والعبادة والاعتكاف، والختم والدعاء والتضرع. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يصرف عنا الغفلة واللهو، وأن يجعلنا من عباده الذاكرين، وأن يكتبنا في الصائمين القائمين، وأن يمن علينا بأن نكون من أهل ليلة القدر المغفورة ذنوبهم والمرحومين. اللهم إنا نسألك أن توفقنا للطاعات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آت، اللهم أحي قلوبنا بمعرفتك، وزك نفوسنا بعبادتك، اللهم أصح أبداننا بطاعتك، اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا، وتزكي نفوسنا، وتخلص نياتنا، وتحسن أقوالنا، وتصلح أعمالنا، وتضاعف أجورنا، وترفع درجاتنا، وتمحو سيئاتنا، وتريننا برحمتك ورضوانك يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك في هذه العشر المباركة والأيام والليالي الباقية أن توفقنا لمزيد الصيام والقيام والذكر والتلاوة والدعاء والتضرع والابتهال، اللهم اجعلها أيام دعاء ومناجاة، واجعلها اللهم أيام قبول ومغفرة، واجعلها اللهم أيام تصحيح وتغيير لأنفسنا إلى ما تحب وترضى يا رب العالمين. اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وميتة السوء يا رب العالمين، اللهم أعذنا من الغفلة وجنبنا المحرمات يا رب الأرض والسماوات. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، وبالعتق من نيرانك، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم اجعل هذه العشر عليهم عشر تفريج هم وتنفيس كرب، اللهم يا رب العالمين، اجعلها غياثاً لقلوبهم ونفوسهم وأرواحهم، وتثبيتاً لأقدامهم يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اجعل ما بقي من هذا الشهر أيام عز ونصر وتمكين لهم يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وأولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

القنوات الجنائية

القنوات الجنائية الغناء يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية الزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فهو ينبت النفاق في القلب، ويسلب الحياء أشد السلب، وهذا حال الغناء من حيث هو، فكيف إذا انضم إلى ذلك الاختلاط المقيت، والتعري المميت، ويبث ذلك على المسلمين ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وتوضع له عشرات القنوات؟! إن هذا لهو البلاء المبين.

القنوات الغنائية وأضرارها

القنوات الغنائية وأضرارها الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدأ وإليه المرجع والمآل، أحمده سبحانه وتعالى جعل الإيمان والإسلام طهارة للقلوب، وزكاة للنفوس، وعفة للجوارح، واستقامة للمسالك، له الحمد -سبحانه وتعالى- كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السموات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية. وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن موضوع حديثنا هو: (القنوات الجنائية) وليس في ذلك خطأ، فإنها معروفة عند الناس بأنها القنوات الغنائية المختصة بالغناء والأنغام، ولكنها في حقيقة الأمر ومآله جنائية لا غنائية، ففيها جناية على الدين وعلى الخلق، وجناية على الصحة والمال، وجناية على الفرد والأسرة والمجتمع، جناية بالكلمات الماجنة، وجناية بالرقصات المثيرة، وجناية بالرسائل الفاتنة، فجناياتها متنوعة بعضها فوق بعض.

إقامة الحجة والبرهان على خطر القنوات من الواقع ومن أقلام المختصين في ذلك

إقامة الحجة والبرهان على خطر القنوات من الواقع ومن أقلام المختصين في ذلك قبل أن نسترسل في الحديث أنبه أن حديثي سيكون بغير اللغة المعتادة من ذكر للأدلة من الكتاب والسنة؛ لأننا في هذا العصر نجد أن قول الخطباء، وأحاديث الدعاة، بل وربما فتاوى العلماء عند كثير من المتصدرين في وسائل الإعلام ليست مقبولة، بل هي ضرب من التشنج والتوتر، ولون من التشدد والتطرف، وصورة من صور الكبت والانغلاق، وقول يشتمل على الأوهام والاختلاق، ولذلك أعتذر عن مواصلة حديثي؛ لأنه قد يجرم عند أولئك القوم الذين تدثروا اليوم بدثار، وتكلموا بلسان لم نعد نفرق بينه وبين ما يقوله أعداؤنا الذين نعرف عداوتهم صريحة جلية واضحة. ولذلك أرجو أن أُعذَر، فإني سأنتقل إلى موجة إعلامية، وإلى لغة تخصصية، وإلى أرقام إحصائية، وإلى حوادث واقعية، وهذه المذكورات لن تنطق لنا بالآيات القرآنية، ولن تروي لنا الأحاديث النبوية، ولن تنقل لنا الأقوال والنصوص العلمية، مع أن مثل هذا يكون للمكابرين والمغالطين، بل ولمروجي الفسق والمفسدين قولاً تقوم به الحجة عندهم إذا لم تقم -عياذاً بالله- بآيات القرآن وأحاديث المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم، ولعلها تكون ذات مصداقية في ثبوتها وقوتها أبلغ وأكثر مما لا يعترفون به من مصداقيات ما ذكرته الآيات في دلالات الواقع والمستقبل، وما بينته أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من أحوال وأخبار آخر الزمان. سأترك حديثي ليتكلم الإعلاميون المتخصصون الأكاديميون، الذين هم أصحاب قول فصيح في مثل هذه المسألة، وليتحدث المتخصصون في مجالات العلوم الاجتماعية والنفسية، فإنهم بهذا أخبر منا معاشر المشايخ، أو الدعاة، أو طلبة العلم، وإن قولهم في مثل هذا لا يُرجس عليه بمثل ما يرجس على أقوال أمثالنا. لقد عقد مؤتمر في عاصمة عربية كبرى، وفي جامعة إن لم تكن أعرق الجامعات العربية فهي من أعرقها، وفي كلية إعلامها على وجه الخصوص، تحت عنوان: (الإعلام المعاصر والهوية الوطنية)، وأصحاب هذا المؤتمر لا يتحدثون عن إسلام وإيمان حتى نتهمهم بالتطرف والإرهاب وغير ذلك كما هي التهمة الجاهزة على طرف الألسنة وأسنة الأقلام اليوم، إنهم قوم لم يذكروا لنا شيئاً مما نسمعه في الخطب والمواعظ، فسأنتقل إليهم لأستعرض شيئاً يسيراً من خلاصات هذه البحوث، وهي دراسة تطبيقية ميدانية قدمت في أحد هذه البحوث، وقد أجريت على مائة أغنية شبابية. تقول هذه الإحصائية: إن مجموع اللقطات في هذه الأغنيات -وهي الأغنيات التي يحتشد فيها الراقصون والراقصات، والفتيات المغريات كما هو معلوم مما يشاهد، أو يقرأ عن هذه الأغاني- سبعة آلاف وخمسمائة وثلاثة وسبعون لقطة تصويرية، هكذا عددها عند علماء الإعلام والمحللين فيما هو مرصود إعلامياً، حتى لا يقال: إن الخطيب الذي يخطب يتكلم بما لا يعرف؛ لأنه لا يشاهد هذا فأنى له أن يصفه؟! وتقول هذه الدراسة -أيضاً-: إن هناك من بين هذه اللقطات ستة وخمسين وألفي مشهد راقص، وألفاً وأربعمائة وتسع لقطات لمناطق مثيرة، واجعل تحت هذه الأرقام خطوطاً، وافهم منها ما شئت، ثم إن أربعمائة وألفي لقطة قريبة من مناطق مثيرة، وستاً وأربعين ومائة لقطة تلامس، وستاً وعشرين ومائة لقطة عناق، ولست أدري أين مكان الغناء في الإعراب من هذه الحشود المتكاثرة والآلاف المتتابعة من اللقطات؟! وهناك دراسة أخرى لباحث إعلامي متخصص يقول: إنه قام بتحليل أربع وستين وثلاثمائة أغنية، أي أنه سمعها وشاهدها، وليس هو مثلنا في عدم سماع هذه الأمور ومشاهدتها، فبماذا خرج؟ قال: بلغت نسبة اللقطات المثيرة سبعاً وسبعين في المائة، ثم فصلها؛ لأنه باحث علمي، وليس داعية درويشاً كما يقول بعضهم، يقول في هذا التحليل: إن الرقص والحركات كانت نسبتها واحداً وخمسين في المائة، وإن الملابس -أي: جانب الإثارة فيها- كانت نسبتها اثنين وعشرين في المائة، والألفاظ عشرة في المائة، وفكرة الأغنية خمسة في المائة فقط، ليس هذا قولاً نرجم به نحن أو غيرنا ممن قد يتهمون في مقالاتهم. وهناك عينة أخرى درسها الباحث ليرى عن أي بيئة تعبر، وأي سلوك تنقله إلينا، فأفادنا أن هذه الأغنيات تعكس البيئة الغربية بنسبة سبعين في المائة، والبيئة العربية بنسبة ثلاثين في المائة، والمراد بالعربية هنا غير الإسلامية، فهي عند بعض أولئك الباحثين لا تدخل في الاختلاط، ولا تدخل فيما هو معلوم أنه محرم ونصت عليه النصوص الشرعية.

ضياع الغيرة والرجولة والجدية بسبب القنوات

ضياع الغيرة والرجولة والجدية بسبب القنوات أنتقل إلى موطن جناية أخرى، وهو الرسائل التي تمر عبر الأشرطة في هذه القنوات الغنائية، لقد كنا إذا جاءت بعض المعاكسات على هواتف المنازل فإن الشخص يتقدم إلى الجهة المختصة شاكياً، ويوضع هاتفه تحت المراقبة حتى يكتشف ذلك الذي يؤذيه، وكانت المسألة كبيرة وخطيرة، وأما اليوم فهذا كله على تلك الشاشات، مخاطبات، ومغازلات، ومعاكسات، وكلمات بذيئة، وأساليب نابية، تقول دراسة عن هذه الرسائل: إن ستا وسبعين في المائة منها رسائل متبادلة بين الجنسين، أي: بين الشباب والشابات، وعشرين في المائة هي الرسائل في التهنئات الأسرية، أنّ نسبتها قليلة في هذا الجانب. وتنتقل دراسة أخرى إلى بحث القِيَم في هذه الأغاني من حيث كلماتها ومشاهدها هل تعلمنا الصدق والنزاهة؟! وهل تعلمنا العفة والحياء؟! وهل تشيع فينا روح الجدية والرجولة؟! وهل تُذكي فينا مشاعر الحماسة والفتوة؟! نسكت نحن ليتكلم الباحثون المختصون، فتقول هذه الدراسة: إن نسبة القِيَم السلبية ثمانية وخمسون في المائة، والإيجابية اثنان وعشرون في المائة، ولن ننازع فيها ولن نبحث في تفاصيلها. وأما نسبة الثمانية والخمسين في المائة فتقسميها مخيف مرعب فثلاثة وثلاثون في المائة منها لقيم الخيانة، وخمسة وعشرون في المائة منها لتعليم قيم الغدر، واثنان وعشرون في المائة منها للتجاهل وعدم التقدير، وخمسة في المائة منها للكراهية. ومن باب الإنصاف فإن القيم الإيجابية كان تقسيمها كالتالي: واحد وثلاثون في المائة للحب، وعشرون في المائة للوفاء، وثلاثة عشر في المائة لإخلاص المحب، وثلاثة عشر في المائة للانتماء.

والحق ما شهدت به الأعداء

والحق ما شهدت به الأعداء قبل أن أغادر مقام أولئك القوم أقف وقفة لباحثة من بنات حواء اللائي يعرضن في هذه الأغنيات كما كانت تعرض الجواري في عصر الرقيق والنخاسة، ويقول مدعو تحرير المرأة اليوم: إنّها باحثة مختصة في مجال علم النفس التربوي، تقول: إن الفن الحقيقي هو الذي يخاطب العاطفة، ويرقى بالمشاعر، فيؤثر هذا الرقي على السلوك والتعاملات بين البشر، وينعكس على المجتمع، فتعمه حالة من الأمن والسكينة، والبعد عن الجرائم، هذه رسالة الفن، أما الذي يحدث الآن فما هو إلا إفلاس فني، فلم يعد هناك من يقدر على كتابة كلمة تحمل قيماً نبيلة، أو رسالة فنية، ثم أشارت إلى أن الفنانين يعدون قدوة للشباب، ولكن للأسف فقد أصبحوا ضيوفاً على صفحات الحوادث بتهم مختلفة من دعارة، أو آداب، أو تهرب ضريبي، أو غير ذلك. ومرة أخرى أقول: لسنا نحن الذين نقول مثل هذا، وإنما هي إحصائيات المختصين في تلك الجوانب، فهل نعدّ بعد هذا متجنين إذا سمينا هذه القنوات الغنائية بأنها جنائية؟! إن المسألة -معاشر الإخوة المؤمنين- في غاية الأهمية، خصوصاً إذا أدركنا أن مثل هذه القنوات ليست واحدة، ولا اثنتين، ولا ثلاثاً، بل قد أصبحت تعد بالعشرات، ثم تجد هذه القنوات تصدح بالغناء منذ انبثاق الفجر وإلى غسق الليل، وتمتلئ بالرقص، وتسمع منها الآهات، وترى فيها المعانقات، إلى غير ذلك من الأمور الفظيعة الخليعة المعلومة، والله عز وجل يقول: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، بينما إذا قدّر لأحدنا أن يفتح قناة عند قرآن الفجر فلن يسمع إلا ما نعلم، ولن يرى إلا ما نعلم، وكذلك في كل لحظة وفي كل ثانية، وكل هذه القيم السلبية وكل هذه البيئة الغربية وكل هذه الإثارة الجنسية وكل هذه الرسائل الغرامية تبث على مدى أربع وعشرين ساعة، وفي قنوات متكاثرة، فلو قدِّر أنْ جاءنا غزو أو حرب -لا قدرٌ الله- في أي بلد من بلاد الإسلام لوجدنا أن الأمر جد خطير وأن الشر محدق بنا، فما بال كل هذه السهام والدبابات والصواريخ التي تقصف معاقل الإيمان، وتدك حصون الأخلاق، وتهدم بنيان المجتمع، وتفتك بكل المعاني النبيلة والقيم الفاضلة ونحن لا نستشعر خطراً، ولا نلمس ضرراً، ولا نتوجس من أثر؟! إن هذا الذي ذكرناه ما هو إلا غيض من فيض، وهذه دراسات على عينات، وهذه أرقام وتحليلات لإحصائيات، وهي من حيث كمها، ومن حيث عددها، ومن حيث تناميها، ومن حيث مكاسبها تستدعي وقفات، وهذه الوقفات ينبغي أن تكون من قبل جهات مختلفة كثيرة، فوزارات التربية والتعليم ينبغي أن يكون لها موقف، ووزارات الإعلام ينبغي أن يكون لها موقف، والغرف التجارية والروابط التجارية ينبغي أن يكون لها موقف، وكل أب وأم ينبغي أن يكون لهما موقف، فكيف بالمنبر الذي هو منبر الجمعة ومنبر القرآن والسنة ومنبر الإيمان والخلق ومنبر الفضيلة والقيم يسكت ولا يتكلم؟! وكيف يقال له إذا تكلم: إنه يدخل في غير اختصاصه أو يتكلم في غير فنه؟! ولذا فإني استعرت في حديثي إليك حديث الآخرين.

جنايات القنوات

جنايات القنوات

جناية القنوات على الدين

جناية القنوات على الدين أعود ثانية لأقف وقفة قصيرة مختصرة موجزة لأسرد بعض هذه الجنايات، وأسوقها في لقطات وومضات، جناية القنوات الغنائية على الدين، وكيف تجني هذه القنوات على الدين؟ إن هذه القنوات من أسباب ضعف الإيمان واليقين، وهي كذلك من أسباب اختلاط المفاهيم، والتباس الحلال بالحرام، فعندما تأتي بعض المسائل التي قد يكون فيها لبعض أهل العلم مقال فإنهم يتتبعون فيها الرخص، ولا يبحثون عن الحكم الشرعي، وهذا هو الحاصل في مسألتنا هذه، فيقال: إن هناك من المتقدمين أو المتأخرين من أباح الغناء، فإذن هذا مباح. ولعمر الله لا أعلم أحداً من المتقدمين ولا المتأخرين مطلقاً يقول بأن هذا الذي وصفناه حلال إلا إذا قلنا: إن الكفر بالله عز وجل هو الإيمان، وإلا إذا أصبحت التوراة المحرفة هي القرآن، وإلا إذا أصبحنا نمشي على السماء والأرض تظللنا من فوقنا، وإلا فأعيدوا إلينا عقولنا فقد أصبحنا بغير عقول، لكن هذا الإرجاف والتلبيس يؤثر في الناس، وفي الشباب خاصة؛ لأنهم ليس لديهم من العلم بالأحكام والنصوص ما ينجيهم من هذه الشبهات. ومن جهة أخرى فهم أصحاب المشاعر الملتهبة، والغرائز المتقدة، وفي زمن أصبحت الغريزة تخاطب كل شيء، فقد كان الغناء يسمع فصار اليوم يرى ويسمع، ويلمس من خلال هذه القنوات وما فيها من المباشرة وغير ذلك؛ لأن بعض القنوات اليوم طورت الرسائل، فيمكن أن يرسل الشاب أو الشابة صورته مشفوعة برسالته إلى من يبعثها إليه، فأي شيء بعد ذلك؟! ونحن نعلم ونقرأ أن بعض الأغنيات العربية لا الغربية تعرض صور المغنيات وهن على أسرة النوم، بل قرأت نصاً صريحاً واضحاً تفصيلياً أن أغنية صورت فيها المغنية وهي في الحمام، أكرمني الله وإياك! فهل هذه القنوات لا تجني على الدين والإيمان؟! ولا تسبب تعلق القلب بغير الله عز وجل؟! ولا تضعف أثر سماع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؟! إن الله تعالى يقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]، فما بال هذه القلوب لا تخشع ولا تخشى مما تندك له الجبال من كلمات الرحمن سبحانه وتعالى؟! إنها قد فتنت وعميت وأصيبت في مقتل من مثل هذه الجنايات الغنائية الفضائية. وأما جنايتها على الأخلاق فإنا نجني منها ميوعة الشباب، ونجني منها انشغالهم بالشهوات وانصرافهم عن الأمور العظيمة والمهمات الجسيمة، ونجني منها قلة حياء الفتيات، واندفاعهن مع الإغراءات والشهوات. ألسنا اليوم نرى شباباً نكاد أحياناً لا نميزه هل هو من جنس الذكور أو الإناث؟! ألسنا نرى اليوم في واقع مجتمعاتنا الإسلامية والعربية ظهوراً لما عرف عند غيرنا بالجنس الشاذ أو الجنس الثالث؟! من أين جاءنا ذلك؟! هل نبت من الأرض أو سقط من السماء؟! إنها أسباب تتعاظم وتتكاثر، وأبوابها العظمى ونوافذها الكبرى هذه القنوات، وإذا أصبنا في الأخلاق فالأمر كما قال الشاعر: فأقم عليهم مأتماً وعويلاً. إنك لتعجب عندما يأتون إلينا بمثل هذه المرأة التي تتبرج، وتكشف المناطق المثيرة، وتتلوى في رقصاتها، ثم تأتينا في مقابلة لتحدث شبابنا وشاباتنا عن جهودها في خدمة الفن، وعن دورها في مسيرة الأمة، وعن إسهاماتها في تطور المجتمع وغير ذلك! وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فنقدم الفسق والفجور على أنه نموذج يحتذى، وأسوة تقتدى، ونقدم الخنا والانحراف على أنه سمة من سمات الأداء والعطاء والنماء وغير ذلك، فالأمر كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، إنها مسألة عجيبة!

جناية القنوات على العلم

جناية القنوات على العلم هل لهذه القنوات جنايات على العلم؟ A نعم. وأولها الانصراف عن العلم بالنسبة للشباب والشابات؛ لأن المجد والشهرة والغنى والثروة طريقه طويل إذا أردنا أن نشقه عبر العلم، وقد يثمر وقد لا يثمر، أما من أرادها بطريقة مختصرة فما عليه إلا شيء من صوت وقلة حياء وإذا به على الشاشات، وعلى الصفحات، وفي العقود والتعاقدات، وكثير من الأسفار والرحلات وغيرها، حتى رأينا اليوم فنانين وهم دون العشرين من العمر، بل وجدنا أكثر من ذلك، وجدنا المسابقات والبرامج التي تقدم المواهب من سن السادسة والسابعة من العمر حتى ينشئوا نشأة غنائية جنائية مبكرة. ولعل بعض الإخوة المسلمين يتساءل: لماذا تقول لنا هذا ونحن مصلون في المسجد؟! فأقول: لا يسلم أحد منا من مثل هذا، حتى الذي ليس في بيته قنوات، فإن الشر يعم ولا يخص، وإن البلاء إن سلمت منه فلا تدري هل سلم منه ابنك أو ابنتك، أم أنهم يشاهدون ما لا تعلم إما في أماكن أخرى، وإما عبر ما يتعاطوه الشباب والشابات من هذه المواد المسموعة والمرئية بكل الأحوال العجيبة والعظيمة، ومع ذلك فأنا أعلم أن من معاشر المصلين الخيرين من قد أصيبوا في مقاتل من هذه القنوات، فهم يدمنون مشاهدتها، ويتعلقون بها بعد أن سلبت قلوبهم وتعلقت بها شهواتهم، وهم مع ذلك يعودون إلى صلاتهم، ويشهدون بعض مجامع الخير، ولكن الأثر غير الأثر، واللغة غير اللغة، ويوشك من بعد أن ترى بعضهم وقد صار إلى ذلك القبيل، وانتهى إلى ذلك الفصيل، ولم يعد بعد أن كان من أهل المساجد من أهلها، ولم يعد بعد أن كان يتغنى بالقرآن يتغنى به، وذلك أمر معلوم، فالأوائل تؤدي إلى الأواخر، والمقدمات تقود إلى النتائج، نسأل الله عز وجل السلامة. ومن جنايتها على العلم -أيضاً- سهر الطلاب على هذه القنوات، فيأتون إلى الدروس والمحاضرات وليس في عقولهم شيء من العلم ولا من الفهم، ولا في أبدانهم من القوة وحضور الأذهان ما يؤهلهم لأن يتلقوا العلم، لذا فإنا نرى انحدار المستويات العلمية.

جناية القنوات على الأسرة

جناية القنوات على الأسرة الجناية على الأسرة أمره خطير جداً، ولن أتكلم عن الأبناء، ولا عن الأطفال، بل أتكلم عن الرجال والنساء، والأزواج والزوجات، والآباء والأمهات، بل ولا أبالغ إن قلت: وعن الأجداد والجدات. إن هذه الصور الفاتنة خلبت أنظار بعض الرجال فزهدوا في أزواجهم، ورأوا أنهن نساء ليس لهن حظ من جمال ولا نظر في ذوق، فتعلقوا بالحرام وتركوا الحلال. ونساء فتن بما يرين من صور أولئك الرجال، فزهدن في الأزواج، ووجدت المشكلة، وقد ثبت في بعض الدراسات أن هناك حالات من الطلاق نشأت من خلال هذه القنوات، وإذا كنا نعلم مشكلات أسرنا فكيف نزيد الطين بلةً؟!

جناية القنوات على المجتمع

جناية القنوات على المجتمع أنتقل إلى جناياتها على المجتمع، فتلك جناية على الأفراد والأسر، وهذه جناية على المجتمع، هناك آثار كثيرة من جناية هذه القنوات على المجتمع نلمسها ونراها، ونحذر منها ونخشاها، فنرى التبرج والسفور والترخص في الاختلاط يتسع بعد كل هذه الموجات، ويصبح شبه مقبول أو معروف، بل المنكر له مستغرب فعله، والناظر إليه بتعجب ينظر إليه على أنه لا يعيش العصر، ولا يفقه الواقع، ثم رأينا صوراً أخرى أشد، وهي الجرأة في المعاكسات والمغازلات، والوقاحة فيها، بل والوصول إلى الاعتداء الفعلي، وقد مرت بنا -حتى في مجتمعنا- حوادث نشرتها الصحف، وتكلم عنها الناس، وهي ثمراتُ مثل هذه الإثارات.

جناية القنوات على المال

جناية القنوات على المال وأخيراً أقف أمام جناياتها على المال، وقد يعجب المرء من ذلك، لكنني أقول: إنّ ما يصرف على هذه القنوات، وما يبذله الذين يرسلون الرسائل يقدّر بأموال كثيرة، ولا عبرة بقول بعضهم: إنني لا أدفع إلا القليل خمسة أو عشرة ريالات لا تضرني شيئاً. فإنهم لا يعلمون أنها تتحول إلى الملايين وعشرات الملايين، بل قد قرأت في بعض الدراسات أن العائد على بعض القنوات من هذه الرسائل قد تجاوز مئات الملايين. فأقول: إننا نحتاج إلى معالجة لأوضاعنا الاجتماعية، فكم يوجد من الأسر الفقيرة، وكم في البيوت من مرضى وعجزة، وينبغي أن تعلم أن ما يهدر في التدخين هو أضعاف أضعاف ما يصرف على التعليم العالي والبحث العلمي في البلاد العربية والإسلامية، فأي إهدار هذا؟! وأي جناية أعظم من هذه في حق أمم تحتاج إلى تقدم علمي وإلى علاج اجتماعي، وإلى غير ذلك؟! نسأل الله عز وجل أن يصرف عنا الشرور والفتن، وأن يبعد عنا الشبهات والمحرمات، وأن يحفظ قلوبنا ونفوسنا من آثارها وأضرارها؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

محاربة هذه القنوات ومقاطعتها

محاربة هذه القنوات ومقاطعتها إنما كان حديثي عن هذه الأشياء لأننا أولياء أمور، وعندنا أبناء وبنات وبيوت، ولنا أقارب وجيران، فنخشى على أنفسنا وأبنائنا وبيوتنا من ذلك، فلم لا نجعلها حملة قوية حضارية راقية سامية في محاربتها؟! ولنقل: أيها المؤمنون! قاطعوها، وإلى بيوتكم لا تدخلوها، وحذروا من أخطارها وأوضارها، واملئوا أوقات الشباب والشابات بغير ذلك من الأمور النافعة والمفيدة، وحذروا من حرمتها التي ليس فيها أدنى شك على قول كل مذهب وعلى رأي كل عالم.

الاقتناع بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في إثبات الأحكام

الاقتناع بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في إثبات الأحكام إن ما استعرته من أقوال هؤلاء القوم ليس هو المنهج الصحيح، فلسنا في حاجة إلى كل هذا لنقتنع، نحن قوم مصدر إيماننا، وقوة يقيننا تجعلنا ندرك الحقائق من الآيات، ونعرف النتائج من الأحاديث، نحن قوم نعلم أن الله خالقنا قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقد بينت لنا آياته أحكام النظر، وأحكام السمع، وأحكام غير ذلك، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما روى البخاري من حديث أبي هريرة:- (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) وعند الترمذي: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وفي حديث أبي هريرة المشهور: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فالعينان تزنيان وزناهما النظر) إلى آخر الحديث، فعندما يقول: (العينان تزنيان) فنحن نؤمن بهذا، ولا ننتظر هذه الإحصاءات ولا هذه الأرقام، فأنبه على هذا؛ لئلا نقول في كل مسألة: هل أثبتت العلوم أو أثبتت الوقائع ضررها؟ فيكفينا أن ذلك ثبت في النص الشرعي، وإلا فإذا استسلمنا لهذا فكأننا لا نسلم بما ورد في القرآن والسنة، وكأننا لا نعظم ولا نقدر ما قاله المفسرون والمحدثون والفقهاء والعلماء في مثل هذه الأمور كلها في سالف الأزمان وحاضرها. أقول هذا لأنه ينبغي لنا أن ندرك أن توجيه عقولنا وأن طمأنينة نفوسنا إنما هي في قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم والربط بالواقع لا بأس به، والاستنباط منهما لتنزيل ذلك على الواقع هو المطلوب والمنشود، ولكننا قلنا هذا القول؛ ليكون حجة على الذين فقدوا هذه البوصلة الموجهة، وهذا النهج الذي تربى عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا بمجرد الأمر يمتثلون قبل معرفة الحكمة، أو السؤال عن الغاية، بل لزموا المبادرة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وقد أمر الله عز وجل بذلك فقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فلا يصح أن يكون في الأمر حكم لله تعالى وحكم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم نأتي في مقابله ونسأل: ما رأيك في هذا؟! وكأن دين الله ليس له وجود وليست له قيمة. إن هذه القضية خطيرة، وهي أعظم من هذه الانحرافات الخلقية والسلوكية التي أشرت إليها، وإن تهوين أمر الدين في النفوس وانتقاص عظمة النصوص من القلوب لهو أخطر من هذا الذي ذكرناه. فلابد من أن ندرك هذا، وكل ما يضاف إليه إنما هو تأكيد لصحته، وإنما هو فرع عن ذلك الأصل.

نماذج من مسارعة الصحابة رضي الله عنهم في الاستجابة لهذا الدين

نماذج من مسارعة الصحابة رضي الله عنهم في الاستجابة لهذا الدين روى أنس -كما في الصحيح- أنه عندما نزلت آية تحريم الخمر: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فمن كان من الصحابة في يديه كأس رمى به، ومن كان في فمه شيء من خمر مجه، وشقت الجفان، وأتلفت الخمر في لحظات، وانتهى الأمر كله. وعندما نزل الحجاب لم يسأل النساء هل هو كذا أو كذا، وهل يمتثل من هذا الوقت أو ذاك، وإنما كان الأمر كما قالت عائشة: (ما جاء الفجر إلا وعلى رءوسهن كأمثال الغربان مما أسدلن من الحجاب)، فينبغي أن نؤكد هذا ونبينه، وأن لا نرى فيه مبالغات. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في مجلس بين أصحابه، فذكر لهم حرمة الذهب والحرير على الرجال، وفي القوم رجل في أصبعه خاتم من ذهب، فنزعه مباشرة وطرحه، فلما انتهى المجلس قام، فقالوا له: خذ خاتمك فانتفع به، قال: ما كنت لآخذه وقد طرحته لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. هذا هو الامتثال، واليوم قد يجادلك ويقول: هذا لأجل العقد، وهذا لأجل الخطبة ونحو ذلك. وتحتاج إلى أن تتدرج معه، ولا بأس في ذلك، لكنني أقول: انظر إلى الفرق. وورد في بعض المصنفات: أن حذيفة رضي الله عنه كان قادماً إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه بعض نفر من أصحابه، وكان بعضهم وقوفاً، فقال لهم: (اجلسوا، اجلسوا)، فسمع حذيفة ذلك فجلس وهو خارج المسجد! استجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أن أمره كان لمن في المسجد. إنها الاستجابة للأوامر، وليس هذا من الصحابة انغلاقاً، بل هو إيمان، وليس هو تحجراً أو ضيق أفق كما قد يظن بعض أولئك الذين فتنوا، كلا. وهذا علي بن أبي طالب وجهه النبي صلى الله عليه وسلم ليفتح خيبر وليقتحم بابها وحصنها، فقال له: (امض ولا تلتفت)، فأراد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف على دابته ولم يلتفت إلى الرسول، بل خاطبه دون أن يلتفت إليه، وقال: يا رسول الله! علام أقاتل الناس؟ لأن رسول قال له: (امض ولا تلتفت)، فالكلمة عندهم لها ميزانها ودلالتها، ويوم يعظم إيماننا نكون كذلك، ويوم نفقه ديننا نكون كذلك. نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يعظمه في قلوبنا، وأن يظهره في واقع استجابتنا في حياتنا، نسألك -اللهم- أن تجعلنا بكتابك معتصمين، وبهدي نبيك صلى الله عليه وسلم مستمسكين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، ونسألك -اللهم- أن تصرف عنا الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم! طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وأخلص نياتنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا يا أرحم الراحمين. اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، وابعدنا -اللهم- عن المحرمات والشبهات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا رب الأرض والسموات. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم! من اعتدى على أهل الإسلام وأمة الإسلام فاشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم! لطفك ورحمتك بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين. اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج كربتهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل -اللهم- لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا سميع الدعاء. اللهم! انصر جندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! وحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك أن تحفظ ولي أمرنا، وأن توفقه لطاعتك ورضاك، وأن ترزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

رمضان والأمة بين عامين

رمضان والأمة بين عامين من مزايا وخصائص شهر رمضان أن الأمة الإسلامية كلها تتحد فيه على أنواع من العبادات والطاعات، وهذا أمر يبعث الفرح والسرور في النفس، إلا أن أكثر الأمة يتركون ذلك بعد رمضان، ويعودون إلى غفلتهم ونسيانهم، فيجب على جميع الأمة أن تكون أحوالها مستقيمة طوال العام، وأن يتوحد صفها وتتكاتف فيما بينها.

أهمية الاجتهاد في الطاعات في رمضان

أهمية الاجتهاد في الطاعات في رمضان الحمد لله، الحمد لله فتح أبواب الرحمة، وبسط أسباب المغفرة، ووعد بمنته بالعتق من النيران في شهر رمضان، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من الرحمات، وما ضاعف من الحسنات، وما محا من السيئات، نحمده جل وعلا حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء الأرض والسماوات، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يوافي فضله وإنعامه، ويولي لنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه؛ فله الحمد في الأولى، وله الحمد في الآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! اكتمل القمر، وانتصف الشهر، واقتربت العشر، وكل بداية تمضي إلى منتهاها، وتصل إلى غايتها، والعاقل المتدبر من يفكر في العواقب، ومن يستعد للخواتم، ومن لا ينقطع في أثناء السير، وكل مشمر له عزم ونية خالصة يوشك -بإذن الله جل وعلا- أن يتحقق له وعد ربه في قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. ولا شك -أيها الإخوة الأحبة- أننا ننتظر في مثل هذا المقام أن يكون مختصاً بالحديث عن مزيد الطاعة والعبادة، والأجر والفضيلة فيما بقي من هذا الشهر العظيم، وفي عشره الأواخر على وجه الخصوص، وهو أمر مطلوب ومرغوب، وجدير أن نتحدث عنه، ولكنني أعلم أن كثيراً مما يذكر في هذا الموضوع يكاد يكون محفوظاً. لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر. وكان عليه الصلاة والسلام يعتكف في كل عشر أخيرة من شهر رمضان. وكان يخلي بينه وبين الخلائق؛ ليتفرغ لصلته بربه، ولما بينه وبين الخالق سبحانه وتعالى. وكلنا يعرف ويستطيع ويجيد أن يتحدث عن ليلة القدر وفضيلتها، وما ورد من أنها في أوتار الشهر، وذلك أمر نحتاج أن نتواصى به، وأن نتذكره، سيما وأن صوراً من الواقع -وللأسف الشديد- تعارضه وتناقضه وتخالفه، فمع عشر الذكر والتذكر والاعتبار نرى عشر اللهو والتسوق والانشغال، ومع عشر الليل الذي يُحيا بالتلاوة والدعاء والركوع والسجود نرى العشر التي تُشغل بشراء الأحذية، والبحث عن الأكسية، والاستعداد بالأطعمة إلى غير ذلك مما هو معلوم. ومع كل هذه المقدمة التي أحدثكم بها فإنني لم أتحدث عن العشر، ولا عن فضلها، ولا عن ليلة القدر وأجرها؛ لما ذكرته من المعرفة؛ ولأنكم ستسمعون ذلك خلال الأيام القادمات في كل الكلمات والمواعظ، غير أن وقفتنا اليوم هي عن: (رمضان والأمة بين عامين). أليس جديراً بنا أن نتفكر في دور رمضان، وأثر فريضة الصيام في أمة الإسلام، ليس في الأفراد لما يكثرون من تلاوة القرآن، وما يزيدون من صلاة الليل، وما يسعون إليه من أمور الخير هنا أو هناك؛ لكن في تغير أحوال الأمة كلها؟! أليس جديراً بنا -ونحن نمضي، وتمر بنا الأيام، وتتوالى الأعوام- أن ننظر إلى مسيرتنا، ونقوم ما اعوج منها، ونكمل ما نقص منها، ونستدرك ما فات منها؟ هذه نظرات عامة، ووقائع حاضرة، ومن بين صور الواقع المؤلم تبزغ أنوار وبشريات لمستقبل مشرق بإذن الله جل وعلا.

أثر رمضان في وحدة المسلمين

أثر رمضان في وحدة المسلمين رمضان والوحدة: في رمضان وحدة في العبادات، فالأمة كلها تصوم شهراً في وقت واحد، وعلى صفة وهيئة واحدة، ووفق متابعة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم واحدة، إنها أمة تصوم وتصلي، وتزكي وتعتمر، وتتلو القرآن، وتكثر الذكر، وتعظم الدعاء، وتجتهد في الابتهال، وتتواصل في التضرع. إنها أمة يقول لها الله في رمضان ما جاء في القرآن: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]. إنها الأمة التي يذكرها رمضان بأن لها إلهاً واحداً لا تخضع إلا له، ولا تخشى إلا منه، ولا ترجو إلا إياه، ولا تعتمد إلا عليه، ليس في قلوبها رهبة من الخلق وإن عظمت قوتهم، وليس في نفوسها ذل للمخلوقين وإن عظمت أعطياتهم، إنها أمة العبادة؛ أمة واحدة، يجمعها التعبد لله سبحانه وتعالى.

وحدة مشاعر المسلمين في رمضان

وحدة مشاعر المسلمين في رمضان رمضان ووحدة المشاعر: كلنا نردد هذا القول؛ فنقول: إننا في رمضان نشعر بشيء من ألم الحرمان، ونتذكر الفقير والمسكين، ولكننا كذلك في وحدة مشاعرنا تشدنا هذه المشاعر إلى أن نرتبط بكل مسلم على ظهر الأرض من أقصى الصين شرقاً إلى أقصى المغرب غرباً، ونذكر كل دمعة تذرفها أم فلسطينية، وكل دم يُراق على أرض العراق، وكل بيت يُهدم فوق رءوس ساكنيه، وكل جريمة تُرتكب في حق أمتنا هنا أو هناك. إن لم يكن رمضان هو الذي يوحد مشاعرنا، ويربط قلوبنا، ويجدد وحدتنا، ويقوي آصرتنا، ويذكرنا بتاريخنا، ويلزمنا باستعادة ترتيب صفوفنا، فإن رمضان يمر علينا، وحينئذ لا نخرج منه إلا بآيات تُتلى، وأذكار تردد، وركعات تُصلى، وربما تكون القلوب ليست فيها حاضرة، والنفوس ليست بها متأثرة، فهل نرضى لأنفسنا ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس أن يكون حظها من فريضة من الفرائض وركن من الأركان هو هذا الزاد الضئيل، والتأثير الخافت الذي لا يكاد يبين؟! لننظر بين عام مضى وعام أتى ما الذي في أمتنا جرى، ولنتنبه إلى صور أخرى في رمضان.

أثر رمضان في تكافل المسلمين فيما بينهم

أثر رمضان في تكافل المسلمين فيما بينهم رمضان والتكافل: ألسنا اليوم في مجتمعاتنا المحدودة نرى المال يُبذل للفقير، والمواساة تُبذل للحزين، وصور من التكامل والتكافل تجدد وتحرك المعاني المؤثرة المعبرة فيما وصف ومثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة الإسلام بقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فأين تكافلنا خارج نطاق حينا، وخارج نطاق مسجدنا ومدينتنا وبلدنا؟ إنه تكافل أمة الإسلام كلها، فهل نسينا ما كنا نذكره من قبل، ونتحدث عنه بكل قوة وجرأة وحرقة عن فلسطين؟ واليوم تجددت لنا أحداث العراق، ولم تكن من قبل، وغداً وبعد غد، لكن الأصوات خفتت، والألسن خرست، والأقلام أُغلقت، ولا يكاد المرء يسمع شيئاً من ذلك، وإن سمع فعلى ندرة، وربما بتخوف، وكأن الأمور تحتاج منا إلى تأمل أكبر.

انتصارات المسلمين في رمضان

انتصارات المسلمين في رمضان رمضان والانتصار: إنها حقيقة مهمة لابد أن نقف عندها وقفات كثيرة: ففي رمضان يحصل انتصار على الشهوات والملذات، وانتصار على علل النفس والنزغات، وانتصار على الضغائن والخصومات، تلك هي حقيقة هذا الشهر في أمة الإسلام إذا وعت وأدركت المقاصد العظيمة والحكم الجليلة في مثل هذه الفريضة. إنه انتصار لهذا الشهر على سلطان شهوة الجسد، وعلى الكبر والغرور في النفس، وعلى العادات والتقاليد المخالفة في المجتمع، وعلى السمعة والرياء في الأعمال، وعلى القوة والأذى من الأعداء. إن رمضان الذي يحقق انتصار المؤمن في نفسه، وانتصاره على ضعفه، وانتصاره على شيطانه يحقق في حقيقة الأمر انتصار الأمة على ضعفها وذلها وخذلانها واستسلامها لأعدائها؛ وذلك الذي تجدد في يوم بدر؛ اليوم الذي سماه الله عز وجل يوم الفرقان. وهكذا فتح مكة الذي كان نهاية لصورة الجاهلية والظلم والطغيان، وما جرى بعد ذلك من فتوح وانتصارات في رمضان، نعم قد يكون اتفاقاً في التاريخ، لكنه قطعاً تجدد في معاني الانتصار الحقيقية في أوصال الأمة، بدءاً من قوة إيمانها، ومروراً بقوة وحدتها، وانتهاءً بقوتها المادية العملية. واليوم نتساءل: هل هذه المعاني موجودة في حياة أمتنا؟ وما هو الواقع بين عام مضى وعام أتى؟

مآسي وأحزان من واقع إخواننا في فلسطين

مآسي وأحزان من واقع إخواننا في فلسطين أستسمحكم عذراً -ونحن في هذه الأيام التي تهش فيها النفوس وتبش، وتفرح القلوب وتطرب لما في هذا الشهر والعشر من الخير- أن نذكر شيئاً من المآسي والأحزان؛ لأن الواقع يفرض علينا ألا نكون أسرى لمجرد ما نحن فيه في ذواتنا أو مجتمعاتنا، فالدائرة أوسع. نقف وقفة سريعة أمام أرقام لقضيتنا الأولى في أرض فلسطين خلال فترات الانتفاضة الجهادية المباركة، أريد منها في ومضات سريعة أن أشير إلى أن الأمر ما يزال متفاقماً، وهناك صور تزيده ظلمة وظلاماً وحيرة وأسىً وألماً. أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة شهيد، منهم نحو سبعمائة من الطلبة، وواحد وثلاثون جنيناً قتلوا على الحواجز التي منعت وصول أمهاتهم إلى المستشفيات، وقتل كذلك أكثر من مائة مريض. وهكذا أصيب خمسة وخمسون ألف جريح وأكثر، منهم ألفان وخمسمائة وأربعون امرأة، وأكثر من ستة آلاف إعاقة، وأكثر من أربعة آلاف وستمائة إصابة للطلبة، ونحو من أربعمائة إصابة لأهل الإسعاف من الممرضين، وثمانية آلاف أسير إلى يومنا هذا يقبعون في سجون الظلم والإرهاب في الكيان الصهيوني، منهم سبعة وتسعون قد أمضوا عشرين عاماً، ومنهم فئات من صغار السن ما بين السادسة عشرة والسابعة، ومنهم ست فتيات قاصرات يُعتدى عليهن ويُؤذين بكل صور الإيذاء، وأضف إلى ذلك نحو ثمانمائة من الأطفال الشهداء، وأكثر من تسعين بالمائة من أطفال فلسطين يشعرون في كل لحظة بأنهم معرضون للأذى أو القتل، ونحو ستة آلاف وسبعمائة بيت مدمر تدميراً كاملاً، ونحو ذلك العدد بأقل من المباني التي هدمت، ونحو عشرة آلاف شردوا من بيوتهم، وأكثر من مليون ونصف شجرة دمرت، وأكثر من مائتين وثمانمائة وثمانين بئراً ردمت، وأكثر من آلاف وآلاف من رءوس الأغنام والأبقار أتلفت وقتلت، والمدارس التي أغلقت تجاوزت ألفاً، والمعاهد والجامعات العليا تجاوزت عشراً، وستة وأربعون في المائة من إخواننا في تلك الأرض الطاهرة لا يأكلون في يومهم إلا وجبة واحدة، ونحو ثلاثة عشر وأربعة من عشرة في المائة مصابون بسوء التغذية! والجدار الذي يسمى: جدار الفصل العنصري نسمع عنه، ولا نعلم أنه قد اقتطع نحو ستة عشر بالمائة من الأراضي، وأنه قد أفنى وأنهى وجود مائة قرية من قرى إخواننا في فلسطين، وأنه قد استولى على أكثر من خمسين في المائة من مصادر المياه في غزة! أقول -أيها الإخوة الأحبة-: أليس هذا جديراً بأن يكون حديثنا هذا أيضاً في رمضان، أم أننا نتحدث عن عدد الركعات، وأصوات الأئمة، وحسن الدعاء، وكأن عبادتنا ليست إلا في هذه الجوانب، وكأن دور هذا الشهر ليس إلا في هذه الميادين، وكأننا ننسى الحقائق؟! وليس هذا هو المؤلم فحسب؛ بل اليوم، وخلال هذا العام نجد تغيراً كبيراً، فالعمليات الاستشهادية أصبحت بنوع من شبه الإجماع انتحارية، ومساعدة الذين هدمت بيوتهم أو الذين قتل عائلهم هو تمويل للإرهاب، والتعليم الإسلامي وتعليم أحكام الشريعة ضرب من التطرف والتشدد، بل وحلقات القرآن وتحفيظه بؤر للإرهاب والعنف، وسيروا وراء ذلك؛ فإنكم ستجدون أن تغيراً كبيراً قد جرى في عام، وأصبحنا اليوم تمر علينا الأحداث ونسمعها كما يشرب أحدنا كأس الماء! ألسنا بالأمس سمعنا، واليوم سنسمع كم قتل في العراق! وكم استشهد في فلسطين! وكم حصل هنا! وكم جرى هناك! وكأن الأمر يمضي ولا يعنينا، بل ونحن نكرس عكسه وضده في واقعنا.

الواقع الإعلامي المر في بلاد الإسلام والمسلمين

الواقع الإعلامي المر في بلاد الإسلام والمسلمين وأنتقل بكم إلى صورة أخرى ارصدوها خلال عام، ولست هنا براصد ولا محلل: الواقع الإعلامي: إنها قنوات أكثر، وفجور أكبر، وتطبيع أظهر، وإشغال وإلهاء، ألسنا نرى ذلك، ونتحدث به في مجالسنا؟! ولكنه يسري في صفوفنا، ويتسلل إلى بيوتنا، ويؤثر في شبابنا وشاباتنا، ويغير في كلماتنا ومصطلحاتنا، فلم نعد نسمع اليوم العدو الصهيوني، وإنما أصبحنا نسمع ونرى ونشاهد من يتحدث من أولئك المغتصبين والمحتلين، ويؤتى بهم على أنهم محللون، أو أنهم كذا أو كذا إلى غير ذلك، وأصبح الحال كما قال الشاعر: يموت المسلمون ولا نبالي ونهرف بالمكارم والخصال ونحيا العمر أوتاراً وقصفاً ونحيا العمر في قيل وقال وننسى إخوة في الله دارت بهم كف الزمان على الرمال ألسنا نرى القنوات ترقص وتغني، ومن بعد في نشرة الأخبار الدبابات تقصف وتدمر؟! ألسنا نرى الفوازير والمسابقات المخزية والمخجلة في بعض القنوات، بل ونحن نسمع ونرى من يطعن في كل هذه المعاني مروراً بتعليمنا الإسلامي، وانتهاءً بحجاب نسائنا وعفة بناتنا بلسان عربي مبين في قنواتنا الفضائية الكثيرة الشهيرة؟! أليس ذلك جديراً بأن يلفت نظرنا؟!

واقع كثير من المجتمعات الإسلامية

واقع كثير من المجتمعات الإسلامية وأنتقل إلى واقع اجتماعي: ففي قضية المرأة: فهنا وهناك تبرج واختلاط، مصحوب بتبرير وتشريع قانوني أو تشريع من فتاوى وأقاويل باطلة. وفي الأسرة: تفكك وانحلال. وفي الشباب: تميع واختلال. وفي العلاقات الاجتماعية: تقطع وانشغال. وفي الوحدة المطلوبة: تنصل واستقلال، وذلك له حظ حقيقي في واقع الأمر. ولسنا نقول ذلك توهيناً؛ ولكن لئلا نغفل عن واقعنا، ونعيش في لذة من أمور حسنة ممدوحة، لكنه لا ينبغي أن يكون الاقتصار عليها. قال الشاعر: نحن يا شهرنا العظيم غدونا أرنبات تفيد من صياد وغدت خيمة الأخوة في الريـ ح بلا أعمد ولا أوتاد كتبتنا الأيام في هامش السـ طر روتنا من غير ما إسناد ولعل بعضكم يقول -وأنا قد قلت ذلك لنفسي-: لمَ مثل هذا الحديث؟ وهل أغلقنا نوافذ الأمل وأطفأنا أنواره؟ فأقول: لا؛ لكن الشق الأول: هو أننا لابد أن نفتح أعيننا، وأن نرى ما حولنا، وأن ندرك تعاظم الأخطار التي تهدد أمتنا، وأن نقول ذلك، وأن نذكر به، كما قال الشاعر: يا أمتي إن قسوت اليوم معذرة فإن كفي في النيران تلتهب وإن قلبي قد طاف الرجاء به وقد تدفق منه الماء والعشب فكم يعز بقلبي أن أرى أمماً طارت إلى المجد والعربان قد رسبوا

مبشرات من واقع الأمة الإسلامية

مبشرات من واقع الأمة الإسلامية ومع ذلك -أيها الإخوة الأحبة المؤمنون- ليست هذه هي الصورة، بل ثمة صورة أخرى تبشرنا بخير، تلك التي ننظرها في واقع أمتنا عموماً، وفي مثل هذه المناسبات والمواسم الإيمانية والعبادية خصوصاً. فنحن بحمد الله اليوم نجد صوراً أخرى، نجد إيماناً في القلوب يقوى، وعزة في النفوس تزأر، وشموخاً في مواقف إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين تبدي لنا صوراً عجيبة فريدة! كل الذي ذكرناه يقابله أنهم أبلوا في العدو بلاءً حسناً، وأنهم أقضوا مضجعه، وأنهم خربوا تجارته، وأفسدوا سياحته، وأدخلوا الرعب في قلوب أبنائه، وخلطوا أوراقه السياسية، وأوقعوا من القتلى في صفوفهم ما لم يقتل بمجموع كل الحروب التي كانت مع العدو الصهيوني في الحروب العربية الرسمية كما يقال. ونرى فيهم وفي نسائهم وفي شبابهم صوراً تذل لها أعناقنا إعزازاً وإكراماً لها، وكذلك خجلاً من مواقفنا أمام تلك المواقف الشامخة البطولية العظيمة. ونحن نرى جيلاً من العقيدة والإيمان يبزغ في كل بقاع الأرض، وكلما اشتدت قبضة الظلم والطغيان على أمتنا تفجرت ينابيع اليقين والإيمان في صدور أبنائها، وكلما عظمت صور المقاومة والجهاد والمغالبة لأعداء الله، وصور الرجوع والتمسك بدين الله، ألسنا نرى اليوم المساجد تملأ أكثر مما كانت من قبل؟ ألسنا نرى القرآن يتلى أكثر مما كان من قبل؟ ألسنا نرى مكة -حرسها الله عز وجل- ومسجدها الحرام يغص بالناس في زحام شديد لم يكن مشهوداً منذ سنوات قريبة ماضية؟ كل ذلك من مبشرات الخير التي نراها في أمتنا، والتي نستشرف فيها أملاً مشرقاً، ونستشرف فيها تعرضاً لسنة الله عز وجل، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. ونرى فيها اقتراباً من تحققنا لما أراد الله منا ليتحقق لنا ما وعدنا الله به: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وذلك ما لا نغفل عنه؛ لكننا -وللأسف الشديد- نغفل عن الجانب الأول، والإعلام يصرفنا عنه، والسياسة تلبسه علينا، ونحن ربما ننصرف أو ننجرف وراء هذا التيار أو ذاك.

أهمية تصحيح الأخطاء

أهمية تصحيح الأخطاء فحقيق بنا وجدير بنا في هذا الشهر أن ننظر إلى أحوال أمتنا، وأن نصحح مسارها، وتصحيح المسار يبدأ منا كأفراد، وذلك ما نقوله الآن ونحن في منتصف الشهر وقرب بداية العشر. فما هي أوضاعنا التي كنا نشكو منها، والتي تحدثنا عنها بأسىً بعد رحيل رمضان الذي مضى؟ قولوها الآن، وأعيدوها مرة أخرى، وقلتم وقلنا جميعاً بعد انقضاء شهر رمضان الذي مضى: لئن جاءت العشر القادمة -إن شاء الله- فإنني لن أفعل ولن أفعل ولن أفعل، وإذا جاءت سأفعل وسأفعل وسأفعل! فهاهي الآن تأتينا من جديد، فهل نحن نقول ولا نفعل؟ وهل نحن نضحك على أنفسنا أو نخادع ربنا؟! أسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يقوي عزائمنا في طاعته ومرضاته، وأن ييسر لنا فيما بقي من شهرنا جداً وتشميراً في الطاعات، ومغفرة في الذنوب والسيئات، ومضاعفة في الأجور والحسنات، ورفعة في المنازل والدرجات. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

المفهوم الواسع للعبادة

المفهوم الواسع للعبادة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه، ونحن في موسم التقوى الأعظم، وفي أيامها ولياليها الأكثر والأكبر، فلنحرص ولنشمر عن ساعد الجد في طاعة ربنا سبحانه وتعالى وتقواه. ولعلي -أيها الإخوة الكرام- هدفت من مثل هذا الحديث إلى أمرين اثنين مهمين: أولهما: أن نوسع المفهوم الصحيح للعبادة، فليست مقتصرة على الركعات، ولا الزكوات، ولا الدعوات، ولا التلاوات، بل هي أوسع من ذلك، فهي تشمل سائر جوانب الحياة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. والغاية التي خلقنا الله عز وجل لها وهي العبادة لا تنحصر في وقت قصير في المسجد، ولا في شهر واحد من عام، ولا في أوقات محدودة، ثم نمضي غافلين عن أننا عباد لله عز وجل القائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. إن هماً تحمله في قلبك إزاء ما يقع لأمتك هو ضرب من العبادة، إن تفكيراً تعمله في فكرك للخروج من أزمة أو مأزق في هذه الأمة هو ضرب من أعظم ضروب العبادة، إن سعياً تسعاه لتسد حاجة، أو تسد ثغرة، أو ترمم ثلمة هو ضرب عظيم من أضرب العبادة، وذلك ما أردت أن ننبه إليه أولاً.

أهمية الانتباه لما يضعف مفهوم العبادة وأواصر الأمة

أهمية الانتباه لما يضعف مفهوم العبادة وأواصر الأمة وثانياً: أن ننتبه إلى أمور تتسلل إلى قلوبنا وعقولنا وكلماتنا تضعف قوة هذه المشاعر التعبدية على هذا النحو الواسع في المفهوم، وتضعف الانتماء والارتباط بالأمة، فنعود ونحن نريد إصلاح حالنا ووضعنا، وننسى إخواننا هنا وهناك، وتتقطع الأواصر ليس بالمشاركة المباشرة؛ بل حتى بالمواصلة المالية؛ بل حتى بالمواصلة بالتذكر والدعاء وغير ذلك من صور كثيرة تحتاج منا إلى مثل هذه المراجعة. وهذا هو الذي لعلي أردت أن أوصله إليكم، وأوصله إلى نفسي أولاً. وأما حديثنا عن العشر والفضل والأجر فمبذول ومطلوب، ولكننا لا نريد فقط أن نريح أنفسنا، وأن نتحدث بذلك، ثم ننصرف وكأننا قد أكملنا واجبنا تجاه أمتنا، وكأننا قد أدينا ما علينا تجاه ديننا، وكأننا قد نصرنا الله عز وجل، وننتظر أن يتنزل علينا نصر ربنا، ذلك ما أحسب أنه جدير باهتمامنا. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبدل حال أمتنا من بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلها عزة، ومن بعد فرقتها وحدة. اللهم ألف بين قلوب المؤمنين، واجمع صفوفهم على كلمة الحق والهدى يا رب العالمين! اللهم اهدهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجهم من الظلمات إلى النور. اللهم وحد صفوفهم، واربط بين قلوبهم. اللهم إنا نسألك أن تجعل أمة الإسلام أمة واحدة على أعدائها، متآخية فيما بين أبنائها. اللهم إنا نسألك أن تردنا إليك رداً جميلاً. اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة والدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، زلزل اللهم الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم. اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية. اللهم أذل أعناقهم، وسود وجوههم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم اجعل ما بقي من هذا الشهر لنا ولهم أمناً وأماناً، وسلماً وسلاماً. اللهم وفقنا فيه لطاعتك ومرضاتك، واجعل ختامه ختام خير مختوم بالمغفرة والرضوان والعتق من النيران برحمتك يا رب العالمين! اللهم اجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم ثبت إخواننا المجاهدين، اللهم أنزل على قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، وحد اللهم كلمتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وعظم قوتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. والحمد لله رب العالمين.

رمضان ضيفنا المنتظر

رمضان ضيفنا المنتظر لقد فضَّل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض لحكمة يعلمها جل وعلا، ومما فضله الله عز وجل شهر رمضان؛ حيث أنزل فيه القرآن، وجعل صيامه ركناً من أركان الإسلام، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفتح فيه أبواب الجنان، وغلق أبواب النيران، وصفد المردة من الجان، فعلى المسلم أن يستغل هذا الموسم العظيم في الاستكثار من الطاعات والعبادات، والانتهاء عن الذنوب والمخالفات.

تفضيل الله عز وجل لبعض مخلوقاته

تفضيل الله عز وجل لبعض مخلوقاته الحمد لله، الحمد لله العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، القاهر لكل شيء، الذي لا يعجزه في الأرض ولا في السماوات شيء، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعمّ نواله، وعظم عطاؤه، فهو المحمود على كل حال وفي كل آنٍ، له الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، أتم به النعمة، وأكمل به الدين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأعز به من بعد ذلة، وكثر به من بعد قلة. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وسقانا جميعاً من حوضه. وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! رمضان ضيفنا المنتظر، تطوي الأيام مسيرتها اقتراباً منه، وشوقاً إليه، وتمر الليالي متواليات ليهل علينا -بإذن الله عز وجل- هلاله، وندعو الله عز وجل أن يجعله هلال يمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وهلال رشد وخير، ننال به من الله أجراً، ويمحو به عنا وزراً، ويجعله لنا في موازين حسناتنا ذخراً. كل ضيف لابد من معرفته قبل قدومه، وأحسب أن الجميع يعرف رمضان، وقد مر به على مدى أعوام وأعوام؛ ولكننا في كل مرة وعام نذكر من الصور المحزنة، والأحوال المؤلمة، والغفلة المستحكمة، والمعاصي المتكاثرة ما لعلنا نحتاج معه دائماً وأبداً إلى أن نجدد هذه المعرفة تجديداً يخلص إلى أعماق القلوب والنفوس، ويرشد خطرات وأفكار العقول، ودائماً نحن في حاجة إلى ذلك. فوقفة مع الحكم والآثار في الخصائص والاختيار نبدؤها بحق الاختيار والتخصيص الذي جعله الله عز وجل له وحده من دون سائر الخلق أجمعين: قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فليس لأحد أن يصطفي أو أن يختار زمناً فيجعل له مزية أو فضيلة، ولا مكاناً فيجعل له حرمة أو حكماً، ولا إنساناً فيجعل له شرفاً أو فضلاً، بل الله جل وعلا هو الذي له الحق وحده في ذلك كله. وقال عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وقال سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فاختار من بين الخلق صفوتهم، وجعلهم رسله وأنبياءه، وهو الذي جعل أيضاً من الأماكن أماكن خصت بالحرمة والأحكام في بلد الله الحرام ومدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم جعل من الأزمان أزماناً لها خصائص في الفضل ليس لأحد أن يعينها إلا هو جل وعلا، وأطولها مدىً وأكثرها زماناً وامتداداً شهر رمضان المبارك.

رحمة الله في تخصيص بعض مخلوقاته بالفضل

رحمة الله في تخصيص بعض مخلوقاته بالفضل الحكمة العامة في ذلك: رحمة الله جل وعلا بالخلق الذين يعلم سبحانه وتعالى طبيعتهم، وغفلتهم من بعد ذكرهم، وضعفهم من بعد نشاطهم، وفتورهم من بعد إقبالهم، فيدركهم الله عز وجل بحكمته ورحمته؛ ليقيل العثرات، ويمحو السيئات، ويضاعف الحسنات، ويفيض الخيرات، ويعمهم بالبركات، فإنهم ضعفاء ليست لهم قوة ولا حول إلا بحوله وقوته سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. والله تعالى جعل لنا من رحمته في أيام دهرنا نفحات نتعرض فيها إلى الرحمات، ونتطهر فيها من المعاصي والسيئات؛ لتتزكى النفوس، وتطهر القلوب، وتقبل الجوارح على طاعة الله عز وجل، ولو لم يكن ذلك كذلك لاستولت الغفلة، ولأظلمت النفوس، وقست القلوب، وعميت العيون، وصمت الآذان، إنها حكمة الخالق ورحمته الغامرة! فمن ذا الشقي الذي لا يتعرض لها؟ ومن ذا الغبي الذي لا يفطن لها؟ فحاول قليلاً من التدبر والتأمل بالفكر والعقل التماساً للحكمة، وقليلاً بل كثيراً من التعرض للخير والطاعة والفضل والرحمة.

ذكر بعض خصائص شهر رمضان

ذكر بعض خصائص شهر رمضان وهذا الشهر له خصائصه واختياره، وفيه من الخصائص والفضائل ما يضيق المقام عن حصره وذكره، فهو ركن مفروض، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وفي حديث ابن عمر الذي ذكر أركان الإسلام ذكر فيه الصيام. وهو مخصوص في النهار بالصيام، وفي الليل بالقيام؛ ليجتمع فيه من العبادات ما قل أن يجتمع في غيره من الأيام والليالي. وهو شهر مختص بالقرآن نزولاً ومدارسة، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، وكما قال ابن عباس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون حين يلقاه جبريل يدارسه القرآن). وله اختصاص في مضاعفة الحسنات وتكفير السيئات، كما في الحديث المحفوظ المشهور: (كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به). ويضاف إلى ذلك فتح أبواب الجنان في رمضان، وتخصيص باب الريان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان شهر رمضان فتحت أبواب الجنان، وأغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين) رواه أبو هريرة في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، ينادون على رءوس الأشهاد، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل دونهم أحد)، وغير ذلك مما تعلمون. وصيام رمضان جنة ووقاية، ومباعدة من النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة كجنة أحدكم في القتال)، حديث صحيح عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وصيام يوم يباعد بينك وبين النار سبعين خريفاً. كل هذه الخصائص وغيرها تجتمع في هذا الشهر، فما هي الآثار؟

الآثار الإيمانية لشهر رمضان

الآثار الإيمانية لشهر رمضان

التدرج في العودة إلى الله والقرب منه في رمضان

التدرج في العودة إلى الله والقرب منه في رمضان أقف -أيها الأحبة الكرام- مع ثلاثة آثار مهمة، جدير بنا أن ننتبه لها، وأن نتواصى بها: الأثر الأول: الإقبال والإكثار من الطاعات. ودعوني أذكر لكم ذلك ما يقع لي ولكم ولكل أحد في غالب الأحوال: أكثر الناس يصومون، فإن سألت أحدهم عن السبب يقول: لأنه ركن من الأركان، وفريضة من الفرائض، فيصومه وإن شق وثقل على النفس، وإن كرهه من القلب كما قد يحصل، لكنه يقول: لابد أن أصوم، فيشرع في ركن وفريضة هي مما افترضه الله عليه وأحبه منه، كما في الحديث القدسي: (إن أحب ما تقرب إلي به عبدي الفرائض). ثم إذا صام ماذا يقول؟ يقول: هل أصوم وأؤدي فرضاً، ثم لا أصلي؟! وهل أترك فريضة الصلاة الواجبة في كل يوم وآخذ فريضة الصيام التي هي مرة في العام؟! فيجول في ذهنه ذاك، فيقول: لابد مع الصيام من الصلاة، فيصلي إن كان تاركاً لها، أو مقصراً فيها، أو متخلياً عن أدائها في أوقاتها، أو متخلفاً عن شهودها في أماكنها، فيبدأ بالصلاة. ثم يقول: شهر رمضان شهر القرآن، وسأذهب إلى المسجد للصلاة، وسأمكث فيه أوقاتاً، فلمَ لا أرطب لساني بالقرآن؟! ولمَ لا أحيي قلبي بتلاوة كلام الرحمن؟! فيبدأ في تلاوة القرآن. ثم يتذكر أن هذا الشهر شهر مخصوص بقبول الدعاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم، ومنهم: الصائم حين يفطر)، ويتذكر أنه في وقت الأسحار يكون مستيقظاً، ويتذكر أن هذا هو الثلث الأخير من الليل الذي ينزل فيه رب العزة والجلال إلى السماء الدنيا وينادي برحمته سبحانه وتعالى عباده: (هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له، وذلك الدهر كله) فيبدأ حينئذ يلتفت إلى الدعاء، والدعاء مخ العبادة كما قال صلى الله عليه وسلم. فإذا بسجوده يطول ليكثر دعاؤه، وإذا بقنوته يطول ليكثر دعاؤه، وإذا به في أعقاب كل صلاة وفي كل وقت يرفع يديه إلى الله عز وجل متضرعاً وداعياً. ثم يقول: رمضان أعظم مواسم الإحسان من الكريم المنان سبحانه وتعالى، فلمَ لا أصوم وأحسن؟ ولمَ لا أصوم وأنفق؟ ويتذكر أجر تفطير الصائم، وأنه يناله كاملاً غير منقوص، ويتذكر أجر الصدقة ومضاعفتها، فيدخل في عبادة جديدة، وإذا به من غير شعور، وربما من غير عزم سابق قد ألم بهذه الطاعات كلها، وإذا بها لا أقول: تخف على نفسه؛ بل تصبح محبوبة له، يرغب فيها، ويشتاق إليها، ويحس بلذتها، ويتذوق حلاوتها، وذلك أثر معروف من آثار الطاعات، فالطاعة تجلب الطاعة بعدها، والحسنة تقود إلى الحسنة التي وراءها، وبذلك نجد هذا الأثر لمن تأمل في هذه الخصائص. ثم ينتقل إلى مرحلة أخرى -أيها الإخوة- وأريد أن يتصور كل أحد ذلك في نفسه، أليست هذه الخواطر التي ذكرتها تجول بالفعل، وتتدرج كما أشرت إلى تدرجها؟ ثم ينتقل إلى هذه المرحلة المهمة، وهي مرحلة الإتقان، فإذا صام يقول: لمَ لا أصوم وأخلص؟ وفي الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي). فيرتقي إلى مرتبة عظيمة: إخلاص ليس فيه شائبة رياء، وتعلق بالله عز وجل يعظم محبته في خالقه ومولاه، ويعلق قلبه به، ويتدرج ليبلغ في بعض الأحوال إلى درجة الإحسان، التي هي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. أليس ذلك أيضاً يجول في خواطرنا؟ ثم يقول -وهو الذي قد كان مفرطاً من قبل-: هأنذا أصلي، فلمَ لا أخشع؟ ولمَ لا أتدبر؟ ولمَ لا أحضر قلبي في صلاتي؟ ولمَ لا أكون فيها كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه في الحديث القدسي المحفوظ المشهور: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فإذا قال عبدي: الحمد لله رب العالمين. قال الله عز وجل: حمدني عبدي) إلى آخر الحديث، فيستحضر حينئذ أنه بين يدي الله، وأنه في مناجاة وصلة مباشرة مع الله، فيتغير قلبه، وتتبدل نفسه، ويصبح غير الذي كان من قبل، وذلك حاصل لنا جميعاً بتفاوت واختلاف في الدرجات، وربما ينكر قبله الذي يعرفه فيقول: هل أنا هو؟ أنا برقة قلبي، ودمعة عيني، وخضوع نفسي، وشعوري بهذه الروحانية الإيمانية، هل أصبح في صدري قلب غير قلبي الأول؟ وهل بثت في نفسي روح غير روحي الأولى؟ إنها نعمة كبيرة! ثم إذا به يتدرج في الإتقان، فيقول: أنا أنفق، فلمَ لا أنفق من الطيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، ولمَ لا أتيمم الأحسن من مالي فأنفقه؛ لأن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وكم من جولات فيها مشاحة للنفس في أول الشهر، لكنها تنفق، ثم إذا بها تكثر، ثم إذا بها تصطفي ما قد يكون عزيزاً أثيراً عندها فتنفقه في سبيل الله عز وجل؛ فيرقى العبد إلى مراتب الإتقان في هذه العبادات. ثم يتلو فيقول: ولم أتلو هذًّا كهذِّ الشعر؛ ولا يهمني إلا آخر السورة؟ لمَ لا أتفكر وأتدبر؟ ولمَ لا أفتح قلبي لأنجو من صفة الكفر والنفاق؛ لقوله عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]؟ وإذا بقلبه ينفتح، وإذا بأنوار القرآن تنسكب فيه، وإذا ببصيرته ترى ما لم يكن يرى من قبل، وإذا به يدرك في معرفة الأحوال والأوضاع ما لم يكن يعرفه من قبل، وإذا به يقارن حينئذ وهو يتلو، والقرآن يأمر، فيبحث عن نفسه هل هو حيث أمر الله في كتابه، والقرآن ينهى، فينظر في حاله: هل كان موجوداً في تلك الدائرة المنهي عنها. وتلك خصيصة، وذلك أثر عظيم من آثار الفضائل الرمضانية، فتأملوا فيه وتدبروه، واجتهدوا في تذكره واستحضروه.

مجانبة المعاصي والذنوب بالتدرج في رمضان

مجانبة المعاصي والذنوب بالتدرج في رمضان الأثر الثاني: مجانبة المعاصي والمحرمات. ومرة أخرى نبدأ ذلك بالتسلسل الفعلي الواقعي: يصوم فيترك الطعام والشراب، وهو الحلال الزلال؛ لأن الله أمر بتركه وحرمه في أثناء النهار، فيقول: فما بالي لا أترك الحرام الدائم على مدى الأيام والأعوام؟ أليس هذا نظراً عقلياً حصيفاً، ومنطقاً واضحاً جلياً؟ ويقول: ما بالي إذاً لا أنتبه إلى الخطورة التي أقارف فيها ما حرم الله وأنا أترك ما أباحه من طعام وشراب امتثالاً للنهي هنا، وتخلياً عنه هناك؟ قال صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب). ويفكر العقل فيقول: لمَ أجعل هذه الفريضة عناءً ونصباً وتعباً وأخرج منها بغير غنيمة ولا مكسب؟ إن العاقل لا يرضى لنفسه ذاك. ثم يتذكر مرة أخرى، وهو يستمع ويسمع كثيراً من النصوص التي يكثر ذكرها في رمضان، كحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم)، فيمسك لسانه ليتم صومه. وإذا به يقول: ما لي لا أمتنع عن الغيبة؟ ولمَ لا أترك النميمة؟ ولماذا لا أقطع السب والشتم؟ ولماذا أذكر فاحش القول؟ يتذكر هدي وشمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم. ثم انظروا أيضاً مرة أخرى وهو يستمع إلى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فيقول: كيف أصوم وأكذب؟! وكيف أصوم وأغش في بيعي وشرائي؟! وكيف أصوم وسهام عيني تخترق المحرمات؟! وكيف أصوم وأذني وعاء لكل النفايات من الأقوال الباطلة، والأغاني الماجنة؟! إنها سلسلة تتوالى عند المسلم إذا كان يقظ العقل حي القلب، وتلك الآيات تأتيه مرة أخرى، والأحاديث تتلى عليه مرة وأخرى، ثم إذا به يتأمل بعد ذلك كله وقد بدأ يترك تلك المحرمات، ويلتفت حينئذ إلى عاداته المذمومة التي بدأ يتركها. فالدخان الذي يواظب عليه، واللعب واللهو الذي يجعل له في كل يوم نصيباً، يقول: لمَ وقد تركت ذلك لا أترك هذا؟ وكذلك من علامة ترك المعصية: كره المعصية بعدها، ومن اجتناب المحرمات: نفرة القلب من المعاصي والسيئات.

رمضان فرصة عظيمة للمراجعة والمحاسبة

رمضان فرصة عظيمة للمراجعة والمحاسبة وأثر ثالث عظيم لابد من ذكره والتنبيه عليه، وهو فرصة المحاسبة والمراجعة: المواسم هي كذلك، فالناس يريدون أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يراجعوا بعد ذلك مسيرتهم، لكن الذي يقعدهم عن ذلك أمران اثنان: الأول: الانشغال في زحمة الحياة؛ نهار عامل، وليل ساهر، ولقاء بالناس دائم، فلا يفرغ لحظة ليقف مع نفسه لمحاسبتها. والسبب الثاني: ضعف العزيمة والإرادة، قد يجد الفرصة فيقول: لمَ لا أراجع؟ لكنه يعود مرة أخرى ويسير، يغض بصره ويصم أذنه حتى لا يواجه نفسه؛ لأنه يقول: من الصعب أن أترك هذا، من المستحيل أن أفعل هذا، من غير المتوقع أن أكون كذلك! فكيف تكون آثار رمضان في هذا الجانب؟ أولاً: زحمة الحياة التي نشكو منها. ففي رمضان فرص كثيرة متاحة للهدوء والسكينة، وفيه فترة من الزمان تستطيع فيها أن تفكر، فهل ثمة من ينشغل في الدقائق القليلة قبل الإفطار من كل يوم؟ أليس هو جالساً في بيته؟ أليس هو فارغاً من شغله؟ أليس جسمه قد استراح؟ أليس هو متهيئاً لإفطاره؟ فهي دقائق قليلة معدودة، لكنها من أعظم الفرص في الهدوء والسكينة، ومن أعظم الفرص في خلو البال وهدوئه، وحينئذ تثور أسئلة المحاسبة، وتبدأ خطوات المراجعة. وانظر أخي مرة أخرى في رمضان وقيام الليل، ووقت السحر، من عندك يشغلك؟ ومن معك يتحدث إليك؟ إنك وحدك في جوف الليل، بل في ثلثه الأخير، أفليس وقتاً خلصت فيه من ضجيج الحياة وصخبها إلى هدوء الليل وإلى مناجاة الله عز وجل ودعائه؟ أفليس ذلك الوقت مناسباً لجرد الحساب؟ قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر). وأيضاً: ففي رمضان يسن الاعتكاف، وفيه تقطع الصلة بالخلق؛ لتفرغ نفسك للصلة بالخالق، وتقطع علائق الدنيا لتمد حبال الوصل بالآخرة، أفليست أياماً وليالي مقتطعة من العمر لتكون فرصة لهذه المراجعة والتذكر؟ حري بنا -أيها الإخوة الأحبة- أن ننتهز تلك الفرصة. وأما العزيمة الضعيفة المهزومة في غير رمضان فهي فتية وقوية وأبية في شهر رمضان، فحينئذ تقول: قد انتصرت فتركت طعامي وشرابي، قد انتصرت فاستطعت أن أغلب شهوتي ولذتي؛ فحينئذ بإذنه جل وعلا تنتصر، فتجدد المسيرة، وتراجع طريقك الذي تسير فيه، وحينئذ تتنزل الخيرات والبركات. نسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، وأن يجعلنا فيه من المقبولين ومن عتقاء الرحمن الرحيم في هذا الشهر الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

صور مناقضة لما هو مطلوب في رمضان

صور مناقضة لما هو مطلوب في رمضان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ورمضان موسم التقوى الأكبر والأعظم؛ إذ تتزود فيه القلوب بهذه التقوى. ما ذكرته -أيها الإخوة الأحبة- أحسب أنه استنباط يطابق الواقع، وأنه أمر من الأمور المهمة التي ينبغي أن نتهيأ بها لاستقبال شهرنا. ولعلي أقف هذه الوقفات في نوع من ذكر الجمل والكلمات مع قليل ويسير من التعليقات؛ لنرى كثيراً من صور التناقضات وأحوال المفارقات التي تباعد بيننا وبين تلك الآثار والخيرات والبركات. شهر رمضان شهر الجد والعمل، أفليست صور كثيرة واستعدادات كثيرة تظهر الخمول والكسل؟ وشهر رمضان شهر الجود والإنفاق، أفليست في واقعنا صور من التبذير والإسراف؟ وشهر رمضان شهر المكارم والخصائص، فما بالنا في كثير من أحوالنا نجعله شهر المعايب والنقائص: فلا تضيق الصدور إلا فيه، ولا يشتد الغضب إلا في أيامه، ولا يعظم اللهو إلا في لياليه، ولا تكثر وتتعاظم بعض أسباب الإغراء والإغواء إلا فيه؟! أفليس هذا أمراً ظاهراً بين لا يحتاج إلى إقامة دليل ولا برهان؟ رمضان شهر التلاوة والذكر، والواقع لدى بعض الناس أنه شهر الغفلة واللهو، فتراهم ينامون حتى عن صلواتهم المفروضة، ويسهرون على المحرمات المقطوع بحرمتها دون أدنى شك. رمضان شهر المناجاة والدعاء، وهو عند كثير من الناس شهر اللغو والغناء، حيث يجتمعون في كل ليلة ليكون لهم حديث ليس له خطام ولا زمام، ولا نفع ولا فائدة، بل هو حديث في كثير منه يكون عليهم لا لهم، وفي مضرتهم لا منفعتهم، فضلاً عما يكون في الليالي مما هو غير مباح. رمضان شهر الصبر والانتصار، لكننا نجعله في بعض أحوالنا شهر الضيق والاندحار، فكم من شخص تراه في رمضان كأنما كتب على جبينه الهزيمة، وكأنما هيئته تمثل أعظم صور الاندحار والضعف والهوان، وتعجب من ذلك! ولا عجب إذا عرفنا أن فقه الصيام إذا لم يكن في القلوب والنفوس فلن تظهر آثاره على الأجسام والأبدان. رمضان شهر الحمية والصحة، وإذا بنا نجعله شهر الشراهة والبطنة، فثمة أطعمة لا نراها ولا نسمع عنها إلا في رمضان، وكأن الصيام لا يتم على وجهه الحقيقي؛ بل ربما لا يصح الصيام عند بعض الناس على الوجه المشروع إلا إن كانت تلك الأكلة أو ذلك الشراب موجوداً، وهذا أيضاً من واقعنا. رمضان شهر التراويح والتهجد، لكن يجعله كثير من شبابنا وشاباتنا بل -وللأسف- رجالنا ونساؤنا شهر التسكع والتسوق، فتبقى الأسواق ساهرة حتى تخلط ليلاً بنهار، وتعمي في حقيقة الأمر القلوب والأبصار. أيها المؤمنون الأذكياء العقلاء! لا تكونوا من الحمقى والمغفلين، فاشتروا ما تريدون في الأيام الأولى من رمضان، ولا تكن النساء كذلك من المغفلات المضيعات للأوقات الشريفة الفاضلة في البحث عن الأكسية والأحذية، فأمة تصنع ذلك رغم ما حباها الله به من الفضائل والخصائص فعلها ذلك أقبح القبيح، وأشنع الشناعة! رمضان شهر الإخاء والوحدة، ونجعله في بعض أحوالنا شهر الأنانية والعزلة، وننسى أحوال إخواننا الذين يصومون معنا في أرض فلسطين، ولعلكم سمعتم ورأيتم ما مضى خلال هذا الأسبوع من تشديد الجرائم التي مع كثرتها تتعود عليها العيون والقلوب والنفوس، فلا شيء يتغير أو يتأثر، إنها حملة صهيونية باغية إرهابية على إخواننا في رفح من أرض فلسطين، فالبيوت المهدمة أكثر من مائتين وخمسين بيتاً خلال أسبوع واحد، وفي ليلة واحدة وباتصال هاتفي من تلك الديار كان عدد الذين باتوا في العراء أكثر من ألفين وخمسمائة نفس من الرجال والنساء والأطفال! وهناك صور كثيرة في العراق المحترق بدخانه وأمنه الغائب، ورغد عيشه المفقود! وهكذا أحوال أمتنا هنا وهناك، بل إلى جوار بيتك، بل في حيك، بل في قرابتك! أين هذه الروح التي توحد الأمة، وتذكرها بإخوتها؟ رمضان شهر القدوات والمنجزات، شهر كان من موتاه الشهيد الحي خالد بن الوليد رضي الله عنه، ومن آثاره فتح الفتوح في فتح مكة، ويوم الفرقان في يوم بدر، ثم نجعله شهر التفاهات والسخافات، فنأتي بالمقابلات مع الفنانين والفنانات، ونسألهم: ماذا يأكلون؟! وأي شيء يشاهدون؟! ومتى ينامون؟! ومتى يستيقظون؟! وكأن تاريخنا وأمتنا قد انتهت إلى سقط المتاع، وإلى هذا القول الرخيص الذي ينبغي أن نتنزه عنه! وغير ذلك كثير. أسأل الله عز وجل أن يعصمنا بعصمته، وأن يتداركنا برحمته، وأن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم إنا نسألك لأبداننا الصحة والسلامة، ولقلوبنا الصفاء والنقاء، ولنياتنا الإخلاص والتجرد، ولأعمالنا الصحة والصواب، ولأجورنا المضاعفة والكثرة يا رب العباد! اللهم إنا نسألك أن تبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اجعلنا اللهم من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم أقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وزد خيراتنا، ووفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب وترضى يا أرحم الراحمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد؛ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم يا سميع الدعاء! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! نسألك اللهم أن تذل الشرك والمشركين، والكفرة والكافرين، والطغاة المتجبرين، اللهم عليك بهم أجمعين، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر. اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغ لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية. اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم. اللهم رد عنا وعن إخواننا المسلمين كيد الكائدين، وادفع عنا شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم وأموالهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تلطف بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى، والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم واجعلنا لهم مناصرين، ولهم مؤيدين، واجعلنا لهم معينين، وسخرنا لنصرتهم وإغاثتهم وإعانتهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! ثبت اللهم خطوتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. والحمد لله رب العالمين.

روح العطاء والإباء

روح العطاء والإباء إن روح العطاء والإباء والاستعلاء بهذا الدين والعمل له مستمرة ماضية عبر الدهور والعصور، ولنا في كل عصر علماء ورجال كان لهم من صلابة الموقف، وثبات الأقدام، وقوة الجنان القِدْح المعلى، فحافظوا على الدين من عبث العابثين، واستهزاء المستهزئين، فحري بنا الاقتداء بهم، والاعتبار بمواقفهم في نصرة هذا الدين.

صور ومواقف من العزة والإباء

صور ومواقف من العزة والإباء الحمد لله حمداً يليق بجلاله، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: روح العطاء والإباء قضية ينبغي أن نبثها في القلوب، وأن نشعل نارها في النفوس، سيما وقد تحدثنا في الجمعتين الماضيتين عن أمور من التقصير والتفريط أوصلت إلى اعتداءات عظيمة على الأمة ومقدساتها، وأسلفت القول أن من أسباب ذلك أسباباً تتصل بتقصيرنا وبتفريطنا، ولعل ذلك كان له وقع شديد على النفوس. ومن هنا رأيت اليوم أن نجول في قصص متنوعة وأخبار متفرقة، يجمعها أنها كانت تبذل لدين الله وتعطي لدعوة الله، وتسخر كل ما بين أيديها ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى، ومواقف أخرى نرى فيها صلابة المواقف وثبات الأقدام وقوة الجنان في مواجهة كل ما قد يكون فيه امتهان للدين أو استحقار لقدر أهله، أو امتهان لدعوته، أو أي صورة لا يقبلها مسلم غيور أو مؤمن أبي، ولست في هذه القصص معتبراً لتاريخ متسلسل ولا لرابط معين، وإنما هي مواقف متنوعة، أحسب أن في تنوعها ما قد يربطنا بها، ويجعل لنا جميعاً حظاً منها، إذ لو قصصنا قصصاً عن العلماء فقد يقول كثير منا: نحن لسنا من العلماء، وإن قصصنا أخبار الأمراء فقد يقول كثير منا: نحن لسنا منهم، لكننا سننوع حتى يرى كل أحد منا أنه ينبغي أن يترجم حبه لدينه وغيرته عليه إلى صور من صور العطاء والإباء تبقي هذا الدين شامخاً عزيزاً، عالية رايته، خفاقة بنوده، لا يستطيع أحد مهما بلغ من قوته وجبروته وغطرسته وكبريائه أن ينال منه أو من أهله وأتباعه.

سلطان العلماء وبائع الأمراء

سلطان العلماء وبائع الأمراء وأبدأ بمواقف شهيرة لرجل عظيم عرفه تاريخ الإسلام وسجل سيرته ومآثره؛ لأنه أعطى ووقف المواقف المشرفة، وهو العز بن عبد السلام، سلطان العلماء وبائع الملوك كما اشتهر في التاريخ، رجل من أهل العلم يتوقد قلبه غيرة على الإسلام، وتفيض نفسه حمية لنصرته، وتأبى عزته وكرامته أن يذل أو أن يلين. تلقى العلم حتى تفوق في أصوله وفروعه، ثم ولي الخطابة في الجامع الأموي بدمشق، فصار يبلغ دين الله ويحيي في القلوب المعاني الإسلامية الإيمانية العظيمة، لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمنعه من قولة الحق خوف مضرة. لما وقع من أمير الشام الملك الصالح إسماعيل انحراف عظيم لوضع يده في يد النصارى المسيحيين ضد ملك المسلمين في مصر الملك الصالح أيوب، وكان ثمن هذه الصفقة الخاسرة أن سلم للنصارى صفد وصيدا وغيرها من البلاد، فنطق لسان الحق وظهرت غيرة الإيمان، وتجلت حمية الإسلام في العز بن عبد السلام، فأنكر ذلك وصرح به، وجلّى موقف الإسلام وأبدى أحكامه في شأن هذا الولاء للأعداء والموالاة لهم ضد المسلمين. وحين قال كلمة الحق عزل عن خطابته، وأقصي من منصبه، فما كان منه بعد ذلك إلا أن حمل متاعه وزاده، ورأى أن لا مقام له ببلد لا يستطيع أن يقول فيه الحق ولا أن يبلغ الدين، فانطلق إلى مصر، فبلغها واستقبله ملكها وأعظم قدره ورفع مكانه، وجعله قاضي القضاة، وجعله خطيباً. ثم لما نظر في حال مصر وجد أن جل الأمراء الذين يستعين بهم الملك الصالح هم من المماليك الذين غلبوا على الحكم في مصر، وهم أرقاء عبيد، فقال قولة الحق: إن هؤلاء لا تصح لهم ولاية، ولا يصلح منهم في حكم الشرع تصرف في بيع ولا شراء، وسارت فتاواه بذلك، وبلغت إلى نائب الحاكم في مصر وهو من أولئك المماليك، فاشتاط غضباً، ثم مضى إلى الملك الصالح أيوب يشكو هذا العالم، فاستدعاه فسمع منه ولم يعجبه قوله؛ لأنه يعني أن جل المسئولين سيكونون تحت هذه الدائرة، وكان بينهما حديث، فكأن الملك زاد في غلظة قوله بأنه ليس هذا من اختصاصك ولا من شأنك، فخرج العز بن عبد السلام ولم يصنع شيئاً، إلا أنه عزم مرة أخرى على أن يشد رحاله ويضرب في أرض الله عز وجل، وأدرك ملك مصر فداحة الأمر وخطورته، وأن ذلك سيكون له في الناس أثر عظيم، فأرسل إليه يستعطفه ويستلطفه ويعتذر منه، فقبل بشرط واحد وهو: أن يمضي حكم الله في أولئك بأن يجعل حريتهم صحيحة بطريق شرعي. وكيف ذلك؟ بأن ينادي عليهم بيعاً ويزيد في سعرهم، فيشتريهم الملك ويشتريهم بعض من يرى ذلك فيعتقهم، ويكون المال لبيت مال المسلمين، وجرى الحراج على الأمراء، وسمي من بعد: (بائع الملوك وسلطان العلماء)، وأنفذ أمره وقرر ما حكم به شرع الإسلام، ثم كان الأمر من بعد على ما كان من أمر العز بن عبد السلام رحمه الله ورضي الله عنه. وهذه صورة تدلنا على المواقف العظيمة التي يقفها العلماء الصادقون المخلصون الذين ملئت قلوبهم بالإيمان واليقين، فلم يكن فيها مساحة لتمتلئ بالدنيا وتعظيم أهلها، أو الخوف من أمرائها وذوي السلطان فيها، وذلك ما كان منه رحمه الله ورضي الله عنه، حتى إنه عندما دعا الظاهر بيبرس لمبايعته أعاد عليه القول في صحة حريته، فأخرج له ما يثبت ذلك، فبايعه مع عموم الناس. وذلك أمر بين، وسمت معلوم عند من يعرف حقيقة الدين، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، وكذلك ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، ومن قبل جاء قوله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].

مهندس مسلم يفرغ نفسه لتصحيح صورة الإسلام في الغرب

مهندس مسلم يفرغ نفسه لتصحيح صورة الإسلام في الغرب وأنتقل إلى صورة أخرى بعيدة في زمانها ومكانها، وفي طبيعتها وشأنها، إنها صورة مهندس مسلم أحسب بل أكاد أجزم أن أحداً منا لا يعرف عنه شيئاً. عاش في دولة أوروبية في أوائل القرن الماضي، وأسس مجلة سماها: (بريد الإسلام) عام (1929م)، وفرغ نفسه لتصحيح صورة الإسلام في بلاد الغرب، ومراسلة القوم مراسلة متصلة أفضت في جملة جهوده إلى أن أسلم على يده نحو أربعة آلاف نفس. كان في بعض طرقات تلك البلد لوحات صغيرة تعلق، مكتوب عليها: لقد عرفت خطأً عن الإسلام، فإذا أردت أن تعرف الحقيقة فراسل هذا العنوان، فستأتيك الكتب والتعريفات، فتأتيه المراسلات ويراسل ويرد ويجيب ويعيد ويزيد، حتى يكون من ذلك إما إسلام، وإما معرفة حقة للإسلام وبعد عن الصورة المغلوطة والحقد الأسود. وفي تجربته حصل أن بعض المراسلات استمرت سبعة عشر عاماً، أخبر فيها: أن رجلاً من تشيكوسلوفاكيا كان يراسله على مدى سبعة عشر عاماً، ثم زاره بعدها، وعندما لقيه قال له: إن لي عندك مفاجأة، فقال: وما هي؟ فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ففرح بذلك فرحاً عظيماً. وأي جهد هذا الذي يبذله عندما كان يكتب، لكنه يقول: إنه راسل نحو مائة ألف شخص عبر هذه المدة الطويلة، ومن لطائف ما ذكر من القصص: أنه كان يراسل رجلاً ألمانياً، وفي هذه المراسلات ذكر له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دعا إلى الإسلام كان أول من أسلم على يديه من الصبية والصغار: علي بن أبي طالب، ومن الرجال: أبو بكر الصديق، ومن النساء: خديجة رضي الله عنها، وعندما راسله وطالت المراسلات كان له ابن يطلع على بعض هذه المراسلات، وعندها قرر الأب أن يسلم، وأعلن إسلامه في مراسلته، فأرسل له هذا المهندس يهنئه ويرسل له شهادة بإسلامه، وحينئذ راسل الصبي مرة أخرى، وقال: إني أريد أن ترسل شهادة باسمي حتى أوقعها، فأرسل إليه: إنك صغير حتى تكبر وتتعرف على حقائق الإسلام، فأعاد إليه الرسالة: وهل طلب محمد صلى الله عليه وسلم من علي بن أبي طالب أن يستأني ويتريث حتى يكبر ثم يدخل في الإسلام؟! فأرسل إليه بما أراد. وذكر قصة عن صيدلي وامرأة من الديانة الكاثوليكية المسيحية، فراسلهما وقتاً طويلاً، ثم طلبا منه أن يحضر إليهما، فأعطاهما سمته وشكله حتى يعرفاه، وعند محطة القطار ذهب معهما إلى البيت، فكان أول سؤال عند دخوله: هل أنت متوضئ؟ فأجاب بنعم، فقالا: ونحن متوضئان، فصلِّ بنا، وذلك في أول صلاة لهما. وهكذا نجد أن جهداً من فرد واحد يثمر في بيئة غير المسلمين مثل هذه الثمار، ولا يقول أحد إنني أعجز عن مثل هذا، ولكنه تلمح الأجر وابتغاؤه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من دعا إلى هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة). أفليس كل واحد يستطيع أن يصور صفحة من كتاب فيبعثها هنا أو هناك، أو أن يأخذ شريطاً لغيره من أهل العلم والدعوة فيرسله هنا أو هناك، أفلسنا نستطيع أن نكون من ذوي العطاء، ومن ذوي العلم، ومن ذوي القدرة على الحجة وإن لم يكن ذلك بأنفسنا فعن طريق هذه الوسائل الكثيرة التي يسرها الله لنا.

امرأة تسببت في هداية حاكم

امرأة تسببت في هداية حاكم وأنتقل إلى صفحات تاريخية أخرى، وإلى نوع آخر حتى لا يبقى لأحد خروج عن دائرة ما نتحدث عنه، أنتقل إلى دور المرأة المسلمة لنرى مواقفها، لنرى أن أهل الإسلام كلهم يتحملون المسئولية، فليس ثمة فرق بين رجل وامرأة، فكلهم يحمل هم الإسلام ويبلغ دعوته ويذود عنه، ليس هناك فرق بين صغير ولا كبير، فلقد رأينا صغار الصحابة كيف كانوا يتنافسون ليدخلوا في صفوف المجاهدين وهم في نعومة أظفارهم وأول بلوغهم. امرأة كانت سبباً في هداية حاكم، كان أحمد بن طولون حاكم مصر في زمن مضى، وفي أول عهده كان ظلوماً غشوماً، وفي سطوة جبروته وسكوت كثيرين عن الإنكار عليه خوفاً منه، اعترضت طريقه امرأة وسلمته ورقة هذا نصها: ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وأنعم الله عليكم ففسقتم، ووردت عليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة -وتعني بذلك دعوات المظلومين- لا سيما من قلوب أجعتموها وأكباد أوجعتموها، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فوقعت الكلمات في نفسه موقعاً، وعاد من ظلمه عادلاً، وحسنت سيرته في الناس. أفكان يعجز أن يقول هذا عالم مخلص أو داعية صادق أو رجل جريء، أفكان يعجز عن مثل هذا عموم الأمة حتى انتدبت له امرأة سجل التاريخ كلماتها وموقفها، وذلك دليل إخلاص وتجرد، فإن قول الحق ابتغاء وجه الله عز وجل ونصرة لدينه قد يكون له من الأثر أبلغ وأعظم مما قد يظن صاحبه. وهنا أستحضر لكم حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه وسنده حسن، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة)، فلنكن من هذه الغراس التي تستعمل في طاعة الله. لو أن كلاً منا قال كلمة، أو منا كتب رسالة، أو وقف موقفاً، أو رفع دعوة، أو سكب دمعة، أو زفر زفرة بحرقة؛ لوجدنا كثيراً من الخير يعم، ولوجدنا كثيراً من الحق يصل إلى الآذان ويبلغ القلوب، فلا بد من روح العطاء ولا بد كذلك من روح الإباء.

الخليفة الخامس: عمر بن عبد العزيز

الخليفة الخامس: عمر بن عبد العزيز وأنتقل إلى صورة أخرى، فإن الخير في أمة الإسلام في كل إنسان، وهذه صورة لحاكم عادل منصف قائم بحق الله في رعيته، إنه الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز، وكلكم يعرف خبره، وهذه ومضة من ومضات سيرته العطرة: عندما تولى الخلافة في أول أمره جاءه أقرباؤه من بني أمية يسلمون عليه ويباركون له ويهنئونه، وينتظرون منه الأعطيات والولايات، كما كان الشأن في عهد من سبقه، وكما درج على ذلك ملوك بني أمية، فوقف عمر بن عبد العزيز وقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم على جند من هذه الأجناد؟ فإني أجعلكم قواداً للجيوش المجاهدة في شرق الأرض وغربها، فسكتوا ونطق أحدهم: قال: ومالك تعطينا ما لا تأخذ لنفسك؟ أي: لم تجد لنا من الولايات إلا قيادة الجيوش التي فيها ما فيها من النصب وإزهاق الأرواح وسفك الدماء؟! فالتفت عمر بن عبد العزيز وقال: أترون بساطي هذا، إني أعلم والله إنه إلى بلى؛ لكني لا أريد أن تطئوه لئلا تدنسوه بما أنتم عليه، فكيف أكره ذلك وأكره أن تدنسوه علي بأرجلكم ثم أوليكم ديني وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم، هيهات هيهات! فقالوا له: لمه؟ أما لنا قرابة؟ أما لنا حق؟ فقال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، إلا رجل حبسه عني طول الشقة. ولقد كان للأمراء وحكام المسلمين في عصور مختلفة دائماً وأبداً أمثلة رائعة، ليس في الزمن الغابر فحسب، بل حتى في أزمان متأخرة، كما كان من أوران الذيب عالم كبير في الهند، وكما كان من صديق خان في بهبال وفي غيرها من البلاد التي أثمرت تلك المواقف العظيمة.

العلامة عاطف أفندي

العلامة عاطف أفندي ثم أنتقل بكم إلى صور أخرى يتجلى فيها أثر الإباء والاستعلاء بصورة أكبر وأكثر، حتى نرى أن العطاء له أثر، ولكن ربما كان لموقف إباء آثار أعظم من كثير من العطاء؛ لأن الإباء يدل على أن المؤمن الحق لا يرضى ولا يقبل أن يعطي الدنية في دينه. أتاتورك الذي حارب الإسلام وقوض الخلافة وأعلن العلمانية، وغرب بلاد الإسلام، وفعل الأفاعيل في وقته، وفي زمانه خضعت كثير من الرقاب له وخافت من سطوته، لكن أبطالاً من العلماء وأئمة من أفذاذ الدعاة وقفوا له، ومنهم عالم مغمور السيرة لا يكاد يعرفه أحد، هو الشيخ الإمام عاطف أفندي. قف هذا الإمام ضد هذه الموجة العاتية مع نفر قليل من العلماء أمثاله، فأصدر حينئذ الفتاوى التي تعلن وجوب إقامة الخليفة المسلم، وأن ذلك ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، في الوقت الذي قوضت فيه الخلافة، ثم أصدر رسالة أسماها: (التستر الشرعي)، تختص بشأن المرأة المسلمة وأحكام حجابها وضرورة حيائها، وأهمية عفتها في الوقت الذي نزع فيه الحجاب وأبيح الخمر وغير ذلك. ثم سطر رسالة في تقليد الفرنجة ولبس القبعة؛ لأنه قد ألغي لباس المسلمين وصار محرماً بحكم القانون، فمن كان يلبس لباس أهل الإسلام أو لباس العلماء يحال إلى المحكمة ويسجن، وهذا يصدر رسالة يفتي بها بأن التقليد للغرب على سبيل التعظيم قد يخرج صاحبه من الملة، وعلى سبيل الافتتان معصية كبيرة، وما كان له بعد ذلك أن يترك، فقد أخذ وسجن وحوكم وحكم عليه بالإعدام وأعدم لقوله الحق في شأن قبعة أنكر على من يلبسها تعظيماً لغير أهل الإسلام وتبكيتاً لأهل الإسلام. وهكذا سنجد الصور كثيرة، وهي عديدة حتى في زمننا الحاضر، وأردت بهذا التطواف اليسير أن ندرك تماماً أننا إذا أذكينا هذه الروح فسنجد أنهاراً متدفقة تبلغ كلمة الله وتبلغ دين الله عز وجل، وسنجد أيضاً سدوداً منيعة تقف أمام كل من تسول له نفسه أن يجترئ على حكم من أحكام الشريعة، أو أن يستهين بسنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم. لماذا إذا وجدنا شيئاً من ذلك لم تكن لنا ألسنة ناطقة ولا أيد كاتبة؟ لم لا نوصل أصواتنا ونوصل آراءنا ونوصل غضبتنا إلى كل من يحتج أو يعترض أو ينتقد فضلاً عمن يستهين أو يهين شيئاً من شعائر الإسلام؟ لو فعلنا ذلك لرأينا عجباً من أمور حياتنا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

صور من الاستغناء مع الإباء

صور من الاستغناء مع الإباء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واستحضروا عظمة الله سبحانه وتعالى وحسابه والوقوف بين يديه في كل موقف يمر بكم في دنياكم. ولعلي أستكمل بعض المواقف فيما نحن في أمس الحاجة إليه، فإن المواقف في الإباء مهمة إذ لو أننا أبينا أن ننصر الباطل بكلمة تؤيده، بل حتى بنظرة تشجعه، أو مال نبذله، لو أننا قاطعنا كل ما يؤدي إلى التهجم على ديننا، وتقوينا بمواجهته بإبلاغ الحق وتوصيله؛ لحصل لنا خير عظيم، ولرأينا أثر ذلك حسناً، ولعلي أشير إلى صور من الاستغناء مع الإباء في أمور يسيرة فكيف بما هو أعظم منها.

الإمام المحدث عيسى بن يونس

الإمام المحدث عيسى بن يونس فهذا عيسى بن يونس من أئمة الحديث، أرسل إليه المأمون بابنيه يستمعان الحديث ويأخذان عنه، فواظبا مع الناس في المسجد، ثم أرسل له من بعد بعشرة آلاف دينار، فردها وأباها، فظن المأمون أنه استقلها، فأرسل إليه بعشرين ألفاً، فردها. وفي بعض الآثار: أنه عندما ردها سقطت وانتثرت هذه الدنانير وقال: ولا إهليلجة ولا شربة ماء على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ملأت هذا المسجد من أرضه إلى سقفه ذهباً، وذلك استعلاءً وإباء لأهل العلم حتى يكونوا حينئذ على قوة في الحق وصدق وجرأة في الموقف.

مواقف أخرى

مواقف أخرى وعاطف أفندي الذي ذكرنا قصته قبل سقوط الخلافة دعي إلى إفطار عند الخليفة، وبعد ذلك أراد أن يقدم له هدية فاعتذر منه وقال كلمة جميلة قال: أرجو ألا تعودوني على قبول الإحسان، ثم دعي في وليمة لفراش صغير قد قدم له خدمة، فأجاب الدعوة، وذهب إليه وأكل من طعامه، وأراد هذا أن يكرم هذا العالم فقدم له هدية، فاعتذر منه ولكنه قال له كلمات أجمل: إن لمهمتي والقضية التي أعمل لها حساسية تمنعني ولا أستطيع معها تحمل مثقال ذرة من هذه الأعطيات المادية. وهكذا كان هناك موقف مشابه للعز بن عبد السلام، إذ إن الملك الصالح إسماعيل عندما داهن ووالى النصارى وسمح لهم بالدخول إلى دمشق وشراء الأسلحة التي سوف يحاربون بها المسلمين، فأفتى بكل قوة ووضوح وجرأة بعدم جواز بيع السلاح لهم؛ لأنه يفضي إلى مضرة المسلمين وقتلهم. وكم من أمور كثيرة قد نسهم فيها بالشراء ودفع الأموال وتعود هذه الأموال رصاصاً في صدور إخواننا المسلمين، أو تعود استعباداً لبلاد المسلمين، أو تعود امتهاناً لحرمات ومقدسات المسلمين، أفيكون قليل من تلك الأنواع التي نشتريها أحب إلى نفوسنا من ديننا؟ أفتكون حاجتنا إلى قليل من البضائع أو إلى قليل من الأشياء نحتاج إليها أعظم عندنا من حاجتنا إلى إعزاز ديننا؟ إن الإباء صورة قوية من صور العطاء والاستغناء والقدرة على بناء الذات ومواجهة الأعداء. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يقوي إيماننا، وأن يرسخ يقيننا، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين! اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك أن تردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، ووفقنا اللهم لطاعتك ومرضاتك! اللهم أنزل علينا الخيرات، وأفض علينا البركات، وأنزل علينا الرحمات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت، وضاعف اللهم لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن ترفع بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم نكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء دينك فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة عليهم، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم الطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

الحرب الظالمة

الحرب الظالمة الصراع بين الحق والباطل صراع قديم، ولا يزال مستمراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإذا كان للباطل في بعض الأزمنة صولة وجولة فإن للحق صولات وجولات. وإن الظروف الحرجة التي تمر بالمسلمين في العراق، وتسلط الباطل وأهله لاسيما الأمريكان؛ إنها مؤذنة بالفرج القريب والنصر المرتقب، إن أخذ المسلمون بوسائل النصر وأسبابه، من العودة إلى الله، والاستعانة به، والأخذ بالأسباب المادية وإعداد القوة.

الظلم والعدوان شريعة الأمريكان

الظلم والعدوان شريعة الأمريكان الحمد لله المستفتح باسمه في كل أمر، المستعاذ به من كل شر، المستعان به في كل خطب، المستنصر به في كل حرب، الملتجأ إليه في كل بر، له الحمد سبحانه وتعالى هو المحمود على كل حال، لا نحصي ثناءً على نفسه هو كما أثنى على نفسه، هو أهل الحمد والثناء، وله الحمد ملء الأرض والسماء، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمةً للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصل اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! في الحرب الظالمة مسائل ورسائل، نقف مع المسائل لمزيد من الكشف والبيان والإيضاح، ونوجه الرسائل لمزيد من الوعي والإدراك والعمل والإصلاح. وما من شك أننا على يقين أن في قضاء الله وقدره حكمةً ورحمة، وأن فيه للمؤمنين خيراً ولو بعد حين، هذه أمور لا بد منها، وربما ظن بعض الناس أن هؤلاء الحلفاء من البريطانيين والأمريكان فاجئوا الناس ببغيهم وعدوانهم وكشفوا عن شيء مخبوء لم يكن معروفاً، أو أظهروا شيئاً كأنما جاء فلتةً من غير قصد، أو كأنما جاء بسبب عارض أو بظرف خاص، ونريد أن نؤكد غير ذلك. المسألة الأولى: الظلم والعدوان شريعة الأمريكان، ولا بد أن نعرف الحقائق على وجهها حتى لا نظنها خاصةً بوضع أو بحال أو بزمان أو بمكان بعينه، بل هي أوسع من ذلك وأشمل، وهي أدق من ذلك وأعمق، وهي أخبث من ذلك وأكثر شراً وضراً. يقول رئيسهم عند توليه الحكم قبل أن تحدث الأحداث التي يزعمون أنها سبب لما يجري، يقول في خطاب ترشيحه: إن لأمريكا زمن القوة العسكرية التي لا منافس لها، وطريق الأمل الاقتصادي والنفوذ الثقافي، إنه السلام الذي يأتي بعد الانتصار الساحق. هذا هو المفهوم: سيادة ثقافية وهيمنة اقتصادية، وفوق ذلك مواجهة وعدوان وظلم وبغي بالوسائل العسكرية؛ ليعم من بعد ذلك الانتصار الساحق كما يزعم من يهوى ذلك، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206]. ولئن تنزلت هذه الآيات وذكر أهل التفسير أنها في المنافقين فهي في وصف الكافرين من باب أولى وأظهر، وذلك يتجلى في هذه الكلمات التي سمعناها، وليس ذلك في فلتةٍ عابرة بل هو جوهر السياسة والتوجه، ففي وثيقة السياسة الخارجية التي اتخذها الرئيس سمةً ومنهجاً له وأقرها: أن هذه السياسة يمينيةٌ من حيث العقيدة لبعديها السياسي والديني، وتسعى لتحقيق مصلحةٍ قوميةٍ عُليا كونياً واقتصادياً وثقافياً، وتتجاوز كل تحركات أمريكا من أجل ذلك على مدى قرون سابقة، إنها الحركة التي تعكس كياناً إمبراطوريا يسعى للوجود في كل بقعة من بقاع الأرض يسعى للوجود سواء كان وجوداً مباشراً أو غير مباشر. ومدير التخطيط للسياسة الخارجية يلخص في سطرين اثنين الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية في القرن الواحد والعشرين فيقول: هو إدماج بلدان ومنظمات أخرى في الترتيبات التي سوف تدعم عالماً يتسق مع المصالح والقيم الأمريكية، فهم لا يرون أحداً غيرهم ولا يعرفون قيمةً ولا مقاماً لثقافة أو حضارةٍ أو أمم أو شعوب غيرهم، ولسان الحال لسان فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] كذبوا وخابوا وخسروا! وإذا تأملنا فإننا نجد الأمر أوضح من ذلك في كثير من الجوانب التي ليس هذا مقامها.

الغطرسة والطغيان منهج للأمريكان

الغطرسة والطغيان منهج للأمريكان مسألةٌ ثانية: الغطرسة والطغيان منهج الأمريكان. إنهم لم ينفردوا عن العالم كما يقولون في هذه الحالة الشاذة، بل إنهم يريدون أن يقرروا ذلك ويكرسوه حتى يسيروا فيسير العالم كله من وراءهم، ويقولوا فينصت العالم كله لهم، ويأمروا فتستجيب الدنيا بأقطارها ودولها وأممها وحضاراتها لهم، وذلك يقولونه بألسنتهم ويقررونه في وثائقهم ويعلنونه في محافلهم، وليست الهدف بلداً بعينه، ولا نظاماً بعينه ولا مسألةً عسكريةً مكذوبةً مغلوطةً بعينها، بل كما جاء في إستراتيجية الأمن القومي التي عُرضت على المجالس السياسية: أمريكا ستعمل على حسم معركة العالم الإسلامي، وأمريكا لا زالت مستمرة في جهودها للحصول على دعم المجتمع الدولي، إلا أننا لن نتردد في اتخاذ خطوات من جانب واحد إذا لزم الأمر، وسنشن حرب أفكارٍ لننتصر في المعركة. وهذا كله قبل الأحداث وقبل ما جرى مما يدعون أنه السبب في كل ذلك، ونائب وزير الدفاع المتهود يقول: ينبغي منع أي قوة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها أن تجعل هذه القوة قوةً عظمى، كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول المتقدمة إزاء أي محاولة لتحدي زعامتنا، كما علينا التنبه والتوقع لأي بروز يحمل منافسة لنا على مستوى العالم. وهذا هو الطغيان والتكبر والتجبر والغطرسة التي ينال شرها وضرها أهل الإسلام وبلاد الإسلام بشكل خاص، ولا يسلم من حرها وقرها ولظاها شعوب الأرض قاطبةً كما نراها، وهي اليوم تُبغض هذه السياسة وحملتها وقيادتها وتسعى بجهدها قدر ما تستطيع وخاصةً الشعوب. وفي إستراتيجية الأمن القومي: إن هناك نظاماً للقيم الأمريكية لا يمكن المساومة عليه وهذه هي القيم التي نتمسك بها، وإذا كانت هذه القيم خيرةً لشعوبنا فإنها خيرةٌ لغيرنا، لا نعني أننا نفرضها بل نعني أنها قِيم الهيبة! وهذه مغالطات في الألفاظ، فهم يقولون: لا نفرضها لكنها قِيم الهيبة! يعني ستفرضها الهيبة والهيمنة والإرهاب الذي يمارسونه مباشرةً أو غير مباشرة معلناً أو غير معلن، وهذا واضح وجلي في المواقف التي نراها اليوم والتي تقع في هذه الأحداث المؤسفة المؤلمة على إخواننا المسلمين في أرض العراق، وهذه سمة واضحة ومنهج أصيل سيما في هذه الإدارة الأمريكية الحديثة. وإذا تأملنا وجدنا كيف تطبق هذه المسائل وهذه الأفكار في الواقع عندما صدرت فتوى من مجمع البحوث الإسلامي التابع للأزهر، وإذا بالتنبيه والطلب من وزارة الخارجية بأن يُلفت نظر الحكومة وأن يدرج الأزهر في قائمة المنظمات الإرهابية. وهكذا ترون التشدق والكذب في قضايا كثيرة ليس هذا مجال حديثنا فيها، ونحن نرى كيف تُفرض أو يُفرض منطق القوة لا منطق العدالة، ومنطق الظلم والبغي والعدوان التي تسنده القوة بأنواعها المختلفة، وماذا يقول مجتمع الأمم المتحدة ومجلس أمنها؛ هل يعارضون الحرب أو يسعون لوقف الهلاك والدمار؟ إنهم يبحثون كيف يتعامل مع آثار الدمار! إقراراً للمدمرين والمعتدين وإيقاناً بأنها -أي: الأمم المتحدة- أعجز من أن تقول شيئاً، أو أن تفعل شيئاً وإنما تسير مع الركب وتمضي مع الهيمنة وتخضع للقوة وتصبح في ذيل القائمة، وهذا هو منطق القوة الذي يفرض.

التحالف بين اليهود والأمريكان

التحالف بين اليهود والأمريكان ومسألة ثالثةٌ مهمة، وهي أخطر وأبعد فيما يتصل بالإسلام وأهله، وهي: مسألة التحالف بين اليهود والأمريكان: ولا يخفى على أحد تأثير اليهود في هذه السياسات والتوجهات، ولا يخفى أمر قد يظنه البعض غريباً: وهو أن تُقدم الخبرات من اليهود في دولتهم الغاصبة لهذه القوة العظمى، وقد تجلت هذه الأخبار وخرجت في الأوقات الماضية، فخبرات اليهود عليهم لعائن الله في قتال إخواننا المسلمين في فلسطين يهدونها إلى صُنعائهم وحلفائهم وأربابهم من الأمريكان، ويقدمون لهم خططاً في تجربتهم في اقتحام المدن في فلسطين حتى يتبعوها هناك، ويقول أحدهم وهو من الخبراء العسكريين الذين يبينون ذلك ويؤكدونه: إن القيادات في الجيش الأمريكي لا تخجل من الاستفادة من التجارب الإسرائيلية، بل إنها تدرس هذه التجارب بشكل علني ولديها كراسات عن كل حرب إسرائيلية، وآخر الكراسات التي صدرت في واشنطن هي تلك التي تتعلق باحتلال جنين ونابلس! فالأمر متصل والشبكة واحدة، وإلا فأين العيون والآذان والقرارات والأنظمة من الإجرام اليهودي وأسلحة الدمار الشاملة المعروفة المعلنة، ومنع التفتيش ومنع التوقيع على تلك المعاهدات إلى آخر ما يعلمه أصغر صغير وأقل الناس علماً في هذا الوجود، وهذا كله يؤكد لنا الحقائق الأساسية في حقيقة العداء بين أعداء الإسلام عموماً وحلف الصهاينة مع النصارى اليمينيين المسيحيين على وجه الخصوص وبين الإسلام وأهله، والأمر في هذا ظاهر بين ولا يخفى على أحدٍ ونحن ندرك كل هذه الوقائع التي تجري ولكن مزيداً من الإيضاح حتى لا يظن ظانٌ أن المسألة مخصوصة أو عارضة، وهاهي الأقوال تنطق فإنها ليست حرباً عسكرية؛ ولكنها غزوٌ ثقافيٌ وتغيير قيميٌ وتبديل أخلاقيٌ، ونقضٌ أساسي لواقع المجتمع في مناهج تعليمه وفي أسس بنائه، بل وفي نظام حكمه، بل وفي موارد اقتصاده، وذلك هو الذي تشهد به الوقائع. ودع عنك ما يقال من الأقوال التي يزعمونها تحريراً للشعوب أو نشراً للحرية أو حفاظاً على ثروات الأمم أو غير ذلك من الكذب الذي تكذبه الصواريخ المدمرة والقنابل المحرقة، والجرائم المتوالية التي أصبح العالم اليوم يتعامل معها كأنها أمر واقع، وخير القوم من يستطيع أن يقول على استحياء: إن هذا ظلم وعدوان ينبغي أن يقف.

توجيهات ووصايا يحتاج إليها المسلمون في مواقفهم من الحرب

توجيهات ووصايا يحتاج إليها المسلمون في مواقفهم من الحرب ولسنا نريد أن نفيض في هذا القول ولكننا ننتقل إلى الرسائل التي نحتاج إليها نحن، رسائل نوجهها إلى عموم المسلمين ورسائل نوجهها إلى المخدوعين من الموالين، ورسائل نوجهها إلى الثابتين من المقاومين؛ علنا ندرك فيها كثيراً مما نحتاج إليه من أنوار القرآن وهداه وثوابته.

وجوب الإصلاح والتغيير

وجوب الإصلاح والتغيير ولا بد لنا أن ننتبه إلى أمور مهمة وإلى غايات عظيمة ومنها: الإصلاح والتغيير: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] إن مواجهتنا لأعدائنا وانتصارهم في بعض الميادين علينا ليس لقوتهم، فإنهم أضعف منا في جوانب كثيرة، وإنما انتصارهم بسبب ضعفنا، إنهم يصنعون ونستهلك، ينتجون ونشاهد، يروجون فنقبل، يكذبون ونصدق، ولو وجدوا غير ذلك لوجدنا غير ذلك. لقد كان الغزو وإرادة التأثير موجوداً وفاعلاً منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه وجد إيماناً ويقيناً تكسرت عليه كل هذه الحملات، ولعلي أذكر مثلاً واحداً: يوم تبوك، يوم تخلف من تخلف وكان من المخلفين ثلاثة صادقون، ومنهم كعب بن مالك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاطعوا ولا يكلموا ولا يعاملوا، قال كعب: حتى ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت. فسمعت الدولة العظمى أن فرداً في هذه الأمة ربما اعتراه ضعف وأصبح مهيئاً ليتم النفوذ من خلاله وأن يكون الغزو عبره ومن طريقه، فأرسلت القوة العظمى رسولاً يبحث ويسأل عن كعب بن مالك، قال: فدلوه علي فجاءني بكتابٍ من القائد والملك الأعظم في دولته العظمى، يقول فيه: قد علمنا أن صاحبك قلاك، فالحق بنا نواسك، ولم يجعلك الله في أرض مضيعة. فماذا قال هذا المقُاطَع الذي لا يكلمه أحد، والذي عاش فترة من المعاناة النفسية الشديدة، هل لان وضعف؟ هل استجاب لإغراءات اللجوء السياسي أو لإغراءات المنهج الفكري؟ قال: (فعلمت أنها الفتنه)! كل ما سبق لم يكن شيئاً ولم يكن فتنةً بالنسبة له. قال: فعلمت أنها الفتنة فعمدت بها التنور فسجرتها، أي: أحرقها حتى لا يبقى لها أثر ولا يبقى له ذكر ولا يعاود النظر إليها مرة أخرى، ورد أولئك على أعقابهم خائبين، واليوم يأتينا كثير وكثير ويتلقفه منا كثير! أين صلابة إيماننا؟ أين ثبات أخلاقنا؟ أين قوة دعوتنا؟ أين قوة مواجهتنا؟ ذلك أمر لا بد له من التغيير والإصلاح. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يثبتنا على الحق، وأن يرد أعداءنا على أعقابهم خائبين، وأن يردهم بغيظهم لا ينالون خيرا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب المرابطة والجهاد في مختلف الميادين

وجوب المرابطة والجهاد في مختلف الميادين ثالثاً: المرابطة والجهاد: فهذه معركة ليس ميدانها بقعةً معينة، وليست صورتها قتالاً بالأسلحة، بل هي أوسع من ذلك وأشمل، إنها تريد تقويض الاقتصاد والاستيلاء على الثمرات، إنها تريد تبديل المناهج وتغيير الأخلاق، إنها تريد نقض أساس الحكم بالإسلام وتغيير شريعة القرآن، إنها تريد فسخ عرى الأسرة المسلمة وتعرية المرأة المسلمة، إنها تريد أن تدخل إلى قلوب المسلمين فتغير ولاءهم وبراءهم، وإلى عقولهم فتغير أفكارهم وتصوراتهم. أفليست هذه المعركة جديرة بأن يخندق المسلمون في ميادينها كلها ولا ينبغي أن تكون في ميدان واحد، بل لا بد أن تكون هذه الميادين فيها جهاد من أهل الإسلام، فمن ذلك جهادهم الثقافي، وفضحهم السياسي، وصدهم الاقتصادي، وحسبنا في ذلك أن نرى اليوم شعوباً بوذية وشعوباً غربية تنادي بمقاطعة أمريكا، وأهل الإسلام أولى بذلك وأحرى وأجدر، فلا نشتري بضائعهم، ولا نسوق ثقافتهم، ولا نشاهد أفلامهم، ولا نروج ما يقولونه ويزعمونه من هذه الأباطيل فلا نذهب إلى بلادهم ولا نستثمر في ديارهم. ولا بد أن يكون هذا موقف مبدأ وإيمان لا موقف رد فعل آلي، ولا بد أن يكون ذا شمول في نوعه ومجالاته، وأن يكون ذا شمول في عموم أمة الإسلام؛ إن ثلاثمائة وألف مليون لو صرخوا صرخة واحدة لزلزلوا الأرض كلها، فما بالهم لا يجتمعون على أمرٍ قد ظهر وانكشف وصار أوضح من الشمس في رابعة النهار، وهذا أمر لا بد منه ولا بد من الأخذ به وهو ضرب من ضروب الجهاد. ولا بد كذلك من الجهاد في ميادين الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتثبيت عقائد الإسلام، وتوضيح شرائعه، والرد على كل من يعتدي على كتاب الله وسنة رسول الله، ورد الشبهات التي تبث وتذاع وتشاع عن دين الله وأحكام شرائع الله، وكل ذلك لا بد له من عمل وبذل، إنه لا ينبغي لنا أن نحصر الأمور في ميدان واحد، وإن كان ميدان الجهاد متعيناً في أوقاته وزمانه وأهله، ومتعيناً على عموم الأمة أن تعد له عدته، وأن تأخذ أسباب قوته وأن تهيئ النفوس بالتربية وبالعمل الجاد وبالأسلوب الذي ليس فيه هذا الترف والتميع والتمايل مع الغناء والرقص والانسلاخ من الأخلاق، والانحلال مع الأفلام الداعرة الماجنة وغير ذلك مما يروجه أولئك القوم وغيرهم. فلا بد من رباط، والرباط يعني أن تواصل العمل وألا تترك الموقع، وإذا تركته فخلف بعدك غيرك ليأتي ويكمل الدور، وينبغي التواصي بذلك وأن تكون الأعين مفتوحة والقلوب واعيةً والعدة متأهبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] انفر وتوجه لميادين القتال المباشرة وغير المباشرة فالجهاد ساحته واسعة، وعداء أولئك القوم لنا لا يقتصر على جانب دون جانب بل في سائر ما يتعلق بإسلامنا، وإسلامنا يتعلق بالحياة كلها، ويحكم دنيانا كلها ويحكم ما في قلوبنا ونفوسنا من المشاعر والعواطف، وما في عقولنا من الأفكار والخواطر، وما تنطق به ألسنتنا من الأقوال والكلمات، فلذلك ينبغي أن يكون دأبنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11] وقد قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم) وهذا أمره واضح، وقد سبق لنا حديث عنه.

وجوب التحلي بالثقة والثبات

وجوب التحلي بالثقة والثبات أولاً: الثقة والثبات: فلا ينبغي أن يفت هذا العدوان في عضد المسلمين، ولا أن يتسرب اليأس إلى نفوسهم، ولا أن يهزمهم في سويداء قلوبهم وأعماق نفوسهم وخواطر أفكارهم. وللأسف أننا ربما نجد بعضاً من ضعاف الإيمان قد أصبحت أمريكا إلههم الذي يُعبد، وأنها القوة التي لا تُقهر، وكأنها هي التي تصرف أمور الكون وشئونه، ويقولون لك ما يقولون بألسنة تدل على خور وجبن وضعف، ولعلنا لا نطيل فنسوق من آيات القرآن وحسبك بها مثبتاً وموضحاً ومجلياً للحقائق، وذلك فيما ساق الله سبحانه وتعالى لنا من قصص بني إسرائيل وموسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] وذلك في أثناء المواجهة مع الطغيان ومع فرعون، فكان موسى يقول لهم: (استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عبادة والعاقبة للمتقين) جزماً قطعاً يقيناً لا شك فيه. وكان عندهم شيء من التردد {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129] أي: قد وقع لنا بلاء وحصلت لنا هزائم وحلت بنا نكبات، وتشردنا في الأرض وذقنا مرارة العبودية: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129]. ثم ساقت الآيات صور الصراع والمواجهة، وكانت خاتمتها: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]. إيجاز يلخص مواجهة الإيمان مع الطغيان عندما يكون الإيمان راسخاً في القلوب واليقين ثابتاً في النفوس، وينبغي أن يكون هذا تأكيداً لهذه المعاني وتوثيقاً لها في خضم هذه الأحداث، لا أن يكون سبباً في نقضها أو ضعفها، أفي شك نحن من آيات الله؟! أفي شك نحن من سنن الله؟! أفي شك نحن مما رأينا بأم أعيننا فيما نطالعه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أفي شك نحن من صفحات تاريخنا الإسلامي الوضيئة المشرقة، حين روت لنا معارك واجهت فيها فئة مؤمنة قليلة، في أحوال كثيرة، وميادين عديدة في مواجهات مختلفة مع أمم متنوعة، فيوم استمسكت بدينها واستنصرت بربها، عزت وعلت وسمت وانتصرت رغم ضعفها وقلة عددها وعدتها، ونحن نرى صوراً من ذلك وكان الناس يقولون: إنهم في ليلة وضحاها سينهون كل شيء، ونحن نرى ما نرى من صور يسيرة ولمحات وضيئة لا نستطيع أن ننسبها كليةً إلى الإيمان واليقين والجهاد والفداء لكننا نقول: إن من ومضات من ذلك، وكل شعوب الأرض وأممها تقول: من يقف أمام هذه القوة العظمى مع التحالف الذي يسندها؟! ونحن نعلم أنهم اليوم يضاعفون ويرسلون المزيد من الرجال والعتاد؛ لأنهم لا يزالون يجدون أن هذه المقاومة الهزيلة الضعيفة الخاوية من كثير من العدة والعتاد، استطاعت أن تصنع شيئاً يعده الناس والعسكريون أمراً فريداً يستحق أن يدرس وأن يدون.

الخسارة والدمار لأهل الظلم والاستكبار

الخسارة والدمار لأهل الظلم والاستكبار الرسالة الثانية: الخسارة والدمار لأهل الظلم والاستكبار: لا بد أن ندرك أن سنة الله عز وجل ماضية في أن الظلم عاقبته إلى خسار ونهايته إلى دمار: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وأن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الظلم في الدنيا حسرةٌ وندامة، أيَّا كان هذا الظلم حتى وإن كان المسلم هو الظالم فإن له عقوبة دنيوية وأخروية، كيف والظالمون من الكافرين! كيف والظالمون يظلمون أهل إسلام وإيمان في الجملة وفي بلاد الإسلام قاطبة؟! والله سبحانه وتعالى قد بين لنا ذلك في آيات كثيرة، وجلاه رسولنا صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وفي المواقف العديدة من سيرته، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59] إن موعدهم آتٍ وإنه لقريب، و {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] ليل لا بد له من نهار، وظلمةٌ لا بد أن تنجلي عن إشراق وأنوار، لكن لا بد من اليقين بذلك ولا بد من العمل له، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوذي هو وأصحابه وهاجر وقاتل ودمي وجهه الشريف، وقُتل بين يديه خلص أصحابه وأقربائه، ثم علت رايته وانتشرت عقيدته وعظمت في بلاد الأرض كلها دولته؛ لأنها قامت على هذا اليقين، وكل تكبر وطغيان فإن مصيره إلى الهلاك. والله قد قص علينا في كتابه قصص أمم كثيرة طغت، وبغت، وتجبرت، وتكبرت، فأذلها الله عز وجل وأرغم أنوفها ومرغها في التراب، وجعل عاليها سافلها، وذلك عندما وجد الخلص من عباده معلقين حبالهم به، ملقين ولاءهم له ولأوليائه، متعلقين به في عبادتهم وطاعتهم، محكمين لشرعه في أحوالهم وعلاقتهم ومعاملاتهم؛ عند ذاك تتحقق هذه السنن وتمضي كما بينه الله سبحانه وتعالى، يقول الحق جل وعلا: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:51]. هل تعجز قوة الله أمريكا أو غير أمريكا أو قوى الأرض كلها؟! ولكن بعض الناس لا يوقنون! فنحتاج أن ندرك هذا كما أخبرنا الحق جل وعلا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] ألا ترون أن هذا حال الكفار اليوم، ألا ترون أن هذا وصفهم؟! {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] وهو قادر جل وعلا على أن يفضحهم ويهزمهم ويذلهم، وذلك وفق سنته جل وعلا.

رسالة إلى الموالين لأعداء الإسلام

رسالة إلى الموالين لأعداء الإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولقد أشرنا من قبل إلى كثير من المعاني التي يمكن أن تدرج في هذه الرسائل الموجهة إلينا جميعاً. أصلح نفسك وادع غيرك، أمر لا بد منه، وهذه قضايا كثيرة وهي -كما قلنا من قبل- تحتاج منا إلى تذكر دائم وتناصح مستمر وعملٍ غير منقطع، في حرصنا على الوحدة والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف، ومنع ترويج الشائعات وصد إخلال الأمن والتجمع على الثوابت من كتاب الله وسنة رسوله، وجعلها الفيصل والحكم في الأمور. ورسالتان أخيرتان نوجههما: الرسالة الأولى: إلى الموالين لأعداء الله المشاركين لهم، ظناً منهم أنهم سيصدقون في وعودهم وأنهم سينفذون لهم ما وعدوهم به من حكمٍ أو مالٍ أو غير ذلك، يزعمون أنهم سينشرون الحرية ويقيمون العدالة ويحفظون الثروات لأهلها. وقد وقعت العقود للشركات الأمريكية في هذه الأيام قبل أن تنتهي الحرب أو ينجلي غبارها، أولئك الموالون يرون أنهم يوالون لأنهم يواجهون البعث وهو حزب في مفرداته وعقائده كفر صريح محض، ولكن ينبغي أن يدركوا أن القضية فيها دماء المسلمين من الساجدين الذاكرين الموحدين، وهذا أمر خطير! وقد جاءت فيه الآيات الصريحة الواضحة، وجاءت فيه مقالات العلماء القاطعة، كما قال ابن جرير عند تفسير قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] قال: من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم. فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه. وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعليقاً على هذه الآية: أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ …} [المائدة:51]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} [التوبة:23] والآيات في هذا كثيرة. ولذلك ينبغي أن يعلموا هذا حتى وإن ظنوا أن في ذلك خيراً، فإن دم المسلم معصوم وحرمته عظيمة، فضلاً على أنه قد تجلى وانكشف لكل ذي عينين أن القوى الغازية لن تفي بوعدها، وحسبنا التجربة القريبة الماضية في أفغانستان، وأنها قد أعلنت أنها تريد من خلال ذلك أغراضاً أخرى وأهدافاً أخرى أكثر ضرراً وشراً وفساداً، وأنها تريد هيمنتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية كما هو معلوم لأكثر الناس، حتى وإن قال بعضهم: ربما يكون في ذلك ضرب من الإكراه. فإنه مقرر عند أهل الإسلام أن مسلماً لو أكره على قتل مسلم لم يجز له ذلك حتى ولو قتل؛ لأن عصمة نفسه ليست بأحق من عصمة نفس أخيه المسلم، قال ابن تيمية: إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يُقتل مظلوماً، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام؟! لا ريب أن هذا يجب عليه إذا أُكره على الحضور ألا يقاتل، ولو أكره رجل رجلاً على قتل مسلم معصومٍ فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل، فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس. وحسبنا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليتنا نكتب هذا الحديث ونعلقه في جميع الأماكن حتى نراه (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه) كيف تظلم أخاك المسلم وكيف تخذله في وقت يحتاج فيه إلى نصرتك فإذا أنت مع عدوه عليه! (ولا يسلمه) أي: لا يتركه لعدوه يتمكن منه، فهذه حقيقة الإسلام وأخوة الإيمان، وما وراء ذلك الخطر العظيم الذي ذكرناه في الآيات وأقوال العلماء.

رسالة إلى المسلمين في أرض العراق

رسالة إلى المسلمين في أرض العراق ورسالة أخيرة إلى المسلمين في أرض العراق: إلى الذين ثبتوا وقاموا وقاتلوا، نريد أن نحيي هذه الوقفة الشجاعة، ولكننا نقول لهم: اجعلوها باسم الله، وارفعوا راية دين الله، وكبروا الله وهللوا الله، لا ترفعوا راية بعث كافر ولا غيره، اعلموا أنكم في جهاد دفع، وأنكم إن قاتلتم حتى للدفاع عن أرواحكم، وعن أعراضكم، وعن دياركم، وعن أموالكم فأنتم شهداء، فأخلصوا نيتكم لله: (من قاتل دون ماله فهو شهيد، من قاتل دون عرضه فهو شهيد). ولذلك ينبغي لنا أن ندعو لهم أن يصلح الله حالهم، وأن يثبت إيمانهم وأن يجعل رايتهم راية الإسلام؛ حتى يعظم الله ثباتهم ويقوي عزمهم ويفك أسرهم ويعينهم بإذنه عز وجل على عدوهم. ولقد قدموا موقفاً يشير إلى مسألة مهمة: الوهن الذي يفت في النفوس من هول القوة العظيمة التي تتكسر بأسباب بسيطة، ولقد أسقط الأفغان من قبل قوة عظيمة! ونحن لا نريد أن نكون عاطفيين لكننا نقول: ما رأيتم، وما سمعتم، وما علمتم، وهو يدل على أن هذه الهيبة العظيمة والهالة الهائلة ليست في حقيقة الأمر كما يروج لها، كم خابوا وخسروا، كم توقفوا وترددوا، كم جبنوا وانسحبوا، كم وقع لهم ما وقع! ولئن انتصرت أعداد ضخمة وقوىً هائلة على ما هو أقل منها بكثير، فليست العبرة في هذا النصر بأنه قد تحقق ولكن كيف يكون الميزان المختل، ثم يكون الثبات والمواجهة، ولذلك نقول: إن هذا درس، نسأل الله عز وجل أن يكونوا فيه على أعلى درجات الإيمان والإخلاص لله عز وجل، درسٌ في أن مقاومة الظلم وأن حماية العرض أمر له أثره وقوته، وكأنما بشعارهم يرسلونه وبأقوالهم وقوة مواقفهم ينبهون بها المتخاذلين والخائفين، يقولون: نحن مع ضعفنا ببنادقنا بأحوالنا البسيطة استطعنا أن نصنع شيئاً عظيماً، ولعلنا نؤكد عليهم وندعو لهم أن يصحح الله مقاصدهم ونياتهم: غايتي العظمى التي محضتها كل جهودي هي أن أسبق خيل الموت للعيش السعيد وأغذي كربلاء العصر من نزف وريدي خنت من خانوا كتاب الله أرباب الجحود وتمردت بإيماني على الكفر العنيد ونحرت الخوف قرباناً بساحات الصمود وتماديت فأدمى جبهة العيب صدودي ما فرشت الخد يوماً للموالي والعبيد لا ولم أمدح حواة العصر حراس اليهود يخسأ اللص ومن يطري على اللص المريد ذاك نهجي واضح غيبي به مثل شهودي منه لا أبرأ لو حزوا على السيف وريدي نسأل الله عز وجل أن يبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه دينه وينصر فيه أوليائه، نسألك اللهم أن تنزل سخطك على أعداء الإسلام والمسلمين، وأن تحل بهم نقمتك، وأن تشدد عليهم وطأتك، اللهم أحصهم عددا وأقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم خالف كلمتهم واستأصل شأفتهم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

على صعيد عرفات

على صعيد عرفات يوم عرفة هو أعظم يوم تشهده الأمة المحمدية، ففيه تلتقي القلوب، وتنتهي العصبيات، وتذوب الشحناء والبغضاء، وفيه تسكب العبرات، وترتفع الآهات والأنات، وتختلج القلوب الفرحات والمسرّات إنّ يوم عرفة هو يوم التوبة والأوبة، ويوم الطاعة والحوبة، ويوم معرفة حقيقة الدنيا وحقارتها وأن ما عند الله خير وأبقى.

عرفات دروس وعبر

عرفات دروس وعبر الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، نحمده سبحانه وتعالى، سبقت رحمته غضبه، وتعددت نعمه، وعم نواله، وزاد فضله، وعظم بره، ووجب شكره، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، نحمده جل وعلا على كل حال وفي كل آن، هو أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى والآخرة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، ويوم القيامة إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد:

في عرفات تسكب العبرات

في عرفات تسكب العبرات أيها الإخوة المؤمنون! ننتقل معاً إلى حيث يجتمع الحجيج على صعيد عرفات، حيث ترفع الدعوات، وتسكب العبرات، حيث تلغى الطبقات، وتزول العصبيات والنعرات، على صعيد عرفات حيث تتوحد الأهداف والغايات رغم تباين الألوان واختلاف اللغات، على صعيد عرفات حين تهفو القلوب إلى خالقها وبارئها، وحين ترتفع الأكف إلى معطيها والمنعم عليها، حينما يتجرد المسلمون من كل حول وطول إلى حول الله وقوته، حينما يرى المسلمون حقيقة ضعفهم وفقرهم، فيلجئون إلى قوة الله، ويلتمسون عطاءه من غناه، حينما يعرف المسلمون أنهم ضعفاء لا حول لهم ولا طول إلا أن يمدوا أيديهم، ويصلوا حبالهم برب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى، على صعيد عرفات حينما يتجرد المسلمون من الدنيا ويتعلقون بالآخرة، حينما يعرفون حقيقة الدنيا وأنها دار مقر لا دار ممر، حينما يستشعرون المشهد العظيم، والحشر العظيم، والهول العظيم في يوم القيامة: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، إنه يوم من أيام الله العظيمة، إنه مشهد من المشاهد التي تحيي القلوب الميتة، وتوقظ العقول الغافلة، وتحيي الأنفس التي كثر عليها الران، وانشغلت بالدنيا، وضربت عليها الغفلة. إنه يوم من أيام الله عز وجل يجمع فيه عباده على صعيد واحد، متجردين من دنياهم، متوحدين في شعارهم، متوحدين في مقاصدهم ومطالبهم، ولذلك نشهد في هذا المشهد العظيم ما نحتاج إلى تذكره، والاتعاظ به، ودوام الإفادة منه لعل الله عز وجل ألا يحرمنا الأجر والثواب، وألا يحرمنا من فيض عطائه لأهل الموقف الذين اجتمعوا بقلوب خاشعة، وأعين دامعة، وأنفس ضارعة لله سبحانه وتعالى.

يوم عرفة مشهد التوبة والإنابة

يوم عرفة مشهد التوبة والإنابة إن هذا المشهد هو مشهد التوبة والأوبة والإنابة لله رب العالمين، إنه وقفة مع الله سبحانه وتعالى في أراضيه الطاهرة المقدسة، وبين يديه سبحانه جل وعلا، وهو الذي يباهي بأهل الموقف الذين جاءوا من كل فج عميق، تركوا وراءهم الأهل وخلفوا الأولاد، وأنفقوا في طريقهم الأموال، وبذلوا الجهد، ولحقهم الإرهاق، انطلقوا بقلوبهم قبل أجسادهم، ولهجوا بخواطرهم قبل ألسنتهم، وعاشوا يبغون هذه اللحظة، وينتظرون تلك الوقفة بين يدي الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:17 - 18]، التوبة التوبة يا عباد الله! {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. باب عظيم من أبواب الرحمة الإلهية، ومن أبواب العفو الرباني: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وذلك الدهر كله)، و (إن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، (يقبل توبة العبد ما لم تطلع الشمس من مغربها)، هكذا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل ليلة وفي الثلث الأخير من الليل يتفضل رب الأرباب، وملك الملوك، الغني عن العباد بالنزول إلى السماء الدنيا، وينادي: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟)، هذا نداء الله عز وجل، وهذه أبوابه مشرعة مفتوحة فأين المقبلون؟ وأين التائبون؟ وأين المستغفرون؟ وأين النادمون؟ وأين المتضرعون؟ وأين الباكون؟ إنهم اليوم على صعيد عرفات يبكون ويستغفرون، يلبون ويدعون، فالله نسأل ألا يحرمنا من أجره وثوابه، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن عظمة هذا اليوم، وعن سعة التوبة العبادية، والمغفرة الإلهية في حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟) و A أنهم ما جاءوا، ولا أنفقوا، ولا بذلوا، ولا تعبوا إلا ابتغاء غاية واحدة هي مغفرة الله عز وجل، ورضوان المولى سبحانه وتعالى. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في سنن الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، فهذا موسم التوبة، وهذا موسم الإنابة والأوبة إلى الله عز وجل، تفكر عبد الله كم أسرفت على نفسك في المعاصي؟! وكم قصرت في حق الله عز وجل من الواجبات؟! وكم تركت من المندوبات والمستحبات؟! وكم غرقت في الشهوات؟! تفكر فإن هذا الموقف موقف تذكر واتعاظ واعتبار، تفكر عبد الله وارجع إلى الله قبل أن يبلغ الأمر إلى مداه، وقبل ألا ينفع الندم.

يوم عرفة هو يوم الدعاء

يوم عرفة هو يوم الدعاء اعلم أن هذا اليوم الأغر هو يوم الدعاء فمن رحمة الله بعباده أنه جل وعلا طلب منهم الدعاء: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وهذا هو طريق إجابة الدعاء: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة:186] أي: لأمر الله عز وجل، مسارعة إلى الواجبات، ومسابقة إلى الخيرات، واجتناباً للمعاصي وبعداً عن السيئات. {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] ليكن توحيدهم لله عز وجل خالصاً لا شك فيه ولا شبهة، ولا رياء ولا طلباً للسمعة، حينئذٍ إذا أخلصت التوحيد لله، وإذا استجبت لأوامر لله، فإنك إذا دعوت الله أجابك الله سبحانه وتعالى وأعطاك من فضله سبحانه جل وعلا، والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أنه يحب سؤال السائلين، وتضرع المتضرعين، كما صح في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي ستير، يستحي إذا رفع عبده كفه إليه أن يردهما صفراً)، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدعاء مجاب إما في العاجلة وإما في الآجلة، وإما أن يرد به من القضاء والبلاء ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه عند ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم عرفة فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، ويقول رب العزة والجلال سبحانه وتعالى: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاجين) أي: علت أصواتهم بالتلبية والدعاء، وضج بالدعاء: إذا رفع صوته، وفي بعض الروايات ضبطها: (ضاحين) أي: بارزين للشمس يلتمسون رحمة الله، ويرفعون أكف الضراعة والدعاء لله، (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاجين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: يا رب! إن فيهم فلاناً عبد يرهق -أي: يرتكب المعاصي ويقترف السيئات- وفيهم فلاناً وفلانة! فيقول رب العزة جل وعلا: أشهدكم أني قد غفرت لهم)، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة)، إنه يوم الله عز وجل، إنه يوم العباد ليغتنموا من فضل الكريم سبحانه وتعالى.

يوم عرفة يوم إعلان الطاعة لله والحرب على المعاصي

يوم عرفة يوم إعلان الطاعة لله والحرب على المعاصي انظر في المقابل إلى إعلان الطاعة أنه يقتضي إعلاناً لحرب المعصية، وأن إعلان الولاء لله يقتضي إعلان العداء للشيطان، فما إن ينصرف من عرفة حتى يرمي الجمار ليؤكد أنه لا سبيل للشيطان عليه بإذن الله، وأنه قد أعلن التوبة لله، وبدأ صفحة جديدة مع الله، فكلما عرضت له شهوة آثمة، وكلما عرضت له شبهة مشككة استعاذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم، ودحر هذا الشيطان الذي جاء في حديث مرسل عند الإمام مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله سبحانه وتعالى عن الذنوب العظام، إلا ما كان من يوم بدر قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: رأى جبريل وهو يزع الملائكة)، نعم إنه يوم لله عز وجل ويوم على شياطين الإنس والجن التي تتربص بهذه الأمة الدوائر، إنه يوم إعلان وحدة الأمة الإسلامية، أفترون الناس في ذلك الصعيد وهم من أصقاع مختلفة، ومن أعراق متباينة ينطقون بلهجات ولغات مختلفة؟ أفلا ترون أنهم في شعار واحد، وفي مكان واحد، وعلى صعيد واحد، وبأعمال واحدة، ليس لهم إلا غاية واحدة تنطق بها جميع الألسنة، وتهفو بها جميع القلوب؟ إنها غاية رضوان الله عز وجل، إنه تحقيق الهدف الأسمى من وجود هذا الإنسان في هذه الحياة الدنيا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، إنها العبودية لله، إنه الاستسلام لأمر الله، إنه الاستمساك بمنهج الله، إنه الرضا بقضاء الله، إنه أن يكون العبد لله وبالله ومن الله وعلى الله، إنه أن تكون لله عز وجل في كل حال وفي كل آن، وأن تبقى مشدود القلب بالله، وأن تبقى مرتبطاً بأحكام الله عز وجل، إن المعنى في هذا الصعيد عظيم، وإن الدلالات في هذا الموقف عديدة، إنه أمر تحتاج الأمة أن تتنبه إليه وقد كثرت بينها الشقاقات، وتعاظمت الخلافات، وكثرت النزاعات، ذلك أن القلوب لم تكن مخلصة لله عز وجل، وأن الغايات لم ترتبط برضوان الله عز وجل، وهنا يكثر البلاء، ويعظم العناء، ولا حل ولا نجاة إلا بالعودة لله عز وجل.

يوم عرفة تتجلى فيه قيمة الدنيا الحقيقية

يوم عرفة تتجلى فيه قيمة الدنيا الحقيقية وفي صعيد عرفات تتجلى الدنيا بقيمتها الحقيقية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها: (لو كانت تعدل عند الله جل وعلا جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، وأخبر صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، وفي الحج وفي مقام عرفة وغيره يشعر المسلم بقيمة هذه الدنيا، فلا تراه يبني في تلك المواقع دوراً، ولا يشيد قصوراً؛ لأنه يعلم أنها أيام قلائل ثم يأتي الرحيل، وحينئذ يستعد لما بعد ذلك اليوم، وإلى أوبته إلى دياره الأولى، وإلى معاقله الأصيلة، واعلم أنك في هذه الدنيا مرتحل كأنك غريب أو عابر سبيل، فما بالك بها منشغل، وكأنك عنها غير مرتحل؟! انتبه وتأمل! فإن الله عز وجل قد جعل لنا في هذه المواقف عظات وعبر كثيرة، فينبغي لنا أن نتأملها وأن نحيا معها، وأن نسأل الله عز وجل فيها أن يبدل فرقة الأمة وحدة، وضعفها قوة، وشتاتها لحمة وتوحداً، ونسأله جل وعلا أن يتقبل منا ومن عباده الصالحين، وأن يتقبل من الحجاج والمعتمرين: إلى عرفات الله يا خير زائر! عليك سلام الله في عرفات ويوم تولي وجهة البيت ناظراً وسيما مجال البشر والقسمات على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات فالله نسأل أن يوفقنا للصالحات، وأن يصرف عنا الشرور والسيئات، وأن يوفقنا للتوبة، وأن يتقبل منا خالص الدعوات، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

مقاصد اجتماع الحجيج في عرفات

مقاصد اجتماع الحجيج في عرفات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن هذا الموقف العظيم على صعيد عرفات ينبغي أن يهز القلوب هزاً، وأن يستجيش المشاعر الإيمانية التي تتضرع إلى الله عز وجل، وتتذكر التفريط في جنبه، وتعلن التوبة لله عز وجل. ففي هذا الموقف دروس عظيمة فإنه في موقف عرفات إعلان للوحدة، وبيان لحقيقة الدنيا، وإعلان للتوبة، ورفع للدعاء إلى الله عز وجل، وبيان لوحدة المقاصد والغايات، وهذه كلها معان عظيمة ينبغي أن تتذكرها الأمة سيما الأوبة والإنابة لله عز وجل، والإعلان الصادق بالارتباط بالله، والسعي نحو رضاه، وأن الآخرة هي المبتغى والمقصد: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] فادعوا الله عز وجل، وأكثروا في هذا اليوم العظيم من الدعاء وأنتم صائمون متقون من فضل الله عز وجل، وقد جعل الله لكم ما يعوض تخلف من يتخلف عن الحج من أمر الصيام المكفر للذنوب والخطايا، ومن أمر الأضاحي التي تقدم لله عز وجل وما فيها من الأجر والثواب، فمدوا أيدي الضراعة وتكلموا بلسانها لله عز وجل: مددت يدي نحوك يا إلهي! وإني في حماك لمستجير غني أنت عن مثلي وإني إلى رحماك يا ربي فقير إلهي ما أقول إذا دعاني؟ لحين حسابي اليوم العسير فهل أوتى كتابي في يميني أو العقبى عذاب مستطير فحاسبني بجودك لا بفعلي فأنت بما أتى مثلي بصير

أحكام الأضحية

أحكام الأضحية وإن في هذا المقام لأمر يحتاج إلى التذكير والتنبيه، وهو في أمر الأضحية التي هي سنة مستحبة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمنا وبين لنا في سنته كيف نفعل ونصنع في هذه الأضحية، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد أتم نسكه، وأصاب سنة المسلمين)، فالذبح للأضحية إنما يكون بعد صلاة العيد، وفي حديث البراء مثله: (من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله)، وإنما السنة الحقيقية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح بعد الصلاة، وقد بين العلماء توقيتها سيما لأهل الحج، أنه يمتد إلى غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق، وأما سنها فقد اتفقوا على أنه لا يجوز من الإبل والبقر والغنم إلا الثنية، والثنية من الإبل ما كان عمره خمس سنين، ومن البقر والمعز ما تجاوز سنتين وطعن في الثالثة، وينبغي أن يأخذ من أوساط البهائم والنعم فلا يأخذ العرجاء البين عرجها، ولا العوراء البين عورها، ولا العجفاء البين عجفها، ولا المريضة البين مرضها، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند الترمذي من حديث البراء. وقد بين أهل العلم أنه يجوز للمرء أن يشترك مع غيره في أضحية واحدة بأن يشترك السبعة في بدنة أو في ناقة أو جمل، وكذلك يجوز أن يضحي المرء عن نفسه وعن أهله بأضحية واحدة، وإن كان يستطيع الزيادة فهي أجر وثواب من الله عز وجل عظيم، ويجوز الأكل منها والتصدق بها، وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام ما فيه حث على الأكل من الأضحية، وأن ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم، بل قد ورد في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم نبه على الادخار من لحم الأضحية حتى يؤكل ولو في غير يومها، فهذا يدل على هذه السنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز على الصحيح أن يضحي المرء عن غيره إذا أراد أن يهب له أجر ذلك، وقد قال بعض أهل العلم: إن غير ذلك أولى، فالصدقة أعظم أجراً من الأضحية بالنسبة لمن أراد أن يضحي عن غيره أو عن ميت، وهذا كله من الأحكام التي ينبغي التنبه لها، وقد ورد في بعض الأحاديث وفيها ضعف: (أن من أفضل الأعمال في يوم النحر إراقة الدم، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع إلى الأرض)، والله عز وجل قد قال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، ولذلك فإن يوم العيد -يوم غد- هو اليوم الذي يضحي فيه المسلمون، ويتذكرون سيرة أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام، ويشاركون أهل الحج في بعض هذه المعاني والمعالم التي يبتغون وينالون بها أجر الله عز وجل، ويشاركون فيها إخوانهم الحجيج، وهذا أيضاً معلم من معالم التراحم والتكافل بين أمة الإسلام، ليتفقد الأغنياء الفقراء، وليرحم الأقوياء الضعفاء، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي ثبتت عنه وداوم عليها، وقد فعل ذلك بنفسه عليه الصلاة والسلام، وقد قال أهل العلم: من السنة أن يذبح أضحيته بنفسه إن استطاع ذلك، بل قد نص بعضهم على أن المرأة تذبح أضحيتها بنفسها إن استطاعت ذلك، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بنفسه، ونحر بعض إبله التي ضحى بها بيده الشريفة عليه الصلاة والسلام، وهذا من إعلان التوبة إلى الله عز وجل، ومن إعلان التقرب له سبحانه وتعالى، وأن كل شيء إنما يوهب ويقدم لله عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. فاللهم نسألك أن تغفر ذنوبنا، وأن تكفر سيئاتنا، وأن تمحو زلاتنا، وأن تقيل عثراتنا، اللهم ضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وأعل مراتبنا، اللهم إنا نسألك غفران الذنوب، وستر العيوب، برحمتك يا علام الغيوب! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً، ودعاء مستجاباً، اللهم إنا نسألك الندم على ما سلف وفات من التقصير والتفريط، ونسألك اللهم العزم فيما يأتي على الخيرات والمسارعة إلى الطاعات، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تجعلنا من جندك المجاهدين، وأن تتوفانا مسلمين غير خزايا ولا نادمين. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تقبل حج الحجاج والمعتمرين، اللهم أمنهم في حجهم، وسهل لهم أمورهم، ويسر عليهم مناسكهم يا رب العالمين! اللهم تقبل من عبادك المؤمنين، اللهم واجعل هذا الحج خيراً وبراً ورحمة على عبادك المؤمنين، اللهم واجعل من ورائه للمسلمين وحدة من بعد فرقة، وقوة من بعد ضعف، وعزة من بعد ذلة، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين! اللهم أصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجمعهم على كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم بكتابك مستمسكين، ولأوامرك مستجيبين، وعن نواهيك مبتعدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تطهرنا من الذنوب والخطايا، وأن تنقينا منها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلنا من ذنوبنا وآثامنا، وطهرنا بالماء والثلج والبرد، اللهم إنا نسألك ألا تجعل لنا في هذه الأيام المباركة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مجاهداً إلا نصرته، ولا داعياً للحق إلا وفقته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك لقلوبنا الصفاء والنقاء، ولأبداننا الصحة والعافية، ولأعمالنا الصواب والقبول، اللهم اجعل ألسنتنا لاهجة بذكرك وجوانحنا عاملة بشكرك، اللهم فرج همومنا، ونفس كروبنا، واقض حوائجنا يا قاضي الحاجات! يا مفرج الكربات! نسألك اللهم أن تتقبل دعاءنا وألا تردنا خائبين، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم وأزل عنهم الشحناء والبغضاء والفرقة والخصام والشقاق والنزاع يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك لعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين أن ترحمهم، وأن تلطف بهم، وأن تعجل فرجهم، وأن تفرج كربهم وأن تقرب نصرهم، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، ورضهم بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت لهم زيادة في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم إنا نسألك أن ترفع عنهم السخط والبلاء والغضب يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين! اللهم واجعل هذا البلد آمناً مطمئاً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! وَأَقِمِ الصَّلاةَ! إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

مجتمعاتنا والصيف

مجتمعاتنا والصيف تعتبر الإجازة الصيفية أكثر أيام الشباب فراغاً من شواغل الدراسة ونحوها، إلا أن كثيراً منهم يعمرها بالسهر والكسل واللهو والنوم وكل غث غير مفيد، مع أنه كان يعد هذه الأيام فيما مضى لكل سمين نافع، ومع ذلك ما إن تأتي هذه الأيام إلا وينسى أو يتناسى ما وعد به نفسه ومناها، فلابد من استغلال المواهب والطاقات، وتوجيه الشباب للنهوض بالأمة، واللحاق بركب الحضارة، والتخلي عن سفاسف الأمور وغثائها.

مظاهر وصور التهاون في الصيف

مظاهر وصور التهاون في الصيف الحمد لله، الحمد لله الموصوف بصفات الكمال، المتفرد بالعزة والجلال، منه المبتدى وإليه المرجع والمآل، حبب إلينا الإيمان ودعانا إلى صالح الأعمال، وكره إلينا الكفر وحذرنا من سوء الفعال، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه كافةً إلى الناس أجمعين، وجعله رحمةً للعالمين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! على أبواب الصيف يتجدد الحديث عن مجتمعاتنا والصيف، ذلك أن أموراً وأحوالاً وأوضاعاً كثيرة ربما يقع فيها كثيرون وهي مما ينبغي أن ينتبه له المسلم، وأن يحذر منه المؤمن، لأنه لا يليق به ولا يتناسب مع غاياته وأهدافه، ومع سماته وصفاته. وكثير من الإخوة قد أشار إلى التنبيه على بعض هذه الأمور لأهميتها، وحرصاً على أن نكون -بإذن الله عز وجل- في موضع طاعته سبحانه وتعالى، وفي أسباب طلب العز والنصر والقوة لهذه الأمة التي لحق بها كثير من الضعف، وتمزقت أوصالها، واختلفت آراؤها، وحل بها كثير من غضب الله سبحانه وتعالى؛ بسبب تفريطها في طاعته، وتقصيرها في التزام منهجه. إن هناك ظواهر كثيرة أحب أن أقف على بعض منها بشيء من الوضوح والصراحة، وبتسليط الضوء على الأسباب التي تؤدي إلى هذه الظواهر، ومن خلال رؤية إلى بعض صور العلاج لها.

إدمان السهر والانشغال باللهو

إدمان السهر والانشغال باللهو كثيراً ما يرتبط بالأذهان أن إجازة الصيف هي خلو عن أي عمل، وترك لأي طلب أو أخذ أو زيادة في العلم، وهذا يظهر أكثر في صفوف طلاب المدارس والجامعات الذين تتوقف دراستهم؛ فيرى أحدهم أن نظره في كتاب، أو مطالعته في مسألة، أو مراجعته لمنهج من المناهج كبيرة من الكبائر، وعظيمة من العظائم، وتسلط في أذهان كثير من أبنائنا وشبابنا أن هذه الفترة رغم امتدادها وطولها، ورغم وجود الفراغ فيها، ورغم تهيؤ كثير من الأسباب النافعة خلالها: أنه ينبغي لهم أن يكونوا عطلاً من كل علم وعمل، ونجد ذلك يتمثل في صور عمليه، وظواهر اجتماعية كثيرة: منها: السهر والعبث: فنحن نرى كثيرين في هذه الأوقات لا ينامون إلا بعد الفجر، أو ربما بعد انبثاق النور وبداية النهار، وذلك ليناموا بعد ذلك سائر يومهم، ونجد هذا السهر عابثاً ليس فيه شيء ينفع ويفيد في غالب الأحوال، بل فيه لغو باطل، وكلام لا نفع فيه، وربما وقع فيه اجتماع على بعض صور وأعمال من معاصي الله عز وجل، وربما يكون فيه كثير من أسباب الأذى؛ ولذلك نجد هذه الصورة تبرز لنا لتدلنا على هذا التعطل والبطالة. وصورة أخرى نراها أيضاً تابعة لها، وهي النوم والكسل: فلا انشغال بعمل، ولا ارتباط بهدف، ولا سعي لإنجاز مهمة، بل لو كان هناك وقت غير النوم فإنه يقضى في الفراغ الذي لا جدوى فيه ولا نفع. ونجد أيضاً صورةً ثالثة: وهي التفاهة والأذى التي نجد فيها كثيراً من الشباب والشابات، رغم سهرهم وعبثهم، ورغم نومهم وكسلهم، يفيض الوقت لكثرته، فلا يقضونه إلا في أمور تافهة، يفكر أحدهم في ملابسه أو سيارته، وتفكر الأخرى في زينتها أو أسواقها، أو غير ذلك، ويقع من وراء ذلك ما يقع من الأذى للناس، أو من التجريح لهم، أو ما يقع من آثار الاجتماعات والتجمعات التي يقضون فيها أوقاتهم، فنجد حينئذ تجسداً لهذه الصورة التي لا تليق بالمسلم، فضلاً عن شباب الأمة الذين هم أملها المرتقب.

أسباب التهاون في إجازة الصيف

أسباب التهاون في إجازة الصيف نحن نرى أن تلك المظاهر تدفعها أسباب، وتهيئها أوضاع، ذلك أن هناك تربية أسرية تكرس هذه المعاني، فنجد كثيراً من الآباء والأمهات يغرسون في نفوس أبنائهم أنه لا ينبغي له أن يقرأ، ولا أن يتعلم ولا أن يعمل شيئاً، ولا أن تسند إليه مهمة، ولا أن يقوم بأي شيء. وكذلك نجد أمراً آخر يساعد على ذلك، وهو البيئة الاجتماعية -الدائرة الأوسع من دائرة البيئة الأسرية- فنحن نرى حديث الناس في الصيف عن قضاء الأوقات أو قتلها في اللهو والعبث، أو غير ذلك من الصور التي تكرس هذا المعنى. وأمر ثالث أيضاً: وهو الدعاية الإعلامية التي تعمق هذا المفهوم، فهناك دعوة للسياحة، ولقضاء أوقات الفراغ، وللتنزه، وغير ذلك من الأمور التي قد يكون أصلها ليس محظوراً ولا محرماً، لكن تعميقها وجعلها غايةً، وصرف الأوقات والأموال فيها؛ هو الأمر الذي ينبغي أن يترفع عنه المسلم. إننا حينما نجسد هذه الصورة نقف على خطر عظيم، ذلك أن هناك وقتاً طويلاً يمتد إلى أشهر، وشبابنا وشاباتنا وطلابنا وطالباتنا تصل أعدادهم إلى الملايين، وهناك أوضاع متنوعة متعددة تضيع بلا جدوى ولا ثمرة. ونحن أمة نحتاج إلى مزيد من مضاعفة الجهد والعمل وتحصيل الثقافة والعلم؛ لندرك من سبقنا في أبواب كثيرة من أبواب التقدم والعلم، ولنحصل كثيراً مما فاتنا وسبقتنا إليه أمم أخرى، ومع ذلك نجد الأمر على هذا النحو. بل إننا نجد شكوى مزعومةً من بعض الشباب في أوقات الدراسة، هذا وهم يأملون ويؤجلون كل آمالهم وطموحاتهم إلى هذه الفترة؛ فتجد أحدهم لا يجد فرصةً للعبادة والطاعة بحجة انشغاله بالدراسة، وآخر لا يجد متسعاً من الوقت للثقافة والاطلاع وزيادة المعلومات بسبب الانشغال بالتحصيل والاختبارات، وثالث لا يرى فرصةً لتنمية المهارات، أو ممارسة الهوايات، فأين هذا كله في هذه الفترة؟

التهاون بالعبادات والطاعات وإهمالها

التهاون بالعبادات والطاعات وإهمالها نحن نسأل عن الليل، أين قيام الليل من هذا السهر العابث واللهو التافه الذي تقضى فيه كثير من الأوقات؟ أين قول الله عز وجل: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]؟ أين أنت أخي الشاب المسلم من قول الله عز وجل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]؟ أفلا تذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصغار الصحابة، وتذكر الشباب الغض الطري كيف كان يقضي ليله، وهو في النهار من المجاهدين ومن العاملين، لا من النائمين والكسالى الذين تتاح لهم فرصة للراحة، مع ذلك كان دأبهم على ما نعلمه ويعلمه كثير منا لكنه لا يؤثر في واقعنا؛ فكلنا نعلم قصة ربيعة بن كعب رضي الله عنه لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن أمنيته ليدعو له بها، فقال: (أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: ليس إلا هو، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فلم يكن رضي الله عنه يدع قيام الليل بعد ذلك وهو في الرابعة عشرة من عمره. وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه كما في صحيح البخاري جاء إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال له: (ألم أخبر أنك تصلي فلا تنام، وتصوم فلا تفطر، وتقرأ القرآن في كل ليلة؟ قال: نعم يا رسول الله)، هذا الخير بلغ النبي عليه الصلاة والسلام عن حال عبد الله بن عمرو وهو الشاب الذي كان في مقتبل العمر، فكان يصلي فلا ينام، يصوم فلا يفطر، ويقرأ القرآن في كل يوم، حتى رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال، وذكر له صيام يوم وإفطار يوم، وأن ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه الأخير، وأن يختم القرآن في خمس، أو في سبع كما في بعض الروايات. نحن نقول لإخواننا ولأنفسنا ولآبائنا: إن هذا الوقت الذي يفرغ فيه الإنسان أو الشاب من هذا الارتباط بالدارسة أو التحصيل وغير ذلك، ينبغي أن يقابله هذا الاستثمار في العبادة والطاعة. أين الذكر والتلاوة؟ كثير من الشباب لا يجدون -كما يقولون- وقتاً لتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل في أوقات الدراسة، أفليس جديراً بهم أن يقرءوا جزءاً من القرآن في أول نهارهم، وجزءاً في آخر يومهم، أو أكثر من ذلك كما كان شباب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون؟ أين المسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى المساجد والصلوات؟ أين هذا الذي كان يُترك بعضه أو كثير منه بحجة الانشغال بالدارسة والتفرغ لها؟ فما بالنا نشكو هذه الشكاوى المزعومة، وندعي هذه الدعاوى الموهومة، ثم إذا جاء الوقت وحانت الفرصة لم نجد الصورة الصادقة لهذه الدعوى.

إهمال الثقافة والاطلاع في أوقات الفراغ

إهمال الثقافة والاطلاع في أوقات الفراغ لماذا لا يستثمر الوقت في مثل هذا المجال لتحصيل مزيد من العلم، أو التهيؤ للعام القادم، أو مراجعة ما مضى من التحصيل، أو في زيادة في أبواب من الفهم والعلم يميل إليها الشاب أو الشابة، كأنه -كما أشرت من قبل- ينبغي ألا يكون خلال هذه المدة الطويلة في الإجازة الصيفية أي قراءة ولا اطلاع، ولا كتاب، ولا مقال. نجد كأن الإنسان إنما جعل له هذا الوقت ليبدده من غير فائدة، ونحن نعلم ما كان من سلفنا رضوان الله عليهم كيف نقلوا لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف نقلوا لنا القرآن الكريم، كيف نقلوا لنا هذه الثروة الهائلة من العلوم الإسلامية، والمؤلفات الضخمة، حيث لم يكن أحدهم ينام ملء عينيه، ويأكل ملء ماضغيه، ويطمئن إلى الدنيا، وينشغل باللهو والعبث، بل كانوا على جد وعمل. فهذا ابن عقيل الحنبلي يقول: إنه لا يترك لحظةً إلا وهو ينشغل بقراءة، فإن لم يكن فبكتابة، فإن تعب تمدد وشغل فكره في مسألة من المسائل، وكان بعض السلف وبعض علماء الأمة من أمثال إمام الحرمين الجويني لا ينام إلا مغلوباً، فليس له وقت في النوم، وإنما يقرأ ويطالع ويدرس ويعمل، حتى يرهق فينام، فإذا نام نومةً قصيرةً كانت أو طويلة استيقظ وواصل عمله. جد ودأب واستثمار واستغلال، فما بالنا نحن في هذه الظروف اليسيرة التي هيأ الله فيها أسباباً من النعم كثيرة، نفرط مثل هذا التفريط، وندع مثل هذه الفرص دون اغتنام.

التقصير في التوجيه للشباب

التقصير في التوجيه للشباب ونجد أيضاً أن هناك ضعفاً فيما ينبغي أن يقدم للشباب في هذه الأوقات، فلا نرى كثيراً من البرامج التي تحثهم على القراءة والاطلاع، لا نجد مسابقاتٍ ثقافية تتناسب مع وقت الفراغ وتكون فيما ينفع ويثمر. لا نجد أيضاً التوجيه الإعلامي المناسب الذي يعمق هذا التوسع الفكري والاطلاع الثقافي لدى شبابنا، حتى إننا نجد أحياناً صوراً ممسوخةً لا يعرف فيها أحدهم ما درسه من المناهج، بل لا يعرف أحدهم أن يجيد كتابة اسمه فضلاً عن أن يكون صاحب علم ومعرفة.

دعوة إلى استغلال الأوقات في تنمية المهارات

دعوة إلى استغلال الأوقات في تنمية المهارات كسب العمل التدرب على المهن الفرص التي تتاح في هذا الوقت للشباب، لماذا لا تستغل في العمل والجد وتحمل المسئولية؟ لماذا يبقى شبابنا حتى التخرج من الجامعة وهو لا يزال غير قادر على تحمل المسئولية؟ ألم يكن من صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم من قاد الجيوش وهو في السابعة عشرة من عمره؟ ألم يكن منهم من تولى الإمارة، ومن عمل أعمالاً وقام بمهمات عظام، كمهمة نقل القرآن وكتابته التي قام بها زيد بن ثابت وهو شاب غض طري، فلماذا لا نعود أبناءنا على تحمل المسئولية؟ ولم يعيشون على كد آبائهم فحسب دون أن يتهيئوا لحمل المسئولية والقيام بالعمل؟ لقد كان عمر بن الخطاب ينظر إلى الرجل فتعجبه عبادته وطاعته، فيسأل عن عمله ونفقته، فيقال له: إنه لا عمل له، وإن أخاه أو أباه ينفق عليه، فيسقط من عينه؛ لأن الإنسان بلا عمل وبلا مسئولية وبلا مهمة لا قيمة له، كيف يعيش بغير كدح في الحياة واستثمار لها، وأخذ بالأسباب التي تعينه على طاعة الله عز وجل فيها. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أكل ابن آدم طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده)، ونعلم توجيهه عليه الصلاة والسلام عندما للرجل الذي جاءه يسأله فأعطاه، ثم جاء يسأله فأعطاه، ثم قال له: (أليس عندك من مال؟ قال: لا إلا قصعةً وكذا، قال: فائتني بهما، فنادى بهما النبي صلى الله عليه وسلم للبيع فبيعا بدرهمين، فقال: كل بدرهم واشتر بدرهم فأساً أو قدوماً، ثم اذهب فاحتطب، فذهب فعمل فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام)، وبين أن شرف العمل وقيمته في هذا الدين الإتقان فيه، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، لا بد أن نستغل هذا الوقت لنشغل أبناءنا وفتياتنا بما يعود عليهم بالفائدة والنفع. ونحن نعلم أن هناك فرصاً من العمل تتاح للطلبة على وجه الخصوص ليشغلوا أوقاتهم، وليكتسبوا بعض الخبرات، ولكن أيضاً هناك بطالة مقنعة، بعضهم يأخذ أعمالاً أو وظائف لمجرد أن يأخذ بعض الأموال دون أن تكون هناك مهمة ولا عمل ولا اكتساب لخبرة، هذا أيضاً نوع ليس مرغوباً فيه. ونجد أيضاً فرصاً أخرى تتيحها معاهد التدريب المهني للتدرب في مجال الكهرباء أو الميكنيكا أو غير ذلك من الأمور النافعة التي تجعل الإنسان عنده مهنة تدفع عنه الفقر إن شاء الله عز وجل، وهذا أمر متاح معروف، وقد رأيت له إعلانات كثيرة تدعو الشباب إلى أن يشتركوا في مثل هذه الدورات المجانية بغير مقابل، فاذهبوا وانظروا مدى الإقبال عليها، فإنكم واجدون حالةً تحتاج إلى إعادة نظر. وهناك فرص أخرى كثيرة ينبغي أن تستثمر؛ لأجل العمل، ولأجل تحمل المسئولية، ومن ذلك المراكز الصيفية التي تجمع بين كثير من المنافع: في استغلال الأوقات، والدفع والتشجيع على العبادة والطاعات، وزيادة العلم والثقافة، واكتساب المهارة، وغير ذلك. والرسول عليه الصلاة والسلام قد بين لنا أنه: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم)، وأخبر عن نفسه أنه كان يرعاها لأهل مكة على قراريط، ليبين لنا شرف العمل. وكان علماؤنا منهم الفراء، ومنهم الخياط، ومنهم البزاز، ألقابهم تدل على مهنهم، فإنهم اشتغلوا بالعمل وبالعلم، وتحملوا المسئولية، فينبغي لنا أن نلغي هذه الصورة من ترك العمل والعلم، خاصةً في صفوف أبنائنا وشبابنا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

صور للمضار والأخطار التي تقع في السفر الخارجي

صور للمضار والأخطار التي تقع في السفر الخارجي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى الحرص على نعم الله عز وجل، وتقييدها بشكرها علماً وعملاً. وأنتقل إلى صورة أخرى من صور واقعنا الاجتماعي، وهي صورة تتعلق بتبديد الثروات من مال ووقت وجهد، ويرتبط هذا التبديد إلى حد كبير بوقت الصيف والإجازة التي فيه، ونرى لذلك أيضاً صوراً عديدة: أولها: كثرة السفر إلى خارج البلاد. وثانيها: كثرة الأفراح وما يقع فيها من إسراف. وثالثها: بذل الأموال للأبناء في الهدايا والمصاريف وغيرها.

أخطار عقدية وسلوكية ناتجة عن السفر إلى الخارج

أخطار عقدية وسلوكية ناتجة عن السفر إلى الخارج وأقف وقفات سريعة ليس المقصود منها أن نفصل القول في هذه الجوانب، ولكنها ومضات يكفي القليل منها للتنبه إلى ما يقع من خلل، وما قد يستتبع ذلك من خطر. فنحن نجد كثيرين يتنادون إلى السفر من هذه البلاد إلى غيرها من بلاد أخرى، وكثيرون يذهبون أيضاً إلى بلاد الكفر التي لا تقيم وزناً لخلق، ولا ترفع شعاراً لإيمان، ولا شيئاً من ذلك، وهنا يتعرض المسلم في سفره هذا إلى مخاطر عدة: أولاً: المخاطر الاعتقادية: حيث يفتن بعض الناس أو الشباب على وجه الخصوص بأهل الكفر فيعظمونهم، ويرون فيهم مثلاً يحتذى، ويرون في صورة حياتهم قدوة ينبغي أن تطبق في حياتنا، وقد يفتنون في دينهم فيتشككون في بعض عقائدهم. ثانياً: المخاطر السلوكية: حيث يرون صوراً من التحلل، والإباحية، ووجود الخمور، وكثرة الخنا والفجور، ونحو ذلك مما نعلمه ولا يخفى على أحد، ولا يحتاج إلى بيان.

أخطار أمنية واقتصادية ناتجة عن السفر إلى الخارج

أخطار أمنية واقتصادية ناتجة عن السفر إلى الخارج ثالثاً: المخاطر الأمنية: نسمع بالاعتداء على الأموال بالخطف، أو الاعتداء بالضرب، ونحو ذلك مما وقع لكثيرين ولم يعتبر بهم غيرهم. رابعاً: المخاطر الاقتصادية: حيث يتفنن كثير من الناس في تبذير الأموال في غير ما حاجة إلى السفر أو اللهو، ونحو ذلك، فينفعون بذلك أعداء الأمة، ويضعفون مواردهم المادية واقتصاد بلادهم، وهذا أيضاً كله صورة مصغرة.

معالجة الأوهام الدافعة إلى السفر إلى الخارج

معالجة الأوهام الدافعة إلى السفر إلى الخارج عندما تبحث عن الدعوى في ذلك، تجد أنها: نحن نريد أن نرفه عن أنفسنا، وأننا خلال فترة طويلة لم يكن عندنا فرصة لهذا الترفيه. وأقول: هذا أيضاً تصور غير صحيح، فنحن في كل أسبوع عندنا يومان من أيام العطلة والإجازة، وعندنا عطلة في الربيع، وعطلة في الأعياد، وعطلة في رمضان، وأخرى في الحج، وكثير من الناس يقضون هذه العطل فيما يقولون إنه ترفيه عن أنفسهم، أو تجديد لنشاطهم، فهل يضاف إلى ذلك ثلاثة أشهر ربما تكون ربع العام، فيكون ترفيهنا أكثر من نصف العام، إذاً: فأين علمنا، وأين عملنا، وأين جهدنا وجهادنا؟! إذا كان نصف عمرنا يقضى فيما نجعله ترفيهاً أو نحو ذلك، وإذا كنا نجد أننا بحاجة إلى ذلك، فينبغي ألا يصاحب ذلك شيء من المحرمات، ولا الوقوع في معاصي الله عز وجل، وينبغي ألا يكون ذلك مبرراً لكل هذه التجاوزات والترخصات بحجة أننا نريد أن نرفه عن أنفسنا. وإذا أردنا أن نرفه عن أنفسنا فإن هناك مواضع كثيرة في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد التي يقل فيها الفساد، ولا يوجد فيها ما في بلاد الكفر، فإن كنت فاعلاً ففي مثل هذا واقتصد في الوقت والإنفاق؛ لأن هذا كله ينبغي أن يقابل بأمر آخر نحتاج إليه ونستفيد منه أكثر من هذا. ونحن نعرف أيضاً أحوال إخواننا المسلمين في بلاد كثيرة كالبوسنة والهرسك، وكشمير وغيرها، أفيكون لنا كل الاطمئنان والسعادة في أن نبذل وننفق ونلهو ونلعب ونمرح ونفرح، دون أن نتذكر إخواننا باقتطاع شيء من أموالنا، أو باقتطاع شيء من وقتنا لنتفقد أحوالهم، أو نزورهم في بلادهم، أو غير ذلك مما ينبغي أن نشغل به أنفسنا وأفكارنا وعقولنا. أين نحن أيضاً من سفر العبادة؟ لم لا يكون هذا الموسم موسماً لمجاورة بيت الله الحرام في مكة المكرمة، ولزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة؟ وقت هنا ووقت هناك، الانتقال والتغيير للمكان وللناس هو أيضاً نوع من التجديد، أفلا يكون ترفيهاً؟ أفلا يكون زيادة للإيمان؟ ألا يوجد صورة من صور الانتفاع إلا أن يكون السفر إلى خارج البلاد، هذا أيضاً أمر ينبغي أن يكون الإنسان منه على ذكر، علماً بأن المسلم ليس عنده في الحقيقة فراغ حتى يقول: أريد أن أبدد هذا الوقت، فالوقت هو الحياة: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع لم تفرط في هذا الوقت والله عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ويقول: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7]، أي: إذا فرغت من شأن الدنيا وأعمالها، فانصب لطاعة الله عز وجل، فليس هناك فراغ في الحقيقة، فالدنيا مزرعة وحرث للآخرة، وكل وقت يمكن أن تستثمره في طاعة الله عز وجل؛ ولذلك ينبغي أن نتنبه إلى هذا المعنى.

صور للمضار الناتجة عن الأفراح وغيرها

صور للمضار الناتجة عن الأفراح وغيرها ونجد الصورة الأخرى أيضاً في الأفراح وما يصاحبها من إسراف وتبذير بدعوة الأعداد الكبيرة، وتهيئة الأطعمة الوفيرة، واشتراط تغيير الملابس للنساء، وغير ذلك من أمور ينفق فيها من الأموال ما ينبغي أن يدخر ويبذل في أبواب الخير أخرى، أو ينتفع به لأمور أعظم من هذا وأشرف. وإذا كان يقترن مع ذلك محرمات فيكون الإنفاق في هذا الباب إنفاقاً محرماً، وغير ذلك من الصور التي تقترن في أمور الأفراح وهي كثيرة جداً. وكذلك الأموال التي يعطيها الآباء لأبنائهم؛ ليشتروا ويرفهوا عن أنفسهم دون أن يسألوهم في أي شيء صرفوا هذا المال، وقد يصرفونه فيما يضرهم، وقد يكون مدخلاً لهم إلى شيء من المحرمات، أو من المخاطر الكبرى كالمخدرات وغيرها: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة

دعوة إلى اليقظة وشكر نعمة الله

دعوة إلى اليقظة وشكر نعمة الله فينبغي الترشيد والانتباه؛ ولذا ألخص قولي في دعوة صادقة لنا جميعاً أيها الإخوة: أن نحرص حرصاً أكيداً على طاعة الله، وأن نستثمر الأوقات التي أتاحها الله عز وجل لنا، لا لشيء إلا لذكره ولشكره سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62]. دعوة صادقة: أولاً: بترشيد الإنفاق والتبرع في سبيل الله؛ رشدوا في السفر والأفراح، وابذلوا في سبيل الله عز وجل. ثانياً: المحافظة على الأوقات، والعمل بطاعة الله عز وجل: أكثروا من الذكر والتلاوة، وطلب العلم، واستغلال الوقت في هذه الفرصة المتاحة. ثالثاً: ترك البطالة، والاشتغال بالأعمال. رابعاً وأخيراً: تقوية الأواصر والتعاون على الخير: لم لا تكون الإجازة فرصة عظيمة لصلة الأرحام والتزاور، وتقوية الأواصر، وقيام المشاريع الخيرة بين أهل الحي والجيران؟ لم لا نستثمر هذه الأوقات في طاعة الله عز وجل؟ اللهم إنا نسألك أن توفقنا لما تحب وترضى، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين يا رب العالمين. اللهم استعملنا في طاعتك، وسخرنا في الجهاد في سبيلك، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك أن توفقنا للطاعات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت. اللهم تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، ومن جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، ورزقاً طيباً، وعلماً نافعا، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرةً بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، يا سميع الدعاء. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، اللهم اجعل دائرة السوء على الكافرين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المضطهدين والمعذبين، اللهم رحمتك بالمشردين والمبعدين، اللهم رحمتك بالأسرى والمسجونين، اللهم رحمتك بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، والنسوة الثكالى، اللهم ارفع عنهم البلاء، اللهم وارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم اجعل ما قضيت لهم زيادة في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين. عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.

البطل الفريد والشهيد القعيد

البطل الفريد والشهيد القعيد ما زالت الأمة الإسلامية على مر العصور والدهور تنجب أبطالاً يعانقون الكواكب والنجوم رفعة وعزة، ومن هؤلاء الأبطال بطل شامخ عزيز، بطل شاء الله أن يجعل من حياته ومواقفه وهيئته صورة فريدة تلفت الأنظار، إنه البطل القعيد أحمد ياسين رحمه الله، ذلك الرجل الذي جمع الله بكلماته جموعاً متفرقة، وأحيا بها نفوساً ميتة، ذلك الرجل الذي أوقع في النفوس والقلوب أعظم التأثير بكلمته وخطابه، وصبره وثباته الذي شمخ به إلى العلياء، مقاوماً كل قوى الظلم والطغيان، ومستمسكاً بالوحي والقرآن، حتى منّ الله عليه بالشهادة والموت في سبيله، فإلى جنة الرضوان، بإذن الرحيم الرحمن.

ومضات من حياة الشيخ المجاهد: أحمد ياسين رحمه الله

ومضات من حياة الشيخ المجاهد: أحمد ياسين رحمه الله الحمد لله، لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحمل دعوته، ورفع رايته، وأسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما أبعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون: (البطل الفريد والشهيد القعيد رحمه الله تعالى). هذا هو موضوع حديثنا، وأحب بادئ ذي بدء أن أشير إلى أن خطيب المنبر يتعرض لضغوط نفسية كثيرة، فما عسى أن يقول في الأحداث العظيمة، والأمور ليست على ما يحب المرء ويرضى، وكيف يلبي ما قد يجول في خواطر ونفوس السامعين؟ وكيف يتلقى قبل خطبته وبعدها من الناس ما يقولونه من مشاعرهم أو ما يطلبونه من توجيه وإرشاد، أو حث وحظ وتحريض على ما يرونه فيما يحبون أن يكون عليه الحال؟ وثمة أمر آخر لا يجهله أحد: وهو أن المقام يكون فيه الحديث محزناً ومؤلماً، ومن جهة أخرى يجب أن يكون مؤثراً ومحركاً يقع فيه من تأثير العواطف وضبط العقل وحكمته ما يكون، وهذا لا يسير إلا بتيسير الله سبحانه وتعالى. ولسنا -أحبتي الكرام- في مقام نريد فيه أن نثير العواطف، ونهيج المشاعر، ونذرف الدموع ثم نمضي مرة أخرى ونرجع إلى سيرتنا الأولى، ونعود على أعقابنا، ننشغل بدنيانا وننسى واقع أمتنا، ونتغافل عن سوء حالنا، ونتجاهل شدة هجمة أعدائنا. من الممكن أن يتحدث الخطيب فتلتهب المشاعر فيبكي ويُبكّي، وقد قلت مراراً أنني لا أجيد هذا ولا أحبذه، وأحسب أن كل مؤمن غيور قد اعتصر قلبه حزناً وأسىً، وما أحسب أحداً إلا وقد بكى ما شاء الله له أن يبكي، لكن الأمر ليس على ما نريد من هذه المشاعر التي تسكن بها بعض أحزاننا وآلامنا، فرأيت أن أتنحى عن مقامي هذا في الحديث إليكم؛ لأنني أجد صعوبة فيه؛ فرأيت أن أتحدث إليكم في هذا المقام بمسيرة حياته، ومجموع متفرق من كلماته. الرجل الذي نتحدث عنه اليوم حديثه إليكم أبلغ من حديثي، وكلماته أوقع في النفوس وأعظم تأثيراً في القلوب؛ لأنها ليست كلمات بلاغة وإنشاء ولكنها كلمات صدق وإخلاص، صدقتها الأفعال، وروتها الدماء، وشمخت بها إلى المراتب العليا من استعلاء الإيمان وثبات اليقين الذي نسأل الله عز وجل ألا يحرمنا وإياكم منه. مسيرة حياته في ومضات أرويها لكم وأقصها عليكم دون أن أعلق إلا باليسير.

استشهاده رحمه الله

استشهاده رحمه الله ومضى رحمه الله تعالى على هذه المسيرة حتى تعرض بعد الاعتقال إلى محاولة الاغتيال التي لم تكن بينها وبين استشهاده إلا نحو ستة أشهر، ثم جاءت الخاتمة الحسنة بإذن الله عز وجل في يوم الإثنين، وبعد صلاة فجر وبعد فريضة ووسيلة وورد ذكر؛ ليكون على موعد مع ما أراده الله عز وجل وتمناه هو لنفسه في هذه الدنيا، إنها الشهادة التي تمثل قمة الشموخ والإيمان وعظمة المسلم المجاهد، إذ كيف لهذا الرجل الضعيف الواهي الواهن أن يضرب بثلاثة صواريخ من طائرة تعضدها طائرات مقاتلة لا تستخدم إلا في حروب الدول، ولا تستخدم إلا في القصف المدمر العنيف؛ لأنهم كانوا يدركون عظمة هذا الرجل، وعظمة حركة رأسه، وعظمة كلماته، وعظمة حركة كرسيه!! ولقد كان في تدبيرهم حتف لهم بإذن الله عز وجل إذ أعطوه ما تمناه، وإذ جعلوا من شهادته وقوداً محركاً للأمة بإذن الله، وجعلوه يختم هذه الحياة بما صدقت كل كلمة من كلماته، وكل موقف من مواقفه، وجعلوا شهادته الأخيرة هي قمة عطائه، وأعظم جهاده، وأسمى درجات تضحياته وفدائه في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل نصرة دينه وأمته، وفي سبيل مواجهة أعدائه من أعداء الدين والأمة.

خروجه من سجون الاحتلال

خروجه من سجون الاحتلال وفي السجن ومع التعذيب تذهب عينه اليمنى، ويضعف بصره في عينه اليسرى، وتزداد آلامه في أحشائه رحمه الله، ويأبى الله عز وجل لهذا الرجل إلا أن تكون حياته فريدة، وأن تكون شهادته أيضا فريدة، فيخرج رغم هذا الحكم في صفقة تبادل الأسرى في عام (85).

تأسيسه لحركة حماس

تأسيسه لحركة حماس وبعد هذا! هل تاب من فعلته؟ وهل أقعدته أمراضه مع شلله؟ كلا! فقد تحرك حركة أعظم مما كان يتحركها من قبل، وتحرك حينئذ وقد رأى ثمرة جهده وجهد إخوانه وهي تزهر في المساجد التي امتلأت بالشباب، وفي الرجوع والأوبة إلى الله سبحانه وتعالى، فرأى الوقت مناسباً أن يجيش هذا الزخم الدعوي الإيماني ليكون فعلاً حركياً عملياً في مقاومة أعداء الله. فنشأت حركة المقاومة الإسلامية حماس.

المعتقل الأخير

المعتقل الأخير وبهذه الجهود العظيمة التي تحرك فيها الشيخ أعيد اعتقاله بعد عامين تقريباً، وسجن نحواً من عامين، وحكم عليه بحكم فريد غريب، حكم عليه بالسجن مدى الحياة وزيادة خمسة عشر عاماً، فانظروا كيف هو الطغيان والعنصرية اليهودية البغيضة! كيف يحكم على امرئ مدى الحياة وزيادة خمسة عشر عاماً؟ هل سيعتقل بعد موته خمسة عشر عاماً؟ وقد خيب الله أملهم، فلم تكن وفاته في سجونهم. ومرة أخرى وبقدر الله عز وجل وبسبب من أحد أبنائه وأبطاله ورجاله، يخرج الشيخ مرة أخرى بعد سنوات غير قصيرة عام سبعة وتسعين، ويخرج حينئذ وهو قائد عظيم، وهو الذي أخذ السمة العظيمة في تأسيس حركة الجهاد والمقاومة الإسلامية.

أول اعتقال

أول اعتقال اعتقل في العشرين من عمره أول اعتقال في زنزانة منفردة شهراً كاملاً، ثم خرج من بعد وواصل مسيرة الدعوة وتحريك الناس وتربية الشباب الذين لم يأتوا من فراغ، ولم يكن استشهاده ولا استشهاد أبنائه من حماس أمراً جاء فلتة من الزمان، أو جاء في اندفاع عاطفي؛ بل كان ثمرة تربية إسلامية إيمانية دعوية جهادية كان فيها هو الرائد القائد، ثم معه صحبه الكرام الذين قطعوا مراحل وعقوداً من الزمن قبل أن تأتي بطولاتهم، وقبل أن يسطروا بدمائهم تلك المآثر العظيمة والمواقف الجليلة. مضى رحمه الله تعالى حتى نشط في الدعوة نشاطاً كان فيه المبرر لاعتقاله ومحاكمته بتهمة عجيبة: (تدمير دولة إسرائيل). الرجل الذي كان يوم ذاك لم يتجاوز إلا منتصف الثلاثينات من عمره أو قريباً من الأربعين وهو على حاله المعروفة يواجه بهذا الاتهام، ويحكم عليه بالسجن ثلاثة عشر عاماً.

خروجه إلى الضفة بعد الاحتلال

خروجه إلى الضفة بعد الاحتلال في العاشرة أو الثانية عشرة من عمره حلت النكبة العظمى باحتلال اليهود عليهم لعائن الله لأرض الإسراء عام ثمانية وأربعين، وخرج مع أسرته طريداً مهاجراً كآلاف ومئات آلاف وبضعة ملايين من أهل أرض الإسراء، وانتقل إلى الضفة والقطاع كما انتقل الكثير من هؤلاء الناس؛ انتقلوا إلى هناك حيث قسوة العيش ومرارته وشدته، حتى إن الغلام الصغير الذي كان يدرس في المرحلة الابتدائية اضطر إلى أن يقطع دراسته، وأن يعمل في أحد المطاعم ليسهم في إعالة أسرة كانت تتكون من سبعة أفراد.

الشيخ المجاهد يصاب بالشلل

الشيخ المجاهد يصاب بالشلل لقد رأى الحياة المرة والظلم والطغيان في أشد صوره وأقساها منذ لحظات حياته الأولى؛ فارتسمت على صفحات قلبه، وسطرت في مخيلته، وجرت مع دمائه في عروقه، وسكبت في نفسه ما سكبت من رفض الظلم والعدوان وقوة المواجهة للطغيان. ومضى بعد ذلك ليكمل مراحل تعليمه في صغره ونعومة أظفاره، ومنذ فترة شبابه الأولى أراد الله عز وجل أن يكون في حياته عبرة عظيمة، وأن يكون في مواقفه وفي هيئته ما يجعله فريداً يلفت الأنظار، وقعيداً يشد الأبصار. في السادسة عشر من عمره تعرض لحادث كسرت فيها بعض فقرات من عنقه، وأصبح مشلولاً قعيداً لا يتحرك إلا قليلاً، ولم تلبث بعد فترات اعتقال وتعذيب وإجرام أن زادت حتى صار ذلك الرجل العظيم لا يتحرك منه إلا رأسه، ولكن رأسه إذا تحرك أقام الدنيا وأقعدها، وحرك الجماهير وألهبها، وأوقع في الأعداء ما يوقع من رعب وخوف، وما ينزل بهم من خسائر فادحة في أرواحهم وممتلكاتهم رحمه الله رحمة واسعة.

نشاطه رحمه الله في الدعوة إلى الله

نشاطه رحمه الله في الدعوة إلى الله في هذه الفترات من عمره لم يكن ذلك الفتى الشاب رغم هذه الحادثة ورغم الظروف القاسية قانعاً بأن يكون كغيره طريح فراشه، وقعيد كرسيه؛ بل كان في تلك الفترة من عمره داعية متحركاً، ومشاركاً في مواجهة الظلم والطغيان، فقد شارك في المظاهرات الاحتجاجية على العدوان الثلاثي في عام 1956م، وكان له دور ومشاركة دعوية، وعندما تخرج من الثانوية وقد تعلم عند الشيوخ في المساجد تقدم إلى مهمة التعليم؛ ليكون معلماً، وكادت أحواله الصحية أن تمنعه من ذلك، ولكن تيسير له ذلك؛ فعلم في التربية الإسلامية واللغة العربية، وبث روح العزة والمقاومة والجهاد، وبين حقائق الأعداء وطرائقهم في حرب الإسلام وأهله، وهذا من عجائبه. وصار يخطب في الجماهير، وكان خطيباً مؤثراً معبراً بحاله قبل مقاله، وكان في العشرين من عمره خطيباً للمسجد العباسي في غزة، وشهد له المنبر بالمواقف العظيمة التي كان يؤثر فيها في الناس في هذه الفترات والمراحل الأولى قبل أن يكون هناك في تلك الفترات الزمنية دعوة أو صحوة إسلامية؛ بل كان الإسلام غريباً يوم كان مد اليسارية والقومية والاشتراكية والبعثية قد مد في أمة الإسلام والعرب على وجه الخصوص مداً كاد ألا يسلم منه أحد.

وقفات وعظات من حياة الإمام المجاهد

وقفات وعظات من حياة الإمام المجاهد أنتقل بكم أيها الإخوة بعد هذه المسيرة إلى وقفات: أولاً: لو أن واحداً منا أصابه شيء من زكام يسير ربما تخلف عن الصلوات، والشيخ القعيد بأمراضه الكثيرة التي يحملها إلى آخر يوم من أيام حياته كان يشهد الصلاة في المسجد، ويؤدي صلاة الفجر في الجماعة دون أن يتخلف بأعذار كثيرة ربما يكون له فيها مندوحة شرعية عند الله سبحانه وتعالى. ثانياً: انظروا إلى مواصلة المسيرة التي لا تتوقف لأجل الظروف العصيبة، والممانعة الرهيبة التي مرت بها مسيرة حياته، فلم يثنه عن مضيه في دعوته ورفع راية الإسلام اعتقال ولا تعذيب، فضلاً عن أصل ما هو فيه من الإعاقة الظاهرة البينة. ثالثاً: لننظر إلى الأهم والأهم وهو: أن وقود كل قوة إسلامية، وكل عزة إيمانية، وكل انتصار في ميادين المعارك، وانتصار في ميادين النفس المثبطة إنما هو منهج التربية والدعوة الدعوة إلى الله التربية على الإسلام تنشئة الأجيال على القيم والمبادئ والمفاهيم والعقائد الإسلامية، هذه هي الركيزة الأساسية والقاعدة المتينة التي يشاد عليها حينئذ كل بناء قوي، وكل شموخ علي، وكل عزة قعساء، وكل مقاومة قوية، وكل قضية يراد لها أن تستمر، ولا يمكن بحال من الأحوال إلا أن نوقن بما كان عليه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يخرج إلى معركة وغزوة جهادية إلا بعد مضي خمسة عشرة عاماً من بدء دعوته، فهل كان فيها نائماً عليه الصلاة والسلام؟ هل كان فيها لا يؤدي دوراً؟ لقد كان يسكب الإيمان في القلوب، كان يغرس اليقين في النفوس، كان يصحح المسار في الأفكار، كان يقوم الممارسة في السلوك، كان يبين التصورات والمبادئ والعقائد والعلائق كيف تكون، كان يعلم شموخ الإيمان وقوة اليقين. فلما خرج إلى ميدان الدولة بعد الدعوة، ولما خرج إلى ميدان الجهاد بعد التربية؛ أخرج أمة عظيمة من أصحابه رضوان الله عليهم؛ فشرقوا وغربوا، وانتصروا أعظم انتصار في كل ميدان، فتلك هي القضية الأساسية في أمة الإسلام!

أهمية التربية الإيمانية في إعداد الأمة

أهمية التربية الإيمانية في إعداد الأمة ماذا نعمل؟! إن الطريق الطويل الذي رسمه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ورسمه كل قادة الأمة وأبطالها إنما يمر عبر التربية والتعليم، والدعوة الإيمانية الإسلامية التي لا بد أن نأخذ بها، وأن نأخذ بالحظ الأوفى والأوفر منها، وأن نشيعها في أبنائنا ومجتمعاتنا، وأن نغير بها القلوب والعقول؛ لتكون قلوباً إيمانية، وعقولاً إسلامية؛ فحينئذ ستكون بإذنه عز وجل مقاومة إيمانية، وجهاداً إسلامياً، ومنهجية شرعية، ورؤية واضحة، ومواقف مشرفة. ليست القضية انفعالاً عابراً، وقد حدثني أحد الإخوة قبل الخطبة، وهو يريد أن يؤسس لهذا المعنى، فقال: قد حزنا وتفاعلنا يوم مقتل الدرة ذلك الغلام الصبي الصغير، ورأيناها جريمة بشعة تحركت لها القلوب والعواطف، ثم مرت أيام وعدنا إلى ما كنا عليه! قال: وسيكون هذا مثل هذا. وأقول: بإذن الله عز وجل لن يكون هذا، لكنه لا بد أن ندرك أن معركتنا هي معركة الإصلاح في أعماق النفس أولاً، ومعركة الإصلاح في واقع المجتمع ثانياً، ومعركة التغيير في مجموع أحوال الأمة، فإذا توافر ذلك تحقق الوعد الرباني: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وتحققت النتيجة التي لا يشك فيها مؤمن: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، أما أن نقول: ماذا نصنع؟ ونصيح ما الذي يمكن أن نفعله ونحن نشعر أننا مقيدون؟ فأقول: إن من يقول ذلك عنده أمران ينبغي أن ينتبه لهما: الأول: تفريط وقعود عن ميادين عمل كثيرة مفتوحة أمامه، ويريد أن يخفف عن نفسه بهذه العاطفة الجياشة؛ فنقول له: انتبه! كن صادقاً مع نفسك، وإن كنت مؤمناً مسلماً تريد خدمة أمتك فأنت أعلم بما تقيمه في نفسك وأهلك. انظروا إلى أنفسكم واسألوها: كم منا صلى اليوم الفجر في مسجد جماعة؟ ومن تخلف كيف يقول: ماذا أصنع؟ ويقول: كيف أنصر ديني وأمتي؟ كيف تنصر دينك وأمتك وأنت من أسباب ضعفها، وأنت من أسباب بلاء الله عز وجل عليها؟! المحن التي يقدرها الله على الأمة هي بسبب تخلفها عن أمره، أو ارتكابها لنهيه، وهذا أمر واضح بين. الثاني: وهي قضية أخرى من القضايا المتعلقة بالعاطفة: أن الناس يريدون أن ينفسوا عن عاطفتهم، ولو أنني صحت لهم، وبكيت لهم، وبكوا؛ لخرجوا مطمئنين مرتاحين! كلا. لا نريد ذلك، نريد أن تترجم كل شعور بالرغبة في خدمة الدين، وكل شعور بالنقمة على أعداء الدين تترجمه إلى عمل طويل إلى التزام صادق إلى تغير حقيقي في حياتك إلى البذل لدينك من وقتك وقولك وفعلك وحالك ومالك وولدك ما استطعت؛ فإن المسألة أعظم من مثل هذه العواطف العابرة، واستمعوا لقول الله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. أين كفة الأزواج والأبناء، والعشيرة والأموال، والدور والقصور، والتجارات من كفة محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج الإسلام، والجهاد في سبيله وإعزازه، والتضحية لأجله؟! إذا تساوت الكفتان فلا فائدة ولا نفع، وإن لم ترجح كفة الإيمان والإسلام في نفسك على خاصة حظوظك الدنيوية وحياتك اليومية فلا نفع من ذلك، فلذلكم حاسبوا أنفسكم.

من كلمات الإمام المجاهد

من كلمات الإمام المجاهد أنتقل إلى كلمات أتمم بها حديث الشيخ إليكم، فقد كان ذلك حديث حياته، وإليكم حديث كلماته: بعد محاولة اغتياله الأولى كان مما قاله رحمه الله: (ألا تستحي الأمة من نفسها وهي تطعن في طليعة الشرف منها؟! ألا تستحي دول هذه الأمة وهي تغض الطرف عن المجرمين الصهاينة والحلفاء الدوليين دون أن يعطفوا علينا بنظرة تمسح عنا دمعتنا وتربت على أكتافنا؟! لا تنتظروا أن نستسلم، وأن نرفع الراية البيضاء؛ لأننا تعلمنا أننا سنموت أيضاً إن فعلنا ذلك، فاتركونا نمت بشرف المجاهد إن شئتم، أو كونوا معنا بما تستطيعون، فثأرنا يحمله كل واحد منكم في عنقه، ولكم أيضاً أن تشاهدوا أمواتنا، وتترحموا علينا، وعزاؤنا أن الله سيقتص في كل من فرط في أمانته التي أعطيها، ونرجوكم ألا تكونوا علينا، بالله عليكم لا تكونوا علينا يا قادة أمتنا ويا شعوب أمتنا). وأقول: إن من يعصي إن من يقصر إن من يفرط إن من يترك الأمر والواجب قد يكون وبالاً على نفسه وعلى أمته بهذه الحال. يقول الشيخ: (اللهم إنا نشكو إليك دماءً سفكت، وأعراضاً هتكت، وحرمات انتهكت، وأطفالاً يتمت، ونساء رملت، وأمهات ثكلت، وبيوت هدمت، ومزارع أتلفت، ونشكو إليك تشتت شملنا، وتشرذم جمعنا، وتفرق سبلنا، ودوام الخلف بيننا، نشكو إليك ضعف قومنا، وعجز الأمة من حولنا، وغلبة أعدائنا). كلمات فيها منهج لا يتسع المقام للتعليق عليه. ثم أنقل إليكم ما يريده منكم الشيخ وأمثاله من قادة الأمة ودعاتها وأبطالها. يقول: (إن القرآن هو منهج المسلمين، جهاداً بالنفس والمال، وبالعلم والتربية، فإذا تخلف المسلمون وتركوا العمل بهذا المنهج استبدلهم الله بقوم يحبهم ويحبونه) وهو يشير إلى قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]). ويقول لكم الشيخ أيضاً: (أؤكد لكم أن الله غالب على أمره، وأن ثقتنا في الله أولاً، ثم في شعوب أمتنا المسلمة، الشعوب المؤمنة كبيرة وعالية -أي: ثقتنا كبيرة وعالية- وأننا بفضل الله ثم بدعائكم ودعمكم سننتصر، وسيجعل الله لنا ولكم بعد عسر يسراً). وها هو يؤكد لكم قائلاً في ثبات يبثه في أرواحنا ونفوسنا (سنسير على الدرب حتى الوصول إلى التحرر والعودة، وإقامة الدولة الفلسطينية المسلمة، وعاصمتها القدس الشريف مستعينين بالله أولاً، مهتدين بمبادئنا الإسلامية وعقيدتنا الغراء، ومطمئنين على الوصول إلى الحرية والنصر؛ لأن معركتنا نهايتها إما النصر وإما الشهادة: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]). لقد كانت رؤيته واضحة، وكان يقينه كاملاً، وكان فهمه لمبادئ الإسلام ولسنن الله عز وجل عظيماً! ثم هاهو يقول لنا في ثبات عظيم عندما سئل بعد المحاولة الأولى لاغتياله: هل أخذت الاحتياطات اللازمة؟ فأجاب إجابة فيها شيء من الاستهزاء لمثل هذا السؤال فقال: (بالتأكيد قد أخذت الاحتياطات إلى أقصى درجة الحيطة والحذر، ودليل ذلك أنني أجلس في بيتي ولم أغادره). ولقد كان كذلك رحمه الله، ثم هو يقول في هذه الحادثة: (المقاومة وحماس ستسير في حياتنا وبعد مماتنا، واغتيالي لن يؤثر على مسار الحركة، ولا على مسار المقاومة، وهذه التهديدات تزيد من قوة وإيمان هذا الشعب والتفافه حول خيار المقاومة). ويقول في كلمات كأنما يقولها وهو يعلم هذه العاقبة: (لا أخشى الموت، وشهادتي لا تعني نهاية المعركة مع الإسرائيليين). هذه الكلمات أسوقها إليكم وهي غنية عن التعليق.

من أقوال من يعرفون الشيخ المجاهد

من أقوال من يعرفون الشيخ المجاهد ما قاله بعض الناس ممن يعرفون الشيخ هو موضع درس وعبرة واتعاظ؛ لأننا نحتاج إلى أن نعرف الرجال ليس في آخر مشهد من حياتهم، ولكن في مسيرة حياتهم في مبادئهم في أعمالهم في منهجيتهم في طريقة تأثيرهم وتغييرهم فيما أنشئوه وعملوه. وقد سئل رحمه الله سؤالاً: هل ألفت كتباً؟ فقال: (لا. لست كاتباً ولا أؤلف كتباً؛ لكنني كنت لا أعلم شيئاً إلا عملته وعلمته، فما من آية أعلمها أو حديث إلا عملت بها جهدي وعلمتها). لقد كان هذا منهجه؛ ولذلك سيذكر الشيخ لا بطبعات من الكتب يعاد طبعها، وإنما بأجيال تتتابع على طريق الجهاد والاستشهاد، وكما سبقه من أبنائه سيلحقه من أبنائه من يجدد سيرته وذكره رحمه الله. أحد المقربين إليه يقول: (لم أر إنساناً في حياتي فوض أمره إلى الله مثل الشيخ رحمه الله، كان عظيم التوكل على الله عز وجل والاعتماد عليه) ويقول آخر: (القعيد الذي أقام العالم حين تراه ثم تسمع عن إنجازاته تدرك تماماً قول الله جل وعلا في الحديث القدسي: (فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)). قال بعضهم بلسان حاله: (إن الروح إذا سمت فعلت الأفاعيل، ولو كانت قعيدة كرسي متحرك، وإن كانت حبيسة شلل بين؛ فإن الروح وسموها يرتفع إلى الله عز وجل، ولن يقطع حبلها بربها أحد، ولم يمنعها من الانتصار حبس)، انتصر الرجل -والله- رغم هزيمة الأمة، فحق أن يقال عنه: إنه كان وحده أمة! نسأل الله عز وجل أن يتقبله في الشهداء، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجعل دمه لعنة على الظالمين والطغاة المجرمين من اليهود وأعوانهم أجمعين، وأن يجعله وقود حركة وإيمان، وغيرة ووحدة، ونصرة وعزة، ومقاومة في أمة الإسلام والمسلمين. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

دروس من جريمة الاغتيال

دروس من جريمة الاغتيال الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه. وإن أمتنا الإسلامية أمة عظيمة، ولن ينقطع خيرها ولا أبطالها ولا رجالها، وقد أكدت الأحداث الماضية وتؤكد حادثة الشيخ هذا المعنى، وكلنا مدعوون إلى أن يكون لنا إسهام ودور، وأرجو ألا يسأل أحد سؤال التائه المتحير بعد كل هذه المعاني. وأحب أن أشير إلى أن هذا الفعل يجلي كثيراً من المعاني والدروس، والمقام لا يتسع لها، لكنه يظهر بوضوح وجلاء ما يلي: أولاً: الخسة والدناءة والإجرام والإرهاب لشذاذ الأرض وأفاكيها من عصبة الإجرام من الصهاينة في أرض الإسراء. ثانياً: التآمر والتأييد المطلق لهذا الكيان الصهيوني الباغي بدعمه مالياً، وإعطائه الأسلحة التي يفتك بها، ثم بالتستر والتأييد على جرائمه؛ حتى لا يكون هناك أدنى شك في مواقف أمريكا وما تقوله وما تزعمه لدى أي إنسان مسلم مؤمن عاقل رغم كل الحوادث التي سبقت، ورغم هذه الحادثة التي وقعت. ثالثاً: ألا تعويل على ما يقال من الرأي العالمي، ومن الموقف الدولي، ومن الضغوط الدولية رباعية أو سداسية أو سباعية أو أهرامية، أو ثلاثية كما نسمع حتى مللنا السماع. رابعاً: هناك وضوح في أن هذه المسيرة السلمية التي ما زال الحديث عنها رغم كل شيء يتكرر أنها محاولة لإحياء ميت قد نزعت روحه وفاضت إلى بارئها؛ فإن كان بالإمكان إحياء الميت فبالإمكان أن نصدق أن هذا الأمر حقيقي وواقع كما يقال ويروج له. خامساً: فإن هذا ليس دليل قوة عند تلك الدولة الباغية، بل هو دليل ضعف وهلع وخوف وجزع من أثر أولئك القوم الذين تحركوا ونهضوا. سادساً وأخيراً: الاعتزاز بالإيمان والالتزام بالإسلام هو الذي يعطي لصاحبه القيمة العظمى، والمكانة الكبرى، والقدر الكبير في الدنيا، والنجاة والفوز في الآخرة بإذن الله، وإلا فما قيمة رجل مشلول اليدين والرجلين، أعمى إحدى العينين، قعيد لا يتحرك، لكن الدنيا كلها حتى الدول العظمى تحدثت عنه سلباً أو إيجاباً، فرض نفسه ووجوده على العالم كله، أما في قلوب المسلمين والمؤمنين فكأنما فقدوا أعز من آبائهم وأبنائهم، وكأنما فقدوا أملاً عظيماً، لكنه على هذا النحو الذي أجراه الله عز وجل وقدره أصبح مساراً جديداً، ونوراً على الطريق، نسأل الله عز وجل أن يكون له أثره الميمون والمبارك، وهكذا ينبغي أن نكون جميعاً. هلل الشعب وكبر قائلاً الله أكبر شرعة الحق لها نصر من الله مؤزر فلتعد أيام مجدي وليعد تالي المؤزر قد دنا فوج جهاد دربه صعب مغدر كرم الله شهيداً جاد بالروح وشمر لم يكن يخشى الأعادي لا ولا في الحرب أدبر فهو في جنات عدن وبنعم الله يفخر ينبغي لنا أن نعظم يقيننا بإيماننا وإسلامنا وشموخنا واستعلائنا بعزتنا الإيمانية والإسلامية، ولن ترهبنا القوى العظمى ولا الصغرى ولا التحالفات ولا التصنيفات الإرهابية التي توزع يميناً ويساراً؛ فإن كذبها وفضحها قد صار ظاهراً لكل ذي بصر وبصيرة. نسأل الله عز وجل أن يخلف الأمة في شهيدها خيراً، وأن يجعل في شهادته نفعاً وأثراً، وأن يلحقنا به وبغيره من الصالحين والدعاة والمجاهدين كما يحب ربنا ويرضى، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين، وأن يستخدمنا في نصرة الدين، وأن يكتبنا في ركب المجاهدين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يردنا إلى البر والتقوى، وأن يجعلنا من عباده الذين يحبهم ويرضى! نسأله سبحانه وتعالى أن يحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة! نسألك اللهم أن ترد كيد الأعداء في نحورهم، وأن تجعل كل جريمة عليهم شؤماً ولعنة وزلزلة وهزيمة نكراء بإذنك وعونك وقوتك ونصرك وتأييد يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تدمر قوتهم، وأن تخالف كلمتهم، وأن تستأصل شأفتهم، وأن تجعل بأسهم بينهم، وأن ترد كيدهم في نحرهم! اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعل كل ما يفعلونه من الجرائم وبالاً عليهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، واشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر قلوبنا ونفوسنا بنصر الإسلام والمسلمين في أرض فلسطين عاجلاً غير آجلٍ يا رب العالمين! اللهم اقذف الرعب في قلوب اليهود، واجعل الخوف في صفوفهم، اللهم فرقهم كل مفرق، وشتتهم كل مشتت يا رب العالمين! اللهم عليك بهم وبأعوانهم من الصليبيين المناصرين، اللهم عليك بهم أجمعين، اللهم إنا نسألك أن ترد كيدهم في نحرهم، وأن تؤيدنا وتعزنا بنصرك وقوتك وعزتك وتأييدك يا رب العالمين! اللهم اجعل في هذا الحدث خيراً، واجعل لنا فيه عبرة وأجراً، ونسألك اللهم يا أرحم الراحمين أن تعز وتنصر إخواننا في أرض فلسطين، وأن تثبتهم على الحق يا رب العالمين وفي كل مكان رفع فيه جهاد ومقاومة للعدوان يا رب العالمين! نسألك اللهم أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا يا رب العالمين، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين! عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا عن الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر أصحاب القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر، وعثمان، وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الشباب بين الحماسة والكياسة

الشباب بين الحماسة والكياسة من الأمور التي خص الله عز وجل بها الشباب: الحماسة، والحماسة سلاح ذو حدين، إن استخدم باتزان وتعقل نفع، وإن استخدم بتهور وطيش ضر وأفسد، ولهذا كان لزاماً على الشباب أن يربطوا حماستهم بشريعة الله عز وجل، حتى لا تحصل أمور لا تُحمد عقباها في الدنيا والآخرة، وواجب كذلك على الآباء والعلماء والدعاة وغيرهم توجيه وترشيد وتهذيب هذه الحماسة عند الشباب، حتى تؤتي ثمارها بإذن الله تعالى.

اختيار الموضوع وإشكاله

اختيار الموضوع وإشكاله بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي أتم النعمة وأكمل الدين، وجعل الحجة على كل أحد لكتابه المبين، وجعل العصمة في كل أمر لرسوله الكريم، نحمده سبحانه وتعالى، لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يخيب من رجاه، ولا يضل من استهداه، ولا يحرم من استعطاه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى. والصلاة والسلام التامان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب هذا الكلام في موازين حسناتنا، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، وأن يجعل لنا به أجراً، وأن يجعل لنا من ورائه نفعاً. إن اختيار هذا الموضوع لم يكن بطلب من أحد ولا بتحديد منه، وإنما كان بمبادرة مني، وإذ أعترف بذلك فإني أقر بأن الموضوع مشكل، وكان بعض الأساتذة يقولون: إنه موضوع شائق. فقلت: هو بالكاف لا بالقاف. فهو شائك، وربما بين طرفي الموضوع يغضب من قد يظن أنه انتُقِصَ شيءٌ من تلك الحماسة، أو تكون لفئة أخرى غضبة مقابلة إن رأوا أنه قد جاء الحيف على الكياسة، وبين الأمرين دائماً يكون شيء من التوازن المطلوب الدقيق الذي لا يؤمن أن يكون فيه شيء من الخلل، فنسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد. وأول ما نبدأ به من حديثنا حديثنا عن عنوان هذا الموضوع، ولا شك أننا سنحاول أن نجعل حديثنا في نقاط محددة وفي تعليقات مختصرة؛ لأن الموضوع رحب الجوانب متعدد الشعاب كثير الفروع دقيق المآخذ، مما يجعل الاسترسال في بعض فروعه يحيف باستكمال الموضوع في بقية جوانبه.

تعريف الشباب

تعريف الشباب في معاجم اللغة يقولون: الشباب: الفتاء والحداثة. وذكر صاحب تاج العروس عن محمد بن حبيب تحديدات للفئة العمرية التي تتصل بالشباب، ومن محاسن ما ذكره أنه قد وسع في بعض الأحوال فجمع من هم في المصطلح العام خارج دائرة الشباب، فقد نقل عن محمد بن حبيب أن الشباب يمتد من سن السابعة عشرة حتى الحادية والخمسين، وبعد ذلك هو شيخ، لكنه أردف بعد ذلك الأقوال الأخرى، فمما قاله: إنه من البلوغ حتى يكمل الثلاثين. وقيل: ابن ست عشرة سنة إلى ثنتين وثلاثين، ثم هو كهل. لكننا باقون على العهد الأول لنكون جميعاً شباباً إن شاء الله، ولنا عود إلى معنى الشباب في بعض نقاطنا الأخرى.

تعريف الحماسة

تعريف الحماسة أما الحماسة فهي في اللغة تدل على الشدة، والحماسة: الشجاعة والشدة. والتحمس هو: التشدد، ويقولون في اللغة: حمس بالشيء إذا تعلق وتولع به. والأحمس: هو الورع من الرجال المتشدد في دينه. وكذلك جاء في لسان العرب أن الأحمس هو الشديد الصلب في الدين والقتال. والكلام في هذا يطول، وخلاصته التي يمكن أن نخلص بها إلى تعريف محدد أو واضح أن الحماسة: تعلق وولع بالأمر يدعو إلى التشدد فيه، والجرأة والشجاعة في إنفاذه. فهو يبدأ بشعور وعاطفة وتعلق ينبثق منه حينئذ تغير وسلوك نفسي يتولد من خلاله جرأة تترجم إلى شجاعة في إنفاذ الأمر وعدم التساهل أو الترخص فيه.

تعريف الكياسة

تعريف الكياسة وأما الكياسة فهي أصل يدل على ضم وجمع، ومنه الكيس الذي تجمع فيه الأشياء، والكيس في الإنسان ضد الخرق أو ضد الحمق؛ لأنه -كما قال ابن فارس في معجمه- مجتمع الرأي والعقل، والكياسة: هي خلاصة الرأي والعقل، ولذلك يقولون: الكيس: العقل والفطنة والفقه. والكيس في الأمور يجري مجرى الرفق فيها، والكَيّس هو: الظريف الخفيف المتوقد الذهن، ورجل كيس الفعل: أي: حسنه. ومن هذه الومضات أيضاً ننتهي إلى خلاصة نقول فيها: إن الكياسة هي عقل وفطنة تقود إلى الرفق في الأمور والإحسان في أدائها دون حمق. وإذا نظرنا إلى هذه المعاني فسيتبين لنا أنها ليست متقابلة، بمعنى: ليست متضادة، وإنما كل منها يعطي دلالة في جانب من الجوانب، فجانب الحماسة متعلق بالعاطفة والشعور والحمية، وجانب الكيس والكياسة متعلق بالعقل والرفق والرشد، ولا يعني أن يكون العاقل ليست له عاطفة، ولا يعني كذلك أن يكون المتحمس طائشاً لا عقل له ولا رشد عنده، وهذا هو الذي نريد أن نعالجه، أو هذه -إذا صح التعبير- هي المعادلة التي نحب أن يكون في طرفيها اتزان كما هو شأن المعادلات كلها.

الصلة بين الشباب والحماسة

الصلة بين الشباب والحماسة عندما نخص العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة المجتمعة في عنواننا لابد أن يثور Q ما صلة الشباب على وجه الخصوص بالحماسة؟ والجواب أن الشباب فيه قوة وفتوة، ونحن نرى ونعلم جميعاً أنه إذا ذكرت الحماسة جاء في الذهن الشباب، وأنه إذا ذكرت الكياسة جاء في الذهن الشيوخ، وهذا انطباع تغليبي، ولكنه ليس إقصائياً كما أشرت من قبل. وأما لماذا يتحمس الشباب، وهل الحماسة في الشباب عيب أو شيء طارئ أو أمر غريب فنقول: إن الحماسة في الشباب أمر طبيعي، لعناصر كثيرة، منها أن الشباب فيه حيوية وقوة، والله سبحانه وتعالى قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54]، فالشباب قوة بين ضعفين، وانطلاقة بين هدوءين أو سكونين، وحركة واندفاع بين جانبين فيهما من الهدوء والسكينة ما فيهما، حتى من الناحية الطبية نعلم أن الفئة العمرية في فترة البلوغ ما تزال الخلايا والأعضاء تزيد فيها وتنمو وتعظم وتتكاثر، وهذا أمر بين، وإذا رجعنا إلى اللغة فإنها تسعفنا بهذه المعاني بشكل واضح؛ لأن الاشتقاق اللغوي للأصل (شب) يبين أن مادة الشين والباء في اللغة تدل على نماء الشيء وقوته في حرارة تعتريه، وهذا يدلنا على طبيعة الامتزاج بين الحيوية والحرارة والقوة وطبيعة الشباب، ومن ذلك قولهم: شبت النار. أو: شبت الحرب. ويقول ابن فارس: ثم اشتق الشباب منه، وهو النماء والزيادة في قوة جسمه وحرارته. ولذلك نرى هذا الأمر واضحاً، ونرى أن من طبيعة الشباب الفطرية -بل والخلقية البدنية أو ما يسمى بالبيلوجية، أي: الطبيعية الفيزيائية- أنه بطبيعة خلقته في هذه الفترة العمرية فيه نمو وزيادة، وهذا مما يزيده قوة وحماسة، ومن هنا فالحماسة قرينة الشباب بدون أن يكون هناك افتعال لها أو تكلف فيها أو تقلب لأسبابها، بل هي قرينة الشباب من هذا الوجه.

الشباب والتحدي

الشباب والتحدي هناك جانب آخر في طبيعة الشباب في مقتبل العمر، وهو قضية إرادة التحدي، فإن من طبيعة هذه الفترة العمرية أن فيها عزيمة صلبة وإرادة قوية. ومن خصائص الشباب قبول التحدي، بل والتعرض له والبحث عنه والثبات عليه، وسوف نأخذ أمثلة على ذلك، والأمثلة ستكون دائماً محدودة؛ لأننا لو تشعبنا فيها سيطول المقام عن ذكر ما وراء ذلك، ومن هذه الأمثلة قصة لـ ابن مسعود رضي الله عنه، كان ابن مسعود من صغار الصحابة وشبابهم، وكان حين ذلك نحيل الجسم، دقيق الساقين، وكان الصحابة يضحكون من دقة ساقيه، وكان ذلك في الفترة المكية العصيبة التي كانت فيها المواجهة قاسية وشديدة وشاملة من قريش ضد المسلمين، وفي جلسة بين بعض المسلمين كانوا يتحدثون فيما بينهم عمن يمكن أن يقرأ القرآن ويصدع به في منتدى قريش، وهي عملية تحدٍ كبيرة، وعملية تحتاج إلى قوة إرادة وصلابة عزيمة، فانتدب لذلك ابن مسعود الشاب النحيل، وذهب إلى منتدى قريش في البيت الحرام وصدع بآيات القرآن، وقام يقرؤها بين ظهرانيهم، ولم يكن هو يظن أن ذلك سيعجبهم، بل كان يعرف ما قد يترتب على ذلك، فعمدوا إليه وضربوه وأثخنوه بالجراح، ولعلنا نقول بعد هذا الحدث: إنه قد أخذ درساً كافياً. لكن ما الذي حصل؟ في اليوم الذي يليه عندما تداول المسلمون تلك الحادثة قال: (أما لو شئتم لأعاودنهم بها). فهي طبيعة الإرادة القوية والتحدي؛ لأن نفس الشاب دائماً فيها هذه الحيوية التي تأبى في الجملة أن تلين أو تهادن أو تتراجع، بل تريد دائماً أن تثبت نفسها، وأن تظهر قوتها، وأن تصر على رأيها، وأن تثبت على مبدئها، وأن تكون نموذجاً ينسجم مع طبيعة التفاعلات والمشاعر النفسية والعواطف الجياشة التي تمر بها النفس.

الأمل والطموح عند الشباب

الأمل والطموح عند الشباب هناك سمة ثالثة، وهي الأمل والطموح؛ لأن الشباب هو في مقتبل العمر، فما زالت الصورة ممتدة والأفق واسعاً، وقد يرسم طريقاً في تخيله في آماله وطموحاته في مجال العلم، وأنه سيحصل فيه كذا، وأنه سيكون له كذا وكذا وكذا، وقد يرسم طريقاً في مجال حياته الاجتماعية أو في حياته العملية، لكن لو أننا تصورنا المرء في الخمسين أو في الستين فلا شك أن الأمل موجود لكنه قطعاً سيكون محدوداً، ولن يكون له مثل طبيعة هذا الأمل الممتد العريض كالشباب في حياتهم وطموحاتهم. ولو أردنا أن نأخذ أمثلة لوجدنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في جملة تربيته لأصحابه يعرف كيف يصقل هذه النفوس، وكيف يزكي تلك الآمال، وكيف يشحذ تلك الهمم، فهذا ربيعة بن كعب كان يبيت إلى جوار بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل قام يصب له وضوءه عليه الصلاة والسلام، فأراد النبي أن يكرمه فقال: (يا ربيعة! سلني ما شئت -والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاب الدعوة-. فقال: أنظرني يا رسول الله) إننا عندما نقول الآن للشاب ماذا تريد؟ وما هو أملك؟ وما هو رجاؤك؟ اطلب ما سنحققه لك ويكون رهن إشارتك وبين يديك فربما نعرف اليوم أنه ربما يطمح إلى هذا أو ذاك من أمور الدنيا وشئونها، لكن ربيعة بعد أن تريث وتأنى قال مقالة عظيمة رائعة فريدة لو اجتمعت لها عقول الشيوخ الكبار والعلماء العظماء لربما قصروا عن أن يأتوا بمثل ما قال؛ فإنه أوجز وأبلغ في أمله وطموحه فقال: (أسألك مرافقتك في الجنة). فلم يسأل الله الجنة، بل سأل مرافقة الرسول في الجنة، ليكون سؤاله في أعلى وأعظم مطلب، فماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، وهذه هي التربية لكي يبقى الأمل ممتداً والطموح متواصلاً. ونعلم قوله لـ عبد الله بن عمر يوم أَوَّل رؤياه فقال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، والأمر في هذا واضح وجلي وكثير. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لكلٍ ما كان يناسبه، حتى يمتد في مجاله وميدانه الذي تتعلق به نفسه وأمله، كما هو معروف في الحديث الذي رواه الترمذي عندما عدد النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة، وذكر في كل منهم خصيصة تميز بها فقال: (أقرؤهم أبي، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ) إلى آخر ما ذكره عليه الصلاة والسلام. ثم إن الشباب وهو في مقتبل العمر يتردد: هل يتزوج الآن؟ أو هل يكمل دراسته؟ أو هل يدخل ميدان العمل؟ أما من قد طويت صفحات عمره فإن الخيارات في غالب الأحوال تكون محدودة، وربما نرى نحن أننا نضيق الآن في المجال، فلا يبقى فيه مساحة إلا لمعاشر الشباب الذين يدخلون في جميع التعريفات، أما من له تعريف واحد يتيح له أن يدخل في الشباب وتعريفات أخرى تخرجه منه فإنه تبدأ تضيق الدائرة عليه كما قلنا.

بعض الخلال والسمات الحميدة التي تنتج عن الحماسة

بعض الخلال والسمات الحميدة التي تنتج عن الحماسة لما كانت الحماسة من طبيعة الشباب كان دورنا أن نرحب بها ولا نعارضها، ولا نقول: إنها شيء شاذ أو أمر غريب. ولكننا نواصل أيضاً في مدح هذه الحماسة وبيان ثمراتها وبعض فوائدها، لتكمل لنا حينئذ الصورة الإيجابية في هذه الحماسة بإذن الله عز وجل.

الهمة والعزة

الهمة والعزة الحماسة تورث خلالاً كثيرة وسمات عديدة، أولها: الهمة والعزة، فهذه الحماسة تجعل الهمة عالية، والعزيمة ماضية، والعزة قضية، والروح فتية، بحيث إن هذه المشاعر تترجم إلى مواقف وإلى سمات شخصية تُعد من مظاهر القوة الإيجابية، فليس في الشباب رخاوة، وليس في الشباب ضعف، وإن كان حالنا اليوم أو حال بعض شبابنا أنه قد صارت لهم صورة أخرى في الشباب هي صورة الدعة والترف والرخاء، ولكننا نقول: إن الأصل في طبيعة الشباب في التربية الصحيحة في الأجواء النقية أن يكون لهم همتهم القوية وعزتهم الأبية التي تجعلهم دائماً في قصب السبق والتقدم، كما سيأتي في المراحل التالية. ولعلنا نريد أن نصور بعض هذه الهمم في صور الشباب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا نموذج رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال، لكننا نرى كيف كانت القوة في أصل هذا النموذج، فعند البخاري في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال له عليه الصلاة والسلام: (ألم أُخبر أنك تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام، وتقرأ القرآن في كل ليلة؟ فقال: بلى يا رسول الله)، فهذا الخبر بلغه عن عبد الله بن عمرو، فانظر إلى همته وطاقته المتدفقة كيف كان على حال لا يفطر، ولا ينام ليله، ويختم في كل ليلة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام رده إلى الاعتدال المعروف في الحديث، لكن الشاهد هو هذه الهمة العالية القوية التي كانت عنده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مقتبل عمره وفي بداية دعوته كانت له المواقف العظيمة في مثل هذا.

العمل والإنتاج

العمل والإنتاج الأمر الثاني المتولد عما سبق هو العمل والإنتاج، فالهمة والعزة تتحول إلى عمل وإلى تواصل في الإنجاز وحرق المراحل، لكي يكون هناك ثمرة ظاهرة ونتيجة باهرة من خلال هذه الهمة؛ لأن صاحب الهمة لا يرضى بالقعود، ولا يرضى بالكسل والخمول، ولا يرضى إلا أن تكون كل ثانية من ثواني حياته مملوءة بما يتناسب مع طبيعة هذه المشاعر المتدفقة والعواطف المتأججة في نفسه، ولذلك نرى شباب الصحابة والشباب في مراحل التاريخ الإسلامي كلها في الأجواء الصحيحة والتربية الجادة كانوا دائماً يأتون بالعجائب والإنجازات الباهرة، حتى في مجالات مختلفة، وأذكر على ذلك مثالاً في قصة زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو الذي كان غلاماً صغيراً في نحو السادسة عشرة من عمره، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام -كما في المسند عند الإمام أحمد -: (اقرأ حرف يهود) أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم اللغة، فتعلم السريانية، وفي بعض الروايات أنه تعلمها في خمسة عشر يوماً، وفي بعض الروايات سبعة عشر يوماً، فكان يقرأ للرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يكتب له. وأيضاً زيد بن ثابت كانت له المهمة الفريدة التي جُعل من مؤهلاتها الشباب، ففي صحيح البخاري في الحديث المشهور في جمع القرآن قال أبو بكر عندما استدعى زيد بن ثابت: (إنك شاب عاقل لا نتهمك، كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فأول هذه الخصائص أنه شاب، والمهمة ثقيلة تحتاج إلى قوة، وتحتاج إلى عمل متواصل، فوكلها إلى هذا الشاب الفتي، مع ما عنده من الأمانة والعلم والخبرات السابقة كما يقال، ثم كلفه بجمع القرآن وكتابته، ومع أن الذي كان يحدثه هو أبو بكر خليفة المسلمين، ومعه عمر وزيره، وهما أفضل الصحابة وأكبرهم سناً إلى غير ذلك، ومع ذلك كله قال بكل رباطة جأش وهمة تناسب الشاب: (كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وهذا يدل على قوة هذه الشخصية، لكن بعد أن جاءت المراجعة وانشرح صدره لذلك قال: (فوالله لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي)، ثم انطلق وبدأ في هذه المهمة، وأعانه عمر، ووضع الشروط والضوابط، والشهادة المطلوبة على كل ما هو مكتوب أنه ثبتت كتابته بأمر النبي عليه الصلاة والسلام أو بحضرته، وأتم هذه المهمة على أدق وأحكم وأمكن صورة ذكرت، ليستفاد من هذه الفتوة والحيوية والحماسة والقوة في حياة الشباب، والأمر في هذا يطول الحديث عنه.

الثبات والإصرار

الثبات والإصرار النتيجة الثالثة: الثبات والإصرار، فكثير من الأعمال لا تعطي ثمرتها إلا مع طول الزمن، ومع استمرارية العمل، والنفس التي ليست فيها هذه الحماسة غالباً ينقطع صاحبها عن عمله، وينقطع بعد ذلك أثره، ويطوى خبره؛ لأن المسألة تحتاج إلى مثل هذا كما سنشير، فمن مزايا الحماسة في الشباب أنها تعطيهم قوة وثباتاً بشكل منقطع النظير. فهذا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير على الكوفة ظل يقرأ القرآن في مسجده كل يوم مدة أربعين عاماً، وهو أمير، وهو يتولى الحكم، لكنه كان في صفته وسمته ظل على هذا العطاء المستمر والثبات على العمل، فالقضية ليست قضية ردود أفعال، ولا سحابة صيف تنقشع، ولا أمراً أثارته بعض العواطف المهيجة ثم جاء غيرها، كما نرى بعض الشباب وهو يتموج ويذهب يمنة ويسرة مع بعض هذه التقلبات العاطفية، خاصة ونحن في عصر عولمة وإعلام وموجات متدفقة هنا وهناك تعبث بالعقول والعواطف عبثاً كبيراً. وحبيب بن زيد رضي الله عنه -وهو من أمثلة الشباب- لما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب ثبت، وكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فيقول له مسيلمة: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله. فيقول: لا أسمع. وإذا بـ مسيلمة بعد ذلك يبدأ في تقطيعه، فيقطع أذنه، ويقطع أنفه، وجعل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على هذا النهج الذي كان عليه. وهذا مصعب بن عمير الشاب المدلل المترف المعطر الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت فتىً أحسن لمة في أهل مكة من مصعب بن عمير) لما دخل الإيمان في قلبه وتمكن وأعطى عاطفته كلها لهذا المعتقد والمبدأ ووجه بكل أنواع الحصار والتضييق وشظف العيش لم تلن له قناة، ولم يتغير له موقف، ولم يتراجع في أي صورة من الصور التي أخذ بها رضي الله عنه وأرضاه، حتى كانت بعد ذلك قصة استشهاده مضرب مثل، بل موضع عبرة لكبار الصحابة أبكتهم سنوات طوالاً بعد استشهاد مصعب بن عمير رضي الله عنه، كما ورد من حديث عبد الرحمن بن عوف عند البخاري أنه كان صائماً، وأتي له بطعام الإفطار، وكان فيه صنفان من الطعام، فبكى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فتعجب الناس وقالوا: ما يبكيك؟! قال: (ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد، ويوم مات لم نجد ما نكفنه به إلا بردة، إن غطينا رأسه بدت رجلاه، وإن غطينا رجليه بدا رأسه، وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا). وهكذا بقي موقف جعفر في ثباته الفريد يوم قطعت يده اليمنى فرفع الراية بيسراه، فقطعت فضمها بعضديه، حتى خر واستشهد رضي الله عنه على هذه الصورة من الثبات الرائع في قوة الحماسة والثبات على المنهج والمبدأ.

النجدة والإعانة

النجدة والإعانة وينتج عن هذه الحماسة في الجملة أيضاً نجدة وإعانة؛ لأن المتحمس يأبى أن يرى الظلم ويسكت، ويأبى أن يرى المحتاج وهو واقف لا تستجيشه تلك العاطفة إلى أن يمد يد العون، وإلى أن يسابق، وإلى أن يكون في الصفوف الأولى في كل بيعة وفي كل ميدان من ميادين العطاء والنجدة. مثال ذلك قصة حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة الذي دخل على زوجه وعروسه في ليلة عرسه، ثم أصبح على ظهر الخيل مجاهداً في سبيل الله ناسياً أنه لم يغتسل من جنابته، حتى غسلته الملائكة فيما بين السماء والأرض، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، تلك هي روح الحماسة المتدفقة في ميدانها الصحيح وفي عطائها الإيجابي. وبعد ذلك لا شك أن هذا كله تتسع به دائرة الامتنان في الأوساط التي يعيش فيها الشباب بهذه الروح وبهذا العطاء، وانتفاع من حولهم بهم بدلاً من أن يكون ما قد يكون من عكس ذلك مما قد نعرج عليه في حديثنا هذا.

سلبيات الحماسة

سلبيات الحماسة لا شك -أيها القارئ- أنك الآن قد تكون متحمساً، وأننا قد زينا الحماسة، ولكن إلى أي مدىً نمضي مع الحماسة؟ وهل الحماسة أمر ما تزال تشتعل ناره وتزيد وتعظم من أمره دون أن يكون هناك ما يرشده أو يكمله أو يسدده؟ إن طبيعة الأمور الساخنة أنها إذا اشتدت وزادت يكون فيها ما لا يتفق مع المطلوب منها، ولا يتكامل مع الثمرة المنشودة أو المرغوبة فيها، ومن هنا فإن الحماسة في صورتين -إما زيادة عن حدها، وإما اختلال في مسارها- لا تكون حماسة محمودة، وتعود تلك الثمرات لتكون حشرات. وكما قلت: فالموضوع شائك لا شائق، وإن كان قد يصدق فيه الوصفان، فهنا انعطافة ينظر بها إلى الصورة الأخرى وإلى الشق الآخر حتى تكتمل الرؤية من جوانبها المختلفة؛ لأنه ليس من مصلحتنا في شيء دائماً أن نسمع من الناس ما نرغبه وما نحبه، بل بالعكس، فالإنسان يستفيد أكثر ممن قد يكون له وجهة نظر أخرى، وممن قد يكون له من بيئته ومن تنشئته ومن معرفته ما قد لا يتفق معك، فحينئذ يحصل نوع من التبادل والتكامل والامتزاج النافع والمفيد. ونحن لا ينبغي أن نفرح عندما نجد من يضرب على ظهورنا ويؤيد مواقفنا في كل شيء، وربما نجد أن طبيعة العاطفة تدعو إلى ذلك، بل الذي نحبه ونأنس به هو ذلك الذي يوافقنا في كل ما نقول، ويسايرنا في كل ما نعمل، ويعطينا الدعم المعنوي والإيجابي في كل مبدأ أو رأي أو موقف نتخذه دون أن يكون عنده أدنى تحفظ حتى ولو أخطأنا، وحتى لو توقع في مستقبل الأمر أن تكون هناك احتمالات بوجود عواقب أو مخاطر أو نحو ذلك، لذا لابد أن نأخذ هذا الجانب مرة أخرى في صورة مغايرة لما سبق.

الفتور والإحباط

الفتور والإحباط أول هذه الحسرات الفتور والإحباط، فعندما تكون الاندفاعة قوية أكثر من اللازم، وغير مستوعبة للواقع، ولا مدركة للإمكانيات، ولا متهيئة في الأخذ بالأسباب فإن هذه الاندفاعة تمضي فلا تحقق نتيجتها، فيرتد حينئذ بعد تجربة وثانية وثالثة إلى فتور، ويترك معه كل عمل وكل حيوية وكل نشاط وكل إيجابية، بل يرتد حينئذ إلى نفسية محطمة مهزومة لم يعد عندها أدنى درجات الثقة بالنفس التي يمكن أن تكون أساساً للانطلاق أو العمل. ولعلي أضرب مثالاً يدور أو يقع في صفوف الشباب كثيراً في بعض الجوانب الحياتية: ربما يسمع كثير من الشباب الحث على العلم وطلب العلم وفضيلة العلم، وتأتي هذه المقالات وتلك المحاضرات فتلهب في نفسه الحماسة، ولم يكن له سابق تجربة، ولم يأخذ خبرة من صاحب تجربة، فيندفع اندفاعة من الناحية المنهجية غير صحيحة، ومن الناحية التي تناسب طبيعته وقدرته غير متطابقة معها، فإذا به لا يحصل على شيء. ذكر البغوي في كتاب العلم في (شرح السنة) عن الزهري رحمه الله قال: من رام العلم جملة فقده جملة. وهذه طبيعة وظاهرة موجودة في الشباب، فترى أحدهم يقبل ويريد أن يدرس هذا العلم وذاك العلم، ويحفظ هذا المتن باندفاعة ليست متكاملة، فكثيراً ما يئول به الأمر إلى أن يترك ذلك كله. وهكذا في جانب الالتزام الشخصي والأخذ بأمور الفرائض والعبادات والتطوعات قد يندفع فيها بغير ما يتناسب مع طاقته أو ظرفه، ويكون فقط تحت تأثير عاطفي مؤقت، ثم يرجع إلى ما وراء ذلك. ونجد في هذا من الناحية الواقعية أمثلة كثيرة، والتجربة فيه واضحة.

التعطيل والإعاقة

التعطيل والإعاقة الجانب الثاني: التعطيل والإعاقة. كثيراً ما تدفع الحماسة إلى عمل متهور تفسد به كل تلك الرؤى التي كانت تبنى عليها الآمال وتقام عليها الأحلام لمواصلة في عمل ما؛ لأن الاندفاع الشديد والخروج عن المسار الصحيح لا شك أنه سوف يجعل ردود أفعال كثيرة، وردود الأفعال سوف تكون أداة تعطيل ومنع وإعاقة. وواقع الشباب المسلم في المجتمعات الإسلامية أيضاً فيه أمثلة كثيرة من ذلك، ونحن نعرف في كثير من بلاد المسلمين كيف كانت ثورات من الاندفاع في بلاد كثيرة أدت إلى منع خير كثير، وإلى سد أبواب من الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إلى تغييرات أعمق وأشد تأثيراً بدلاً من ذلك الخير الذي كان ينشده بنسبة محدودة، وإذا به ينقلب إلى كثير من العوائق والموانع والسدود التي تمنع كثيراً وكثيراً من الخير عنه وعن الآلاف المؤلفة من ورائه. ولعلنا لا يخفى علينا مثل هذا فيما جرى في كثير من البلاد التي انفرط فيها عقد أمنها، واختلت فيها الموازين، وكثر فيها الهرج والمرج مما سيأتي أيضاً ذكر بعضه عندما نأتي به.

الإتلاف

الإتلاف الجانب الثالث: الإتلاف، فقد يبلغ الأمر إلى هذا المبلغ، ونحن نعرف أن الحماسة المتمكنة في النفس أحياناً قد تصل إلى شيء من تغييب العقل وعدم النظر حتى في الضوابط والأحكام الشرعية، ونحن نحب أن نؤكد هنا على أمر مهم، وهو أن المنطلقات التي تحكم المسلم ليست منطلقات العاطفة، ولا الشعور، ولا ردود الأفعال، ولا الانتصار للذات، وإنما الذي يحكمنا أمران هما الأساسيان في تصرفاتنا كلها: الأول: حكم الشرع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما كان واجباً أمضيناه، وما كان محرماً تركناه، ويلحق به ويكمله مراعاة المصلحة الشرعية في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاصر؛ فإن من الأمور ما قد يكون واجباً أو قد يكون مباحاً لكن إيقاعه في هذا الوقت أو في هذا المكان قد تترتب عليه مفاسد أعظم، وقد يكون فعله في هذا الموطن محرماً وإن كان في أصله واجباً، وهذه موازنات معروفة في مقاصد الشريعة الكلية التي ينبغي مراعاتها، وفي القواعد الفقهية المستقاة والمستنبطة من الأدلة الكلية والفرعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وغير ذلك من القواعد المعروفة. فهناك ما قد يصل إلى هذا مما يقع به إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وإفساد كثير من الأصول الثابتة التي لابد من معرفتها. ولعلي هنا أيضاً أركز على هذا المعنى؛ لأن بعض الأفهام تتجاذبها عواطف فلا تكاد تفهم حقائق النصوص، وإذا تأملنا في هذا الجانب فثمة أمر مهم سوف نذكره لأنه من دين الله، ولابد أن نفقه ديننا، وأن نعرف أن الأصل أننا متعبدون بشرع الله عز وجل، وأنه لابد لنا من أن نتأمل في حكمة الشارع؛ لأن الشارع معصوم، سواء أكان ذلك في كتاب الله أم فيما ثبت من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولعلي أخص هنا موضعاً محدداً من هذه المواضع التي أصبحت فيها الفتنة عامة في كثير من مجتمعات وبلاد المسلمين، فهناك طائفة كبيرة وكثيرة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام صحيحة في النقل وصريحة في النص في قضية ما يتعلق بالانحراف أو الفساد في ولي الأمر أو الحاكم المسلم، وكيف يكون التعامل في هذا الشأن. وأقول: إن الذي يتحدث بهذا هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فليست القضية قضية عاطفية، وقد ذكر عليه الصلاة والسلام جملة من الأحاديث لو ذكرتها لطال بنا المقام، وهذه الأحاديث فيها ضبط شديد، وفيها تحوط كبير، وربما كان في صورتها الظاهرة أنها تأتي معاكسة لما ينبغي أن يكون، فعلى سبيل المثال في بعض ما صح من هذه الأحاديث يقول عليه الصلاة والسلام: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر). وفي الرواية الأخرى من حديث حذيفة قال: (وإن جلد ظهره وأخذ ماله). وفي رواية ثالثة عند مسلم في تفصيلات لهذا الحديث لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفتنة فقال حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث: يا رسول الله! أرأيت إن أتي به إلى الصفين؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فليدق سيفه) يعني: فليتلف سيفه. حتى لا يخوض في هذه الفتنة أو في ذلك القتال. ونجد بعض هذه الأحاديث يفهمها بعض الناس على أنها سلبية مطلقة، وعلى أنها لا تتفق مع ما يظنه من عمومات أخرى في دين الإسلام، ولو أننا تأملنا هذه النصوص لعرفنا حكمة عظيمة للشارع. وقد نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال في كتابه " الاعتصام بالكتاب والسنة " -وفيه أحاديث عظيمة من مثل هذه الأوامر- أنه قال: فيه تسكين الدهماء وحقن الدماء؛ لأن الأمر إذا انفرط عقده عظمت الفتنة، وتكونت البلية، وصار من الفساد على أمور الدين كلها ما لم يكن موجوداً بمثل هذا الأمر. ولا يعني ذلك بالطبع والقطع أن أي انحراف يقر وتصبغ عليه الشرعية، كلا! فدين الله عز وجل واضح لا يغيره أحد، وما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يملك أحد تغييره ولا تبديله، وذلك من فضل الله ونعمته علينا، فينبغي أن نعرف أننا متعبدون بالشرع، وانظر إلى هذه الأمثلة: فهذا حذيفة بن اليمان في قصته المشهورة في يوم الأحزاب طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب ليرى خبر الأحزاب، خبر أبي سفيان ومن معه من قريش والقبائل، فتسلل حذيفة في حادثة مشهورة، يقول حذيفة وهو يصف ذلك: وكان أبو سفيان في مرمى سهمي، إلا أني ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحدث شيئاً حتى ترجع). وأبو سفيان يومئذ كان رأس الكفر، وكان هو قائد الأحزاب، وكان في مرمى سهمه ومناله، لكنه التزم ذلك الأمر، والأمر قطعاً كانت فيه الحكمة، وهو إرشاد بوحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. ومجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه في معركة أخرى مع الروم عندما كلفه قائد المسلمين سعد، وبعد أن طال الحصار ولم يستطيعوا أن يقتحموا أتته رسالة من بعض الروم تدلهم على منفذ تحت الأرض في نفق فيه ماء، فقال سعد لـ مجزأة: (انظر لي رجلاً من قومك خفيفاً جريئاً شجاعاً). فقال: اجعلني أنا ذلك الرجل أيها الأمير. فقال له: (لا تحدث شيئاً) فدخل وخاض الماء، قال: فخلصت حتى رأيت الهرمزان، ونازعتني نفسي في قتله إلا أني ذكرت قولك. فرجع وأخذ ثلاثمائة كلهم خاضوا ودخلوا وفتحوا الحصن من الداخل. فالقضية ليست اندفاعات عاطفية، وإنما هي انضباطات شرعية ومراعاة مصلحية ومنهجية في الأولية، فينبغي أن نعرفها.

الضياع والخسارة

الضياع والخسارة كم من الشباب يندفعون في جوانب مختلفة ثم لا يحصلون على شيء؛ لأنهم لم يرشدوا تلك الحماسة، ولم يجعلوها في برامج عملية وتدرج، فيمضي الوقت ولا تحصل الثمرة، أو تنفق الجهود أو الأموال ولا تحصل النتيجة. ولعلي أضرب مثالاً في قضية العلم مرة أخرى: بعض الشباب في هذه الحماسة العلمية يتتبعون مسائل الخلاف، وتجد الواحد بعد يوم أو يومين من بداية عنايته بالعلم أو بعنايته بالالتزام إذا به يسمع هذه المسائل الخلافية ويبدأ يتحدث بها: فلان مخطئ، وفلان كذا. ويبدد الجهود في تتبع الأخطاء وفي حفظ الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ولم يعرف الصحيحة بعد، ولم يحفظها، ولم يكوّن من ذلك نظرة علمية واضحة يستطيع بها أن يميز الخطأ الذي قد يكون في هذه المنهجيات المختلفة، وابن القيم رحمه الله -كما ورد في القواعد- قال: من تتبع شواذ المسائل قلّ أن يفلح. يعني من تتبع المسائل التي فيها الخلافات فقط. ويقول: منهج أهل السنة والجماعة أخذ أصول العلم. وقال: وغيرهم يتتبع شواذ المسائل. ويقول عن تجربة: وقلّ من رأيته يفلح في هؤلاء. أي: لا يخرج بثمرة؛ لأنه -إذا صح التعبير- يأخذ من كل بحر قطرة، وينتهي بعد ذلك بدون أي قطرة، وليس في ذلك تحقيق للصورة الإيجابية المرجوة، والتي تتمثل في تجميع هذه الجهود لنصل إلى ثمرة، وإنما ضياع وخسارة. ولا شك -أيضاً- أن من الحسرات موضوع التضخيم والاختلال، فهناك نقاط صغيرة يمكن بالمكبرات أن ترى أضعاف حجمها، فمن حماسة الناس أن أحدهم أحياناً إذا تحمس لأمر جعله كل شيء، وجعله هو مبتدأ الأمر ونهايته، وهو أوله وغايته، وهو الذي لا يمكن أن ينشغل أحد إلا في أوله وغايته، وهو الذي لا يمكن أن ينشغل أحد بسواه، وإذا انشغل أحد بغيره فهو ضائع وتافه ومضيع للأمور، وهكذا تندفع العاطفة تماماً، وهكذا هي العاطفة بطبيعتها، كما يعرف عند العشاق والمحبين تختصر الدنيا كلها في المعشوق والمحبوب، كما قيل: ولو قيل للمجنون ليلي ووصلها تريد أم الدنيا وما في طواياها لقال غبار من تراب ديارها أحب إلى نفسي وأشفى لبلواها يقول ابن الجوزي معلقاً: وهذا مذهب المحبين بلا خلاف، فمن أحب الله ورسوله كان أدنى شيء منهما أحب إليه من كل هذه الدنيا وما فيها. فالمسألة الاندفاعية العاطفية قضية عظيمة، ومن أمثلتها: التقديس والتبخيس والتهوين والتهويل، فمن أحببناه جعلناه ذلك الرجل الذي كأنما هو ملك مبرأ من كل عيب، أما علمه فغزير، وأما رأيه فسبيل، وأما منطقه ففصيح، وأما تصرفه فحكيم، وكأنما لم يكن فيه عيب مطلقاً، ونحن حينئذ نقول: هو الأول وهو الآخر، هو الذي ينبغي أن يكون، فأين هذا من ذلك الاتزان؟ فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، ويقول: (قولوا ببعض قولكم) فيجعل هذا الاعتدال في شخصه عليه الصلاة والسلام، وهو من هو في عظمته ومكانته عند ربه سبحانه وتعالى! ومما رواه أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب شيء إلينا رؤيته، فإذا أقبل علينا لم نقم له؛ لأنا نعرف كراهيته لذلك) ونحن أحياناً إذا انتقصنا إنساناً أو كان غير مقنع لنا فلا نكاد نرى له حسنة من الحسنات، كما قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا وهذه قضية واضحة. إذاً فهل نحن الآن مع الحماسة أم نحن ضد الحماسة والمتحمسين؟ A نقول: لا للتهور، وأما الحماسة التي قلناها فلنظل باقين على عهدنا بها وعلى تأييدنا لها.

أسباب الحماسة المتهورة الضارة

أسباب الحماسة المتهورة الضارة ننظر مرة أخرى إلى الحماسة المتهورة، ما أسباب هذا الذي رأيناه من قبل؟ إذ لابد أن نعرف العلل من خلال أسبابها وبداياتها حتى نجتنبها وحتى نتقيها، فالوقاية خير من العلاج.

القصور في العلم

القصور في العلم أول هذه الأسباب: القصور في العلم. فمشكلة الجهل هي آفة الآفات، ومن الجهل جهل بسيط وجهل مركب كما نعلم، والجهل الذي نقصده غياب كثير من الأصول العلمية المهمة، وعدم معرفة النصوص الشرعية في كثير من الميادين الحياتية والمسائل الآنية المستجدة، وعدم معرفة القواعد الشرعية التي هي خلاصة استقراء للأدلة النصية، وعدم معرفة المقاصد الشرعية التي هي خلاصة غايات هذا الدين وأهدافه، وعدم معرفة السنن الربانية في طبيعة هذه الحياة وطبيعة قيام الدول وسقوطها، وطبيعة مآل المتقين وعاقبة المكذبين والكافرين، وهناك قضايا كثيرة لابد من أن ندركها، وأن نعرف أنها سنن ماضية لا تتبدل، كما قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، فلابد أن يكون عندنا يقين ومعرفة وتشرب لهذه المعاني، حتى لا نندفع مع العاطفة بعيداً عن هذه الأصول العلمية المهمة، وعندما نتلوا قول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقوله: {إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، وقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] نجد أن هذه المعاني المهمة قد طبقها النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم، فعلى سبيل المثال: في سنن أبي داود أنه كان نفر من الصحابة في سفر، وشج أحدهم، فأصابته جنابة. فاستفتى أصحابه فقالوا له: لابد أن تغتسل، مع أن الجو بارد والرجل به جرح، ولكنهم قالوا: لابد أن تغتسل. فاغتسل فمات، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال)، فكم من القضايا الضخمة الهائلة والمسائل الكبيرة التي من المفترض أن لا يتكلم فيها إلا أكابر العلماء مجتمعين، وإذا بك تجد ذلك الشاب في مقتبل العمر يتناول الحديث فيها، ويفتي فيها، ويعطي القول الحاسم والجاد، ويرفض كل ما يخالف رأيه وقوله! وهذا في غالب الأحوال ليس عن أساس علمي، وإنما هو عن اندفاعات عاطفية وخليط ومزيد من هذه التجاذبات التي تجتمع لذا أو ذاك.

النقص في الوعي

النقص في الوعي السبب الثاني: النقص في الوعي. والوعي هو إدراك المسائل من جميع جوانبها، ومعرفتها من كل وجوهها، وكثيراً ما تكون النظرة إلى جانب واحد تذكرنا بالقصة المشهورة للعميان الثلاثة الذين اتفق أن رأوا الفيل، فأحدهم وقعت يده على خرطومه، والآخر وقعت يده على أذنه، والثالث على جزء آخر، فكل واحد عندما وصف الجزئية التي رآها كان الوصف أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ لأنه لم تكتمل الأجزاء حتى تتكامل الصورة بشكل واضح. فمعرفة الواقع أصل مهم في تنزيل الحكم الشرعي على هذه المسائل، وهذه المسألة طويلة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) فصولاً نفيسة في هذه المسألة، وقال: إن كل عالم ينبغي أن يكون عالماً بالشرع وبصيراً بالواقع، حتى يستطيع أن ينزل هذا على ذاك. فنقص الوعي بما وراء هذه الأمور وما يترتب عليها من المفاسد والمصالح والرؤية التكاملية نقص ذلك في غالب الأحوال يقع به مثل ذلك الذي أشرنا إليه.

الضعف في التربية

الضعف في التربية السبب الثالث: الضعف في التربية. لقد كثرت أجيال الشباب الذين لم يتلقوا تربية متكاملة منهجية على الأصول الإسلامية، وقد كنا في أوقات ليس عندنا أحد يرشدنا، أو ربما كنا قد سرنا في طريق من التسيب أو التفلت أو تجاوز المحارم أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك عدنا، أو كانت لنا ثقافات مختلطة، ثم بعد ذلك حاولنا أن تكون لنا ثقافة أصيلة، وهذا الخلط فيه ضعف التربية، وليس فيه تعويد على منهجية متكاملة على سير واضح وعلى تخطيط بين، وعلى صبر وانضباط، وكثيراً ما يكون عبارة عن هذه الردود الانفعالية، وكثيراً ما نرى الجوانب المتضادة، فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بغير أن يكون هناك مرور على منطقة الوسط، وهذا أيضاً مشاهد في كثير من الجوانب.

الإحباط في المشاعر

الإحباط في المشاعر الجانب الرابع -وهو من أخطرها وأكثرها تأثيراً في الشباب الذين يتهورون- الإحباط في مشاعرهم، وذلك من نواح عدة: أولى هذه النواحي: تسلط الأعداء وهيمنتهم على أحوال وأوضاع وبلاد الأمة الإسلامية، في عجز فاضح، وتخاذل واضح، وسلبية مؤلمة ومحزنة، فيرى الشباب المتحمس ذلك فتغلبه عاطفته، وتتقد حماسته، وربما عند غياب ما سبق تضيع الرؤية، ويطيش العقل، وينعدم الرأي السديد المبني على العلم الصحيح، وهذا نحن نعرف واقعه، ونعرف كم هي بلاد الإسلام التي احتلها الأعداء وتسلطوا عليها، ليس لسنة ولا لسنتين، ولا لعقد ولا عقدين، بل أكثر من ذلك، ولعل فترات الزمن الأخيرة كان فيها كثير مما يعد هزائم وتراجعات للمسلمين على مستويات عدة، بل على المستويات الحضارية والعلمية، ومن تتقد نفسه غيرة وحمية لابد من أن يكون لهذا أثره عليه، فإذا زاد حجم هذه القوة وحجم هذا العدوان وحجم هذه العزائم أصبحت أكبر من أن تحتملها نفسه، فيخرج إلى غير حد الاعتدال وإلى التصرف بغير اتزان، وهذا أمره أيضاً واضح. الناحية الثانية: كثرة الانحراف والخلل والتجاوز في مجتمعات المسلمين نفسها في حدود الله عز وجل، فنحن نعرف كم في بلاد المسلمين من هذه التجاوزات، وكم في بلاد المسلمين من إقرار المنكرات والقيام بها وإعلانها وتبنيها، وكم فيها مما هو مخالف لشرع الله، ويمنع شرع الله، ويبيح ما يخالف شرع الله. وهذه قضية لا شك أن كل ذي غيرة وإيمان يضيق صدره بها، وتغلي نفسه، ويشتعل قلبه حزناً وألماً، لكن عندما تفقد دعوة هذه الصور يكون أيضاً ما ذكرناه. الناحية الثالثة: سوء المعاملة، والظلم في التعامل مع هؤلاء الشباب، سواء أكان ذلك في بيئة التعليم من أساتذتهم أم ممن قد يكون في موقع التربية، فإنهم قد لا يجدون منهم إلا تخطئتهم واتهامهم بالنزق والطيش ونحو ذلك، أو حتى في الدائرة الأسرية وعجز الآباء عن تفهم ما قد يكون عند الشباب من عواطف فيها أخطاء لكنها تحتاج إلى توجيه، وربما كذلك أحياناً في المعالجات والمعاملات الأمنية على مستوى الدول، فكثيراً ما كانت هذه المعالجات بذوراً لتلك الانحرافات بشكل أو بآخر، ونحن في عصر تتجدد أحداثه وتتفاقم بشكل كبير، وهذه قضية مهمة.

رداءة الاستيعاب

رداءة الاستيعاب أخيراً: الرداءة في الاستيعاب، فهذه الطاقة المتدفقة والحماسة المتألقة أين تصرف؟ وأين مجالها الصحيح؟ وكيف نضعها على خط القطار ليمشي إلى الوجهة التي ينتهي إليها ليصل إلى غاية محددة ومعروفة؟ إن طاقات الشباب اليوم إما أنها مستنفدة في أمور تافهة وضائعة، وكم يُستنفذ من حماس الشباب في الرياضة على سبيل المثال! وكم من حماسة وقوة وصراع وتعصب وقدرات تتفجر في هذا الجانب بهذه الضخامة! وإما أنها مستنفدة في جوانب أخرى أيضاً ليست في الاستثمار الصحيح، والرياضة جيدة، والتشجيع في أصله ليس شيئاً مذموماً، لكن هذه المبالغات تصل في آخر الأمر إلى أنها لا تقنع، وأنها في الأخير ترتد إلى فراغ يرجع إلى بحث عن بديل آخر. وأيضاً هناك غياب وقلة وندرة في المحاضن الاستيعابية لهؤلاء الشباب وحماستهم.

الحماسة المعتدلة هي المطلوبة

الحماسة المعتدلة هي المطلوبة ولعلي أصل إلى نقطة أخيرة مهمة، فكما قلنا: لا للتهوين نقول: لا للمتهورين. وقد تتساءل: ما الذي تريد؟ وأين سنصل ونحن ما بين حماسة مدحتها ثم عدت ونقضت أصولها؟ وهنا نكمل بالشق الثاني من عنوانها، ونقف هذه الوقفة الأخيرة في حماسة الأكياس، والمقصود بالأكياس ذوو العقول، وهنا نكون قد جمعنا بين الأمرين. والحقيقة أن الإنسان بدون الحماسة والحيوية النفسية هو أقرب إلى الجماد وإلى الموات منه إلى الإنسان الذي هو بطبيعته حيوي، والتفاعلات الحيوية في جسم الإنسان كثيرة، ففي الثانية الواحدة تقوم عمليات ضخمة وهائلة في جسم الإنسان، ثم هو بعد ذلك يكون خاملاً وقاعداً وكسولاً! هذا لا يتطابق، لذلك نقول: صفة الحماسة إذا أضفنا إليها هذا الخليط والمزيج من الكياسة أصبحت هي الحماسة الإيجابية التي نمدحها ونريدها، وترشدها تلك النظرة العقلية المتزنة، فتأتينا هذه الصورة التي نريد أن نعطي فيها وصفاً لهذه الحماسة الكيسة أو الكياسة المتحمسة، وكما ذكر الحسن البنا في كلمات جميلة يقول فيها: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهيب الحماسة. وهذه كلمات جميلة تبين أننا نحتاج إلى المزج، فذلك العقل الذي دائماً هو منطوٍ ولا يريد أن ينطلق يحتاج إلى بعض الحماسة حتى تفك عنه بعض تلك القيود التي يبالغ فيها، وربما تلك الحماسة المندفعة تحتاج إلى بعض قيود العقل حتى يرشدها، فذلك التعقل والاتزان مهم جداً، فالاتزان لا يعرف طغيان جانب على جانب، كما في قصة سلمان وأبي الدرداء، فإنه لما جاء سلمان إلى أبي الدرداء شكت أم الدرداء فقالت: أخوك أبو الدرداء لا حظ له في الدنيا، وإنما هو صائم نهاره قائم ليله. فنزل ضيفاً عليه، فأراد أبو الدرداء أن يصلي فقال له سلمان: لا. وكان صائماً فقدم لـ سلمان الطعام فقال: كل معي. قال: أنا صائم. قال: افطر. وجعله يفطر، ثم لما جاء الليل أراد أن يصلي، فقال: نم. ثم قال: أريد أن أصلي. قال: نم. حتى إذا كان نصف الليل قال: قم فصل. ثم جادله في ذلك، فلما بلغ الأمر النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن لأهلك عليك حقاً، وإن لزورك -أي: ضيوفك- عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه). وهناك موقف أيضاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه لما كان في فترة خلافته بدأ بعض المرجفين يشيعون انتقادات على عثمان رضي الله عنه، فلما جاء موسم الحج جمع عثمان جمعاً من خيار الصحابة يريد أن يبين للناس خطأ ما يقال عنه، فقال: (لأقومن في الناس مقاماً لا أدع شاردة ولا واردة إلا أتيت عليها) يريد أن يبين للناس، فقال عبد الرحمن بن عوف: (يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس، ورب كلمة يطيرها عنك مطير). فتتلقاها عقول لا تستوعب تلك القضايا، وإذا بها بعد ذلك تطيش، وهذا يأخذها يمنة وذاك يأخذها يسرة، وهذا يفهمها على وجه، وذاك يفهمها على وجه آخر. والكلام في موضعه جعله الشاطبي رحمه الله من السنة، وجعل الكلام في غير موضعه من البدع، كما ذكر ذلك في (الاعتصام)، واستدل بقول علي رضي الله عنه عند البخاري: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟). وهكذا حديث ابن مسعود في صحيح مسلم قال: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) وهذا أمر واضح. وفي الحديبية وقع موقف كبير للنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لما أراد أن يكتب الصلح قال: (أكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله) فقال سهيل بن عمرو: لو كنا نعرف أنك رسول الله ما جادلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. ولما قال صلى الله عليه وسلم: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم) قال: لا. ما نعرف ما الرحمن ولا الرحيم، اكتب: باسمك اللهم. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ علي بن أبي طالب: (اكتب) وعلي غير مستسيغ لهذا، أي: لا يرى ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم كان أوسع فهماً وعقلاً أن يدع هذه الصغيرة من الأمور، فقال صلى الله عليه وسلم: (امحها)، فقال علي: لا والله لا أمحوها. فمسحها رسول الله بيده، وفي بعض الروايات: (بنفسه)، وكأنه يقول لـ علي: اكتب ودعك من هذه القضية الصغيرة؛ فإن هناك ما هو أكبر منها، ولا تقف عند هذه المسألة وتعطها أكبر من حجمها، وبالتالي تجعل كل توجهك ومواجهتك وقوتك وطاقتك واعتراضك لهذه القضية، فتقيم فيها معركة ضخمة هائلة. كما نرى من بعض الشباب عندما ينكرون أمراً ليس من الشرع ولا سنة من السنن، حيث يجعلون النكير عليها كأنها أصل الدين كله، وربما جعلوا من ذلك ما يخرجون به إلى تفسيق أو تبديع أو تكفير، إلى غير ذلك مما نريد أن ننبه الناس إليه. ثم أقول: لابد من الضبط والإحكام لمعالجة مثل هذه القضايا، وقد ذكرت في هذا ما هو مهم جداً، ولعلنا نستحضر مثالاً واحداً: ففي بيعة العقبة قبل أن يبايع الصحابة رضوان الله عليهم جاء أبو الهيثم بن التيهان -وقبل غيره- فقال: اعلموا أنكم إنما تبايعون الرجل على حرب الأحمر والأسود، فإن رأيتم أنكم تسلمونه فمن الآن، أراد أن ينبئهم ويحذرهم، فبايعوه، فقال العباس بن عبادة بن نضلة رضي الله عنه: يا رسول الله! لو شئت أن نميل على أهل هذا الوادي ميلة واحدة لفعلنا. أي: على أهل منى؛ لأن هذا الكلام كان في الفترة المكية، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نؤمر بذلك). ولما جاءه خباب في الفترة المكية وقد اشتد الأذى قال: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إنه كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض ثم يوضع فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فينشر نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه! ما يصده ذلك عن دينه. ثم قال: والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).

أهمية التدرج والاستثمار لعاطفة الحماسة

أهمية التدرج والاستثمار لعاطفة الحماسة لو أننا تدرجنا لوجدنا أننا سنحصل أكثر مما نحصل عليه بالسرعة التي ليس فيها مراعاة للواقع ولطبيعة الإنسان، ومن أحسن الأمثلة في هذا قصة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فإنه لما تولى أبوه الخلافة كان عند الخلافة ورعاً وزاهداً، وكان يأخذ بالجد في الأمور، فجاءه ابنه عبد الملك ينكر عليه ويقول: كيف تلقى الله عز وجل بمثل كذا وكذا؟ فقال له: ألا ترضى ألا يمر على أبيك يوم إلا وهو يميت بدعة ويحيي سنة؟ ذاك الشاب يريد أن تكون كلها في يوم واحد، ولكن أباه لحكمته -وأيضاً لقوة إيمانه وحماسته- كان يريد أن يجعلها في منهجية تحصل بها النتيجة ويقع بها الأثر المطلوب. وهكذا ما كان من شأن النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة، حيث طاف النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة والأصنام حولها ستون وثلاثمائة صنم، والرسول يطوف بها بعد صلح الحديبية ولم يشتمها، ولم يتعرض لها أبداً؛ لأن هذا له مجال آخر، وبعد عام واحد فقط عند أن جاء لفتح مكة جاء ومعه محجنه عليه الصلاة والسلام، فجعل يطعن هذه الأصنام وهي تتهاوى، ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]. فكل شيء بأوانه، والإنسان يجتهد ويعد عدته ويفكر ويدبر ويستشير، ويستعين بالله عز وجل ويستخير، وأما التعجل فلا ينبغي أن يكون. وأيضاً الدوام والاستمرار هو طبيعة ذلك التدرج، فخير الأعمال أدومها وإن قل، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل ما داوم صاحبه عليه، ولكي نحافظ على هذه الحماسة وتأتينا ثمرتها فنحن لا نريد العواطف التي تصل بنا إلى العواصف القاصمة، وإنما نريد العمل الذي يدوم ويستمر. فهذا ابن عباس رضي الله عنهما كان له صاحب من الأنصار، قال: لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم قلت لصاحبي من الأنصار: اغد بنا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نطلب العلم. فقال له: ومن ينظر إليك يـ ابن عباس وفي القوم أبو بكر وعمر وعثمان؟ قال: فانطلقت وتركته، وبدأت أتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخذ عنهم). وتدرج رضي الله عنه حتى أصبح بعد فترة قصيرة من الزمن بهذه المواظبة والاستمرارية هو حبر الأمة وترجمان القرآن، فرضي الله عنه وأرضاه. وفي الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى حبلاً متدلياً فقال: (ما هذا؟ قالوا: حبل لـ زينب تصلي فإذا تعبت تعلقت به. قال: مه! عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا تعب فليرقد)، فخذ أمراً تستطيع أن تواصل فيه؛ فإن هذا من الأمور المهمة، وينتج عن هذا أننا لو أخذنا بذلك سوف تنمو هذه الحماسة وتنتشر، وتعم هذه الإيجابية بشكل مهم وأساسي.

أهمية ربط الحماسة بالكياسة

أهمية ربط الحماسة بالكياسة ولعلنا نختم ونقول: إن الذي نريده حماسة ولكنها مشوبة بهذه الكياسة، ونحن نقول: لا للتهجين والترويض. ولكننا أيضاً نقول: لا للإثارة والتهييج، وإنما نحن نريد أن يكون لنا طريق إلى هذه الحماسة الراشدة من خلال ما قلناه في تلك الجوانب السلبية وبعكسه إيجابياً علماً بالشرع، وبصراً بالواقع، وصبراً في المعالجة، وعدالة في المواقف، وأناة في الممارسة، والله سبحانه وتعالى قال: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58]. أكتفي بهذه الومضات، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من العالمين بديننا البصيرين بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا النهج القويم والصراط المستقيم، وأن يثبتنا على الحق ويتوفانا عليه.

الأسئلة

الأسئلة

أهمية التدرج في الإعداد لمواجهة الأعداء

أهمية التدرج في الإعداد لمواجهة الأعداء Q كيف تطالب الشباب بالاتزان ونحن نعيش في عصر تكالب علينا فيه الأعداء من كل جانب، وأعراضنا تنتهك في كل أرض، وآباؤنا وإخواننا يقتلون في كل أرض، فكيف السبيل إلى هذه الكياسة وهذا الاتزان؟! A ما ذكر لم يحصل في عشية وضحاها، ولم يتوصل إليه في يوم وليلة، وبالتالي فإن مقاومته وتغييره من باب أولى، ولم يكن كذلك في غمضة عين ولا في لحظة سريعة من الزمن، والنبي عليه الصلاة والسلام ظل يدعو في مكة ثلاثة عشر عاماً لم تتهيأ له الفرصة ليقيم الدولة، ولا ليعلن أو ليقيم الشعائر، ومع ذلك كان ينظر إلى المدى الأبعد، وخرج من مكة فالتمس أنصاراً في الطائف فلم يجد، فهاجر إلى المدينة، وصنع ما صنع عليه الصلاة والسلام، ثم رجع فاتحاً مكة وما بعد مكة. ولا شك أن في نفوس الشباب إحباطاً وأن ما يتعرض له المسلمون ليس بالهين، ولكنني أقول: إذا أخذنا بحماسة غير منضبطة وغير متزنة فما الذي سيحصل؟ ألسنا نريد أن نغير هذا الواقع من هزيمة إلى نصر ومن ضعف إلى قوة ومن فرقة إلى وحدة؟ إن كانت هذه الحماسة ستحقق ذلك فلنكن جميعاً كذلك، وإن كانت هذه الحماسة على صورتها التي صورناها لن تحقق هذه الغايات وستكون سبباً إلى مزيد من ذلك الضعف والهوان والهزائم فلا شك أن الحماسة نفسها -فضلاً عن العقل- تدعو إلى أن تضبط هذه العواطف، ولا ينبغي أن توأد، ولا ينبغي أن نضيق عليها بحيث ترتد إلى عكس ذلك، فتعود خنوعاً وخمولاً وركوداً إلى الأرض أو انصرافاً إلى الشهوات والملذات أو تنفيساً لتلك الطاقات في مجالات تافهة وعارضة، ولذلك نحن في امتحان صعب؛ لأننا لا نريد أن نطلق هذه الحماسة، ونريد أيضاً أن نبقي عليها، ومن هنا لابد من أن توسع دائرة استثمار هذه الحماسة، فحاسب نفسك وأصلحها، وزد علمك وأكثر عبادتك، وقو عزيمتك، وأتقن دورك ومهمتك، وادع غيرك، واعمل وتحرك حتى لا تكون طاقتك مكبوتة وحماستك موءودة، وبالتالي تخرج ولا تنفع فيك الجدوى أو تنصرف إلى غيرها. لذلك نحن نقول: طريق الألف يبدأ من خطوة واحدة، كما قيل: من لي بمثل سيرك المدلل تمشي الهوينى وتجي في الأول وأعداؤنا لا يحاربوننا بهذه الاندفاعات فقط، وإن كنا رأيناها في هذه الصور، لكن أقول: نحتاج إلى أن ندرك هذه الحقائق، ونعرف كيف ضبطها النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة والمسلمون في كثير من فترات التاريخ التي مرت بهم، وبعضها فترات ليست بعيدة عن فتراتنا هذه، وإن كانت هذه الفترات تتصور على أنها من أشد الفترات على أمة الإسلام، لكن أقول: استطاع المسلمون بفضل من الله عز وجل أن يلتزموا التزاماً صحيحاً، وأن يُكونوا جسداً واعياً بحقيقة واقعه، ونحن في يقين جازم بأن العاقبة للمتقين، وأن النصر للمسلمين، ولكن لهذا النصر عربونه ومطالبه وواجباته ومستحقاته لابد من أن نبذلها، وإن كنا عاجزين عن أن نضبط أنفسنا أو أن نضحي بوقتنا أو بجهدنا أو بمالنا فلن نضحي بما هو وراء ذلك من أرواحنا، وليست القضية هي التضحية بالأرواح بذاتها، وإنما بما يترتب عليها من المصلحة في النكاية بالأعداء وتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين، وهذا أمره واضح وبين، فنسأل الله عز وجل أن يعين؛ لأن المسألة فيها صعوبة شديدة.

الإصلاح والدعوة إلى الله ومواجهة الأعداء مسئولية الجميع

الإصلاح والدعوة إلى الله ومواجهة الأعداء مسئولية الجميع Q هل على العلماء من مسئولية لأنهم انزووا فاضطر الشباب إلى أن يأخذ بزمام المبادرة؟ وهل من كلمة لتذكير العلماء بواجبهم في النزول إلى الشباب لمناقشتهم ومحاورتهم؟ A هذه مسألة جيدة، وقبل أن أعلق عليها أريد أن أجيب بإجابة لا تعجب في الغالب، ولكن لي فيها مقصد أن يلتفت نظرنا إلى هذا المعنى. أريد أن أقول: لنجعل دائماً الجمع بين أمرين: إذا وجهنا التهم والتقصير للآخرين فلنكن أيضاً على نفس القدر من القوة والصرامة والصراحة في نقد أنفسنا واكتشاف قصورنا ومطالبة أنفسنا بما نطالب به غيرنا؛ لأن مسئوليتنا عن أنفسنا ودورنا ومن هم تحت أيدينا أكبر وأبلغ وأعظم، وإذا لم نؤدها فلا يعني ذلك أن لا نذكر نقصاً وخللاً عند غيرنا، لكن نحن -إلى حدٍّ ما- قد تعودنا -بل ربما أقول: إننا تخصصنا وأبدعنا- توزيع التهم على الآخرين وعدم الالتفات إلى حالنا نحن. كما في حديث أبي هريرة: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه). وقبل أن أعلق على هذا أحب أن أقول: لنكن صرحاء مع أنفسنا، فنحن من أسباب بلاء هذه الأمة بما عندنا من تقصير، وبما نرتكب من مخالفات، وبما يقع منا من منكرات، فلو كل منا كان عنده صراحة مع نفسه لا نحسم جزء من الداء، ومع ذلك لا يعني هذا أن الحكام والأمراء أو الدعاة أو العلماء ليسوا مقصرين، لكن نقول: خذ ما تستطيع من ذلك، واهتم بأمرك، وليكن سعيك في ذلك أيضاً بما هو واجب عليك. أما دور العلماء فلا شك أنه دور أساسي مهم، وأن التقصير فيه وغيابه الجزئي أو النسبي -خاصة في أوساط الشباب- كان له أثر كبير في كون العلم والبصيرة والحكمة لم تكن جرعتها بالقدر الكافي؛ حيث إن تلك الحماسة والعاطفة لم تقابلها تلك الصدور الرحبة والعقول الواعية والأيدي الحانية التي تستطيع أن تضبط العقل، وأن تؤثر أيضاً في حماس النفس، وأن تدل على الدرب وعلى الطريق، ولذلك أقول -والله أعلم-: إن هذا هو جزء من القصور في مجتمعاتنا وفي أمتنا الإسلامية بوجه عام، ولا شك أيضاً أن هذا جزء مما سعى إليه أعداؤنا، لكن أعداءنا من البديهي أنهم يواجهوننا ويحاربوننا، ولن نتوقع من الأعداء أن يعينوننا أو أن يخلصوا لنا النصح. وأقول أيضاً: قد نكون نحن مقصرين، فلمَ لا نطلب من هؤلاء الدعاة؟ ولمَ لا نخاطب أولئك العلماء؟ ولم -أيضاً- لا يكون لنا بكمال الرشد وحسن الأدب والتزام الشرع دور في أن نصلح هذا الجانب فيما مضى أنه مفيد؟ ولا شك -في الحقيقة- أن الحاجة تتزايد بشكل ملح، وأن الصورة تظهر بشكل واضح في أن هذه الشقة وهذا البعد وهذه الفجوة إن لم يكن هناك مبادرة جادة وإيجابية ومنهجية وحقيقية واقعية وليست شكلية وظاهرية فسوف تزداد هذه المشكلة تفاقماً، ولعلنا -إن شاء الله- نؤمل مع كل ما يجد من أحداث في أمتنا أن هذه الأحداث لها أثر في إيقاظ الجميع وتحريك الجميع للقيام بأدوارهم المنشودة والمطلوبة، ولعلنا نأمل في الله عز وجل وفيما يجري بقضاء الله أن يكون فيه خير يقودنا إلى إصلاح هذه الأوضاع في سائر الميادين والجوانب كلها إن شاء الله.

أهمية الاعتدال في جميع الأمور

أهمية الاعتدال في جميع الأمور Q الإحباط الذي أصاب الناس بسبب الأوضاع قادهم إما إلى التهور أو إلى اللامبالاة، فما هو توجيهكم؟ A ليس هناك حل سحري أو وصفات من الدواء تأخذها ثلاث مرات في اليوم أو كذا؛ لأن هذا كان له فترة طويلة، ويحتاج كذلك إلى فترة طويلة، وإن كان هذا السؤال ربما يسأله بعض الشباب، فأنا أقول من تجربتي وأنا أمارس الإمامة والخطابة أكثر من عشرين عاماً: إن الذي يلقاه الشباب هو أقل مما يلقاه من هو في غير هذا، ففي كل مرة يأتيني ناس صغار وكبار، فأحدهم عندما يسمع كلاماً في الخطبة يقول: لماذا نسمع؟! وكيف يكون هذا؟! ولماذا لا يكون كذا؟ وهذه في الحقيقة أمور محرجة، ولذلك أقول: لابد أن تتوسع وتتنوع آفاق ترجمة هذه الحماسة والطاقات إلى ميادين عمل حقيقي، وإذا لم يكن ذلك كذلك فلابد أن نتوقع هذين الأمرين: إما لا مبالاة أو انصراف إلى الطرف والتلف والسفه وأي شيء آخر، وكذلك الجهة الأخرى، وهي جهة الذين تضيق صدورهم ويخرجون عن طورهم، ويفقدون رشدهم، وأحسب أن هذا الواقع أراد الله فيه بعض هذه الضرائب التي لابد أن نصرفها من هذا التيار ومن هذا التيار، ولكن إن كنا نحن -بإذن الله عز وجل- على وعي وبصيرة فلعلنا نغلب السواد الأعظم ليكون في مسار صحيح يعمل وينوع هذه الأعمال، ويدخل في الميادين المختلفة، ويأخذ إشارة بشعرة معاوية كما هو معروف، ويشتد في بعض المواطن ويسرع السير في بعض المواطن، وإذا وجد أموراً أخرى هدأ، وإذا وجد فرجة أسرع، وإذا وجد زحاماً توقف، بأسلوب من المداراة والحكمة لا يفتقد فيه الإنسان مقاصده وغاياته الشرعية، ولا يلين في مواقفه ومبادئه الإيمانية، ولا يضعف أيضاً من حماسته النفسية، ولكنه يراعي المصلحة الشرعية والسياسة الشرعية التي تدرأ المفاسد وتحصل المصالح بإذن الله عز وجل.

أهمية الجد في الإنتاج والإبداع

أهمية الجد في الإنتاج والإبداع Q أعمل أستاذاً في الجامعة وألمس -كما يلمس غيري من الأساتذة- ضعف همة شريحة كبيرة من الطلاب في التحصيل العلمي والجد والاجتهاد والحصول على العلم، أو على الأقل في الحصول على الشهادة العلمية التي يبتغيها، فما هو تعليقكم ونصيحتكم؟ A ليتنا نكون صرحاء مع أنفسنا، فبعض الشباب الذي يقفز هنا وهناك ويتكلم في هذا الموضوع وذاك تجده -كما يقولون- بيته من زجاج. فمن مهمة الطالب أن يكون جيداً في دراسته متفوقاً فيها؛ لأنه في مهنته طالب، ومفترض أنه في كل سنة يتخصص في جانب، ثم إذا به يفشل في هذا الجانب، فأنا أعتبر أن هذا نوع من الضياع والخسارة، ونوع من الاختلال في بناء الشخصية، فالذي يريد أن يكون جاداً في أخذه والتزامه بدينه وجاداً في نصحه وإصلاحه أوضاع أمته وجاداً في مواجهته ومجابهته لأعدائه لابد من أن يكون جاداً في واجبه الذاتي ومهمته الشخصية، فالمرآة التي أمامنا إذا نظرنا إليها نرى فيها صورة أنفسنا كما هي، فإن كانت الصورة فيها سوء أو نحوه فإننا نستفيد من المرآة أنها تكشف لنا الخطأ فنصلحه، لكن نحن نتصرف تصرف الحمقى، إذا وجدنا في المرآة خطأً وتلوثاً في الثياب أو نحوه نغضب ونكسر هذه المرآة، وما ذنبها إلا أنها أرتنا حقيقتنا، فنحن أحياناً لا نريد أن نعرف حقيقتنا، وإنما ننظر من طرق في جوانب بعيدة، والشباب يقع منهم ذلك كثيراً، وأما ما هو من واجبه ومهمته مباشرة فلا يتقنه أو لا يريد أن يجد فيه، ويهتم بجوانب أخرى ويشغل نفسه بها، ويغطي خلله وعيبه وعجزه في هذا الجانب بأنه منشغل بأمور أخرى، ولا أدعو -قطعاً- إلى أن يعتمد على قضية الدراسة فقط وكأنما هي دنياك وأخراك، لا، فما سمعنا اليوم من بعض المصطلحات التي تدرس في الجامعة أمر جيد، وهي جديدة علينا، لكن أقول: لابد هنا من الملازمة الجادة التي يحصل بها التفوق، وكثيراً ما رأينا أن المتفوقين والجادين في دراستهم هم أيضاً السابقون في ميادين كثيرة من الميادين الإيجابية الشبابية. ومرة أخرى -وأنا أقول هذا كثيراً في الخطابة- أريد دائماً أن أكثر من الحديث المباشر الذي يتوجه لي ولك قبل أن يتوجه الحديث لغيرنا؛ لأننا إذا أكثرنا من هذا ربما وجدنا أننا نحتاج إلى بذل جهود أكثر مما نتكلم ومما ننتقد، وأيضاً حينما نتكلم مع الآخرين أو عن الآخرين سوف يكون كلامنا باتزان؛ لأننا لو طالبناهم بالكثير فنحن قد جربنا أننا لا نستطيع هذا الكثير ولا نتقنه، فنعذر الآخرين حينئذٍ.

حكم التعصب لشخص أو لمذهب

حكم التعصب لشخص أو لمذهب Q من الملاحظ في أوساط الشباب من آثار الحماسة التعصب لمذهب معين أو منهج معين وما يأتي تبعاً من تمسك بالرأي وتتبع للرخص في المسائل الشرعية، نرجو تبيين ذلك؟ A هذا سؤال طويل، ونحن عندنا من فضل الله عز وجل دين كامل وشريعة واضحة سمحاء، وعندنا علوم كاملة ليس في تاريخ الأمم مثلها في أصول الفقه وفي علوم الحديث وكيف نعرف الدليل وكيف نعرف صحته وكيف نستنبط منه، أما خبط العشواء فليس من منهجية الإسلام في شيء. وأما المتابعة لأحد الناس فإن المعروف أنه ليس هناك عصمة لأحد من الخلق إلا لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وكل الأئمة نقل عنهم أنهم قالوا المقالة المشهورة: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا وجدتم قولي يخالف قول الحديث فأضربوا بقولي عرض الحائط. وكفانا عاطفية، حتى في الجوانب الدينية لا ننساق وراء من أحسنا به الظن أو رأينا منه الخير؛ لأنه ليس هناك كامل ولا معصوم إلا من عصمه الله عز وجل وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي سير أسلافنا من هذا ما يضيق المقام عن ذكره.

موقع الشيخ علي بادحدح على شبكة الإنترنت

موقع الشيخ علي بادحدح على شبكة الإنترنت Q ما هو عنوان موقع الشيخ وبريده الإلكتروني؟ A موقع الشيخ هو: ESLAMYAT. COM ، وفيه البريد الالكتروني.

توجيه عام في بعض الأحداث

توجيه عام في بعض الأحداث Q هل من كلمة حول بعض الأحداث التي تحصل في البلاد؟ A هي أحداث جديدة، وأعتقد أن حديثنا الذي ذكرناه في الموضوع يبين الموقف من ذلك، وهو موضوع متفق على عنوانه ومضمونه، وإن كان الموضوع الدقيق في الحقيقة ينحصر في مسألتين أساسيتين فيهما من الناحية الشرعية تفصيلات كثيرة ومسائل دقيقة جداً، هذان الأمران والبابان العظيمان هما: باب الجهاد في سبيل الله عز وجل، وباب الصلة بولاة الأمر. وليس هذا الباب ولا ذاك ولا أي باب من أبواب الشريعة الإسلامية يعتمد أو يتصل بقضية العاطفة أو ردود الأفعال، إنما المطلوب مرجعية شرعية نصية بقواعدها وأصولها وضوابطها. وأقول: من جملة ما نعلم أن من أصول وقواعد هذا الدين أن ما يترتب على مثل هذه الأعمال من مفاسد ومضار أكبر من المصالح التي تحققها، فضلاً عن أن تنزيل الدليل الشرعي على الحدث الواقعي أقل ما يقال فيه: إنه من المسائل التي فيها خلاف كبير، ولا يصح ولا ينبغي بحال من الأحوال أن يستقل بنا الاجتهاد في هذه المسائل الضخمة، وكثير من الناس ليس لهم خبرة ومعرفة بالعلم والرسوخ فيه، ثم يكون لهم اجتهادهم المطلق ورأيهم المفرد وتطبيقهم لهذا الاجتهاد! هذه قضية خطيرة ودقيقة. وقلت: هما بابان فيهما من المسائل الشرعية الدقيقة ما يحتاج إلى أن يكون القول فيه لأهل العلم مع اجتماعهم واتفاق آرائهم؛ لأن المسألة لا تتعلق بنص وظاهر معناه، وإنما بما وراء ذلك من قواعد وترجيحات، ومن معرفة بالواقع وأمور كثيرة، ولعلنا ندرك أن المخاطر التي تحيط بأمتنا أكثر من أن نجعل هذه المعاني والمسائل والأحداث تفرط العقد وتعيق الانطلاق وتتيح الفرصة للأعداء لأن يكون لهم المزيد من المآخذ والمداخل التي يحاولون من خلالها أن يسيئوا إلى أمتنا ومجتمعاتنا وبلادنا. نسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يسلمنا من زيغ الآراء وفتنة الأهواء، وأن يعصمنا بعصمة كتابه، وأن يلزمنا هدي رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.

شموس الخيرات وظلم العثرات

شموس الخيرات وظلم العثرات لقد تطاول كثير من الناس -وخاصة أمراض القلوب- في أعراض المسلمين بألسنتهم، والأدهى والأمر أن يقع هذا الفعل ممن انتسبوا إلى العلم، فتصدروا المجالس ورموا العلماء وطلاب العلم بالنقائص، ولبسوا الأمر باسم الدين، والذب عن حمى السنة، وما وقع ذلك إلا بسبب سوء فهم، ونقص علم، وقلة فقه، وعدم إدراك لقواعد وضوابط الجرح والتعديل، وعدم النظر إلى سير السلف وإنصافهم للعلماء.

مسائل ينبغي التنبه لها

مسائل ينبغي التنبه لها بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، الحمد لله على ما شرح به الصدور من الإسلام، وعلى ما طمأن به القلوب من الإيمان، وعلى ما لفظ به الألسنة من القرآن، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! وبعد: أحييكم بتحية الإسلام الطيبة المباركة، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وأبدأ بشكر لجنة التوعية على ما هيأت من هذا اللقاء، وأبشكر الحاضرين على ما أسرفوا من حسن الظن، سائلاً الله سبحانه وتعالى في أول الأمر وفي مبتدأ القول أن يرزقنا الإخلاص في الأعمال، والصدق في الأقوال، والحسن في الأحوال، والنجاة عند المرجع والمآل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الرجوع إلى المنبع الصافي في العلم

الرجوع إلى المنبع الصافي في العلم من المهم في بداية هذا الحديث أن نبدأ بذكر مضمون هذا الموضوع؛ لأنه ربما لا يستشف من عنوانه المضمون الواضح الذي يرتسم في ذهن السامع أو في ذهن القارئ ابتداءً، وأحب أن أضرب لذلك مثلاً يجعله إن شاء الله مدخلاً إلى الحديث عن مضمون هذا الموضوع. لو تصورنا إنساناً بلغ به العطش غايته، وليس له من شراب ولا غيره أمداً طويلاً، فلنتصور حالته إذا أقبل على واحة أو على نبع من الماء، لا شك أنه يندفع اندفاعاً قوياً ويعب من الماء عباً، وهو يقصد في ذلك خير نفسه وصلاحها، ولكنه ربما لا يلتفت حينئذ إلى ما على هذا الماء، وما جاء إليه، وما اختلط به من بعض الأكدار التي جاءت من خارجه، وربما أيضاً أسرف في شربه بما قد يضره مع أن قصده المنفعة. ولو أنه تروى قليلاً، فأزاح ما قد يكون من الماء من الشوائب أو الأخلاط، أو عمد إلى منبع الماء الصافي، فأخذ قدر حاجته شيئاً فشيئاً لكان ذلك أصح له وأنفع له بإذن الله سبحانه وتعالى ولا شك. في الفترة الماضية من الزمان هاجت رياح التغريب، وجنح كثير من الناس في مزالق الشيطان، وأهواء النفوس، وضلالات العقل، وكثر البعد عن دين الله سبحانه وتعالى، ثم يسر الله سبحانه وتعالى هذه الصحوة المباركة التي نشاهد فيها الإقبال العظيم على الخير، والرغبة الجامحة في الاستزداة والاستفادة، والحمية والغيرة القوية على هذا الدين، وهذه كلها مقاصد حسنة، لكن كما أقبل العطشان، ربما لم يلحظ شيئاً من الأكدار، وربما أخذ بمقدار أكثر من الحاجة، وربما يقع له في مثل هذه الحال ما يقع لذلك الرجل. هذا هو مدخل موضوعنا، أن نحاول أن نرجع إلى النبع الصافي، وأن نحاول أن نستوضح من كلام الأئمة والعلماء ما يبين بعض مواطن الخلل التي قد نقع فيها، وبعض مواطن الزلل التي قد تزل الأقدام فيها، وهذا يتعلق بالذات بالأكثر وروداً، والأكثر تداولاً، وهو ما يتعلق بالتقويم والنصح والإرشاد، أو بالدفاع عن الدين والذب عن حياض الإسلام، فإنه ربما كان في مثل هذا الأمر ما يقع فيه الخلل، حتى قد يسرف الناقد فيأتي بما لا ينبغي، وبما لا يجدي، وقد يسرف أيضاً المتغاضي فيتهاون فيما لا ينبغي وفيما لا يجدي. وبالجملة: فإن مسألة التقويم ومسألة النقد والتصويب والتخطئة لا شك أنها من أدق المسالك ومن أصعبها، ومن أكثر المسالك التي قد يرد الخطأ فيها، ومن هنا فإنا أحببنا أن نبين بإذن الله سبحانه وتعالى ما ينبغي في مثل هذا الأمر من القواعد والضوابط، ومن الاسترشاد بالآيات والأحاديث، ومن ضرب الأمثلة من واقع تطبيقات الأئمة الموثوقين والمتبوعين والمرضيين من سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم أجمعين، فإن الخير له نور، وإن للطاعة حلاوة، ونجد لصاحب تصويباً وتوفيقاً من الله سبحانه وتعالى يوقعه على الصواب، ويجنبه الخطأ والزلل في غالب الأمر، كما أن للمعصية ظلمة وسواداً في القلب، وربما تورث فساداً في الرأي، وخطأً في العمل؛ لأن لذلك آثار، ولذلك آثار وبهذا قضت سنة الله سبحانه وتعالى، ولكن الخير إذا كثر وكثرت أنواره فإن قليل الظلام من العثرات يعفى، بل قد يعم النور فلا يظهر لتلك العثرات أثر إلا لمن نقر وبحث في هذه العثرات، ومن هنا فإن حديثنا وموضوعنا هو فيما يتعلق بهذا الجانب المهم والخطير، الذي ربما يكثر مساحة الاختلاف والتنابز، أو التنافر، فعلينا أن نسعى جاهدين إلى قصد الحق، ورؤية ميزان العدل في مثل هذا الأمر، فنسأل الله جل وعلا الإعانة والتوفيق، وهو سبحانه وتعالى ولي هذه الأمور، وما يكون للإنسان فيها إن شاء الله من توفيق فمن الله، وما يكون من خطأ فمن الشيطان أو من نفس الإنسان، ومن إحسان ظن الناس به أن يلتمسوا له عذراً.

لا عصمة لأحد من الخلق غير الأنبياء

لا عصمة لأحد من الخلق غير الأنبياء أول قضية مسلمة عند الجميع أنه لا عصمة لأحد من أهل الحق أبداً إلا للأنبياء والمرسلين، وأن الخطأ يجوز على بقية البشر من صغير أو كبير أو من جاهل أو عالم أو من تابع أو متبوع، بل هو محتم الوقوع، فينبغي أن نعلم ابتداءً هذه القضية، وأن نعلم أيضاً قضية أخرى لازمة لها، وهي أن منشأ وجود الخطأ إنما هو حكمة الله سبحانه وتعالى، وسنته في تباين الفهوم، واختلاف مدارك العقول، ويجوز في الدين الاجتهاد في كثير من المسائل التي يحتاج إليها، فلا عصمة لأحد، وهذه الأخطاء غالبها يقع بالاجتهاد الذي هو سائغ في هذا الدين، وله ما يؤسسه ويبينه، قال الشاعر: سامح أخاك إذا خلط منه الإساءة بالغلط من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط فجميع الناس -غير الرسل والأنبياء- لا يسلم أحدهم من نوع خطأ أو قليل هفوة أو بعض زلة يقع فيها، لكنها تغتفر في كثير حسناته، ويلتمس له فيها العذر؛ لأنه سار فيها وفق نهج الدين بالاجتهاد السائغ وفق شروطه، والله سبحانه وتعالى بين هذه الحكمة بقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] أي: في موارد الاجتهاد، وكذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم يبين ذلك فيقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) فهو في كلا الحالين مأجور، سواء أصاب أو أخطأ، لكن الأجر لا يتعلق بالإصابة والخطأ، وإنما يتعلق بالقصد الذي في قلبه، والنية التي بين جنبيه في أنه أراد إصابة الحق، وموافقة أمر الله سبحانه وتعالى، وسعى إلى قصد ما يحصل له به الثواب والأجر ورضا الله جل وعلا، وما يتجنب به من الوزر والإثم وسخط المولى سبحانه وتعالى. وهذا الموضوع طويل، والنقول فيه كثيرة، وما يسر الله لي جمعه قليل من كثير، وما سيقال لكم مما جمع قليل منه، فلعل هذا القليل من القليل يكون فيه إشارة إلى ما وراءه، ويكون مؤسساً إن شاء الله لما نهدف إليه من التبصير بهذا الأمر.

ليس كل خطأ ينبغي التنبيه عليه

ليس كل خطأ ينبغي التنبيه عليه الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فهذه الآية نأخذ منها أن كل أمر من قدح أو تزكية ينبغي فيه التبين والتثبت، لا التعجل والتسرع الذي قد يفقد الدقة في تصويب الأمر أو تخطئته. ونجد أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تبصرنا في إطار عام إلى بعض الأمور والقواعد التي توضح مسار هذا الأمر، يقول صلى الله عليه وسلم: (من ستر على مسلم في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة) وهو جزء من حديث طويل في الصحيح، فليس كل خطأ ينبغي التنبيه عليه، وليس كل زلة ينبغي نشرها وإذاعتها، وإلا لم يكن لهذا الحديث معنى عملياً ولا تطبيقياً، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر المدح، وعقب عليه بثبوت الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، ولذلك شواهد يأتي ذكرها. ثم إن قصد التنبيه والتبيين لا يقتضي بالضرورة التشهير والتوبيخ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه كان إذا رأى أو سمع ما لا ينبغي أو ما ليس بصواب يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا كذا؟ ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟) فيحصل المقصود الأعظم -وهو بيان الخطأ والتنبيه من الوقوع فيه- مع تجنب التجريح، ومع تجنب ما قد يكون فيه نوع جرأة على حرمة المسلم، ونوع توغير للصدور، ونوع منافرة بين القلوب، ونوع تفرق في الصفوف، مما قد تكون آثاره أعظم وأخطر من هذه الزلة التي تم التنبيه عليها أو التشهير بصاحبها إذا صح التعبير. ونجد في هذا أحاديث وتطبيقات كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: الحديث المعلوم في الصحيحين في قصة ماعز الأسلمي الذي زنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، معلوم أنه جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام معترفاً بزناه يقول: يا رسول الله! زنيت فطهرني، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واثنتين وثلاثاً، وفي الرابعة رأى إصراره على الاعتراف فلم يبادره رغم تكرره منه، وإنما قال له ملقناً له للحجة التي قد يدرأ بها الحد عن نفسه، ويبصره بأنه ربما لم يفهم ما يوجب عليه الحد، فقال له: (لعلك قبلت أو لعلك فاخذت، فقال له: لا يا رسول الله!) حتى في الرواية التي في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح باللفظ الصريح في معنى الجماع! فلما حصل كل هذا من الاعتراف أربع مرات ثم تعيين الفعل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبك جنون؟) لأنه يكون مسقطاً للحد عنه، ثم بعد ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استنكهوه)، يعني: شموا رائحته لعله يكون قد شرب خمراً خالط عقله فلم يدر ما يقول، (فاستنكهوه، فقالوا: ليس به شيء يا رسول الله، فحينئذ أمر به فرجم)، وفي بعض روايات مسلم أنه لما رجم هرب من شدة الرجم لكنهم لحقوه ورجموه حتى مات، فورد في بعض الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلا تركتموه؟) قال بعض الشراح: أي: لعله يتوب ويرجع، فهذا يبين لنا عظيم ما ينبغي من الستر على المسلم. وفي رواية أنه جاء رجل إلى أبي بكر رضي الله عنه فاعترف بالزنا فقال له: (استر على نفسك وقد ستر الله عليك)، فلم يكن منه تشهير، بل حتى لم يكن منه إبلاغ للحاكم أو الإمام، لأنه داخل في مفهوم الستر متى ما تحصل المقصود، وهو وقوع الندم، وصدق التذلل لله سبحانه وتعالى، وعظيم الإخلاص في قصد التخلص من آثار هذا الذنب ولو بإقامة الحد الذي فيه إزهاق النفس، ثم إنه ذهب إلى عمر فقال له مثل ما قال له أبو بكر إنه ذهب إلى هزال فأخبره؛ فقال له: اذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى يقيم عليك الحد، فجاء في الروايات الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ هزال: (هلا سترته بردائك؟) وهذا يبين لنا أن الستر مطلوب، ما دام أنه لا يكون فيه الضرر العام الذي تحصل به الفتنة، والذي يستلزم الوضوح وتبيين الأمر، فلما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معترفاً على النحو الذي أشرنا إليه أقام الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الحد تنفيذاً لحكم الله سبحانه وتعالى، وبياناً لقضية أن الحد إذا بلغ الإمام فلا بد أن يقام. وكذلك قصة الغامدية نحوها، مما يبين لنا أن الأمر إذا كان يحتمل الستر، ومما لا يشيع أثره، ولا يعم ضرره؛ فإنه يكون الستر أولى، مع تقديم النصح والتذكير بالله سبحانه وتعالى، ومعلوم أنه لا يقر بالذنب، ولا يفضح أحد نفسه عند غيره إلا وقد حصل له من حرارة لسع أثر الذنب ومن حرارة قصد إرادة التوبة ما يحصل به المراد من إقامة الحد، وهو الرجوع إلى الصواب، والتطهير من الذنب.

من قلت أخطاؤه غمرت في بحار حسناته

من قلت أخطاؤه غمرت في بحار حسناته نمر ونعرج من خلال نصوص السنة النبوية المشرفة على قضية أخرى وهي: أن كثرة الخير تغمر وتغطي قليل الخطأ والزلل، بل ربما كان للخير الأعظم والأكبر ما يغفر زللاً قد سبق، وزللاً قد مضى، ولذلك شواهد عظيمة في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. الأول: ما جرى من أمر حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حينما أرسل إلى أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتحها، وأخبر الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، فأرسل علياً ومعه نفر من الصحابة وقال لهم: اذهبوا إلى روضة خاخ فإنكم تجدون امرأة معها كتاب فخذوه، فذهبوا فلما وجدوا المرأة أخذوا الكتاب قبل أن تصل به، وعادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاطب في مجمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم بالظنة رغم وضوح الفعل، ورغم صراحة وثبوت القضية -كما يقولون- بالأدلة المادية المحسوسة، ولكنه قال له عليه الصلاة والسلام مبيناً منهجاً عظيماً: (ما حملك على ما فعلت؟) ليبدي عذره، وليبين تأوله أو اجتهاده، أو ليعترف ويقر بذنبه، فقال ما معناه: إنه مؤمن بالله ورسوله، وأنه ما غير ولا بدل، ولكن الأمر أن له مالاً وأسرة، وليس له عند قريش من يحميهم، فأراد أن يجعل له يداً عندهم ينتفع بها، فحينئذ قام عمر رضي الله عنه بغيرته المعروفة، وبشدته الظاهرة المعلومة فقال: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: يا عمر! ما أدراك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)؟ وقد كثرت أقوال الشراح لهذه المقالة وكلها تجمع على أن فضيلة التقدم في الإسلام، وشهود بدر، والمنافحة عن دين الله؛ كان لها الأثر أن تكون معفية لذنوب سبقت أو لذنوب تلحق، أو أنها تكون سبباً لصاحبها فلا يقع في العظائم، وربما يقع له بعض الهنات التي يغفرها الله سبحانه وتعالى له، وهكذا من كان له قدم صدق، ومزيد فضل، وغزير علم، وسابقة خير في الناس؛ ربما يكون له من الخير ما يعفي عنه أو ما يغطي عنه أو ما يقلل أثر الذنب القليل أو الخطأ اليسير بعون الله تعالى. ومن ذلك حديث عند الترمذي حينما جهز عثمان جيش العسرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) وهذا شاهد على ما قلنا من قوله صلى الله عليه وسلم. ما جاء في صحيح البخاري ومسلم أن رجلاً كان اسمه عبد الله ولقبه الحمار، وفي بعض الروايات لم يسم، وفي بعض الروايات أنه نعيمان أو ابن نعيمان، كان يؤتى به وقد شرب الخمر، ثم يجلد، ثم يؤتى به مرة أخرى، وتكرر منه ذلك كثيراً، حتى قال بعض الصحابة: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) وهذه قاعدة عظيمة أنه قد يجتمع حب الله ورسوله وثبوت الإيمان مع حصول الخطأ والمخالفة، وهذه من المزالق العظيمة التي وقع فيها الخوارج وغيرهم حينما كفروا مرتكب الكبيرة، ونفوا عنه اسم الإيمان، فهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر عن رجل تكرر منه شرب الخمر، وحد فيه، أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وينهى عن لعنه، قال العلماء: إن كان مراد لاعنه اللعن المعروف -وهو الطرد من رحمة الله- فلا شك أنه منهي عنه بالجملة؛ لأنه يكفره به، وقد يقصد بلعنه توبيخه أو التشنيع عليه كما يكون بين الناس عندما يلعن إنسان إنساناً ولا يقصد الحكم عليه بالطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي بعض الروايات لهذا الحديث: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم) فإن مثل هذا الجرح أو مثل هذا السب أو مثل هذا التشنيع ربما يسبب أن الإنسان تأخذه العزة بالإثم فينجرف وراء الإصرار على المعصية، وقد كان يوشك أن يكون قريباً من حبل التوبة فيعتصم وينجو به بإذن الله سبحانه وتعالى. وهذه مقالة نفيسة لـ أبي الدرداء رضي الله عنه، فإنه كان يقول: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، ولكن كونوا عوناً لأخيكم على الشيطان)، وهذه مسألة من المسائل التي نستشفها من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه. الثالث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) والمقصود بذوي الهيئات الذين اشتهر فضلهم في الناس، والذين بزغ نجمهم في المجتمع، والذين كثر خيرهم، فإذا وقعت لهم عثرة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أن تقال عثرتهم، وألا تكشف سوأتهم؛ لئلا يذهب كثير خيرهم في الناس، ولئلا تنعدم قدوتهم في كثير من الخير الذي هم عليه عند الناس، ونص الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) إلا ما كان موجباً للحد، فإذا بلغ الحد الحاكم فلا تقال مثل هذه العثرة، إلا ما كان في باب التعزيرات، أي: ما يكون موجباً للعقوبة دون الحد، فللحاكم -عندما يكون الواقع في هذا الأمر من ذوي الهيئات- أن يسقط عنه التعزير الذي هو مقدر من عند الحاكم أو القاضي، ولذلك قال الشافعي في ذلك: ذوو الهيئة من لم يظهر منه ريبة. وقال العلماء في الاستنباط من الحديث: وفيه دليل على جواز ترك التعزير، وأنه غير واجب، يعني: لمن كان عليه هذا الأمر. وقد روى الترمذي وضعفه بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم) وهي قاعدة مقررة عند الفقهاء، وهي درء الحد ولو بشبهة، وهذا حديث من الأحاديث التي نستشهد ونستأنس بها في هذا الباب، وقد ذكر الماوردي في الحاوي الكبير في فقه الشافعية هذه القضية، وضرب لها أمثلة كثيرة.

تجويز الكذب للإصلاح بين الناس

تجويز الكذب للإصلاح بين الناس عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذب في الحرب -فإن الحرب خدعة-، والرجل يكذب بين الرجلين ليصلح بينهما، والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذلك) رواه الترمذي وأحمد. وشاهدنا منه أنك في بعض الأحيان قد تلطف القول، وقد تسعى للإصلاح، فتقول ما ليس بواقع حقيقة، فتجد من ينتقد ذلك أو ربما يشنع على هذا الفعل؛ لأنه يرى فيه تجاوزاً، ويرى فيه بعداً عن الغيرة عن الدين، ونحو ذلك مما يتوهمه، وهذا ليس بصحيح، فإن سفيان بن عيينة قال تعليقاً على هذا الحديث: لو أن رجلاً اعتذر إلى رجل فحرف الكلام وحسنه ليرضيه بذلك لم يكن كاذباً، لماذا؟ قال: يتأول الحديث: (ليس الكذاب من أصلح بين الناس) فإصلاحه ما بينه وبين صاحبه أفضل من إصلاح ما بين الناس. عمر رضي الله عنه وهو من نعلم شدته، ومن نعلم حرصه على إقامة الحق بكل وجه من الوجوه، روي أن رجلاً في عهد عمر قال لامرأته: نشدتك بالله هل تحبينني؟! قالت: أما إذ نشدتني بالله فلا، أي: ما دام المسألة فيها يمين وفيها قضية فاصلة فلا؛ لأنها لا تريد أن تكذب، فخرج حتى أتى عمر فأخبره، فأرسل إليها عمر فقال: أنت التي تقولين لزوجك: لا أحبك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! نشدني بالله، أفأكذب؟! قال: نعم فاكذبي، ليس كل البيوت تبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب. هذا الموقف صح عن عمر وهو الشديد وهذا يبين لنا أثر المقاصد الحسنة في تجويز الكذب أحياناً، ما لم يكن في ذلك مخالفة لحكم صحيح أو تغيير لحكم من حل إلى حرمة أو نحو ذلك، فالمقصد الحسن يعفو عن قليل الكذب؛ ليصلح بين الناس، مع بيان الحق، والنصح للمسلمين.

وجوب الذب عن عرض المسلم

وجوب الذب عن عرض المسلم روى أحمد وأبو داود من حديث جابر بن عبد الله وأبي سهل الأنصاريين قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته). قد يمر بك الطعن فيمن له خير وفضل، وفيمن لا يكون هذا الأمر الذي وقع فيه موجباً للتشهير به؛ فيكون هذا الحديث شاهداً لك، ودليلاً لك إن انتصرت له، وذببت عن عرضه، وبينت ما يلزم من الستر، مع التنبيه على أن الخطأ لا يصوب بحال من الأحوال، وأن الحلال لا ينقلب حراماً بحال من الأحوال، والتنبيه يكون مع لزوم الأدب، ومع الحرص على هذا الأمر. كان بين خالد بن الوليد وبين سعد بن أبي وقاص كلام، كما يحصل بين الناس عند الاختلاف، فتناول رجل خالداً عند سعد، أي: ذكره بأمر، ومعلوم أن المذكور خالد، والسامع سعد، فربما يظن الظان أنه قد يفرح بذلك أو يسكت عنه؛ لأن بينهما شيئاً من الخلاف، فقال سعد: إن الذي بيننا لم يبلغ ديننا. فينبغي أن يكون الخلاف بيننا لا يؤدي إلى ما هو أبلغ منه وإلى ما هو أعظم منه في هذا الشأن.

المسلم مرآة أخيه المسلم

المسلم مرآة أخيه المسلم حديث عظيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، ويروى عن أبي هريرة موقوفاً، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال: (المؤمن مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيباً أصلحه) وأما الرواية المرفوعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أيضاً من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه) ومعنى (المؤمن مرآة أخيه) أنه مقوم له ومصحح لمساره؛ لأن الإنسان إذا لبس ثوبه نظر في مرآته ليصحح من وضعه، وليرى خطأه في ذلك، ويرى في المرآة ليستكشف ما لا يحب الاطلاع عليه؛ لأن العين لا تبصر جبهته، ولا تبصر وجنته، فيستعين بهذه المرآة، ولا شك أنه يحتاج إليها، ويفتقر إليها، فلو تصورنا أن في المرآة غبشاً أو نوعاً من الضباب أو نوعاً من الغبار فما تراه يصنع؟ هل تراه يعمد إليها، فيكسرها فيفقد خيرها فلا ينتفع بها ألبتة أم تراه يتلطف بها ويمسح عنها غبارها، وينظفها بكل أسلوب حسن يستطيعه حتى ينتفع بها؟ إن كان فيها الغبار ولم يزله بقي عليها، وإن كسرها أو استغنى عنها لم يزل مفتقراً إليها؛ وكذلك الأمر ما بين المؤمن والمؤمن، ينبغي أن يكونا على مثل هذا الأمر. هذه جملة يسيرة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبئنا عن منطلقات مبدئية لولوجنا حول هذا الموضوع، وقد قال الله سبحانه وتعالى في أقسام الناس: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] فرجا الله سبحانه وتعالى العفو لمن خلط ذاك بذاك. وقد عمم العلماء حديثاً من قاعدة فقهية تطبيقية إلى قاعدة معنوية في التقويم، وهو حديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، ما معنى لم يحمل الخبث؟ قد يكون فيه خبث ولكنه لا يضره، وكذلك من غلبت محاسنه وكان فيه قليل خطأ؛ فإن قليل الخطأ لا يضره مع كون الخطأ يبقى خطأً، ولا يفهم من قولهم: (لا يضره) أنه ينقلب إلى صواب.

قواعد وضوابط أسسها العلماء

قواعد وضوابط أسسها العلماء من المنطلقات السابقة نأتي إلى لب القضية، وجوهر الموضوع، وهي بعض الضوابط والقواعد التي أسسها العلماء من الأئمة الفضلاء، والسلف الصالح رضوان الله عليهم، الذين جمعوا غزير العلم، مع وافر التقوى وجليل الورع، وكان لهم -ولا شك- تميز عن كل من جاء بعدهم رضوان الله عليهم، وكما أشرت دأبنا إن شاء الله الاختصار والتعريج على المهمات قدر المستطاع.

أعراض المسلمين حفرة من حفر النار

أعراض المسلمين حفرة من حفر النار يقول القاسمي: المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها وكثر سوادها لا بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى، وأعظم استجابة، لأن التوسط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل من كل عصر ومصر، وأما الغلو فمشرب الأكثر، ورغيبة السواد، ولذلك كثر ما قد يكون بين المتباينين في الفرق حول هذا الأمر. ولا شك أن هذه القضية -قضية التقويم- مسألة فيها خطورة عظمى، نبه عليها الإمام ابن دقيق العيد في عبارة مهمة وقوية فقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام. ولماذا وقفت عليها هاتان الطائفتان؟ وقفت مضطرة لأن طبيعة عملها واللازم منها أن تكون فيها، لكنها وقفت على الشفير، فهي على خطر، فلذلك انتبهت لنفسها، واستعصمت بالحق حتى لا تزل قدم فتقع في هذه الحفرة الخطيرة، ولذلك يذكر ابن دقيق العيد وجوهاً من الآفات التي قد تعتري قضية الجرح والتعديل، أو التقويم والتصويب، فقال: هذه لها وجوه خمسة من الآفات: أحدها: الهوى والغرض وهو شرها، وكم من جرح نعلم أن مبعثه هو الهوى! قال: وهو في تاريخ المتأخرين كثير. يقول ذلك وهو من المتأخرين، فكيف بالمتأخرين جداً في عصرنا؟ فلا شك أن هذا التأخير -كما يقول أهل الرياضيات بالمضاعفات العددية- يسبب كثرته عندنا. الثاني: المخالفة في العقائد، فإن كل متخالفين في بعض الاعتقاد أو في بعض الاجتهاد يحصل منهم ذلك، أي: يحصل منهم التعدي بما يقع فيه مجانبة الحق والصواب. الثالث: الاختلاف بين أهل الباطن وأهل علم الظاهر في نقد بعضهم بعضاً في بعض الأحوال. الرابع: الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم. الخامس: الأخذ بالتوهم مع الورع، بمعنى: الأخذ بالظنة. ولذلك نبه أيضاً القاسمي على ما وقع في آخر الزمان، والقاسمي قريب منا في نهاية القرن الماضي، يقول: فترى من هذا أن التنابز بالألقاب والتباغض لأجلها الذي أحدثه المتأخرون بين الأمة عقوا به أئمتهم وسلفهم أمثال البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل، ومن ماثلهم من الرواة الأبرار، وقطعوا رحم الأخوة الإيمانية الذي عقده الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وجمع تحت لوائه كل من آمن بالله ورسوله، ولم يفرق بين أحد من رسله. فإذاً: كل من ذهب إلى رأي محتجاً عليه، ومبرهناً لما غلب على ظنه، وقد بذل فيه قصارى جهده، مع صلاح نيته في توخي الحق، فلا ملام عليه ولا تثريب؛ لأنه مأجور على أي حال، ولمن قام عنده دليل على خلافه، واتضحت الحجة في غيره أن يجادله بالتي هي أحسن، ويهديه إلى الرشاد، مع حفظ الأخوة، والتظافر على المودة والفتوة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي} [العنكبوت:46] ما قال بالحسنى وإنما: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] وهم أهل كتاب، فكيف تكون مجادلتنا لمن هم أهل الإيمان وليسوا أهل كتاب؟! فإن كان عندكم لفظة هي قوله: (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فهي مرادة ومطلوبة فيما بين أهل الإيمان.

الحالات التي يجوز فيها الجرح

الحالات التي يجوز فيها الجرح النقطة الأهم في قواعد الجرح والتعديل هي: متى يصح أن ننقض؟ ومتى يجوز الجرح والتعديل؟ من المعلوم أن الغيبة محرمة، وأن الوقوع في الأعراض من أعظم الذنوب، وقد بين العلماء المواطن التي يجوز فيها ذلك، ثم بينوا القواعد التي تضبط هذه المواطن أيضاً. هذه المواطن ستة ذكرها الإمام الغزالي والإمام النووي رحمة الله عليهما، قالا بتوافق بينهما: الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، يعني: إذا ظلمه إنسان لا يمكن أن يسكت ويذهب فيمدحه، فهو صاحب حق فله أن يقول: فلان ظلمني أخذ مالي فعل كذا وكذا فيذكر ما وقع من ظلم منه، فهذا لا شيء فيه. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو منه إزالة المنكر: فلان يفعل كذا إن كان لا يستطيع أن ينكر عليه هو، أو قد استفرغ جهده ولم يقدر عليه. الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي بكذا فما سبيل الخلاص؟ أو فعل فلان معي كذا وكذا فما أفعل معه؟ الرابع: تحذير المؤمنين من الشر ونصيحتهم، وهذه مسألة مهمة، وهي متعلق كل من يخوض في هذا الباب، فإنه يدعي أنه ينصح للمسلمين، وأنه يذب عن حياض الإسلام، قالا: ومن هذا الباب المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته في عمل، أو إيداعه وديعة عنده، أو معاملته أو غير ذلك. ومنه جرح الشهود عند القاضي، وجرح رواة الحديث، فهذه كلها هدفها النصح للمسلمين، وتحذير المسلمين من الشر، وهو جائز بالإجماع، بل واجب للحاجة، لكن سيأتي تفصيل الحديث عنه، ومنه ما إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فينصحه ببيان حال الذي يذهب إليه، بشرط أن يقصد النصح ولا يحمله على ذلك الحسد والاحتقار، وهذه القضية دقيقة وحساسة: وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك يعني: كل إنسان يعلن أنه يريد نصح المسلمين، والذب عن الأخطاء التي تقع، لكن ينبغي أن يحاسب نفسه، هل هذا هو المبعث الصحيح أم أنه قد خالطه بعض الأخلاط والأغلاط مما لا يسلم منه من هوى أو منافرة ومخالفة أو شيء من الجفوة والغلظة التي تكون في الطبع أحياناً كما سيأتي الحديث عنه؟! الخامس: أن يكون الرجل مجاهراً بفسقه أو بدعته، فيجوز ذكره بما يجاهر به دون غيره من العيوب: وانظر إلى هذه المسألة، يقول: ما جاهر به نذكره، وما كان مستتراً به نستره على غرار ما فعل، فإذا جاهر، وهتك ستر الله عليه، وأتاح للناس أن يواجهوا ذلك بالتحذير منه؛ فلا ستر له حينئذ؛ لأنه قد هتك الستر بفعله، لكن هل نتجاوز هذا الحد ونخوض في كل أمر؟ لا. السادس: التعريف، أن يكون المقصد بذكر هذا العيب أو تلك العلة التعريف، كأن يكون الرجل معروفاً بوصف يدل على عيب، كالأعمش والأعرج والأصم والأعور والأحول وغير ذلك، إن كان لا يعرف إلا به، أما إن كان له اسم يعرف به أو شهرة تدل عليه فلا يصح هذا. فهذه الضوابط العامة التي يكون فيها مجال الجرح والتعديل، أو التقويم، أو ذكر المساوئ، أو بيان العثرات، هذه هي المجالات، لكن أين المجال الأكثر؟ التظلم معلوم، وطلب النصح معلوم، لكن الدقة في مسألة النصح للمسلمين، ومسألة الحرص على بيان الخطأ، ومسألة الحرص على ألا يلبس على الناس، هذه هي التي يكثر فيها الكلام، وتكثر فيها الدعاوى؛ ولذلك نأتي بكلام العلماء في التفريق الدقيق، وذكر القيود الضابطة الحساسة، كما أشرت إلى صاحب المثل حيث يحتاج إلى أن يزيح الأكدار حتى يصفو له النبع، فيأتي الأمر على وجهه، فيترك هذه الأخلاق ويذهب إلى النبع، فيحصل له المراد إن شاء الله. فرق الإمام القرافي في كتاب الفروق بين قاعدة الغيبة المحرمة والغيبة التي لا تحرم، وذكر هذا عند أحد الأسباب المجيزة للغيبة وهي النصح للمسلمين، فقال: ويشترط في هذا القسم أن تكون الحاجة ماسة لذلك، يعني: يكون هناك احتياج لأن تذكر هذا العيب، أما هكذا لمجرد التفكه والتندر وشغل الأوقات أو ظهور الفضل بذكر نقص الآخرين فهذا لا شك أنه من أخطر الوجوه، يقول: وأن يقتصر الناصح في ذكر العيوب على ما يخل بتلك المصلحة الخاصة التي حصلت المشاورة فيها دون غيرها، كأن جاءه رجل يشاوره في أمر الزواج، فيذهب ويذكر له عيوبه في البيع والمعاملة وو، والسؤال كان عن دائرة معينة، فينبغي إذاً في مسألة المشاورة ألا يتجاوز في ذكر العيب القضية التي سئل عنها، والتي يحتاجها السائل، فإن حفظ مال الإنسان وعرضه ودمه عليك واجب، وإن لم يعرض له بذلك، ثم ذكر الشروط فقال: الأول: احترازاً من ذكر عيوب الناس مطلقاً، وإنما على قدر المطلوب. الثاني: احترازاً أن يستشار في أمر الزواج مثلاً فيذكر العيوب المخلة بمصلحة الزواج، والعيوب المخلة بالشركة أو المساقاة، أو يستشار في السفر معه فيذكر العيوب المخلة بمصلحة السفر والعيوب المخلة بالزواج، كما يقال: ما صدق أن يفتح له الباب، فذكر كل ما يعرف، بل كل ما يسمع، فالزيادة على العيوب المخلة بما استشرت فيه حرام، بل تقتصر على عيب ما أراده منك السائل، فمثلاً يقول: إن كفى منك قولك لا يصلح لك، لم تزد عليه، إن كان الرجل أصلاً ما جاءك يستشيرك إلا وهو واثق بك، وقابل لحكمك، فإن كان يكفيه ويغنيه أن تقول: والله هذا لا يصلح لك، فليس لك أن تزيد على ذلك، فتقول: لا يصلح لك؛ ولأنه وتفتح قائمة طويلة لها لا منتهى لها! كلا، قال: إن كان يكفي قولك: لا يصلح لك، لم تزد عليه، وإن توقف على ذكر عيب وبيانه ذكرته ولا تجوز الزيادة عليه، أو على ذكر عيبين مثلاً اقتصرت عليهما، بمعنى: أنه لو كفى ذكر عيب واحد كان ذكر الثاني حراماً، فهذه من وجوه التفريق الدقيقة حتى لا يقع الإنسان غير المتنبه في المحظور. ومثل ذلك ما يقع أحياناً من كلام الناس فيما يقولون مثلاً: فلان الله يصلحه، أو دعونا منه، أو إنه عجيب، فيظن أنه لم يغتابه بشيء من ذلك! وما يظن أن ذلك من أقبح الغيبة. كذلك يذكر الزبيدي في مسألة جواز الغيبة أموراً أخرى أضافها على تلك الشروط السابقة: أن يكون ذلك مشروطاً بقصد الاحتساب وإرادة النصيحة، أي: تكون نيته الباطنة أنه يحتسب ذلك، ليس تحقيقاً لغرض آخر، وأن يخلص النصح لله سبحانه وتعالى؛ دفعاً للاغترار به، فمن ذكر أحد من تجوز غيبته في بعض الحالات تشفياً لغيظه أو انتقاماً لنفسه ونحو ذلك من الحظوظ النفسانية فهو آثم، ثم ذكر قصة عن ابن السبكي وعن والده، وهي قصة قد يراها بعض الناس مبالغة، وهي تبين أنه إذا ذكرت الجرح وفي نفسك شيء من الازدراء والاحتقار لهذا المخطئ، فقد وقعت في شيء من الحرام، يقول: صرح بذلك تاج الدين ابن السبكي عن والده، يقول: كنت جالساً في دهليز دارنا، فأقبل كلب فقلت: اخسأ كلب بن كلب، وهو صحيح، فزجرني الوالد من داخل البيت، يعني: نهاه، والسبكي ووالده من الأئمة والعلماء، فقلت: أليس هو كلب وابن كلب؟ قال: شرط الجواز عدم قصد التحقير، فقلت: هذه فائدة، فهذا الإمام ينبه ولده في حق الحيوان الذي لا عقل له: ألا يخالط قصده شيئاً من الاحتقار؛ لأنه من خلق الله، أو لأن فيه جزءاً من نفع أحياناً، ونريد بضرب هذا المثال أن يطبق هذا في الناس، ونريد أن نبين دقة السابقين في محاسبة أنفسهم، وتورعهم واحتياطهم.

ضوابط الجرح والتعديل

ضوابط الجرح والتعديل يقول القرافي أيضاً في التفريق بين الأمور المباحة والمحرمة في كتاب الفروق، وهو كتاب محتو على مباحث نفيسة: الأمر الأول: التجريح والتعديل في الشهود عند الحاكم إنما يجوز عند توقع الحكم بقول مجرح ولو في مستقبل الزمان، أما عند غير الحاكم فيحرم؛ لعدم الحاجة إلى ذلك، يعني: إذا جئت للحاكم أو القاضي لتشهد لأن شهادتك لها أثر في الحكم، فلك أن تشهد، وأما إن لم يكن لها أثر فلا، فإذا لم يكن ثمة قضية ولا حكم فليس من داع لأن تذكر هذا الأمر، قال: وكذلك رواة الحديث يجوز وضع الكتب في جرح المجروح منهم، والإخبار بذلك لطلبة العلم الحاملين لذلك لمن ينتفع به، وهذا الباب أوسع من أمر الشهود؛ لأنه لا يختص بالحكم أو بالحكام، بل يجوز وضع ذلك لمن يضبطه وينقله، يعني: هذه قضية عامة، فيها مصلحة دينية، فتذكر العيوب والجرح؛ لما يترتب عليه من النفع، قال: يجوز وضع ذلك لمن يضبطه وينقله وإن لم تعلم عين الناقل؛ لأنه يجري مجرى ضبط السنة والأحاديث، وطالب ذلك غير متعين، يعني: لا نعلم من الذي يحتاجه، فتبينها لكل أحد يأتي ليأخذ الحديث، فينتفع بها ليعلم الصحيح من الضعيف، ويشترط في هذين القسمين أيضاً: أن تكون النية خالصة لله سبحانه وتعالى في نصيحة المسلمين عند حكامهم في ضبط شرائطهم، أما إذا كانت لعداوة، أو تفكه بالأعراض، أو جريان مع الهوى فذلك حرام، وإن حصلت به المصالح عند الحكام والرواة، يعني: قد تحصل به المصلحة، لكن هو في ذاته قد يأثم إن لم يكن في نفسه هذا الأمر؛ لأنه قال: فإن المعصية قد تجر للمصلحة، وضرب مثالاً قال: كما يقتل الرجل كافراً ويظنه مسلماً، فإنه عاص بظنه؛ لأنه قصد قتل المسلم في نيته، وإن حصلت المصلحة بقتل الكافر، فالمعول عليه عند الله هو ما يستقر في النية، فأنت قد تجرح المجروح بشيء ينتفع به الآخرون، ولكنك إن لم تكن جرحته لذات الله سبحانه وتعالى، وللنصح الخالص دون هوى فإنه يقع عليك الإثم. الأمر الثاني: قال: اشترط أن يكون هذا في الاقتصار على القوادح المخلة بالشهادة أو الرواية، إن كنت في أمر الشهادة فتذكر ما يقدح في شهادة الشاهد، وإن كنت في أمر الرواية فتذكر ما يقدح في روايته، أما ما وراء ذلك من أمور خاصة أو من أمور لا تعلق لها بهذا فلا يجوز، فلا يقول مثلاً: هو ابن زنا، ولا أبوه زان، ولا غير ذلك من الأمور التي لا تتعلق بالشهادة ولا بالرواية. إذاً: لاحظ هذه الملامح الأولية لمسألة الجرح أو التقويم أو الكلام عن الناس، فهي مسألة دقيقة، وهي -كما قال القرافي:- كأكل الميتة، الميتة لا تؤكل إلا عند الاضطرار، وكذلك لا يخاض في هذا الأمر إلا عند الاضطرار، عند شدة الاحتياج وترتب المنفعة، الميتة إذا اضطر إليها إنسان هل يصنع منها وليمة يأكل منها ويطعم؟! لا، وإنما يأكل منها بقدر ما يرد به عن نفسه الهلكة، فإن غلب على ظنه أنه بما أكل منها قد اندفع الضرر عنه لا يحل له أن يزيد على ذلك، فهي مقدرة بقدر محدد، فكذلك هذه الحاجة والمصلحة إن وجدت فإنما يؤخذ منها بالقدر الذي يحقق المصلحة ولا زيادة، كما هو في شأن الميتة، ولذلك يقول الإسنوي: يعتبر الجرح أمراً صعباً، فإن فيه حقاً الله مع حق الآدمي، أنت تريد الإخلاص لله، والنصح لله، وكذلك هناك حق لهذا الإنسان، فإذا أخطأت في حق الله سبحانه وتعالى عنك يعفى، ولكن حق الآخرين إذا تشبثوا به فلا بد أن يؤخذ منك، قال: وربما يورث مع قطع النظر عن الضرر في الآخرة ضرراً في الدنيا، من المنافرة والمقت بين الناس، وإنما جوز للضرورة الشرعية، وحكموا بأنه لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة، ولا الاكتفاء بذكر الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل كلاهما، يعني: ينبغي ألا يقتصر على ذكر المعايب أو المثالب أو وجوه الجرح، ويترك جانب التعديل وذكر المناقب والفضائل، بل إن كان قاصداً للنصح فليذكر كلا الأمرين، فإن كان من أهل العلم فله أن يجرح، وقد يخالفه غيره، وإن لم يكن كذلك فليبسط المسألة ليكون للناظر موضع تأمل وفرصة للتقويم والميزان، فلا يقع في ذكره جزء من الجزأين دون الآخر، حتى لا يزكي من لا تكون له تزكية أو يخطئ من لا تكون له تخطئة. العلماء أصلاً ما لجئوا إلى هذه المسألة إلا عن حاجة وضرورة ملحة، فما هو السبب الذي حملهم على أن يكتبوا في الجرح والتعديل، وأن يصنفوا في المآخذ على الناس؟ قال: وإنما ألزموا -العلماء- أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث، وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا؛ لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل وتحريم، أو أمر ونهي، وترغيب وترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته؛ كان آثماً بفعله، غاشاً لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع، أي: أنهم اضطروا لذلك لأن هذه المسائل يترتب عليها دين وحل وحرمة، ولكن وضعوا في ذلك القواعد مثل: لا جرح فوق الحاجة، ولا بد أن يكون الجرح بدافع ملح، وحاجة ماسة. الأمر الثالث: لا جرح إلا لمن يحتاج إلى جرحه لترتب أمر على جرحه، فلذلك قالوا: لا جرح إلا للرواة وأما غيرهم فلا، ولذلك ابن دقيق العيد تعقيب على ابن السمعاني في ذكره بعض الشعراء وقدحه فيهم فقال: إذا لم يضطر إلى القدح فيه للرواية لم يزده، لماذا تقدح فيه؟ هل هو صاحب رواية؟ هل هو ممن نقل الأحاديث فنحتاج إلى أن نعرف حاله؟ لا، فإذاً: لا نجرحه بذكر حاله ما لم يترتب عليه أمر يحتاج جرحه وقال الذهبي في الميزان ناقداً ابن الجوزي: قد أورده أيضاً العلامة ابن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال من وثقه، وهذا من عيوب كتابه، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق! الأمر الرابع: لا بد أن يذكر الجرح والتوثيق، قال الذهبي في ترجمة ابن المبارك: من غلبت حسناته فينبغي ألا تذكر سيئاته، ومن غلبت سيئاته فينبغي ألا تذكر حسناته، وكلا الأمرين لحكمة بالغة؛ لأن من غلبت حسناته إذا سلط الضوء على سيئاته ربما كان ذلك صارفاً للناس عن الانتفاع بتلك الحسنات، ومن لم يكن له حسنات ولا فضائل وإنما غلب عليه الفساد أو الخلل وله النادرة من الحسنات، والقليل من الأقوال الصائبات، فإذا أشيعت وأعلنت وشهرت فإنها ربما تكون مزكية له عند من لا يعلم حاله، ثم يتبعه ويقتدي به وهو على خلل أو خطأ كبير فهذه من القواعد المهمات. الأمر الخامس: أنه لا يصح الخروج والانتقال عن دائرة الجرح، بمعنى نحن في قضية معينة فلا نخرج إلى غيرها، فلذلك قال صاحب الرفع والتكميل: من عاداتهم السيئة أنهم كلما ألفوا سفراً في تراجم الفضلاء ملئوه بما يستنكف عنه النبلاء، فذكروا فيه المعايب والمثالب كما في ترجمة من هو عندهم من المجروحين المقبوحين، وإن كان جامعاً للمفاخر والمناقب، وهذا من أعظم المسائل، تفسد به ظنون العوام، وتسري به الأوهام في الأعلام. الأمر السادس: أنه ينبغي أن يكون الجرح في موطن الخصومة فقط ولا نزيد عليه، ولذلك ذكر بعضهم عادات بعض المخطئين فقال: من عاداتهم الخبيثة أنهم كلما ناظروا أحداً من الأفاضل في مسألة من المسائل توجهوا إلى جرحه بأفعاله الذاتية، نحن في مسألة علمية فما لنا ولذكر عقله أو تعامله مع أبنائه أو بيعه وشرائه؟! قال: وبحثوا عن أعمال عرضية، وخلطوا ألف كذبات بصدق واحد، وفتحوا لسان الطعن عليه بحيث يتعجب منه كل شخص، وغرضهم منه إسكات مخاصمهم بالسب والشتم، والنجاة من تعقل مقابلهم بالتعدي والظلم، بجعل المناظرة مشاتمة، والمباحثة مخاصمة، وهذا من أقبح العادات التي ينبغي التنبه عليها عند التعرض لمسألة التقويم، أو ذكر المحاسن والمثالب، فربما نجد أن بعض المتأخرين في مسألة علمية يطعن في ذات الشخص الذي خالفه أو في هيئته أو كذا ولو كان مصيباً فيه فهذا مما ينبغي ألا يخوض فيه؛ لأنه يتحدث عن مسألة فيها نصح للمسلمين.

من الذي يقبل جرحه وتعديله

من الذي يقبل جرحه وتعديله من القواعد الخطيرة: من الذي نقبل جرحه وتعديله، ونقبل تقويمه وتصويبه، ونعتمد على توثيقه وتوهينه؟ هذه المسألة مما كثر الخلط فيها، وكلما نجم ناجم أو تحدث متحدث بجرح تلقفته الألسن دون معرفة بناقله أو بقائله، حتى نعرف من الذي يتأهل لأن يكون متكلماً في التقويم، وفي ذكر الأخطاء والإصابات، لذلك شرطوا في الجارح والمعدل شروطاً، ليس كل أحد له أن يخوض في هذا الجانب، ومعظم هذه الشروط من الشروط النفيسة الدقيقة الغالية التي لا تتوافر لكل أحد، قالوا: يشترط في الجارح والمعدل العلم والتقوى والورع، والصدق والتجنب عن التعصب، ومعرفة أسباب الجرح والتزكية. إذاً: أولاً: العلم والتقوى والورع. الثاني: الصدق والتجنب عن التعصب، حتى لا يخالط هذا المقصد الأول. الثالث: معرفة أسباب الجرح والتزكية؛ لأنه إذا لم يعرف السبب الجارح فربما يجرح بما ليس بجارح كما سيأتي التمثيل له، ربما تجد إنساناً تسأله عن إنسان فيقول لك: لا يصلح بحال من الأحوال، لماذا؟ فتجده يذكر لك عيباً ليس من الكبائر، بل حتى لا يعد من الصغائر، بل ربما حتى يخرج عن دائرة السنن، وإنما هو من المتعارفات عند بعض الناس أو عند بعض أهل الخير من الناس، وهذا من أخطر المزالق، قالوا: ومن ليس كذلك لا يقبل منه الجرح والتزكية، يعني: لا يعتمد عليه؛ لذلك قال السبكي: من لا يكون عالماً بأسبابهما -يعني: أسباب الجرح والتعديل- لا يقبلان منه لا بإطلاق ولا بتقييد. يعني: سواء قال: فلان لا يصلح، أو قال: لا يصلح لأنه كذا وكذا لا يقبل منه؛ لأنه ليس بعالم بالسبب الذي به يجرح أو يخطأ الإنسان. وقال بدر الدين بن جماعة: من لا يكون عالماً بالأسباب لا يقبل منه جرح ولا تعديل لا بإطلاق ولا بتقييد. وقال ابن حجر رحمة الله عليه: إن صدر الجرح من غير عارف بأسبابه لم يعتبر به. يعني: كأنه لم يتكلم، وقال: تقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف، وينبغي ألا يقبل الجرح إلا من عدل متيقن، ولذلك ذكروا بعض التقويمات أو بعض الأمثلة، يقول الذهبي أيضاً مؤكداً على هذا الباب في تذكرة الحفاظ: حق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف -أي: الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم- جهبذاً إلا بإدمان -وهذه عبارة جميلة جداً- الطلب، والفحص عن هذا الشأن -يعني: حتى يكون صاحب خبرة بمواطن الخطأ، وكيف يقوم- وكثرة المذاكرة والسهر، والتيقظ والفهم، مع التقوى والدين المتين والإنصاف، والتردد إلى العلماء، والإتقان، وإلا فلا تفعل -يعني: إذا ما أخذت بهذه الأسباب- فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد ثم يكمل مؤكداً فيقول: فإن آنست من نفسك فهماً وصدقاً، وديناً وورعاً وإلا فلا تفعل، وإن غلب -انظر التتمة وهي أهم- عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تفعل، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك. هذا كلام الذهبي في تذكرة الحفاظ، وهو كلام مهم ينبغي أن يتوقف عنده المقدم أو الداخل إلى هذا الأمر والمتكلم فيه.

متى يقبل الجرح والتعديل

متى يقبل الجرح والتعديل متى يقبل الجرح والتعديل؟ قد تتفق الشروط، وقد يكون المتكلم وهو من أصحاب الجرح والتعديل، فهل يقبل من كل أحد كل قول بلا استثناء أم أن هناك ضوابط لهذا الأمر؟ ومن دقة العلماء وحرصهم على تمييز الخطأ من الصواب حتى يدخل الحلال في الحرام وضعوا لذلك ضوابط فقالوا: يقبل التعديل من غير ذكر السبب، أما الجرح فلا يقبل إلا مفسراً، عندما تقول: فلان لا يصلح، لماذا لا تبين لنا؟ إن لم يكن هذا الجارح من الأئمة المعروفين بتقواهم وورعهم، وعلم الناس دقتهم في معرفة أسباب الجرح والتعديل، فلا يقبل هذا الجرح على الإبهام، فكونك تقول: فلان لا يصلح أو ليس فيه خير، أو في دينه شيء، ثم لا تبين لنا ما نستطيع به أن نصحح قولك أو نخطئك في قولك؛ لا يقبل منك، لماذا؟ قالوا: لأن الجرح يحصل بأمر واحد فلا يشق ذكره، لو كنت صاحب حق فبين علة هذا الجرح بكلمة ليست طويلة، أما التعديل فيقبل بدون ذكر سبب؛ لأنك إذا أردت أن تزكي إنساناً فتقول: يصلي الصبح ويصلي العصر ويتصدق، وتعدد كثيراً من المناقب، فهذا يشق، والجرح يكفي فيه أسباب معدودة، فلذا يلزم عندهم التفصيل والبيان، وقد ذكروا أمثلة لبعض الأمور التي تبين لنا أنه قد يجرح بما ليس فيه جرح، فمنها: أنه قيل لـ شعبة وهو أمير المؤمنين في الحديث، ومن أوائل من تكلموا في الجرح والتعديل: لم تركت حديث فلان؟ يستفسر منه سبب تركه لحديث راو، هذا القول! قال: رأيته يركض على برذون فتركته! فجعل هذا سبباً لأن يتركه، رآه يركض على البرذون يعني: أتى بأمر قد يعد من خوارم المروءة، ومما لا يليق؛ فتركته، قال الذهبي: ومن المعلوم أن هذا ليس بجرح موجب لتركه. ومن الأمثلة أيضاً: أن شعبة أتى المنهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور في بيته، وهذا مثال قد يتكرر عندنا؛ فتركه، فلم يقبل منه العلماء جرحه، وقالوا: قد يكون عمل بغير إذنه وهو ليس موجوداً، وهو مباشرة جعل هذه القضية من باب التورع، نعم تورع لنفسك، لكن هل يعد ذلك جرحاً مؤثراً؟ A لا. ومنها أنه سئل الحكم بن عتيبة: لم لم ترو عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام، فهذا كان عنده من أسباب الجرح. ومنها أيضاً: أن جريراً رأى سماك بن حرب يبول قائماً فتركه، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى سباطة قوم فبال قائماً، وقد ذكر بعض العلماء أنه لعلة أو لعذر، والشاهد أنه أدخل هذا في أسباب الجرح، والتنبيه على مثل هذا كثير، قال الملا علي القاري: التجريح لا يقبل ما لم يبين وجهه، وقال ابن دقيق العيد بعد أن يوثق الراوي من جهة المزكين ثم يجرح جرحاً مبهماً غير مفسر، فمقتضى قواعد الأصول عند أهله أنه لا يقبل الجرح إلا مفسراً، ولكن نص علماء الحديث على أن الأئمة المنتصبين لهذا الشأن من المتقدمين -أي: إلى رأس المائة الثالثة- ينبغي أن يؤخذ كلامهم مسلماً؛ لأننا عرفنا علمهم واضطلاعهم واطلاعهم، واتصافهم بالإنصاف والديانة، مع الخبرة والنصح، وخاصة إذا توافقت آراؤهم في رجل، فلا شك أنا لا نحتاج إلى معرفة السبب، وبهذا قال كثير من الأئمة والعلماء.

من ثبتت إمامته لا يضر جرحه

من ثبتت إمامته لا يضر جرحه من القواعد المهمة في الجرح والتعديل قاعدة ذكرها السبكي وقال عنها: إنها ضرورية ونافعة، قال: إنك إذا رأيت الجرح والتعديل، وكنت غير عالم بالأمور؛ فلا تحسب أن العمل على جرح هذا الرجل، فإياك وإياك! وذكر القاعدة المهمة، فقال: بل الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره؛ فإنا لا نلتفت إلى جرحه فيه، ونعمل فيه بالعدالة، ولو فتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون. وبذلك ينحسم كثير من الفساد بهذه القاعدة، وهي: أنه إذا كثر المزكون فينبغي أن نكون على حذر من الجرح الوارد، فإذا انضم إليه نوع شبهة من خلاف أو تعصب أو غير ذلك غلبنا جانب التزكية المتكاثرة، وأسقطنا جانب هذا الجرح اليسير. يقول أبو عمر بن عبد البر: الصحيح في هذا الباب أن من ثبتت عدالته، وصحت في العلم إمامته، وبانت ثقته، وبالعلم عنايته، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، وأيضاً يقول السيوطي: أن الذهبي لم يذكر أحداً من الصحابة ولا الأئمة المتبوعين في كتابه ميزان الاعتدال، وهذا قد صرح به الذهبي فقال: وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحداً؛ لجلالتهم في الإسلام، وعظمتهم في النفوس، مثل أبي حنيفة والشافعي والبخاري، فإن ذكرت أحداً منهم فأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس؛ أي: لأن عنده من الخيرات الشيء الكثير، ومثل هذا الأمر يكثر الحديث فيه كما سيأتي في سرد الأمثلة في آخر حديثنا إن شاء الله سبحانه وتعالى.

مسألة توجيه الجرح إلى الراوي

مسألة توجيه الجرح إلى الراوي من القواعد مسألة توجيه الجرح، وهذه مسألة نبه عليها ابن الوزير الصنعاني، وهي من القضايا المهمة قال: واعلم أن التعارض بين التعديل والتجريح إنما يكون عند الوقوع في حقيقة التعارض، أما إذا كان ليس هناك تعارض لو تمعنت فليس هناك إشكال، مثال ذلك: أن يجرح إنسان بفسق قد علم وقوعه منه، ولكن علمت توبته أيضاً، فحينئذ هذا الجرح لا قيمة له، لأنا علمنا أنه قد زال وقد رفع بتوبته وباستقامته على غيره، أو كان يقول بقول أو فتيا ثم رجع عنها، فلا تسارع بتلقف قوله دون أن تعرف ما استقر عليه حاله يوم أن تغير قوله؛ فلذلك ينبغي حين يتعارض الجرح والتعديل أن نعرف وجه الجرح ووجه التعديل، فربما يكون ذاك في أول الأمر وهذا في آخره، وذلك في قول، وذاك في قول آخر؛ فحينئذ ينحسم التعارض. قاعدة أخرى: إذا كان هناك نوع مخالفة فينبغي التروي والتحرز من قبول الجرح، فلذلك قال العلماء: إذا علم بالقرائن المقالية أو الحالية أن الجارح طعن على أحد بسبب تعصب منه عليه، فلا يقبل منه ذلك الجرح، وإن علم أنه ذو تعصب على جمع من الأكابر -يعني: على كثير من العلماء والأئمة- ارتفع الأمان من جرحه، وعد من أصحاب القرح، يعني: لا يصبح من أصحاب الجرح، ولكنه من أصحاب القرح، وهذا مما ينبغي التنبه إليه عند مسائل النقد أو التقويم.

اختلاف العقائد بالنسبة إلى الجارح والمجروح

اختلاف العقائد بالنسبة إلى الجارح والمجروح مما يؤثر في الجرح اختلاف العقائد، قال بعض العلماء: ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما يخالف الجارح المجروح في الاعتقاد، وبسببها قد يظنه على زيغ كبير، والمسألة قد تكون فيها مندوحة أو مما يجوز فيه الاجتهاد، كما نعلم أن الاجتهاد موجود في نوعي المسائل العلمية والعملية، يعني في بعض مسائل الاعتقاد وفي بعض مسائل العمل، والذي يكون فيه الإجماع ويكون فيه التبين والمفاصلة -كما قال ابن تيمية - المسائل التي هي معلومة من الدين بالضرورة، ويندرج فيها بعض المسائل العلمية، وبعض المسائل العملية، والمسائل الأخرى يسوغ فيها الاجتهاد، وقد يقع فيها الاختلاف، وهي من دقائق الأمور، ويدخل فيها النوعان، فإذا كان هناك اختلاف بين الجارح والمجروح في هذا فينبغي التنبه والتيقظ، ولا يقبل جرح هذا مباشرة، ومن أمثلة ذلك قول بعضهم في الإمام البخاري إمام المحدثين: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ، فقد نسبوا إليه هذا الأمر، وإذا كان البخاري نسب إليه أنه قال في مسألة قريبة من خلق القرآن وهي مسألة اللفظ، فيا لله وللمسلمين! أيجوز لأحد أن يقول: البخاري متروك وهو حامل لواء الصنعة، ومقدم أهل السنة والجماعة؟! ثم يا لله وللمسلمين أتجعل ممادحه مذام؟! فإن الحق في هذه المسألة معه، وهذا قد يقع في كثير من المسائل، وقد مثل له الأئمة كثيراً، ونحن نعلم أن البخاري وكثيراً من الأئمة أوردوا ووثقوا بعض أهل البدع من المعتزلة أو الشيعة أو الجهمية أو القدرية، وأخرجوا لهم أحاديث في كتبهم، وزكوهم من جانب الأخذ بالرواية، والصدق مع الصيانة والديانة، ولكن مع ذلك كانوا قد وقعوا في خطأ في العقيدة، لكن هو يظن نفسه على صواب، وهو من جانب الاحتياط في الرواية قد استوفى الشروط، فلذلك كانت رواية المبتدع لا ترد إلا إن كان داعية إلى بدعته، أو كان ما يرويه مما يشهد لبدعته؛ فحينئذ يكون مظنة الكذب أو مظنة تغيير الحقيقة عن وجهها.

معرفة مدلولات ألفاظ الجرح

معرفة مدلولات ألفاظ الجرح من أهم المسائل في قضية الجرح والتعديل: مسألة المعرفة بمدلولات الألفاظ، وهي مشكلة خطيرة، تجد الإنسان يقول كلمة: فلان فيه كذا، وهو لا يعلم ما مضمونها، وعندما تحللها وتبين له أن هذه الكلمة قد تدل على كفر أو نحوه يقول: لا، أنا لم أقصد بها هذا، ما دمت لا تقصد بها هذا، فاعلم كلامك واعلم مدلولاته، ولا تلقي الكلام على عواهله، ولذلك تجد من السابقين والمتقدمين من الأئمة والأجلاء من قد يكون في ترجمته، بأنه كان من المرجئة، أو بأنه كان يتشيع، فليست هذه الكلمة على إطلاقها لها دلالة واحدة، فينبغي أن يعرف المدلول الذي تنتظمه هذه الكلمة، فإنه قد أطلق نوع من الإرجاء سمي إرجاء أهل السنة، وليس هو الذي فيه المذمة والمغبة، لأنه كان فقط مصادمة للخوارج، كان إرجاؤهم المقصود به إرجاء أهل الكبائر إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم الحكم بتكفيرهم، فليس في وصف هذا بكونه مرجئاً شيئاً من ذلك. وكذلك كان يوصف الأئمة من السلف من أهل الكوفة بشيء من التشيع، وليس مقصودهم به التشيع الغالي، وإنما كون بعضهم كان يقدم علياً على عثمان، وهو من أقوال بعض أهل السنة، فينبغي أن يعرف الموطن أو الكلمة وما مدلولها، ومثل ذلك أيضاً كلمة الصوفية، فإنها قد تشمل الحلول والاتحاد وهو من أعظم الكفر، بل هو أكفر من كفر النصارى كما ذكره ابن أبي العز، وقد يكون مقصود المتكلم بها أحياناً مزيد الحرص على العبادة، ومزيد الزهد في الدنيا، ومزيد المواظبة على الأذكار مما قد لا يكون فيه بأس أبداً، أو يكون الغلط فيه يسير لا يقارن بما يكون مخرجاً عن الملة أو موجباً لكفر أو مقرباً إلى خطر عظيم، فينبغي التنبه لهذه المسألة، وهي من المسائل المهمة.

كلام الأقران يطوى ولا يروى

كلام الأقران يطوى ولا يروى مسألة مهمة يؤكد عليها العلماء، يجب أن نقف عندها، وهي: كلام الأقران بعضهم في بعض، وكلمة الأقران: تعني: الأضداد المتساويين المتعاصرين، ومعلوم أن هذه القضية فطرية وبشرية، فالناس لا يخلون من اختلاف، حتى ولو كانوا من العلماء فقد يقع بينهم الاختلاف، وقد يكون الخلاف موجباً لنوع من الجرح الذي فيه نوع من القدح البالغ، ولذلك قال العلماء: كلام الأقران بعضهم في بعض لا أثر له، فاطرحه ولا تلتفت إليه، إلا إن كان ببيان، وتحقيق بقدر معين، وإلا فالغالب في كلام الأقران أنه لا أثر له سيما إذا عورض بجرح وتعديل آخر. مثال ذلك: قال الإمام مالك رحمة الله عليه عن محمد بن إسحاق: دجال من الدجاجلة، وهو من أهل العلم الصالحين، وأخطأ مالك في جرحه، قال الذهبي وغيره: فلا تلتفت إلى ذلك، فإذا كان لم يلتفت إلى كلام مالك في جرحه هذا مع ما هو عليه من غزارة علم وجلالة قدر، وقدرة استنباط، ومزيد ورع، فغيرهم من المعاصرين من باب أولى، فإن كلام الأقران والمتعاصرين في بعضهم لا يقبل، وذلك كثير جداً، كما كان بين السيوطي والسخاوي وكما كان بين ابن مندة وأبي نعيم حتى أجلة العلماء يحصل بينهم شيء من ذلك فما ينبغي التنبه له، حتى لا يقع الإنسان في الخطأ، وهذه مسألة مهمة، قال الذهبي في ترجمة عفان الصفار في ميزان الاعتدال: كلام النظراء والأقران ينبغي أن يتأمل فيه، ويتأنى فيه، وقال أيضاً في ترجمة ابن ذكوان: قال ربيعة فيه: ليس بثقة ولا رضا، مع أنه ثقة!

يحكم على الإنسان بالأمر المعتاد لا بما طرأ عليه

يحكم على الإنسان بالأمر المعتاد لا بما طرأ عليه قال ابن حجر رحمة الله عليه في حديث: (ما خلأت القصواء وما هو لها بخلق): في هذا الحديث جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، بمعنى: من كان عادته الإحسان فيحكم عليه بالإحسان، وإن طرأ عليه بعض الإساءة، يقول: فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ويعذر من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، فلولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لعذرهم في ظنهم، فوقف ابن حجر مع ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم في قول الصحابة عنها: خلأت القصواء، ليستنبط أن الأمر المعتاد الشائع هو الذي يحكم به، ولا يلتفت إلى الخطأ اليسير، فيجعل هو الحكم المميز، وهذا مما يشهد لما قلنا في هذا الباب. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً نعرج على بعضها سريعاً: ترجم الذهبي لـ قتادة بن دعامة السدوسي فقال عنه: إنه كان يرى القدر، يعني: في بعض المسائل قدري، والقدرية -كما في حديث- مجوس الأمة، ثم قال الذهبي: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه؛ يغفر له زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك. وأيضاً يقول حينما ترجم لـ محمد بن نصر المروزي: ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه؛ لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين. ثم ذكر ترجمة ابن خزيمة، وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، وهو صاحب كتاب التوحيد الذي قرر به أكثر مسائل الصفات على مذهب أهل السنة والجماعة، ومع ذلك تأول قال الذهبي: وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة: (يخلق الله آدم على صورته) ثم قال بعد ذلك تعقيباً على هذا: فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه وبدعناه؛ لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه. فهذه مسألة قد يكون الخطأ فيها ظاهراً، وقد يعتبرها الإنسان كبيرةً، لكنه قالها مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق، فيعذر، وأمثلة هذا الجانب بالذات على وجه الخصوص كثيرة، فإنه قد وقع من بعض أئمة العلماء من أهل السنة والجماعة تأويل في بعض المسائل، ويمكن أن ينظر ذلك في كتاب: المفسرون وموقفهم من التأويل والإثبات في آيات الصفات، فإن فيه أمثلة مطردة وواضحة في هذا الباب. أبو حامد الغزالي رحمه الله ترجم له الذهبي، فذكر بعض إنصافه، بعد أن ذكر أخطاءه ومناقضته له ومخالفته له قال: قلت: الغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ، وقال أيضاً: قلت: ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضاً، ويرد بعضهم على بعض، ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل. وقال أيضاً: فرحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله، ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليده في الأصول، نعم؛ نخطئه فيما أخطأ، ولكن لا ننكر فضله، ولا نغير القول فيه. وقد قال ابن تيمية عنه: وهذا الرجل -مع حسن قصده، ووفور ذكائه- لم يكن له حظ من السنن، فوقع في بعض الأخطاء. والسبكي مع كونه من محبيه ومن المنتصرين له عقد في ترجمة الغزالي في طبقات الشافعية فصلاً طويلاً ذكر فيه كل الأحاديث الموضوعة التي في إحياء علوم الدين، مع كونه أثنى عليه، وبين كثيراً من محاسنه.

مسائل وقواعد مهمة في قضية التبديع

مسائل وقواعد مهمة في قضية التبديع لا بد من الإشارة إلى مسألة لها أهمية كبرى، وهي: قضية الدوائر التي تدخل في مسألة الجرح والتعديل، فإن بعضها أهون من بعض، لأن الناقد قد يشمل دائرة غير مقبولة وهي دائرة التفسيق أو ذكره بفسق أو كذا، ولكنها دائرة سهلة بالنسبة لدائرة أخرى أعظم وأخطر: وهي التبديع ورميه بالبدعة، والأخطر والأعظم -وهي على قمة الخطورة- دائرة الرمي بالتكفير والإخراج من الملة، وفي كل هذه المسائل جملة من الأقوال ربما يكون الوقوف عليها مطيلاً للحديث، لكن نكتفي بذكر قضية التبديع؛ لأن قضية التفسيق قد ذكرنا كثيراً مما يتعلق به، وقضية التكفير يبدو أن التعظيم لها في القلوب حاصل، ولكن قضية التبديع يحصل منها تساهل، فنذكر منها أموراً مهمة:

كيفية التعامل مع صاحب البدعة إن حكم ببدعته

كيفية التعامل مع صاحب البدعة إن حكم ببدعته كيف يجب التعامل مع صاحب البدعة إن حكمنا ببدعته؟ كان القاسمي رحمة الله عليه يسميهم المبُدَّعِين، قال: لأنهم قد يرمون بالبدعة وليسوا أهل بدعة، فمن أول هذه الجوانب: لزوم أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، ونصحه لدلالته على الخير، وشاهد ذلك ترجمة موسى بن حزام شيخ البخاري، كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم هداه الله تعالى بـ أحمد بن حنبل، فانتحل السنة وذب عنها، وقمع من خالفه، فكانت صحبة أحمد بن حنبل موجهة له للصواب. الأمر الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا كان هذا مبتدعاً تدعوه إلى السنة، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلى شر منه، فتنهاه عن هذه البدعة، وإن كنت تعلم يقيناً أنه سيقع فيما هو أعظم منه فاتركه، وقد ذكر هذا الكلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم. الأمر الثالث: يجب أن يقر له بالإسلام، وأن ينصر على الكفار، وأن يعان على من يظلمه، وأن يفضل على من هو أكثر منه ضرراً، فإن كان هو صاحب بدعة صغيرة فهو خير من صاحب البدعة الكبيرة، وينبغي التنبه لهذه المسألة، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] قال شيخ الإسلام: فنهى الله أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم، فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع من أهل الإيمان، فهو أولى ألا يحمله ذلك على ألا يعدل فيه وإن كان ظالماً له، وهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا إلى أن قال: والبدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة. والأمثلة على هذا في تراجم العلماء كثيرة جداً، ومن هذه التطبيقات تطبيق للإمام ابن تيمية رحمة الله عليه حينما لم يخض في أعراض وتجريح من كانوا سبباً في إيذائه! وتفضيل المبتدع على من هو أكثر منه ضرراً شاهده قول الله سبحانه وتعالى -وهو استنباط لطيف من الإمام ابن تيمية -: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ من يشاء} [الروم:1 - 5] ففرح المسلمين بانتصار الروم على الفرس -وكلهم كافر- دليل على هذه المسألة، فينبغي التنبه لهذه المسائل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بأيدينا إلى طريق الحق والصواب، وأن يلزمنا الميزان العدل، وأن يجعل في قلوب كل من يتصدى للتصويب والتخطئة الإخلاص لله، والتجرد عن كل ما لا يكون مقبولاً في مثل هذا الأمر من نوع مخالفة أو هوى مما ذكرناه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيما ذكرنا نفعاً وفائدة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وجزاكم الله خير الجزاء.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التوضيح عن بعض الدكاترة في الجامعة

حكم التوضيح عن بعض الدكاترة في الجامعة Q كثيراً ما يدار السؤال بين الطلاب عن الدكاترة، وعن طلب النصح عن كيفية سلوك هذا الدكتور من الناحية العلمية أو شيء من هذا القبيل، فهل الجواب بالحق -وإن كان قدحاً سيئاً- يكون من باب الغيبة المحرمة، مع أن ذلك من باب النصيحة للسائل مع الصدق؟ A سئل بعض المشايخ عن هذه المسألة فقال: لا تخرج هذه المسألة من عموم النهي عن الغيبة، ولكن المسألة قد تكون في أنه يستنصح في مسألة معينة، أي: فيما يتعلق بالتجربة أو الفهم، هل هذا المدرس يحسن الطرح والإلقاء أو لا؟ فلا بأس في هذا، أما أن يخرج إلى شيء آخر، كأن يقول لك: هذا الدكتور دائماً مقطب الجبين، ودائماً هو كثير الصياح، فهذه مسألة أخرى، ولكن إن استشاره في ما قلنا، وكان يحصل الجواب بمجرد أن يقول له: هذا لا يصلح لك، أو لا تسجل عنده، فيكفيه ذلك، وإن كان يبدو لي أنه إن سأل أو لم يسأل فنظام التسجيل يلجئه أن يدرس حتى عند من لا يرغب فيه، والله أعلم.

موقف طلاب العلم من كلام العلماء في بعضهم البعض

موقف طلاب العلم من كلام العلماء في بعضهم البعض Q هناك بعض الشباب صغار السن وقليلي العلم يقومون باتهام بعض الشيوخ والعلماء، أو يقومون بالتشهير بهم أو ببعض مؤلفاتهم، وهناك بعض الكتب تخرج في الرد على بعض العلماء من بعضهم الآخر، فما موقفنا تجاه هذه القضايا؟ A من لا يحسن السباحة لا يذهب إلى الأماكن العميقة، بل يسبح على الساحل، وقد ذكرنا أنه لا يقبل الجرح إلا من عالم به، وعالم بأسبابه، وعالم بمدلولات ألفاظه، مع التيقظ والتنبه، إضافة إلى الورع والتقوى، وحينئذ لا يقبل بحال من الأحوال قول من لا علم له، أو ليس له بصيرة، أو من لا يعرف هذه الأمور، سواء جرح عالماً كبيراً أو صغيراً، بل ينبغي أن ينصح ألا يقع في هذا الأمر، وكما ذكر ابن دقيق العيد حيث قال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، يقف على شفيرها المحدثون والحكام. فإن استسهل ذلك وتجرأ عليه فإنه في خطر عظيم. وأما كلام العلماء فيما بينهم، فكما ذكرنا: إن كان الجرح في العلماء من غير بيان وتفصيل يستطيع الإنسان من خلاله أن يستنبط أن هذا قد أخطأ فعلاً أو جانب الصواب؛ فإنه كما قيل في كلام الأقران: لا يؤخذ قول بعضهم في بعض، وكذلك إن لم يكن المطلع على المسألة ممن يعرف المسائل، وممن يعرف دلالات الألفاظ، فإنه لا يفهم أيهما أحق، وأيهما ينتصر له، فلذلك ليس له أن يعلو إلى فوق مقامه، فهو لا يريد الآن فقط أن يرتقي إلى مقام هذا العالم وهذا العالم، بل يريد أن يرتقي إلى منزلة أعلى منهما لينظر من علم، فيرجح بين هذا وهذا، فإن لم يكن بالغاً منزلة واحد منهما فكيف له أن يحكم بينهما؟! فلا شك أن كلام العلماء فيما بينهم ينبغي أن يتورع الإنسان عن الخوض فيه، إلا إن كان قد تمكن من العلم أو استقصى في المسألة، أو ركن إلى من يثق بعلمه وتقواه ممن قد يرجح له الصواب على الخطأ، مع اعتقاد أن وقوع الخطأ ممن أخطأ لا يعني إهداره بالجملة، ولا يعني القدح فيه؛ لأن موارد الاجتهاد كثيرة، ولأن العصمة ليست لأحد، ولأن الخطأ وارد ومطرد على الناس. وهذه الخلافات فيها نوع من الآفات التي تشوش ذهن الشباب أو من ليس له حظ من العلم، فينبغي أن يعرف الأصول التي يحتاج إليها، ومما يذكر في هذا المقام قصة المزني مع شيخه الشافعي، لما سأله فقال: مسألة حاكت في نفسي من أمر التوحيد قلت لا يجيبني عنها إلا أنت، وجاءه وهو في المسجد في مصر، فسأله عن هذه المسألة، وهي مسألة غريبة، فقال: هل تعلم نجماً في السماء متى يطلع؟ ومتى يبزغ؟ قال: لا، قال: هل تعرف متى النجوم كذا؟ قال: لا، فسأله مسائل وهو يقول في كل منها: لا، ثم قال: فهذه مخلوقات الله تعلمها ولا تعرف كيفية بزوغها وأفولها، فكيف تسأل عن فعل الله سبحانه وتعالى؟! ثم سأله بعد ذلك وهو شاهد الحال عن مسألة في الوضوء، فلم يحسن الجواب فيها، قال: ففرعها لي على أربعة أوجه فما أصبت فيها، فقال: مسألة تحتاج إليها في كل يوم خمس مرات لا تعلمها، وتتكلف علم ما ليس لك به علم! فهذه الخلافات ينبغي ألا تشوش على المبتدئ، وينبغي أن يأخذ الأصول، وأن يعرف ما قد يكون جاهلاً به من أركان صلاته أو أركان وضوئه أو ما يتعلق به، وهذا أمر مهم. الأمر الثاني: ألا يؤدي ذلك إلى فرقة، وإلى تنازع بين الأمة، وتشتيت لجهودها. الأمر الثالث: ألا يصرف هذه الملاحظات، وهذا النقد عن توجيه سهام النقد، وبيان الزيف والخطأ فيما هو خارج عن دائرة كلام العلماء، بمعنى: أن يصب في دائرة كلام الأعداء الذين يثيرون على الإسلام الشبهات التي يلقونها، والرد على من نعلم جميعاً أنه لا يقصد خيراً، وأنه صاحب هوى، وله غرض سيء، فينبغي ألا يشغل مثل هذا عما هو أهم وأعظم من ذلك الأمر. قال العلماء: الإنسان ينبغي دائماً أن يكون مخلصاً لله، فحينئذ يبصر بإذن الله سبحانه وتعالى مواطن الصواب في مثل هذه الأمور، وهذه المسائل قد عمت بها البلوى إلى حد كبير، لكن من رجع إلى كلام السابقين، وإلى تصرفاتهم، وإلى جرحهم وتعديلهم، وإلى مواقفهم عند الاختلاف ربما لاح له كثير من النور والضياء، والمواقف التي يستطيع -إذا استمسك بها واسترشد بها ورجع إليها- أن يكون إن شاء الله على الحق، ولا يخوض في مثل هذه الأمور بما يشغله عما هو أعم له وأنفع له، والله أعلم.

كيفية التعامل مع الكفار والمبتدعة في المعاملات الدنيوية

كيفية التعامل مع الكفار والمبتدعة في المعاملات الدنيوية Q أضطر في بعض الأوقات أن أتعامل في عملي مع من هم مخالفون لي في عقيدتي أو من أهل الكتاب من النصارى، فكيف أعاملهم؟ A على ما ذكرناه عن ابن تيمية في استنباطه من قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فلا بد من إعطاء الحق الذي للإنسان، وإعطائه الأمر الذي له دون أن يكون نوع الخلاف داعياً إلى الظلم والاعتساف، وهذا أمر مقرر، فمثلاً أهل الكتاب لهم ذمتهم في دولة الإسلام، ولهم أحكامهم، وأيضاً لهم نوع من المعاملة كما قال الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وفي بعض الأحاديث: (اضطروهم إلى أضيق الطرق) أي: حتى لا يكون مظهراً لعزة، ولا متعالياً في مجتمع المسلمين، حتى قال بعض الفقهاء في الجزية حينما تؤخذ: ينبغي أن تكون يد المسلم من أعلى عندما يأخذ الجزية من الذمي، وتكون يد الكتابي أدنى، حتى يتحقق قوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) فمثل هذا من أحكام الإسلام، لكن لا نتجاوزه إلى غير ذلك، فقد ثبت إحسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليهود الذين عاصروه في المدينة، بل ثبت في الصحيح في قصة الغلام اليهودي الذي حضرته الوفاة، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: (أسلم وقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأبوه عند رأسه فقال له: أطع أبا القاسم) فشهد شهادة الحق فتوفاه الله على الإسلام. وكذلك قصة عمر رضي الله عنه مع اليهودي حينما رآه وهو كبير في السن يطلب الناس فقال: أخذنا منه جزيته في شبابه، وما أنصفناه في شيبته، فأمر له بعطاء من بيت المال. ومعلوم في شرع الله سبحانه وتعالى أن من مصارف الزكاة المؤلفة قلوبهم، ومن أصنافهم قوم غير مسلمين يرجى تألف قلوبهم وتحبيبهم في الإسلام، وتعرفون قصة صفوان بن أمية رضي الله عنه حينما أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام من غنائم حنين فقال: (كان رسول صلى الله عليه وسلم أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني ويعطيني حتى صار أحب الناس إلي). فينبغي التنبه لهذا، ولا يكون الإنسان فقط مندفعاً بحكم الغيرة أو بحكم الدفاع عن الدين فيتجاوز حدود ما حده له الدين، وعلى هذا فقس: فكل من خالفك في أمر اعتقادي، فإنه ربما يكون معذوراً عند الله سبحانه وتعالى، وأنت لا تعلم نيته، وربما يكون قد استفرغ جهده، فعليك بنصحه وإرشاده، وعليك بإثبات الإسلام له إن لم يكن قد ذكر أو قال القول الذي يكفر به كفراً صريحاً عندك من الله فيه برهان، وعليك أيضاً بتفضيله وتقريبه على من هو أشد منه ضرراً، وعليك أيضاً ألا تؤدي معاملتك له إلى بدعة أعظم، كما قال الإمام ابن تيمية: ترك الصلاة خلف المبتدع إذا كان فيه مصلحة لأن يتغير حاله أو أن الناس سيغيرونه أو كذا فالأولى هجره، قال: وإلا فهجره ورد بدعته بالهجر يكون فيه نوع ابتداع؛ لأنه ما أدى الفائدة التي يريد بها التقويم والإصلاح. كذلك ألا يؤدي هذا التعامل إلى ما هو أعظم من بدعته، وأكثر شراً، وهذه مسائل دقيقة إذا استطاع الإنسان أن يحسن فيها فهو توفيق من الله عظيم، وينبغي أن يراعي إصابة الحق وأن يراقب الله سبحانه وتعالى ما استطاع في مثل هذه الأمور، والعلماء قد غضوا في مسائل الاختلاف في العقائد عن بعض المسائل الكبيرة، قال القاسمي: وقد روى البخاري عن رءوس من المعتزلة والشيعة والقدرية والمرجئة لأنه وثقهم، ولم يكونوا دعاة بدعة، ولم يكونوا يستحلون الكذب، وكان عندهم صيانة وورع، وربما كان لهم في هذا ما يعذرون به عند الله سبحانه وتعالى إن قصدوا الحق، فينبغي التنبه لهذا فإنه أمر عظيم، والله أعلم.

شهر الصلة والإصلاح

شهر الصلة والإصلاح لا غنى للمرء عن ربه عز وجل طرفة عين ولا أقل من ذلك؛ ولهذا يجب على المرء أن يحسن صلته بربه عز وجل وخاصة في شهر رمضان؛ لأنه شهر الطاعة والعبادة والصلة، والتوبة والإنابة، وهو شهر تكفير الذنوب والسيئات، ونزول المغفرة والرحمات، فعلى العبد في هذا الشهر أن يحسن صلته بأرحامه وأقاربه، وأن يقوي علاقته بأصحابه وإخوانه، استغلالاً لهذا الموسم الكريم، وحرصاً على الفوز بجنات النعيم.

أهمية إصلاح النفوس ووصلها بالله عز وجل

أهمية إصلاح النفوس ووصلها بالله عز وجل الحمد لله، الحمد لله خص رمضان بنزول القرآن، وفتح أبواب الجنان، وإغلاق أبواب النيران، وتصفيد مردة الجان, وتخصيص باب الريان لعباده الصائمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، النبي المصطفى والرسول المجتبى، علم التقى ومنار الهدى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلى هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! سلف لنا حديث عن رمضان بوصفه شهر القلوب والأرواح، وحديثنا اليوم عن رمضان بوصفه شهر الصلة والإصلاح؛ صلة لما انقطع، وإصلاح لما فسد صلة شاملة تعم حسن وقوة الصلة بالله، كما تشمل حسن وامتداد الصلة بعباد الله في مراتب كثيرة، وفي إصلاحات نفسية وعملية واجتماعية متنوعة، تجعل الصلة بالإقبال إصلاحاً للإدبار، وتجعل الصلة بالطاعة إصلاحاً للغفلة الموقعة في المعاصي. إنها صلة عظيمة تتجدد وتقوى، وتتجذر وتمتد، وتصبح في هذا الموسم العظيم سمة ظاهرة للمسلم وحده وللأمة كلها في نوع من التربية الإيمانية السلوكية الفكرية التي يصوغ بها هذا الدين العظيم أتباعه؛ ليردهم إليه من بعد شرود، وليقيمهم على منهجه من بعد انحراف، وتلك مزية هذا الدين في مواسم الخير، وعبادات التذكر والاتعاظ التي تتعهد القلوب بالزكاة والنفوس بالطهارة، وتتعهد العقول بالرشد والإيضاح، كما تتعهد الجوارح بالاستقامة وتهذيب السلوك، وتتعهد العلاقات والصلات بتحسينها وقطع ما يسوء ويضر منها، وتلك هي المزية العظيمة التي تتجلى لنا في شهرنا هذا وفي صيامنا هذا.

رسائل الصلة بالله المتاحة في رمضان

رسائل الصلة بالله المتاحة في رمضان

الإخلاص بداية الصلة بالله عز وجل

الإخلاص بداية الصلة بالله عز وجل والصلة بالله تبدأ بالإخلاص له، وتجريد القصد لطاعته ومرضاته، وتحقيق التحلي بمراقبته والحياء منه؛ امتثالاً لأمره: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وتحذيراً واجتناباً لوعيده وتهديده في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).

الاهتمام بالصلاة من الصلة بالله عز وجل

الاهتمام بالصلاة من الصلة بالله عز وجل حسن الصلة ظاهر في ركن ركين وأساس متين وهو العمل بالطاعات والقيام بالفرائض؛ ذلك أن المسلم في هذا الشهر الكريم أحرص ما يكون على تكميل إيمانه وعلى تحقيق إسلامه، فصلاته يشهدها في الجماعات، ويبكر إليها مع الأذان، ويحرص على اغتنام الأوقات مع حضور القلب والخشوع والتذكر والاتعاظ والاعتبار، فإذا به يأتي بها على صورة أكمل وعلى هيئة أفضل، فيكون له من أثرها ومما فيها من حسن الصلة بالخالق ما يحدث له امتلاءً بعظمته في القلب وشعوراً بصدق توقيره وإجلاله في النفس. مع ما يكون فيها من الخضوع له والذل بين يديه والانكسار في السجود، وإخضاع الجوارح كلها انكباباً على الأرض وتعظيماً للرب سبحانه وتعالى، والعمل بالفرائض لفضيلة الزمان ومضاعفة الأجور يجعل المرء يحسن صلته بالله عز وجل في صلاته، فيتلو الآيات وقلبه يخفق بالتعلق، وعقله متدبر فيها، وجوارحه خاشعة ساكنة معها، ويشعر حينئذ بلذة ما بعدها لذة، وحلاوة ليس فوقها حلاوة، ويستحضر ذلك المثل العظيم والنموذج الأعظم في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، فكم في هذه الصلة العظيمة من وصل عظيم! فإننا نحرص في هذا الشهر على كثير وكثير مما سيأتي ذكره.

إخراج الزكاة في رمضان من الصلة بالله عز وجل

إخراج الزكاة في رمضان من الصلة بالله عز وجل وهكذا ركن الزكاة، فجل الناس يحرصون على إخراج زكاتهم في هذا الشهر إدراكاً لفضيلة الأجر ومضاعفته، مع حرصهم على التعرض لرحمة الله برحمة خلقه، كما ورد عند الترمذي بسند فيه مقال: (إن أفضل الصدقة صدقة رمضان)، وغير ذلك من الأسباب التي نرى فيها إظهار هذا الركن والتزامه والقيام به وإخراج الأموال من النفائس ومن شتى الأموال التي وجبت فيها الزكاة.

أداء العمرة في رمضان والاستكثار من النوافل من الصلة بالله عز وجل

أداء العمرة في رمضان والاستكثار من النوافل من الصلة بالله عز وجل وذلك أيضاً مشعر بأمر ثالث في شأن الحج، وإن كان في غير موسمه، لكن يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان كحجة معي)، فيعظم حينئذ إتيان الإنسان المسلم بالأركان والفرائض على شيء عظيم من التمام والكمال. ثم هناك أمر آخر في هذه الصلة وهو الاستكثار من النوافل، وذلك فيه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). فبهذه النوافل الكثيرة مع الفرائض العظيمة تصبح ربانياً، وتصبح وأنت تدب على هذه الأرض لكنك معلق في السماء، وتنطق بلسانك لكن الحكمة تجري عليها، وتنظر بعينك لكنك تتدبر وتتأمل، ويصبح كل شيء فيك وبك ومعك مع الله وبالله ولله عز وجل، ولا ينقطع عن فكرك ولا عن قلبك ولا عن نفسك ولا عن لسانك ولا عن خاطر عقلك أمر الله عز وجل والصلة به. وكن صاحب قلب معلق بالمساجد، ولسان رطب بالذكر، وقلب مملوء بالحب، ونفس متعلقة بالطاعة، فأي شيء هذا؟! إنها صورة عظيمة في حسن الصلة بالله؛ تجعل المؤمن في حياته غير لاهٍ ولا عابث ولا غافل، فضلاً عن أن يكون معانداً أو جاحداً أو معرضاً، نسأل الله عز وجل السلامة.

قيام الليل من الصلاة بالله عز وجل

قيام الليل من الصلاة بالله عز وجل تلك هي الصورة الحقيقية التي يتمها الله عز وجل علينا في هذا الشهر الكريم، وتزيدنا الصلة أيضاً من الأبواب المختلفة، ومنها قيام الليل، ذلك الذي هو دأب الصالحين، والذي فيه مفاتيح من مفاتيح الخير في الدنيا والآخرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تنزل عليه الوحي في مبتدئه وفي أوائل أمره وفي مفتتح رسالته قال الله له: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، وكانت التهيئة قبلها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1 - 4]، فقيام الليل زاد لمواجهة الصعاب، وزاد لحمل الرسالة، وزاد لأداء الأمانة، وزاد للثبات على الطريق، وذلكم هو الزاد العظيم في حسن الصلة بالله عز وجل. روى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، مكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم، ومطردة الداء عن الجسد). وعندما رأى ابن عمر رؤياه الشهيرة كان قول النبي صلى الله عليه وسلم تعليقاً عليها: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)، وكانت الرؤيا جولة في رياض الجنان ووقوف على شفير النار والعياذ بالله! فكان توجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم أن من أراد الوصول إلى هذه والنجاة من تلك فذلك دأبه وتلك طريقه، وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟! قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائماً والناس نيام) رواه الطبراني في معجمه والحاكم في مستدركه بسند صحيح. وكلنا يعلم خصيصة هذه النافلة العظيمة في هذا الشهر الكريم؛ لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

الاهتمام بالقرآن الكريم من الصلة بالله عز وجل

الاهتمام بالقرآن الكريم من الصلة بالله عز وجل وهناك زاد آخر من حسن الصلة بالله، وهو: الصلة بكتابه جل وعلا، فهذا هو الشهر المختص بهذا القرآن نزولاً، والمختص به مدارسة، كما ورد في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدارسه جبريل القرآن في رمضان، وكان يدارسه في كل ليلة من ليالي رمضان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة). قال ابن رجب تعليقاً على هذا الحديث: دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، واستحباب كثرة تلاوة القرآن في شهر رمضان. وذكر الله عز وجل متصل بهذا، فنحن في هذا الشهر -بحمد الله- نكثر من ذكره، ونكثر من الدعاء والتضرع إليه، فلا نزال دائماً متقلبين ما بين تلاوة وذكر ودعاء، وهذه كلها من أبواب الصلة العظيمة بالله سبحانه وتعالى. وكل هذا لو تأملنا إنما هو إصلاح لما فسد من أحوالنا من غفلة جاء بها الران على القلوب، ومن شهوة تعلقت وانصرفت إليها النفوس، ومن شبهة حارت وضلت فيها العقول، وأصبحت قلوبنا -إلا ما رحم الله- ليس فيها شيء يربطها بالله، ولا يصلها به، ولا يذكرها بأمره ونهيه، ولا يعظها بوعده ووعيده، وأصبحت أحوالنا كأنما نحن صورة من مسخ لا يتحقق فيه الإيمان الحي ولا الإسلام الحق ولا الصلة القوية ولا الرابطة الوطيدة التي تربط المخلوق بالخالق، والتي تربط المؤمن بمولاه، والتي تربط المسلم بربه وخالقه سبحانه وتعالى. ولئن وجدنا هذه الصلة ولئن سعينا إلى تقويتها فلنعلم أن كلاً منا يصبح إنساناً آخر، يصبح ذلك الإنسان المؤمن الموقن الذي يواجه الخطوب والصعاب والذي يستطيع -بإذن الله عز وجل- أن ينتصر في كل معركة، بدءاً من معركة نفسه وهواها، وانتهاءً بمعارك الشيطان ووسواسه، وإلى ما بين ذلك من مزالق شياطين الإنس ودعاواهم الباطلة وزخرف قولهم.

بعض آثار الصلة بالله عز وجل

بعض آثار الصلة بالله عز وجل

لا ينفع الإنسان في الضراء إلا صلته بالله

لا ينفع الإنسان في الضراء إلا صلته بالله ولنتأمل! فإنه ليس لنا إلا هذه الصلة بالله، وليس لنا من شيء يمكن أن ينفعنا ويعيننا في دنيانا وأخرانا إلا الصلة بالله، فإذا اشتد الكرب وعظم الخطب، فليس إلا تلك الصلة، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75]، فعندما أعرض عنه المعرضون، واستهزأ به المستهزئون، وكانت حبال وصله ممتدة إلى ربه، وكانت مناجاته دائمة في حياته، وكان لسانه لهجاً بذكره، التجأ مباشرة إلى مولاه، فتغير الكون كله، وتغيرت الدنيا كلها، كما قال جل شأنه: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12]. فسخر الله كل شيء، وغير كل شيء؛ لينجو أهل الإيمان بعصمة إيمانهم وحسن صلتهم بربهم، ويهلك كل معرض عن أمر الله وكل جاحد بالله عز وجل. فلابد أن يكون يقيننا قوياً؛ لأننا إذا قوّينا صلتنا بالله فنحن أقوى خلق الله وأقوى ممن يملكون الصواريخ والطائرات والأسلحة النووية وغير النووية؛ لأننا حينئذ نرتبط برب الأرباب وملك الملوك وجبار السماوات والأرض الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي هو على كل شيء قدير.

نماذج من اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم على الله في الضراء

نماذج من اعتماد الرسول صلى الله عليه وسلم على الله في الضراء فقد رأينا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان اعتماده عليه الصلاة والسلام عليه واستناده إليه واستمداده منه، يوم رجع من الطائف قائلاً بعد أن لقي ما لقي: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي). وعندما جاء يوم بدر وجاءت الجموع الغفيرة بثلاثة أضعاف ما هو عليه عدد المسلمين قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً، اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وكبريائها)، فتنزل النصر على محمد صلى الله عليه وسلم. ويوم اجتمع الأحزاب كبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وجاء المدد الرباني، فأكفئت القدور، وأطفئت النيران، وقلعت الخيام، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال. تلك هي الصلة القوية، فهي في كل خطب نجاة، وفي كل معركة نصر، وفي كل مواجهة تفوق؛ لأن القلب الموصول بالله لا يُهزم، وإن كانت جولة في معركة أو هزيمة في مواجهة فما يزال القلب الموصول بالله يستمد نصراً من بعد نصر وقوة من بعد قوة، ويرى في ذلك بلاءً هو امتحان وتمحيص له، كما قال عز وجل: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]. وإذا وجدنا اشتداد الضر وما يحيط بنا من كرب، فإنه ليس لنا إلا تلك الصلة، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، لا أحد سواه، فكيف تدعوه وكيف تلجأ إليه وقد قطعت حبال الوصل، وأعطيت ظهر الإعراض، وسرت بقلب الغفلة، وبنفس الشهوة بعيداً عنه سبحانه وتعالى؟

الصلة بالله نعمة من نعم الله

الصلة بالله نعمة من نعم الله تذكر تلك الوصية العظيمة للغلام المؤمن الفطن اللقن، يوم قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (اذكر الله في الرخاء يذكرك في الشدة، احفظ الله يحفظك). وهذه الصلة هي من نعم الله عز وجل علينا، فإذا تكاثف الهم وتعاظم الغم، فأنزل ذلك بالله عز وجل الذي وصل حبالك به، قال عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فكُشف الهم، وزال الغم، وتغيرت الأمور، وفتح بطن الحوت ليكون قصراً ومسكناً، ونبتت شجرة اليقطين لتكون زاداً وظلاً. فكل شيء في الكون يتغير متى كنت مع الله؛ لأن الله يكون معك بإذنه عز وجل. فلنفقه في هذا الشهر الكريم وفي هذه الفريضة الجليلة عظمة صلتنا بالله عز وجل وعظمة انتفاعنا بها واستفادتنا منها، وكلما حلت نقمة أو وقعت فتنة فالعصمة هي الصلة بالله عز وجل، ويوم أحيط بيوسف عليه السلام في تلك الفتنة العظيمة نادى ربه سبحانه وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف:34]. وهكذا إذا أردت المدد والإعانة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فالمدد والنصر والإعانة من الله، وكل شيء لا يكون بالله لا يستمر ولا يدوم إلا به، وكل شيء يستند إلى غير الله فهو إلى خراب وضياع، وكل اعتماد على غير الله فهو إلى هزيمة، لكن الدنيا شغلت الناس، والقلوب تعلقت بغير مرضاته، والنفوس تاقت إلى غير ما وعد به جل وعلا، فصار الناس كأنما هم في شك من هذه الصلة، فتجيء هذه المواسم الخيرة لتعيدنا إلى حسن صلتنا بالله، أفلا نشعر بأثرها؟ أفلا نشعر براحة في نفوسنا وسعادة في قلوبنا وطمأنينة وهدوء بال في خواطرنا؟! أفلا نشعر بأننا اليوم أكثر طمأنينة وراحة وسعادة؟! تلك هي آثار الصلة في نفوسنا، وهي من بعد ذلك شفيعنا ومقربنا إلى رحمة الله عز وجل، وما يعرضنا إلى فضله وكرمه وجوده جل وعلا، فكل يوم ندعو، وكل يوم نذكر، وكل يوم نتلو، وكل يوم نصلي، وكل يوم ننفق، وكل يوم نصنع تلك الأمور التي تقوي صلتنا بالله. فما أعظم هذا الموسم؛ غير أنه ينبغي لنا أن ننتبه إلى هذه الصلة، وأن نفعها الأعظم وفائدتها الكبرى دنيا وأخرى إنما تكون بامتدادها واستمرارها، وغرسها في سويداء القلوب، وبذرها في أعماق النفوس، حتى تكون دماً يجري في العروق، وحتى تكون نوراً مع كل نظرة، وتكون حية في كل خطرة، وتكون ظاهرة في كل كلمة، وتكون بادية في كل حركة وسكنة، وحتى تصبح ذلك المؤمن الرباني والمسلم الذي يسير بنور الله وعلى منهج الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهمية إحسان الصلة بذوي الأرحام وخاصة في رمضان

أهمية إحسان الصلة بذوي الأرحام وخاصة في رمضان وهناك وسيلة أخرى عظيمة أيضاً: وهي الصلة بعباد الله. قال القرطبي رحمه الله: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة، وقطيعتها محرمة. وقال في بيان هذه الصلة وسعة رحمه الله: وبالجملة فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين، فيجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله، ونصرتهم، والنصيحة لهم، وترك مضارتهم، والعدل بينهم، والإنصاف في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، وأما الرحم الخاصة فهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق العامة والخاصة، أي: تجب لهم الحقوق العامة وزيادة كالنفقة، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عنهم في أوقات ضروراتهم. وتلك أيضاً صلة نرى أثرها في هذا الشهر عندما يتفقد الناس أقاربهم، ويصلون أرحامهم، ويجددون علائقهم، وينهون قطيعتهم، ويتغافرون فيما بينهم، ويعفو بعضهم عن بعض؛ لأن القلوب عمرت بالإيمان؛ ولأن النفوس غمرت بالمحبة والرحمة والمودة؛ ولأن الجميع يريد أن ينال من رحمة الله، ويريد أن يعمل كل ما يقربه إلى الله عز وجل. وتلك الرحم نعلم أن لها في ديننا أهمية عظيمة، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، وكما أمر جل وعلا بقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26].

تقديم صلة القربى على غيرها من القربات

تقديم صلة القربى على غيرها من القربات وفضل الصلة عظيم، حتى قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في جوانب كثيرة من جوانب الحياة المختلفة: (لما سمع أبو طلحة قول الحق جل وعلا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن أحب أموالي إلي بيرحاء -وهو اسم بستان عظيم كبير له- وإني خرجت منه لوجه الله عز وجل، فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أرى أن تجعلها في الأقربين). ولما جاءت ميمونة رضي الله عنها تريد سبقاً في ميدان الخير وكانت لها وليدة -أي: أمة- فأعتقتها، فلما جاء دورها في مكوث النبي صلى الله عليه وسلم عندها قالت: (أما شعرت أني أذهبت أو أطلقت وليدتي؟ فقال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

الآثار الدنيوية للصلة بذوي الأرحام

الآثار الدنيوية للصلة بذوي الأرحام ونجد أثراً لهذا في دنيانا، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشيخين وغيرهما أنه قال: (من أراد أن ينسأ له في أثره ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)؛ فإن بركة الرزق والوقت والعمر والصحة والعافية من أعظم أسبابها صلة الرحم، ودوام هذه الصلة في الله سبحانه وتعالى. ونعلم جميعاً ما ورد في ذلك من شأن عظيم وأجر كبير وأثر ظاهر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن التين رحمه الله: صلة الرحم تكون سبباً للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية. وذلك من الآثار المهمة التي نشعر بها في صلة الرحم مع هذه الفريضة وهذا الموسم العظيم. ونجد هذا أيضاً بيناً في أن ذلك له أثر أوسع في دائرة أوسع، كما ورد في سنن الترمذي وعند الإمام أحمد بسند رجاله ثقات، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلة الرحم، وحسن الجوار، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار). بل إن الأمر أعظم من ذلك؛ فإن صلة الرحم التي قد يراها الناس من باب المجاملات أو يراها الناس من باب العلاقات الإنسانية التي لا صلة لها بالدين، يجعلها إسلامنا من أعظم أسباب دخول الجنة، كما تكون الفرائض، وكما تكون الطاعات كلها لله عز وجل، فهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرويه أبو أيوب الأنصاري يذكر فيه: (أن رجلاً جاء إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام وقال له: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال له عليه الصلاة والسلام: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم). وفي صحيح مسلم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف متعفف)، الشاهد قوله: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، فما أعظم هذه الصلة! بل روى جبير بن مطعم في الحديث المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة قاطع)، أي: قاطع رحم، والمقصود: لا يدخلها مع أول الداخلين، وذلك أيضاً مذكور في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الحق جل وعلا: نعم، فإن لك أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك). وكذلك وردت في هذا أحاديث كثيرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، منها ما روى عبد الله بن أبي أوفى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم)، رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في شعب الإيمان. حتى إن الدائرة تتسع في الحرمان والعقوبة إذا فشت قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين منها، وهو أعظمها والعياذ بالله! فهذه صلة تمتد أواصرها -بحمد الله- في هذه الفريضة في هذا الموسم، فلماذا تحرم نفسك وتبقى على قطيعتك مع رحمك: الأجل خلاف مادي أو لأجل موقف تافه، أو كلمة عابرة، أو كبرياء فارغة، أو عصبية وحمية جاهلية؟! وكم نعرف ونعلم وللأسف الشديد أن صلات مقطوعة بين أشقاء من أم وأب! وكم نعلم أن بين الأقارب ما بينهم! فكيف تريد أن تحسن صلتك بالله وصلاتك بعباده مقطوعة مخالفة لأمر الله؟

مراتب صلة الرحم

مراتب صلة الرحم ومراتب الصلة كثيرة: أولها وأعلاها: الواصل لمن أساء إليه، كما ورد في حديث مسلم عن الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، فقال: لئن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل -أي: الرمل الحار- ولا يزال لك عليهم من الله ظهير). المرتبة الثانية: الواصل لمن قطع وإن لم يسئ إليه. المرتبة الثالثة: المكافئ، وفيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها)، أي: ليس الميزان إذا زارني زرته، وإن لم يزرني لم أزره، كدائن ومدين، وإن أعطاني هدية أعطيته، وإن أعطاني كلمة أعطيته، فأي معاملة هذه؟ وأين هذا من قول الله عز وجل: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]؟ قال الشاعر: وذي رحم قلمت أظفار ضغنه بحلمي عنه وهو ليس له حلم أما رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، يوم أن رأى أعداءه الألداء الذين ناصبوه العداء وأخرجوه من بلده واستهزءوا به، وتعرضوا لمقامه وجلاله وذاته وشخصه صلى الله عليه وسلم؛ فأي شيء فعل بهم؟! إنه صاحب القلب الرحيم، وصاحب معرفة حق الوصل حتى لغير المسلم تأليفاً لقلبه واستمالة له وإظهاراً لمحاسن هذا الدين. وقد عرفنا الله سبحانه وتعالى بذلك، وأمر بحسن صلة الوالدين وإن كانا كافرين، ولما جاءت أسماء تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلة أمها الكافرة وقد جاءتها راغبة، فقال: (صلي أمك)، ولما أتى أبو هريرة يطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لأمه فدعا صلى الله عليه وسلم لأمه فأسلمت. تلك هي صلة الرحم، فكيف بنا وأمهاتنا وآباؤنا وذوو قرابتنا مسلمون مؤمنون مصلون عابدون صائمون؟! فهذا موسم عظيم تمتد فيه هذه الأواصر، وتقوى لحمة أمة الإسلام، فالصلة الصلة بالله! والصلة الصلة بعباد الله! نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الواصلين، وأن يحسن ويقوي صلتنا به، وأن يجعل أخوتنا فيه وصلتنا وعلاقتنا في مرضاته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية إحسان الصلة بعموم المسلمين وخاصة في رمضان

أهمية إحسان الصلة بعموم المسلمين وخاصة في رمضان الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وبقي لنا من صلتنا وصلاتنا التي تمتد وتقوى وتحسن في هذا الشهر الكريم الصلة بعموم إخواننا المسلمين، فإن صلة الرحم لا تقتصر على ذوي القربى فحسب، كما ذكر ذلك القرطبي وغيره، وكما نعلمه من ديننا بالضرورة، قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92]، وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم). وهذه الفريضة أيضاً لها أثر في مد حبال الوصل بالمسلمين شرقاً وغرباً؛ لأننا نستشعر وحدة المسلمين، فهم يصومون جميعاً في فريضة واحدة، على هدي نبي واحد، لمقصد ومقاصد واحدة، إنها صورة للأمة التي تأتي الفرائض لتؤكد وحدتها في أصولها ومقاصدها وغاياتها، وفي أعمالها وفرائضها وعباداتها، وفي مناهجها وأحكامها وتشريعاتها، فكيف تختلف بعد ذلك في قلوبها ونفوسها؟! وكيف ينسى المسلم إخوانه المسلمين في أرض العراق أو فلسطين؟ ألسنا اليوم نستشعر أحداث الزلازل في باكستان وفي كشمير؟! فإخواننا مسلمون صائمون وقعت عليهم النكبات، وحلت عليهم الكوارث، ومات منهم من مات، نسأل الله أن يتقبلهم شهداء. وابتلي بالعناء والمرض والإصابات من ابتلي، أليس لهم حق علينا أن نذكرهم ولو بدعوة؟! أليس لهم حق علينا أن نذكرهم ولو بدمعة؟! فضلاً عن أن نهب لإعانتهم وغوثهم، ليس في تلك الديار فحسب، بل في كل الديار وفي كل صقع؛ لأن المسلم لا يكمل إسلامه إلا بذلك، كما صح عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). ولذلك فإن هذه الصلة ينبغي ألا تكون غائبة، لأننا وللأسف الشديد في الآونة الأخيرة هبت علينا رياح الإقليمية، بل هبت علينا من بعد ذلك رياح وطنية لا ننكر أصلها، لكننا نكر أن تكون حجراً على امتداد آفاقنا الإسلامية إلى أقاصي الصين وإلى أدغال أفريقيا وإلى أوساط أوروبا وأمريكا، فكل أرض فيها مسلم تجعلنا نرتبط به، ونتصل به، ونعطيه حق أخوته، ونحسن الصلة به بكل ما يستطاع من الأحوال، ولا تحدنا الحدود، ولا تقطعنا أحاديث ولا أحابيل ولا ألاعيب ولا مشكلات سياسة، بل لا يصدنا عن ذلك الموجات والهوجات الإعلامية التي تهب علينا لتقطع أواصرنا. فنحن اليوم إن مددنا يد العون لمبتئس مكروب قد أصابته كارثة خفنا أن يكون ذلك تهمة أو إدانة بالإرهاب، فهل ننكر فريضة كاملة من فرائض دنينا -وهي الزكاة- ونعطل شريعة الله عز وجل لأجل أقاويل أهل الأباطيل؟! ينبغي لنا أن ندرك أن هذه الموجات إنما غرضها أن تقطع الأواصر، وأن تجعل كل مسلم في أضيق دائرة ممكنة، وذلك كله مما يهدف إليه أعداء الله.

أهمية الصلة بالمساجد وخاصة في رمضان

أهمية الصلة بالمساجد وخاصة في رمضان واليوم أحبتي الكرام! نقف على مفتتح الثلث الثاني من الشهر، فلقد مضى ثلث والثلث كثير، وبقي ثلثان والثلثان أكثر، أليست مناسبة لوقفة في المراجعة ونحن نتحدث عن الصلة، أيحسن بنا مع امتداد الشهر أن تعظم الصلة بالأسواق، وتقل الصلة بالمساجد؟! وأن نترك التضرع ونتلهى بالبيع والشراء؟! أيحسن بنا ترك تلك العبادات والانشغال بالشاشات والمسلسلات والمسابقات وغيرها من الأمور الصارفة عما هو أولى منها في أقل تقدير؟! ألسنا نرى ذلك في كل عام؟ ألسنا نعرفه من الأحوال التي نلامسها؟ وأنا أسأل نفسي كل مرة: لماذا لا يكون الشراء إلا في العشر الأواخر؟! ولماذا لا يكون شراء الأشياء من هذه الأوقات بل ربما من قبلها؟! ولماذا لا ينزل الناس بضائعهم الجديدة إلا بعد انتصاف الشهر؟! وهل جعلنا هذا الموسم موسم الغفلة بدل الذكر، وموسم القطيعة بدل الصلة؟! مع أن شريعتنا وسنة نبينا كلما مر شيء من الشهر كان الهدي هو زيادة العمل الصالح، وزيادة الخيرات والطاعات، حتى ينتهي للاعتكاف انقطاعاً عن الدنيا في العشر الأواخر، فما بالنا نمد حبال الوصل لما يجب قطعه، ونقطع حبال الوصل لما يجب وصله؟! هذه صور من المفارقات.

أهمية صلة المرأة المسلمة بربها عز وجل

أهمية صلة المرأة المسلمة بربها عز وجل وهناك صلة للمرأة المسلمة بالله، وصلة المرأة المسلمة أن تستجيب لأمر الله في كل هذه الأنواع من الطاعات، فما بالها تتبرج وتخرج إلى الأسواق، وتعافس الرجال فيها، وتخاطبهم، وتلين في قولها معهم؟! بل ما بالنا نسمع في هذه الأوقات وفي هذه الأيام الدعاوى المحمومة التي تدعونا إلى أن نعيد الطريق من أوله، ذلك الطريق المظلم الذي سار فيه كثير من المسلمين والعرب في ديار وبلاد مختلفة، طريق حرية المرأة المزعومة على المفهوم الغربي غير الإسلامي، الدعوة للتحرر وحرية الذات، والدعوة للندية والمساواة، والدعوة للاختلاط والمشاركة؟! ولعلي أختم هنا بكليمات لنا ولأخواتنا المسلمات، أنقلها في آخر الأمر على لسان غربيات مسلمات خرجن من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن الإباحية إلى العفة، وهن بأقوالهن هذه يخاطبن أخواتنا المسلمات اللائي يقلن اليوم أقوالاً ويقمن بأفعال؛ أحسب أن أول من سيعض أصابع الندم عليها هن أنفسهن وليس غيرهن، وذلك مما ينبغي التدبر والتأمل فيه: تقول دنماركية أسلمت: لم أسعد في حياتي بقدر ما سعدت في الإسلام بقوامة الرجل، أنا سعيدة جداً بهذه القوامة، فخورة بها، أنا امرأة يهتم بي رجل أعيش معه في سكينة وهدوء، ولا أصدق نفسي أنني لم أعد مسئولة عن لقمة العيش، ولا عن الشراء ومعاكسة الباعة، ولا طوارق الليل والنهار، معي رجل يحميني، وبه أتحدى العالم بقوته، ونتحداه بإسلامنا! واليوم يقال للمرأة المسلمة: إن هذه القوامة تسلط وسجن وإكراه، بدلاً من أن يقال: إنها حماية وإعزاز وإكرام وتقدير وغير ذلك، وهكذا نجد الأقاويل والكلمات تتردد في هذا. وهذه مضيفة هندية أسلمت في بلد عربي تقول عن الإسلام: إنه الوحيد الذي يرد للمرأة إنسانيتها، ويعترف لها بكرامتها التامة، ويحترمها ويمنحها كافة الحقوق، جذبني قول رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: (ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم)، لقد علمت أن الإسلام يحض على الإحسان للمرأة، فقد كانت آخر وصية للرسول صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت: (استوصوا بالنساء خيراً)، أسلمت لأسترد كرامتي، وأستعيد إنسانيتي! وهكذا نجد الأقوال كثيرة من أولئك النسوة اللاتي قد سرن في تلك الحضارة ما سرن، وأدركن العلقم الذي شربنه، وأدركن الداء العضال الذي خرب دواخلهن وبواطنهن وأفسد عليهن عيشهن، ففئن إلى ظلال الإسلام ورحاب الحجاب والعفة والصيانة ونعيم الأسرة. أسأل الله عز وجل أن يردنا جميعاً إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا. اللهم إنا نسألك أن تعظم الإيمان في قلوبنا، وأن ترسخ اليقين في نفوسنا. اللهم زد إيماننا، وعظم يقيننا، وطهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وارفع مراتبنا، وامح سيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك العفو والعافية المعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك أن تمكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، وأن تقمع أهل الزيغ والفساد، وأن ترفع في الأمة علم الجهاد، وأن تنشر رحمتك على العباد. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمتي الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه. اللهم احفظ لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها، ورغد عيشها يا رب العالمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، ووفقنا لما تحب وترضى يا حي يا قيوم. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

درس من أحد

درس من أُحد ما نزل بلاء إلا بذنب، وما أصاب المسلمين من المحن والشدائد هو بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وما حصل للمسلمين في غزوة أحد أكبر دليل وشاهد على ذلك، فيجب على المسلمين جمعياً أن يحذروا من الذنوب والمعاصي، وأن يوحدوا صفهم وكلمتهم، وأن يتيقظوا لمخططات أعدائهم وكيدهم، وأن يستفيدوا من غزوة أحد الدروس التربوية في مواجهة الباطل، والثبات على الدين.

انتفاخ وكبر أهل الباطل عند نيلهم من أهل الحق

انتفاخ وكبر أهل الباطل عند نيلهم من أهل الحق الحمد لله العزيز المجيد، نصره للمؤمنين ثابت أكيد، وبطشه بالكافرين أليم شديد، هو يبدئ ويعيد، وينشئ ويبيد، وهو على كل شيء شهيد، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى؛ هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كما نقول، وخيراً مما نقول، وله الحمد كما يقول سبحانه وتعالى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً رسوله المجتبى، ونبيه المصطفى، علم التقى، ومنار الهدى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! درس من أحد في مواجهة العداء العظيم والكيد الكبير الذي يحيط بأمتنا، والذي نراه في واقعنا. كانت معركة أحد في شوال من العام الثالث للهجرة، ونحب دائماً أن يكون لنا فيها ومعها وقفات، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مصدر نور لا يخبو، ومنبع ري لا ينضب، ومعالم هدىً لا تلتبس، إنه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، كما قال عنه ربه عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، أتم الله به النعمة، وأكمل به الدين، وأقام به الحجة، وأظهر لنا في سائر الأحوال معالم الإسلام. سنقف هنا وقفة مع نهاية المعركة؛ لنرى ملابسات جولة من جولات انتصار الباطل: روى البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب في سياق كلامه في قصة غزوة أحد، قال: (إن أبا سفيان -وكان زعيم المشركين- وقف وأشرف في آخر المعركة على أطم من الآطام، وقد أخذه الزهو والكبر ونشوة الانتصار الذي يظن أنه حققه؛ فقال: أفي القوم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا تجيبوه. قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ قال: لا تجيبوه. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه -وفي رواية عند غير الصحيح: فأخذت عمر الحمية- فقال: كذبت يا عدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك). ثم إن أبا سفيان قبل هذه المقالة -كما عند البخاري - قال: إن هؤلاء قد ماتوا، ولو كانوا أحياء لأجابوا. وفي رواية ابن سعد: فرجع إلى أصحابه فقال: قد كفاكم الله هؤلاء. فحينئذ أخذت عمر الحمية فقال مقالته. ثم إن أبا سفيان عندما سمع ذلك عاد منتشياً منتخياً فقال: (اعل هبل. فقال عليه الصلاة والسلام: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: العزى لنا ولا عزى لكم، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. وفي رواية ابن سعد: فأجاب عمر رضي الله عنه فقال: لا سواء؛ قتلاكم في النار، وقتلانا في الجنة). هذه صورة مرت في آخر الغزوة، ولعلي أكمل صوراً أخرى حتى يكون الحديث عنها مجتمعاً: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إثر ذلك علي بن أبي طالب، وقال: (اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن جنبوا الخيل وركبوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن جنبوا الإبل وركبوا الخيل فإنهم يريدون المدينة، والله لأناجزنهم فيها، ولأسيرن إليهم فيها، فذهب علي، فإذا بالقوم قد جنبوا الخيل وركبوا الإبل، وتوجهوا إلى مكة). ومما قاله أبو سفيان كذلك قبل رحيله: (موعدنا بدر في العام القابل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد). والسيرة تروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في العام الرابع خرج لموعده إلى بدر، غير أن أبا سفيان وكفار قريش لم يأتوا لموعدهم، ولم يخرجوا للقاء المسلمين. ووقفتنا هي مع هذه الأحداث، فقد أصاب منا أعداؤنا اليوم ليس جولة واحدة، بل جولات، وقد انتفخ سحرهم ونحرهم، وارتفعت أنوفهم، وشمخت جباههم، وعظم كبرهم، وتجلت غطرستهم، وكأن أبا سفيان -قبل إسلامه- إنما هو تلميذ غر في مدرسة الاستعلاء الكفري والكبر الطغياني الذي نراه في أعداء أمة الإسلام اليوم، وهذا بسبب ما وقع في أمتنا من ضعف وخور وذل وهوان، لتركهم لأمر الله ودينه، وتخليهم عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.

الدروس المستفادة من الأحداث الأخيرة لمعركة أحد

الدروس المستفادة من الأحداث الأخيرة لمعركة أحد

أثر الذنوب والمعاصي في هزيمة الأمة

أثر الذنوب والمعاصي في هزيمة الأمة وكلنا يعلم أن الذي وقع في أحد كان بسبب تلك المعصية بنص صريح واضح في كتاب الله عز وجل، وهو قوله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وكما أخبر الحق سبحانه وتعالى في سياق بيان تلك الأحداث في غزوة أحد فقال: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152]، عصيتم يا معاشر الرماة! وعصيان البعض قد عم أثره الكل. وقوله سبحانه: (من بعد ما أراكم ما تحبون)، أي: من النصر على عدوكم، وقتلهم، وبدء فرارهم، واضطراب صفوفهم، وذلك بأثر دنيا التفتت إليه قلوب بعضهم. وقوله: (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)، قال بعض الصحابة: ما كنت أحسب أن فينا معشر أصحاب محمد من كان يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية. ولم تكن إرادتهم للدنيا أنهم قد توجهوا لها بكليتهم، ولكنها ومضة من بريقها ولمعانها بدت لهم عند هزيمة المشركين، فتحركت لها قلوبهم ونفوسهم، فكانت هذه النزعة وتلك الخطيئة هي التي ترتبت عليها تلك الجولة التي كان فيها ما كان، وحل فيها ما حل بالمسلمين ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم. واليوم ما زال كثير من المسلمين يسألون ويقولون: لمَ احتلت ديارنا؟ ولمَ اُستلبت أموالنا؟ ولمَ ضاعت هيبتنا؟ ولمَ تمرغت عزتنا؟ وكأنهم لم يدركوا أن خطأً محدوداً واضحاً من فئة محدودة ترتب عليه أن سبعين من صفوة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مضوا إلى الله عز وجل شهداء، فيهم حمزة أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيهم مصعب بن عمير درة شباب الإسلام، وفيهم مجموعة من عظماء الصحابة، ودميت جبهة النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه. فما بالنا لا نتأمل في ذلك؟ فكل ما يجري له أسبابه وعلله الواضحة التي يبصرها بمقياس الإيمان ونور القرآن يبصرها كل مسلم مؤمن ذي قلب حي وعقل راشد وفطرة سليمة.

غرور أهل الباطل وعاقبة أمرهم

غرور أهل الباطل وعاقبة أمرهم وسنقف وقفة مع أبي سفيان، ومع ما قاله، وذلك أمر واضح، فإن كل تقدم أو نصر في جولة يحققها أعداء الإسلام تصيبهم بغرور يعمي أبصارهم، ويطمس بصائرهم، فيمضون على غير هدى يتخبطون، ويشتدون في عدوانهم مما يؤدي إلى حتفهم يقيناً لا شك فيه؛ لأن الله عز وجل قد جعل العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين ولو بعد حين، وذلك يعرفه أهل الإيمان واليقين. ولذلك انظروا إلى كل الطغاة والمتجبرين الذين قص الله علينا خبرهم في القرآن الكريم، لقد ساروا من خلال قوتهم وطغيانهم إلى حتفهم، أليس فرعون الكافر الأعظم الذي ادعى ما لم يذكر ولم ينسب لغيره فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]. وفرعون كانت مواجهته مع موسى، فجاء بالسحرة، ثم أراد بعد ذلك أن يظهر قوته، وأن يستعلي بعظمته، فأراد المواجهة معلنة، وأرادها أن تكون أمام الناس، فظهر الحق، وبطل الباطل، وسجد السحرة ساجدين مؤمنين، وأسقط في يد فرعون فلم يجد إلا بطشه وجبروته. وهكذا ما وقع للغلام في قصة أصحاب الأخدود التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم في الحديث الطويل، فبعد أن نجى الله الغلام بمعجزات ظاهرة قال لهذا الملك الطاغية الأحمق: إن أردت قتلي فاجمع الناس على صعيد واحد، ثم خذ سهماً من كنانتي وقل: باسم الله رب الغلام، وارمني بالسهم؛ فإنك إن فعلت قتلتني. وفعل المغرور الذي يريد الانتصار بأي وسيلة ذلك الفعل، وقال أمام الملأ كلهم: باسم الله رب الغلام. ورمى بالسهم فقتل الغلام، وأحيا الإيمان في قلوب الآلاف المؤلفة، وظهر الحق بضيائه المشع، وظهر اليقين بثباته القوي الراسخ، فلم يجد إلا حفراً يحفرها، وناراً يشعلها، وجحيماً يلقي فيه الناس، ثم انتهى أمره وخبره، وذلك متكرر ظاهر.

تركيز الأعداء على القيادات الفاعلة في الأمة الإسلامية

تركيز الأعداء على القيادات الفاعلة في الأمة الإسلامية وأبو سفيان هنا في أول الأمر كان يركز على القيادات الفاعلة، وعلى القدرات الرائدة القائدة المؤثرة في حياة الأمة، ولهذا سأل عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعن عمر؛ لأنه كان يعلم أن هذه القيادات لها أثرها في الأمة تماسكاً ووحدة، ولها أثرها في الأمة امتثالاً وقدوة، ولها أثرها في الأمة يقيناً وعزة، ومن ثم لابد أن ندرك أهمية القيادات من الولاة والعلماء والدعاة، وكل من له وجاهة في مجتمع المسلمين، وله التزام وامتثال بأمر الدين، وله تجرد لمصلحة المسلمين؛ فإن الله جل وعلا ينصر هذا الدين برجال يختارهم الله عز وجل ويصطفيهم لما يكون عندهم من إيمان ويقين وتضحية وإخلاص لله رب العالمين.

حنكة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المجاوبة مع الكفار

حنكة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المجاوبة مع الكفار ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ألا يجيبوه، قال ابن القيم في تعليقه على هذه الواقعة: إنما أمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته وشركه تعظيماً للتوحيد، وإعلاماً بعزة من عبده المسلمون، وقوة جنابه، وأنه لا نغلب ونحن حزبه وجنده. ولماذا لم يكن يريد أن يجيبوه عندما سأل السؤال الأول عن وجود النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لأنه لم يكن قد برد بعد في طلب القوم، أي: ما زال غبار المعركة ثائراً، ما زالت النفوس والحمية للقتال مشتعلة، ونار غيظهم متقدة، فلما سأل ولم يجد جواباً، وثنى وثلث، ثم قال لأصحابه ما قال، وقال: إن هؤلاء قتلوا، ولو كانوا أحياء لأجابوا. حينئذ كان جواب عمر له في غاية الروعة! كما قال ابن القيم: كان السكوت في ذلك الوقت هو الأحسن، وكان الجواب من بعد هو الأحسن. قال: فكان في هذا الإعلام -أي: قول عمر - من الإذلال والشجاعة، وترك الجبن، والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم، وأنهم لم يضعفوا، وأنهم لم يهنوا، فأصبح فيه من المصلحة بإعزاز الإسلام، وغيظ العدو وحزبه، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم أولاً بأول. وفي ترك إجابته في أول الأمر إهانة له، وتصغير لشأنه، فلما منى نفسه بموتهم، وظن أنهم قد قتلوا، وحينئذ أصابه الكبر والأشر، وحصل له ما حصل؛ كان في جوابه إهانة وتحقير وإذلال.

أهمية إظهار شأن الإيمان وثباته وقوته

أهمية إظهار شأن الإيمان وثباته وقوته وهنا درسنا المهم أيضاً، وهو أننا في شأن إيماننا وعقيدتنا وإسلامنا ومبادئنا ينبغي أن نعلن العلو والاستعلاء، وأن نظهر الثبات والقوة. قد تكون هناك جولات تراجعنا فيها؛ لكن المبادئ والأسس والعقائد لا يمكن بحال أن يكون فيها إظهار تلون أو ضعف، فلما قال أبو سفيان: اعل هبل. كان A ( الله أعلى وأجل)، واليوم قد يقولون: إن الديمقراطية تنتصر، وإن الإسلام يندحر، وبعض الناس من بني جلدتنا صاروا يتكلمون بألسنتنا، ولكن بعقول وقلوب غيرنا من أعدائنا، فيروجون إلى ضرورة مراجعة في أصول ديننا، وثوابت عقائدنا، وأسس حياتنا الاجتماعية المبنية على هذا الدين، وثقافتنا وتصوراتنا المنبثقة من نور القرآن وهدي النبي العدناني صلى الله عليه وسلم. ولذلك لما قال أبو سفيان: العزى لنا ولا عزة لكم، كان رد النبي صلى الله عليه وسلم حاسماً: (الله مولانا ولا مولى لكم) إنه الركن الركين الذي يفيء إليه المسلمون، والقوة العظمى التي إليها يلتجئون، وإذا عرفوا ذلك فلا خوف عليهم، فلئن كسروا في جولة فإنهم في أخرى منتصرون، ولئن تراجعوا في موقف فإنهم في آخر متقدمون.

الحرب بين الإسلام والكفر حرب عقائدية

الحرب بين الإسلام والكفر حرب عقائدية ونحن نعلم أيضاً أن مسائل أعدائنا في غزوهم وحربهم لأفكارنا ومبادئنا وقيمنا وأخلاقنا ونظمنا الاجتماعية ومناهجنا التعليمية أكثر وأشد شراسة وأعظم ضراوة من هجومهم العسكري، أو احتلالهم العسكري، أو نحو ذلك من الأمور المادية. ولذلك لما رأى أبو سفيان أنه لم يقتل محمد عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر، أراد أن يظهر أن هذه الجولة إنما هي انتصار لمبدئه، وإنما هي علو لمعتقده. إن الحقائق تثبت أن المواجهات العسكرية أسسها عقائدية، ومنطلقاتها مبدئية، وقد تكون فيها مصالح مادية، وقد تتخللها أهواء شخصية، لكن منطلقاتها وجذورها يقيناً هي دين ومبدأ، والحرب إنما تنبثق من رؤى وتصورات وثقافات وديانات شاء من شاء هذا التفسير وأباه من أباه، فإن الواقع يثبته قديماً وحديثاً وإلى يوم الناس هذا. وكم سمعنا اليوم من الحملات على القرآن الكريم، وعلى شخص النبي العظيم صلى الله عليه وسلم! من يقولها؟ إنه ليس مفكر، ولا مستشرق، بل يقولها جنرالات عسكريون، إنهم يخوضون حرباً من هذا المفهوم ومن ذلك المنطلق، فلماذا نغالط أنفسنا، ونحن نعلم أن اليهود في دولة الكيان الغاصب الذي يسمى (إسرائيل) يعلنون صباح مساء أنهم دولة دينية، وأنهم منافحون عن دينهم، وأنهم يدافعون عن بني دينهم، وأنهم إنما يقومون على أساس توراتهم وغير ذلك مما نسمعه ونراه صباح مساء؟! ثم يراد لنا من بعد أن نقول: لا، نحن لسنا أهل دين، ولسنا متمسكين أو متشبثين بعقائدنا ومناهجنا الإسلامية الإيمانية، وإنما نحن قوم متحضرون، ونريد الديمقراطية، ونريد ذلك على ما يريده أولئك القوم! وكل خير قد نجده في أقصى الأرض أو غربها نحن أحق وأولى به، وكل تجربة إنسانية مفيدة نافعة نحن أحرى الناس أن نأخذ بها، وأن نراجع أنفسنا لذواتنا؛ فإن من منهج ديننا أن نحاسب أنفسنا، وأن نتبادل النصح فيما بيننا، وأن يقوم مستقيمنا معوجنا، وذلك أمر ليس فيه غضاضة، بل هو من محاسن ديننا وعظمته، ولقد كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يكثر من مشاورة أصحابه وهو من هو! يقول أبو هريرة في حقه: (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم). عجباً له يشاور بهذه الكثرة العظيمة وهو النبي المسدد بالوحي، الراجح في العقل، الخبير الذي ليس أحد من أصحابه بل ولا أحد في هذه البشرية كلها مثله عليه الصلاة والسلام!

أهمية الثبات على الدين

أهمية الثبات على الدين القضية الثانية المهمة وهي: أنه لابد لنا أن نثبت دائماً على ديننا، وأن قضيتنا الأولى التي يستهدفنا فيها أعداؤنا ليست ثرواتنا، وليست أن مواقعنا في بلادنا إستراتيجية أو غير ذلك، وإنما هو ديننا، كما أعلنها أبو سفيان صريحة واضحة جلية، فإن هذا الدين هو الذي يفرق بيننا وبين غيرنا، فيجعل لنا من تصوراتنا ومعرفتنا ما قاله عمر: (قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار)، فلا سواء بيننا وبين غيرنا؛ لأن عندنا من كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ما يميزنا.

واجب المسلم تجاه الصراع مع الباطل

واجب المسلم تجاه الصراع مع الباطل أشير هنا إلى مسالة مهمة في الموقف الثاني، يوم قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي رضي الله عنه: (انظر خبر القوم)، إنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن المعارك مع الباطل ليست جولة واحدة، وأنهم لا يكتفون بانتصار محدود، وأنهم مستمرون، فقال: انظر ماذا سيفعلون؟ هل انتهى الأمر؟ وهل نغلق الأبواب وننهي القضية، ونعود إلى ديارنا لنأكل ونشرب وننام؟ لا، ليس الأمر كما يظن كثير من الناس أنها جولة، وأنها حملة، ولم ينتبهوا إلى أنها متواصلة مستمرة، وأنها متنامية متنوعة، وأنها تمتد حتى لا تكاد تخلو منها بقعة من الأرض، وتتغلغل حتى لا يكاد يخلو منها مجال من مجالات الحياة سواء كان اجتماعياً أو سياسياً أو تعليمياً أو غير ذلك، ولذلك قال: (انظر ماذا سيفعلون)، أي: ما هي خطوتهم الثانية؟ ومعاشر المسلمين اليوم كثير منهم نائمون غافلون، وكلما جاءت ضربة صحونا لها في وقتها، أما التي تليها فكأنها ليست واردة في حسباننا، ولا معروفة عندنا، ولا هي خاطرة ببالنا؛ ولذلك ما يزال كثير من المسلمين يأخذون الضربة تلو الأخرى، وكأن الأولى تهيئهم أن يأخذوا الثانية، ونسوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لست بالخب، ولا الخب يخدعني، إنما يهلك الناس إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، تلك مقالات لابد من معرفتها. وعندما قال أبو سفيان: موعدكم بدر، أمر النبي صلى الله عليه وسلم من يجيبه: (هو بيننا وبينك موعد)؛ فإن عزة الإسلام تأبى الانهزام، وإن قوة اليقين لابد أن تقبل إرادة التحدي؛ لا رغبة في الصراع؛ فإن الإسلام لا يسعى إليه ابتداءً ولا يقصده، وليس كما ينسبونه له من قتل أو دمار، بل التاريخ حديثه وقديمه يشهد أنه عند غير المسلمين أكثر منه عند المسلمين. نسأل الله عز وجل أن يحفظ ديننا وأمتنا، وأن يحفظ بلادنا وأمنها وسلامتها ووحدة صفها، وأن يدفع عنا وعن المسلمين كل سوء ومكروه، وأن يخذل أعداء الإسلام والمسلمين في كل مكان. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب الحذر من كيد الشيطان والاستمرار على الطاعة

وجوب الحذر من كيد الشيطان والاستمرار على الطاعة الحمد لله العظيم في شأنه، العزيز في سلطانه، أحمده سبحانه وتعالى على جزيل بره وإحسانه، وأشكره على وافر فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم الذي أقام الدين وأحكم بنيانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: إن في هذه الوقفة السريعة التي وقفناها في آخر معركة أحد ما يكشف لنا عن ضرورة يقظتنا لمواجهة أعدائنا، وعن أهمية التزامنا واستعلائنا بديننا، وعن أهمية قوة نفوسنا وثقتنا بخالقنا، واستعدادنا لمواجهة عدونا في كل حال. ولعلي هنا أربط ربطاً لطيفاً، وقد يكون عند البعض بعيداً: كنا في رمضان في معركة مع الشيطان، ومع أهواء النفس، ومع المعاصي التي قد استحكمت في واقع حياتنا، ولعلنا قد حققنا نجاحاً، وأدركنا فلاحاً، وحققنا -ليس في جولة واحدة بل في جولات كثيرة- انتصاراً، فهل انتهت معركتنا مع الشيطان؟ نحن قد فرحنا بما وفقنا الله له من الطاعات، وبما سلمنا منه من المعاصي والشرور والآثام والسيئات، ولكن هل أغمد الشيطان خنجره؟ وهل أوقف وسواسه؟ وهل انتهت معركتنا فاستقمنا على الصراط المستقيم أم أننا ما زلنا في المعركة؟ إننا الآن قد ركنا إلى ما سلف من صالح أعمالنا، وعدنا شيئاً فشيئاً لتستحكم الغفلة فينا، وليعاود عدونا مرة أخرى انتصاره علينا، فتكون جولتنا تلك كأنها لا قيمة لها، وكأن انتصارنا يذبل ويضعف ويذوي ويزول! وهذه معركة حقيقية مع النفس التي بين جنبيك، ومع الشيطان الذي يوسوس لك، ونحن -وللأسف الشديد- نرى في أيام عيدنا، وبعد انتهاء شهر صيامنا ما نعرف أنه أظهر صور الهزيمة الإيمانية، وأجلى صور الخذلان بعد الطاعة، فكم نرى في حياة أمتنا وفي أعيادها من لهو يمسخ أثر الذكر والذكرى، ومن عبث يضيع آثار البر والتقوى، ومن معاصٍ تعيد الظلمة إلى القلوب والكدر إلى النفوس! وهذا لا يحتاج منا إلى كثير كلام ولا إلى أمثلة؛ فإن الشواهد واضحة نراها في الشاشات الفضائية، ونسمعها في الإذاعات، ونلامسها في الشوارع والطرقات، بل -وإن كنا صادقين- نلمسها ونعرفها في أنفسنا وفي بيوتنا التي كان القرآن يدوي فيها، وكان الذكر يصدح في جنباتها، وكنا فيها قائمين أو ساجدين أو متسحرين أو مفطرين، واليوم قد قل ذلك وضعف، ولا أود أن يكون حديثي مؤيساً أو محبطاً ومثبطاً لما سلف من الخير والطاعة؛ ولكنه إنذار وتنبيه؛ حتى نعاود حمل أسلحتنا الإيمانية، ونعود إلى التترس بالطاعات والذكر الحافظ من وساوس الشيطان، والوقوع في الآثام، ونعود مرة أخرى لنكون على أهبة الاستعداد؛ ليعلو إيماننا على وسواس شيطاننا، ولتنتصر إرادة الخير والطاعة في نفوسنا على أهوائنا وشهواتنا وجوانب دنيانا في معاصي ربنا. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على دينه، وأن يرزقنا الاستقامة على الطاعات والمواظبة عليها، وأن يعيننا على أهواء أنفسنا، وأن يقينا من وساوس شياطيننا. ونسأله سبحانه وتعالى أن يقيمنا على الحق، وأن يلزمنا إياه، وأن يبصرنا به، وأن يسلكنا طريقه. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم وفقنا للطاعات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ومكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، وهيئ للأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم أبدل أمتنا من بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلتها عزة، ومن بعد فرقتها وحدة، اللهم اجمعها على كتابك وسنة نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم. اللهم اجعلها بكتابك مستمسكة، ولهدي نبيك مقتفية، ولآثار السلف الصالح متبعة. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. تول اللهم أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم فرج عن إخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وارفع درجتهم، وأعل رايتهم. اللهم يا أرحم الراحمين! اجعل لنا ولهم من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تجعل هذه الأيام المباركة والأعياد العظيمة خيراً وبراً ونصراً وعزاً للإسلام وأهله في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تكفينا شرور أعدائنا، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. اللهم فرق كلمتهم، وابذر الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم. اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، وأرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، واشف اللهم فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، وفر اللهم أمنها، وابسط رزقها، واحفظ وحدتها برحمتك وعزتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! ثبت اللهم أقدامهم، وأفرغ الصبر واليقين في قلوبهم، وأعل رايتهم، ووحد كلمتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، نخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. والحمد لله رب العالمين.

التفريغ النصي - - للشيخ - صوتيات إسلام ويب function audiosearch() { if (kword. value. length Deutsch | Espanol | Francais | English إسلام ويب | مقالات | فتاوى | استشارات | صوتيات | بنين وبنات | المكتبة مكتبتك الصوتية تسجيل مستخدم جديد تفعيل الاشتراك استرجاع كلمة السر أو رمز التفعيل اسم المستخدم كلمة السر

أوروبا السوداء

أوروبا السوداء لقد كشف الغرب عن حقيقة الحضارة التي يدعيها، وعن حقيقة المحافظة على حقوق الإنسان التي يزعمها بما يمارسه برابرة الصرب ضد شعب البوسنة والهرسك: من قتل وذبح وتشريد وتهجير جماعي، فإنهم يكيلون بمكيالين في كل شيء، مكيال خاص بالمسلمين يعاملونهم فيه أقل من معاملة الحيوانات، ومكيال خاص باليهود والنصارى وأعوانهم، بل رفعوا بهذا المكيال قدر كلابهم، وجعلوا لها حقوقاً، ووضعوها في صفوفهم!!

حقيقة الحضارة الأوروبية

حقيقة الحضارة الأوروبية الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه وتعالى، وأستعينه وأستغفره، وأتوب إليه وأتقرب إليه، هو سبحانه وتعالى أهل الحمد والثناء، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! عباد الله! اتقوا الله حق تقاته، فإن الله جل وعلا قد أمركم بذلك في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا اليوم عن أوروبا السوداء، وليس في هذا العنوان أي خطأ، إذ تعودنا أن نسمع عن أوروبا البيضاء، وليس في ذلك السواد أو البياض ما يتعلق بالأمور المادية، بل إن هذه الأوصاف اللونية يربطون بها المعاني والمبادئ، فيصفون إفريقيا بالسوداء، ويصفون العالم الإسلامي وبلدان العالم الثالث بالسوداء ليشيروا إلى أنها متخلفة، أو ليبينوا أن فيها أسباب الظلم، وانتهاك حقوق الإنسان، إضافة إلى العنصرية والطبقية، أو إلى الهمجية والعدوانية، وينسبون إلى البياض: التقدم والحضارة، والعدالة الإنسانية، واحترام حقوق الإنسان، وغير ذلك من المعاني الشريفة، والحق أن المسلم ينبغي أن يفرق دائماً بين الأسماء والمسميات، لينظر مدى انطباق الاسم على المسمى، فإن الباطل لا يغيره عن حقيقته أن نلبسه لباس الحق، أو أن نطلق عليه أسماء الحق، فإن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً، والعكس صحيح أيضاً، فلا يمكن أن يتغير الحق إن وصف بأوصاف الباطل أو سمي بأسماء باطلة، فإن الحق يستمد شرعيته من مطابقته لما جاء في كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحق أن كثيراً من الوقائع المعاصرة والأحداث المتتابعة كان من منافعها أن أذهبت غشاوة كانت تضلل كثيراً من العيون، وأنارت طريقاً مظلماً كانت تسير فيه كثير من العقول، إذ إن الحقائق المجسدة الواقعة لها من إثبات الحق أو الباطل، ومن توضيح الموقف أكثر مما يقال أو يكتب أو يزور عبر وسائل إعلامية أو ثقافية، ولذلك حديثنا اليوم عن أوروبا السوداء بمبادئها وموازينها الجائرة، ومواقفها الشائنة، وصورتها الحقيقية التي تسترها وراء أسماء لامعة، وأقنعة براقة، تخلب بها العقول، وتسد بها الأنظار، وتغري بها كثيراً من السذج، وتغير بها كثيراً من الأفكار.

ضاع مسلمو البوسنة بين التواطؤ والتباطؤ

ضاع مسلمو البوسنة بين التواطؤ والتباطؤ لقد كشفت الحقائق -وهذه القضية على وجه الخصوص- أوروبا السوداء بحقيقة عنصريتها، وعدائها الدائم، وحقدها الأسود ضد الإسلام والمسلمين، كما كشفت أن دعاوى حقوق الإنسان دعاوى كاذبة لا ترتبط إلا بالمصالح، وأن الموازين الدولية ومجلس الأمن والأمم المتحدة إنما تخضع للقوى التي تسيرها وفق مصالحها، وليس وفق المبادئ ولا القوانين حتى وإن كانت وضعية، وهذا شاهد حال واضح. ولئن كان موقف الغرب مقبولاً ومفسراً عند الإنسان المسلم الذي يعرف حقيقة الإيمان والولاء والبراء، فكيف يفهم المسلم البسيط في شرق الأرض الإسلامية وغربها مواقف الدول الإسلامية؟ إنه يقول بلسان بسيط ولكنه فصيح، وبلغة بدائية ولكنها قوية: ضاع مسلمو البوسنة بين التواطؤ والتباطؤ، بين تواطؤ الغرب وتباطؤ المسلمين! لك أن تسأل وأن تتعجب: إن كان هذا موقف تلك الدول فلا شأن لنا بها ولا نتوقع منها إلا مثل هذا، فأين الدول الإسلامية التي تزيد على الخمسين؟ وأين قواها المادية والمعنوية؟ وأين ضغوطها السياسية؟ إن المسلم اليوم يشعر أن كثيراً من مقدرات المسلمين ليست في أيديهم، وإنما في أيدي من يتسمون بأسماء إسلامية، وينطقون بلغة عربية، ويعلنون شعارات إسلامية، ولكنهم في حقيقة الأمر هم أنفسهم حرب على الإسلام والمسلمين. وإنك تجد كثيراً من الدول قد شغلت عن هذه المأساة والمعركة بمعارك أخرى، فنحن نسمع عن دول أنها مشغولة بمعركة الحجاب، وأخرى تشغلها معركة الإرهاب، وثالثة تخوض معركة حاسمة في إرساء الديمقراطية، ورابعة تشتد همتها في المعركة الشرسة ضد الفتنة الطائفية، ولك أن تسمع معارك أخرى كمعركة السلام، ومعركة الكلام، ومعركة الإعلام، معارك وهمية لو كشفت عنها فإنك تجد أنها تدور رحاها على الإسلام والمسلمين إلا ما رحم الله عز وجل، ويصرخ المسلمون وينادون بكل صوتهم وبكل صراخهم، دون أن يجدوا حتى من إخوانهم من يلبي التلبية الصادقة المؤثرة في الواقع، التي تجعلهم يشعرون شعوراً قوياً بأنه يمكنهم أن يواصلوا ثباتهم وصمودهم، بل أن يبدءوا في جهادهم وهجومهم، ولذلك قد أصبحت هذه الصور واضحة ناصعة، لا تحتاج إلى إغفال ولا إلى إيهام. صاح صائح المسلمين -وأرجو أن يكون الصائح كل مسلم في كل مكان- ليكشف الحقيقة التي غابت عنه دهراً طويلاً ويقول: يا ساسة القمع الرهيب تفننوا بالقتل والتعذيب والإعسار واستخدموا الإعلام في ترويجكم للفسق والتضليل والإسكار إني صحوت فلملموا أشياءكم الله أكبر منهجي وشعاري هاتوا معاول هدمكم ودماركم واستجمعوا طاقاتكم لحصاري اسفك دمي اقتل فلست بمسجد لك جبهتي اقتل فلست براجع تياري اسفك دمي تأتيك آخر قطرة برسول جيش قادم جرار فالله نسأل أن يحفظ إخواننا المسلمين، وأن يدرأ عنهم كيد الكائدين، وأن يرزقهم الصبر والرضا واليقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

البابا يبارك لزعيم الصرب الإبادة الجماعية ضد المسلمين

البابا يبارك لزعيم الصرب الإبادة الجماعية ضد المسلمين زعيم الصرب المجرم يذهب إلى اليونان، ويستقبله رئيس أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية، ويقبل المجرم يد المجرم الآخر، ثم يبارك الأسقف على رأس كراجيتش مباركاً له ومهنئاً صنيعه في إبادة المسلمين، وتنشر صور هذه المقابلة في الصحف مع حملة دعائية كبرى لجمع التبرعات لصالح الصرب في حربهم العادلة ضد مسلمي البوسنة، وليس ذلك سراً، بل يظهر على الشاشات والصفحات، وعبر التصريحات في صورة وقحة واضحة لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى تأويل. ثم يعقد مؤتمر آخر للكنيسة الأرثوذوكسية، ومؤتمر ثان عقد في الأسبوع الماضي في تركيا المسلمة في البلاد التي فتحها محمد الفاتح باسم الإسلام، تعقد هذه المؤتمرات ويشارك فيها دول كثيرة، منها: روسيا، وأوكرانيا، ورومانيا، وبلغاريا، وسلوفاكيا، وصربيا، وأرمينيا، وكرواتيا وغيرها تحت شعار: الكنيسة الأرثوذكسية لمواجهة الصحوة الإسلامية في البلقان وفي آسيا الوسطى، وتتولى اليونان أمر البلقان، وتتولى روسيا أمر آسيا الوسطى والجمهوريات الإسلامية؛ لتطوق ما يسمونه بالمد الإسلامي، وما أحداث طاجكستان عنا ببعيد، ونعرف حينئذ كيف يتحرك أولئك القوم! إنهم لا يتحركون من منطلقات سياسية، بل من مبادئ عقائدية، وتذكي ذلك الكنيسة الأرثوذكسية لتقوم بهذه المهمة في شرق أوروبا، وتقوم الكنسية الأخرى بالمهمة ذاتها في غرب أوروبا، وتظهر أوروبا البيضاء على حقيقتها السوداء وعنصريتها الواضحة، وهي التي تتهم المسلمين بالإرهاب والجهاد، والعذاب للجنس الأبيض، وغير ذلك من التهم الكاذبة، وهذا كله يظهر في صور واضحة لا تحتاج إلى شيء من التعليق، ولذلك تنظر اليوم فإذا بهذه الأحداث الرهيبة لا تحتل من الأخبار العالمية إلا آخر الصفحات أو آخر النشرات الإذاعية، وكأنها ليست مأساة إنسانية غاية في الفظاعة، وليست ذات أهمية فيما يتعلق بإحقاق الحق، أو إقامة الموازين الدولية والقوانين، أو الشرعية الدولية أو غير ذلك من المسميات، وهذا يدلنا على أن هذا التواطؤ الرهيب ينطلق عن عمد وتخطيط، والوثائق التي نشرت، والمخاطبات والمكاتبات التي كتبت ونشرت تظهر ذلك بشكل واضح فاضح لا يحتمل الشك ولا الريب. أولئك هم الغرب والغربيون والحضارة الغربية بمبادئها وموازينها، فأين العدالة التي يريدون تطبيقها؟! وأين حقوق الإنسان التي يدعون الانتصار لها؟! أين المواقف؟! لم نر موقفاً -حتى كاذباً- يمكن أن يكون مقبولاً أو معقولاً حتى عند المجانين فضلاً عن العقلاء.

حظر الأسلحة وفرض التقسيم على أبناء البوسنة والهرسك

حظر الأسلحة وفرض التقسيم على أبناء البوسنة والهرسك ما أسرع موقف الأمم المتحدة -في غمضة عين، وبسرعة رهيبة، وبإجماع سريع- لحظر الأسلحة على المتقاتلين في البوسنة والهرسك مع بدايات أول انطلاق الرصاص في تلك البلاد الإسلامية، ثم وعلى مدى عام كامل تظل قضية رفع حظر الأسلحة على إخواننا المسلمين قضية شائكة، يخشى منها أن تزيد من دائرة الحرب، وأن توسع من دائرة الدمار، وكذلك أن تجعل هناك حرباً عنصرية عرقية دائمة، وهذا هو الميزان الذي يزن به الغرب، وهذا هو المكيال الذي يكيل به، فهم يكيلون بمكيالين وبميزانين وبنظرتين وعينين، يكيل فيها لمن يحب ويوالي ويشترك معه في العقيدة والدين والمصالح بكيل يعطي ولا يبقي، وإلى من يخاصمونهم ويعادونهم في العقيدة والدين يكيلون لهم بكيل المنع والحبس والمصادرة والتضييق، حتى إن مجلس الأمن عندما صوت على قضية رفع حظر الأسلحة ظهرت مواقف أوروبا والدول الغربية عموماً تبين موقفها الشريف أمام هذه القضية الواضحة، ثم جاءت اليوم خطة التقسيم التي كان الإعلان الأوروبي رافضاً لها، ثم بعد ذلك وبتدرج ماكر خبيث عاد مقراً لها. ثم في آخر الأمر هو اليوم يفرضها فرضاً فإما أن يقبل بها المسلمون، وإما أن يكون استمرار القتل والقصف والتدمير والاحتلال، وتتساوى القضية في وقت واحد، تبدأ محادثات السلام، ويزداد القصف على العاصمة سراييفو، ثم يزداد الحصار، وتقف الدول العظمى كلها عاجزة عن أن توصل طعاماً أو شراباً أو غذاءً أو أية نجدة إلى ثمانين ومائتي ألف محاصرين داخل هذه المدينة، يموتون جوعاً، حتى بدءوا في أكل القطط والكلاب والجيف المنتنة؛ لأنهم لا يجدون ما يأكلون، وأخشى -ولا أستبعد ذلك- أن يصيح صائح في الغرب الأبيض المتحضر ليعترض على مثل هذا؛ لأن فيه انتهاكاً لحقوق تلك الحيوانات، ومعارضة للرفق بها، أما الإنسان إذا كان مسلماً فهو عندهم وفي ميزانهم العملي لا القولي لا قيمة له، وقيمته أقل وأحقر من الحيوان، وهذا هو ميزانهم الذي أخبرنا الله عز وجل به، قال جل وعلا: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، والله سبحانه وتعالى قد بين لنا أنهم يسرعون بالبغضاء والعداء إلى المسلم في كل مكان، لا يمنعهم من ذلك إنسانية ولا مبدأ ولا قانون؛ لأن حقدهم الأسود في قلوبهم السوداء في نفوسهم المريضة، وفي عقولهم الكليلة يدفعهم إلى هذا الأمر دفعاً لا يملكون له منعاً، ولذلك نجد اليوم خطة التجويع التي يشارك فيها الغرب أيضاً، الذي كان يزدهي بأنه يساعد المسلمين بالمبدأ الإنساني، ويرسل الإغاثات في هذه الأيام، حتى هذه الغلالة الرقيقة التي كان يستر بها سوءاته وعوراته بدأت تنكشف اليوم، ومندوبة الأمم المتحدة لشئون الإغاثة تصرخ بأن الإغاثات انخفضت إلى أقل من (50%) مع تعاظم الحاجة إليها في ظل الحصار الرهيب، والقصف المتواصل، والعسف المستمر، ومع ذلك حتى هذا الغذاء وهذه الإغاثات متوقفة ولا تتقدم مطلقاً، وهذا كله يدلنا على حقيقة المواقف، تشتد وتظهر وتفصح عن نفسها كلما دعت الحاجة إلى ذلك، كان الأمر في أوله نقداً لتلك الهجمة الصربية الشرسة، على اعتبار أنها يمكن أن تنتهي في ظرف قصير كما تم ذلك في مواقع أخرى من بلاد إسلامية اعتدي عليها، ثم لما امتد أمد الأزمة بوقوف إخواننا وصمودهم، ظل بعد ذلك الموقف يتراجع شيئاً فشيئاً، حتى صار اليوم موقفاً واضحاً معلناً يؤكد حقيقة الولاء والبراء، وحقيقة ما علمنا الله عز وجل إياه، فلم نتعلم منه التعلم الحقيقي، ولم نطبقه التطبيق الكامل عندما خاطبنا الله عز وجل بنداء الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وهكذا يتحقق ولاؤهم بصورة عملية، ويعيش إخواننا اليوم في مأساة لا أظن أن أحداً يمكن أن يجد لها مثيلاً أو مشابهاً في كل ما حل بالمسلمين في كثير من البقاع، بل في كل ما حل بكثير من الناس حتى في ظل الكوارث الطبيعية الإلهية التي يقدرها الله عز وجل، إذ إنهم -وخاصة في العاصمة سراييفو- يموتون موتاً بطيئاً، ومع ذلك بفضل الله عز وجل عندما أجريت مع بعضهم مقابلات فإنهم قالوا: نحن صامدون، ونموت موت الشرفاء، ولا نموت موت الأذلاء! وذلك الموقف هو الذي يعجب منه الغرب الكافر النصراني، الذي يشحذ قوته، ويريد أن يجهز على ذبيحته في هذا الوقت، ومع ذلك كله ربنا سبحانه وتعالى يبث في قلوب إخواننا المسلمين رضاً وسكينة وطمأنينة، ويبث في نفوسهم صبراً وثباتاً وجلداً، ونسأل الله عز وجل أن يديم عليهم هذه النعمة، وأن يثبتهم في وجه هذه الهجمة، وقد اتضحت لهم الصورة، وينبغي أن تتضح لكل مسلم في شرق الأرض وغربها، وأن يعرف المواقف على حقائقها، فالبوسني كان ولا يزال من شعوب أوروبا، وهو ابن تلك البلاد والديار، فعاش حضاراتها ولا زال، ولكنه عرف حقيقة الولاء والبراء، وحقيقة الحروب الدينية العقائدية، اليوم ينكشف له الزيف، ويعرف جيرانه الأوروبيين أنهم نصارى وأنه مسلم، وذلك فرق كبير بينه وبينهم، يجعلهم يتألبون بالعداء عليه، ويسعون لإهلاكه وتدميره، رغم أنه لا يملك حولاً ولا قوة. وانظر إلى المواقف العادلة لهذه الحضارة الجائرة: تمنع السلاح عن العزل، وتحيطهم بقوى مدججة بالسلاح، وتسوف في المؤتمرات والقرارات، وتمنع الإغاثات، ثم بعد ذلك يقال: إن الذي يعرقل السلام هم البوسنيون، ورئيسهم الذي يمتنع عن المفاوضات التي هي في حقيقة الأمر نوع من العداء السافر، ونوع من الإجبار القاهر، ونوع من الصورة الوقحة لتلك القوى التي تتستر وراء العدالة والقوانين الدولية، ولذلك كشف المسلم في البوسنة الحقيقة، وينبغي أن يكشف هذه الحقيقة كل مسلم، وأن ينادي كما نادى مسلمو البوسنة: يا ساسة القمع الرهيب تأهبوا وتسلحوا بحديدكم والنار إني صحوت فلا تخدرني حلاوة منطق ومهارة استعمار إني صحوت فجردوا أسيافكم وتجسسوا وتحسسوا أخباري إني صحوت ولست أخدع بعدها يوماً بزيف خادع الأبصار ينبغي أن نكشف الأمور، وانظروا إلى حقيقة العقائد كيف تصنع!

الإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة والهرسك

الإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة والهرسك إن قضية إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك التي تقترب مأساتها اليوم من عام ونصف العام تقف أحد أبرز الشواهد والمعالم على حقيقة الحضارة الأوروبية الغربية، وعلى حقيقة مواقفها ومبادئها وموازينها، وعلى حقيقة دوافعها ومصالحها التي تلبس على الناس فيها، وتغير فيها وتغير، حتى صدق الناس كثيراً من الكذب لتكراره واستمراره، إن هذه المأساة التي بلغت ما لم تبلغه مأساة إنسانية خلال قرون طويلة مضت، والتي لا يمكن أن يصدق إنسان -لولا أن الواقع ينطق بذلك عبر الصورة وعبر الخبر وعبر السماع وعبر المعاينة- أن مثل هذه الوقائع تقع في القرن العشرين الذي يوشك أن يستقبل القرن الحادي والعشرين، تقع في ظل الأمم المتحدة والنظام العالمي الجديد! تقع هذه الأحداث في ظل المناداة التي صمت الأذان بمراعاة حقوق الإنسان، والمناداة التي تسعى إلى تطبيق العدالة الدولية في كل مكان، رغم ذلك كله تقف هذه القضية الإسلامية لتعري المواقف على حقيقتها، وتبين المبادئ في زيفها وكذبها، ولست في مقام كثير من الوقائع، إلا أن ما استجد من الأحداث يدمي القلوب ويحرك الغيرة في النفوس المسلمة المؤمنة: لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان قد سمعنا وعرفنا، ثم تكرر ذلك علينا حتى نسينا وألفنا، سمعنا عن مئات الألوف الذين قتلوا ليس القتلة الشريفة في الحرب والميدان الواضح، وإنما قتلوا غدراً، ومثل بهم. وسمعنا وعرفنا عن عشرات الآلاف من الأعراض المنتهكة، وعن عشرات الآلاف من أبناء الزنا من إثر ذلك الاغتصاب في أحشاء وبطون المسلمات البسنويات، وكل ذلك ربما صار في طي التاريخ عند بعض الناس! إلا أن ما استجد من الأحداث أيضاً يبين ويؤكد أن ذلك الصمت المريب، وأن ذلك التباطؤ والتواطؤ إنما يكشف عن حقيقة الدوافع والمبادئ، وكثيرة هي الأحداث والوقائع التي تكشف هذا، وحسبنا أن نعرف أخبار الحصار الأخير الرهيب على (سراييفو) عاصمة البوسنة التي تشتد القبضة حولها، ويعظم الهجوم عليها، ويبلغ الحال بالناس فيها أن يعيشوا في ظلام دامس إذ لا كهرباء، وفي جوع قاتل مميت إذ لا غذاء، وفي عطش قاتل مميت إذ لا ماء ولا رواء، كل ذلك تحت سمع الدنيا كلها، وتحت نظر أوروبا والغرب والحضارة الغربية التي دعمت المواقف الصربية، والتي وقفت أمام المسلمين وقفة شجاعة قوية في نصرة دينها وبني جلدتها ومصالحها، ولم تكن في ذلك تداري إلا بقدر ما تخدع به بعض الناس. سأذكر بعض الوقائع القديمة، ونقف عند وقائع أخرى حديثة؛ لنرى حقيقة هذه الحضارة الزائفة الجوفاء، ونعرف حقيقة العداء المبني على الولاء والبراء، والمؤسس على العقائد والأديان، وليس على شيء غير هذا مطلقاً، عرفنا جميعاً موقف قائد قوات الأمم المتحدة السابق الذي كان يطبق المثل القائل: (حاميها حراميها)، ذلك الذي شارك الأعداء الصرب في جرائمهم باغتصاب المسلمات، والتمكين لهم فيما يريدون من الفتك بالمسلمين واحتلال الأراضي. وكذلك نرى موقفاً آخر: عندما كان قائد القوت البريطانية المشاركة ضمن قوات الأمم المتحدة، رأى الهول والفضائع والجرائم؛ فاستيقظت إنسانيته، وصور هذه الجرائم، وصرخ بأعلى صوته، ونشر ذلك في كل مكان، ثم كان الجواب والعمل الذي قامت به دولته المتحضرة البيضاء أن سحبته من موقعه، وجعلت بدلاً عنه آخر لا يتكلم، بل ينظر ويسكت، أو ينظر ويشارك، وذلك هو الأمر الحقيقي الذي تمارسه هذه القوى والجيوش في بلاد الإسلام والمسلمين.

صرخات ضد واقع المجتمع الإسلامي

صرخات ضد واقع المجتمع الإسلامي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى الشعور بمآسي المسلمين، والدعاء لهم، والاستنصار لهم، وبذل العون الممكن لهم بكل سبب ووسيلة مستطاعة. وإن هذه المأساة الإسلامية -الماثلة أمام العيان- لتهز قلب كل مؤمن، وتثير الحمية في نفس كل مسلم، وتبصر كل عقل كان مخدراً أو غافلاً، وتنبه كل إنسان كان ساكناً راكداً، أنه لابد له أن يدرك أن الحرب دائرة على الإسلام والمسلمين، وأن أولئك المسلمين في البوسنة الذين لم يكن يظهر عليهم سيماء الالتزام، ولم يكن يظهر عندهم ما يسمى -كما يقولون- بالتطرف والإرهاب، ومع ذلك ومع كونهم بيض البشرة وزرق العيون، ومع كون نسائهم شقراوات وحمراوات مثل الأوروبيين إلا أن عندهم علة واحدة هي التي أورثتهم هذا العناء الرهيب، تلك العلة أنهم مسلمون، وهذا الإسلام وإن كان عندهم اسماً فحسب أو عند بعضهم فإنه كاف لأن تكون التهمة التي من أجلها تستخدم معهم صنوف العذاب من أجل الإبادة، ولذلك تنادي سراييفو: سراييفو تقول لكم ثيابي ممزقة وجدراني ثقوب وأوردتي تقطع لا لأني جنيت ولا لأني لا أتوب ولكني رفعت شعار دين يضيق بصدق مبدئه الكذوب هذه هي الصورة الواضحة للمواقف في هذه القضية، وإخواننا هناك بحمد الله عز وجل -رغم ما يعانون- قد أفرغ الله عليهم صبراً عجيباً، ورضاً بقضائه وقدره، وهم ثابتون رغم المعاناة والمقاساة، ورغم الهجمة الشرسة، والمؤامرة الرهيبة، والأعداء المتكالبين، وكثير من الأصدقاء المتخاذلين، رغم ذلك كله يقفون ويسألون الله عز وجل -ونسأل الله معهم- أن يثبتهم، وأن يفرج همهم، وأن يفرج كربهم. وبقي أن أصرخ من هذا المقام صرختين لكثير من الممارسات الواقعة في مجتمعنا، والتي لا تتفق مع ما ينبغي أن يكون في قلوبنا ونفوسنا وأعمالنا تجاه مثل هذه المآسي التي تحل بإخواننا: صرخة ضد الإسراف والبذخ والتبذير الذي يقع في الأموال والأطعمة والأشربة، ونحن نعلم أن إخوة لنا يموتون هناك جوعاً، فلا أقل من أن نشاركهم في هذا، هذه الأفراح التي تتوالى في أوقاتنا في كل ليلة وفي أكثر من مكان، ثم نرى فيها صوراً من التباهي والمباهاة والإسراف الذي ذمه الله عز وجل، وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27]، والله سبحانه وتعالى قد بين أنه لا يحب المسرفين، ثم هذه الأطعمة والنعم التي لا نقدر قدرها نخشى والله أن يحرمنا الله عز وجل منها! ثم ألا من مشاركة؟ ألا من إحساس بهذه المآسي؟ نحن لو شاركنا بأقل القليل فإننا نظل في نعم عظيمة من أمن وأمان، ورغد عيش ورخاء، وكثير من أسباب الحياة الرغيدة لو أننا اختصرنا شيئاً كثيراً فسنظل أيضاً في رغد وبحبوحة من العيش، وأقصد من هذا أن نشعر بهذه المعاناة، وألا نكون كافرين بنعم الله عز وجل، ولا جاحدين بفضله سبحانه وتعالى مما ساقه لنا من هذا الخير، ينبغي أن نسمع صرخات إخواننا وهم يقولون وبلادهم تقول: لكم يا إخوتي أكل وشرب وأكسية لها نسج عجيب لكم دار مشيدة وظل يظللكم به غصن رطيب لدى أطفالكم لعب وحلوى وعند نسائكم ذهب وطيب وما والله نحسدكم ولكن نقول أما لإخوتكم نصيب وصرخة أخرى لكثير من المسلمين الذين يسافرون باسم السياحة والنزهة إلى بلاد الغرب، فيدعمون قوتها واقتصادها باسم السياحة، ويعلنون أننا بصورة عملية غير غاضبين ولا مؤاخذين ولا عاتبين، بل وكأننا محبون أو مؤيدون أو مناصرون أو مشاركون لا سمح الله، فإن المال الذي تبذله إلى تلك الديار لا تستبعد أن يكون هو ذاته الذي يرتد رصاصاً في صدور إخوانك المسلمين في شرق الأرض وغربها، ولا تستبعد أن يكون هو الذي يرتد في صورة مؤامرات وجرائم وفضائع تنتهك هنا وهناك، فلماذا لا نفطن ولا يكون عندنا إحساس إيماني؟ ثم بعض أولئك الذين يغادرون إلى تلك الديار يريدون من أوروبا البيضاء بلحم نسائها الأبيض، ومخدراتها وسمومها البيضاء، ودخان سجائرها الضبابي الأبيض، يريدون أن يعيثوا في الأرض فساداً، فيعلنوا بذلك انسلاخهم عن سمت الإسلام، وأخلاقيات الالتزام، ويكونوا بذلك سبة وعاراً وسمعة سيئة على المسلمين، ويؤدوا بذلك مزيداً مما يرضي أعداءنا من التغرير والتضليل بأبنائنا. فهذه صرخة ينبغي أن توقظ الناس أجمعين، ينبغي لنا بالفعل أن نستشعر في هذه الآونة -مع ضراوة الهجمة الشرسة- أنه ينبغي لنا ألا نكون سبباً -ولو من طريق غير مباشر، ولو بصورة ضئيلة- فيما يؤدي إلى تقوية أعدائنا وإضعاف إخواننا، من أعان على دم مسلم ولو بشطر كلمة لا يقبل الله عز وجل منه صرفاً ولا عدلاً. كيف تكون هذه المواقف منا ونذهب هناك نسيح، ونجول، ونقابل، ونعانق، ونهش، ونبستم، ونبذل، وندفع، وننفق، ثم نعود ونقول: إن مواقف الغرب، أو مواقف الحضارة الغربية، أو الدول الفلانية مواقف لا تتسم بالعدل والإنصاف، ونحن قد عبرنا عملياً عن نوع من التضامن معهم، أو على الأقل السكوت وغض البصر عنهم! لابد لنا أن نفطن وأن ندرك هذا وأن نصيح في بني الإسلام: بني الإسلام هذي حرب كفر لها في كل ناحية لهيب يحركها اليهود مع النصارى فقولوا لي متى يصحو اللبيب أراكم تنظرون وأي جدوى لنظرتكم إذا غفت القلوب ستطحنكم مؤامرة الأعادي إذا لم يفطن الرجل الأريب لابد أن ندرك حقائق الإيمان التي بينها الله عز وجل لنا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، وقوله سبحانه وتعالى: {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، والآيات القرآنية التي تبين أن نصر الله عز وجل مرتبط بشرطه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، و {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، وتطبيق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وأن نعرف الحقائق في أضواء الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والسنن الربانية، وأن ندرك أنه لا تغيير إلا بتغيير، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فأروا الله عز وجل تغييراً في نفوسكم صادقاً، وأوبة وتوبة نصوحاً، وصدقاً ورضاً ويقيناً بوعده سبحانه وتعالى، وغيرة وحماساً وحمية لنصرة الإسلام والمسلمين، وبغضاً وكرهاً وبراءً من المشركين والكافرين، فحينئذ يؤذن الله عز وجل إذا تغيرت القلوب والنفوس أن تتغير الأفكار والرؤى والتصورات، وأن تتغير من ورائها السلوكيات والأعمال والأخلاقيات، ومن بعد ذلك يتحد المسلمون على قلب رجل واحد، ويكون وقوفهم صفاً واحداً تجاه أعدائهم، ولذلك ينبغي أن نفطن وأن نفقه هذه الحقائق. والله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يبصرنا بحقائق ديننا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا أوثق الواثقين به، وأغنى الأغنياء به. اللهم لا تجعل لنا إلى سواك حاجة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا أفقر الفقراء إليك، وأغنى الأغنياء بك، اللهم اغننا بفضلك عمن أغنيته عنا، اللهم إنه لا حول ولا قوة إلا بك، فأمدنا بحولك وقوتك وتأييدك يا أرحم الراحمين! اللهم مكن في بلاد المسلمين لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع وأقم في الأمة علم الجهاد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في البوسنة والهرسك وفلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم عجل فرجهم، ونفس كربهم. اللهم تقبل موتاهم في الشهداء، اللهم وأعنهم على الكرب والبلاء، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم رد عنهم كيد الكائدين، وتآمر المتآمرين، اللهم إنا نسألك أن ترزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، خائفون فأمنهم. اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج كربتهم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا ندرأ بك في نحور أعدائنا، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم عليك بسائر أعداء الدين من الكفرة والطغاة والمتجبرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي! يا عزيز! يا منتقم! يا جبار! اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجعل ولاة أمورنا في هداك، ووفقهم برضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّه

الدين في حياة المسلمين [2]

الدين في حياة المسلمين [2] الإسلام منهج حياة، وكما أنه يجب على الفرد الالتزام به، يجب أيضاً على المجتمع بأنظمته المختلفة وعلاقاته الدولية أن يلتزم به، وأن يجعله مؤثراً في مجريات الحياة، ولكننا اليوم وللأسف نعاني من قصور كبير في هذا الجانب، فنرى إعلامنا وسياساتنا تخالف تعاليم الإسلام مخالفات صريحة، وتتجاوز أحكامه صراحة وكفاحاً.

تأثير الدين في مجتمعات المسلمين

تأثير الدين في مجتمعات المسلمين الحمد لله له الفضل والمنة، ومنه الرزق والنعمة، وعليه التوكل والاعتماد، وبه الهدى والرشاد، نحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته صلى الله وسلم وبارك على آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الدين في حياة المسلمين موضوع مهم، عندما كان الحديث عنه في الجمعة الماضية وجدت له عند كثير من الإخوة أصداء حسنة، وتعليقات كثيرة، ومطالبات عديدة، ذلك أن مثل هذا الموضوع يخصنا في أعظم الأمور التي تهمنا، وهو في واقع الأمر قطب رحى حياتنا، ومحور انطلاقنا إلى مرضات ربنا، ولقد وقفنا في الجمعة الماضية مع ذلك في حياة الأفراد، ولكن اكتمال الموضوع يحتاج إلى أن نرى الدين في حياة المسلمين على مستوى الأمة والدولة والمجتمع؛ لأن لذلك صلة وطيدة، وعلاقة قوية بما يؤثر على الأفراد، ويغير في أفكارهم، ويوجه من مشاعرهم، ويحول من سلوكهم، ولسنا بصدد استعراض ذلك كله، فإن المقام يضيق عنه، لكنها الأمور الكبرى، والمعالم العظمى التي تهم المجتمعات من خلال هذه المجالات.

التعليم وبيان صلته بالدين

التعليم وبيان صلته بالدين الجانب الآخر: جانب التعليم، وما أدارك ما التعليم! كل طفل وطفلة، كل فتى وفتاة يمر عبر هذه القنوات ويدرج في تلك المناهج السنوات والسنوات، فبأي شيء يخرج لدينه ولإسلامه، ولمعرفة فرائض الله وشرائعه، ولمعرفة سنن النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله؟! كم هي الحصة الوافرة في ذلك ونحن نتحدث على مستوى عام للبلاد العربية الإسلامية في جملتها، ونحن نعرف كثيراً من أحوالها. إن بلاداً عربية وإسلامية كانت ولا زالت تفاخر بأنها أنجح من طبق سياسة تجفيف المنابع، وذلك في وأد الآيات، وتقليص الأحاديث، ومنع المعاني الإيمانية، والدراسات الإسلامية، وأكثر الدول إلا ما رحم الله تجمع مناهج الدين كلها في مقرر واحد، يكاد من هزاله ألا يرى بين كتب كثيرة ضخمة تعلم اللغات الأجنبية، والعلوم التقنية الأخرى، بل تعلم من الحضارات والثقافات الكفريه والجاهلية ما هو جدير بأن يكون بديلاً عنه حقيقة التاريخ الإسلامي في تلك البلاد، حتى إنه من المعلوم أن بلداً عربياً مسلماً كبيراً اختزل منهج التاريخ فيه في المراحل المتقدمة إلى الثانوية، حتى كان نصيب تاريخ عمر بن الخطاب وفترة خلافته وفتوحاته وإنجازاته لا يتجاوز نصف صفحة، وأما سيرة عثمان وخلافته فكانت بالعد والحصر سبعة أسطر لا غير. وإذا مضينا نجد كثيراً من الأمور الأخرى، كالتشويه والتبديل والتحريف لمفاهيم الإسلام واجتزائها، بل وتحريف وتغيير وتبديل الأحكام الشرعية، بل وأحياناً عرضها في صورة الانتقاص والازدراء. ثم هناك جزئية واضحة: إنه مجرد تعليم لوضوء وصلاة لا يذكر فيه كثير من جوانب الحياة الأخرى التي يتناولها الإسلام في شموليته العظيمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وكما روى أبو هريرة: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة)، هذه الشمولية لا يكاد يكون لها أثر في كثير من مناهج البلاد العربية والإسلامية، وحينئذ يمكن أن نرى كيف تكون النتائج.

النظم الداخلية وصلتها بالدين

النظم الداخلية وصلتها بالدين ثم ننتقل إلى النظم الداخلية في كثير من بلادنا الإسلامية، ما الذي تقره وتبيحه؟ ما الذي تمنعه ولا تجيزه؟ إنها في كثير من هذه البلاد تبيح شرب الخمور وبيعها، بل إن بعض البلاد العربية والإسلامية اشتهرت بصناعة الخمور الجيدة التي هي من أعظم صادراتها. ثم تنظر فتجد في بلاد أخرى ترسيماً للبغاء والزنا والخنا برخص رسمية، وضرائب تدفع إلى خزائن الدولة، وذلك أيضاً ليس خافياً ولا مجهولاً. ثم هناك عدم اعتبار ولا احترام لمعنى الدين وفرائضه، فهل ترون الأسواق تغلق كما هي عندنا إذا أذن المؤذن للصلاة؟! وهل ترون أحداً يكترث لأمر يتعلق بالدين في واقع الحياة من حيث النظم والتقريرات؟! كنت مرة في بلد مسلم عربي، ودخلت للمسجد في صلاة الجمعة، وبجواره الأسواق مفتوحة، والناس يرتادونها، والمطاعم مفتوحة، والناس يأكلون فيها، وعند الأبواب ليس بعيداً من هنا من يتناول الشيشة، ويدخن السيجارة، وكثيرون لا يدخلون المسجد ألبتة، وهم عرب أقحاح ومسلمون بالهوية، وذلك من أثر هذه النظم. أما إذا أراد مسلم أو مسلمون أن يقيموا مركزاً إسلامياً أو يؤسسوا جمعية دعوية، فدون ذلك خرط القتاد إلا ما شاء الله، وأما إذا فعل أحد شيئاً من ذلك فإنه قد تجاوز الحدود، واخترق الخطوط الحمراء، أما إذا أراد أن يقيم حفلاً غنائياً، أو أن يؤسس نادياً ليلياً، فذلك أمر ميسور ومباح ومشجع عليه، ولذلك لوائح ونظم، وله أسس يحاكم بموجبها الناس في تلك الديار.

العلاقات الخارجية وصلتها بالدين

العلاقات الخارجية وصلتها بالدين وأخيراً: العلاقات الخارجية والصلات الدولية، هل ترونها قائمة على أسس إسلامية ومنطلقة من المبادئ القرآنية ومهتدية بالسياسة النبوية؟! هل ترون فيها تجديداً للسفارة الإسلامية الأولى التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة يدعو ويبشر ويظهر محاسن الإسلام، ويذكر مآثر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويكشف في حكمة وحنكة معايب الجاهلية ومساوئها؟ وهل ترونها كذلك فيما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم في اليوم والليلة خمس صلوات، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم! واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). ويوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (بم تحكم؟ قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله). كيف بعث النبي علياً وسلمه الراية في يوم خيبر لمهمة قتالية وقال له: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). أين سياسة أمتنا وبلادنا ودولنا العربية والإسلامية من هذه المنطلقات الإيمانية والإسلامية؟ إننا نجد صوراً مغايرة، إما ارتهان وركون وارتماء في أحضان غير المسلمين خوفاً منهم ورهبة أو مصانعة لهم، ومجاملة أو مسايسة يظن كثيرون منهم أنها هي التي تعطي أسباب البقاء والرقي والتحضر أو القوة والتمدن، ولا نقول بأن هناك دعوة لقطع علاقات أو لمنع هذه الصلات، لكن منطلقاتنا الإسلامية تدعونا إلى أن نعرف من نحن وإلى أن نحافظ على هوية الأمة ديناً وتاريخاً ولغة، وأن نحافظ على مكونات قوة الأمة ثروة وأرضاً وخلقاً، وأن نحافظ على كل ما يحفظ لهذه الأمة خصوصيتها من مناهج تعليمية، وسبل اجتماعية، ونظم أخلاقية. ونحن في عصر العولمة كما يقولون، وهم يريدون أن لا يبقى أمة تتميز بدين عن غيرها، ولا بلغة عن غيرها، ولا بثقافة عن غيرها، ولكنهم يريدون لما لهم من قوة مادية في الإعلام وغيره أن يقولوا لكم: دعوا هذه الخصوصيات وسنملؤها بما لدينا من الكثير والكثير الذي كله في معظمه لا يكون فيه الخير، ثم نجد في هذا كثيراً وكثيراً من الصور.

النتائج المتوقعة لإهمال الدين من قبل المسلمين

النتائج المتوقعة لإهمال الدين من قبل المسلمين هل نريد أيها الإخوة بهذا أن نوهن عزائم النفوس، أو أن نشعل شيئاً من معاني التذمر والتمرد غير الواعي، أو أن ندخل إلى النفوس يأساً مقعداً أو هماً عظيماً؟ كلا، ولكننا نريد أن ندرك ما هو واقعنا، ثم ندرك بعض النتائج وكيف يكون لها أثر علينا نحن جميعاً وذلك ناتج عما يصنعه أعداؤنا، وما قد يطبقه بعض أبنائنا إما بمصانعة سوء قصد، وإما بمتابعة وعدم معرفة وانتباه والله عز وجل يقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وقد أخبرنا الحق عز وجل بذلك: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]. تلك إرادة الله لا يمكن لقوى الأرض كلها أن تقف في وجهها، ولكن الله جل وعلا جعل في هذه الحياة سنناً ماضية لا تتخلف: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. ما هي النتائج المتوقعة لذلك الهم والكم والغم الذي ذكرنا بعض صوره؟ كثيرة هي النتائج المتوقعة: غربة للدين، وجهل بالإسلام، وانحراف في السلوك، وغلو وتطرف في الفهم والمعالجة، ذلك هو الذي يمكن أن يقع، ولكننا ونحن نريد أن نشعل الأمل دائماً في نفوسنا، وأن نزرع بذور التفاؤل في قلوبنا، وأن نرى الخير الذي يسوقه إلينا ربنا، ونرى المنح في ثنايا المحن مما تجري به أقدار الحق جل وعلا، نجد أن ذلك الذي يصنع لا يحقق ثماره وآثاره إلا بقدر، وثمة آثار أخرى يسوقها الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] إنه تقرير إلهي بصيغة التوكيد الجازمة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ) وبصيغة المضارع الدائمة، فينفقون أموالهم للغاية القبيحة التي تختلف صورها مرة من السياسة، وأخرى من الاقتصاد، وثالثة هي الغزو العسكري، والنتيجة والهدف واحد: (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، قال: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)؛ ولكن ذلك لا بد وأن يكون ببذل وعمل وإخلاص وصدق، نرى بعض آثاره بحمد الله في بلاد الإسلام في جملتها زيادة في التدين، رغم كل هذه الوسائل العظيمة، نرى المساجد اليوم وهي أكثر رواداً من ذي قبل، نرى حلق التحفيظ وهي تجمع الشباب والفتيات منذ نعومة الأظفار ومنذ الطفولة الأولى. حدثني قبل يومين مدرس هنا لتحفيظ القرآن يدرس بعض الأبناء في بيوتهم، وأخبرني أن طلبته من البنات والأبناء يبلغ عمر أصغرهم ثلاث سنوات، وهو يتقن تلاوة وحفظ جزء عم، وبعضهم في الخامسة والسادسة وقد أنهى نحو عشرة أجزاء وهلم جراً ونحن نعرف الأمثلة والدورات القرآنية المكثفة التي يحفظ بعض الطلبة فيها نصف القرآن وأكثر في نحو شهرين. ومرة أخرى زيادة في الوعي أثمرته كثير من هذه الهجمات الشرسة، فأصبح المسلم اليوم يدرك من أحوال أعدائه ومقاصدهم ومكرهم وكيدهم ما لم يكن يدركه من قبل، وأصبح يعرف من حال إسلامه وحقائق إيمانه ومحاسن دينه ما لم يكن يكشف له من قبل، وذلك من فضل الله عز وجل. ثم زيادة الوحدة؛ ونحن نرى اليوم التنادي والنداء داخل المجتمعات الإسلامية، بأن تنبذ أسباب فرقتها واختلافها، وألا تجعل اختلاف الآراء والاجتهادات داعياً لتفرق الصفوف، لماذا؟ لأن الجميع يقول: لا بد أن نكون صفاً واحداً في وجه الهجوم الخارجي الشرس، بل لا بد أن يكون هناك وحدة وتكامل بين العلماء والدعاة وعامة المجتمع، بل لا بد أن يكون كذلك وحدة وتعاون وتآزر لسد النقص ومنع الخلل مع الحكومات والشعوب؛ لأن الأمر أكبر وأخطر من أن يكون معه ذلك التفرق أو التناحر، أو أن نجعل القوى موجهة إلى داخل صفوفنا، والسهام مدفوعة إلى صدورنا ونحورنا. نسأل الله عز وجل أن يدرأ عن أمتنا الشرور والمخاطر، ونسأله عز وجل أن يحفظ ديننا وإيماننا وعقيدتنا وبلادنا وديارنا وأهلنا، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

هيا بنا نؤمن [1]

هيا بنا نؤمن [1] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالغفلة والذنوب والمعاصي والسيئات، فعلى المسلم أن يتفقد إيمانه، وأن يجدده بين الحين والآخر؛ فإنه يبلى كما يبلى الثوب، ومن أهم ما يجدد الإيمان ويزيده طاعة الله عز وجل ورسوله، وتجنب المعاصي والمنكرات، واتقاء الشبهات.

أهمية تجديد الإيمان

أهمية تجديد الإيمان الحمد لله، الحمد لله جلت عن الإدراك صفته، ووسعت كل شيء رحمته، وعظمت على كل شيء عظمته، له الحمد سبحانه وتعالى، جعل الإيمان به أماناً من كل فتنة، وثباتاً في كل محنة، وزاداً في كل كربة، فله الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هيا بنا نؤمن، فكم نحن في حاجة إلى هذا النداء؟ ولعلنا مباشرة يدور في أذهاننا: هل نحن غير مؤمنين حتى نؤمن؟ ومباشرة يأتينا الإيضاح ربانياً ونبوياً في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136]، فهذا خطاب للمؤمنين أن آمنوا بالله ورسوله. قال ابن كثير رحمه الله: ليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هو من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه. وقال السعدي رحمه الله: الأمر يوجه إلى من دخل في الشيء، وهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه، ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات، ويقتضي الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله. فكم هو المفقود في حياتنا من علم الإيمان وأعماله؟ جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق -أي: ليبلى- في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم). رواه الطبراني من حديث عمر بن الخطاب، وقال الهيثمي: إسناده حسن. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن عمرو ورواته ثقات، وأقره الذهبي، وقال المناوي في شرحه: شبه الإيمان بالشيء الذي لا يستمر على هيئته، والعبد يتكلم بالإيمان بكلمة الإيمان، ثم يدنسها بسوء أفعاله، فإذا عاد واعتذر فقد جدد ما أخلق، وطهر ما دنس. وقوله: (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) قال: حتى لا يكون لقلوبكم وجهة لغيره ولا رغبة لسواه، ولهذا قال معاذ رضي الله عنه لبعض أصحابه: (اجلس بنا نؤمن ساعة)، أي: نذكره ذكراً يملأ قلوبنا، فهل كانوا في حاجة لذلك ونحن في غنى عنه؟ وهل كان ينقصهم من علم الإيمان وعمله مثل ذلك الذي ينقصنا؟

وجوب الثبات أمام الفتن والشهوات

وجوب الثبات أمام الفتن والشهوات نحن اليوم في زمن الشبهات وفي عصر الشهوات وفي أوان المغريات وفي حين الملهيات التي تكاد تطعن القلوب فتدميها، وتمرض النفوس فلا تحييها، إن المرء اليوم يدرك أننا في عصر محنة تحتاج إلى زاد الإيمان، وفي عصر فتنة تحتاج إلى ثبات ورسوخ اليقين والإيمان، وفي عصر أصبح القابض فيه على دينه كالقابض على جمر، يرى في كل يوم من المحرمات، ويسمع في كل آنٍ من المحرمات ما لا يكاد يسلم معه أحد، إنها صور نحتاج فيها إلى تجديد إيماننا، وذكرى أحسب أننا نحتاج إلى وصل الحديث فيها مرة بعد مرة، وإلى تكرار الموعظة حولها كرة بعد كرة، فإن تجديد الإيمان في زمن الفتنة يحتاج أن يكون دأباً دائماً وهماً شاغلاً وعملاً متصلاً وتذكيراً غير منقطع بحال من الأحوال، إنها فتنة الأغراء بالمحرمات والمغريات والملذات: أجساد عارية، وكلمات ماجنة، ومشاهد فاتنة، ومواقف ساخنة، وشاشات داعرة، وإذاعات ساقطة، وروايات هابطة، وأسواق متبرجة، وجامعات مختلطة، وشهوات مستعرة، ونتيجتها: عيون معلقة بالمحرمات، وآذان مصغية إلى الباطل والغي من الكلمات، وقلوب مفتونة معلقة بتلك الملذات والمغريات، ونفوس قطعت وانقطعت عن التعلق بالمهمات، ألا يدعونا ذلك إلى أن نتذكر صور الإيمان أمام الإغراء؟ ألا يدعونا ذلك أن نستحضر السيرة العطرة لنبي الله يوسف عليه السلام الذي حكى الله عز وجل قصته في قوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] ثم ماذا؟ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، ويوم اجتمعت الصفوة من نساء النخبة في مجلس واحد وأتمرن على حسن يوسف بالإغواء والإغراء، أليس ذلك هو زاد الإيمان العاصم من ذلك؟ أليس يُفضل السجن وحبسه ووحشته على لذة محرمة ومشاهد فاتنة ومناظر مغرية؟ ألا نذكر الحديث العظيم لرسول الهدى الكريم صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله حيث ذكر منهم: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)؟ فخوف الله أحرق مواضع الشهوات، وجعل صورة أخرى للمحبوبات والملذات. قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: قال النووي في شرح الحديث -أي: لماذا خصت ذات المنصب والجمال؟ -: لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها، وكان الصبر عنها بخوف الله تعالى وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال من أكمل المراتب وأعظم الطاعات، فكيف ننظر إلى هذا؟ واليوم ربما تصرع الفئام من أهل الإيمان حسناء بكلمة غنج ودلال، أو بأغنية فساد وانحلال، أو برقصة عهر وابتذال، أوليس ذلك هو واقع الحال؟ فأين نحن من علم وعمل الإيمان؟

وجوب التحرز في المطعم والمشرب والملبس وجميع أنواع الكسب

وجوب التحرز في المطعم والمشرب والملبس وجميع أنواع الكسب وهناك مصرع آخر ومهوىً ردي آخر أمام المال؛ وما أدراك ما المال؟ فكيف هو اليوم مع فشو الربا وانتشار الرشوة وكثرة المحرمات في المفاسد والمطاعم حتى كأن البراءة من ذلك عند بعض ضعاف الإيمان اليوم هي في نطاق المستحيل الذي لا يمكن بحال من الأحوال؟! أليس اليوم قد تدنست المشارب والمطاعم، واختلطت المآثم بالمكاسب؟ ألسنا اليوم نرى أن الناس قد استحلوا ما حرم الله من المكاسب المالية حتى كأنهم لا يجدون في أنفسهم حرجاً من ذلك، ولا تنقبض له نفوسهم، ولا تضطرب له قلوبهم، ولا يرون فيه إلا أنهم يأخذون بأسباب الحياة، وقصارى ما قد تجده عند أحدهم أن يفسر ذلك بأن الضرورات تبيح المحظورات، ويعملون القواعد في غير مكانها؟! عجباً لنا معاشر المؤمنين! وزادنا من القرآن، ونصيبنا من هدي المصطفى العدنان صلى الله عليه وسلم يفيض عذباً زلالاً ليس فيه شائبة ولا كدر، يدعو إلى نفوس نقية وقلوب زكية وأيدٍ طاهرة ومكاسب ليس فيها أدنى شبهة. روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة مطعم) رواه أحمد وغيره بسند حسن. فقوله: (وعفة مطعم) أي: أن تعف عن كل شبهة وحرمة في الكسب من طعام وشراب ولباس. عجباً لنسائنا اليوم! لا يتذكرن أن على المرأة المؤمنة أن تقف عند باب بيتها توصي زوجها وهو خارج لعمله وكسب قوته وتقول له: يا هذا! اتق الله في رزقنا؛ فإننا نصبر على الجوع، ولكننا لا نصبر على النار، فما بالها اليوم تقول له: حصل وحصل، واكسب واكسب، ولا عليك من قول هذا ولا ذاك، وكأنما استطعم الناس أن يأكلوا في جوفهم النار، والعياذ بالله! ألسنا نتذكر ما روى البخاري من قصة أبي بكر رضي الله عنه: أنه كان له غلام يخدمه، فجاءه يوماً بطعام فأكل منه، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ قال: ما هو؟ قال: كسب كسبته في الجاهلية من كهانة كذبت فيها عليه وخدعته، فأدخل أبو بكر أصبعه في فمه واستقاء كل ما أكل، أراد ألا يدخل جوفه شيء من حرام رغم أنه لم يكن به عالماً، ورغم أن الكسب كان في جاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والإسلام يجب ما قبله)، لكنهم عرفوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإنه أمر المؤمنين بما أمر به الأنبياء والمرسلين: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51])، ذلكم ما أخبرنا به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فكسب الحرام يعمي البصيرة، ويطمس القلب، ويذهب نوره، ويوهي الدين، ويضعف أثره، ويوقع في حبائل الدنيا، ويحجب إجابة الدعاء، فإن وجدتم كثيراً من ذلك فلا تعجبوا؛ فإذا عرف السبب بطل العجب. وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً من دلائل وعلائم نبوته صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذه منه -أي: من المال- أمن الحلال كان أم من الحرام!)، وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فاليوم نحن نرى الغصب رأي العين، والرشوة في كل مكان، والسحت والربا له قوام وكيان، ألا يصدق في ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ فأين إشراق الإيمان في القلوب؟! وأين رسوخ اليقين في النفوس؟! وأين التعلق بما عند الله من نعيم يعظم ويفوق كل الدنيا وما فيها وما بها من نعيم أهلها؟! ألسنا نذكر أهل الإيمان؟! استمع لفقه الإيمان وهو يعطينا الميزان الذي ينبغي أن نلتفت إليه، هذا ميمون بن مهران يقول لنا: لا يكون المرء تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه؟ ووهيب الوردي رحمه الله يقول: لو قمت في العبادة قيام سارية -أي: واقفاً منتصباً غير متحرك قائماً لعبادة ربك- ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك. فأين الإيمان الذي يدفع إلى الورع والتحري في المكاسب والمطاعم والمشارب؟! قال الشاعر: المال يذهب حله وحرامه يوماً وتبقى في غد آثامه ليس التقي بمتقٍ لإلهه حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما يحوي ويكسب كفه ويكون في حسن الحديث كلامه نطق النبي به عن ربنا فعلى النبي صلاته وسلامه

كيفية مواجهة الهموم والمشكلات التي نواجهها في واقع حياتنا

كيفية مواجهة الهموم والمشكلات التي نواجهها في واقع حياتنا هناك أمر ثالث من واقع حياتنا وهو: الهموم والمشكلات التي تضيق بها الصدور، ويعظم همها وكدرها في القلوب، ففي أي الأوبئة هي؟ وفي أي الميادين هي؟ وما الذي يشغل البال؟ وما الذي يطأطئ رءوس الناس؟ وما الذي يجعلهم يخلون بأنفسهم في الليل والخلوات ينفثون من صدورهم زفرات، ويطلقون من أصواتهم آهات؟ فأي شيء حمل الهم في قلوبهم، بل ربما أجرى الدمع من عيونهم؟ إنها أمور من الدنيا فاتتهم، ونعيم من شهواتها لم يصلهم، ومشكلات في حالهم وذاتهم لا تعدوهم إلى غيرهم! عجباً! لمثل هذا الهم والفكر عند مؤمن بالله، ومؤمن بانتهاء الحياة، ومؤمن بالوقوف بين يدي الله، ومؤمن بأن عليه واجباً في دين الله وتجاه دعوة الله وتجاه نصرة دين الله وتجاه التصدي لأعداء الله، فأين همه في دينه؟ وأين همه لأمته؟ وأين همه لدعوته؟ وأين هو من الفاروق عمر رضي الله عنه يوم كشف باله وعظم حزنه وانشغل فكره؟ فقيل له: مالك يا أمير المؤمنين؟! فقال مقالته الشهيرة: (لو أن بغلة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لم لم أسو لها الطريق؟) أتعبت من بعدك يا فاروق! ولا نقول اليوم: إلا إن بيننا وبينك ما بين الثرى والثريا، لم يعد يشغل بالنا مثل هذه الأمور الدقيقة؛ فقد صارت ليس في ذيل القائمة من الاهتمامات بل عدمت ونسخت من الذاكرة، ومحيت من القلوب والنفوس إلا ما رحم الله. هذا أبو هريرة راوي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب الصفة يبكي في مرض موته، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة! وقد نلت شرف الصحبة، وحزت الرتبة العليا في رواية السنة؟ فإذا به يقول: (إنما أبكي لبعد المسافة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إما إلى جنة أو نار)، ذلكم هو الإيمان الحي في القلوب، ذلكم هو اليقين الراسخ في النفوس، تلك هي علوم الإيمان العملية القلبية النفسية، تلك هي الدنيا التي تقزمت وتقلصت وتلاشت حتى كاد ألا يكون لها موضع في القلوب ولا مكان في النفوس. وهذا الضحاك بن مزاحم التابعي الجليل يبكي في يوم من أيامه، فقيل له: (ما بالك تبكي؟ فقال: لا أدري اليوم ما صعد من عملي!) فكل يوم جدير بنا أن نبكي فيه على أنفسنا، فهل ندري ما صعد من أعمالنا؟ ألا نعرف كم في صحائفنا من سواد، ومن كلمات لاغية، وآذان للباطل مصغية، وأقدام لغير مرضاة الله عز وجل ساعية؟ كم يطول همنا وفكرنا لو أننا تدبرنا مثل هذا، وعشنا مع مثل هذه المعاني؟ عجباً لنا! ورسولنا صلى الله عليه وسلم قدوتنا العظمى وأسوتنا المثلى عليه الصلاة والسلام يخبرنا فيقول في دعائه: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)، يقولها عليه الصلاة والسلام وهو الذي ربط حجرين على بطنه من شدة الجوع يوم الأحزاب. يقولها ويدعو بها وهو الذي قالت عائشة عن حالته: (كان يمر الهلالان والثلاثة ما يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار). يقولها صلى الله عليه وسلم وقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي. يقولها وقد نزل عليه الملك فقال: لو شئت أن تدعو فيجعل الله لك الصفا والمروة ذهباً فيقول: (لا، ولكن أطعم يوماً، وأجوع يوماً)، بأبي هو وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حاجتنا إلى التجديد الإيماني

حاجتنا إلى التجديد الإيماني ولو مضينا لوجدنا من ذلك كثيراً، ونحن اليوم في هذا الزمان نحتاج إلى مثل هذا التجديد الإيماني، ليس علماً نقوله ولا قصصاً نرويها، ولكن حياة قلب نحياها ويقظة نفس لا تغفل عن طاعة الله عز وجل، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تروي لنا عجباً من أمر حبيبها صلى الله عليه وسلم فتقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الغيم عُرف في وجهه الكراهة فتعجبت منه أم المؤمنين فقالت: يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وإذا رأيته رأيت في وجهك الكراهة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عذب قوم بالريح، ولقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]).

أثر الإيمان في القلب

أثر الإيمان في القلب انظروا إلى النظر الإيماني كيف يجعل هم الآخرة في القلب، وخوف الله في النفس؟! انظروا إلى مثل هذا الذي رواه أبو بكر رضي الله عنه وقد رأى الشيب في شعر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لصديقه وحبيبه ونبيه: شبت يا رسول الله! فقال: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، و ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ))، و ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)))، قال الشراح: لما جاء في هذه السور من شديد الآيات في أهوال يوم القيامة. نسأل الله عز وجل أن يحيي الإيمان في قلوبنا، وأن يعظم رسوخ اليقين في نفوسنا، وأن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا، وأن يصرفنا عن كل ما لا يحب ويرضى. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية تجديد الإيمان في باب الأشواق والأمنيات، وحال السلف في ذلك

أهمية تجديد الإيمان في باب الأشواق والأمنيات، وحال السلف في ذلك الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تجديد الإيمان تجديده في باب الأشواق والأمنيات، فبأي شيء تتعلق أشواقنا؟ وإلى أي أمر تتوق نفوسنا؟ فكم هي ملذاتنا مرتبطة بشئون دنيانا، في مال وفير، وامرأة حسناء، وذرية كثيرة، وقصور ودور، ومراكب وغيرها! تأمل صورة أخرى يقولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (متع الدنيا ثلاث: إكرام الضيف، والصوم في الصيف، والضرب بالسيف). ويزيدها إغراباً وإبعاداً عن أهل الدنيا وأمنياتهم سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه حين قال: (ما ليلة تهدى إلي فيها عروس أنا لها محب بأحب إلي من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أُصبح فيها العدو). تعلقت القلوب والأمنيات بطاعة الله ومرضاته ونصرة دينه حتى بتنا اليوم نقول: أين تلك الأشواق؟ أين أشواق عبد الله بن رواحة يوم كان في مؤتة ينادي: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها علي إذ لاقيتها ضرابها إنه شوق عجيب إلى الجنان، وقد ترجمه من قبله أنس بن النضر في يوم أحد يوم قال: (واهٍ لريح الجنة؛ إني لأجد ريحها دون أحد). وقدوة الكل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي علمهم وغذاهم وعرفهم وغرس ذلك في قلوبهم ونفوسهم يوم قال: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية قط)، ثم قال: (ولوددت أني قاتلت في سبيل الله فقتلت، ثم أحييت فقتلت، ثم أحييت). رواه البخاري من حديث أبي هريرة. فأي شوق هذا؟! وأي توق هذا؟! وأي أمنيات هذه؟! إنها اليوم يا رسول الله أمنيات إرهابية، إنها اليوم أمنيات مجرمة، إنها اليوم مما يستتر به المسلمون ويخفونه، فلا يكاد أحدهم ينطق بكلمة جهاد ولا شوق إلى استشهاد إلا ما رحم الله. نسأل الله جل وعلا أن يجدد الإيمان في قلوبنا، وأن يعظم اليقين في نفوسنا، وأن يحيي قلوبنا بمعرفته، وأن يشرح صدورنا باليقين به. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم املأ قلوبنا بحبك، ورطب ألسنتنا بذكرك، وثبت أقدامنا على نهجك، واجعل أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدامنا ساعية إلى طاعتك، وجباهنا خاضعة لعظمتك، وألسنتنا لاهجة بالتضرع إليك، وقلوبنا مملوءة بالخشية منك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين! اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم ثبتنا بالقول الثابت يوم يقوم الأشهاد يا رب العالمين! ويا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تصرفنا عن السيئات، وأن تباعد بيننا وبين الشبهات والشهوات، اللهم إنا نسألك أن تعلق قلوبنا بطاعتك ومرضاتك، وأن تجعل ضمأ نفوسنا إلى رضوانك وجنانك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم لا تجعلنا نضل وأنت رجاؤنا، ولا نحرم وأنت أملنا، ولا نخيب وأنت معطينا، برحمتك يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا وسلمنا وإسلامنا وسعة رزقنا ورغد عيشنا، واجعلنا لك شاكرين ذاكرين يا رب العالمين! برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

هيا بنا نؤمن [2]

هيا بنا نؤمن [2] الغفلة عن الله عز وجل هي سبب البلاء؛ إذ الغافل يرتكب الذنوب والمعاصي التي بسببها يحصل فساد البلاد والعباد، وبها تتنزل العقوبات، فيجب على العبد أن يرجع إلى الله عز وجل، وأن يراقبه في السر والعلن، فلا نجاة لأحد في الدنيا والآخرة إلا بذلك.

حقيقة الإيمان وفائدته

حقيقة الإيمان وفائدته الحمد لله، الحمد لله جلت قدرته، وتجلت حكمته، ونفذت مشيئته، وعمت رحمته، وتقدست أسماؤه، وتكاثرت آلاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هيا بنا نؤمن، نداء نعيد ذكره ورفعه، فنحن مؤمنون؛ غير أننا نريد أن نكمل النقص، وأن نقوي الضعف، وأن نعظم الأثر، وأن يكون إيماننا هو ذلك الإيمان الذي غرسه النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه فعمرت بالتقوى، وأشاعه في نفوس أتباعه فنضحت بالخير والهدى. إن الإيمان منبع كل خير، ومصدر كل هداية، وأساس كل إصلاح، إنه نور كل قلب، وطمأنينة كل نفس، ورشد كل عقل، إنه إخلاص كل نية، وصلاح كل عمل، إنه خير الدنيا وفلاح الآخرة، إنه عند كل مؤمن محور وقطب رحى حياته؛ لأجله يعيش، ولأجل نشره والذب عنه يقضي ويضحي، ولأجل نشره والتعريف به يجهد ويبذل. الإيمان في حقيقة أمرنا وحياتنا ومنهجنا الإسلامي هو قضية القضايا، فهو القضية الكبرى التي لأجلها خلق الله الخلق، وخلق السماوات والأرض، وخلق الجنة والنار، وجعل الحساب والثواب والعقاب، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كل ذلك لأجل قضية الإيمان. وقد وقفنا وقفات ماضية مع صور إيمانية نحن في أشد الحاجة إليها وفي أعظم الافتقار إليها في زمن الفتنة والمحنة وغلبة الأهواء واضطراب الآراء، في الزمن الذي تغيرت الأمور، وصار بعض المعروف منكراً وبعض المنكر معروفاً، في الزمن الذي توالت الدعوات في تغيير الشرائع والأحكام حتى وصلت إلى طلب تغيير الأحاديث والآيات! إن هذا أمر في غاية الأهمية، ونحن قد استعرضنا صوراً من فتنة النساء، أو فتنة المال، أو الاهتمامات التي وقعنا في كثير من جواذبها ولا عصمة لنا منها ولا قوة لنا في مواجهتها إلا بالإيمان بالله جل وعلا.

الغفلة وأثرها على الفرد والمجتمع

الغفلة وأثرها على الفرد والمجتمع نمضي اليوم إلى صور أخرى نرى فيها قصوراً ونقصاً، ويظهر من خلالها حاجة ماسة إليها وفقر، إنها الغفلة عن الله، وإظهار الاستغناء عن الله، وعدم الشعور بالضعف والذل والانكسار بين يدي الله، وعدم الشعور الدائم بالحاجة الماسة إلى أن يفضي بهمه وغمه بين يدي مولاه، وعدم الرجوع عند كل خطب وأثناء كل كرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإن المؤمن هو الذي يتوكل على الله، وينيب إليه، ويخلص له، ويستمد منه ذلكم الأمر المهم؛ لأن القلب المؤمن موصول بالله، ولأن اليقين الراسخ في النفس يجعل الثقة لا تعطى إلا لله، والقوة لا تطلب إلا من الله، والنصر لا يستنزل إلا من عند الله، ولأن المؤمن الحق يعرف أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا هدى ولا تقى إلا في منهج الله، ولا صلاح ولا راحة ولا حياة طيبة إلا باتباع شرع الله. إن الأسئلة المهمة التي نرى ضعفها في واقع حياتنا وتجعلنا نتساءل هي: أين الالتجاء إلى الله والدعاء له؟ وأين الافتقار إلى الله والقنوت له؟ وأين الركون إلى الله والقنوت له؟ وأين نحن في واقع الحياة من هذا الأمر، ونحن نرى المؤمنين والمسلمين في كثير من أحوالهم يلتمسون القوة عند أهل الأرض في شرق أو غرب، ويلتمسون العون عند هذا المخلوق أو ذاك؟ كأنما خلت قلوبهم من صلة عظيمة بالله وافتقار شديد إليه، وكأنما لا يستحضرون المعاني الإيمانية التي ضرب الله عز وجل لنا بها المثل في أعظم الخلق وأشرفهم وهم رسله وأنبياؤه، فالرسل والأنبياء مع كل ما آتاهم الله عز وجل ضربوا لنا المثل في أنهم كانوا القدوة في افتقارهم إلى الله؛ فهم الذين صوروا لنا في واقع حياتهم لجوءهم إلى الله، وكثرة دعائهم وتضرعهم وانكسارهم وذلهم وإخباتهم لله، لقد كانت ألسنتهم رطبة بذكر الله، وأيديهم مرفوعة بالدعاء إلى الله، وأعينهم دامعة من خشية الله، وقلوبهم مملوءة بحبه وخوفه سبحانه وتعالى. فهذا نوح عليه السلام تكالب عليه قومه، وحاصروه من كل جانب مع ثلة قليلة من أهل الإيمان كانوا معه، ولكنه كما قال الله عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، وجاء الجواب سريعاً: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12]، فما التمس عوناً من هنا أو هناك، بل كان يعرف القوة ومصدرها والنصر ومنزله فمد يديه إلى الله سبحانه وتعالى. وهكذا نبي الله يونس قال عنه سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وجاء A { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]. وهكذا في قصة أيوب عليه السلام قال سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. وهكذا في قصة زكريا قال عز وجل: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]. وهكذا في قصة يوسف عليه السلام نجد استنجاده واستعصامه بالله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. ففي كل الصور: صور العداء، صور الفتنة، صور الإغراء، صور الفقر، صور الغنى، كان الاستمداد واللجوء والتضرع والابتهال والصلة الدائمة بالله دليلاً على إيمان حي في القلوب، وعلى نور مشرق في النفوس يدفع الإنسان دائماً وأبداً إلى أن يستشعر فقره وضعفه وذله وانكساره وحاجته لله سبحانه وتعالى.

أهمية الرجوع إلى الله عز وجل في جميع الأمور

أهمية الرجوع إلى الله عز وجل في جميع الأمور فكروا أحبتي! وليدر كل في نفسه هذا السؤال وفي خاطره تلك الصور من حياته: كم مرة في يومه، أو في أسبوعه، أو في شهره بل ولا أبالغ إن قلت: في عامه انكسر بين يدي الله، وشعر أنه في شدة الحاجة إليه، وأن ليس عنده ما يفضي به إلى الله؟ فكم نحن في غفلة نلتمس أسباب نجاتنا وعون حياتنا وشفاء أمراضنا من الأسباب البشرية دون أن تتعلق قلوبنا برب البرية سبحانه وتعالى؟ يقول ابن القيم رحمه الله: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به سبحانه وتعالى، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه. إنها نعمة يسوقها الله لمن أحب؛ فيجعله لا يرى أحداً، ولا يتعلق بأحد، ولا يرجو أحداً إلا خالقه ومولاه سبحانه وتعالى؛ لأنه قد ملئ قلبه بهذا الإيمان، واستشعر دائماً من إيمانه أهمية الصلة بربه، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله ويستغفره في كل يوم وليلة مائة مرة. قال الشاعر: فقيراً جئت بابك يا إلهي ولست إلى عبادك بالفقير غنياً عنهم بيقين قلبي وأطمع منك بالفضل الكبير إلهي ما سألت سواك عوناً فحسبي العون من رب قدير إلهي ما سألت سواك هدياً فحسبي الهدي من رب نصير إذا لم أستعن بك يا إلهي فمن عوني سواك ومن مجيري لسان حال المؤمن افتقار إلى الله يستحضر به قول الله جل وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، فلمَ لا نلجأ إلى الله إلا إذا ادلهمت الخطوب، وتوالت الكروب، وعظمت الرزية، وكبرت البلية؟ ولمَ لا تكون القلوب دائماً مفضية إلى خالقها، منيبة إليه، موصولة به، راجية منه؟ ذلك هو حال المؤمن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يشجع كل مؤمن ويحيي هذه المعاني في قلبه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً، حتى يضع فيهما خيراً). رواه الترمذي. لا يخيب من دعا الله، ولا يضل من استهداه ولا يخذل من استنصر بالله سبحانه وتعالى، دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في غير وقت الصلاة فوجد أبا أمامة جالساً، فسأله: (ما لك يا أبا أمامة! في المسجد في غير وقت صلاة؟ فقال: يا رسول الله! هموم لزمتني، وديون أثقلتني، فقال له رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على ما يفرج الهم ويقضي الدين؟ قل: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)، وهذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ورد ذكره واستحسن العلماء أن يذكره المسلم في أذكار صباحه ومسائه، فكم كرب يمر علينا؟ وكم من ظروف وهموم تنزل بنا؟ فهل لجأنا فيها إلى الله؟ إن دعوة ضارعة خاشعة في خلوة وظلمة تسكب في نفسك من الرضا ومن السكينة والطمأنينة ما يذهب همك، ويزيح غمك، ثم يفرج الله عز وجل، فإنه مفرج كل كرب وميسر كل عسير سبحانه وتعالى. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً. إن الله سبحانه وتعالى بيده مفاتيح كل شيء، بيده الخلق والأمر، فما بالنا نغفل عن هذا ولا نجعل إيماننا دافعاً لأن نستحضر هذا المعنى بكل ما جاءت به الآيات وما وردت به الأحاديث؟ قال عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، فمن يملك الملك حتى يعطيك؟ ومن يملك العز حتى يعزك؟ فما بالنا قد التجأنا إلى أسباب الدنيا وركنا إليها، واعتمدنا عليها كأن لا إيمان في القلوب ولا يقين؟ فكم نحن بحاجة إلى مثل هذا المعنى الذي تجلى دائماً وأبداً في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي حياة أصحابه، وأسلافنا من المؤمنين إلى يومنا هذا عندما جعلوا قلوبهم معلقة بالله سبحانه وتعالى!

علاج أحوال الأمة والأفراد في الإيمان بالله عز وجل

علاج أحوال الأمة والأفراد في الإيمان بالله عز وجل هناك صورة أخرى من صورنا المحزنة المؤلمة التي علاجها جزماً وقطعاً في هذا الإيمان وروائه ونوره وإشراقه وآثاره: كم نرى صوراً فيها القلوب متنافرة، والنفوس متشاحنة، والصفوف متخالفة؟ كم نرى الخلاف وهو شائع، والاعتداء وهو ذائع؟ كم نرى صوراً من القتل باسم الإسلام يحصل؟ كم نرى صوراً من التدمير بدعوى الإصلاح تقع؟ كم نحن في حاجة إلى أن نؤكد معنى الإيمان الأعظم ودلالته الكبرى في أخوة القلوب واتحاد النفوس وارتباط الصفوف وتكاتف المؤمنين؟ كم نحن في حاجة إلى أخوة الإيمان وعصمة الإسلام؟ كم نتساءل اليوم: أين القلوب المتآخية؟ وأين النفوس المتصافية؟ وأين الرحمة الغامرة؟ وأين المودة العامرة؟ وأين نحن من قول الله جل وعلا: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]؟ وأين نحن من قوله جل وعلا في وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. وأين نحن من القصر الذي يتضح من قوله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]؟ لا يكون إيمان كامل إلا بأخوة صادقة، ولا تقوم أخوة حقيقية إلا على إيمان صادق. أين نحن من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله)؟ وأين المعنى المتجلي في الصورة العظيمة الفريدة التي لم يسطر تاريخ البشرية مثلها أبداً، صورة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؟ فالمهاجرون تركوا ديارهم فنزلوا على قلوب إخوانهم قبل أن ينزلوا في دورهم، إنها صورة تجلت في آيات القرآن، كما في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، فهل رأت الدنيا صورة من الوحدة والألفة والمحبة مثلما كان بين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرون وأنصار، وأوس وخزرج، وفرس وروم وأحباش، كلهم إخوة مؤمنون تربطهم رابطة الإيمان، ومحبة تتدفق من القلوب، ومودة تشيع في النفوس، وأكف بعضها بأيدي بعض، ليس بينهم اختلاف ولا شحناء ولا بغضاء، ذلك هو داعي الإيمان الذي يدعونا ويجعل المؤمن عندنا والمسلم أولى أحد نحبه ونواليه، ونسأل عن حاله، وننصره وندعو له، ونهتم لهمه ونغتم لغمه، وندفع عنه بقدر استطاعتنا وجهدنا وطاقتنا.

تحريم أذية المسلم والإضرار به

تحريم أذية المسلم والإضرار به إن أمر المؤمن عظيم، وإن الإضرار به وإلحاق الأذى به صغيراً كان أو كبيراً أمر خطير وعظيم في الإسلام؛ ألم نسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإن ذلك يحزنه)؟ أي: أن مجرد هذا الفعل البسيط بأن تهمس لأخ لك دون الثالث الذي ليس في المجلس غيره قد يدور في ذهنه أن الكلام عليه، فيدخل حزناً في قلبه، ولذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ونبه إلى أهمية مراعاة مشاعر أخيك المؤمن وعدم فعل أي شيء يحزنه أو يغضبه، في الحق وبموافقة الشرع، فإذا زاد الأمر فإن الخطب عظيم، كما روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى مسلم بحديدته فهو يتوجأ بها في نار جهنم إلى يوم القيامة)، هذا بمجرد الإشارة، فكيف بنا ونحن تتجدد في بلادنا وفي بلاد المسلمين أفعال من القتل والتدمير والأسلحة الكثيفة الكثيرة التي أعدت لتحصد أرواح مؤمنين، وتدمر ممتلكات مسلمين، وتثير الرعب في أهل الإيمان والإسلام، وتجعل الضغينة والأحقاد هي العلائق والصلات بين المجتمع المسلم! أين هذا من الإيمان؟! وأين هذا من حقائق الإسلام وتشريعاته؟! وأين هو من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإن هم فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى)، هذه صور هي من حقيقة إيماننا، وليست قضية إرهاب ذكره لنا الساسة وشاع بين العالم، بل هذه هي حقائق أخوة الإيمان؛ فبمجرد هذه الإشارة بالحديدة أو الإخافة للمسلم يأتيك وعيد شديد وخطر عظيم، بل قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل إلى مسجد ومعه سهام فليأخذ بنصالها)، أي: لا يجعل السهم موجهاً للناس وإن كان سائراً لا يقصد لهم أذىً، فكيف بإهراق دم مسلم؟ نسال الله عز وجل السلامة. وقد مرت بنا أحاديث كثيرة في هذا المعنى إلا أن تجدد الأحداث يعيد إلينا حقائق الأحكام التشريعية الإسلامية وضوابطها التي تعظم حرمة المسلم والتي تعظم وحدة المسلمين وأخوتهم.

وجوب التكاتف مع إخواننا المسلمين في فلسطين

وجوب التكاتف مع إخواننا المسلمين في فلسطين ومن جهة أخرى ننظر إلى هذا المعنى في حدث أيضاً مهم، أحسب أن كثيراً من الناس لم يلتفت إليه، ولم يسترع انتباهه، من دواعي هذه الأخوة الإيمانية ومن أثار الإيمان ودلائله: أن نهتم بأمر كل مسلم في شرق الأرض وغربها، وأن ندعو له، وأن نتذكر حاله، وأن نستشعر كربه، وأن نمده ونعينه بما نستطيع، فهل لا يوجد في أهل الإسلام من يحل به كرب أو يحيط به خطب أو يقع عليه اعتداء؟ إن ذلك يقع لا أقول: في كل يوم بل في كل لحظة وساعة، فأين نحن من حبال الود الإيمانية والرابطة الإسلامية ولو استشعاراً بالقلوب وتأثراً في النفوس؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم رأى قوماً من مضر دخلوا المسجد وعليهم علائم الفقر وثيابهم مرقعة تمعر وجهه صلى الله عليه وسلم -أي: تغير حزناً على حالهم وتأثراً بمنظرهم- ثم دعا الناس لعونهم ولإغاثتهم، فتجمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة من شدة فرحه بهذا المنظر الذي فيه التكافل والتكامل والتعاضد الذي جسد قلوباً مؤمنة حية وأخوة صادقة عملية، فأين نحن اليوم من هذا؟ وأين نحن من أحوال إخواننا المسلمين في أرض فلسطين؟ وإن الحدث الجلل تقترب ساعته وتتوالى أحداثه، إنه حدث وخطب جلل من اعتداء قريب على المسجد الأقصى تنادى إليه من يسمونهم هم بأنفسهم المتطرفين من اليهود عليهم لعائن الله، فإنهم يتجمعون في يوم الأحد بعد غد ليقتحموا المسجد الأقصى وساحاته، ويتنادى أهل فلسطين في أرض القدس وفي الأراضي التي يستطيعون فيها الوصول إلى المسجد الأقصى لكي يكونوا فيه هناك على مدى أيام ثلاثة ليلاً ونهاراً؛ ليذودوا عنه، أفلا يستحقون أن نتذكرهم، وأن نتذكر مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نغتم لذلك ونحزن، كما أبى صلاح الدين رحمه الله أن يتبسم والمسجد الأقصى في قبضة النصارى في عهده؟ ألا يستحق ذلك منا أن نتابع وأن نهتم وأن نعرف أن القضية خطيرة؟ لأن إخواننا في أرض فلسطين ممنوعون من دخول المسجد الأقصى منذ أربع سنوات، فمنذ انطلاق انتفاضة الأقصى أهل غزة وأهل الضفة لا يستطيعون الوصول إلى المسجد والصلاة فيه، أليس هذا هو مقتضى الإيمان؟ فليس الإيمان كلمات تقال فحسب، وليس هو مجرد صلاة وصيام وأذكار وتلاوات فحسب، بل هو هذه الروح الإيمانية التي تتجاوز الحدود، وتتجاوز الأعراف والقوانين الدولية؛ لتكرس الأخوة الإيمانية.

واقع شباب الأمة المحزن في ظل هذه الأوضاع

واقع شباب الأمة المحزن في ظل هذه الأوضاع ويحزنني -وأظنه يحزن كل مؤمن منكم- أننا في هذا الوقت بالذات ومع هذا الخطب بالذات تطالعنا صحف هذا اليوم بقضية تشير إلى أنها موضع اهتمام كبير، وأنها موضع اهتمام الشباب والشابات في المدارس والجامعات والكليات، وأنهم يوصي بعضهم بعضاً، وأنهم يتحفزون ويحتشدون ويتجمعون؛ لكي يقوموا بمهمة عظيمة، يا ترى ما هي؟! إنها مهمة التصويت لإنجاح مشارك في برنامج الغناء المعروف: استار أكاديمي!! أين نحن من هذا الذي يجري في واقع أمتنا، وذاك الذي يريد أن يصرفها عن كل أمر مهم، وعن كل قضية عظيمة، وعن كل مسألة ينبغي أن تهتم وتغتم وتنشغل بها قلوب المؤمنين، ويتدارسونها فيما بينهم؟ عجبت لذلك ولا عجب في مثل هذا الأمر الذي يجمع النقائض ويؤكد لنا مرة ثانية وثالثة أننا بحاجة إلى هذا النداء: هيا بنا نؤمن، وأننا بحاجة إلى أن نجدد نداء بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: تعال بنا نؤمن ساعة. نسأل الله عز وجل أن يحيي الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية الخشوع الإيماني

أهمية الخشوع الإيماني الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وإن من تقوى الله تجديد الإيمان وإحياؤه في القلوب؛ حتى تُعمر هذه القلوب بتقوى الله سبحانه وتعالى، وإن الصور التي نجد فيها المفارقات الإيمانية بين ما هو مطلوب منشود وما هو واقع محزن كثيرة. ولعلي أختم هذا المقام بقضية مهمة خطيرة لا تقل خطراً عن كل ما ذكرناه، وهي متعلقة بالإيمان وحياته في القلب، تلكم هي الصفة المهمة: صفة الخشوع الإيماني، فالقلوب الخاشعة تتبعها العيون الدامعة والجباة الخاضعة والألسن الضارعة، إن أمراً يملأ قلب المؤمن بهذا الإيمان يجعله دائماً يستحضر عظمة ربه جل وعلا، ويستحضر خوفه، ويستحضر تعظيمه وإجلاله وتقديره سبحانه وتعالى كما ينبغي، قال عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]. إن هذا أمر مهم؛ لأنه يتعلق بصلواتنا اليومية وفريضتنا الثانية بعد التوحيد والشهادة، هذه الصلاة التي جوهرها الخشوع تدعونا اليوم -ونحن نعرف حالنا، ولا نحتاج أن نكشف أو نهتك سترنا- إلى أن نسأل: أين القلوب الخاشعة؟ تلك القلوب التي يصفها ابن القيم رحمه الله فيقول: الخاشع لله عبد، قد خمدت نيران شهوته، وسكن دخانها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نور العظمة، فماتت شهواته، وصار مخبتاً لربه، والله جل وعلا يقول في وصف المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، فجعل ذلك الوصف أول الأوصاف؛ لأنه يتعلق بأعظم العبادات، ويتعلق بالجوهر العظيم في هذه العبادة، وروى الطبراني في معجمه الكبير بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعاً). إنه أمر لو تدبرناه وكنا صرحاء لقلنا عن حالنا: إننا نصلي وقلوبنا لاهية، وعقولنا منشغلة، وأجسادنا خاوية من حقيقة استحضار عظمة من نقف بين يديه، قال بعض السلف كلاماً نفيساً أحسب أننا لو تأملنا فيه فقد يزيد حزننا؛ لكننا نحتاج إلى ذلك، قال: الصلاة كجارية تهدى إلى ملك، فما الظن بمن يُهدى إليه جارية شلاء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد أو الرجل، أو مريضة، أو دميمة، أو قبيحة حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح؟ فكيف بالصلاة يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى؟ والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها.

الخشوع جوهر الصلاة

الخشوع جوهر الصلاة إن الخشوع جوهر هذه الصلاة التي يحصل بها حقيقتها وجوهرها، كما روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن في وقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه). وفي حديث عند البخاري وغيره جدير بأن نطبقه، وأن نبحث عن الخلل الكبير الذي سنكتشفه عند تطبيقه، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه -وفي رواية: لا يحدث فيهما نفسه- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، إنهما ركعتان جرب صلهما وحاول ألا يكون فيهما خاطر ولا فكر ولا انشغال بغير الصلاة وما فيها مع استحضار عظمة من تناجيه بها؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي ويسمع لصوته أزيز كأزيز المرجل من خشوعه وبكائه صلى الله عليه وسلم. وأبو بكر لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤم الناس قالت عائشة: (يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف إذا صلى بكى، فبكى الناس لبكائه). وروى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن الفاروق رضي الله عنه بكى في صلاة الفجر حتى سمع بكاؤه من وراء الصفوف). وهكذا سنجد الأمثلة كثيرة، فكم نحن في حاجة إلى إحياء الإيمان؛ لتحيا قلوبنا، ونخشع في صلاتنا؟ وكم هي الأمور كثيرة؟ وكم هي حاجتنا إلى هذا النداء عظيمة؟ فهيا بنا نؤمن، وهيا بنا نجدد إيماننا، وهيا بنا نتواصى بقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا. اللهم عظم إيماننا، ورسخ يقيننا، واملأ قلوبنا بحبك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واشغل جوارحنا بطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا اللهم ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين. اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في أرض العراق وفي أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم احفظ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، اللهم نجه وسلمه من اليهود المجرمين المعتدين. اللهم هيئ لإخواننا في أرض الإسراء من أمرهم رشداً، اللهم اربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، واجعلهم للحق ناصرين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! وحد اللهم كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه. اللهم أدم عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها، وسعة رزقها برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين عن بلاد الإسلام والمسلمين. اللهم احفظ دماء المسلمين، واحفظ اللهم أعراضهم، اللهم واحقن دماءهم، واصرف عنهم الشر والبلاء والأذى وكيد الأعداء يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

هيا بنا نؤمن [3]

هيا بنا نؤمن [3] الأمانة أمرها عظيم، وشأنها كبير، ولهذا أبت السماوات والأرض والجبال أن تحملها، وحملها الإنسان لظلمه وجهله، فيجب على الإنسان أن يؤدي الأمانة، وليحذر كل الحذر من الخيانة؛ فإنها بئس الضجيع، صفة من صفات المنافقين والعياذ بالله!

الأمانة بين النظرية والتطبيق

الأمانة بين النظرية والتطبيق الحمد لله، الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وعم نواله، وكثر عطاؤه، وتقدست صفاته وأسماؤه، له الحمد سبحانه وتعالى جعل الأمانة قرينة الإيمان، وجعل الاستقامة شقيقة الإسلام، أحمده سبحانه وتعالى على ما أفاض من النعم وما صرف ووقى من الشرور والنقم، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! هيا بنا نؤمن، نداء يتجدد؛ لأن فيه علاج كل مشكلات الحياة، وفيه صلاح كل أمور الأحياء، وفيه طهارة القلب وزكاة النفس ورشد العقل واستقامة الجوارح وحسن الصِلاة، وكل خير نبحث عنه فإنا واجدوه فيه، وكل شر نتأذى منه فإنا واجدون السلامة منه في هذا الإيمان وعصمته وحمايته ووقايته. زارني شاب من رجال الأعمال، في واقعة أحسب أنكم تدركون أنها تتكرر كثيراً؛ غير أن جزءاً منها هو النادر الذي يكاد أن يختفي، لقد جاء سائلاً عن شركة يملكها تقدم عرضاً في موضوع مهم يعم البلاد كلها، والفوز به يعني الفوز بالملايين من الريالات، وعنده من الإنجاز في ذلك ما هو مستحق أن يكون صاحب العقد، وعندما التقى مع من بيده ترتيب هذا الأمر كان الأمر في مبدئه تلميحاً ثم صار تصريحاً: إن فريق العمل يحتاج إلى عونك ودعمك، ثم لم يكن ذلك فحسب، بل كان الأمر في صراحة -وإن شئت قل: في بجاحة- إن المطلوب لكل فرد مبلغ محدد وهو كذا وكذا، ليس عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الريالات، وإن ذلك سيكون تمهيداً لإنهاء الأمر ورسو العقد وغير ذلك! جاء هذا الرجل وفي قلبه إيمان، وفي نفسه زكاة، وهو يقول: في النفس من هذا شيء؛ والحرمة فيه بادية؛ لأن هناك منافسين قد سبق وأن أعطوا هذه الأموال، وهو أحق منهم بحسب ما عنده من الإنجاز، وعندما أوضحت له أن الأمر فيه وضوح في الحرمة وأدنى درجاته أن يكون عالي الرتبة في الشبهة وفي الكراهة أجاب: بأنه قد وطَّن نفسه على ترك كل شيء مما حرم الله، وعزم على ذلك أمره، وقال به، ووقف عنده. الشق الأول أحسب أنكم ستقولون: بماذا جئت؟ فإن عندنا عشرات ومئات من القصص التي لا تجيز أمراً ولا تبرم عقداً حتى تدخل إلى بطونها سحتاً، غير أن الشق الآخر هو الأقل الأدنى الذي قل فيه من يتورع عن الحرام، ويتوقف عن مصلحة دنيوية ظاهرة رعاية وحفاظاً على مصلحة أخروية أعظم وأبقى، وذلكم ما أحسب أنه مظهر جلي ودليل واضح على وجود قوة وحيوية الإيمان، أو على ضعفه وذهاب أثره وغياب حقيقته. وهنا نداء إيماني جاء بالنهي عن مخالفة الأمانة؛ لأن ذلك يعارض حقيقة الإيمان، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]، إنه نداء لأهل الإيمان إن بقي في قلوبهم إيمان، ففي قوله سبحانه: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال:27] اقتران خيانة الله وخيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيانة الأمانة، وفي ذلك تعظيم لشأنها ودليل على علو رتبتها وعلى قوة وشدة صلتها بالإيمان بالله جل وعلا. ونحن نعلم أنه ما من أحد إلا وفي علمه بشرع الله وفيما يجيش في نفسه أثر يدل على حرمة ما يقترف من معصية الله.

الأمانة من صفات المؤمنين والخيانة من صفات المنافقين

الأمانة من صفات المؤمنين والخيانة من صفات المنافقين قال السعدي رحمة الله في تفسيره: فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائناً لله وللرسول ولأمانته ومنتقصاً لنفسه؛ لكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات. أي: صفة الخيانة. ثم قال: فلما كان العبد ممتحناً بأمواله وأولاده فربما حمله محبته ذلك على تقديم هوى نفسه على أداء أمانته. أي: أن رعايته ومحبته لأهله وأولاده وماله وثرائه مما يجعله يميل بهواه فيغلب إيمانه، ويطمس بصيرة يقينه، فينطلق إلى لعاعة الدنيا، وإلى ثرائها ومظاهرها وشهواتها وفتنتها، وهو يئد الإيمان في قلبه، ويطفئ إشراقة اليقين في نفسه، وهو يضعف أثر إيمانه، كما أشار إلى ذلك أهل العلم في مثل هذا المعنى، ولو تأملنا لوجدنا اقتران الإيمان بالأمانة جلياً واضحاً فيما أورده الحق جل وعلا من صفات المؤمنين، فلم تقتصر الصفات على صلاة خاشعة ولا على زكاة مؤداة ولا على حفظ للفروج فحسب، بل جاء في الصفات قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، أي: يحافظون عليها، ويقومون بحقها، ويراقبون الله فيها، ويخشون الله جل وعلا من خيانتها، وهذا يدل على أنهم أهل إيمان، ولذا استحقوا صفة الإيمان، ووصفوا بصفة الإيمان؛ لأنهم: (لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، وأما الذين هم لأماناتهم وعهدهم خائنون فقد سلبت منهم هذه الصفات الرفيعة السامية، ونالهم من كدر أضدادها وصفات المنافقين من غير المؤمنين ما نالهم، كما في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، أفيرضى مثل هذا الإنسان أن يكون متصفاً بصفة نفاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، ومن كانت فيه تلك الخصال كان منافقاً خالصاً).

معنى الأمانة

معنى الأمانة قال القرطبي في معنى الأمانة: والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً وفعلاً. فهو أمانة في عنقك وعهد من الله بينك وبين الله لا ينبغي إخلافه ولا نقضه. وقال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: كل ما استودعك الله وأمرك بحفظه فيدخل في هذه الأمانة، ويدخل فيها حفظ جوارحك عن كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما اؤتمنت عليه من حقوق الناس.

حكم خائن الأمانة

حكم خائن الأمانة وتأملوا من بعد هذا الحديث العظيم الذي فيه صراحة ووضوح في لفظه من رواية أنس عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه بسند صحيح. أي: لا يكمل إيمانه، ولا يصدق إيمانه، ولا تتجلى ولا تظهر آثار إيمانه، فذلك الذي خان أمانته، وذلك الذي أكل الحرام، وذلك الذي ضيع المسئولية، وذلك الذي ظلم فنحى صاحب الحق وقدم غيره لمصلحته، وذلك الذي أشاع الفساد في المجتمع بتضييعه للأمانة، وذلك الذي جعل الحقوق ضائعة وجعل الأمانة مهدرة، إن فعله ليس مقتصراً على أنه أخذ مالاً في جيبه من سحت أو حرام، بل إنه في حقيقة الأمر يفسد في الأرض فساداً عظيماً، ويورث ويوجد في النفوس وفي القلوب قبل الأحوال والأفعال والأقوال فساداً خطيراً وانحرافاً عظيماً وشراً مستطيراً وبلاءً يخشى على الناس جميعاً من آثاره وعقوبته الربانية. فحديث: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) قائله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فإن رأيت مضيعاً للأمانة فاعلم ما قاله أهل العلم في ذلك، وما بينوه في حقيقته فإن في ذلك أموراً كثيرة، والأمر بهذه الأمانة ظاهر جلي واضح مرتبط بالإيمان في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58].

ضياع الأمانة من علامات الساعة

ضياع الأمانة من علامات الساعة فانتبه لهذه المعاني، وتأمل ذلك الحديث النبوي الذي أخرجه البخاري وغيره عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه، فجاء رجل من الأعراب والرسول ماض في حديثه، فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقال بعض الصحابة: فكأنما كره قوله، وقال بعضهم: كره أن يقطع حديثه، فلما فرغ من حديثه قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فتلك إضاعتها). وفي لفظ ورواية عند البخاري: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله). عجباً! أنّا لا نلتفت إلى الخطر المحدق بنا وإلى الآيات والعلامات الدالة على قرب القيامة ووجود آخر الزمان، مع أن الناس قد شغلوا بأمور أخرى من هذا في شأن بعض الصفات والأوصاف والمعارك وغيرها، ولم يلتفتوا إلى المعاني، فضياع الأمانة دلالة من دلالات آخر الزمان كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فعجباً لنا ونحن لا نلتفت إلى هذا! قال ابن بطال في شرح الحديث: إن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله إياها. وروى البخاري في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه في شأن الأمانة وضياعها وغيابها، وهو حديث طويل جاء فيه: (فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أظرفه! ما أعقله! ما أجلده! وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان)، أليس مثل هذا الوصف يصدق في أحوال كثير وكثير من بلادنا ومجتمعاتنا الإسلامية؟ ألسنا اليوم نتبايع فلا يكاد أحد يأمن أحداً في وفائه وأمانته وصدقه وبره وإنصافه؟ ألسنا اليوم قد نبحث عن الأمناء فلا نكاد نحصي إلا الواحد أو الاثنين في الفئام من الناس أو في القبيلة أو في القوم؟ أليس هذا الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً في المدح والثناء على من ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وتجده قد ضيع الأمانة، وأخذ حقوق الناس، وانتهب أموالهم، واستباح ما حرم عليه من حقوقهم، وضيع أماناتهم؟ ومع ذلك هو المشار إليه بالبنان، الممدوح بعظيم الصفات على كل لسان، أليس ذلك دليلاً على خلل كبير في الإيمان لا يخص أفراداً بأعيانهم بل يعم أحوالنا ومجتمعاتنا إلا ما رحم الله ومن رحم الله؟ نسأل الله عز وجل أن يرحمنا. قال ابن التين في هذا الحديث: الأمانة: كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله. فالآخذ للرشوة والقابل للهدية المغموسة بالحرام يحتاط لنفسه، ويجعل الأمر في أشد صور الخفاء، ولا يجعل هناك وثيقة تدينه، ويحسب لكل قضية حسابها، ويضيع حساب الأمر الأعظم، وهو أن الله مطلع عليه وعالم به وكاتب عليه كل صغيرة وكبيرة من أقواله وأعماله، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتصب قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من صاحبه، فأقضي له بنحو مما أسمع -أي: يقدم بينات ويقدم أقوالاً يكون الحكم فيها لصالحه وهو على غير حق- فمن اقتطعت له شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار، فليأخذ أو ليدع)، فكل ريال تأخذه حراماً فهو قطعة من جنهم، وإن رشيت به فقبلت به فاستكثر؛ فإنما تستكثر -والعياذ بالله- سيئات مضاعفة، وإنما تستكثر عذاباً منتظراً، نسأل الله عز وجل السلامة. كم في واقع حياتنا وفي واقع حياة كل فرد منا شبهات في معاملاته المالية! فهل توقف عندها، وتحرى فيها؟ وهل راقب الله جل وعلا فترك عرض الدنيا وزينتها وزخرفها إيثاراً للآخرة الأبقى والأعظم جزاءً وثواباً أم أن الإيمان قد ضعف حتى صار أمر الآخرة ونعيمها نسياً منسياً، وأمر الدنيا وزخرفها هو الذي ملأ القلوب والعقول والأبصار فلا تسمع إلا ما يرغب فيها، ولا تقول إلا ما يؤدي إليها، ولا ترغب إلا فيما يزيد منها؟

الصلة بين الأمانة والإيمان

الصلة بين الأمانة والإيمان عجباً لنا! وكأن ذلك في حسنا ليس له صلة بإيماننا، ولا بمراتبنا عند ربنا وقد نكون في الصفوف الأولى في المساجد، وقد ندمن شيئاً من تلاوة القرآن، وكل ذلك خير، لكن الذي يجعلنا مستقيمين في المعاملات وتمحيص التوجهات ومخالفة الآراء والأهواء والشهوات ومعارضة المغريات والملذات ذلكم هو الإيمان الحق الذي يذكر لنا ابن العربي في شأنه أمراً عجيباً فيقول: الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان حتى إذا تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب. وهذا من فقه علمائنا رحمهم الله، ولذلك قال بعض أهل العلم: الأمانة هي عين الإيمان. فإذا ضعفت الأمانة فقد ضعف الإيمان، كما ذكر أهل العلم.

مطالبة الأمانة بحقها يوم القيامة

مطالبة الأمانة بحقها يوم القيامة وهذا حديث آخر من الأحاديث العظيمة رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة وهو مما أحسب أنه لا يندرج على ألسنة الناس، ولا يكاد يحفظه كثير منهم، وهو في حديث الشفاعة وفي حديث الفصل بين الناس يوم القيامة، وفي أوله طول في ذهاب الناس إلى آدم وإلى إبراهيم وإلى موسى عليهم السلام جميعاً، ثم انتهاؤهم إلى سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فيقوم إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى، قال حذيفة في حديثه في شأن استفتاح الجنة: (فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيستأذن، فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم فتقومان على جنبتي الصراط) أي: على جانبيه، ثم ذكر بقية الحديث وفيه: (فمن الناس من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطير)، ثم قال في آخر الحديث: (ومنهم من لا يمضي إلا زحفاً). والنووي رحمه الله في شأن كون الأمانة والرحم على جنبتي الصراط قال: لعظم أمرهما، وكبر موقعهما، فيصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله. ونقل عن صاحب (التحرير) قوله: في الكلام اختصار، والسامع فهم أنهما تقومان -أي: في هذا المقام- لتطالبا كل من يريد الجواز بحقهما. أي: أن كل من يريد أن يمضي على الصراط تأتيه الأمانة أولاً فتطالب بحقها، والرحم تطالب بحقها فإن كان مؤدياً لحقهما كان من أسباب سرعة جوازه على الصراط، فالأمانة المضيعة اليوم تلقاك يوم القيامة على الصراط، فهل أنت قادر يومها على أن تجوز الصراط وقد فرطت في الأمانة وخنتها، وضيعت إيمانك، وأضعفته، وأذهبت أثره، وجعلته وراء ظهرك؟ أليس كل هذا مما جاء في كتاب الله ومما ورد في سنة رسول الله؟

الصحابة رضي الله عنهم وأداء الأمانة

الصحابة رضي الله عنهم وأداء الأمانة ألسنا نذكر ذلك الموقف العجيب الفريد يوم فتح الله على المؤمنين والمسلمين في معركة القادسية على يد سعد بن أبي وقاص، ولما انتهى الفتح أخذ سعد ما في إيوان كسرى -أي: مكان قصره وملكه- من الذهب والجواهر وتاج كسرى المرصع بكل ما هو غالٍ وثمين، فجعله في أشولة، وأعطاها لأعرابي أو لرجل من عرب المسلمين لم يذكر التاريخ اسمه، ولم يعرف الناس نسبه، وأمره أن يمضي إلى المدينة من ذلك المكان البعيد؛ ليبلغ عمر بن الخطاب بخبر الفتح والنصر الإسلامي، ويعطيه ما في إيوان كسرى من الذهب والفضة والحلي والتاج، فذهب الأعرابي، ولم يقيد عليه ما استلمه، ولم يكن هناك جرد لما سلم له، ولم تكن الأختام موجودة، ولم تكن أجهزة الحاسوب راصدة، لكن رقابة الله في القلب حية، لكن أمانة الإيمان في النفس يقظة مؤثرة، فمضى الأعرابي يجر بعيره وعلى ظهره ثروة تطيش لأجلها ولأجل عشرها عقول كثير من ضعاف الإيمان، لكنه لم ينظر إليها، ولم يلتفت إليها، وربما ما علم بها، ووصل إلى المدينة، ووقف بين يدي الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن سعداً يقرئك السلام، ويبشرك بنصر الله لأهل الإسلام، وهذا تاج كسرى وإيوانه، فطأطأ عمر رأسه متأثراً قائلاً: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء). فجاء التعقيب -كما ورد في بعض روايات التاريخ-: عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا. فقد كان عمر رضي الله عنه يحاسب نفسه وأهله على أقل القليل. ويوم تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة مضى من يومه يريد أن يعمل ويتكسب من تجارته، فقالوا: قد وليت أمرنا فافرغ لنا، فقال: (قوتي وقوت عيالي)، قالوا: نفرض لك من بيت مال المسلمين، فقدر لنفسه أقل القليل من طعام وشراب فحسب، وليس خزائن مفتوحة ليس لها حصر ولا عد، وليس مالاً سائباً لا يسأل عنه أحد، بل كان فعله وفعل غيره من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيه مراقبة لله وأداء للأمانة. إن صوراً من تضييع الإيمان وضعفه تتجلى في حياتنا كثيراً، وتتجلى في ضعف خوف الله، وقلة مراقبة الله، وضعف الحياء من الله، وضعف الأمانة في أداء حقوق الله وحقوق عباد الله، فالله الله في إيمانكم! فإنه ليس محصوراً في صلاتكم وزكاتكم وتلاوتكم ودعائكم، بل هو في سائر جوانب حياتكم. نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا، وأن يجعلنا من المراقبين له والمستحيين منه والمؤدين لأمانته. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب التحرز في الكسب

وجوب التحرز في الكسب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى: البعد عن الحرام، وأداء الأمانة، والتنزه عن كل ما فيه خيانتها وتضييعها. وكنت قد طالعت قبل مجيء هذا الرجل بالأمس قراراً ونظاماً حول هذا الأمر أقر بعضه مجلس الشورى، ويدرس بعضه الآخر، وعزمت أن أجعله حديثاً في جمعتنا هذه، فجاءت قصة الرجل تدفعني إليه دفعاً، وتؤملني وتدخل في نفسي سروراً أنه ما زال فينا من يخاف الله، ويترك عرض الدنيا الملوث بالحرام ابتغاء مرضاة الله، ويريد ألا يدخل إلى جيبه وكسبه شيئاً من الحرام؛ لأنه إنما يأخذ في هذه الحالة ناراً، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به). فرحت أن يكون فينا ومنا من يحيي معاني هذه الإيمانيات، ونحن بحاجة إلى ذلك، وما حديثنا هذا لكي نستمع إلى هذه الكلمات، ونظن أن المقصود بها من يتولون المناصب العليا أو الكبرى فحسب، بل الحقيقة أن كل فرد منا عنده ضروب من الأمانات قد يخونها ويضيعها، وعديد من المواقف التي لا يستحضر فيها عظمة الله ولا مراقبة الله جل وعلا.

بعض الأنظمة البشرية في مكافحة الخيانة

بعض الأنظمة البشرية في مكافحة الخيانة وهنا وقفة قصيرة لنرى كيف تكون المشكلات إذا ضعف الإيمان، وبالتالي ضاعت الأمانة، فقد وضع نظام كامل اسمه: الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والرشوة، ثم هناك مشروع نظام يدرس اسمه: نظام مكافحة الاعتداء على المال العام وسوء استعمال السلطة، لم؟ لأن الأمر قد اتسع خرقه على الراقع، فاحتجنا إلى مثل هذا، وفي هذا النظام أن ثمة أمر ملكي سابق صادر بهذا الخصوص عما يأخذه المسئول من الأموال وضرورة محاسبته وسؤاله عنه، والعجب أن هذا الأمر صادر في عام (1382هـ)، أي: قد تجاوز ثلاثين عاماً، ولكنه غائب مغيب في حياة الناس إلا ما رحم الله. ثم يقول في نصوص هذا النظام أو بعض فقراته: إلزام كل من يشغل وظيفة قيادية تنفيذية في الجهاز الحكومي وكذا المسئولين في الشركات المساهمة التي تساهم فيها الدولة بالتصريح عن ممتلكاتهم المنقولة والثابتة وأفراد أسرهم -أي: قبل تولي الوظيفة- حتى لا يدخل إليها وهو قليل المال ويخرج منها وهو كثير المال. ومن الأنظمة كذلك: تقليص التعامل بالنقد في المسئوليات الحكومية والعامة، ووضع قواعد لتنظيم الهدايا والإكراميات حتى لا تعتبر صوراً من الرشوة والإغراء، وفي ذلك حديث ابن اللتبية رضي الله عنه عند البخاري وغيره في الصحيح: (أنه كان جابياً للزكاة، فجاء عن حسن نية وعدم معرفة بالحكم فقال: يا رسول الله! هذا لكم -أي: الزكاة التي جبيتها- وهذا أهدي إلي) أراد أن يبرز ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس خطيباً فقال: (ما بال أقوام يقولون: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ أفلا قعد في بيت أبيه وبيت أمه حتى يهدى إليه؟!)، فما سبب هذه الهدية لو لم تكن في هذه الوظيفة؟ ولو كنت في بيتك هل سيأتي إليك أحد ويهديك؟ وهل يهديك لأجل سواد عينيك؟ إنه إنما يهديك لمصلحته، وذلك ظاهر، وهذه هي الضوابط المهمة في شرعنا وفي هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم. وفي هذا النظام أيضاً وضع معايير لاختيار القيادات الإدارية حتى تختار على أساس من الكفاءة وتطبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك أنظمة تفصيلية كثيرة منها: إيجاد أجهزة رقابية مالية، ومنها: التعاون الدولي في هذه الشئون، وأخذ الأنظمة والاستفادة منها، وكل ذلك حسن، لكن الأحسن منه والأعظم تأثيراً هو أن نكون مؤمنين صادقين ومسلمين مخلصين، فإننا لو زرعنا الإيمان وأحييناه في القلوب لاستغنينا عن كثير من كل هذه الأنظمة ولما كنا في حاجة إليها؛ لأنه إذا وجد الإيمان في القلب ورقابة الله عز وجل فأي شيء يمكن أن يضبط الإنسان غير هذا؟ وشواهد التاريخ وأحداث الواقع دليل على ذلك. ومن هنا جاء في النظام أيضاً فقرات مهمة أحب أن أشير إليها، منها: أن الإسلام هو أساس ضبط النزاهة ومكافحة الفساد، وأن المملكة وهي تطبق الشريعة الإسلامية ترى في الإسلام الآيات والأحاديث والتشريعات الدالة على وجوب الأمانة ومنع الخيانة. ومن الفقرات: توعية السلوك الأخلاقي وتعزيزه عن طريق تنمية الوازع الديني للحث على النزاهة ومنع الفساد، والتأكيد على دور الأسرة في تربية النشء، وحث المؤسسات التعليمية على وضع مفردات في التعليم عن الأمانة وحماية الأموال العامة ومكافحة الفساد. إن العلاج الحق هو في هذه المعاني الإيمانية وفي التربية الأخلاقية والأسرية والمناهج التعليمية التي إذا أردنا الخير فينبغي أن نربطها بدين الله عز وجل وبهذه المعاني؛ حتى يكون لها أثر. وجاء في النظام أيضاً: تحسين الأوضاع الأسرية والمعيشية للمواطنين عن طريق توفير فرص العمل، والعمل على وضع برامج تثقيفية في هذا الشأن. وهذا يدلنا على شدة الاحتياج إلى مراعاة الأمانة من خلال المنهج الإيماني الإسلامي التربوي السلوكي الأخلاقي الأسري الذي إذا أصبح طبيعة الإنسان وصيغة حياته وصبغتها فإنه حينئذٍ يحتاج إلى هذه الرقابة.

وصية نافعة لبعض السلف

وصية نافعة لبعض السلف وأختم بكلمة خماسية في وصية سلفية لأحد علماء الأمة: سئل ذو النون رحمه الله: بمَ ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمسة أمور: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة لله تعالى في السر والعلن، وانتظار الموت والتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب. نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يملأ قلوبنا بالإيمان، وأن يعمر نفوسنا بالتقوى، وأن يملأ قلوبنا بالخوف منه والمراقبة له والحياء منه والتوكل عليه والإنابة إليه والرغبة فيما عنده. اللهم اجعلنا أوثق بما عندك مما في أيدينا، وأغننا اللهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، وأغننا اللهم بفضلك عمن أغنيته عنا، واجعلنا اللهم أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل غنانا في نفوسنا وقلوبنا، واجعل غنانا بإيماننا وإسلامنا، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا البركات، وامح عنا السيئات، وتقبل منا الصالحات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، واجعلنا اللهم من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وهذب أخلاقنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة. اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها، واجعلها اللهم بلد أمن وإيمان وسلامة وإسلام يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ارفع الأذى والبلاء عن عبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

هيا بنا نؤمن [4]

هيا بنا نؤمن [4] دين الله عز وجل منهج كامل شامل لكل جوانب الحياة؛ ومن أهم الأمور التي حث عليها الدين الإسلامي الإيمان بالله عز وجل ووحدة الصف، فإن فقدان الإيمان أو ضعفه يسبب الفرقة والخلاف، وإذا حصل الخلاف بين المسلمين تسلط عليهم أعداؤهم، كما هو الحال في زماننا هذا. فيجب على كل المسلمين أن يجددوا إيمانهم بالله عز وجل، وأن يوحدوا صفهم؛ حتى تعود لهم عزتهم وكرامتهم.

أهمية الاجتماع وتحريم الفرقة والاختلاف

أهمية الاجتماع وتحريم الفرقة والاختلاف الحمد لله، الحمد لله العزيز القهار، القوي الجبار، الرحيم الغفار، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، له الحمد على ما وعد به المؤمنين من النصر والتمكين، وله الحمد على ما بسط وجعل من ولايته لعباده المؤمنين الصالحين، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، أرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وجعله خاتماً للأنبياء والمرسلين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

الفرقة مخالفة للمقصد الذي جاء لأجله الأنبياء

الفرقة مخالفة للمقصد الذي جاء لأجله الأنبياء قال عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال القاسمي: أي وجدوا أمة واحدة تتحد مقاصدها ومطالبها ووجهتها لتصلح ولا تفسد، وتحسن ولا تسيء، وتعدل ولا تظلم. أي: ما وجدوا إلا ليكونوا كذلك، تلك هي الأمة الواحدة. وثمة آراء واجتهادات يمكن الاختلاف فيها مما يسوغ فيه الاجتهاد، لكن عصمة الإيمان ورابطة الائتلاف على معاقد الإيمان في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عاصمة من التباس الحق واضطرابه في أذهان الناس من جهة، وعاصمة من افتراق يؤدي إلى احتراب من جهة أخرى. قال القاسمي رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:213]: بدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف، فقد أنزل الله الكتاب، وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة، ليكونا مرجعاً حاسماً لكل خلاف وجامعاً كاملاً للآراء الاجتهادية في المقاصد الكبرى والمعالم العظمى، فجعل بعض الناس ذلك الذي جعل لنزع الخلاف مثاراً للخلاف، وما ذلك إلا من ضعف الإيمان واستبداد الأهواء في القلوب؛ لأن الله جل وعلا قد بين أن ما وقع من الاختلاف لم يكن لقصور في وضوح الآيات والبينات، بل كما قال جل وعلا: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:213] فأي سبب كان سبب هذا الاختلاف؟ قال: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، إنه الحسد والهوى والفتنة التي أوجزتها الآيات في هذه الكلمات البليغة.

لا اجتماع للأمة إلا بالكتاب والسنة

لا اجتماع للأمة إلا بالكتاب والسنة أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول ونداؤنا مستمر: هيا بنا نؤمن، ولعلنا في وقفتنا الأخيرة هذه نكمل معاني بدأناها، ونزيد مقارنة مهمة توقفنا على ذلك الفيض الرباني والعطاء الإلهي الذي اختص به الله جل وعلا أهل الإيمان، وميزهم به عن غيرهم من أهل الجحود والنكران، ونذكر ما جعله الله سبحانه وتعالى من إشراق النفوس وطمأنينة القلوب لأهل الذكر والطاعة، وما كتبه كذلك من طمس البصيرة وقسوة القلب على أهل الغفلة والمعصية. ونمضي مع الإيمان لنرى بجلاء ووضوح أن فيه جواباً لكل سؤال، وحلاً لكل مشكلة، وتذليلاً لكل صعب، وإنارة لكل ظلمة؛ فإن الله جل وعلا خلق الخلق ولم يتركهم هملاً، ولم يدعهم سدى، بل أتم عليهم نعمته بنور الإيمان وهدي الإسلام وتشريع الأحكام، وبيان ما بعد هذه الحياة الدنيا مما يترتب عليه الثواب والعقاب. وهنا ومضة مهمة في أمر عظيم كبرت فيه الرزية وعظمت فيه البلية، ذلكم هو أمر خفاء الحق والتباسه بغيره من الباطل، وضلال الآراء وعدم وضوح الرؤية، وهذا أثر من آثار ضعف الإيمان وضعف الاستقاء من نبعه العذب الصافي، وضعف الاستنارة بنوره المشرق الوضاء. إن الهداية في الأمور المختلف فيها أمرها عظيم، ومرجعها إلى الإيمان. ونحن نعلم أن الأمر المهم لأمتنا هو الاجتماع لا الافتراق، والائتلاف لا الاختلاف، والتوحد لا التمزق، ولا يصلح شيء من ذلك إلا بعصمة الإيمان وهدى الرحمن سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213]، هذه نعمة الله الابتدائية التي أراد الله عز وجل أن يخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى؛ فأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ووضح جل وعلا للخلق طريق الحق وسبل الباطل، ثم وقع اختلاف الناس من بعد، قال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:213]، فماذا كانت نتيجة هذا الاختلاف في واقع الحياة في أمم سابقة وإلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ كانت النتيجة هي كما أخبر الله عز وجل بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]. إن الهداية لمعرفة الحق رغم وجود الشبهات وكثرة الشهوات مرجعها إلى الإيمان، والعصمة من ضلال الآراء واستبداد الأهواء إنما تكون بعصمة الإيمان. ذلكم مبدأ مهم في واقعنا اليوم، فالأمة هي الجماعة على المقصد الواحد، كما ذكر ابن عطية في تفسيره، فلن نكون أمة إلا باجتماع وائتلاف له قاعدة راسخة وأساس متين ومعالم واضحة، تلكم هي معالم الإيمان في القرآن والسنة.

كيفية العصمة من الفتن والشبهات

كيفية العصمة من الفتن والشبهات ونبقى هنا مع المقصود الأعظم في حديثنا: ما العصمة في هذه الفتن الملتبسة، والآراء المختلطة، والشبهات المتكاثفة؟ قال عز وجل: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213]، فليست مجرد هداية علم بأن نعرف ونعلم، بل هي هداية توفيق؛ لأن النفوس متجردة، ولأن الأرواح مخلصة، ولأن القلوب في إصابة الحق راغبة، ولأن التعصب للشخص وللحزب وللمذهب لا يكون مع الإيمان الذي يقصد الحق ويرغب في إصابته، ويراه سبيلاً إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ومن هنا فإننا ندرك أن هذا الأمر هو المعول عليه. أورد ابن كثير عند هذه الآية حديثاً من رواية عبد الرزاق في مصنفه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة؛ نحن أول الناس دخولاً الجنة؛ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق)، وذلك في شأن أمة الإسلام مقارنة بمن سبقها من أمم أهل الكتاب، وقد ذكر ابن كثير في شيء من الإيجاز أنواعاً من ذلك الاختلاف: اختلفوا في قبلتهم، واختلفوا في رسلهم، واختلفوا في آراء متفرقة، واختلفوا في كتبهم، وعصم الله أمة الإسلام في جملتها بما جاء به رسول الله الهدى صلى الله عليه وسلم. ومن هنا نستشعر عناية المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك في دعائه الخاشع الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). فكم نحن في حاجة إلى إحياء إيماننا ليكون نوراً هادياً وبصيرة مرشدة في ظل هذا الاحتراب والاختلاف والتنازع الذي وصل في أيامنا هذه إلى أن يشكك في آيات القرآن، وإلى أن يعتدي على ثبوت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أن تنكر أحكام أجمعت عليها الأمة عصوراً متتالية وقروناً متتابعة، وإلى أن تستحدث أحكام ما قال بها أحد من الأولين والآخرين من أهل الإيمان المسلمين! حتى صار الناس اليوم في حيرة واضطراب. ولا عصمة لهم إلا أن يعظموا الإيمان في القلوب؛ لأن القضية ليست قضية معرفة وقراءة وجمع أدلة، فكم نرى اليوم فيما ينشر من كتب أو صحف من تكاثر أدلة وأقوال مختلفة! لكن يوجد في القلوب دخن؛ وفي العقول زيغ، ذلك أنها لم تخلص إلى أن يكون نبع الإيمان من مصدر الكتاب والسنة، وأن ترى أنه هو الذي يحقق لها الأمن النفسي والطمأنينة القلبية والرشد العقلي والبصيرة الربانية.

أثر الجهل في تكثير الخلاف

أثر الجهل في تكثير الخلاف روى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) عن علي رضي الله عنه قال: (العلم قطرة كثرها الجاهلون). فكم نفرح في كل المسائل عندما نشعبها، ونذكر فيها أقوالاً عدة، ونسرد فيها أدلة مختلفة! ويظهر لنا من بعد أن صاحب ذلك عالم نحرير، وكثيراً ما يكون وراء كل ذلك نور مشرق في آيات موجزات وفي أحاديث جامعات، لكن ذلكم يغيب عندما يغيب نور الإيمان من القلوب، ولذلك لو رجعنا إلى المتقدمين من أسلافنا ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا ما وصف به ابن مسعود ذلك الجيل بقوله: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أعمق هذه الأمة علماً، وأقلها تكلفاً، وأعظمها إيماناً، وأرسخها يقيناً) أي: كان عندهم مع عمق العلم قلة التكلف؛ وذلك أثر إشراق الإيمان والتعلق بالله، فلا مكان لجدال القصد منه إثبات القوة العلمية أو إصابة المصالح والمكاسب الدنيوية، وإنما تنزل عن الرأي إن كان ذلك يؤدي إلى جمع للأمة ابتعاداً عن الافتراق والاختلاف. أما رأينا ابن مسعود رضي الله عنه وهو الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر رضي الله عنهما يصلي في الحج قصراً، فبلغه أن عثمان أتم، فاسترجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- ثم حج بإمرة عثمان رضي الله عنه، فلما صلى أتم مع عثمان، فقيل له: بلغك القصر فاسترجعت، ثم صليت فأتممت؟ فأشرق نور الإيمان وظهرت معالم الهداية والتوفيق عندما قال ابن مسعود: (الخلاف شر) أي: أتفرق الأمة لأجل ترجيح في مسألة خلافية؟ ذلكم لا يكون إلا ببصيرة الإيمان والهداية الربانية التي يرتفع أهلها إلى مستوى تقديم المصالح العامة على المصالح الجزئية، والمقاصد الكلية على المسائل الجزئية. إن نور الإيمان يجعل الإنسان على مثل هذا الهدي الذي كان لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكم رأينا في سيرهم وفي سير أئمتنا من بعدهم من التابعين والعلماء والأئمة ما يكشف هذه البصيرة الهادية؛ فليس العلم كثرة مسائل ولا تشقيق فروع، وليس العلم مجادلة ولا مناظرة، بل العلم كما قال شعبة رحمه الله: (إنما العلم الخشية). إن العلم هو خشية الله، إنه وازع الإيمان في قلب المؤمن، إنه بصيرة ونور يوصل إلى الحق من أقصر طريق بلا نزاع ولا شقاق ولا خلاف، ولذلك رأى علماؤنا وأئمتنا ذلك فظهر في أحوالهم.

ولاية الله عز وجل عصمة من الخلاف والفتن

ولاية الله عز وجل عصمة من الخلاف والفتن ومن الهداية إلى الولاية تلك التي نفتقر إليها اليوم، والمسلمون يرون أحوالهم وأحوال أمتهم وهي في ضعف، والأعداء وهم في تسلط، والمعارك وهي تدار رحاها على رءوسهم وفي بلادهم، والهزائم على الأقل من الناحية المادية وهي تتوالى في بقاعهم وأصقاعهم، فما المنجى من ذلك؟ وأين هو طريق النصر؟ وأين هي الولاية العاصمة التي يجد فيها المؤمنون طمأنينة وأمناً، ويجدون فيها مستنداً وقوة واعتزازاً يجعلهم أثبت قدماً، وأقوى يقيناً، وأكثر قدرة على أن يستغلوا قليل ما في أيديهم من الإمكانات المادية؛ ليكون -بإذن الله عز وجل- عظيماً في المواجهة الإيمانية مع أعدائهم وخصومهم، وذلك ما ينبغي أن ننتبه له. قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]، إن ولاية الله تعني حفظه ونصره، فإن أردنا حفظاً من الأعداء ونصراً عليهم فليس إلا أن نراجع ذلك الإيمان في قلوبنا، ونزيده في نفوسنا، ونحييه في واقعنا، ونجعله الحاكم على أحوالنا وأوضاعنا، والرابط فيما بيننا وفي علاقتنا وأواصرنا؛ فذلكم هو الذي يجعل الأمر ينتقل إلى أن نكون في هذه الولاية الربانية التي استشعرها المؤمنون في كل زمان ومكان. قال عز وجل: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196]، قال الحسن البصري رحمه الله: هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله من دعوته، فهذا ولي الله، وهذا حبيب الله. وقال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، فانظروا إلى إفراد النور؛ إنه أمر جامع موحد ليس فيه تعدد، وليس فيه اختلاف، أي: في كلياته الجامعة ومقاصده العظيمة ومراميه وغايته الكبرى. إنه نور واحد وظلمات متعددة: ظلمات فيها الهوى والشهوة، وظلمات فيها الاضطراب والحيرة، وظلمات فيها الكبر والاستعلاء، وظلمات فيها النفاق والرياء، فسبل الباطل متنوعة وسبيل الحق واحدة، قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، والله جل وعلا وحد الإيمان والنهج الصائب والنور واليمين، وعدد ما يقابل ذلك؛ لأنه لا ينتهي إلى حد، ولأنه يتجدد في كل زمان ومكان من أنواع الضلالات وبروز المذاهب وطرق الأهواء وتعدد الآراء ما لا يكون معه عصمة إلا بكتاب الله، كما بينت آيات الله سبحانه وتعالى. قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]، قال السعدي: هذا يشمل ولايتهم لربهم بأن تولوه فلا يبغون عنه بديلاً، ولا يشركون به أحداً، قد اتخذوه حبيباً وولياً، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه؛ فتولاهم الله سبحانه وتعالى بلطفه، ومنَّ عليهم بإحسانه؛ فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل، إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور. وانظروا إلى المقابلة الربانية في المواجهة المنهجية، وكيف طبقها نبي الله صلى الله عليه وسلم في الحقائق الواقعية. هناك حقيقة لابد أن تكون مستقرة في اليقين، وهي في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، مولاهم: حافظهم وناصرهم ومؤيدهم. وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، إنها حقيقة لا ترسخ إلا عند من عظم إيمانه، ورسخ يقينه، واستشعر كلاءة ربه وحفظ مولاه، واستشعر أنه يستمد قوته من قوة الله، وأنه يستنزل نصره من نصر الله، كما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، فبعد أن دارت الدائرة على المسلمين، ووقع ما وقع، واستشهد سبعون منهم، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وسال الدم على وجنته وكسرت رباعيته ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، وجاء أبو سفيان يستعلي بباطله، ويستعظم بكفره، ويفتخر بما ظنه من نصره، ويخاطب المسلمين صائحاً من على مرتفع: أفيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ فيأمرهم النبي أن يسكتوا ولا يجيبوا، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإجابة، وكان مما أجاب به النبي ولقنه للفاروق عمر: (الله مولانا ولا مولى لكم). قالها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الظرف العصيب، وفي تلك اللحظة التي كانت ربما تشير إلى أن المسلمين لم يكونوا في موقع المنتصر، ومع ذلك فالحقيقية واحدة، واليقين ثابت، واستشعار كلاءة الله عز وجل حي في القلوب وإن كان الوقت وقت هزيمة أو تراجع؛ لأن اليقين حاصل بأن كل أمر بقضاء الله وقدره، وأنه مرتبط بتقصير أو تفريط، كما قال عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. فكيف يكون ذلك حياً في قلوبنا ونحن اليوم نرى أمتنا والسهام تتوجه إليها من كل حدب وصوب، والدماء تسيل على أرضها في العراق وفي فلسطين وفي غيرها، وكيف نستشعر كلاءة الله ما لم نكن من أوليائه، وما لم نكن قد توليناه بنصره، ونصره: طاعته وإقامة شرعه والتعلق به، وأن يكون هو أحب شيء إلى قلوبنا، ويكون أعظم ما نتعلق به ثوابه جل وعلا ورضاه سبحانه وتعالى. وأعظم ما نستنزل به النصر أو القوة إنما هو استمدادنا بالتضرع إليه، وأخذ الأسباب في ذلك هو من ضمن نهج الإسلام، لكنه ليس المعول عليه، ولكن ذلكم أمر مهم، فعلينا أن نجعله في ذاكرتنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في كل لحظة وسكنة إنما يظهر لنا أن أثر الإيمان في الولاية حفظاً من كل سوء ومكروه، وسلامة من كل عدوان واعتداء، ونصراً على كل قوة مهما عظمت، وذلكم من أعظم آثار الإيمان التي نحتاج إليها في وقتنا هذا. نسأل الله عز وجل أن يعظم إيماننا، وأن يرسخ يقيننا، وأن يجعلنا ممن يستشعر كلاءة الله ورحمته وولايته ونصرته، وأن نستمد كل حول وقوة من خالقنا ومولانا جل وعلا، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الإيمان هو الحل للمشكلات

الإيمان هو الحل للمشكلات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وإن قضية الإيمان هي قضيتنا الأولى والأخيرة في حياتنا، وهي التي تكشف لنا كل ما يلتبس علينا، وهي التي نستمد منها قوة تعيننا على مواجهة كل ما يعترض طريقنا. ولعل وقفتي الأخيرة تأكيد لكل المعاني التي ذكرناها من قبل؛ لتكون واضحة وقوية وحقيقية نستشعرها تماماً، ذلك أن مما يقع به الاضطراب أو اللبس عند بعض الناس المقارنات التي تفقدهم مع ضعف الإيمان واليقين الرؤية الصحيحة، إنهم يرون غير المؤمنين أقوى وأولئكم أضعف، ويرون غير المؤمنين أكثر تماسكاً أو اتحاداً، ويرون المؤمنين أكثر اختلافاً وافتراقاً، فيظنون أن في الأمر شيئاً على غير ما هو مذكور أو معروف في أصول ديننا. وما ذلك في غالب الأحوال إلا لضعف اليقين والبصيرة من جهة، وضعف العلم والمعرفة من جهة أخرى، ولذلك كانت الآيات القرآنية تقارن وتؤكد المقارنة لصالح الإيمان وأهله باطراد لا يمكن معه أن يكون هناك أمر قابل لاختلال هذه المعادلات بأي حال من الأحوال، قال عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، أي: لا يمكن ذلك بحال، حتى وإن رأيت أموراً لا تتفق مع ذلك فاتهم عقلك، وعد إلى إيمانك، وانظر إلى حقائق قرائنك، وتبصر مواقف رسولك صلى الله عليه وسلم؛ لتدرك أن وراء الأمر كثيراً من الغبش الذي كان على العيون، فلم تعد تبصر، وهذه قضية تكررت في القرآن الكريم، كما في قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وقوله سبحانه: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]. فكل مقارنة ينبغي أن يكون يقننا فيها راسخاً، وينبغي أن تكون كفته الراجحة، وجانبها المصيب، وعاقبتها المحمودة هي للإيمان وأهله، وإن كان الواقع في ظاهره يخالفها، وهذه المقارنة هي التي تدعونا وتستحثنا، وهي التي ترغبنا وتشوقنا، فلن نجد مصلحة ولا خيراً ولا نفعاً إذا رجحنا ما قد نراه من أسباب مادية ظاهرة، وهكذا إن ركنا إلى قوة أرضية وتركنا قوة الله جل وعلا، وهكذا إن ذهبنا إلى مذاهب وضعية وتركنا منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. تلكم قضية مهمة؛ فبعد أن تحدثنا كثيراً عما يعطينا إياه الله جل وعلا بهذا الإيمان من الأعطيات التي هي مفاتيح الحلول لكل مشكلاتنا والتي هي علاج كل أدوائنا، ينبغي أن ندرك هذا في ضوء المقارنة، ولو أن بصراً وبصيرة مشرقة كانت تنظر بنور الإيمان لرأت أن كل مظاهر القوة، وأن كل صور العزة، وإطار الوحدة الذي قد يكون لغير أهل الإيمان أن فيه ما فيه، وأن وراءه ما وراءه، فقد تعرت وتكشفت كثير من الصور التي كانت ملتبسة، فظهرت ما عند الأمم والدول العظمى من الشعارات البراقة، وظهرت حقيقة حقائق حقوق الإنسان، وحقائق الديمقراطية والعدالة، وحقائق المساواة والحرية؛ ظهر ذلك جلياً اليوم بحيث لم يعد يخفى إلا من طمست بصيرته إلى غير حد ينتهى إليه. أحبتنا الكرام! كلمات أخيرة: نبع الإيمان عذب صافٍ، متدفق مستمر، ليس بيننا وبينه إلا أن نذهب إليه، ونغترف منه لنروي ظمأ القلوب، ونشفي أمراض النفوس، وننير ظلام العقول، ونقوم معوج السلوك، ونقيم العلائق والروابط على أساس هذا الإيمان، فتتجدد من جديد كل آثاره وجميع خيراته وبركاته التي جعلها الله عز وجل لكل مؤمن صادق مخلص. أسال الله عز وجل أن يردنا إلى الإيمان به واليقين به والرجوع إليه والتضرع إليه والإنابة إليه. اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك، وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل اللهم لنا إلى سواك حاجة، وأغننا اللهم بفضلك عمن أغنيته عنا، وأغننا بحلالك عن حرامك، واجعلنا اللهم أوثق بما عندك مما في أيدينا، واجعلنا اللهم منيبين إليك وقاصدين رضاك وطالبين عفوك وخائفين من عقوبتك وآملين في رحمتك. اللهم علق قلوبنا بطاعتك ومرضاتك، واملأها بحبك وتعظيمك. اللهم اجعل في قلوبنا حب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وحب كل ما يقربنا إلى حبك وحب رسولك صلى الله عليه وسلم. اللهم اجعلنا لإخواننا المؤمنين محبين ومعهم وبهم متآلفين ومتوحدين. اللهم اجمع أمة الإسلام على كلمة الحق والهدى، واجمعها على سلوك الطاعة والتقى، اللهم ألف على الحق قلوبنا، واجمعنا اللهم على طاعتك ومرضاتك. اللهم أزل من قلوبنا الشحناء والبغضاء، وأبعد عن صفوفنا الفرقة والاختلاف برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وامح عنا السيئات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، واجعلنا اللهم من ورثة جنة النعيم، واجعلنا اللهم من عبادك الصالحين، ومن عبادك المخلصين، ومن جندك المجاهدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه وسائر بلاد المسلمين. اللهم أدم عليها أمنها وإيمانها وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها. اللهم يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين! نسألك اللهم اللطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

سهام المعاصي

سهام المعاصي للمعاصي والذنوب آثار سيئة على الكون والفرد والمجتمع، فالذنوب تتأثر بها الدنيا بأسرها، ولو فقه العباد هذه الحقيقة ما سعى أحد إلى ذنب، فإنها سبب إهلاك الأمم السابقة في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر أفضع، والعذاب أشنع، ألا فليدع كل مسلم الذنوب والمعاصي، ولا يستهن بصغيرها فإن الجبال من الحصى.

المعاصي جروح نازفة

المعاصي جروح نازفة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا موعدنا مع الدرس الثاني والخمسين بعنوان: سهام المعاصي والدواء الشافي، في يوم الجمعة منتصف شهر رجب من عام ثلاث عشرة وأربعمائة وألف، وهذا الموضوع رحب الجوانب متعدد الشعب، ولذلك ينبغي لنا أن ندرك أن الحديث في مثل هذه الموضوعات يحتاج إلى دقة في النظر، وجمع للمتفرقات، وتركيز حتى يكون جامعاً لأكثر ما يحتاج إليه، ولذلك إذا تأملنا في معنى العنوان: سهام المعاصي، نجد أن المعصية سهم جارح؛ فإذا وقعت هذه السهام على اليد شلتها، وإذا جاءت على الأذن أصمتها، وإذا جاءت على العيون أعمتها، وأما إذا جاءت على القلوب فإنها تقتلها، ولذلك قال ابن القيم رحمة الله عليه: الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل. فهي جروح، لكن قد يكون الجرح في مكان قاتل فيؤدي إلى ما لم يكن يتصور أنه يؤدي إليه. الأمر الثاني: إن المعاصي قد كثرت وتفشت، وقلّ من سلم منها، بل قل من سلم من كثرتها، وقد شملت أضراب الناس وأصنافهم، كما قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية): والناس على ضربين: عالم يغلبه هواه فيتوانى عن العمل، وجاهل يظن أنه على الصواب، وهذا الأغلب على الخلق. ثم استعرض أنواع أجناس الناس ومخالفاتهم فقال: فالأمير يراعي سلطنته، ولا يبالي بمخالفة الشرع، أو يرى بجهله جواز ما يفعله، والفقيه همته ترتيب الأسئلة ليقهر الخصم، والقاص همته تزويق الكلام ليعجب السامعين، والزاهد مقصوده تزيين ظاهره بالخشوع لتقبل يده ويتبرك به، والتاجر يمضي عمره في جمع المال كيف اتفق؛ ففكره مصروف إلى ذلك عن النظر إلى صحة العقود، والمغرى بالشهوات منهمك على تحصيل غرضه تارة بالمطعم وتارة بالوطء وغير ذلك، فإذا ذهب العمر في هذه الأشياء، وكان القلب مشغولاً بالفكر في تحصيلها؛ فمتى تتفرغ لإخراج زيف القصد من خالصه، ومحاسبة النفس في أفعالها، ورفع الكدر عن باطل السر، وجمع الزاد للرحيل، والبدار إلى تحصيل الفضائل والمعالي؟! فالظاهر قدوم الأكثرين على حسرات، إما في التفريط للواجب أو للتأسف على فوات الفضائل، فالله الله يا أهل الفهم! اقطعوا القواطع عن المهم قبل أن يقع الاختلاف بغتة على شتات القلب وضياع الأمر، وهذا حال أكثرنا إلا من رحم الله عز وجل.

طبيعة الإنسان وبيئته

طبيعة الإنسان وبيئته أول ما أحب أن أبدأ به هو ما يتعلق بطبيعة الإنسان وفطرته وبيئته: الإنسان خلقه الله عز وجل قبضة من طين ونفخة من روح، فلذلك يجتمع فيه ما يكون داعياً إلى التصاقه بالطين ودنوه وتسفله إلى الأرض والدنيا الدنية، وفيه كذلك نفخة روح الرحمن سبحانه وتعالى التي تسمو به إلى عليين وإلى ملكوت السماوات وإلى الترفع والتحليق في آفاق الرفعة بعيداً عن الدنايا والرزايا والأقذار والأوساخ. والإنسان بين هذين الجذبين وبين هذين المتنازعين إما أن تغلب روحه وتحلق فيكون في مصاف الملائكة، بل ربما كان أعلى، لأن الملائكة مفطورة على الطاعة، وربما مال إلى شهواته وإلى غذاء بدنه وإلى طينيته ودنيويته وأرضيته فيكون أسفل من الحيوانات، كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].

الدين لا يخالف الفطرة

الدين لا يخالف الفطرة الأمر الثاني: أن هذا الدين العظيم لا يصادم الفطرة ولا يعارض ما استكن وما استقر في نفوس الناس على ما خلقهم الله عليه، فإن في الفطر ميلاً طبعياً إلى الشهوات، وإن فيها حباً للنساء والأزواج وأنساً بالبنين ورغبة في جمع الأموال، وكل ذلك ليس محظوراً ولا ممنوعاً في الشرع، لكنه مضبوط بضوابط تسمو بالإنسان، ولا تجعله يقع فيما فيه مغبته وفساد حاله في الدنيا وخسرانه في الآخرة، إضافة إلى ما يقع عند التعدي على حقوق الآخرين وعلى أنظمة المجتمع، فلذلك كل فطرة وميل ورغبة لها في تشريع الله عز وجل ما يحققها بالقدر الكافي وبالأسلوب الطاهر النظيف وبالتشريع المحكم البليغ، فليس هناك مصادمة ولا معارضة.

أثر البيئة والنوازع على الإنسان

أثر البيئة والنوازع على الإنسان الأمر الثالث الذي ينبغي أن نفهمه هو: أن الإنسان يتأثر بالبيئة وتدعوه نوازع كثيرة، قال عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] كل هذه في آثار البيئة تدعوه وتغريه وتزين له بعض ما قد يكون من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى. وكذلك هناك أمر ثانٍ وهو: أن طبيعة النفس البشرية غير المهذبة بالإيمان وغير المنضبطة بشرع الرحمن فيها غرس يميل إلى المعصية، ويهوى الهوى، ويرغب في الشهوات. وهنا أشير إلى أن أكثر الكلام أنقله عن ابن القيم، وقد كنت عزمت أن أجعل عنوان الموضوع: ابن القيم وكشف المعاصي؛ لأنه فيما رأيت ممن أكثر في هذه الموضوعات، وفاض فيها، وغاص في أغوار النفس، واستقرأ خطرات العقول، واستنطق شواهد الكتاب والسنة، ودقق في الاستنباط في معانيها، وضرب الأمثلة من الوقائع، فكان إحكامه لمثل هذا الأمر ومعالجته له على أبلغ ما يكون رحمة الله عليه، فيقول في شأن البيئة المحيطة: كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عن عداوته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوىً مردٍ، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستولٍ عليه؟ فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة. وكم من بيئة كلها قواطع وموانع من الطاعة والثبات عليها، وفيها مرغبات ومغريات ومنزلقات للوقوع في المعاصي والركون إليها.

طبيعة النفس البشرية

طبيعة النفس البشرية ووصف ابن القيم الأمر الثاني وهو طبيعة النفس وما فيها من بعض العلل التي لا تبرأ منها إلا بالتزام الشرع وبتهذيب الإيمان وبتطهير وتمحيص الطاعات لله سبحانه وتعالى، فقال: "في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل "، وهذه كلها هي من أوصاف من كانوا بارزين في أبواب عظمى من المعاصي. ثم قال: "وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك كله، فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند -يعني: من جند هذه الحيوانات وشاكلتها- ولا تصلح سلعته لعقد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} [التوبة:111] "، أي: أن النفس الخبيثة لا يمكن أن تكون ثمناً للجنة، ولا أن تكون جزءاً من هذا العقد الرباني. ثم قال: "فما للمشتري إلا سلعة هذبها الإيمان، فخرجت من طبعها إلى بلد سكانه التائبون العابدون". إذاً: لكي نفهم أصل المسألة نعلم أن طبع النفس البشرية تميل إلى المعصية، والبيئة تحض أو تسهل أمرها، ومن هنا نعلم أن المسألة تحتاج إلى مجاهدة كبيرة، ولذلك من هذا المنطلق ومن حكمة هذا التشريع قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). وليس للإنسان عصمة من المعصية إلا ما قضى الله عز وجل من عصمة الرسل والأنبياء، وإلا فإن كل إنسان قد يقع في المعصية قليلاً أو كثيراً نادراً أو غالباً، ولذلك إذا قُرر هذا فإن العلة والمصيبة والخطورة ليست في مجرد الوقوع في المعصية بقدر ما هي في استمرائها والاستمرار عليها وعدم الحذر منها إلى غير ذلك.

أصول المعاصي

أصول المعاصي أشير إلى نقطة مهمة أيضاً في طبيعة المعصية وصلتها بالنفس الإنسانية: ينبغي أن نعلم أن هناك مداخل عظمى وبوابات كبرى إذا فتحت فقد انفتحت أبواب وأنواع وأصناف وألوان من المعاصي على الإنسان؛ لذلك يقول ابن القيم رحمة الله عليه: أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة: أولاً: تعلق القلب بغير الله. ثانياً: طاعة القوة الغضبية. ثالثاً: طاعة القوة الشهوانية. ثم فصلها فقال: وهي الشرك، الذي هو التعلق بغير الله، والظلم وهو القوة الغضبية، والفواحش وهي القوة الشهوانية. ثم قال: فغاية التعلق بغير الله الشرك، بأن يدعو معه إلهاً آخر، وغاية طاعة القوة الغضبية القتل، وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا؛ ولذلك جمع الله بينها في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]. فهذه أسس هذه المعاصي: تعلق بغير الله، اندفاع مع القوة الغضبية يقع به الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، اندفاع مع القوة الشهوانية يحصل به إغراق وإسراف في الشهوات والملذات دون مراعاة للمنهيات والمحرمات، وهذه نماذجها: شرك، وظلم، وفواحش، نسأل الله عز وجل السلامة.

كيفية تسلل المعصية إلى الإنسان

كيفية تسلل المعصية إلى الإنسان كيف تتسلل المعصية إلى الإنسان، وتدخل عليه، ويقع فيها دون أن يشعر في بعض الأحوال؟ أشار إلى ذلك ابن القيم أيضاًَ، وهذا من الأمور المهمة التي لها أثر كبير في فهم العلاج والوقاية من المعاصي، قال رحمة الله عليه: دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة، فيصعب عليك الانتقال عنها. فانظر ما هو أول الإدمان: هو تلك الخاطرة التي تجول ولم تستقر في العقل، فإذا بالإنسان يردد نظره فيها، ويعمل فكره فيها، ويجيء بها ويذهب، فإذا بها تنتقل من خطرة إلى فكرة تعشعش في العقل وترسخ فيه، ثم إذا به يعمل عقله في تلطف الأسباب الموصلة إليها، وفي تخيل اللذة الحاصلة منها، فإذا بها تختلط بقلبه، فإذا بها شهوة قد أنست النفس إليها، ومال القلب إليها، وإذا بها بعد ذلك تصبح همة وعزيمة قد تهيجت مشاعره لها، وتحركت نفسه لفعلها، بل ربما قد شغلت عليه فكره كله؛ فلم يعد يسمع إلا ما يوصله إليها، ولا يرى إلا ما يربطه بها، ولا يتذوق إلا ما يعينه عليها، وعند ذلك في هذه اللحظات يحتاج إلى قوة حاسمة وإلى ردع قوي، وإلا فإنه يقع في الفعل، يعني: يقع في المعصية، قال: فتداركها بضدها؛ بالحسنات والاستغفار والتوبة، فإن لم تفعل صارت عادة يصعب عليك الانتقال عنها. ولينظر كل واحد إلى ما وقع فيه من المعاصي، فإنه سيجد أنها كانت على مثل هذا التسلسل، فالفطن اللقن والحريص المؤمن هو الذي يقطع الطريق من أولها؛ فلا يسمح للخواطر الرديئة ولا للأفكار الدنيئة أن تخالط عقله، ولا يشغل بها فكره. ثم أفاض ابن القيم في مثال طويل فقال: مثال هذه الخواطر: كرجل يطحن برحى، فيضع فيها الحب والأشياء التي يطحنها، فينتفع بها ويأكل، فيأتيه رجل ومعه تبن وحصى وتراب يريد منه أن يطحنه في طاحونه، فإذا قبل ذلك أفسد ما كان يطحن من حب وطعام، وفسد الأمر كله، وإذا منعه فإنه يبقى سليماً، وذلك مثل الخواطر إذا جاءت وطحنها في العقل طحنت، ثم نزلت وتسربت إلى القلب، ثم انقلبت إلى فعل. أي: أن الأفكار هي كل ما يطحن، فإن طحن تبناً جاء تبناً، وإن طحن حصىً جاءت حصىً، وإن طحن حباً نقياً نظيفاً جاء دقيقاً نقياً نظيفاً، فمن كان مفكراً في الخيرات، ودائماً تكون خطراته في الطاعات، فإن طاحونه ينتج همة لها، ورغبة فيها، وتعلقاً بها، وممارسة لها، وإدماناً عليها، ومبالغة في الاستكثار منها، ومن كان على غير ذلك في شأن المعاصي كان أمره إليها، وركونه وسكونه ومحبته وملذته فيها، نسأل الله عز وجل السلامة. ولذلك قال ابن القيم رحمة الله عليه: دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعة الله ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان على خلقه سبحانه وتعالى. أيها الأحبة الكرام! هذا الذي أشرت إليه، هدفت منه إلى أن نعرف طبيعة الإنسان في فطرته وبيئته ونفسه التي بين جنبيه، والتسلل الذي تدخل به المعاصي إلى نفسه وقلبه فترديه، نسأل الله عز وجل السلامة. ولذلك ينبغي للإنسان أن يكون حاسماً في هذه الأمور، فإن علاج الأمر والمرض في بداياته سهل يسير، أما إذا تمكن فإنه يحتاج بعد ذلك إلى وقت طويل، وإلى طبيب بصير، وإلى جراحة واستئصال، وربما فوق ذلك كله يكون قد استشرى المرض بحيث لا تنفعه كل الأدوية والعلاجات.

حكمة تقدير الذنوب

حكمة تقدير الذنوب النقطة الثانية: فلسفة الذنب، وأعني بالفلسفة -حتى لا يعترض معترض- التحليل والتعليل لتقدير الذنب؛ فإن من الناس من تعرض له شبهة، فيقول: لأي أمر قدر الله وقوع الذنوب وحصول المعاصي؟ ولأي شيء يبتلي بها العباد؟ ولأي شيء زين الدنيا وزخرفها حتى خطفت الأبصار وسبت القلوب؟ نقول: كل شيء عنده سبحانه وتعالى بقدر، وكل قدر له حكمة، وكل حكمة فيها رحمة ولطف منه سبحانه وتعالى، فلا يعجلن المرء في مثل هذا، وينبغي أن يعلم أن هناك حكماً كثيرة لتقدير الذنوب، وما ذكره أهل العلم منها إنما هو بقدر ما استنبطوا، وإلا فإن الإدراك لحكمة الله في أقداره أمر يعجز البشر أن يكونوا محيطين به إحاطة كاملة، ومن هذه الحكم: أن مجاهدة المعاصي من أعظم ما يقوي خوف العبد وذله لربه سبحانه وتعالى الذي ابتلاه بالشهوات والنزوات، فهو معها في حرب طاحنة، وكلما رأى عظم أثرها وخطورتها لجأ إلى الله سبحانه وتعالى وخاف من العقوبة، وهذا في حد ذاته لون من ألوان العبودية لم يكن ليحصل لولا تقدير الذنب، كما ذكر ذلك أهل العلم؛ ولذلك جاء من حديث أبي هريرة عند مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) وبعض من ليس عنده بصيرة يقول: كأن دلالة الحديث تدعو من لم يكن عاصياً إلى أن يعصي حتى يرضى الله عنه؛ لأنه يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بأقوام يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، وليس الأمر كذلك، بل هي أقدار الله التي تجعل العبد يعرف مقام عبوديته، ثم يعرف مقام ربه ومولاه سبحانه وتعالى، ويعرف عجزه، فيلجأ إلى قدرة الله عز وجل، ويعرف ضعفه فيلجأ إلى قوة الله سبحانه وتعالى، ويعرف قلة حيلته فيلجأ إلى مكر الله وكيده، ويعرف فقره فيلجأ إلى غنى الله سبحانه وتعالى، ففي هذا الأمر حكم كثيرة؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. ومن حكمة تقدير الذنوب إظهار تأييد الله سبحانه وتعالى ونصره لأوليائه، وإظهار معجزاته في قهره وعقوبته لأعدائه، فنحن نرى حكماً وعبراً ودروساً عظيمة نشهدها، لكننا ربما نغفل عنها أو لا نعطيها حقها من التأمل، أفلسنا نرى أرباب المعاصي وعلى وجوههم ظلمة! ونرى كيف تحل بهم القواصم التي لم يكونوا يحسبون لها حساباً، ولا كان الناس يقدرون لها قدراً؟! ألم نسمع ونقرأ في كتاب الله عز وجل عن قارون الذي بغى وطغى وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ثم خرج على قومه في زينته فكان العقاب: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]؟! وعلى مرأىً من الناس أظهر الله عز وجل قدرته، وفي ذلك ما فيه من المنافع والمصالح التي تجعل الناس يعرفون الحق فيقبلون عليه، ويعرفون الباطل فيحذرون منه، ويعرفون آثار المعاصي الوخيمة وآثار الطاعات النافعة المفيدة، فهذا أيضاً من الحكم. ومن ذلك ظهور أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، كما أفاض في ذلك ابن القيم وابن تيمية وصاحب شرح الطحاوية وغيرهم، فإن من أسمائه سبحانه وتعالى التواب، ومن أسمائه سبحانه وتعالى الغفار، كما أن العزيز والجبار والقهار من أسمائه سبحانه وتعالى، فكيف يكون غفاراً وليس ثمة مذنب؟ وكيف يكون تواباً وليس ثمة تائب؟ فهذه من حكم الله سبحانه وتعالى. وكذلك في تقدير الذنب من الحكم أن فيه إبطالاً لدعوى القائلين بالجبر، وهم الذين يقولون: إننا مجبورون، فإذا كنا كذلك فلا حساب علينا! فهذا الاختيار جعله الله عز وجل امتحاناً وابتلاءً، كما قال سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وتقدير المعصية والطاعة فيه بيان لهذا الابتلاء والامتحان، وإلغاء وإبطال لشبه أهل الجبر والاضطراب؛ ولذلك كتب ابن القيم مقالات نفيسة تبين مثل هذا الأمر، وفيها ما نحتاج بالفعل إلى أن نعيد النظر فيها، لا تهويناً لأمر الذنوب، ولكن فهماً لحكمة تقديرها وابتلاء الناس بها، يقول ابن القيم وكان الله يخاطب آدم عليه السلام: يا آدم! كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك، أي: قبل أن تسبق من آدم معصية ما كان يشعر بأنه مفتقد إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى، وزاد ذلك توضيحاً فقال: يا آدم! لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك؛ فطنت فيها لعدوك، وعرفت مكمن الخطر الذي يتربص بك. وهذا أيضاً من حكمة تقدير الذنب، فقد استخرج الله منك داء العجب، وألبسك خلعة العبودية. وأضرب لذلك مثالاً: لو أن مدرساً يدرس طلاباً على مستوىً عالٍ من الفهم والذكاء والحفظ والفطنة، وكان لا يسأله أحد منهم ولا يخطئ واحد منهم في إجاباته، فهل ترون هذا المدرس يكون سعيداً بهذا؟ إذا لم يكن منهم خطأ مطلقاً، ولا سؤال أبداً، فكأنه لا قيمة له، وكأن هؤلاء قد استغنوا عنه، لكن قيمته تظهر عندما يكون هؤلاء على مستوىً عال من الفهم والإدراك والحفظ والفطنة والذكاء وغير ذلك، ثم هم يفتقرون إليه ولو في أقل القليل، فإن ذلك يشعره بمنزلته كأستاذ لهم، ويعرفون أنهم طلاب له، ولله المثل الأعلى فإن العبد إذا لم يكن عنده شيء من الغفلة ولا المعصية فإنه يدل بطاعته على ربه ومولاه، ويقول: أنا لم أعص، وإنما أفعل دائماً الطاعات، فكأنه يستشعر -عياذاً بالله- منة منه على ربه ومولاه سبحانه وتعالى، والله خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم وقال: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تستكثر شيئاً تعمله في طاعة الله تمن به على الله سبحانه وتعالى، فالله أمن وأجل. قال أهل العلم: إن في تقدير الذنب ما يشعر الإنسان بأن نعم الله عليه أكثر مما يستحق، فإنه عندما يرى ذنوبه يقول: كيف لطف الله بي، أنعم علي، وأنا على مثل هذه المخالفات؟! فإذا وفق للطاعات رأى أن ما أنعم الله به عليه أكثر مما قدم من هذه الطاعات، فلا يزال مستشعراً نعمة الله حال طاعته وحال وقوعه في الذنب، نسأل الله عز وجل السلامة، ولذلك يقول ابن القيم رحمة الله عليه في الحديث عن آدم: تالله ما نفعه عند معصيته عز: (اسجدوا) العز الذي جعله الله له عندما قال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34]، ولا شرف: (وعلم آدم) الشرف الذي ناله عندما قال الله له: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، ولا خصيصة: (لما خلقت بيدي) لما قال: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ولا فخر: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] كل هذه المزايا ما نفعته، وإنما انتفع بذل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. فتأمل كل تلك الأمور التي كانت أمور علو ورفعة، فقد يدخل العجب فيها إلى نفس الإنسان، أو إلى ما كان من آدم عليه السلام، حيث علمه الله عز وجل وخصه بأن خلقه بيديه، وشرفه بأن نفخ فيه من روحه، وعظمه بأن أسجد له ملائكته، كل ذلك أمر آخر، لكن عندما وقع في المخالفة والمعصية جبلة وفطرة وقضاءً وقدراً وحكمة من الله بالغة رجع إلى ربه كما حكى الله عنه: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وكما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37]. يقول ابن القيم رحمة الله عليه: لما كان وقوعه في الذنب -أي: العبد- ليس اجتراءً على سيده، ولكنه ضعف النفس وغفلة الهوى واستزلال الشيطان علمه كيف يتوب إليه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] فالذي عصى هو آدم عليه السلام حيث وقع في الاجتراء والمخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، لكن لما وقع حصول الندم والذل لله عز وجل من قبل آدم علمه الله سبحانه وتعالى الكلمات التي يتوب بها إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه عز وجل يحب من عباده أن يسألوه، وأن يذلوا له، وأن يفتقروا بين يديه، وأن يتضرعوا إليه، وأن يكونوا مستشعرين دائماً لعبوديتهم له، ولربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى عليهم، ولذلك ينبغي أن ندرك هذا المعنى، وأن نفهمه، ولذا قال ابن القيم: لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب. وانظروا الآن إلى من كانت عنده بعض الطاعات وقلت عنده المعاصي، فإن لم يكن حذراً وإن لم يكن متيقظاً فإنه يعلوه العجب، ويخالط نفسه الغرور، ويكون غروره وكبره هو حتفه وخسارته، ولا تنفعه تلك الطاعة التي رافقتها هذه الخلال الذميمة، كما أن المذنب عندما يستشعر الخطأ والاجتراء على عظمة الله عز وجل فيندم يكون أقرب إلى الله عز وجل من ذاك الطائع إذا تكبر، ولذلك قال ابن القيم: لولا تقدير الذنب لهلك ابن آدم من العجب. وذنب يذل به العبد أحب إلى الله تعالى من طاعة يدل بها عليه، ولذلك قال ابن القيم: شمعة النصر إنما تنزل في شمعدان الانكسار، إذا لم تنكسر لله عز وجل وتمرغ الجبهة وتذرف الدمعة ندماً وخوفاً ورغبة فيما عند الله عز وجل فما وقعت من أمر العبودية على الأمر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه. وليس فيما ذكرت تهوين للذنب، وإنما بيان للحكمة البالغة التي جعلها الله عز وجل فيه.

أسباب المعاصي

أسباب المعاصي ثم أنتقل إلى نقطة ثالثة وهي ما تتعلق ببعض أسباب المعاصي، ولست أريد أن أفيض في الأمور المعروفة من مثل ضعف الإيمان ووهن اليقين الذي يكون في نفوس العاصين، فإن ذلك أكبر وأظهر من أن يشار إليه، ولكني أشير إلى بعض ما أظنه دارجاً في حياتنا ومتمكناً في سلوكياتنا ومستولياً على نظراتنا تجاه هذه المعاصي، ولعل من أخطره إلف المعصية، فإذا ألفها الإنسان، فإن ذلك يكون مثل قضية الإدمان؛ فإن الذي يشرب كأساً -عياذاً بالله- من الخمر تجره إلى غيرها وإلى غيرها، ثم لا يرى بعد ذلك هذه الأمور إلا سهلة هينة، وكذلك إذا ألف هذه المعصية فإنه يكون من أعظم أسباب وقوعه فيها، ومن أعظم أسباب بقائه عليها، ومن أعظم أسباب منعه من فعل الأسباب التي تجعله يقلع منها، والتي تحمله على أن يبتعد عنها، ولذلك كان بعض السلف رحمة الله عليهم يقول: والله! لا أبالي بكثرة المنكرات والبدع، وإنما أخاف من تأنيس القلب بها؛ لأن الأشياء إذا توالت مباشرتها أنست بها النفوس، وإذا أنست النفوس بشيء قل أن تتأثر به، ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) يعني: شيئاً فشيئاً، وفي بعض الروايات: (عَوداً عَوداً) يعني: مرة بعد مرة (فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء) ثم في آخر الحديث ذكر أن القلوب تصير قلبين: (أحدهما أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) والعياذ بالله!

إلف العقوبة سبب في للوقوع في المعاصي

إلف العقوبة سبب في للوقوع في المعاصي ومن أسباب المعصية أيضاً: إلف العقوبة، ليس إلف المعصية فحسب، بل إلف العقوبة، فهو يقع في المعصية ويبتليه الله عز وجل ببعض العقوبات فيألفها ويقبلها ولا يلتفت إلى كونها عقوبة، فيكون هذا كحال المريض الذي يعلم خطورة المرض ويعلم ما سيؤدي إليه، ثم يستمر فيه، ومثل هذا لا شك أنه أحمق، ولذلك يقول ابن الجوزي: "واعلم أنه من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر، ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس القلوب وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض"، يرى نفسه -عياذاً بالله- قد عصى وما مسخ قرداً ولا خنزيراً، ولا خسف به ولا أحرق ماله، ولا وقع له شيء من ذلك، فيظن أنه قد أمن العقوبة، وما يعلم أن هناك عقوبات قد جاءته من حرمان علم ومن منع رزق وغير ذلك دون أن يفطن لها، بل تقبلها على أنها أمر معتاد لا شيء فيه، وهذا لا شك أنه من الأمور الخطيرة.

الغفلة سبب من أسباب الوقوع في المعاصي

الغفلة سبب من أسباب الوقوع في المعاصي ومن أسباب المعاصي أيضاً: الغفلة، أي: الغفلة التي يغفل فيها الإنسان عن حقيقة هذه الحياة الدنيا وحقيقة وجوده فيها، وحقيقة عظمة خالقه وربه ومولاه، وحقيقة ما تنتهي إليه هذه الدنيا من زوال وفناء، وحقيقة الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والصراط وزلاته، وهذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والوقائع اليومية كلها زواجر ومذكرات، ومع ذلك كأن على قلوبنا وعلى عيوننا أكواماً وأكواماً وأكواماً من الحواجز التي لا تجعلنا نبصر ولا نتبصر، نسأل الله عز وجل السلامة، كأنما يصح في كثير من العاصين أنهم لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، وكأن الإنسان قد عطلت حواسه فغدا أعمى أصم أبكم أكسح أشل كأنه لا يدرك شيئاً في هذا الوجود. هذه الغفلة إنما تأتي من سكرة الهوى، وإنما تأتي من لذة الشهوة، وإنما تأتي من موت القلب، وإنما تأتي من إلف المعصية وإلف عقوبتها، فيظلم القلب بها، ويغدو المرء -عياذاً بالله- يسمع الآيات تندك لها الجبال ولا يكترث لها، ويرى الأحداث والزلازل والوقائع والفتن والمحن -وكلها عقوبات- والمذكرات من الله عز وجل وكأنه في وادٍ آخر، وكأنه غير مخاطب بهذه الآيات ولا معني بهذه الحوادث ولا معاقب بهذه الأقدار، نسأل الله عز وجل السلامة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فهو في ذلك الوقت قد طغت عليه غفلته عن الله عز وجل وعن عقوبته وعن حقيقة ما يرتكب من المعصية، وعن حقيقة ما يجترئ عليه من حرمة الله عز وجل ومجاهرته بالمعصية، ولا يشك الإنسان أنه غافل مثل الإنسان المخدر الذي يكون قد شرب مسكراً أو مخدراً فإنه لا يعي من أمره شيئاً، ويهرف بما لا يعرف، ويفعل ما لا يقدر، ولذلك فإن حال العاصي كحال هذا المدمن المخدر الذي لا يدرك شيئاً مما يفعل، نسأل الله عز وجل السلامة.

تذكر حلاوة المعصية من أسباب معاودتها

تذكر حلاوة المعصية من أسباب معاودتها ومن أسباب وقوع الناس في المعاصي تذكر الذنب وحلاوته، فعندما يبتعد عن المعصية وعندما يقلع عن الذنب ولو لم يكن قاصداً لذلك، وإنما ألجأته الظروف فسافر في عمل فبعد عن بعض معاصيه وشهواته أو كذا أو كذا، فإن الذي يدفعه مرة أخرى إلى تلك المعاصي هي اللذة التي ما يزال عقله يرددها عليه ويصورها له، فيهيج نفسه إلى معاودتها، كحال الإنسان إذا أكل أكلة طيبة دسمة حلوة لذيذة فإنه ربما كلما ذكرها تحلب ريقه مرة أخرى، وانبعثت نفسه إلى مثلها. وكذلك الإنسان ينبغي له ألا يورد على نفسه تلك اللذائذ، بل ينبغي له أن يصورها في نفسه تصويراً قبيحاً، ويتصور الآثار الوخيمة في مثل هذه المعاصي. تلك هي بعض الأسباب التي تجعل الناس يقعون في هذه المعاصي، ويتشبثون بها أو يقيمون عليها.

المسلم والمعصية

المسلم والمعصية ثم أنتقل إلى نقطة ثالثة لعلها من أهم النقاط: المسلم والمعصية. ليس المسلم هو الذي لا تقع منه المعصية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، ولكن المسلم الصادق المؤمن المخلص عنده من رحمة الله ومن نعمة الله ومن آثار الإيمان ومن بركات الإسلام ومن خيرات الطاعة ما يجعله متميزاً عن الكافر؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، فهل ترون كافراً يفكر في آخرة أو يفكر في حقيقة العبودية أو حقيقة الألوهية أو غير ذلك مما أشرنا إليه؟! لا يفكر؛ لأنه قد طمس قلبه وانتهى أمره إلى غير رجعة إلا أن يأذن الله له أن ينور قلبه بالإيمان بعد الكفر. أما المسلم فله مزايا: من أعظم هذه المزايا وآكدها: أنه يستشعر أثر الذنوب والمعاصي، ويعرف أن لها آثاراً قوية عظيمة ليست على مستوى الفرد، بل على مستوى المجتمع، وليست على مستوى البشر بل على مستوى الكون كله، ولذلك أفاض أهل العلم في ذكر هذه الآثار، ولست بصدد ذكرها تفصيلاً، وإنما أجمل ما ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في مقالاته الجامعة، أما تفصيل ذلك وتفريعه فقد عقد له كتاباً كاملاً أسماه: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، صنفه رحمة الله عليه جواباً على سؤال ورد إليه عن المعاصي وكيفية البرء منها والإقلاع عنها والهجر لها، فصنف ذلك المصنف العظيم، يقول ابن القيم في ذكر أثر المعاصي على الفرد: من ذلك: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم، وضنك العيش، وكشف البال. كل هذا من آثار هذه المعاصي، أفلا يشعر الواحد منا ببعضها؟! أفلا ينقبض يوماً صدرك ويعلوك الهم ويركبك الغم؟! أفلا تجد يوماً أنك تريد أن تحفظ فتحرم الحفظ؟ أفلا ترى يوماً أن عدواً قد سلط عليك، أو أن سفيهاً قد اجترأ عليك؟! والسلف رحمهم الله كانوا يردون كل شيء يقع لهم إلى الذنوب التي وقعت منهم، إنه فقه إيماني بصير يجعل كل شيء مرده إلى قول الله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فنحن إنما نؤتى من قبل أنفسنا، ومن زيغ قلوبنا، ومن تحول نياتنا، ومن سوء سلوكنا، ومن فلتات كلماتنا، ومن نزغات شهواتنا، ومن خيانة أبصارنا، إنما نؤتى ونحرم ونعاقب من مثل هذه المعاصي، فالمسلم الحق رغم وقوعه في المعصية إلا أنه يستشعر أثرها، ولذلك الذي يدرك الأثر يوشك -بإذن الله عز وجل- أن يطلب يوماً خلاصه من هذا، فالذي يعرف سبب المرض كالزكام الذي يحل به أو سبب الحساسية التي تقع له، ولو تحملها مرة وثانية فإنه بعد فترة سيطلب العلاج، ويلتمس البرء من هذا، أما الذي لا يستشعر ذلك من أصحاب الغفلة أو الكفر -نسأل الله السلامة- فإنه لا يطلب علاجاً؛ لأنه لا يرى ضرراً، ولا يستشعر مرضاً. وذكر ابن القيم في موضع آخر شأن الآثار التي تنتظم الكون كله من أثر المعاصي، فقال: اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله! منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة، وبابها مفتوح، وكأنكم -أي: إذا تباطأتم وسوفتم- بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فلله در ابن القيم ما أجمع كلماته! فقد جعل كل شيء في الأرض وفي السماء وفي البشر وفي الملائكة، وفي الليل وفي النهار متأثر بهذه المعصية، وحق له ذلك، والله عز وجل يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، قال ابن القيم في (الجواب الكافي) في تفسير هذه الآية: من آثار المعاصي حصول الفساد في الماء والهواء. وما أمر الزلازل وتلوث البيئة وما يقع من كوارث هنا وهناك إلا من أثر هذه المعاصي والذنوب، وكيف لا تكون هذه عقوبات لهذه المعاصي، إنها ليست قضية معصية، إنها قضية عداوة واجتراء وعدم تقدير ولا توقير لله سبحانه وتعالى، أفرأيتم لو أن عبداً حقيراً جاء إلى ملك عظيم وسلطان كبير ثم اجترأ عليه بكلمة شتمه بها أو بسلوك تعدى فيه على حرمته أو تعدى فيه على بعض ماله فلا شك أنه لا يقوم لغضبه قائم، وأنه يبطش به بطشاً يجعله عبرة للمعتبرين، بل ربما يتجاوز غضبه هذا الفرد ليعم سائر الرعية كلها، بل قد يدمر حتى غير البشر من الممتلكات والأموال، وهذا واقع في حق الناس، فكيف إذا كان الأمر في حق الله سبحانه وتعالى ملك الملوك ورب الأرباب سبحانه وتعالى؟! فإنه جل وعلا -كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام- أشد غيرة من خلقه، وإن غيرة الله عز وجل أن تنتهك محارمه، وما أحلمه سبحانه وتعالى! وما ألطفه بعباده فإنه يمهل، ولكنه لا يهمل، ولو كان الله سبحانه وتعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكان أكثر الناس يستحقون أن يخسف بهم، وأن يطمس على قلوبهم، وأن تعمى أبصارهم، وأن تهلك أموالهم، وأن يقع لهم من الوباء والبلاء ما الله سبحانه وتعالى به عليم، ولكنه جل وعلا من لطفه ومن صلاح الصالحين ومن دعاء الداعين يخفف بعض ذلك. وقد ذكر ابن القيم أن الحيوانات والبهائم تشكو إلى الله عز وجل من العاصين والفاسقين؛ لأنه بهم وبمعصيتهم يمنع الله عز وجل القطر من السماء، ويقع الجدب في الأرض، وتقع البلايا والرزايا، وما لهذه البهائم من ذنب، ولكنه ذنب هذا الإنسان الذي استعلى على الله عز وجل وتجبر وتكبر وطغى وبغى وفسد في هذه الأرض، ولا يألو على شيء، فيسير هنا وهناك، وينسى قبضة الله عز وجل وقوته وقهره، ولذلك تشكو هذه الحيوانات، وكما قيل: لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لم تمطروا، فإن الله سبحانه وتعالى ما أنزل عقوبة إلا بذنب، وما رفعها إلا بتوبة، كما ذكر أهل العلم والإيمان.

مزايا معرفة المؤمن لآثار الذنوب والمعاصي

مزايا معرفة المؤمن لآثار الذنوب والمعاصي ومن مزايا المؤمن بعد معرفته للآثار: استشعاره لآثارها في واقع حياته المباشر، كما كان حال بعض السلف، وهذه أمثلة لذلك، يقول ابن القيم: إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم قد كبلتك الخطايا والذنوب! فكم نأت لنقوم الليل فنقعد كأنما قد أصابنا الشلل! وكم نعزم أن نصوم فنهفو إلى الطعام والشراب! وما ذلك إلا لأن النفس قد علتها الذنوب، وهذه من آثارها، كما قال بعض السلف: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، ولذلك كان بعض السلف يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: ستري مسبل، وخيري حاصل، ولكني منعت حزبي البارحة، فلم أقدر عليه، فلا شك أنه من ذنب أذنبته. وهكذا كان السلف يوصون ويفندون مثل هذا، جاء رجل يستفتي بعضهم، فقال: أعياني قيام الليل فما أطيقه، فقال: يا ابن أخي! استغفر الله وتب إليه، فإنها علامة سوء.

مبدأ محاسبة النفس

مبدأ محاسبة النفس ومن مزايا المسلم أنه دائماً عنده مبدأ المحاسبة لنفسه، ولذلك إذا وقع في المعصية عاد في أثناء محاسبته لنفسه فتذكرها وتذكر مغبتها وتذكر عقوبتها، فكان ذلك عوناً له على تركها والإقلاع منها، ولذلك يقول عامر بن عبد الله: رأيت نفراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وصحبتهم، فحدثونا أن أحسن الناس إيماناً يوم القيامة أكثرهم محاسبة لنفسه، ولذلك كان جيل التابعين على هذا النسق، فقد كان الحسن البصري رحمة الله عليه يبكي في الليل حتى يبكي جيرانه ببكائه، فيأتي أحدهم إليه بالغداة ويقول له: لقد أبكيت الليلة أهلنا! فيقول له: إني قلت: يا حسن! لعل الله نظر إلى بعض هناتك فقال: اعمل ما شئت فلست أقبل منك شيئاً أبداً. وهذا من جميل الدقة في محاسبة العبد لنفسه.

الورع والاحتياط

الورع والاحتياط ومن مزايا المسلم: شدة الورع والاحتياط، فإنه يرى الذنب اليسير القليل عظيماً؛ لأنه كما قيل: لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر من عصيت، وهذا الأمر من أهم القضايا وأعظمها، ولذلك ما كان المؤمنون الصادقون يستصغرون الذنوب ولو كانت صغيرة هينة، بل جاءنا حديث أنس رضي الله عنه علمهم به قبلنا ويعلمنا ويعلم غيرنا: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات). فالذنب هو الذنب، لكنه كان عند الصحابة من الموبقات العظام، وكان عند غيرهم أدق من الشعر؛ لأن أولئك هونوه فهان، ولم يستحضروا -والعياذ بالله- عظمة الله سبحانه وتعالى، ولم يكن له في نفوسهم وقع عظيم ولا خطر كبير، ولذلك قال أحد السلف: (لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت)، ولما سئل سعيد بن جبير عن أعبد الناس؟ لم يقل: أعبد الناس الصائم الذي لا يفطر، ولا القائم الذي لا يفتر، ولا الذاكر الذي لا يفتر، وإنما قال: أعبد الناس عبد اجترح ذنباً فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه.

الاستغفار

الاستغفار من مزايا الإنسان المسلم أنه يفيء إلى المغفرة والاستغفار، ومن مزايا المسلم أنه يأخذ بنهج ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! اتق الله حيثما كنت! وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، ويأخذ بقول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، وكثير من الناس لا يلتفتون إلى هذا المعنى الخطير المهم، فإذا وقع في المعصية استولى عليه الشيطان وقال: ماذا تفعل بعد هذا؟ وما الذي تريد؟ هل تريد أن تصلي وأنت الآن قد فعلت كذا وكذا؟! فأرغم شيطانك وقل كما قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]، وهذا أقل القليل، فهل تبقى مستمراً مع المعاصي، أم -على أقل تقدير- تأتي بطاعات لعلها تنسخ تلك المعاصي وتمحو آثارها؟ ولذلك الاستغفار وفعل الصالحات من أعظم هذه الأمور.

استعظام المعصية

استعظام المعصية ومن مزايا الإنسان المسلم استعظامه للمعصية، فقد ورد عن كهمس بن الحسن أنه قال: يا أبا سلمة! أذنبت ذنباً وأنا أبكي عليه أربعين سنة، فقال: ما هو يا أبا عبد الله؟! قال: زارني أخ لي فاشتريت له سمكاً بدانق، فلما أكل قمت إلى حائط جار لي، فأخذت منه قطعة طين فمسحت بها يدي، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة! أي: أنه رأى ذلك ذنباً عظيماً، فكيف بمن يأخذ أموال الناس ويأكلها ويعتدي عليها ولا يلتفت إلى شيء من ذلك؟!

قلة الذنوب

قلة الذنوب ومن مزايا المسلم أيضاً: قلة ذنوبه، فالمسلم الصادق يقع في الذنب، ولكنه لا يقع في الذنب صباحاً ومساءً وفي كل وقت وآنٍ وعلى كل ظرف وفي كل مكان، كلا! فليست هذه صفة المسلم الحق، وإنما يقع منه الذنب إذا وقعت له غفلة واستزلاً من الشيطان، ثم يئوب إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حملت به هذا الدين، قيل له: ماذا؟ قال: ذنب أذنبته منذ أربعين سنة، قيل له: ما هو؟ قال: قلت لرجل: يا مفلس! فهذا الذنب ظل أربعين سنة يذكره. قال بعض أهل العلم: قلت ذنوبهم فأحصوها، وكثرت ذنوبنا فأعيتنا، فلا يستطيع الإنسان أن يحصي ذنوب يوم واحد، فإنه إذا بدأ من أول النهار إلى الظهر ربما كثرت ذنوبه عن حد الحصر والعد، وبدأ بعضها ينسي بعضاً، نسأل الله عز وجل السلامة. ولذلك ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه بمثل هذه الأمور، والله سبحانه وتعالى قد وصف وبين أثر ذلك في نفس الإنسان المسلم، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، فقد يقع بالذنب في حين غفلة، ثم يتذكر ويعود إلى التوبة، وكذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة} [آل عمران:135] والفاحشة: ما يفحش وينتشر، بمعنى: أنه أمر عظيم وكبير، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فهذا هو دأب وشأن المسلم أنه يتوقى آثار الركون إلى المعصية، وأن تكون مستولية عليه لا يستطيع الفكاك منها، فهو قليل الذنوب، مدرك لآثارها، راجع إلى ربه، مكثر من الاستغفار، مبادر إلى الطاعات في أعقاب السيئات، ولذلك تجده قريباً من أثر الوعظ في نفسه، وهذا أمر مهم يحتاج كل مسلم إلى أن يأخذ حظه منه.

العلاج من المعاصي والذنوب

العلاج من المعاصي والذنوب أنتقل إلى النقطة الرابعة وهي: ما يتعلق بالدواء الشافي للوقاية من هذه المعاصي: إن الأمر ليس وصفة سحرية، ولا خطوات نظرية، بل هو أمر قلبي إيماني نفسي يبدأ بتغيير جذري يتناول القلوب في أعماقها والنفوس في أغوارها والنوايا في طواياها قبل أن يتناول صوراً ظاهرة قد تخلو من تأثر القلب وتغير النفس، فتعود بعد ذلك تتجدد المعصية، كما يذكر الرافعي فيقول: إذا سافرت وسافر الهم معك، فأنت مقيم لم تبرح. أي: أن الذي يسافر من بلد إلى بلد لنزهة يسري بها عن نفسه ولكنه لم يحمل معه همومه فكأنه لم يسافر. يقول: فإذا أقلعت عن المعصية وحبها في قلبك ولذتها في نفسك وخيالها في خاطرك فكأنك ما صنعت شيئاً. وكما نقول بلهجتنا العامية: يا زيد! يا ليتك ما غزيت! وكأن الإنسان ينفخ في قربة مخروقة، ولا أعني بذلك أن أهون أمر الانتقال من المعصية، فإن في ذلك خيراً، ولكني أريد أن أقول: إن الأمر الأساسي والعلاج الأكثر تأثيراً والأبعد مدىً والأقرب -بإذن الله عز وجل- إلى أن يكون علاجاً شافياً ناجعاً لا يتجدد بعده المرض ولا تستفحل معه العلة هو العلاج القلبي الإيماني الذي يستأصل حب الشهوة المحرمة، ويقضي على لذة المعاصي الآثمة من القلب، فيطمه عنها، فإذا فطم عنها فإن الصغير يحب الحليب، ويحب رضاع ثدي أمه، ولكنه لو استمر على ذلك لكان يكفيه عيباً وعاراً أن يكون كبيراً ويبقى رضيعاً في حجر أمه، كذلك الذي ما يزال يرضع ثدي المعصية ويركن إلى حضنها، ولا يستطيع أن يفارقها، ولا يستطيع أن يستقل، وكلما مضى في الأرض جذبته إليها، وكلما أراد أن يعلو هبط إلى مستواها، وإلى دناياها، ولذلك يبقى كمثل الغلام الذي لا يفطم، أما إذا فطم فقد يكون في أول الأمر يحن إلى ثدي أمه، لكنه بعد ذلك يرى في الرجوع إليه عيباً وعاراً، وصغاراً وشناراً، ولا يجد فيه حتى ما يحتاج إليه من الغذاء، ثم يستبدل به غذاءً آخر، وما يزال ينوع في أغذيته، ويستجد منها ألواناً وأصنافاً؛ لأنه قد استغنى عن ذلك الغذاء، والتمس غذاءً آخر فيه أكثر النفع وأعظم الفائدة، وكذلك من فطم نفسه عن المعصية فلا يعد إلى الحنين إليها، ولا يرجع إلى حضنها، وليستبدل من الطاعات غذاءً للقلوب فيه نورها وفيه سكينة للنفوس وفيه همة تشحذ عزمه في معالي الأمور وفيه قوة في طاعة الله عز وجل، وفيه تحرر من قيد هذه المعاصي والشهوات، كما فطم عن الحليب وغدا يأكل أنواع الطعام، فمن فطم عن المعصية فإن أبواب الطاعات رحبة أمامه، من ذكر باللسان، ومن تأمل في خلق الله بالعين، ومن تدبر في أحوال الأمم بالعقل، ومن كسب من الحلال باليد، ومن سعي إلى الخير بالرجل، ومن قضاء للشهوة بالحل، بل كل لحظة وكل ثانية وكل جارحة فيها أبواب من الطاعات عظيمة، فإذا أقلعت فإنك لن تبقى خالياً ولا فارغاً، وإذا تركت المعاصي فإن كلما تطلبه من لذة ستجده في الطاعة، وكلما تطلبه من استفراغ الطاقة والقوة ستجده في الطاعة، بل إنه ينتهي العمر وتعجز الطاقات عن أن تبلغ المدى الأعظم الأكمل الذي تتوق إليه نفوس المؤمنين في طاعة خالقها ومولاها سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). واستمع إلى الجيلاني رحمة الله عليه وهو يقول لغلام له: استغث بالحق عز وجل، ارجع إليه بأقدام الندم والاعتذار حتى يخلصك من أيدي أعدائك. من هم أعداؤك؟ النفس المزينة، والشيطان المستولي، والمعصية التي تداعب الخاطر والعقل. يقول الجيلاني: حتى يخلصك من أيدي أعدائك، وينجيك من لجة بحر هلاكك، تفكر في عاقبة ما أنت فيه وقد سهل عليك تركه، أنت مستظل بشجرة الغفلة، اخرج من ظلها فقد رأيت ضوء الشمس وعرفت الطريق، شجرة الغفلة تربى بماء الجهل، وشجرة اليقظة والمعرفة تربى بماء الفكر، وشجرة التوبة تربى بماء الندامة، وشجرة المحبة تربى بماء الموافقة -أي: الموافقة لأمر الله عز وجل- فالنفوس والقلوب إنما تريد تحويل وجهة فقط، كمن يكون سائراً في طريق ينتهي به إلى هاوية، الحل يسير؛ أن يأخذ طريقاً آخر يؤدي إلى الفوز والفلاح والنجاح، فإذا تغيرت الوجهة سيرى في ذلك الطريق غير ما يرى في الطريق الأول، وسيرى فيه من الناس غير الذين يراهم في الطريق الأول، فإذا حولت مجرى المعصية إلى مجرى الطاعة فإنك تجد طائعين لا تراهم هنا، وإنك تجد فتوحات من الله عز وجل وخيرات لم تكن تراها هناك، وإنك تجد آثاراً ومعالم وابتلاءات وأموراً أخرى لم تكن تراها في ذلك الطريق، وإنما هو تغيير الوجهة.

معرفة حقيقة الدنيا

معرفة حقيقة الدنيا ومن المعين على ترك المعاصي والذنوب: معرفة حقيقة الدنيا، فهذه الدنيا التي تصرف فيه كل جهدك ووقتك لأجل نيل بعض ملذاتها وشهواتها كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فما بال عقلك قد خرج إلى هذا الدنو والسفه في التفكير، حتى لا تعرف ما قيمة الدنيا التي تجعل كل وقتك وجهدك لنيل بعض شهواتها وملذاتها؟! يقول ابن القيم رحمة الله عليه: إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له. فالجسم دولة، وهناك من يحكم، إما أن تحكم الشهوة فيلغى العقل ويكون الإنسان -عياذاً بالله- كما نرى حال العاصين؛ فأحدهم يشرب الخمر فإذا بالوقار الذي عليه والجاه الذي عنده يتلاعب به الصبيان، ويتسافه عليه السفهاء، ويستخدم عقله في شهوات ترديه وتهلكه، عياذاً بالله! ولذلك أوجز قول ما كتبه الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه في وصف الدنيا، حيث يقول له: أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن، وليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المزنوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه، فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت، وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها. فمن أعظم ما يهيئ للتوبة بعد تعظيم الله عز وجل وتذكر حقه سبحانه وتعالى تذكر ما يئول الأمر إليه، وتذكر العقوبة التي توعد الله بها العاصين، فلينتبه إلى هذا الأمر.

تزكية القلب

تزكية القلب ومن الأمور المعينة على ترك الذنوب والمعاصي: زكاة القلب، فعندما يكون في البدن بعض الآفات فإن علاجه هو إخراجها منه، أي: إخراج هذه الآفات، ولذلك يحتجم المحتجم ليخرج الدم الفاسد، وتستأصل بعض الأعضاء التي تتلف لأجل سلامة البدن، وكذلك بالنسبة للمعاصي؛ فإنها مفاسد تحتاج إلى إخراجها، ولكن الإخراج ينبغي أن يكون إخراجاً استئصالياً من القلب، ولذلك فإن من أمور التوبة وأسبابها: تزكية القلب، والمراد بذلك: أن يستفرغ من الأخلاط الرديئة التي لها تعلق بالمعاصي سواء كان حباً لها أو رغبة فيها أو تعلقاً بها.

تذكر الآخرة

تذكر الآخرة ومن الأمور المعينة كذلك: تذكر الآخرة، فلابد للإنسان أن يتذكر آخرته، وآخرة كل أحد موته، وأن يتذكر الآخرة العظمى التي يخرج فيها الناس لرب العالمين، فإذا استحضر ذلك كان هذا من أدعى الدواعي ومن أعظم الأسباب لحصول الخوف من الله عز وجل، ونزع مغالبة النفس لصاحبها على المعصية، فإن هناك لذة وشهوة في هذه المعاصي، وهناك خوفاً إذا بلغ المدى المطلوب فإنه يحسم هذه اللذة. ولنضرب لذلك مثالاً: عندما يرى إنسان طعاماً وهو محب له، ونفسه ترغب فيه، ولكنه يعلم أن عليه حراساً، وأنه إذا وضع يده فيه سوف ينال عقاباً وخيماً، وسوف يجلد كذا، فإنه يقول: يكفي أن ننظر إلى الطعام، وأن نشم رائحته وكفى، وإذا علم أن النظر أيضاً إلى هذا الطعام قد يصيبه بالأذى فإن نفسه حتى اللذة القلبية تفطم وتنتهي، فلا يعود محباً لهذا الطعام، بل لو أكل مرة من هذا الطعام ووجد العقوبة ربما يكره هذا النوع من الطعام ولا يعود لنفسه ميل له حتى لو أتي له به؛ لأن نفسه قد أصبحت لا تحبه، لأنه عرف أن مرة من المرات كانت عقوبته في مثل هذه اللذة، وكذلك إذا علم العبد شأن الآخرة وتذكرها وبلغ خوفه منها وخوفه من عقوبة الله فيها مبلغاً عظيماً فإن ذلك يمحو ويطمس كلما في القلب من تعلق بالشهوة وحب للذة التي فيها، ولذلك كان سلف الأمة رضوان الله عليهم على هذا النهج. مر ابن مسعود على نافخ كير فوقع من خوفه في هذه النار، وكان يمر على الحدادين فيبصر الحديدة وقد أحميت فيبكي رضي الله عنه من تذكر الآخرة، وهكذا كان الصحابة والسلف على مثل هذا الأمر.

أهمية تحطيم أدوات المعاصي

أهمية تحطيم أدوات المعاصي ومن الأمور المعينة على ترك الذنوب والمعاصي وهو أمر مهم: تحطيم أدوات المعاصي؛ لئلا تنزع النفس إليها مرة أخرى، وهذا أمر معروف، فإن تصور الشيء من أعظم ما يجعل في النفس وجوده وشخوصه، ولذلك فإن الذي يجعل الناس يقعون في المعاصي اليوم هو أنهم يرونها بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، فإن شخوصها ووجودها وأمثلتها قد تسلبهم قوتهم في الممانعة وعصمتهم في المدافعة فيقعون فيها، فلذلك هذه الأصنام ينبغي أن تحطم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم من أصحابه أنهم مؤمنون موحدون، وكان أول عمل عمله عندما دخل مكة أن ضرب هذه الأصنام وأسقطها وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]؛ لئلا تبقى هناك أصنام ينظر إليها، حتى لا يتعلق بها، ولا يفكر فيها، ولا تخطر ببال مطلقاً؛ ولذلك نهي عن تلك الصور العظيمة للصالحين؛ حيث أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها كانت أولاً على هذا النحو، ثم داخلها بعد ذلك التعظيم، ثم نصبت أصناماً، ثم عبدت من دون الله سبحانه وتعالى! فكلما وجدت صورة المعصية وآلتها كلما كان ذلك مانعاً أو حائلاً من استمرار التوبة والبعد عن المعاصي، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فهذا الإله إذا وجد وجد معه الهوى إليه والحب له، ولذلك يجب أن يكون الحال كما قال أحد الكتاب: فمطرب يحطم آلات الطرب، ورسام يمزق اللوحات، ومراهق يحرق المجلات والصور الداعرة، ومدمن يكسر زجاجات الخمر ويحرق المخدرات، ومراب يسحب أموال الربا ليفرقها، ومتبرجة تحرق ثيابها كلها -أي: ثياب التبرج- صور تتكرر لما كان من فعل إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في تحطيم هذه الأصنام، ولذلك لابد من مثل هذا.

ضرورة تغيير بيئة المعصية

ضرورة تغيير بيئة المعصية ومن الأمور المعينة على ترك الذنوب والمعاصي: أنه لابد من تغيير بيئة المعصية حتى لا تؤدي البيئة مرة أخرى إلى تجددها، وشاهد ذلك الحديث الذي فيه ذكر الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أكمل تمام المائة، فلما جاء إلى العالم العابد نصحه بأن يخرج من هذه، فقال: (ولكن اخرج من أرضك فإنها أرض معصية، والحق بقرية كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله)، فأحياناً لابد أن يترك الإنسان الأماكن الوبيئة والمجتمعات الرديئة والصحبة الفاسدة الفاسقة؛ لأنها مثل الميكروبات، فالميكروب موجود في الهواء، فإذا جئت إلى منطقة ملوثة ولو كنت لا ترغب في هذا الميكروب، ولو كنت لا تحبه ولا تريده، لكنه يسري في جسدك ويبتليك بالمرض، وهذا شاهده واضح وظاهر لا يخفى أثره.

الحسم من أهم الأمور التي يكون بها نجاح التوبة

الحسم من أهم الأمور التي يكون بها نجاح التوبة ومن أمور التوبة ونجاحها الحسم دون تردد، وترك التسويف: لعل وعسى وسوف وغداً وبعد غد، فهذه يجب تركها، فإن الذي يمرض لو قيل له: إن عندك بدايات للسل أو السرطان فقال: غداً أراجع، غداً أجري التحليلات، بعد شهر آخذ أشعة، فإن المرض يكون قد استشرى وتمكن، لكن يجب على مثل هذا المريض أن يذهب مباشرة إلى الطبيب ويطلب الحسم، ولو كان الحسم ببتر عضو فإن سلامة بقية الأعضاء أولى من ترك هذا العضو يفسدها، ولذلك لا يسوفن أحد في مسألة ترك المعصية. فأول خطوة بعد الندم الإقلاع عن المعصية، وهذا الإقلاع لابد منه بكل صوره: بتحطيم أصنامها وشخوصها، وبالانتقال عن بيئتها، وبالبعد عن تذكرها، وبفطم القلب بالخوف من الآخرة عن ورودها على القلب مرة أخرى على سبيل اللذة والشهوة والمحبة، ولذلك لابد من الحسم في هذا حتى لا يتمكن الشيطان مرة أخرى من تمكين الغفلة ونسيان التذكر والبعد عن التوبة، ولابد أن يستشعر الإنسان هذا.

استشعار أثر الطاعة

استشعار أثر الطاعة ومما يعين على التوبة: أن يستشعر أثر الطاعة، فهناك يستشعر أثر المعصية فيكون ذلك دافعاً له للبعد عنها، وكذلك إذا استشعر آثار الطاعات ولذة التوبة وحلاوتها، فإن أي إنسان لو اختلف مع إنسان وهذا الإنسان كان صاحب فضل عليه، وصاحب منة عليه، وصاحب أفضال كثيرة عليه، ولكن حصل بينه وبينه ما شوش العلاقة، فإنه يبقى مهموماً مغموماً حتى يصلح ما بينه وبينه، فإذا اصطلح معه فإنه يقبل حينئذ وهو منشرح الصدر، ويعانق ويبتسم، وتهتز نفسه طرباً، ويرقص قلبه فرحاً، فكيف إذا كنت قد أخطأت وأذنبت وتجرأت على خالقك ورازقك والمدبر لأمرك واللطيف بك سبحانه وتعالى، فما أعظم لذة الصلح والتوبة لله سبحانه وتعالى، وكم فيه من انشراح صدر وطمأنينة قلب! وكم فيها من هدوء قلب وزوال للغموم والهموم! وكم فيها من إشراق في الوجه وقوة في البصر وإشراق في البصيرة! وكم فيها من الخير! وحسبك أن الله سبحانه وتعالى يفرح بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (للهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم ضاعت منه ناقته في أرض فلاة وعليها زاده وطعامه، فلما أيس منها نام تحت ظل شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ وإذا بناقته عنده، فأخطأ من شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك). فالله عز وجل يفرح بتوبة عبده، فكيف بفرح العبد؟! فتأمل أيها العاصي! ما تجد من لذة التوبة ولذة الأنس بالفرح الإلهي الرباني، فإن ذلك من أعظم هذه الأمور.

أهمية الدعاء في نجاح التوبة وترك المعصية

أهمية الدعاء في نجاح التوبة وترك المعصية ومن الأمور المعينة على ترك المعاصي والفيء إلى ظل التوبة: الدعاء، فليس هناك أنجع ولا أنفع ولا أسرع في التأثير من هذا الدعاء إذا خرج من قلب مخلص، فادع الله أن يخلصك من الدنايا، وأن يفطم نفسك عن حب المعاصي، وأن يصرف بصرك وبصيرتك عن الشهوات، وأن يرزقك حب الطاعات، فإن ذلك مما يرجى -بإذن الله- أن يكون فيه أعظم الخير وأكبر التوفيق. إذا كثرت منك الذنوب فداوها برفع يد في الليل والليل مظلم ولا تقنطن من رحمة الله إنما قنوطك منها من خطاياك أعظم فرحمته للمحسنين كرامة ورحمته للمذنبين تكرم ومن ذلك: قراءة القرآن والاستعاذة من الشيطان.

آثار التوبة وفوائدها

آثار التوبة وفوائدها ولهذه التوبة آثار كثيرة وعجيبة؛ فالإنسان يجد بعض اللذة المشوبة بالخوف وبالتنغيص في هذه المعاصي، فما من لذة في المعصية إلا ويشوبها خوف واضطراب، إما خوف الناس والحياء منهم وأن يقفوا منه على هذه العورة وتلك السوءة، أو خوف الله عز وجل الذي يجعله يهتم ويغتم لما قد يوقع عليه من العقوبة الآجلة أو العاجلة، وكذلك يبقى مع هذه اللذات في هذه المحرمات أمور منغصة، فإنه ينتهبها نهباً، ويختلسها خلسة، ويأخذها على عجل، ويستتر بها عن أعين الناس، ويرى أنه يأتي أمراً حراماً، ولا يمكن أن يجد فيها لذة، ومهما زاد منها، فإنها ظلمة في القلب وضيق في الصدر، نسأل الله عز وجل السلامة. فلينظر إلى الآثار الإيجابية في التوبة، وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في (مفتاح دار السعادة) أقوالاً كثيرة في هذه الآثار منها أنه قال: توجب له من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده والرضا عنه عبوديات أخر عظيمة وعجيبة، كما قيل: وربما صحت الأجسام بالعلل، قد يقدر الله الذنب فيعقبه التوبة فيحصل ذلك الفرح والفرج والخير من الله سبحانه وتعالى. ومنها: أنه إذا شهد ذنوبه ومعاصيه وتفريطه في حق الله عز وجل استكثر القليل من نعم ربه -يعني: أنه يقول: هذه النعم كثيرة علي وأنا عاصٍ، فإذا وجد التوبة والطاعة أيضاً استقل هذه الطاعات في عظيم نعم الله سبحانه وتعالى، ولا يدرك ذلك إلا إذا سار في طريق الطاعة، وأناب إلى طريق التوبة. ومنها: أن الذنب يوجب لصاحبه التيقظ والتحرز من مصائد عدوه، فالذي يذنب ثم يقلع عن الذنب إلى التوبة فإنه يكون أعرف بهذه المعاصي وأبعد عنها، وشديد الحذر وعظيم الحيطة منها، كما قال عمر رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، فإذا عرفها كان أبصر بمداخلها، ولذلك كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه ومحبة له وجهاداً لأعدائه وتكلماً بأعلامه، وتحذيراً من خلافه لكمال علمهم بضده، فالذين يقعون في المعصية ثم يكتب الله لهم التوبة -كما نسمع من حال كثير من التائبين- يكون عندهم علم بما يقع من هذه المعاصي، وكيف أساليبها، وكيف فتنتها، وكيف آثارها، وأضرارها، فيكون لسان حالهم في الوعظ والتذكر أبلغ ممن لم يكن كذلك، وليس في ذلك تسهيل ولا دعوة إلى تلك المعاصي. ومنها: أن القلب يكون ذاهلاً عن عدوه من الشياطين والأبالسة، فإذا تاب علم أنه كان مستسلماً للعدو فتنبه إلى مثل هذا الأمر. ومن ذلك: أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبده خيراً أنساه رؤية طاعاته، ثم يبتليه بالذنب، ويجعله نصب عينيه، فينسى الطاعات، ويجعل همه كله ذنبه، فيستغفر الله سبحانه وتعالى إلى آخره. ومن آثار التوبة: أن ينشغل الإنسان بعيوب نفسه، وأن ينصرف عن عيوب الناس، فأكثر ما تجد العصاة لهم ألسنة لا يسلم منها أحد، ولهم أبصار تهتك كل ستر، عياذاً بالله! وينشغلون بالقيل والقال وبتتبع السقطات وتلمس العثرات، أما المؤمن إذا أقلع عن ذنبه وفاء إلى ربه وتاب إلى الله سبحانه وتعالى علم أن عنده ذنوباً تشغله عن ذنوب الآخرين، وأن عنده عيوباً لو قضى عمره كله في إصلاحها لشغلته عن عيوب الناس الآخرين. فلذلك أيها الإخوة الكرام! ينبغي أن نكون -بإذن الله عز وجل- على هذا القدم من الهمة في الإقلاع عن المعصية، ومحو رسومها وشخوصها وكلما يمت إليها بصلة في واقع قلوبنا ونفوسنا، وفي واقع بيوتنا وبيئاتنا، ونسعى إلى ذلك في واقع مجتمعاتنا؛ لأن المعصية في المجتمع لها أثر عليك، مثل الهوى الملوث، فإذا خرجت في السوق ورأيت المنكرات والمعاصي فإنها تؤثر عليك شئت أم أبيت، فلابد أن يكون هناك حرب على هذه المعاصي، ودروع تقي سهامها، واحتياطات تمنع من شرورها، ولابد فوق ذلك كله من توبة فيها ندم وحرقة تدفع -بإذن الله عز وجل- إلى أن يكون هذا الندم وقوداً يدفع إلى طاعة لله سبحانه وتعالى لا تنقطع. والله نسأل أن يمنعنا عن المعاصي، وأن يسهل لنا ويوفقنا إلى الطاعات.

الأسئلة

الأسئلة

تذكر المعاصي ونسيانها

تذكر المعاصي ونسيانها Q هل الأفضل نسيان المعاصي أم تذكرها؟ A النسيان والتذكر لكل منهما وجه إيجابي وآخر سلبي، فإذا كان تذكرها ليتذكر مغبتها وجرأته فيها على الله ويزداد ندماً فذلك قد يكون فيه خير يدفعه إلى مزيد من الندم والبكاء والتضرع والذلة، ويدفعه إلى مزيد من العمل الصالح والإنفاق والتوبة والاستغفار، وأما إذا كان تذكرها للترغيب فيها والاستلذاذ بها والحنين إليها فذاك لا شك أنه داعية إلى المعصية فينبغي أن يفطم نفسه عن مثل هذا.

كيفية الاستمرار على التوبة

كيفية الاستمرار على التوبة Q كيف يعود الإنسان نفسه على الاستمرار على التوبة؟ A ليس هناك وصفة طبية، وإنما هي: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فاصدق الله واعزم على عدم الوقوع في المعصية، وأقلع إقلاعاً حاسماً ليس فيه تهاون ولا تسويف ولا أنصاف حلول، ثم اشرع في التوبة تذق لذتها، وابدأ في الطاعة ترى حلاوتها، فإنك حينئذ من طريق إلى طريق تتحول الوجهة بإذن الله عز وجل، وإذا صحت النوايا صح من الله سبحانه وتعالى تيسير الأمور ونزول التوفيق بإذنه سبحانه وتعالى.

معرفة حكم الشرع في المعاصي

معرفة حكم الشرع في المعاصي Q هل هناك شبهات في تحريم التلفاز والسجائر والشيشة والفيديو وغير ذلك؟! A هل نضحك على أنفسنا؟ فهل تظن أن أحداً ممن ينظرون إلى الأفلام التي فيها النساء الكاسيات العاريات، والتي فيها الكلمات الفاسقة الفاجرة، والتي فيها المواقف المحمومة المشبوهة، والتي فيها كل ما هو من سخط الله، هل نظن أن أحداً من أولئك يفعل ذلك وهو يرى ذلك حلالاً أو يراه قربة وطاعة، أو يراه خيراً ومصلحة؟! إن أحداً لا يرى ذلك في أغوار قلبه وأعماق نفسه، ولكنها غفلة وهوى وضعف وأسر وقيد قد كبلته به المعاصي، فهو لا يملك لنفسه حولاً ولا قولاً وهو كرضيع لا يزال يفيء إلى أمه يرضع منها إن لم يفطم نفسه ظل على ذلك، وكان ذلك عاراً وشناراً عليه، وهل أحد يظن في مثل هذه الآثام أن فيها منفعة دنيوية أو أخروية، أو أن فيها مصالح طبية، أو أن فيها منافع اقتصادية؟! أغلب الناس يعلمون حقيقتها، ولكنهم يغالطون أنفسهم، أو ليست عندهم همة وعزيمة في مثل هذا الأمر.

فعل المعاصي في الخلوة

فعل المعاصي في الخلوة Q هناك شاب عندما يكون وحده يمارس بعض الأعمال والمعاصي، كمشاهدة الأفلام وغير ذلك، فهل هذا من أعمال النفاق؟ A ذلك دليل ضعف إيمان ودليل عدم تمكن للطاعة وحبها وللإيمان وقوته في القلب، وإلا فإن المؤمن الصادق يكون أشد احتياطاً وتورعاً من المعصية، وأكثر إقبالاً وحباً للطاعة حال خلوته أكثر من حال جلوته مع الناس، وهذا ميزة ما بين المؤمن الصادق وغيره.

الحذر من الاستغراق في الضحك واللعب

الحذر من الاستغراق في الضحك واللعب Q بعض الملتزمين قد يقضون أوقاتهم في الضحك واللعب بعيداً عن ذكر الله والجد، وهذا يسبب ضعف الإيمان والغفلة، فما توجيهكم؟ A هذا من أعظم البلاء الذي قد ينتكس به حال الإنسان من حال خيرية إلى حال رديئة، فيجب الحذر من ذلك. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

عائشة الحميراء

عائشة الحميراء لقد حازت عائشة رضي الله عنها على خصائص وفضائل بوأتها مكانة عالية ودرجة رفيعة، ومن هذه الخصائص والفضائل: مكانتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حبه لها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف واحدة من أزواجه سواها، ومرضه ووفاته ودفنه عليه الصلاة والسلام كان في بيتها، وقد كانت حسنة العشرة معه، ومن فضائلها علمها رضي الله عنها، فقد قال عنها الصحابة والتابعون والعلماء: إنها أعلم وأفقه نساء الدنيا، ومن فضائلها زهدها وإنفاقها للمال في سبيل الله وجهادها وعبادتها وورعها رضي الله عنها وأرضاها.

فضائل عائشة رضي الله عنها وخصائصها ووصفها

فضائل عائشة رضي الله عنها وخصائصها ووصفها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله هو لكل خير يرتجى، وإليه من كل شر الملتجأ، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى، وإن هدى الله هو الهدى، من تمسك به اهتدى، ومن حاد عنه ضل وغوى. أما بعد: فهذا الدرس الخامس والخمسين، وهو بعنوان: (عائشة الحميراء قدوة النساء) وقد سلف لنا أحاديث عديدة حول ما يتعلق بالمرأة المسلمة وبعض الموضوعات المتعلقة بها، وحديثنا عن عائشة رضي الله عنها يخدم هذا الجانب على وجه الخصوص، وإن كان في موضوع سيرتها ما هو نافع ومفيد للمجتمع المسلم كله رجالاً ونساءً؛ لأن في مواقفها وتعاملها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما مر بها من الأحداث والوقائع مع الصحابة رضوان الله عليهم ما فيه كثير من الدروس والعبر. والحديث الذي يجري في هذا الصدد أيضاً له سبب آخر؛ لأن ما يتعلق بتراجم النساء وقدوات المؤمنات يعتبر قليلاً في جانب ما هو منصوب من القدوات في صفوف الرجال، فنحن نعلم أن الحديث يكثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الأئمة العلماء، وعن سلف هذه الأمة، ونذكر الإمام أحمد والشافعي وأبا حنيفة والإمام مالكاً وغيرهم من هؤلاء، ويقل ذكر قدوات النساء، فلعل ذكر عائشة رضي الله عنها يعتبر مثالاً يحتذى؛ لما لها من عظيم الفضائل وكثير الخصائص رضي الله عنها وأرضاها. فـ عائشة رضي الله عنها -كما قال الذهبي - بنت الإمام الصديق الأكبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر عبد الله بن قحافة عثمان بن عامر القرشي القرشية التيمية المكية النبوية أم المؤمنين رضي الله عنها، فقد حازت الفضل من كل جوانبه، ونالت الشرف من سائر أوجهه، وهي التي ولدت في ظلال الإسلام، كما قالت: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين). فقد ولدت في الإسلام وفي بيئة إسلامية، وحتى ندرك بإيجاز أول ما يتعلق بسيرة عائشة رضي الله عنها نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها وهي ابنة ست سنين، ودخل عليها وهي ابنة تسع سنوات، وتوفي عنها صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ثماني عشرة سنة). فتأمل هذه السيرة التي أهلتها بعد ذلك إلى أن تكون قدوة من القدوات، وعلماً من أعلام الأمة الإسلامية كلها مع هذه الفترة الوجيزة، لكنها كانت فترة عظيمة لالتصاقها برسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر أهل السير في وصفها أموراً وأوصافاً كثيرة، كما أفاض في ذلك ابن كثير في البداية والنهاية عندما ترجم لها في سنة وفاتها، قال: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أزواجه إليه، المبرأة من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وعن أبيها. وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، وكانت عائشة رضي الله عنها تكنى بـ أم عبد الله، ولم يكن لها ولد؛ لأنها لم تلد مطلقاً، لكنها ربت ابن أختها أسماء وهو عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فكانت تكنى به رضي الله عنها. وقد أوجز ابن كثير في هذه الترجمة ما سأذكره بإيجازه ثم يأتي تفصيل بعضه. ذكر ابن كثير جملة وافرة من خصائص عائشة رضي الله عنها فقال: لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً سواها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها، فهذه كلها أمور لم يشاركها فيها غيرها. قال: وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حرير مرتين أو ثلاثاً يقول له: هذه زوجتك. فتزوج بها بأمر الله ووحي الله سبحانه وتعالى. قال: ومن خصائصها أنه كان لها في القسم يومان: يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن خصائصها أنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها صلى الله عليه وسلم، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعات الدنيا وأول ساعة من ساعات الآخرة له عليه الصلاة والسلام، ثم دفن في بيتها. ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أعلم نساء الأمة على الإطلاق بلا نزاع في ذلك بين أهل العلم. وقد قال أهل العلم في وصف علمها شيئاً كثيراً يأتي ذكره لاحقاً. فهذه عائشة رضي الله عنها بما ذكر في وصفها على سبيل الإجمال، وفضائلها كثيرة مشهورة في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد جاء ونزل في حقها آيات تتلى من كتاب الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ففي الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أريتك في المنام ثلاث ليال جاء بك الملك في سرقة من حرير -يعني: مغطاة بقطعة من حرير- يقول: هذه امرأتك. فأكشف عن وجهك فإذا أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه) وقد أمضاه الله سبحانه وتعالى. وفي فضيلة قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم محبته عليه الصلاة والسلام لها ما ورد في الحديث الصحيح عن عمرو بن العاص -وهو ممن أسلم في السنة الثامنة للهجرة- أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: عائشة قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) فكانت هي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الذهبي بعد إيراده هذا الحديث تعليقاً عليه قال: وهذا حديث ثابت صحيح رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً، وقد قال: (لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام أفضل) يقول الذهبي: فأحب عليه الصلاة والسلام أفضل رجل وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله. وأقوال الرافضة في عائشة رضي الله عنها مرفوضة مردودة قبيحة، حتى إن بعضهم قد غالى في ذلك وقال قولاً يكفر به صاحبه إن اعتقده، قال بعض الغلاة ممن كانوا على هذه النحلة والملة في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قال: هي عائشة. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة) لمعرفة الصحابة محبة النبي عليه الصلاة والسلام لـ عائشة، فقد كانوا يهدون إليه في اليوم الذي يكون عندها، حتى يكون ذلك اليوم أكثر سعداً وفرحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: (فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة) وكانت أم سلمة من كبار أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سناً، وسيأتي تفصيل الحزبين اللذين كانا في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بحكم طبيعة المرأة وغيرتها. قالت: (فجئن إلى أم سلمة فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فقولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يهدوا له أينما كان. فذكرت أم سلمة ذلك له فسكت فلم يرد عليها، فعادت الثانية فلم يرد عليها، فلما كان الثالثة قال: يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة؛ فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) وهذه فضيلة لها عن باقي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وتحكي عائشة حال أزواجه صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان طبيعة فطرة المرأة مع العصمة في الشرع والبعد عن المخالفة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة: (إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة، والحزب الآخر فيه أم سلمة وسائر أزواجه، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله عليه الصلاة والسلام عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله أخرها حتى إذا كان في بيت عائشة بعث بها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام. فتكلم حزب أم سلمة مع أم سلمة لتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها ذلك القول، فقالت في هذه الرواية أم سلمة: أتوب إلى الله من ذلك يا رسول الله. ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلنها إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تقول له: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي بكر. فكلمته فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى. فرجعت إليهن وأخبرتهن، فقيل لها: ارجعي إليه. فأبت أن ترجع، فأرسلوا بعد ذلك زينب بنت جحش رضي الله عنهن جميعاً، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظت له في القول وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة -أي: ببعض القول- وعائشة قاعدة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تتكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسككتها -أي: ذكرت لها من القول ما ألجمها وأسكتها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنها ابنة أبي بكر) فشهد لها هذا الموقف بفضلها على أ

علم عائشة رضي الله عنها

علم عائشة رضي الله عنها أنتقل إلى جانب مهم من جوانب سيرة عائشة رضي الله عنها، ذلك هو علمها؛ لأن هذا الجانب يكاد يكون في غاية الضعف عند نسائنا في هذه الأيام، فإننا إذا تحدثنا عن طلب العلم والحرص على دروس العلم ونحو ذلك فكأن الغالب في أذهاننا أن ذلك الحديث مخصوص بالشباب دون الشابات، وبالرجال دون النساء، وكذلك نجد أن البيئة التي نعيش فيها تظهر فيها نماذج من طلبة العلم والحريصين عليه حفظاً لكتاب الله عز وجل، وحفظاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واطلاعاً على أقوال أهل العلم وكتب الفقهاء وغير ذلك، نجد ذلك في صفوف الرجال والشباب أكثر منه في صفوف النساء، حتى توهم الناس أنه لا يكون للمرأة قدرة على أن يكون حظها من العلم مثل حظ غيرها من الرجال، بل قد سرى وهم إلى بعض الرجال أن المرأة زوجة كانت له أو بنتاً أو أختاً أنها دون أن تكون لها صلة بالعلم والاستنباط والفهم والفقه، مع أن هذا غير صحيح، ونشأ عن هذا فقر مهم، وفي نفس الوقت خطير؛ لأن النساء لهن حاجات ومسائل قد يمنعهن الحياء أن يسألن عنها الرجال، وخاصة في أمور المعاشرة مع الأزواج، وفي أمور الطهارة الخاصة بالنساء، فلما قل الفقه في النساء أصبح وقوع الخلل منهن لعدم سؤالهن للرجال حياءً أو تحرجاً أو غير ذلك أصبح هذا ظاهراً بشكل كبير، وهذا أيضاً مدخل خطير؛ لأن عدم تهيؤ المرأة واستعدادها وميلها وعلمها بإمكانية طلبها للعلم ونبوغها فيه ونفعها لبنات جنسها جعلها أكثر عرضة وتهيئةً لأن يصطادها أعداء الله عز وجل، وأن يشغلوها بأفكار ومطالعات وقراءات بعيدة عما ينفعها في دينها ودنياها وفي آخرتها. ولذلك في الحقيقة أرى أن جانب العلم -سيما في الأمور التي تخص المرأة- من المهم جداً أن تنتدب له النساء الصالحات القانتات العابدات، وأن يحث الرجل من له عليه ولاية من النساء على أن تأخذ حظها من العلم لتنفع نفسها وتنفع بنات جنسها، وإن حديث الرجال إلى النساء قاصر في تأثيره وفي لمسه لحاجتهن ومعرفته بأحوالهن، ولذا يكون لسان المرأة إلى المرأة أبلغ، وتعليم المرأة للمرأة أقوى، ولأن الحواجز والموانع الشرعية من الحجاب وغير ذلك تمنع من أن يكون التواصل العلمي والتربوي كاملاً، فإنه لا يغني ذلك من جانب الرجال الغناء الكامل، بل لا بد أن يكون في صفوف النساء المسلمات عالمات ومربيات وداعيات؛ لأن علمهن بأحوال النساء وقربهن منهن وقدرتهن على معاشرتهن ومواجهتهن ومكاشفتهن ومصارحتهن تؤدي دوراً أكبر، ولذلك أسوق هذه القدوة في العلم للنساء وللرجال، فإن عائشة رضي الله عنها قد كان الرجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم الأمر وأعجزتهم المسألة رجعوا إليها رضي الله عنها، فأخبرتهم حكم وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها. فلذلك قال الذهبي رحمة الله عليه: إن عائشة أفقه نساء الأمة على الإطلاق. وذكر أن مسند عائشة من الأحاديث يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثاً، وانفرد مسلم بتسعة وستين حديثاً، ولا يوجد في النساء من هي أكثر رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة، ولم يكن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالعدد الكثير من النساء عبثاً، وإنما كان ليطلعن على ما لا يطلع عليه إلا المرأة من زوجها في شأن الأمور الدقيقة، فينقلن هذا العلم والأحكام الشرعية المتعلقة بأخص خصائص ما بين الرجل وزوجته لنساء الأمة ورجالها على حد سواء، ولذلك قال الذهبي: لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها. وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزوجه وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة رضي الله عنها أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة. وتأمل هذه الجملة الأخيرة، بل تأمل هذا النص كله: (كانت أفقه الناس وأعلم الناس) فالفقه غير العلم، العلم حفظ، والفقه استنباط، فقد جمعت بين الأمرين معاً (وأحسن الناس رأياً في العامة) أي أنها تعرف أمور الناس ومجريات الحياة، وما ينبغي أن يكون من التوجيه، وكيف تكون هذا الأساليب. وقد ورد في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن عائشة رضي الله عنها استدعت قاص أهل المدينة الذي كان يقص لهم القصص ويعظهم بالمواعظ وقالت له: لَتعاهِدَنيِّ أو لأقاطعنك. قال: علام يا أم المؤمنين -أو: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - قالت: (أن لا تمل الناس وأن لا تقنطهم، وإذا حدثتهم فحدثهم يوماً ويوماً) تعني: لا تملهم في الحديث. وقالت له: لا تملهم بطول حديثك وتكراره، ولا تقنطهم بتأييسهم من رحمه الله عز وجل وإكثار الخوف عليهم دون أن تفتح لهم باب الرجاء. وتلك العبارة تدلنا على أنها كانت أحسن الناس رأياً في العامة. وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة رضي الله عنها. وهذه الرواية عن عروة تروى بوجه آخر مفصل يبين لنا أن عائشة كانت على ذكاء وافر وفطنة عجيبة، يقول عروة -وهو ابن أختها-: صحبت عائشة رضي الله عنها فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بقضاء ولا طب منها. فانظر! فقد كانت تعرف الأنساب، ولا غرو في ذلك؛ فهي ابنة نسابة قريش أبي بكر رضي الله عنه. وكونها تعلم علم القرآن والسنة والفقه لا غرو في ذلك؛ فقد كانت زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم. يقول عروة: قلت لها: يا خالة! الطب من أين علمتيه؟ أي: عرفنا أنك علمت الفقه والأحكام من الرسول عليه الصلاة والسلام، والنسب من أبي بكر، والشعر من حسان، لكن من أين لك هذا الطب؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء لأتعالج به، ويمرض المريض فينعت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه)، فكانت رضي الله عنها طبيبة قلوب وطبيبة أبدان، فهذا يدل على الفطنة، ويدل على أن عائشة لم تكن اهتماماتها اهتمامات سطحية كحال بعض نسائنا اليوم. فإن بعض النساء اليوم عندها فطنة، وعندها ذكاء، وعندها سرعة حافظة، لكنها موجهة توجيهاً غير سليم، فتراها تمزج الموديلات للملابس بين هذا وهذا، وتحفظ ذاك، والأول والثاني، وتعرف أن هذا طراز قديم وهذا طراز حديث، بينما عائشة رضي الله عنها كانت لها أذن واعية وقلب مستقبل لكل ما فيه منفعة في هذه الدنيا وفي الدين على وجه الخصوص، ولذلك قال عروة: فلقد ذهب عامة علمها لم أسأل عنه. وعروة هو ابن أختها، والذي كان ملازماً لها، والذي روى كثيراً من علمها، فلكثرة علمها وتشعبه يقول: إنها ماتت وتوفيت وذهب عامة علمها ولم يستطع أن يسألها عنه لكثرته، فمضى الزمان وانتهى عمرها قبل أن يأخذ علمها الغزير. وكانت تحفظ الشعر وترويه كأحسن ما يروي الناس الشعر، ولا تنس أن هذا كله والنبي عليه الصلاة والسلام توفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، واليوم ربما ابنة الثامنة عشرة لا هم لها إلا أن تحسن وجهها، وتنعم صوتها، وتتكسر في مشيتها، لا تعرف اهتماماً من أمور الدنيا ولا من أمور الدين، ولا تفكر في آخرة، ولا تحوز علماً، ولا تتأهل إلى تربية، ولا تتصدى لفتيا، ولا شيئاً من ذلك مطلقاً، وهذا يدلنا على البون الشاسع بين ما كانت عليه أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ونساء المؤمنين وبين ما آل إليه الحال في نساء هذا الزمان إلا من رحم الله في عصرنا هذا، ولذلك ينبغي للمرأة أن تفطن لما يتعلق بتحصيل العلم، فقد كانت عائشة رضي الله عنها على هذا النحو الواسع من العلم. وعن الشعبي أن عائشة رضي الله عنها قالت: (رويت للبيد نحواً من ألف بيت) وكان الشعبي يذكرها -أي: عائشة - فيتعجب من فقهها وعلمها، فإذا كان هذا العلم الذي تحفظه فما ظنك بالتربية العلمية والعملية التي تلقتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا لجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم ونهلوا من علمها وأخذوا من فقهها كثيراً. قال ابن سعد في الطبقات: كانت عائشة رضي الله عنها أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أيضاً: ما كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يشكون في شيء إلا سألوا عنه عائشة، فيجدون عندها من ذلك علماً. بل قد صنف الزركشي كتاباً كاملاً سماه: "الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة" أي: فيما استدركت عليهم من الأخطاء التي وقعوا فيها، أو الأقوال التي خالفتهم فيها بحجة ودليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك ما ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى عمر رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) فقالت عائشة رضي الله عنها: (رحم الله ابن الخطاب، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما قال: إن الكافر ليعذب ببكاء أهله عليه) وكانت تستدرك وتقول: (حسبكم كتاب الله (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]). فكان عندها فقه عجيب، وبصر نافذ، وإحاطة شاملة بكثير مما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: ما

المعاملة الزوجية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عائشة

المعاملة الزوجية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عائشة أنتقل إلى جانب مهم يهم الرجال والنساء معاً، ذلك هو جانب المعاملة الزوجية التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين وبين عائشة رضي الله عنها، وهي من علمنا فضلها وخصائصها. جملة من الروايات والقصص في معاملة رسول الله عليه الصلاة والسلام لـ عائشة تكشف لنا عما ينبغي أن يكون عليه الرجل مع زوجته، وما ينبغي أن تكون عليه الزوجة مع زوجها. فمن ذلك تلطفه عليه الصلاة والسلام ورقته وحنانه ومحبته وتودده لـ عائشة رضي الله عنها، كما ورد في الصحيح عن عائشة تقول: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، وإنه ليسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقف من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو) فهذا الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو من هو عظمة- يتودد إلى عائشة، ويمكنها من أن ترى بعض ما يدخل السرور على نفسها، ويقف لأجلها حتى يكون رداءاً وساتراً لها، ولا يتحرك حتى تنتهي من مطالعتها ومن متعتها وسرورها تلطفاً منه عليه الصلاة والسلام ومراعاة لها ولسنها، فما بال الرجال يأنفون من أقل من هذا بكثير، بل يستكثرون به على أزواجهم، ويظنون أن في ذلك إذهاباً لهيبتهم، وأنه لا بد أن يكون الواحد منهم متجهم الوجه، مقطب الجبين، ينظر بعينه شزراً، وتتقد عينه جمراً، وإن لم يكن كذلك فلا يكون رجلاً، هذا لا شك أنه من فرط الجهل لأصول المعاشرة. فإن الإنسان قد يتوقى ويتحرز من الناس البعيدين أو الأغراب، أما من تكثر الخلطة معهم فلا بد من أن تكون معهم على لين وتودد وتلطف، وعلى ترسل في المعاملة من غير تكلف، وعلى إبداء ما عندك دون حرج؛ لأنك ستلقاهم كل يوم، فلو تحفظت وتحرجت وتهيبت فإنك لا تستطيع أن تستمر على ذلك. قد ترى الإنسان عندما تتعرف إليه أول أمره لا يتكلم معك في خاص أموره، ولا فيما يتعلق ببعض ما يحترز منه من الدعابة أو المزاح أو كذا، لكن إذا أكثرت خلطته وعشرته بدا لك منه كل شيء، فكيف يكون الرجل مع زوجته وهي أقرب الناس إليه وأكثرهم عشرة له ثم لا يتلطف ولا يتودد ولا يكون في سيرته معها على ما هو طبعه وسجيته دون أن يكون متكلفاً ولا متجهماً؟! وكذلك من لطائف هذه المعاملة الزوجية ما ورد في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى). ليس هناك من غضاضة ولا جرم ولا كبيرة من الكبائر أن تغضب المرأة على زوجها، لما قد يقع من أسباب الاختلاف المعتادة في حياة الناس، ولكن انظر إلى أدب عائشة وإلى فطنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (كيف ذاك يا رسول الله -أي: كيف تعرف رضاي من غضبي-؟! فقال: إذا كنت راضية عني قلت: لا ورب محمد. وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، فقالت عائشة رضي الله عنها: أجل والله ما أهجر -يا رسول الله- إلا اسمك) فهذا يدل على أنه قد يقع ما يوجب الخلاف والنزاع، ولكن لا بد أن يكون له حده، فلا تتجرأ المرأة على زوجها ولا تشتمه ولا تنتقصه ولا تذكره بما يسوءه، ولا تنعته بما لا يحب ولا تصفه بما يكره، ولا تنبزه بما هو عيب وإن كان فيه، لئلا توغر صدره وتجعل -كما نقول- من الحبة قبة، ولئلا تنفخ في نار هذه الشحناء اليسيرة والمخالفة اليسيرة، فإذا بها تغدو مشكلة كبيرة وصراعاً عنيفاً لا يحل بسهولة، ثم انظر إلى أدب عائشة رضي الله عنها وحسن تقديرها وتعظيمها لرسول الله عليه الصلاة والسلام مع إشعارها بأنها غضبى حتى يتلطف معها، فإنها تشعره بأقل القليل الذي يغني عن غيره، فكانت تقول: (لا ورب إبراهيم) وإذا كانت راضية تقول: (لا ورب محمد) وما أخطأت في القولين كليهما، وإنما أحسنت في الأدب، وانظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام! ما قال لها: إني أعرف أنك غاضبة ليقابل غضبها بغضب، وإنما ليستل ويدخل هذا المدخل اللطيف الودود المحبب ويقول لها مداعباً وملاطفاً: إني أعرف هذه الحالة وهذه الحالة. وبين لها أنه قد بلغته رسالتها وعرف مقصدها، وأراد أن يمحو ما كان من سبب هذا الغضب. ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث النعمان بن بشير قال: (استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عائشة ترفع صوتها عليه فقال: يا بنت فلانة!) وهذه أساليب العرب العجيبة في تعاملهم، هي ابنته لكن في هذا الفعل لم يكن راضياً عنها، فلم يرد أن ينسبها إليه وهي تفعل فعلاً لا يحبه فقال: (يا ابنة فلانة!) نسبها إلى أمها، ثم قال: (ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، أراد أبو بكر أن يتوجه إلى عائشة ليضربها ويعنفها، وقد استنبط بعض أهل العلم أنه يجوز لأب البنت أن يربيها وأن يزجرها بحضرة زوجها، لكن انظر): (فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها) مع أن النبي عليه الصلاة والسلام هو -إذا صح التعبير- المعتدى عليه، وعائشة هي التي رفعت صوتها عليه، ومع ذلك حال بينها وبينه: (ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يترضاها) يترضى عائشة ويتلطف معها وقال: (ألم تريني حلت بينك وبين الرجل؟!) يستشفع بالموقف الدفاعي الذي وقفه عليه الصلاة والسلام، ثم استأذن أبو بكر مرة أخرى فسمع تضاحكهما، أي: النبي عليه الصلاة والسلام وعائشة. قد أزال عليه الصلاة والسلام بحسن معاملته هذا الأمر الذي كان سبب هذا الغضب، فقال أبو بكر: (أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما) ما أجمل هذا الموقف! وما أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما أحسن تأتي. عائشة ولينها وانكسارها لرسول الله عليه الصلاة والسلام! ومعلوم أن الحياة الزوجية لا تخلو من المكدرات، ولكن هذه المعاملة هي التي تزيل أسباب الكدر، وإذا كانت هناك مكدرات فإن هناك مهدئات ومسكنات من هذه المعاملة اللطيفة، فلذلك رفعت المرأة صوتها على زوجها ولم يكن زوجها أي أحد، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل منها مراعاة لطبيعتها وغضاً للطرف عما سبب لها ذلك الغضب، ثم بعد ذلك حال بينها وبين أبيها، ثم جعل يترضاها ويستشفع بما كان منه من موقف تجاهها، ثم تضاحك الزوجان مرة أخرى وعاد الوئام في لحظات، وإن لم يكن الأمر كذلك فإن الكلمة تجر أختها، وأحياناً الحركة تجر غيرها، وتزداد الشقة والخلاف والنزاع. والحديث هنا لعله يكون أكثر توجيهاً للأزواج والرجال أكثر منه للنساء، كل هذه المواقف تربية في سيرة عائشة وهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام لكلا الجنسين، ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته ما شاء -أي: أكثر من مرة- حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: يا عائشة! هذه بتلك). موقف جميل جداً لعل الواحد منا يتنزه عما هو أقل منه، ويرى أن ذلك خارم لمروءته وجارح في عدالته وإنزال من منزلته، فإذا ظن ذلك فليستغفر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، ولنا فيه قدوة وأسوة حسنة، فإنه كان يتلطف بهذا، وهذا يدلنا أيضاً على عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام من وجه آخر، فإنه كان يجيش الجيوش، ويدرس الدروس، ويربي الرجال، ولم يشغله كل ذلك عن أن يكون مؤدياً لحق أهله ومراعياً لزوجته حتى في تفرغه لمسابقتها ومداعبتها وملاعبتها، وغير ذلك من الأمور التي ينشغل عنها الناس اليوم، ولا يفطنون لها ولا يتوددون بها إلى أزواجهم، فتبقى الحياة كاحتكاك الحديد بالحديد ليس هناك بينهما حسن التلطف والتودد الذي يزيل هذا الاحتكاك ويجعل المسائل على أحسن وجه مما يجعل الحياة الزوجية هانئة سعيدة. ومن لطفه عليه الصلاة والسلام وعظيم محبته لـ عائشة رضي الله عنها -وهذا حب فريد منه عليه الصلاة والسلام يعلمنا به أن الحب في ظل الشرع أمر لا حرج فيه- ما روته عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العظم فأتعرقه - أي: تأكل عروق العظم ما بقي من اللحم - ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي) كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم تحبباً وتلطفاً معها وإشعاراً لمنزلتها عنده صلى الله عليه وسلم. وهنا أيضاً حادثة لطيفة فيما يتعلق بين الزوجات مع أزواجهن، والرواية عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لـ عائشة وحفصة معها، وكان إذا كان بالليل يمشي مع عائشة يتحدث وقت الليل، ثم بعد ذلك يرجع فينام، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر -تعني: تجربين هذا البعير وأنا أجرب بعيرك-؟ فقالت: بلى. فركبت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم عليها ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وجعلت تقول: يا رب! سلط علي عقرباً أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً) تبدي ما كان من ندمها في هذا الشأن. فهذه مواقف يسيرة من معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة رضي الله عنها، وحسن أدب عائشة مع المصطفى عليه الصلاة والسلام. وهذا كله يدلنا على ما ينبغي أن يكون بين الرجل وزوجته.

الأحكام الفقهية المتعلقة بسيرة عائشة رضي الله عنها

الأحكام الفقهية المتعلقة بسيرة عائشة رضي الله عنها هناك بعض ما يتعلق بالأحكام الفقهية في قصة عائشة رضي الله عنها، وهذا نوع من المزواجة حتى ننتقل من مرحلة إلى أخرى؛ لأن هناك مواقف أخرى سيأتي ذكرها لاحقاً. ففي مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بتربان -بلد بينه وبين المدينة بريد وأميال وهو بلد لا ماء به- وذلك من السحر انسلت قلادة من عنقي فوقعت، فحبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم لألتمسها حتى طلع الفجر، وليس مع القوم ماء، فلقيت من أبي ما الله به عليم من التعنيف والتأفيف، قال: وفي كل سفر للمسلمين منك عناء وبلاء! فأنزل الله الرخصة في التيمم، فتيمم القوم وصلوا، قالت: يقول أبي حين جاءت الرخصة من الله للمسلمين: والله -ما علمت- يا بنية إنك لمباركة، ماذا جعل الله للمسلمين في حبسك إياهم من البركة واليسر) فهذا مما كان من أسباب الأحكام الفقهية في شأن عائشة رضي الله عنها. ومن ذلك أيضاً فيما يتعلق بالأحكام الفقهية المنقولة والملتصقة بسيرة عائشة، ما روي عن أبي قيس مولى عمرو قال: (بعثني عبد الله بن عمرو إلى أم سلمة وقال: سلها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم؟ فإن قالت: لا فقل: إن عائشة تخبر الناس أنه كان يقبل وهو صائم، فقال لها ذلك، فقالت له: لعله لم يكن يتمالك عنها حباً أما إياي فلا)؛ لأنها كانت رضي الله عنها كبيرة في السن، وهذا حكم فقهي فيما يتعلق بها رضي الله عنها. ومن ذلك أيضاً ما روته بكرة بنت عقبة أنها دخلت على عائشة وهي جالسة في معصفرة -أي: لباس مزين أو فيه صفرة- فسألتها عن الحناء، فقالت: شجرة طيبة وماء طهور. وسألتها عن الحفاف فقالت: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتصنعينها أحسن مما هما فافعلي. وهذا من أعظم فقه عائشة بالنسبة للنساء، تقول: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك -أي: عينيك- فتصنعيهما أحسن مما هما عليه فافعلي. وذلك لتكون أقرب وأحب إلى زوجها.

عائشة رضي الله عنها وموقفها من حادثة الإفك

عائشة رضي الله عنها وموقفها من حادثة الإفك بعد ذلك هناك الموقف العظيم في سيرة عائشة رضي الله عنها، وهو موقف في الحقيقة جدير بأن يكون درساً مستقلاً، ولكني أدرجه ضمن هذا الدرس؛ لأن الحديث عن عائشة يستلزم ذكره، وهو ما يتعلق بحادثة الإفك، وهي حادثة طويلة ذكرها الله عز وجل في كتابه، وبرأ فيه عائشة رضي الله عنها. هذه الحادثة موجزها أن عائشة كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بعض غزواتهم، فلما أرادوا أن ينصرفوا كانت ذهبت لقضاء حاجتها، فجاء القوم ليحملوا هودجها على البعير وحملوه ولم يشعروا بأنها ليست فيه؛ لأنها كانت خفيفة الوزن في ذلك الوقت، ومضوا، فلما رجعت إلى مكانها وإذا القوم قد غادروا فظلت في مكانها لم تتحرك، بل قالت: سيشعرون بي ويرجعون ليأخذوني. وإذا بـ صفوان بن المعطل رضي الله عنه كان في آخر الجيش، وبعد مضي الجيش بقليل مر، فإذا به يرى سواداً، فاقترب فإذا هو يرى عائشة رضي الله عنها، قالت: وكان قد رآني قبل أن ينزل الحجاب، فاسترجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون-. قالت: فاستيقظت على استرجاعه، فأناخ جمله، قالت: والله ما كلمني حتى بلغنا القوم. فلما بلغت عائشة رضي الله عنها القوم تكلم المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، وخاضوا في وصم عائشة بالفاحشة مع صفوان بن المعطل، وكانت عائشة رضي الله عنها سليمة القلب سليمة النية لم تسمع بذلك ولم تشعر به. ثم لما قدم القوم المدينة خاض الناس في ذلك واتسع الكلام، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أثر فيه هذا القول وقال: (من يعذرني في رجل يتكلم في أهلي)، وكان هناك خلاف بين الأوس والخزرج في هذا الشأن؛ لأن عبد الله بن أبي كان من أحد الفريقين، وكانت مسألة ومحنة عظيمة. ثم إن عائشة لم تكن قد شعرت بشيء، حتى كانت في يوم من الأيام خرجت لتقضي حاجتها مع أم مسطح بن أثاثة، وكان أحد المهاجرين الذين خاضوا في هذا القول وقالوا بهذه الفرية، فلما رجعت عائشة عثرت أم مسطح في حجرة، فلما عثرت قالت: تعس مسطح. فقالت عائشة رضي الله عنها بسلامة فطرتها وحسن إسلامها: بئسما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهد بدرا. تدافع عن مسطح، فقالت لها: إنك لا تعلمين ما قال فيك. وعلمت بالخبر بعد ذلك، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: (إن كنت ألممت بشيء فاستغفري الله وتوبي). فسكتت عائشة رضي الله عنها ولم ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم استعظاماً لما قاله لها عليه الصلاة والسلام، وظلت عائشة شهراً كاملاً لا يرقأ لها دمع تبكي وهي حزينة على هذا الأمر، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى براءتها من فوق سبع سماوات، واستأمر النبي عليه الصلاة والسلام قبل ذلك واستشار بعض أصحابه، فأما بريرة فأثنت وقالت خيراً، وأما أسامة فقال كذلك، وأما علي رضي الله عنه فقال: سل الجارية فإن تسألها تصدقك الخبر، وكانت أزمة شديدة تتعلق بعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن حكمة الله عز وجل أنه لم ينزل الوحي في ذلك سريعاً، بل أبطأ شهراً كاملاً حتى أظهر الله المنافقين، وبين مواقف المؤمنين، وكان درساً عظيماً ذكره الله عز وجل في سورة النور فيما يتعلق بوجوب التثبت في الأخبار، وفي حسن الظن بالمسلمين، وفي مقارنة المسلم نفسه بأخيه هل يتوقع ذلك من نفسه؟ هل يرضى ذلك لنفسه؟ فإن كان الجواب بالنفي فإنه ينفي ذلك عن أخيه المسلم أيضاً، وفي ذلك أيضاً تعظيم لحرمة المسلم وعدم الاجتراء عليه في عرضه، أو في ماله، أو في نفسه. وكان هذا الدرس العظيم مدرسة كاملة متعددة الجوانب، حتى إن الإمام ابن حجر رحمة الله عليه لما ذكر هذا الحديث ذكر فيه أكثر من ثلاثين فائدة، كل فائدة من هذه الفوائد تحتاج إلى درس طويل. وشاهد هذا الأمر هو أن عائشة رضي الله عنها قد كانت قوية الشكيمة، فإن بعض النساء من رقتهن وعاطفتهن الغالبة إذا ووجهت بأمر لم تفعله ثم كثر الكلام ربما غلب على ظنها أن تعترف بهذا الذي لم تفعله وتستغفر منه أو تتبرأ منه بعد ذلك؛ لأنها لم تستطع أن تواجه الضغوط من أقوال الناس والشائعات وغير ذلك، لكن عائشة لعلمها بطهارتها وبراءتها وقفت هذه الوقفة القوية، بل إنها كانت لها وقفة شديدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما نزلت براءتها قال لها أبو بكر رضي الله عنه: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تستسمحي منه وتنهي الأمر-. فقالت: والله لا أقوم إليه أبداً، ولا أحمد إلا الله. ثبات في الموقف وبيان لما كانت عليه من معرفة نفسها وطهارتها، وفي نفس الوقت كان درساً للمسلمين عظيماً جداً يقع الناس فيه كثيراً، كما قال الله عز وجل: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15]. والتلقي في الأصل يكون بالأذن، ولكن قال بعض المفسرين: إن هؤلاء الذين لا يتثبتون في الأخبار ربط الله تلقيهم بالألسنة؛ لأنهم من الآذان مباشرة يجرونه على الألسنة، ولا يمرونه على عقولهم، ولا يمرونه على الواقع، ولا يتأنون فيه، ولا يستثبتون منه، بل ينشرونه مباشرة، ولذلك بين الله عز وجل أن هذا من أعظم الفرية ومن أعظم البهتان الذي ينبغي أن يتوقاه المسلم، سيما إذا كان يتعلق بعرض أخيه المسلم الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن شدة وعظمة حرمته؛ لأنه أعظم من حرمة الكعبة نفسها، وأن حرمة المسلم عند الله عز وجل لها أبلغ وأعلى المراتب، ولذلك كان في وصف هذه الحادثة على لسان عائشة ما يصور الحالة النفسية التي مرت بها، وقوة شخصيتها حتى تجاوزتها، وطهارتها عما وصفت به رضي الله عنها وأرضاها. وكما قلت ففي الحديث عن حادثة الإفك طول لا يتسع له هذا المقام، ولكن أذكر بعض ما كان من وصف عائشة رضي الله عنها في هذا الحادث، فقد روت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (أما بعد: يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، قالت: فلما قضى مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام. فقلت -وأنا يومئذ حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن-: إني والله قد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم من كثرة ما قيل، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني). كان هذا هو الحال، لو اعترفت لكان ذلك أقرب إلى تصديق جميع الناس، ولو أعلنت براءتها لكان أبعد عن التصديق؛ لأنه قد كثر القول وانتشر وشاع، وهذه سمة الشائعات، سمة الشائعات أنها تشيع وتنتشر وتكثر حتى يسمعها الإنسان من أكثر من مصدر، فإذا سئل عنها جزم بها، وإذا قيل له: هل أنت متحقق قال: نعم متحقق. فإذا سألته عن النسبة والنسب وعن الخبرة والبحث وجدته صفر اليدين، لو قلت له: ممن سمعت؟ قال: سمعت كذا وكذا، هل الذي سمع رأى بنفسه؟ كلا. هل سمع ممن وقعت له الحادثة؟ كلا. فبقي الأمر في آخر الأمر كما قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} [الصافات:151 - 152] إن تناقل الأخبار من غير تثبت من أفتك الأسباب بالمجتمعات وأدعى لإشاعة الشحناء والبغضاء والاختلافات والنزاعات بين الناس، ولذلك قالت عائشة بعد أن عجز أبو بكر وعجزت أمها عن أن يردا على رسول الله عليه الصلاة والسلام قالت هذه المقالة: (والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف -نسيت اسم يعقوب من شدة حزنها وما وقع لها من البلاء: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] قالت: (ثم تحولت فاضطجعت على فراشي)، وهذا يدل على قوة شخصيتها رضي الله عنها وأرضاها. وكان ممن حد في ذلك حسان وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة، أما غير أولئك فكانوا من المنافقين، وقد كفر أولئك عن ذنبهم بالحد الذي أخذوه ثم بالتوبة الصادقة، وقال حسان في مدح عائشة رضي الله عنها: رأيتك وليغفر لك الله حرة من المحصنات غير ذات غوائل حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل وإن الذي قد قيل ليس بلائق بك الدهر بل قيل امرئ متماحل فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم فلا رفعت صوتي إليَّ أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل وإن لهم عزاً يرى الناس دونه قصاراً وطال العز كل التطاول عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل سوء وباطل فهذه الحادثة كانت من أعظم الحوادث في سيرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

مجموع أوصاف عائشة رضي الله عنها

مجموع أوصاف عائشة رضي الله عنها

زهد عائشة رضي الله عنها وإنفاقها في سبيل الله

زهد عائشة رضي الله عنها وإنفاقها في سبيل الله كانت عائشة رضي الله عنها زاهدة منفقة في سبيل الله عز وجل، وهذا أمر مهم بالنسبة للنساء اللاتي إذا جاءهن المال أحببن أن يتجملن، وأن يأكلن، وأن يشربن، ونسين أن يتصدقن، بينما عائشة رضي الله عنها تضرب المثل في ذلك بأبلغ صوره، حتى إنه كانت تهدى إليها الأموال الكثيرة الوفيرة ثم تنفق منها، كما ورد في الحديث الصحيح أنه جاءها مال فأنفقت منه، ثم لما جاء المغرب قالت لمولاتها: ائتي لنا بطعام الفطور. قالت: لو أبقيت لنا شيئاً حتى نشتري طعاماً. قالت: لولا ذكرتني. قد نسيت حاجتها لما كان منها من أمر الإنفاق وحب الإنفاق في سبيل الله عز وجل، ولذلك كانت رضي الله عنها على هذا النحو من الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وذكر في ذلك كثير من الأحاديث التي تبين أيضاً مشاركة المرأة لزوجها فيما يتعلق بشظف العيش وما يكون من الشدة التي تمر به أحياناً، وقد عايشت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يوقد في بيته نار، يمر الهلال والهلالان والثلاثة وطعامه الأسودان: التمر والماء، كما قالت رضي الله عنها، فما غضبت لذلك، بل كانت هي أول من خيرها النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة التخيير المشهورة أن يعطيهن من النعيم والمتاع، أو يكون لهن اتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فآثرت رسول الله. وقد كان الصحابة يؤثرونها بالعطايا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن معاوية رضي الله عنه بعث لها ثياباً رقاقاً فبكت رضي الله عنها وقالت: (ما كان هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم تصدقت به، وهذا يدلنا على طبيعتها التي نريد للمرأة المسلمة اليوم أن لا تغرها الأموال وأن لا يغرها لين الثياب، بل تكون أسمى من ذلك وأرقى، خاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أكثر أهل النار من النساء، ولذلك ندبهن دوماً إلى التصدق، فكانت عائشة رضي الله عنها مثالاً راقياً وعالياً في هذا الأمر الذي يتعلق بشأن الإنفاق في سبيل الله عز وجل. وأيضاً وصفت بأنها كانت للدنيا قالية، وعن سرورها لاهية، وعلى فقد أليفها باكية، وقد أوصاها النبي صلى الله عليه وسلم -كما في سنن الترمذي - بأن يكون زادها في هذه الحياة الدنيا كزاد الراكب، ولذلك كانت على هذا النحو من التخفف من الدنيا والإنفاق في سبيل الله عز وجل، وقد كان عمر رضي الله عنه يتعهدها بالعطايا، وقد ورد في حديث مرسل أنه جاء له في بعض المعارك درج فيه بعض الجواهر واللآلئ، واختلف الصحابة في تقسيمه فقال: ما قولكم أن يكون لـ عائشة؛ فإنها كانت حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: الأمر كذلك. فعهد به إلى عائشة وبكت وقالت: لعله أن لا يصلني عطاؤه من قابل. أي: أرادت ألا يكون الأمر كذلك. ولكنها عاشت بعده رضي الله عنها وأرضاها، فهذا بعض ما كان مروياً من زهدها رضي الله عنها وإنفاقها في سبيل الله عز وجل. وعن عروة رضي الله عنه في وصفها أنه قال: رأيتها تقسم سبعين ألفاً وهي ترقع درعها. فكانت رضي الله عنها على هذا النحو.

عبادة عائشة رضي الله عنها

عبادة عائشة رضي الله عنها لها وصف آخر مهم بالنسبة للنساء على وجه الخصوص، وهي أنها كانت عابدة؛ لأنها عاشت في بيت النبوة ورأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، فقالت لـ عبد الله بن قيس وهذا من وصاياها: (لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً)، وعند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن أبي موسى قال: (أرسلني مدرك لـ عائشة رضي الله عنها لأسألها فجئت وهي تصلى فقلت: أقعد حتى تفرغ، ثم قلت: هيهات، أي: متى ستفرغ من صلاتها)، أي: من شدة طولها، وكانت رضي الله عنها ربما تقرأ الآية فتكررها، كما أثر عنها أنها كانت تقرأ قول الله عز وجل في الصلاة: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فتكررها وتبكي وتقول: (اللهم من علي وقني عذاب السموم).

جهاد عائشة رضي الله عنها

جهاد عائشة رضي الله عنها ولها وصف أو سمة مهمة وهي مشاركتها في الجهاد، وهذا يدلنا على أن المرأة المسلمة لها دور بارز في جوانب شتى من الحياة، فقد ورد أنها كانت مع نساء المسلمين في يوم أحد في إغاثة المسلمين ومعاونة جرحاهم وسقيا الماء، كما ورد من حديث أنس أنه قال: (رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما، ينقلان القرب على متونهما ثم يفرغانها في أفواههم -يعني: في أفواه الرجال من الجرحى- ثم يرجعان فيملآن القرب ثم يجيئان يفرغانها في أفواه القوم). وقد ورد لها موقف فريد أيضاً في وقعة الخندق، فقد كانت من النساء اللائي كن في المدينة وقد تحصن بالبيوت، وكانت فيها جرأة رضي الله عنها، فخرجت في أثناء غزوة الخندق تتبع بعض الآثار لتؤمن بعض الأماكن، وجاء في أثرها بعض الصحابة ومروا بها فابتعدت عنهم قليلاً، ثم دخلت حديقة ومعها عصاً أو وتد، فلقيت عمر رضي الله عنه أمامها، فقال لها: ما جاء بك؟ لعمري -والله- إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحيز إلى فئة يفر الناس. قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ. ثم كان في القوم طلحة فرد على عمر وخفف عنها، وهذا ما يتعلق أيضاً بمشاركتها في هذا الجانب.

زواج عائشة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم

زواج عائشة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن أختم بمسألة مهمة آثرت إرجاءها، وهي ما يتعلق بزواج عائشة رضي الله عنها، فقد خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ست سنين، وبنى بها ودخل عليها وهي ابنة تسع سنين، وكان ذلك في العام الثاني للهجرة بعد عودته من غزة بدر، وكما قال بعض الكتاب: لما انتصر رسول الله عليه الصلاة والسلام وأعز الله الإسلام والمسلمين وفرح الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك واطمأنت أقدامه في المدينة، كان الوقت مناسباً أن يبني بـ عائشة رضي الله عنها. وفي وصف تلك الحالة التي كانت تذكرها عائشة ما كان من شأن تغير الجو على المسلمين المهاجرين من مكة، فإنهم لما جاءوا إلى المدينة استوخموا هواءها وأصابتهم حماها، حتى إن عائشة كانت تدخل على بلال رضي عنه وعلى أبي بكر وبلال يقول من شدة شوقه إلى مكة ومن شدة معاناته لهذا المرض: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي أذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل جبال من جبال مكة. وأبو بكر كانت تدخل عليه وهو من شدة الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وقد أصاب عائشة رضي الله عنها مرض حتى تساقط شعرها، وكان جميماً، أي: شعرها قليل. وعند ذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها، وبارك لنا فيها وفي صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها إلى الجحفة) تقول عائشة رضي الله عنها: فلما شفيت أخذت أمي تهيئني للزواج، وكانت أمي تعالجني للسمنة -تريد أن تسمنها بعد أن ضعفت بسبب هذه الحمى- قبل أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة، ثم قالت: جاءتني مرة وأنا ألعب مع صويحباتي فقالت: هاك هاك -يعني: تعالي- فجئت حتى حسنتني حتى أخذت نفسي، ثم جاءت بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أهلك يا رسول الله. وذكرت عائشة رضي الله عنها ما كان من وليمة عرسها ومهرها وما كان من سهولة ذلك، قالت: (والله ما ذبح جزوراً ولا شاة، وإنما كان طعام يتعهد به سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء به دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه القوم). ومن لطائف ما ورد -وبعضه يرد بحديث فيه انقطاع وضعف، وهذه الرواية لها حديث يجبر هذا الضعف- أن بعض النساء من الأنصار كن يزين عائشة رضي الله عنها، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم لبن فأراد أن يعطيهن فقلن: لا نريد. فقال: (لا تجمعن جوعاً وكذباً) فقد كن يحببن ذلك اللبن، ولكنهن امتنعن حياءً من الرسول صلى الله عليه وسلم.

عائشة رضي الله عنها والزواج المبكر

عائشة رضي الله عنها والزواج المبكر هنا الأمر المتعلق بالزواج المبكر الذي يحتقره بعض الناس، ويذكرونه ذكراً فيه ازدراء وانتقاد، وما يعلمون أن في هذا الانتقاد انتقاداً لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول: إن الزواج المبكر فيه خير كثير، من هذا الخير بالنسبة للمرأة -على وجه الخصوص- أنه للمرأة عصمة ووقاية من الانحراف والمعاصي، حتى لا يكون هناك مجال للتعرض للفتنة أو الاعتداء عليها أو نحو ذلك. ثم مصلحة الاستقرار النفسي المبكر، بدلاً من أن يبقى الحال كما هو حال الناس اليو، م تبلغ الفتاة وهي ابنة عشر وتتزوج وهي ابنة ثلاثين، وتبلغ سن اليأس وهي ابنة أربعين، فيكون ما مضى من عمرها في الحرمان أكثر مما مضى في نعمة الزواج والمعاشرة، وهذه الفطرة البشرية لا تكون مستقرة إلا بما يحقق غايتها ورغبتها وفق شرع الله عز وجل، ولذلك نجد اليوم جنوحاً في الأفكار، وشطحاً في العواطف، واختلالاً في التفكير، واضطراباً في المعاملة، كله ناشئ بسبب أن النفس لم تجد بغيتها وحاجتها الغريزية الفطرية في الوقت المناسب، وبالهيئة المناسبة التي شرعها الله عز وجل. وفي هذا من الفوائد أيضاً تكثير النسل، وتقارب ما بين الأب وأبنائه، فتكثير النسل يمتد مداه طويلاً، كما قال الشافعي: رأيت جدة ولها إحدى وعشرين سنة. أما الآن فتجد أن عمرها إحدى وعشرون سنة وهي لم تتزوج بعد. فالجدة التي رآها الشافعي كان لها تسع سنوات فتزوجت وولدت بعد سنة، فكان عمرها عشر سنوات، ثم بعد تسع سنوات تزوجت ابنتها وبعد سنة أخرى ولدت، فكانت الأم قد انتهت من العشرين ودخلت في العام الواحد والعشرين فصارت جدة بذلك، فهذا تكثير للنسل. وفيه أيضاً أنه يكون هناك قرب بين الأب والأم وبين الأبناء من حيث السن، فلا يكون الفارق كبيراً، فإن الفارق الكبير في بعض الأحيان مؤثر في التربية سلباً، فإنه إذا تزوج وهو كبير يأتي أبناؤه صغاراً، فيكون عنده من العاطفة والشفقة بهم شيء كثير، فيغلب جانب حبهم والعطف عليهم دون أن يكون موجهاً أو مربياً لهم، ويكون فارق التفكير والاهتمامات بين الأب وابنه كبيراً، بينما في غير هذه الصورة في الزواج المبكر يكون على غير هذا النحو والنهج، ثم هذا كله يدلنا على ما كان من التيسير في الأمور دون التعقيد فيها. فهذه جملة من المواقف التي تتعلق بسيرة عائشة رضي الله عنها، وما لم أذكره أكثر مما ذكرته، وأذكر هنا الكتب والأشرطة في حياة عائشة رضي الله عنها؛ لأن ما ذكرته قد قرأت فيه ترجمة لـ عائشة في (سير أعلام النبلاء) وهو من أجمع وأنفع ما ذكره أهل العلم، وكذلك ترجمتها في (البداية والنهاية) لـ ابن كثير رحمة الله عليه، وكذلك فصل في فضائل عائشة رضي الله عنها من كتاب (فضائل الصحابة) للإمام أحمد رحمة الله عليه، وكذلك كتاب خاص عن عائشة رضي الله عنها بعنوان: (عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين) ضمن سلسلة أعلام المسلمين، وهناك (السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين) وهناك (الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة) للزركشي، وهناك أيضاً فيما يتعلق بالزواج المبكر رسالة أو كتاب مختصر في مسألة الزواج المبكر والرد على من نفوه، وبيان فوائده وجوازه ومشروعيته للدكتور ملا خليل خاطب وغيرها أيضاً من الكتب، فإن ترجمة عائشة رضي الله عنها واسعة، وفيها كثير من الجوانب.

الأسئلة

الأسئلة

حقيقة رواية هشام بن عروة عن عائشة مباشرة وبواسطة

حقيقة رواية هشام بن عروة عن عائشة مباشرة وبواسطة Q هل روى هشام بن عروة عن عائشة مباشرة أم بواسطة أبيه؟ A روى عن عائشة مباشرة، وروى عن عائشة بواسطة أبيه.

وجه مخالفة عائشة لعمر في مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه

وجه مخالفة عائشة لعمر في مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه Q في مسالة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه هل كانت عائشة مصيبة في نفيها قول رسول الله عليه الصلاة والسلام ذلك أم عمر هو المصيب؟ A لم تنف عائشة قول الرسول، وإنما وَهَّمت عمر بن الخطاب في روايته، ذكرت أن عمر وهم في روايته، وأن تصويب الرواية: (إن الكافر ليعذب ببكاء أهله عليه)، والقول في هذا ما قالته عائشة رضي الله عنها وأرضاها. أسأل الله عز وجل أن يكون في عائشة وغيرها من أزواج رسول الله عليه الصلاة والسلام ونساء الصحابة قدوة لنسائنا، وأن نكون أيضاً نحن عاملين على تنشئة أزواجنا وبناتنا وأخواتنا على هذا النهج القويم، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكلمة مسئوليتها وفاعليتها

الكلمة مسئوليتها وفاعليتها للكلمة أهمية كبرى، فبها تشتعل الحروب وبها تتوقف، وبها تستحل الفروج، وبها تتفكك الأسر، وبها يتم البيع وينفسخ، وبها يدخل المرء في الإسلام وبها يخرج منه؛ لذلك وضع الإسلام للكلمة ضوابط، بحيث لا تلقى عبثاً دون تأمل لما يترتب عليها من نتائج وآثار، ومن ذلك: تحذيره من إطلاق اللسان في أعراض الناس، والتحدث بما لا ينفع ولا يعني، وغير ذلك.

أهمية الكلمة ومعناها

أهمية الكلمة ومعناها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، ونصلي ونسلم على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين والدعاة. أما بعد: فهذا الموضوع عنوانه: الكلمة مسئوليتها وفاعليتها. والحق أن هذا الموضوع متشعب الجوانب، ويطول الحديث فيه، إلا أن التركيز سيكون على بعض ما أحسب أنه أكثر أهمية، وفي الوقت نفسه أكثر دروجاً واستعمالاً في واقع حياة الأمة المسلمة، وواقع حياة شباب الصحوة والدعوة على وجه الخصوص، وعندما نقول: (الكلمة) فلا نعني بها -قطعاً- الكلمة المفردة، وإنما الكلمة الكلام، كما قال ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم واحده كلمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم أي: يقصد بالكلمة الكلام. وعندما نقول: كلمة الحفل ليست هي كلمة واحدة، وإنما مجموع ذلك القول يقال له: كلمة. إذاً الكلمة هي كل كلام ينطق أو يكتب. وللكلمة سبيل لوصولها ونشرها، ألا وهو النطق بها عن طريق اللسان وتستقبلها الآذان، أو الكتابة لها على صفحات الورق وتستقبلها العيون بالقراءة والاطلاع. وأول ما أبدأ به أهمية الكلمة. إن الكلمة تكاد تكون كل شيء في حياة الإنسان عموماً، فهي ذات جوانب متعددة في الأهمية: الأمر الأول: إعلان المبادئ والمعتقدات، فالكلمة هي التي تعلن بها إسلامك وإيمانك، كما أنها هي التي يعرف بها كفر الكافرين وجحود الجاحدين، كما قال القائل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا والألسنة -كما يقال- مغاريف القلوب، هي التي تعبر عما استقر فيها من الإيمان والمعتقدات، ولذلك قال جل وعلا: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] وكلمة التقوى هنا هي كلمة التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وقال سبحانه وتعالى في شأن المنافقين الذين كفروا وظهر كفرهم على فلتات ألسنتهم في غزوة تبوك: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74] فذاك إعلان بإسلام وهذا والعياذ بالله نطق بكفران. الأمر الثاني: الكلمة يقع بها إبرام العقود والمعاهدات، فأنت إذا أردت أن تبيع وتشتري فعقد ذلك وصحته مبني على النطق بالكلمة، بأن يقول الأول: بعت. ويقول الآخر: اشتريت. بل حتى فيما هو أعظم من ذلك من العقود التي وصفها الله عز وجل بأنها غليظة مؤكدة كعقد الزواج، بأن يقول الأول: زوجتك. ويقول الآخر: قبلت. فينعقد عقد له أهميته، قال الله جل وعلا فيه: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] وبهذه الكلمة أيضاً تعقد وتبرم المعاهدات، كما كان في معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم التي أبرمها مع اليهود في أول قدومه المدينة، وكما كان يعقد المعاهدات أيضاً مع قريش كما في صلح الحديبية، وكما هي سائر العقود والمعاهدات التي تبدأ بكلمة كما أنها تنقض بكلمة، فعقد الزواج الذي يقع بالكلمة كذلك يفصل بكلمة الطلاق، فليست الكلمة مجرد أحرف ينطق بها، ولا هي مجرد الصوت الذي يقال فيه: إنه تموج الهواء عند اصطدام جسمين أو تباعدهما، أو اهتزاز الأحبال الصوتية. بل الكلمة أعمق من ذلك، هي الحكم والعقل والتفكير والإرادة والنظرة المستقبلية التي يعمل التفكير في هذه الجوانب كلها قبل أن ينطق بها، فلا يُعقد عقد ولا يُبرم عهد بمجرد كلام سائب لا خطام له ولا زمام كما يقال. الأمر الثالث: النطق بالأحكام والاتهامات والتزكيات، فاللسان هو الذي ينطق بالحكم فيقرر الإدانة، أو يعلن البراءة، كما أنه هو الذي يقذف بالتهم التي قد تكون صحيحة وقد تكون باطلة، فهذا يتهم ذاك بسرقة أو زناً، والله جل وعلا قد جعل لذلك حداً إما أن يثبت مثل هذا الجرم، وإما أن يكون قد قذف بغير علم أو بغير بينة، فيكون مؤاخذاً على هذه الكلمة، بل محدوداً عليها كما هو معروف في حد القذف الذي يرمي به الإنسان غيره بتهمة الزنا والفاحشة، نسأل الله عز وجل السلامة، كما أن هذا اللسان وهذه الكلمة هي التي تصف الإنسان بإسلام وإيمان، أو قد يتجاوز الأمر إلى اتهام بتفسيق أو تبديع أو كفر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) فليست الكلمة أمراً هيناً، بل لها أعظم أهمية في مثل هذا الميدان الخطير. الأمر الرابع: الخوض في المنهيات والمحرمات، وحسبك أنك قد لا تستطيع أن تحصي آفات اللسان من تدخل فيما لا يعني، ومن فضول كلام، ومن خوض في باطل، ومن كذب وغيبة ونميمة ومراء وجدال ومزاح في غير الحق، وغير ذلك من الأمور التي يطول ذكرها، كلها أيضاً يقع الخوض فيها باللسان نطقاً أو كتابة، أو بالكلمة نطقاً أو كتابة. الأمر الخامس: اللهج بالأذكار والدعوات، وهذا جانب أيضاً من جوانب الخير والعبادات، فإن أكثر العبادات مبني على النطق بالكلمات، فالصلاة تلاوة للقرآن وترديد للأذكار ونطق بالدعوات، إضافة إلى ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن وغير ذلك، كله أيضاً يكون بهذه الكلمة. الأمر السادس: نشر الدعوة والتعليم، سواء أكانت هذه الدعوة دعوة خيرة أم غير خيرة، وسواء أكان هذا التعليم نافعاً أو ضاراً، فاللسان والكلمة على وجه الخصوص هي التي تنشر تلك الدعوة أو تروج لذلك العلم، ولذلك كل هذه الجوانب لو تأمل الإنسان فيها لوجد أنها تحيط بمعظم مجريات الحياة ومعظم ما يتعامل به الناس، فإن أمر العقائد والمبادئ، وأمر العقود والمعاهدات، وأمر الأحكام والاتهامات، وأمر المنهيات والمحرمات، والطاعات والعبادات، ثم الدعوة والتعليم يكاد يكون جل -إن لم يكن كل- جوانب الحياة.

خصائص اللسان

خصائص اللسان للسان خصائص كثيرة، ويظهر ذلك في أمور كثيرة، منها: الأمر الأول: اللسان واسع المدى رحب الميدان. فأنت إذا أردت أن تنال من شخص بيدك فإنه لا يقع لك ذلك إن لم يكن قريباً منك، أو لم تكن متمكناً منه حتى توجعه ضرباً أو غير ذلك، وإذا أردت أيضاً أن تصيبه -على سبيل المثال- بطلقة رصاص فإنه لابد أن يكون شاخصاً أمامك، ولو كان عن بعد لا تستطيع أن تصيبه دون أن تراه، وأية وسيلة من وسائل إلحاق الأذى أو إيصال النفع لا يمكن إلا أن تكون بطريقة مباشرة، سواء كانت مباشرة قريبة لصيقة، أم كانت مباشرة محدودة أو نسبية، بينما اللسان يمكن أن يقوم بكل هذا دون أن يحتاج إلى مثل هذه القيود أو الضوابط، فهو يستطيع أن يبلغ من الآخرين مقتلاً دون أن يراهم، بل ربما دون أن يعرفهم، بل ربما لم يسمع عنهم إلا مرة واحدة، وكذلك يستطيع أن يسوق الخير لإنسان وإن كان بعيداً عنه وإن كان لا يراه، إذ إنه واسع المدى رحب الميدان، لا يحده حد ولا يسده سد كما يقال. الأمر الثاني: سهولة الاستعمال. فليس عضو من أعضاء الإنسان أسهل حركة وأيسر استعمالاً من اللسان، إذا أردت أن ترجم بيدك فإن هناك جهداً وعناء، وتحتاج أن تكون في وضع وهيئة معينة، وإذا أردت أن تتحرك وأن تمشي برجلك فلابد أيضاً أن تبذل جهداً وأن تكون في وضعية معينة، أما هذا اللسان فإنك تتكلم به وأنت متكئ، وأنت مضطجع، وأنت واقف، وأنت في سرعة وشغل، وأنت في أية حالة من الأحوال يمكن أن تعبر بهذا اللسان، وأن تستعمله دون جهد أو عناء، وهذا أيضاً دليل على الخصائص التي تكمن فيها خطورة اللسان، إما أن تؤدي إلى مزيد من الخير، وإما أن تؤدي -إذا استخدمت في غير الخير- إلى مزيد من الشر والضرر. الأمر الثالث: أن اللسان خفي المنال. فأنت إذا ضربت إنساناً ما فلا يمكن أن تضربه بخفية، بل لابد أن تلامس يدك رأسه أو بطنه، وقد يظهر أثر ذلك أيضاً فَيُشَجُّ رأسه أو يصيبه الأذى المادي المحسوس، ولا يمكن أن تتبرأ من تبعة ذلك الفعل؛ لأن أدلته المادية واضحة شاهدة للعيان، أما اللسان فإنك يمكن أن تلسع به لسعاً ثم تهرب بعد ذلك هروباً يسعفك فيه اللسان نفسه فتقول: لم أقصد كذا، ولم أقل كذا. وإنما عنيت كذا، وقد تستخدم التلميح دون التصريح، وتستعين بالتورية عن الكذب، وتستطيع أن تبلغ مآرب شتى وأنت تخفي حقيقة ما أردت من الشر، أو تستر حقيقة ما تنوي من الخير، أما غير ذلك فإنه تلحظه العيون، وتلمسه الأيدي، ولا يمكن أن يخفى على الناس، وهذه الخصائص لها أثرها في النفع أو الضرر.

مكانة الكلمة وبيان خطورتها وآثارها

مكانة الكلمة وبيان خطورتها وآثارها عندما رأينا أهمية الكلمة، والخصائص الواسعة والتصرفات المطلقة للسان والكلمة نقف وقفة مهمة أمام رعاية الشرع لأمر الكلمة وضبطه لها، وبيانه لخطورتها.

آيات قرآنية وأحاديث نبوية تدل على أهمية الكلمة وخطورتها وآثارها

آيات قرآنية وأحاديث نبوية تدل على أهمية الكلمة وخطورتها وآثارها إذا وقفنا مع بعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية نجد نصوصاً كثيرةً تنبه وتؤكد على تلك الأهمية، وتشير إلى الخطورة وعمق الآثار، كما تنبه إلى أبواب الخير وتحذر من أبواب الشر، وليس ذلك فحسب، بل ستجد في كلام الصحابة والسلف والعلماء، بل في كلام الحكماء، بل في الأمثلة والأشعار كلاماً طويلاً كثيراً في شأن الكلمة واللسان، بسبب تلك الأهمية والخصائص التي أشرت إلى بعض منها، فأنت تعلم قول الله جل وعلا: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148] حتى ذكر السوء لا يقال؛ لأن فيه إشاعة للفاحشة وتسهيلاً لها، وترويجاً لذلك السوء أو نشراً لذلك الظلم، أو تهويناً لأمر ما يخبر عنه ويشيع ذكره، ولذلك ذم الله عز وجل الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتوعدهم بالعذاب، ونهى الله عز وجل عن الاتهام للناس بالوقوع في الزنا ما لم يكن هناك بينة من شهود أربعة يشهدون شهادة واضحة صريحة لا تورية فيها ولا تلميح؛ لأن مجرد ذكر هذا القول يجعل الكلمة تشهر وتروج، ثم يروج من ورائها ما تتضمنه من ذكر الفواحش وتسهيلها على الناس، ولذلك يقول الله عز وجل أيضاً: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18] بدأ بذكر الوسواس الذي يجول في الخاطر، ثم حذر الله عز وجل بما أعده من الأسباب الخفية والقدرة الشاملة التي لا تدع شاردة ولا واردة إلا أحصتها. ثم ذكر أهمية القول والحساب عليه تنبيهاً على خطورته وتأكيداً لأهميته، ويقول الله عز وجل في آية المجادلة محذراً من شأن النجوى والتناجي بالإثم والعدوان: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} [المجادلة:8]، ثم ينادي الله عز وجل أهل الإيمان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:9 - 10] لو كانت النجوى التي تسر بها خيراً فما بالك لا تشيعها وتعلن بها؟! وما بالك تذكر أخاك بكلمات هامسة تنال فيها من عرضه أو تشوه صورته؟! إن كان في قولك حق فهو أولى أن تواجهه به في نصيحة خفية قصدها الخير ودافعها المحبة والشفقة. ثم تأمل حديث سفيان الثقفي الذي أخرجه الترمذي وصححه، وكذا النسائي وابن ماجة، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قال: فما أتقي؟ فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لسانه) أي أنه نبهه إلى أن يتقي زلات اللسان وخطورة الكلمات. وعند الترمذي بسنده -وحسنه- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أنه طلب الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) وما أعظم هذا الحديث وأجل هذه الوصية! لو أن المسلم تأمل فيها في واقعنا المعاصر فسيجد أكثر الناس بعيدين عنها غير منتبهين لها. وإمساك اللسان من الأمور الواجبات، وكذلك الضبط والتفكير والعلم الشرعي والورع الإيماني والإدراك الواقعي الذي ربما نعرج عليه إن شاء الله تعالى. وفي حديث البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة). وفي رواية: (من يتوكل لي). وحديث معاذ المعروف المشهور: (وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم). وحسبك حديثه عليه الصلاة والسلام تنبيهاً وتحذيراً حيث يقول: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً). ولذلك جعل ضبط الكلام وجعل الكلمة في مسار الخير مرتبطاً بالإيمان، كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فالكلمة لها مجرى ولها سبيل، إن غلب على الظن أنها تورث خيراً وإصلاحاً، وتقرب بعيداً وتؤلف نافراً، وتقوي همة في الخير فإن ذلك هو المسار الصحيح، أما إذا تحقق المرء بأن الكلمة التي ينطق بها أو يكتبها تدعو إلى فجور، أو تغري بفاحشة، أو تورث شحناء، أو توقد بغضاً وحقداً وحسداً فإنه مأمور شرعاً بأن يكف عنها، وإن نطق بها أو أجراها كتابة فإنه آثم يلحقه إثمها، كما يلحقه ما يترتب عليها من الأضرار والآثار الوخيمة الوبيلة؛ إذ إن المرء موكول بمنطقه إن خيراً فخير وإن شراً فذاك مما يئول إليه أيضاً.

أقوال وأشعار وأمثال تدل على أهمية الكلمة وخطورتها وآثارها

أقوال وأشعار وأمثال تدل على أهمية الكلمة وخطورتها وآثارها أذكر بعض الأقوال والأمثال والأشعار التي نطق بها مسلمون وغير مسلمين، مما يدل على أن أمر الكلمة عموماً عند بني الإنسان لها هذه الأهمية، لما سبق من الإشارة إلى مجالاتها وخصائصها. فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (والله الذي لا إله إلا هو ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان) هذا اللسان قد جعله الله عز وجل أشبه بالمسجون، لكن العقل الذي لا يتدبر والقلب الذي لا يتذكر يطلق اللسان، فإذا به -وإن كان محدوداً في مساحته وفي إطاره- يشرق ويغرب ويؤذي، ويكون أذى اللسان أكثر من أذى السنان كما يقولون. وهذا ابن وهب يقول: إن في حكمة آل داود مكتوباً: (حق على العاقل أن يكون عارفاً لزمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شانه). وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه. ** فهماً كاملاً من لم يضبط لسانه ويحفظه. . وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال: من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه. لكن انظر إلى واقعنا اليوم ستجد كلاماً طويلاً عريضاً، وادعاء هائلاً، وعملاً قليلاً، وحقيقة باهتة، لا تعدو أن يكون نسبتها إلى ذلك الكلام كنسبة القطرة إلى البحر إلا من رحم الله عز وجل. وعن بعض الحكماء أنه قال: الصمت يجمع للرجل فضيلتين: السلامة في دينه، والفهم عند صاحبه. فالذي يتكلم كثيراً لا يستطيع أن يفهم إلا قليلاً، وكما يقال: الجوارح تتوزع عليها المهام، فإذا اشتغل اللسان كثيراً يكون ذلك على حساب العقل والفطنة، وإذا امتلأ البطن بالطعام صار الحال كما قيل: إذا امتلأت البطنة ذهبت الفطنة. وهكذا عندما تركز البصر في أمر ما فإنك تجد أن سمعك لم يعد مدركاً، وعندما يجول خاطرك في قضية ما فإنك قد لا تسمع أو قد لا تبصر من مر بك؛ لأن الحواس إذا تركزت في جانب ربما يقل إدراك واستيعاب الحواس الأخرى لها. وعن منح بن عبيدة أنه قال: ما من الناس أحد يكون منه لسانه على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله. وعن بعض أهل الحكمة أنه قال: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. لأنك إذا قلت الكلمة فمن الصعب عليك أن تردها؛ لأنه قد يمنعك من ذلك كبر، وقد يمنعك من ذلك أن من سمعها منك قد شرقوا وغربوا وتفرقوا، فلا تستطيع أن تنسخ تلك القولة عند كل أحد، وأما إذا لم تقلها فإنها ما زالت تحت سيطرتك تفكر فيها وتتأمل في مراميها ثم تخرجها عن بصيرة وعلم. ولذلك قال الآخر: إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني. وقال الشاعر أيضاً: خل جنبيك لرام وامض عنه بسلام مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام وفي كثير من الأمثال ما يدل على عمق وأثر هذه الكلمة، كما في بعض الأمثال: (رب كلمة قالت لصاحبها دعني). أي: اتركني ولا تنطق بي؛ فإنك لا تدري ما أجر عليك من البلاء والوباء إذ لم تراع الله عز وجل في نطقي، أو لم تنتبه إلى ما يترتب على نطقي أو إشاعتي من خطر وزلل. وكما قال قائل: إن الحرب أولها كلام. وهذا كما وقع في قصة داحس والغبراء من نشوب حرب دامت سنوات بسبب موقف، ثم كلمة من هنا وكلمة من هنا وإذا بأرواح تزهق ودماء تجري وبيوت تهدم وديار تحرق، وهكذا، فعلى المرء أن لا يغفل عن هذه الخطورة. يقول بعض المعاصرين: إن الكلمات الجميلة تؤدي إلى معان ونتائج طيبة تحتاج إلى التأمل، وتؤدي أيضاً إلى مزيد من تأكيد أهمية وخطورة الكلمة. أما الكلمات السائبة فإنها تؤدي إلى نتائج خائبة، وهذه معادلة صحيحة، أي أن الكلمات السائبة التي لا اهتمام بها ولا ضبط لها فإنها في غالب الأمر تؤدي إلى نتائج خائبة. ومخرج كلمة الخير والشر واحد والمفتاح بيدك، فتأمل ماذا تقول. ومن لم يستطع وزن كلماته فليحتمل من خصمه لكماته، وهذه أيضاً واقعة، إذ قد يخطئ المرء بكلمة لا تجد عند الآخر محملاً فتكون اللكمة أسبق إليه من الكلمة. يقول قائل: العاقل العالم لسانه وراء عقله، والجاهل عقله وراء لسانه، تراه لا يفكر إلا بعد أن ينطق بالكلمة وقد مضى القول وانتهى الأمر. والكلمة البانية لا يستطيعها صاحب الكلمة النابية، فمن تعود على فحش القول وإشاعته، فإن كلامه في الغالب لا يوافقه، أو لا يتفق أن يكون كلاماً بانياً.

فاعلية الكلمة وأوجهها

فاعلية الكلمة وأوجهها بعد أن ذكرنا مسئولية الكلمة وأهميتها وخصائصها وخطورتها نذكر بعد ذلك فاعلية الكلمة، وسنذكر لفاعلية الكلمة عدة أوجه.

أولا: القبول والتصديق

أولاً: القبول والتصديق الكلمة تنطق بها وتكتبها فتجد من يقبلها ويصدقها، وقد يساعد على ذلك أمور، منها: الصلة والثقة، فإذا كنت موضع ثقة عند السامعين لك فإن كل كلمة تقولها يأخذونها مأخذ القبول والتصديق، ويعتبرونها مسلمة ويبنون عليها تصرفات وأحكاماً إلى غير ذلك. ومن أساليب الوصول إلى القبول والتصديق: التركيز والتكرار، وهذا ما تستخدمه وسائل الإعلام، فمع طلوع الفجر تذكر الخبر، وعند الظهيرة تؤكده، وعند العصر تردده، ثم تصوره، حتى يصدق الناس ما كان كذباً من الأخبار، وكما يقول بعض الناس -وهي مقالة باطلة، لكن لنا في الواقع بعض الشواهد الناطقة-: اكذب واكذب حتى يصدقك الناس. وكما نسمع في الطرفة الدائمة أن أشعب دعا الناس إلى وليمة كاذبة، فكان كلما لقي واحداً قال له: العشاء عند فلان. فتناقل الناس الخبر، وصار هو يسمع ما يتناقله الناس من أن العشاء عند فلان، فقال: لعل الخبر صحيح. فذهب مع الناس. وهكذا الكلمة عندما تترد وتتكرر وتتنوع أساليبها وتغزو عقول الناس فإنهم يقبلونها ويصدقونها، بل تكاد الكلمة عبر وسائل الإعلام أن تحاصر الإنسان محاصرة، فهي تغزوه من جهة النظر، وتغزوه من جهة السمع، فغزوه من جهة النظر عبر القراءة وعبر المشاهدة، ومن جهة السمع عبر الإذاعة وعبر وسائل أخرى متنوعة من شريط وبث مباشر وغير مباشر، فيقع للكلمة فاعليتها الخطيرة. ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على خطورة الكلمة التي تنتشر وتذاع لكثير من الناس دون الكلمة التي تخص؛ لأنك لو قلت كلمة لفرد واحد وأخطأت فيها فإن الأمر هين وميسور، ويمكن أن يصحح الخطأ، لكن الكلمة التي تنتشر وتذاع وتعم الآفاق في بضع ساعات، بل ربما في بضع دقائق، بل ربما في بضع ثوان هذه كلمة خطيرة. فمن هذا ما ورد في صحيح البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه رأى في رحلته إلى السماوات العلا رجلاً يوضع في شدقيه كلاليب من نار، يشق بها شدقه الأيمن من أوله إلى آخره، ثم يشق بها شدقه الأيسر فيعود الأيمن كما كان، ثم يشق مرة أخرى ويلتئم من جديد، وهكذا، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن هذا الرجل قال: هو الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، ولذلك تأتي الخطورة والفاعلية من هذا الجانب.

ثانيا: التفاعل بالمشاعر

ثانيا: التفاعل بالمشاعر عندما يقبل الناس ويصدقون الكلمة يبدأ تفاعل الكلمة في مشاعرهم وعواطفهم، فإذا بهم يبغضون ويكرهون، أو يحبون ويميلون، فأنت إذا سمعت كلمة تأتي من إنسان ما أو من بلد ما أو من كتاب ما، وهذه الكلمة وصفت لك فعلاً وصفاً محبباً وجميلاً فإنها تجعل هذا الفعل أحب إليك من الماء البارد على الظمأ الشديد، وقد تكون هذه الكلمة نفسها تصف لك هذا الفعل وصفاً شائناً منفراً، مما يجعلك تقول: يا ليت بيني وبينه بعد المشرقين وبعد المغربين فليست القضية مجرد قبول وتصديق، فإذا قبلت وصدقت فإن ذلك يبدأ تفاعله في مشاعرك، فتقبل على الأمر فعلاً أو تركاً. وهذا له أثره أيضاً، وإن كان هذا الأثر مهماً والفاعلية خطيرة، لكنها دون التي بعدها، وهي التأثير بالفعل المباشر، ليست المسألة مسألة مشاعر، فأنت قد تبغض الفعل الذي بغض إليك، لكنك لا تملك حولاً ولا قولاً، لكن ما بالك عندما تأتي الكلمة وتُقَبلُ وتُصَدقُ ثم تخلص إلى المشاعر عند من يملك أن يؤثر تأثيراً مباشراً، فإذا بتقرير يحتوي على كلمات لها دلالات معينة، وعمق يؤدي إلى نتائج ينبني عليها تأثير مباشر من إلحاق ضرر أو أخذ مال أو خراب بيت، إلى غير ذلك من الأساليب. وهكذا قد تجد فيما يتعلق بالجوانب غير الإسلامية في وسائل الإعلام أن هناك تشويهاً عبر الكلمة يحصل به بلاء عظيم وشر مستطير، ليس بمجرد مشاعر ولا كلمات، بل بأفعال خطيرة تؤدي إلى تغيير في مسار حياة أفراد كثيرين وأسر كثيرة، بل تؤدي إلى انحراف شامل يشمل المجتمع كله.

ثالثا: قلب الحقائق

ثالثاً: قلب الحقائق عندما يكون الأمر مقصوراً على أفراد بأعيانهم فإن الأمر سهل، لكن هذا التكثيف ورواج الكلمة يقلب الحقائق، ويحصل تلاعب بالأسماء والمسميات، فيروج عند الناس شر ويصبح خيراً، ويشيع بينهم باطل على أنه حق، ويقرون منكراً على أنه معروف، وتنتكس الموازين من خلال الكلمة التي -كما نرى اليوم تسمي- الدعارة فناً، وتسمي الربا فائدة واستثماراً، وتسمي الفجور والفسق حضارة وتقدماً، وتسمي الكذب والخداع شطارة ومهارة، إلى غير ذلك. عندما تمارس الكلمة صداها ودويها بين الناس، وتقبل وتصدق وينفعل بها الناس، ويرون لها تأثيراً مباشراً في الأفعال التي تقر إذا بالمجتمعات الإسلامية تعظم أصحاب الفن، وأصحاب الكرة، وأصحاب الأقلام من مفكرين أو مبدعين، مع كونهم لا يخدمون ولا ينصرون الإسلام، بل ولا الفضائل. إذاً أصبح الأمر لم يعد مجرد كلمة، بل الكلمة ومعها صورتها التطبيقية العملية، فتنغرس المفاهيم الخاطئة والمعكوسة في حياة الناس.

رابعا: شيوع النفاق

رابعاً: شيوع النفاق عندما تحصل كل هذه الفعاليات والتأثيرات يحصل عند الناس نفاق، هذا إذا لم تنقلب عندهم الحقائق وأنكروها بقلوبهم، لكنهم كما نقول في تعبير عامي: (مع السيل يا شقرى)، فما دام هؤلاء يمدحون بالألسن والأقلام، وما دام هذا -كما يقال-: يؤكل به العيش ويسلم به الإنسان، إذاً فليكن هذا هو ميدان الكلمة شعراً ونثراً، نطقاً وكتابة، وهذا يجعل الناس يأنفون من الحق الصريح، يجفلون من الكلمة الصادقة، ولا تكون مقبولة فيما بينهم، ولا يعود أصحابها أصحاب مكانة وعزة، بل على العكس من ذلك، فمن يقول كلمة الحق اليوم يقولون له: أنت لا تعرف كيف تسير الحياة، لا تعرف كيف تورد الإبل، لا تعرف من أين تؤكل الكتف؛ لأن الحياة انطبعت بعد كل هذه الآثار بطابع النفاق الذي يظهر ما لا يبطن، والذي يوافق المسيرة وإن كانت خاطئة.

أسباب جنوح الكلمة عن مسارها الصحيح

أسباب جنوح الكلمة عن مسارها الصحيح تأمل أيها الأخ فاعلية الكلمة في هذه الميادين، لتدرك أن لهذه الكلمة خطورة لا يمكن أن يستهان بها مطلقاً، وإذا أردنا أن نوضح أكثر وأكثر فإننا ننتقل إلى الأسباب التي تنحرف بها الكلمة، لماذا لا تكون الكلمة صادقة وخالصة وجريئة وقوية؟! ولماذا لا تكون أيضاً حكيمة وواعية تؤدي أثرها في مراعاة من يسمعها، ومراعاة الظرف المحيط، ومراعاة المستوى العقلي كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام وفقه منه الصحابة ذلك، فقال ابن مسعود: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة). وكما في صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!). لماذا تجنح الكلمة عن المسار الصحيح في صدقها وأصالتها، وفي أسلوبها وحكمتها؟! هناك أسباب كثيرة منها:

السبب الأول: الجهل

السبب الأول: الجهل إنه الآفة العظمى التي يقع بها كثير من البلاء؛ لأن الكلمة الخاطئة أساسها الجهالة العمياء، جهل بالشرع، وجهل بالواقع، وجهل بالآثار المترتبة على الكلمة، فإن بعض الذين يفتون بغير علم، وإن الذين يقولون أقوالاً ينصرون فيها أعداء الله على أولياء الله كثير منهم جهال، لم يعرفوا الحكم الشرعي في مثل هذا الأمر، ولم يعرفوا الضوابط والمصالح الشرعية في هذه القضايا، ولذلك آفة الأخبار نقلتها من الجهلة، فربما يفتي العالم بالفتيا الصحيحة، فإذا بها ينقلها عنه جهلة يخطئون فيها، وينسبون الخطأ للعالم، فلا تبقى الفتوى صحيحة ولا العالم عالماً، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم مغبة وخطورة ذلك فيما يقع في آخر الزمان، عندما أخبر -كما في صحيح البخاري - عن أحداث آخر الزمان فقال: (يقل العلم، ويكثر الهرج. قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل) فقلة العلم شيوع للكلمة الخاطئة الجانحة في صوابها -أي: من حيث الحكم الصحيح- وفي أسلوبها من حيث الوضع والأسلوب الصحيح، وكم في حديث وهدي النبي عليه الصلاة والسلام من بيان لضرورة ضبط الكلمة، بل في كتاب الله عز وجل تحذير خطير لهذا: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] فهذا النطق ليس أمراً هيناً، بل لابد أن يئول إلى علم صحيح غزير، ولذلك كان العلماء يتدارءون الفتوى فيما بينهم، والجهلاء يتسابقون عليها، وحسبك أن الصحابة كانوا يتدارءون الفتوى فيما بينهم حتى تعود إلى الأول منهم، كما روى بعض التابعين حيث قال: (ربما رأيت الفتوى تعرض على المائة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام كلهم يدرأ بها عن نفسه ويلقي بها على أخيه). فالعلم هو أحكم ضابط وأعظم مشعل ينير الطريق للكلمة الصحيحة الصادقة الحكيمة.

السبب الثاني: التسرع

السبب الثاني: التسرع يقول المثل: في العجلة الندامة وفي التأني السلامة فالتسرع قد يكون عند المرء، فتجد الواحد يتسرع إما لرد فعل، كما لو أخطأ عليه شخص فتراه يرد الخطأ مضاعفاً، أو كما لو استفزه مستفز فتراه يخرج عن طوره وطوعه، ويخرجه غضبه عن إصابة الحق إلى الوقوع في الباطل، ولذلك أُثر عن عمر بن عبد العزيز في وصف المؤمن أنه قال: المؤمن من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق. فالمؤمن فيه سكينة إيمانية أسَّسها عنده ذلك العلم الشرعي، والفقه والورع الإيماني، فليس هو الذي يتسرع فتنطلق الكلمة منه ويعقبها ندم وحسرة قد لا يجديان ولا ينفعان، فالتسرع إذاً من هذه الأسباب.

السبب الثالث: الانطباع على كثرة الكلام وعدم استشعار المسئولية

السبب الثالث: الانطباع على كثرة الكلام وعدم استشعار المسئولية بعض الناس لا يرتاح لسانه إلا إذا نام، أما إذا كان مستيقظاً فلابد أن يتكلم كلاماً نافعاً أو ضاراً، محتاجاً إليه أو غير محتاج إليه، طلب منه أولم يطلب منه، فتجد بعض الناس لا يكون في مجلس إلا ويستأثر بالكلام، فإذا به يخبر عما سلف من أيامه وعن حياته، ويعلم الناس بما وقع له في حله وترحاله، وما أكل في الصباح وما ينوي أن يأكله بالمساء، كأن الناس منشغلون به ومهتمون بحاله أو منتفعون بمقاله، وهؤلاء هم صنف الثقلاء، الذين يثقلون على الناس بكثرة كلامهم وجلوسهم وغلظ أسلوبهم، وقد كان بعض السلف يستثقلهم، وكان من مشاهير هؤلاء الذين يستثقلون الثقلاء الأوزاعي وهو من التابعين، وله في ذلك لطائف وطرائف كثيرة منها: أنه رئي مرة وهو يسير بين ثقيلين فقيل له: كيف الحال؟ فقال: الروح في النزع. أي: بلغت روحه الحلقوم.

السبب الرابع: الهوى

السبب الرابع: الهوى الهوى الذي يهوي بصاحبه، فيجعله يطلق الكلمة كالرصاصة القاتلة، أو كضربة السيف القاصمة، يهوى ويحب فيوافق حتى في الباطل، كما هو لسان ذلك المحب العاشق يقول: يميناً إذا كانت يميناً وإن تكن شمالاً ينازعني الهوى عن شماليا فهو دائماً وأبداً موافق لهواه: والهوى في الوقت نفسه قد يكون لوناً آخر من بغض أو حسد، أو من نفرة وجفاء، فيئول بصاحبه إلى أن يستخدم الكلمة في غير موضعها، فيغتاب أو يسعى بنميمة أو يشوه سيرة أخيه المسلم، أو يطعن في عرضه أو غير ذلك من الصور التي ليس لها دافع، فهو يعلم علم اليقين أن هذا باطل، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه من الغيبة، وقال لهم: (الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره. فقالوا: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) فهذا بهتان أعلى من الغيبة، فأنت تجد من يعلم أن هذا القول غير صحيح في فلان من الناس، وهو يعلم أن هذا القول لو كان صحيحاً فإن الشرع يمنع منه، ويعصم لسان المؤمن أن يغتاب أخاه، وأن يكشف عورته، وأن يهتك ستره، بل يأمره بأن يستر عليه وبأن يوري عنه، وأن يسعى له بنصيحة مخلصة بطريقة حكيمة، ومع كل ذلك يعمى بصره وتعمى بصيرته عن كل هذه المعالم، ويقوده الهوى في تياره الجارف وطغيانه الجانح وموجه الذي يكتسح كل شيء، ليس له هم إلا أن ينال من ذلك الذي نفر منه أو حسده لأمر ما أو لآخر، وحسبك أنك تجد هذا ليس بين أهل الدنيا، بل أيضاً بين أهل الدين، وحسبك تحذيراً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة، أما إني لا أقول: تحلق الشعر. ولكن تحلق الدين) فكيف بك تغتاب وأنت تعلم حكم الغيبة وأنها في أعلى مراتب الحرمة بنص كتاب الله، وفي أبشع الصور المنفرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] وتتجاوز كل هذا، إذاً سيئول بك الحال إلى أن تستهين بكلام الله وبشرعه وحكمه، وبهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام وسنته وإرشاده، وسيئول بك الحال إلى الفجور في الخصومة، فتنال صفة من صفات النفاق تنقص بها شيئاً من إيمانك، ثم لا يسلم بك الحال إذا تماديت في الهوى أن تخرج عن إطار مهم جداً، فتتجاوز الأمر إلى تكفير قد تقع مغبته عليك، نسأل الله عز وجل السلامة، فأمر الهوى أمر خطير جداً.

السبب الخامس: ابتغاء الدنيا وابتغاء المصالح الذاتية والمنافع الشخصية

السبب الخامس: ابتغاء الدنيا وابتغاء المصالح الذاتية والمنافع الشخصية المصلحة التي تشترى بها الكلمة وتباع هي -للأسف- عند ضعاف النفوس وأراذل الناس، وإن كان بعضهم ينتسب إلى أهل العلم وليس هو منهم، تباع الفتوى وتشترى بعرض من الدنيا قليل. إذاً من أهم أسباب انحراف الكلمة عن مسارها الصحيح ابتغاء الدنيا وابتغاء المصالح الذاتية والمنافع الشخصية، ألا ترى أقلاماً تتحرك بالباطل ليلاً ونهاراً لأنها تأخذ أجر ذلك درهماً وديناراً؟! ألا ترى من يزينون الباطل ويزخرفونه وهم يعلمون وباله وضرره، لا لشيء إلا لما يملأ جيوبهم من الأموال؟! ألا ترى كم يسعى بعض أولئك إلى اتهام وانتقاص واعتداء على أخيار وأبرار، لا لشيء إلا لما يأملون من هذه الملذات والشهوات؟! وحبسك أن الأمر لا يعدو كلمة واحدة أو مقالة واحدة، بل في دنيا الناس اليوم إعلام كامل مستأجر، صحف كاملة تشترى وتباع، إذاعات كاملة تهب نفسها لتكون بوقاً تسعى في ركاب أهل البغي والظلم والطغيان، وتوافق على كل شي، وتمشي مؤيدة لكل باطل، كل ذلك لأجل تلك المصلحة.

السبب السادس: الخوف وحب السلامة

السبب السادس: الخوف وحب السلامة حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل المؤمن الصادق لا يخشى في الله لومة لائم، لا يعني ذلك أن يكون متهوراً، بل هو أولى الناس بالحكمة، لكن لا يذل نفسه، ولا يبيع مبدأه ولا يغير منهجه، ولا يساوم في دينه بحال من الأحوال. وحسبك عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، الذي أعطى الكلمة ثمنها وقيمتها العظمى عندما ساومه ملك الروم وهو في الأسر على أن يعطى نصف الملك أو أن يعطى الملك كله في مقابل كلمة كفر، ثم إن ملك الروم أخرج أسيرين من المسلمين واحداً إثر واحد وغمسهما في زيت مغلي، يدخل أحدهما لحماً ويخرج عظماً أمام عيني عبد الله بن حذافة السهمي، ليخاف ويؤثر السلامة ويعطي الدنية في دينه، ويخرج الكلمة الذليلة التي يأباها قلب المؤمن الحر، فلم يرض بذلك، حتى كان مقابل الكلمة أو الموقف مصلحة المسلمين دون تغيير في مبدأ ولا مساومة على دين فأعطاها، فقال عمر رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة. وقام عمر -وهو من هو- وقبل رأسه أول الناس. وقال النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً عظيماً جليلاً، قال: (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) كلمة حق عند سلطان جائر، لم يخش قائلها السيوف المصلتة، ولا المصير المظلم، ولا السجون المنتظرة، ولا السياط الملتهبة، بل إنه ينظر إلى الحق الذي يرفعه، وما أعظم موقف الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه عندما قدر الكلمة والموقف، فجاءه من جاءه من أصحابه يسهل عليه أن يقول كلاماً يسلم به ولا يسلم دينه، وقال له: إن لك أبناء وإن لك عيالاً وكذا. فقال له: إن كان هذا عقلك فاسترح. وجاءه آخر فقال له نحو ذلك القول، فقال له: انظر إلى من وراءك. فنظر فإذا الجماهير الغفيرة كل واحد آخذ دواته وقلمه يريد أن يكتب كلمة ابن حنبل ويأخذ بها. فقدر هذا الموقف ولم ترهبه السياط ولا الوعد ولا الوعيد، وانظر إلى ذلك العالم من علماء سلف هذه الأمة عندما كان يجرى له عطاء من بيت مال المسلمين، وهو يحدث الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءت الفتنة امتنع عن موافقة الباطل، فقال له الخليفة: إذن نقطع عنك جرايتك. فأخذ بزر قميصه فخلعه، وقال: ما دنياكم التي تحرصون عليها إلا كمثل زري هذا. قال بهذا الكلام في وجه الخليفة، هنا يكون للكلمة قيمتها وللموقف أثره، ولذلك علق الخطابي على حديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فقال: إنما كان هذا أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان على أمل من الظفر بعدوه. ثم قال: ولا يتيقن العجز عنه؛ لأنه لا يعلم يقيناً أنه مغلوب. وهذا الذي يقول كلمة الحق عند السلطان الجائر يعلم أن يد السلطان أقوى من يده، فصارت المثوبة فيه على قدر عظم المئونة. ثم قال الخطابي معلقاً أيضاً: ليت شعري من الذي يدخل اليوم على الملوك الجائرين والسلاطين الباغين فلا يصدقهم على كذبهم؟! ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم؟! ومن الذي ينتصح منهم إن نصحوا؟! إذاً اجتنابهم هو أسلم لك -يا أخي- في هذا الزمان، وأحوط لدينك أن تقل من مخالطتهم وغشيان أبوابهم، ونسأل الله الغنى عنهم والتوفيق لهم. هذا في زمان الخطابي، وهو متوفى في القرن الرابع الهجري، فكيف وقد فشا في كثير من بلاد الإسلام جور وظلم، بل حكم بغير شرع الله عز وجل؟! وذكر أيضاً عن بعض الحكماء أنه قال: إن الذي يحدث للسلاطين التيه في أنفسهم والإعجاب بآرائهم كثرة ما يسمعونه من ثناء الناس عليهم، ولو أنهم أنصفوهم فصدقوهم على أنفسهم لأبصروا الحق، ولم يخف عليهم شيء من أمورهم. ولذلك قال صاحب الظلال في شأن فرعون: كيف يمكن لفرعون واحد في الأمة أن يتحكم في مصائرهم؟! قال: ليس هذا من فعله، ولكنها الأعناق مدت له فجر، والظهور حنيت له فركب، وأسعفه من حوله من أهل الملأ ووافقوه على مقالته: لا أريكم إلا ما أرى. وهكذا تأتي هذه الكلمة في موضعها فتكون من أفضل الجهاد، فإذاً: من الأسباب التي تمنع من الكلمة الصادقة وتحرفها عن مسارها الخوف وطلب السلامة.

ممارسات وصور عملية غير إسلامية تصرف الكلمة عن مسارها الصحيح

ممارسات وصور عملية غير إسلامية تصرف الكلمة عن مسارها الصحيح أنتقل في آخر الأمر إلى الممارسات والصور العملية لهذا الانحراف للكلمة عن مسارها الصحيح. فلعلي أقسِّم هذه الصور إلى قسمين: صور إسلامية، وصور غير إسلامية، والصور غير الإسلامية تصدر ممن لا ينصرون الدين ولا يشهرون رايته، وتجد ذلك في صور شتى: أولاً: الصمت عن الحق، ولذلك الساكت عن الحق شيطان أخرس، فأنت تجد كثيراً من الصحف والمجلات تنادي زوراً وبهتاناً بحقوق الإنسان وبالعدالة وبالديمقراطية وغير ذلك، بينما تغض الطرف وتكسر الأقلام وتكمم الأفواه عندما يكون هناك أمر متعلق بالمسلمين، فلتجر الدماء سيولاً ولتزهق الأرواح بالآلاف في البوسنة والهرسك ولا شيء في ذلك، ولتنتهك حقوق الدعاة والعلماء في كثير من بلاد الإسلام، ومع ذلك تصدر الصحف في بلاد المسلمين صباح مساء ليس فيها حتى إشارة، وإنما تجد فيها إثارة وتعدياً واستعداءً وتهييجاً للعقول وصرفها عن إدراك مثل هذه المخاطر، والأمر في هذا بين واضح، وفي المقابل فتجد أن إذاعات الكفر أحياناً تخبر بكثير من الوقائع والفضائع التي تحصل للمسلمين، وحسب ذلك بعداً للكلمة الحرة الصادقة، وحسبه أيضاً إهانة للكلمة التي لا تستطيع أن تكون عادلة فتذكر الأمر في كلا الأمرين. ثانياً: التشويه لصورة المسلمين والدعاة، بل لصورة الإسلام نفسه، فلم تعد اليوم حملات الكلمات الجائرة مقصورة على من يسمونهم الأصوليين أو المتطرفين أو الإرهابيين، بل صارت تتناول شرائع الإسلام وأحكامه، بل تتناول أعلامه التاريخيين من السلف رضوان الله عليهم تندراً بهم واستهزاء، بل -عياذاً بالله- تجد كثيراً من المجلات التي تنطق بألسنتنا قد تناولت شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض التهكم والسخرية، بما يكون صاحبه إن اعتقده كافراً لا شك في كفره، هذه الصورة التي نسمعها ونقرؤها تجدها قد غلبت على كثير من الكلمات المسموعة والمقروءة إلا ما رحم الله عز وجل، وإذا بحثت عن الكلمة الصادقة في ركام هذه الكلمات الكاذبة فلا تجدها، والله المستعان. ثالثاً: الترويج للفسق والفجور، والدعوة إلى الشهوات والملذات الآثمة، فأنت ترى سيلاً من الكلام والترويج للفن بألفاظ فجة جارحة للحياء العام، ومع ذلك تنشر مع الصور ومع غيرها، وتجعل الكلمة مسخرة للدعوة للرذيلة نسأل الله عز وجل السلامة، وتجد القصة التي تدعو إلى الآثام وإلى الحب والغرام والهيام، وتجد القصيدة الماجنة المفسدة، وتجد الأغنية بما فيها من كلمات وميوعة. إذاً لم تعد في هذه الكلمات إلا ممارسات غير إسلامية تدعو إلى مثل هذا الأمر. رابعاً: التشتيت في الفراغ. بمعنى أن الكلمة وإن لم تمارس ذلك الانحراف لكنها لا تقدم شيئاً نافعاً، وإنما تذكر لنا خبراً عن أطول (سندويتش) في العالم، وعن ذلك الذي أطال شاربه حتى صار طوله كذا سنتيمتراً، وأخباراً تافهة ومعلومات سخيفة، وتشويشاً من هنا وهناك، حتى لا يمكن أن تنتفع بكلمة، فربما تنقل الكتاب كاملاً أحياناً -سيما الكتب الحديثة التي ذكر الطنطاوي أنها مشتقة من الحدث الذي يجب الوضوء أو الغسل منه- فتجد كلاماً فراغاً وهذراً لاغياً يفسد القلوب ويفسد الأفكار، ويضيع الأوقات ويحجب الناس عن أن يقضوا وقتهم في الكلمة النافعة الصادقة.

ممارسات تصرف الكلمة عن مسارها الصحيح بين المسلمين

ممارسات تصرف الكلمة عن مسارها الصحيح بين المسلمين ننتقل إلى صور بين المسلمين، بل ربما بين بعض الخيرين من شباب الصحوة والدعوة، فإن هناك صوراً غير حميدة أدت إلى انحراف الكلمة عن مسارها وعن حكمتها وأسلوبها، وهي أيضاً ممارسات كثيرة أذكر بعض صورها.

المبالغات في المدح والذم

المبالغات في المدح والذم يعجب المرء حقيقة من المبالغات التي تدل على نوع من الخفة وسذاجة التصور، أو تدل أحياناً على نوع من الغش للآخرين، فإنك تسمع مبالغة فجة لا تقبلها العقول السليمة، فإن هناك من يقول: ألم تسمع محاضرة كذا وكذا؟ لا يمكن أن تسمع في حياتك مثلها لا قبلها ولا بعدها. أو كتاب كذا؟ لا يمكن أن يكون هناك أفضل منه على الإطلاق، وكذلك لا يمكن أن تجد أعلم في العالم كله من فلان أو فلان. وغير هذا من الإطلاقات، أما فلان فكذا وكذا، أما الأمر الفلاني فهو كذا وكذا، وفي المقابل أيضاً ذم مطلق. إن الإطلاق العام يدل على عدم البصيرة والوعي والعلم، مع أن الإسلام دعا إلى التثبت والانضباط، حتى في الأمور التي تتعلق بالكفرة من يهود أو نصارى نجد الاستثناء فيها وارداً، كما في قصة يعقوب عليه السلام قال: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66] مع أنه قد كان مجروحاً مكلوماً في نفسه، ومع أنه قد سلفت له معهم تجربة، لكنه قال: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66] أما الإطلاقات العامة التي ليس لها ضابط ولا حد ولا قيد فاعلم أنها من خطأ اللسان ومن خطأ الكلمة؛ إذ لابد من وضع الأمور في نصابها، وهذه المبالغات تفقد الناس القدرة على التمييز، فيتعودون على التهويل، فما يقبل أبداً الكلام المعتدل المتزن، فتقول -مثلاً-: فلان له كتاب جيد فيعتبر هذا الكلام ليس تزكية، وليس إشارة إلى الفائدة التي فيه إن لم تقل عنه: إنه جيد في غاية الجودة ونافع في غاية النفع وكذا. فإنه لا يدرك من كلامك أنك أعطيته تقويماً تريد منه أن ينتفع به؛ لأنه تعود على مثل هذه المبالغات، وكذلك لو قلت له: فلان تقي. وحسبك بهذه الكلمة تزكية، لكنها لا تكفيه، لابد من أن تقول له: إنه أتقى الأتقياء، وما رأيت أعبد منه، وما وقعت العين على مثله. وكذا وكذا من هذه الأمور التي قد قالها بعض أهل العلم في أئمة أجلاء كبار، ومع ذلك نقدوهم وذكروا مما يظنونه خطأً في أقوالهم، كما قال الذهبي: ما رأت عيني مثل ابن تيمية رحمة الله عليه، ولا رأى مثل نفسه. ومع ذلك فقد كتب رسالة مطولة ذكر فيها بعض ما رأى من المسائل مخالفاً فيه رأي شيخه، لكن هذه المبالغات -سيما في جانب التزكيات- تحدث هذا الاضطراب بين الشباب، كما أنها أيضاً تحدث أحياناً غشاً، فإنك عندما تبالغ تعطي صورة غير صادقة فينخدع بها غيرك، وقد تكون قلتها عن عاطفة، لكن هذه العاطفة لا تكفي مبرراً ومسوغاً لعدم ضبط هذه الكلمات.

الطعن والقدح

الطعن والقدح لا شك أننا نعرف ونسمع عن بعض الشباب الذين ليس لهم هم إلا قوائم الطعن والجرح التي يصنفون فيها الأسماء ويصنفون فيها الرتب من تفسيق أو تبديع أو تكفير، ثم يسجلون فيها المقالات والكلمات بتتبع وتقص مقصده الوقوف على الأخطاء، ثم يشغلون بذلك ليلهم ونهارهم، ويجعلون ذلك ديدنهم في حلهم وترحالهم، بل يبذلون في ذلك أموالهم، بل يرحلون فيه من مدينة إلى أخرى، وما ثمة عند هؤلاء وقفة مع تذكر لحرمة المسلم في ماله وعرضه ونفسه، وما ثمة مراعاة للذم والوعيد الشديد لأهل الغيبة والنميمة، ولا شيء من ذلك، وهذا الأمر يدل على قسوة في القلوب وتبلد في الإحساس وعمىً في البصيرة، نسأل الله عز وجل السلامة. وهؤلاء أيضاً قد سلم منهم الأعداء؛ لأن جهدهم قد صب في نقد وجرح وثلم وإسقاط الأخيار من الصلحاء والدعاة والعلماء، وهذا المسلك مسلك شيطاني؛ لأنه باسم الدين أو بلسان الدعوة، ولأنه يهدم في هذا الدين ويقوض بنيان الدعوة، إذ يقول: الحق أحق أن يتبع، ولابد من تعرية الباطل، ولابد من كشف الخطأ. وغير ذلك من الأوهام التي ما سلفت في سلف الأمة ولا دلت عليها الأدلة، ولا شهد لها فعل النبي عليه الصلاة والسلام، بل كان يقول -كما في سنن أبي داود -: (لا يبلغني أحد عن إخواني شيئاً فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر)، وينقض أيضاً الوصية النبوية بالستر على المسلم: (من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) وكذلك بالتماس الأعذار وحسن الظن مع إبداء النصح، وغير ذلك من الآداب الكثيرة التي لا حصر لها ولا حد في شرع الله عز وجل.

إطلاق الأحكام ونقل الكلام دون تثبت

إطلاق الأحكام ونقل الكلام دون تثبت نجد كثرة من الشباب يطلقون الأحكام جزافاً، سواء أكانت في الفتيا أم كانت في الحكم على الناس، فأحدهم يحكم على أهل بلد كامل بأنهم مبتدعة، وآخر يحكم على أهل محلة أخرى بأنهم فسقة، وهكذا يطلق الأحكام الدقيقة الخطيرة التي لم يطلب منه أصلاً أن يحكم فيها ولا أن يخوض فيها دون أن يراعي في ذلك حرمة ولا خطورة، فأنت تجد أقل فعل يفعله إنسان ما ينال به عنده حكم الابتداع في أمور عجيبة وغريبة، حتى جعلوا بعض اللبس نوعاً من الابتداع، لا ابتداعاً في الهيئة، بل ابتداع في الدين، حتى جعلوا أحياناً صوراً من القول وطريقة في الهيئة والكلام أو في المشية والحركة جعلوا لها حكماً في الابتداع، وغير ذلك من الأمور الخطيرة المريعة، وأحدهم لا يفقه شيئاً من الأحكام وتراه يدخل في مثل هذه الأمور. والنقل أيضاً آفة كبرى، ينقل بعضهم عن بعض أموراً عجيبة، وإذا في الأمر خبر ليس له أساس من الصحة، ثم يتصور تصوراً عجيباً وفريداً وغريباً، حتى إن الإنسان ليحار في أولئك القوم الذين ليس لهم هم إلا نقل الكلام والسعي به بين الناس ونشره من غير تثبت ولا روية، وقد أمرهم الله عز وجل أن يتثبتوا، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]. وأذكر لذلك مثالاً واقعياً يتعلق بي، فقد جاءني مرة من يذكر لي خبراً فقال: إن فلاناً يقول: إنك ذكرت لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز قولاً في مسألة الأشاعرة وناقشته فيها. فقلت: لا أعلم هذا الأمر أبداً ولم يقع. ثم تذكرت مجلساً تحدث فيه أحد الحضور وقال للشيخ: إن هذه المسألة قد كثر فيها اللغط وتكلم فيها بعض من لا علم له، وصار بسببها فتنة، وأنت العالم المقدم المسموع الكلمة، فلو قلت فيها كلمة ونشرتها أو أذعتها أو سجلتها لكان في ذلك إحقاقاً للحق وبياناً للعلم. ولست أنا الذي تحدثت بها، لكنه رجل كان في ذلك المجلس، ومع ذلك نسب القول إلي، ثم ظننت الأمر عارضاً، وإذا بي كدت أبكي من شدة الضحك وأضحك من شدة البكاء؛ إذ جاءني رجل آخر وقال لي: إن فلاناً يطلب منك صورة من البحث الذي قدمته للشيخ عبد العزيز بن باز عن الأشاعرة، فالكلمة صارت بحثاً مكتوباً تطلب صورة منه ليطلع عليه. وهكذا تروج الكلمة دون تثبت وينفخ فيها النافخون، حتى إنني سمعت لأحد الرجال في أمر وقع عندنا أنه ينسب فعله إلى فلان من الناس، مع أن فلاناً هذا كان ساعياً في درء هذا الفعل الذي وقع، فهذه أيضاً صورة أخرى.

استخدام أسلوب التورية والتلميح الذي يقصد به الطعن والتجريح

استخدام أسلوب التورية والتلميح الذي يقصد به الطعن والتجريح قد لا يكون الطعن صريحاً كما قد يفعله بعض من أشرت إليهم وذكرت وصفهم، لكن بعض الناس يستخدم أسلوباً في نظري هو أخبث وأكثر شراً وضرراً؛ إذ إنه يستخدم أساليب وكلمات تحتمل الوجهين، لكنه يعلم أن السامع له لا يدرك من هذه الكلمات إلا المعاني الذميمة، فهو يقول: فلان في عقيدته نظر، لم يقل: هو كافر ولا مبتدع ولا معتدل ولا غير ذلك، أو يقول: فلان عنده بعض التميع. ولك أن تفهم هذه الكلمة المائعة، وقد يصل إلى تميع يستبدل فيه الحق بالباطل والاعتقاد الصحيح بالاعتقاد الزائغ، ويستخدم أساليب من هذا النوع، كأن يقول: فلان لا أطمئن له، أو لا أرى أن ينتفع أو أن يكون في موضع الانتفاع منه. أو نحو هذه الكلمات التي ليست بالطعن الصريح، لكنها في الوقت نفسه تقع موقعاً من السوء، ويقع بسببها من الضر وانتشار الخطر ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، سيما إن صدرت ممن يكون مسموع الكلمة أو مقدماً عند السامعين له أو السائلين له، وهذه -وللأسف- أيضاً صورة منتشرة، بل قد تكون أحياناً منتشرة في كلام مسموع منتشر على أشرطة، أو حتى في كلام يروج بين المجالس؛ إذ إن صاحبها قد يلجأ إلى الأمر الذي ذكرته في خصائص اللسان، وهو أنه خفي المنال، فإذا واجهته بهذا الكلام قال: لم أقصد بالتميع تميعاً في العقيدة، وإنما أقصد به كذا وكذا وكذا. يأتي بكلام آخر، ولم أقصد بقولي: فيه نظر إلا أنه موضع التأمل والتدبر. وهكذا يمكن أن يخرج من هنا وأن يدخل من هناك، أو أن يدخل من هنا ويخرج من هناك.

الخوض فيما لا يعني والجدال والمراء

الخوض فيما لا يعني والجدال والمراء هناك صور كثيرة عند الشباب الذين هم في مقتبل العمر وفي أول الابتداء، ومن هذه الصور الحديث فيما لا يعني، فكم تجد طفلاً صغيراً ينتطح بين الكبار، أو غراً جاهلاً يدخل في المسائل العويصة، أو يسأل عن أمور لم تقع، أو عن مشكلات لا حاجة له إليها، فهو يصرف نفسه عما هي أهل له وعما هي محتاجة إليه إلى غير ذلك مما لا ينبغي له، وفي الحديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). وعن ابن عباس في وصيته لرجل أنه قال: (لا تتكلم بما لا يعنيك فإن ذلك فضل، ولست آمن عليك الوزر، ودع الكلام في كثير مما يعنيك حتى تجد له موضعاً، فرب متكلم في غير موضعه قد عنت، ولا تمار حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليم يقليك -أي: يهجرك- والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا توارى عنك بما تحب أن يذكرك به إذا تواريت عنه، ودعه مما تحب أن يدعك منه، فإن ذلك العدل، واعمل عمل امرئ يعلم أنه مجزي بالإحسان ومأخوذ بالإجرام). وقال مورق العجلي: أمرنا بأمر أنا أطلبه منذ عشرين سنة لم أنله ولست بتاركه فيما أستقبل. قيل له وما هو؟ قال الصمت عما لا يعني. وكتب أحدهم لـ يونس بن عبيد الله يسأله عن حاله: كيف أنت؟ فكتب له يونس كتاباً قال فيه: أما بعد: فإنك كتبت إلي تسألني: كيف أنا وكيف حالي. فأخبرك أن نفسي قد ذلت لي بصيام اليوم البعيد في الحر الشديد، ولم تذل لي بترك الكلام فيما لا يعني. وهذه قصص فيها عبرة وحكمة وقد جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد بن عمير وقال له: إني رسول إخوانك من أهل البصرة. قال: وإنهم يقرءونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين علي وعثمان رضي الله عنهما - وكان هذا بعد استشهاد علي وعثمان بوقت طويل- ما قولك فيهما؟ فقال: هل هناك شيء آخر؟ قال: لا. فقال: جهزوا الرجل. فلما جهزوه وفرغوا من جهازه. قال: اقرأ عليهم السلام وأخبرهم أن قولي فيهم هو قول الله عز وجل: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]. وكما أثر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: تلك فتنة طهر الله منها أيدينا فلنطهر منها ألسنتنا. وأخيراً الجدال والمراء، فقد كثرت في مجالس الشباب المماراة والمجادلة، فيدخلون في حال الإنسان يسألونه ويجادلونه ويناقشونه حتى يخرج عن طوره، فيقول ما لم يكن يحب أن يقول، فيخطئ حيث أراد أن يصيب، أو يقع بينهم نوع من الفرقة والشحناء، وهذه صور فيها انحراف للكلمة عن مسارها، والصور أكثر مما ذكرت، وحسبي الإشارة؛ فإن الحر تكفيه الإشارة عن صريح العبارة.

الأسئلة

الأسئلة

توجيه الشباب باتخاذ الأسلوب الشرعي عند تقويم الأخطاء

توجيه الشباب باتخاذ الأسلوب الشرعي عند تقويم الأخطاء Q كثر من الشباب الملتزم عقد جلسات ليعرفوا الآخرين بعيوب المسلمين، فهم ينتقصونهم لأفعالهم وأعمالهم، ويشتغلون بالمهم عن الأكثر أهمية، ويكون هذا شغلهم الشاغل، ويعتقدون أن هذا من صميم دعوتهم، بل حالهم يدل على أن هذه هي دعوتهم ليس غيرها؛ لأنهم لم يشتغلوا بغيرها معها، مع علمهم بمخططات دول الغرب لتدمير الإسلام وأهله، فما هو توجيهكم لهؤلاء؟ A نقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:134] ولستَ مسئولاً إلا عما ترى من خطأ فتقومه بالأسلوب الشرعي من النصح وإنكار المنكر بأساليبه، أما غيبة الناس وجرحهم وانتقاصهم والثلب في أعراضهم والانتقاص من جهود العاملين المخلصين، فإن ذلك لا يفيد إلا أعداء الإسلام. لكن الاختلاف السائغ المبني على اجتهاد صحيح أمر لا يفسد للود قضية، وقد اختلف من قبل صحابة النبي عليه الصلاة والسلام وائتلفت قلوبهم وعمرت المحبة فيما بينهم، وتلاحمت صفوفهم، بل اختلفوا في الحكم ووافق بعضهم بعضاً في الصورة العملية حتى لا تشق عصا المسلمين أو تفرق صفوفهم، فـ ابن مسعود كان يرى القصر في الحج وعثمان كان يرى الإتمام، فأتم فقال ابن مسعود: (رحم الله عثمان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قصر وأبو بكر وعمر) ثم لما حانت الصلاة صلى خلف عثمان فأتم، قالوا له: أنكرت عليه ثم صليت معه؟ قال: (الخلاف شر) فما دام الأمر لا يستدعي مفاصلة والحكم جائزاً هنا وهناك، والأمر بين فاضل ومفضول أو راجح ومرجوح، أو لهذا دليل يمكن أن يسوغ العمل به فالأمر لا يقتضي مثل هذا الخلاف.

علاج الغيبة

علاج الغيبة Q الغيبة مرض خطير وداء وخيم، فما هو العلاج الأمثل لذلك؟ A إمساك اللسان عن المحرمات واستحضار شدة العذاب والوعيد الذي ذكر في شأن الغيبة، إضافة إلى العدل والإنصاف، فهل تحب أن يغتابك الناس ويذكروك بسوء؟ فكما لا تحب ذلك لنفسك فلماذا تحبه للآخرين؟ وانظر كذلك إلى الآثار الواقعية التي تترتب على مثل هذه الغيبة، فإنها تزرع الشحناء والبغضاء، وتفرق الصفوف وتوهن في قوة المسلمين، وكل ذلك أضرار إذا تأملتها أدركت خطورتها.

كيفية معالجة الأخطاء الواقعة من الأشخاص وضوابط ذلك

كيفية معالجة الأخطاء الواقعة من الأشخاص وضوابط ذلك Q إذا كان كان الحديث عن شخص آخر نوعاً من أنواع الغيبة فكيف يمكن لنا أن نحسن من أحوالنا إذا لم نجتمع ونناقش الأمور التي تمس مجتمعنا؟ A إذا أردت أن تناقش الأخطاء فناقشها مجردة عن الأشخاص، على هدي النبي عليه الصلاة والسلام (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) وإذا أردت أن تناقش المشكلات فليس من لوازم أمرها أن تعرف أصحابها، لكن إن كان صاحب الفسق معلناً فسقه مجاهراً به معلناً حربه لله ولرسوله فإنه لا غيبة له، بل التحذير منه نافع ومفيد في هذا الشأن، أما أخ مسلم صالح عابد ساع بالخير باذل وقته وجهده وفكره في نشر الخير والدعوة إليه فهذا إن كان فيه خطأ فإن كثير صوابه يغطي ويغمر قليل خطئه، وإن قليل خطئه موهوب ومغفور في كثير صوابه، وإن قليل خطئه يستوجب منك أن تبذل له النصح الذي تقدمه بالشكر له والثناء عليه، والحث له على المضي في الخير الذي هو فيه، ثم تستدرك وتقول: لكني أحسب أن في قولك أو في بعض فعلك كذا وكذا، وأنت فيك خير، وأنت الذي نظن بك أفضل مما نظن بأنفسنا وكذا وكذا فإن هذا هو التقويم والتصويب. ولعلي أختم بأمر جامع يضبط هذه المسارات كلها. أولاً: العلم الشرعي الذي تحصل به البصيرة والمعرفة، ويبعد الإنسان به عن الوقوع في الخطأ. ثانياً: الإدراك الواقعي بحال الأمة الإسلامية والدعوة الإسلامية، وحال الأعداء واضطهاد المسلمين، وحاجتنا للوقت، وحاجتنا للجهد، وحاجتنا للوحدة والائتلاف، ولدرء مفاسد أعداء الدين الذين يبثون الفرقة بين صفوفنا وفي مجتمعاتنا، وأن ندرك من خلال الواقع هل هذه الكلمة موقعها في هذا الوقت، فإذا كانت هناك حملة على الدعاة والصالحين، فما بالك تجرح جرحاً قد تكون فيه مصيباً أو مجتهداً لكنه لم يقع موقعه المناسب في هذا الظرف أو في ذلك الزمان. وهكذا إدراكك للواقع، وما يترتب على الكلمة من الآثار وما تتوقع لها من القبول عند الناس ينبغي أن يعصمك هذا الإدراك عن كثير من الخلل. ثالثاً: الورع الإيماني الذي يجعلك تعف عن الوقوع في المحرمات، وتربأ بنفسك عن الدخول في المهاترات والمنافسات، وتغلب الخير الذي ترجو ثوابه من الله عز وجل، ولا تكون لك غاية ولا هم إلا ابتغاء رضوان الله عز وجل، وتلتفت إلى حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ابتغى رضا الناس بسخط الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى سخط الله عز وجل برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس). فالله أسأل أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، والله أسأل أن يكتب لنا الأجر والثواب، وأن يوفقنا للحق والصواب، وأن يعصمنا ويقينا من شرور أنفسنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصل -اللهم- وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أيام معدودات وليال محدودات

أيام معدودات وليال محدودات إن الأيام معدودة، والأنفاس محدودة، والعمر له نهاية، والعاقل من يفكر في نهايته أين ستكون، واللبيب من يتدبر حاله إلى أين سيئول، ولذا فعلينا أن نستيقظ من رقدتنا، وأن ننتبه من غفلتنا قبل أن ينزل بنا هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وأن نغتنم العمر في الطاعات، خاصة الأوقات الفاضلة كالعشر الأواخر من رمضان، وليلة القدر.

ذهاب الوقت وطوي الساعات لن يعود

ذهاب الوقت وطوي الساعات لن يعود الحمد لله عالم الخفيات، رب الأرض والسماوات، أنزل الرحمات، وأفاض البركات، وزاد الخيرات، وجعل لعباده في أيام دهره نفحات، تمحى فيها السيئات، وتضاعف الحسنات، وترفع الدرجات، فله الحمد ملء الأرض والسماوات، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد الرضا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، الرسول المجتبى، والنبي المصطفى، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي َتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! في الجمعة الماضية كنا نقول عما قريب نستقبل العشر، واليوم نقول: قد مضى نصفها، وعما قليل يودع رمضان، تنتهي أيامه، وتقوض خيامه، عما قليل يؤذن بالرحيل، نفتقد من بعده كما هو غالب الحال الصلوات الخاشعة، والدعوات الضارعة، والتلاوات المرتلة، والمساجد الممتلئة، والنفقات المتكاثرة، والزيارات المتواصلة، نفتقد من بعده قلوباً مشرقة بالإيمان، ونفوساً مطمئنة باليقين، وجوارحاً مشغولة بالطاعة، نفتقد من بعده خيراً كثيراً، فأي شيء نقول في هذا المقام؟! إنها أيام معدودات، وليال محدودات، لا تتصور أن بها نهاية رمضان، بل تخيل أنها نهاية عمرك، أو أنها نهاية الدنيا كلها، لو قيل لك: لم يبق إلا هذه الأيام، وسوف تطوى صفحات حياتك، وتلفظ أنفاسك، وتودع دنياك، وتوضع في قبرك، وتقبل على ربك ما الذي ستفعله؟ هل ستبقي وقتاً للنوم الطويل والراحة المديدة؟ هل ستخصص زماناً للنزول إلى الأسواق، والجلوس مع الأصحاب؟ هل ستبقي جهداً وفكراً لتحصيل مزيد من الأموال، وتكثير مزيد من الأرصدة، ولحاق أسواق الأسهم قبل إغلاقها، والبنوك قبل إقفالها؟ هل سيكون شيء من ذلك؟ أم أنك لن تجد مطلقاً شيئاً يشغل بالك، ولا يقلق همك، ولا يملأ قلبك إلا ما ينبغي أن يكون من إقبالك على الله، وعدّ الدقائق بل الثواني لكي تملأها بشيء ينفعك بين يدي الله عز وجل، نعم لم يبق إلا خمسة أيام وأربع ليال قد تزيد يوماً وليلة، وقد لا يكون إلا ذاك، والزمن إذا مر لا يعود. ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها الوقت الذي بدأنا به هذه الخطبة لن يعود، اليوم الذي مضى لن يكرر (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ويقول: أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، وإذا ذهبت فلا أعود أبداً). تصور ذلك إن أردت لنفسك خيراً، وأردت أن تكون هذه الأيام أياماً غير أيام الدنيا كلها؛ لأنها الأيام الأخيرة التي تتصور أنه ليس لك بعدها حياة، وليست عندك بعدها فرصة عمل: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك).

نداء للكسالى ليفروا إلى الله

نداء للكسالى ليفروا إلى الله أيها الكسالى! فروا إلى الله بالجد والنشاط والعمل؛ لم هذا النوم؟ لم هذا الكسل؟ لم هذا التراخي؟ لم هذه الأقدام التي كأنما تخط خطاً وهي تسير؟ أين الذين يبكرون إلى الجمعة؟ إننا نراهم وهم يأتون تباعاً متأخرين؛ لأن هناك ضعفاً، ولأن هناك عدم استشعار بأن الأمر جد، وأن الخطب عظيم، وأن الكرب جسيم، وأن الأمر أكثر وأعظم من أن يسوف فيه أو يؤجل له. كثيرة هي المعاني التي نشعر بها في واقعنا، ونرى أنها صورة تعكس شيئاً من المعاني الضعيفة الهزيلة في نفوسنا مما ينبغي أن يغير ويبدل، ولو نظرت لرأيت ضعفاً عظيماً، ولرأيت تراخياً مستغرباً مستهجناً من مؤمن يدرك أن الأمر جد، وأن الحياة قليلة، وأن الأيام منتهية، وأن الإقبال بين يدي الله عز وجل قريب عاجلاً أو آجلاً: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). اليوم تستطيع وغداً لا تستطيع، اليوم أنت في الحياة، وغداً أنت تحت طباق الأرض في عداد الأموات، كم ودعنا في هذه الأيام الماضية من أقارب أو أصدقاء! أليسوا كانوا يؤملون ويؤملون ويقولون: سنفعل في العشر، وسنفعل في آخر الشهر، أين هم اليوم؟ وأين سنكون نحن بعد لحظات أو بعد أيام؟ الله عز وجل وحده عالم بهذا. أيها المقصرون! متى على الله تقبلون؟ أيها المعرضون! متى عن شرودكم تنتهون؟ فروا إلى الله عز وجل من كل شيء لا يحبه ويرضاه إلى كل أمر يحبه ولا يرضاه.

نداء للغارقين في الشهوات ليفروا إلى الله

نداء للغارقين في الشهوات ليفروا إلى الله أيها الغارقون في الشهوات الذين تحبون الملذات! أقبلوا، فروا إلى الله ستجدون لذة المناجاة، وحلاوة الطاعة، وسرور الدعوات، ودمعة السجود في الخلوات أفضل من الدينا وما فيها؛ لأن ذلك هو سعادة القلب وسرور النفس، وهو أعظم من كل ما تجدونه في الأزواج والأولاد والأموال؛ لأن لذة الطاعات هي التي تخلص إلى القلب والنفس فيكون لها أثرها المحمود. أيها الجاهلون! الذين لا تعلمون شيئاً من كلام الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تعرفون الله بذاته وأسمائه وصفاته كما عرفها لكم في كتابه، لأنكم منقطعون عن العلم لا تسمعونه، لا تقرءونه، لا تطلبونه، وتنشغلون بكل شيء من اللهو! فروا إلى الله بالعلم به، والتذكر له، والإقبال عليه، والمعرفة له بكتابه، وبما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أيها المسوفون الذين يمدون الأمل طويلاً طويلاً! فروا إلى الله باليقين بأن الأجل يقطع الأمل ويعترضه، فتعود الآمال كلها متبددة، ينبغي لنا أن نعيش ذلك، وأن نستشعره، وأن يكون صورة ذلك الفرار إلى الله قلباً معلقاً بالله، وعيناً دامعة من خشية الله، ولساناً رطباً بذكر الله، وأقداماً ساعية لمرضاة الله، وأيدي عاملة بأمر الله، وحياة مغمورة معمورة بكل ما يرضي الله؛ ليكون من وراء ذلك قلب مطمئن بالله، ونفس راضية بقضاء الله، وجوارح معافاة بأمر الله، وبركة في الرزق والمال من فضل الله، تتحول الحياة كلها من جحيم إلى نعيم، من شقاوة إلى سعادة، من ضيق إلى سعة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]. ينبغي لنا أن ندرك أن هم قلوبنا، وضيق صدورنا، وكدر عيشنا، وغم حياتنا إنما هو لأننا لسنا مع الله كما ينبغي، فإن فعلنا ذلك كان الأمر على غير ذلك بإذن الله عز وجل، ولذلك ينبغي لنا أن نعلق في هذه الأيام الأمل فيما بقي منها، فإن فيها خيراً كثيراً، وإن فيها فرصة عظيمة، لا ينبغي أن يكون فيها شيء من غفلة، ولا كسل، ولا تراخي، ولا انشغال بغير مرضاة الله وطاعته. لا تقل لي: قليلاً من هنا وقليلاً من هنا، فإن الوقت أعظم وأجل، وإن الخطب أكبر وأدهى من أن يقبل مثل هذه الشركات، لا بد لنا من حرص تام وإقبال عظيم يمثل هذه الصورة في الأمر الرباني الكبير: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] لو أن النذير وراءنا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وجمع بين الأصبعين) كم مقدار تلك المسافة؟ نعم زادت مئات وآلاف من الأعوام لكنها في عمر الزمان قليلة، وكل أحد بانتهاء حياته وإقبال مماته، تلك هي الحقائق التي نغفل عنها ولا نكاد نتذكرها، لا تحيا بها قلوبنا، ولا تتأثر بها نفوسنا، قد تتكلم بها ألسنتنا كما أتكلم، لكننا والحال إلا من رحم الله ليست كما ينبغي أن يكون في حقيقة بواطننا، وفي ظواهر أعمالنا وأحوالنا. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يعيننا على طاعته ومرضاته، وأن يحسن ختام شهرنا، وأن يمن فيه علينا بالمغفرة والرضوان، والعتق من النيران، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

نداء للظلمة ليفروا من مظالمهم إلى الله

نداء للظلمة ليفروا من مظالمهم إلى الله علينا أن ننادي أنفسنا جميعاً: أيها الغافلون! فروا إلى الله بذكره، بدعائه، بتلاوة آياته، بالتضرع بين يديه، فإن لم تفعلوا فيما مضى من الأيام فبقيت هذه الأيام، إن فاتت يوشك ألا ترجع، إن مضت يوشك ألا تعود، ويوشك أن تعود وأنت في حال سقم، أو في حال لا تستطيع فيها أن تؤدي ما تستطيعه اليوم، فلماذا التسويف؟ ولماذا التأخير؟ ولماذا هذا التكاسل والتراخي؟ أيها الظالمون! الذين ظلمتم واعتديتم كيف تصلون وتصومون وتدعون وأنتم عن الظلم لا تقتصرون؟ فروا إلى الله بترك المظالم وإرجاعها إلى أهلها، والبراءة منها قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. أيها الأزواج الظالمون لأزواجهم! فروا إلى الله بحسن العشرة، بالعدل والإكرام، وإيفاء الحقوق، وإدخال السرور، فإن معاملة الخلق طريق إلى معاملة الخالق، روى أبو هريرة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل سؤالاً عظيماً وقال: (يا رسول الله! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة)؟ هل هناك سؤال أعظم من هذا وأجل؟ هل هناك شيء ينبغي أن يكون محور تفكيرنا وشغل بالنا أكثر من هذا وأعظم؟ جاءت الإجابة في كلمتين موجزتين من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (تقوى الله، وحسن الخلق)، معاملة الناس، الإحسان إليهم، كف الأذى عنهم فرار إلى الله غداً. يا من أخذت المال! يا من اعتديت بالضرب! يا من أسأت بعنيف القول وغليظه! غداً يقتص منك، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء)، يعني: يقتص من الشاة التي لها قرون ونطحت شاة لا قرون لها يوم القيامة، فكيف بمن أكل الحقوق؟ كيف بمن استولى على الأموال بغير حق؟ كيف بمن ظلم أهله أو زوجه أو أبناءه؟ فروا إلى الله، فإنها أوقات مباركة، وليال فاضلة، وأواخر فيها عتق من النار، فيها إدراك لليلة القدر، فيها ختام شهر يعتق الله عز وجل من النار من شاء ممن أخلص وأقبل عليه سبحانه وتعالى.

أنموذج نبوي للفرار إلى الله

أنموذج نبوي للفرار إلى الله فما بالنا نفر منه لا إليه؟! ما بالنا نعرض عنه هنا وهناك؟! ما بالنا نذهب يمنة ويسرة؟! ما بالنا نتخبط في الدنيا، نريد من هذا مالاً، ونريد من هذا سنداً، ونريد من هذا حماية، وكأننا نسينا رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض؟ إنها مسألة مهمة، إنه لا بد لنا أن نتأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم، تأملوا الدعوات التي نكررها أحياناً مما حفظنا من دعوات المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). تأمل هذه الكلمات لتشعر أنك محاط بكل ما يذكرك بالله إن كان قلبك حياً بالإيمان بالله: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)، إن خفت سخط الله ففر إلى رضاه، (وبمعافاتك من عقوبتك)، إن خفت العقوبة فاطلب العفو منه، فهو سبحانه وتعالى العفو الكريم، وعذ به منه سبحانه وتعالى؛ فإنه لا منجى ولا ملجأ لك منه إلا إليه سبحانه وتعالى. تلك كلمات نطق بها الإيمان واليقين على لسان سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38] من ذا الذي يملك لك من الله شيئاً؟! من ذا الذي يمكن أن يعطيك شيئاً لم يكتبه الله لك، أو أن يمنع شيئاً قد كتبه الله لك؟! تلك الوصية التي قالها النبي لغلام صغير؛ لأن القلوب كانت مؤمنة، والنفوس كانت حية: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). إن لم يكن أحد يقدم أجلاً ولا يؤخر، إن لم يكن أحد يقدر رزقاً ولا يقتر، فأي شيء يجعلنا نتعلق بهذه الحياة أو بأولئك الأحياء؟ لم لا يكون التعلق بالله ونحن نودع هذا الشهر في الأيام القلائل، والليالي المعدودات، والزمن المحدود، والثواني التي سوف تنقضي شيئاً فشيئاً!

وجوب المبادرة بالأعمال الصالحة

وجوب المبادرة بالأعمال الصالحة إذاً: لا بد من المبادرة: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً -إلى أن قال:- أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر). إلى متى (سوف)؟ وإلى متى (لعل)؟ وإلى متى (غداً)؟ وإلى متى (في الموسم القادم)؟ وهل يضمن الإنسان عمره؟ هل يستطيع أحد أن تكون عنده وثيقة بأنه باق إلى رمضان القادم ليعوض ما فات، ليستدرك ما نقص، ليحيي قلبه بعد الموات، ليرجع من غفلته إلى ذكر ربه؛ قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] خاطبنا الله جل وعلا، فعندما أمرنا وحثنا وذكرنا بأن نأخذ حظنا من الدنيا فأي شيء قال؟ {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77] لكن ما الغاية؟ ما الأمر الأساسي؟ ما المحور الجوهري؟ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77] ذلك نصيب محدود قد تنساه إن علقت قلبك بالله عز وجل، فكيف بك وهو محور حياتك، وأوكد همك، وأعظم شغلك، ومستنفذ جهدك، ومستغرق وقتك، حتى كاد قلبك ألا يكون فيه مكان للآخرة، ولا اعتبار بموعظة، ولا تذكر لنهاية الحياة بالموت؟

ففروا إلى الله

ففروا إلى الله إذاً: لو تأملنا ذلك لوجدنا أننا في حاجة إلى أن نفر إلى الله؛ لأنه عندما دعانا لكسب الدنيا قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] مشي بقدر وقت نكتسب فيه العيش، قال: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، لكنه عندما دعانا إلى الآخرة، عندما حثنا إلى طريق الجنة لم يقل ذلك جل وعلا، بل قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] إنه ميدان سباق ليس فيه مشي ولا سعي ولا جري، بل هو أعظم من ذلك. ثم لما بين الحق جل وعلا لنا الأمر إذا ضاقت المشارب وأظلمت الدنيا، وإذا وجد المرء نفسه كما هو حاله في كل آن ضعيفاً يحتاج إلى مدد من القوة، عاجزاً يحتاج إلى مدد من القدرة، فقيراً يحتاج إلى عطاء من عطاء ذي الجود والكرم سبحانه وتعالى، جاء الخطاب بقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] إنه أمر عظيم، إنه خوف يدفعك إلى الفرار، إنها نار تدفعك إلى الفرار، إنه مصير يدفعك إلى الفرار، فإلى أين المفر؟ وأين المهرب؟ وكيف النجاه؟ وأين طريقها؟ إنه لا ملجأ من الله إلا إليه، لا بد أن تقر هذه الحقائق في قلوبنا في نفوسنا أن ندرك أنه لا بد لنا من الله، وأن نكون بالله ومع الله ولله وفي الله، تكون حياتنا كلها كما قال الحق عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] هل أنفاسك، هل أوقاتك، هل أموالك، هل أزواجك، هل أولادك؛ كلها لله أم أن حظ النفس قد غلب؟ وأبواب الرحمة في هذا الشهر، وأبواب الجنان مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، والشياطين مصفدة، والغفلة مع ذلك مستحكمة، والتكاسل عن الإقبال إلى الطاعات سمة ظاهرة، متى يفيق النائمون؟ متى يستيقظ الغافلون؟ متى ينشط المتكاسلون؟ متى يقبل المعرضون؟ متى الرجوع إن لم يكن في مثل هذه الأيام، في مثل هذه الخمس الباقيات من شهر البر والإحسان، شهر الذكر والقرآن، شهر المسارعة إلى الجنان، شهر جعل الله له باباً مخصصاً في الجنان وهو باب الريان، إذا لم يكن الرجوع هذه الأيام فمتى نفعل ذلك؟ إن المرء ليعجب من نفسه، وإن الإنسان ليفكر في حاله، لا شك أن هذه الحال قد سرى إلى قلوبنا فيها موات إلا ما رحم الله، وإلى نفوسنا كدر وظلمة إلا ما رحم الله، فعلينا أن ننعى أنفسنا، أن نتذكر ولو على أقل تقدير في هذه الأيام الباقيات، فروا إلى الله فروا إلى التوبة من ذنوبكم فروا منه إليه واعملوا بطاعته فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن فروا مما سوى الله إلى الله. والفرار إليه فرار من كل ما يكرهه ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً من الجهل إلى العلم من الكفر إلى التوحيد من المعصية إلى الطاعة من الغفلة إلى الذكر، كل شيء يحتاج في حياتنا إلى تبدل، نحتاج أن نشعر أن وراءنا ما يلحقنا، ويوشك أن يدركنا، أرأيتم إذا خاف الوليد الصغير ماذا يصنع؟ إنه يفر سريعاً إلى أمه فإذا وصل إلى حضنها اطمأن أفضى بهمه رفع صوته بالبكاء وجد الصدر الحنون، وجد اليد الحانية، ولله المثل الأعلى، وسعت رحمته كل شيء، وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] والله سبحانه وتعالى كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم قد سبقت رحمته غضبه.

خطورة الموقف والقدوم على الله

خطورة الموقف والقدوم على الله الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، نريد أن يكون هذا الشعار ظاهراً في حياتنا، في هذه الأيام وفي غيرها، اكتبوا هذه الآية، اجعلوها نصب أعينكم، احفظوها في قلوبكم، رددوها بألسنتكم، فإني موقن أننا لو فعلنا ذلك لاستشعرنا في كل مرة خطراً يحدق بنا، وفراراً يعجلنا، وفيئاً إلى رحمة ورضوان ينتظرنا بين يدي الله سبحانه وتعالى. فررت إليك يا ربي وبي شوق إلى توبه إلى أمر عظيم قد يزيل الهم والكربه يفيء الناس تواقين إلى أيامه الرحبه عندما نتأمل نجد أننا بحاجة دائماً وأبداً إلى أن نستشعر هذه الصورة، صورة للخطر القريب الداهم الذي ليس هناك وقت لانتظاره وتأجيله؛ لأنه يجعلنا نتصور ما يكون يوم القيامة مما أخبرنا الله به: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] تلك هي الحقيقة نقرؤها، نؤمن بها، لكنها لا تخلص بقوة لتهز نفوسنا، ولتسكن قلوبنا، ولتؤثر في حياتنا كما ينبغي أن تؤثر: مثل وقوفك يوم الحشر عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا النار تزفر من غيظ ومن حنق على العصاة وتلقى الرب غضباناً اقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ انظر إليه ترى هل كان ما كانا ونحن نعلم ما جاء في كتاب الله عز وجل عندما يقول الكافرون: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف:49] الصحف منتظرة، والأيام المقبلة يمكن أن تعمرها بحسنات مضاعفة، يمكن أن تعمرها بدعوات مكفرة لما مضى، يمكن أن تعمرها بإدراك ليلة القدر فتمحو عنك ما سلف من الوزر، ويعظم لك الله عز وجل الأجر، ويكون من الخير ما لا تقدر قدره، ولا يمكن أن تحيط بوصفه؛ لأنه خير من الله عز وجل الذي لا تنفد خزائنه سبحانه وتعالى. ليس هناك مزيد من القول، بقيت أيام قلائل ليس هناك غيرها في رمضان، ستنتهي وينتهي الشهر، وينتهي معه كل ما خصه الله عز وجل به من الفضائل والخصائص والأجور، فمن فاته فإنه محروم، وإنه قد خرج من موسم الخير صفر اليدين، كيف يكون حال التاجر إذا جاء الموسم وهو لم يخرج بربح قليل ولا كثير، بل خرج بخسارة عظيمة، وأوزار كبيرة؟! شقي ذلك شقاء ما بعده شقاء، وحرم حرماناً ليس مثله حرمان، وسعد بالخير من أقبل على الطاعات، ومن فرغ لها الأوقات، ومن شغل بها القلب، ومن علق بها النفس، ومن استنفذ فيها الجهد، فإن هذه هي الأيام المباركة، هي الليالي الفاضلة، هي الرمق الأخير من هذا الشهر العظيم، ومن هذا الفيض من الخير العميم، الذي ساقه الله عز وجل لنا، فهل نكون من العقلاء الذين يدركون مصالحهم، ويعرفون الخير الذي ينتظرهم، أم نكون من الغافلين الكسالى المتراخين الذين ما زالت عقولهم وقلوبهم في أودية شتى، ورءوسهم تخفق نعاساً، أم نكون من الحمقى الذين يعرضون وقت الإقبال، ويتركون الخير وهو مبسوط مبذول، وذلك والعياذ بالله من أشقى الشقاء الذي من وقع فيه فقد حرم خيراً كثيراً؟ أسأل الله جل وعلا أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يحسن لنا ختام شهرنا، وأن يوفقنا فيما بقي منه لبذل كل جهد في طاعته ومرضاته، أن يشغل فيه أوقاتنا بالطاعات والدعوات والتلاوات والصلوات، وأن يعلق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يعلق نفوسنا برضوانه ورحمته، وألا يشغلنا عن طاعته بشاغل، وألا يصرفنا عنها بصارف، وأن يجعل هذا الشهر الكريم تكفيراً لذنوبنا، وعتقاً لرقابنا من النار، وأن يجعله بإذنه سبحانه وتعالى عوناً لنا على طاعته فيما بقي من أيام دهرنا وعمرنا، وأن يبدلنا من بعد إعراضنا إقبالاً، ومن بعد غفلتنا ذكراً، ومن بعد تقصيرنا تشميراً. نسألك اللهم أن تقبل بقلوبنا عليك، وأن تعلق نفوسنا بحبك وطاعتك ومرضاتك يا رب العالمين. اللهم اجعل عبادتك أحب إلى نفوسنا من الماء على الظمأ، اللهم اجعل قلوبنا تحب الطاعات، وتلتذ بها، وتجد حلاوتها، وتستحضر عظمة الرب فيها، وتمتلئ بالخشوع في أدائها برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، والشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم وفقنا للطاعات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا رب الأرض والسماوات. اللهم اهدنا واهد بنا، نسألك اللهم التقى والهدى، والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم املأ أوقاتنا بالطاعات، ولا تشغلنا اللهم بالغفلات ولا بالمعاصي والسيئات، اللهم إنا نسألك لأمتنا وحدة من بعد فرقة، وعزة من بعد ذلة، وقوة من بعد ضعف يا أرحم الراحمين. اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمعهم على الحق والهدى والتقى يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، مكن اللهم في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا، اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، والعتق من نيرانك، واجعلنا اللهم ممن وفقته لقيام ليلة القدر وصيام يومها. اللهم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين؛ منّ علينا بعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وذرياتنا من النار يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وآمن روعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم اجعل ما بقي من هذا الشهر تفريجاً للكربات، وتنفيساً للهموم والغموم، ومحواً للسيئات يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون!

صفحات من سيرة المصطفى

صفحات من سيرة المصطفى لقد تميزت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بخصائص ومزايا عظيمة، فهي صفحات تاريخية مشرقة وضاءة، يستضاء بها في الظلم، ويسترشد بها في الضلال، ويؤتسى بها في العمل بأنواعه، ومن صفحات التاريخ النبوي غزوة أحد، فقد تميزت هذه الغزوة بالدروس والعبر التي تقوّم اعوجاج المسالك، وتحيي الإيمان في القلوب، وتثبت الأقدام عند النزال في ساحات الوغى، وهذه الغزوة أظهرت شجاعة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وصحابته، وأظهرت أهل النفاق وكشفت مساوئهم وما تنطوي عليه نفوسهم.

مقدمات غزوة أحد وحال المسلمين معها

مقدمات غزوة أحد وحال المسلمين معها الحمد لله رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، له الحمد سبحانه وتعالى هو الكريم الوهاب، وهو الغفور التواب، نحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! عود إلى صفحات من التاريخ، تميزت باختصاص عظيم، وجعلت قدوة وعبرة ونفعاً وفائدة للمسلمين، صفحات من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تشدني إليها كلما جاء شهر شوال وهو الشهر الذي وقعت فيه غزوة أحد من العام الثالث للهجرة، وكلما قلبنا صفحات هذه الغزوة وجدنا أن فيها سفراً عظيماً للدروس والعبر التي تقوّم اعوجاج مسالكنا، وتحيي وتقوي ضعف إيماننا، وتثبت مواضع أقدامنا، وتكشف ما وراء المظاهر إلى حقائقها.

رسالة العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشأن قريش

رسالة العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشأن قريش نعم! لقد أعدوا عددهم وشغلوا وسائل إعلامهم وحشدوا جيوشهم، وقالوا مقالة سابقيهم: لتدركوا ثأركم ولتوقفوا مسيرة هذا الدين الذي غزاكم في عقر دياركم، ذلك كان حال قريش، فأي حال كان حال محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته؟ هل كانوا غارقين في شهواتهم، ملتهين بملاعبهم ومسارحهم وغير ذلك مما نعلمه اليوم؟! روى أهل السير: أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم برسالة سرية مع رجل قطع المسافة في نصف المدة أو أقل يخبره بتجهز قريش، وكان مما جاء في رسالته: إن قريشاً قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلوا بك فاصنعه الآن. تهيأ قبل أن يأتوا إليك، واستعد قبل أن يطرقوا بابك، وتجهز قبل أن يكونوا في أرضك، وقد توجهوا إليك في ثلاثة آلاف، وقادوا مائتي فرس ومعهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف من الإبل، وقد أوعبوا من السلاح، أي: قد جمعوا ما لديهم من السلاح كله، هل اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؟ لقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الرسالة لـ أبي بن كعب فقرأها عليه، فقال: اكتم الخبر، ثم مضى إلى سيد الأنصار وأخبره الخبر وقال: اكتم عني ذلك.

الاستخبارات النبوية تأتي بأخبار قريش وجيشها

الاستخبارات النبوية تأتي بأخبار قريش وجيشها ثم لما تقارب الأمر وحل الجيش قام النبي صلى الله عليه وسلم وبعث الحباب بن المنذر قبل الغزوة عندما وصلت قريش إليهم، وقال له عليه الصلاة والسلام: اذهب إليهم وائتني بخبرهم، ولا تخبرني بخبرهم بين أحد من المسلمين، قال: فدخل فيهم وحزر ونظر وجاس بينهم. وهذا من شجاعته من جهة، ومن فرط ذكائه وحسن حيلته وتدبيره من جهة، ثم انظروا إلى التقرير الاستخباراتي الذي جاء به هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: يا رسول الله! والله لقد رأيت أعداداً حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ومعهم أفراس حزرتها مائتين من الخيل، ومعهم أدرع حزرتها سبعمائة، وإبل حزرتها ثلاثة آلاف، ثم سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت معهم الظعن -أي: النساء-؟ قال: نعم يا رسول الله! رأيتهم ومعهم الدفاف والأكبار -أي: الطبول والدفوف- فقال صلى الله عليه وسلم: أردن أن يحركنهم وأن يذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، ثم قال له: لا تذكر مما قلت شيئاً ولا حرفاً، ثم قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول). إنه الاعتماد على الله، والتوكل عليه، والثقة به، والالتجاء إليه، إنه اليقين الذي لا يتزعزع معه قدم، ولا يطيش معه عقل، ولا يخالج النفس منه اضطراب، ولا يداخل القلب منه خوف، إنه علم لمعرفة الحقيقة لا ليكون أثرها الوهن والضعف والخذلان، بل ليكون أثرها من قوة الإيمان وعظمة اليقين، مع شدة وصدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى: (اللهم بك أجول وبك أصول) هذا كان شعار المصطفى صلى الله عليه وسلم. تلك مقدمات تبين لنا اليقظة والانتباه والرصد وجمع المعلومات، وتبين أن أعداء الحق لا يفترون ساعة ولا تتوقف مكائدهم لحظة، فلا ينبغي أن يكون المسلمون في غفلة، وأن يكونوا مسرفين في حسن الظن حتى بلغوا حد السفه والسذاجة، حتى وصفوا أعداءهم بأنهم شركاؤهم، وقالوا في حق من تربصوا بهم الدوائر وثبتت جرائمهم وتيقن عداؤهم: إنهم لا بأس أن يكونوا معه في صف واحد في مواجهة أمور انطلت حيلها وترددت كلماتها في وسائل الإعلام، حتى راجت وصارت هي حجة كل أحد في كل مسلك خاطئ، وفي كل اعوجاج مستمر، نسأل الله السلامة!

تهيؤ قريش لغزو المدينة

تهيؤ قريش لغزو المدينة ولست اليوم أتحدث عن أحداثها، غير أني أتحدث عن مقدماتها؛ لأنها مقدمات تكشف لنا عن حال المجتمع المسلم، ما الذي كان في القلوب والنفوس؟! ما الذي كان في الخواطر والعقول؟! كيف كان ذلك المجتمع ينتبه ويلتفت نظره إلى ما حوله؟! هل كان منكفئاً على نفسه غارقاً في ذاته؟! هل كان متعلقاً بأمنه وسلامته فحسب؟! هل كان يدرك ما حوله وينتبه له أم لا؟! وكيف كان التفاعل مع ذلك؟! لا شك أننا جميعاً نعلم كيف كان التهيؤ لهذه الغزوة من قبل قريش أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك. بعد أن انجلى غبار بدر بما كان فيه من ظفر ونصر لأهل الإسلام والإيمان، وما كان فيه من هزيمة عظيمة لأهل الكفر والطغيان، سعى أرباب قريش كـ عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وعبد الله بن أبي ربيعة، ممن قتل آباؤهم وأقرباؤهم؛ سعوا إلى أبي سفيان، وإلى من كان له مال في تلك القافلة التي نجت، وقالوا: يا معشر قريش! إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فما عليكم أن تعينونا بهذا المال على حربه، فلعلنا أن ندرك ثأرنا بمن أصاب منا. ففعلوا، ودخل معهم أحابيشهم وهم الذين كانوا في حلف مع قريش، وانضوى معهم بعض قبائل كنانة وبعض أهل تهامة، بل ذكر الواقدي في مغازيه: أنه اجتمع معهم مائة نفر من ثقيف، واحتشد أولئك جميعهم في ثلاثة آلاف رجل، ومعهم مائتا فرس وسبعمائة درع، وثلاثة آلاف بعير، وأوعبوا من السلاح ما أوعبوا. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن قريشاً اليوم حاضرة كما هي بالأمس، وقد ألبت وأجلبت لثأرها من أمة الإسلام، ولئن جمعت قريش ثلاثة آلاف ومائتي فرس وثلاثة آلاف جمل أو نحو ذلك، فقد جاء القوم اليوم بمئات الآلاف من الجند والطائرات الخارقة وغير ذلك مما تعلمون، وأنفقوا لأجله الأموال، وجيشوا لأجله الجيوش، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].

موقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الخروج إلى أحد لمقاتلة المشركين

موقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الخروج إلى أحد لمقاتلة المشركين ننتقل إلى صفحة أخرى قبل المعركة ولن نذكر من المعركة شيئاً مطلقاً.

دعوة للاقتداء بالصحابة في النهوض للجهاد

دعوة للاقتداء بالصحابة في النهوض للجهاد تلك هي النفوس الأبية، ذلك هو المجتمع المسلم، فهل ترون في نفوسنا اليوم والأعداء قد حلوا بديارنا، وقد أخذوا مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ هل ترون نفوساً تتوق إلى الشهادة؟ أم أن مجرد ذكري ذلك يعد اليوم خطراً عظيماً وتهمة ثابتة، بل ربما لا يجرؤ أحد على قوله: لا لذلك؛ لأن القلوب قد امتلأت رعباً. إن تلك الجيوش الضخمة لم يزالوا يعلنون عن كفاءتها وقدرتها، ثم إذا بها في وحل لا تستطيع أن ترد عن نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تحقق نصراً، ولا تستطيع أن تواجه فتية صغاراً بأحجار وأسلحة قليلة ضئيلة. إن السنة ماضية، وإن آيات القرآن لا تتخلف مطلقاً فيما جاءت به من وعد الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]. كان ذلك يقيناً في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك عادة الله فينا كما ذكر أولئك الأصحاب، وقالوا: قد نصرك الله عليهم في يوم بدر على قلة عددنا. كل هذا كان واضحاً في الأذهان، وكان حياً وساكناً في القلوب والنفوس، وكان الأمر كذلك من جهة أخرى، فهم قوم مستقيمون على أمر الله، قائمون بطاعة الله، سائرون على خُطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا يخشون أن يؤتوا من قبل تخلفهم عن أمر الله، ولا تنكبهم لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضاتهم ومخالفاتهم المعلنة المشهرة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ألسنا اليوم في ظروف أشد وأصعب مما كان في يوم أحد؟ ماذا رأيت في صحف اليوم؟ صفحة كاملة، فيها إعلان لمسابقة ملكة جمال إحدى الدول العربية بين ثلاثين فتاة، يتم التنافس بينهن حتى تفوز إحداهن بعد معركة طويلة بعرش الجمال. وكاتب يكتب أيضاً عن بلادنا وديارنا ليقول: إنه فرح جذل بأخبار عن وجود قاعات (السينما) وإنها قد بدأت بالأفلام المتحركة للأطفال، فإنه يرجو ويأمل أن تتطور حتى تعرض الأفلام المختلفة. هذا هو واقع الحال، وتلك هي الصورة التي كانت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل إلى رجوع من سبيل؟ وهل إلى نظر وتأمل إلى حقيقة المجتمع المسلم وما كان عليه؟

نفوس تواقة إلى الشهادة في سبيل الله

نفوس تواقة إلى الشهادة في سبيل الله ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـ سعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد؟ فجاء قول سعد: لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً. فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: (يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا - فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله). وقام إياس بن أوس وقال: (نحن بني عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله). مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجعا بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال. أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثيراً من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق! لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واها لريح الجنة! والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع).

نفوس أبية وحماسة متقدة

نفوس أبية وحماسة متقدة فلننظر إلى المجتمع المسلم عندما تحل به الظروف العصيبة، عندما تحيط به الأخطار، عندما تأتي الأخبار بأن الأعداء على الأبواب، وبأن حرباً ضروساً يوشك غبارها أن يصل إليهم. استمعوا إلى هذه المواقف التي هي في حقيقتها غنية عن كل تعليق: كان ممن تحدث حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم أسد الله وأسد رسوله، ومعه سعد بن عبادة سيد من سادات الأنصار، والنعمان بن مالك، فكان مما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم، فيكون هذا جرأة منهم علينا، وقد كنت في بدر في ثلاثمائة رجل فأظفرك الله عليهم، ونحن اليوم بشر كثير قد كنا نتشوق لهذا اليوم وندعو به، فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مائلاً لهذا الرأي، فقام مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين: إما أن يظفرنا الله بهم، فهذا الذي نريد، فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة كوقعة بدر، فلا يبقى منهم إلا الشريد، أو الأخرى يا رسول الله! فإنها والله الشهادة، والله يا رسول الله! ما أبالي أين كنا إن كانت الشهادة يا رسول الله! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً) وكان حمزة رضي الله عنه كما قال أهل السير صائماً في يوم الجمعة، وكذلك كان صائماً في يوم السبت يوم غزوة أحد نفسها، فقال: (والله يا رسول الله! والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أناجزهم بسيفي خارجاً من المدينة، ثم قام النعمان بن مالك فقال: (يا رسول الله! أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك، فلم تحرمنا الجنة؟ فوالله الذي لا إله إلا هو لأدخلنها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله، ولا أولي يوم الزحف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت). وكان النعمان من شهداء أحد. ثم قام خيثمة والد سعد بن خيثمة وقد ذكرت قصته مرة: (جاء يوم بدر وكان خيثمة يريد أن يخرج وكذلك سعد ابنه يريد أن يخرج، وكان لابد لأحدهما أن يبقى، فلم يؤثر أحدهما الآخر حتى اقترعا، فجاءت القرعة لـ سعد على أبيه، فقال أبوه مستغلاً مقامه وقدره وحقه في البر: أو تؤثرني بها يا سعد؟ فجاء قول سعد: لو كان غير الجنة يا أبي، فمضى سعد ومضى شهيداً. فلما كان يوم أحد قام خيثمة رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! إن قريشاً جمعت الجموع، وتبعتها من العرب من أهل البوادي ومن تبعها من الأحابيش، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا يحصروننا في بيوتنا وصياصينا، ثم يرحلون وافرين لم يكلموا -أي: لم يجرحوا -، فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا علينا الغارات، وعسى الله أن يظفرنا بهم، فتلك عادة الله لنا، أو تكون الأخرى وهي الشهادة، فقد أخطأتني يوم بدر، وقد كنت حريصاً عليها يا رسول الله)، وقام إياس بن أوس وقال: (نحن بنو عبد الأشهل، نرجو يا رسول الله! أن نَذبح في القوم وأن نُذبح؛ فنصير إلى الجنة ويصيروا إلى النار، مع أني يا رسول الله! لا أحب أن ترجع قريشاً إلى قومها فيقولون: حصرنا محمداً وأصحابه في يثرب وآطامها، فيكون ذلك جرأة لقريش، وقد كنا يا رسول الله! قبل أن تأتينا في جاهليتنا والعرب يأتون إلينا ولا يطمعون منا بشيء حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك، وعرفنا مصيرنا أن نخرج إليهم يا رسول الله). مقالات قوية تكشف عن نفوس أبية، تكشف عن حماسة متقدة، تفصح عن إيمان عميق وعن يقين راسخ، قد علموا ما علموا من عدة قريش وسلاحها، وقد عرفوا قوتها ومن جاء معها من أحلافها، كل ذلك كان معلوماً عندهم، لكنهم كانوا يريدون الجنة، ويريدون شهادة في الجهاد في سبيل الله في مواجهة أعداء الله عز وجل، وكانوا يريدون رفع راية الإسلام وإعزاز الدين، وإظهار العزة في أهل الإسلام، لا طأطأة للرءوس، ولا انحناء للأبدان، ولا تراجع بالأقدام، ولا شيئاً من مظاهر الذل بحال من الأحوال. أرادوا أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سيما وأن بدراً لم تكن مخصصة لقتال، ولكن لقافلة وغنيمة، فقد فات كثير من الصحابة تلك الغزوة فأرادوا أن يعوضوا، لا يعوضون بمال ولا يعوضون بزروع وثمار، بل يعوضون بمعارك فيها ضرب بالسيوف وطعن بالرماح، يعوضون بدماء تسيل وأنفس تزهق، لكنها أمنيات وآمال لا تكون إلا لأهل الإيمان، قالها أنس بن النضر في أثناء أحد بعد أن احتدم غبار المعركة: (واه لريح الجنة والله إني لأجدها دون أحد)، وقال قبلها: (والله لأن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين الله ما أصنع) تلك هي النفوس الأبية، ذلك هو المجتمع المسلم، فهل ترون في نفوسنا اليوم، والأعداء -لا أقول: قريبون منا- قد حلوا بديارنا، وقد أخذوا مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد دخلوا إلى مواقع ديارنا إلا ما رحم الله، هل ترون نفوساً تتوق إلى الشهادة؟ أم أن مجرد ذكري ذلك يعد اليوم خطراً عظيماً وتهمة ثابتة، بل ربما لا يجرؤ أحد على قوله: لا لذلك؛ لأن القلوب قد امتلأت رعباً. إن تلك الجيوش الضخمة التي ما يزال يعلن عن كفاءتها وقدرتها، ثم إذا بها في وحل لا تستطيع أن ترد عن نفسها شيئاً، ولا تستطيع أن تحقق نصراً، ولا تستطيع أن تواجه فتية صغاراً بأحجار وأسلحة قليلة ضئيلة. إن السنة ماضية، وإن آيات القرآن لا تتخلف مطلقاً فيما جاءت به من وعد الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]. كان ذلك يقيناً في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك عادة الله فينا كما ذكر أولئك الأصحاب، وقالوا: قد نصرك الله عليهم في يوم بدر على قلة عددنا، كل هذا كان واضحاً في الأذهان، وكان حياً وساكناً في القلوب والنفوس، وكان الأمر كذلك من جهة أخرى فهم قوم مستقيمون على أمر الله، قائمون بطاعة الله، سائرون على خُطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا يخشون أن يؤتوا من قبل تخلفهم عن أمر الله، ولا تنكبهم لهدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضاتهم ومخالفاتهم المعلنة المشهرة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ألسنا اليوم في ظروف أشد وأصعب مما كان في يوم أحد؟ ماذا رأيت في صحف اليوم؟ صفحة كاملة، إعلان لمسابقة ملكة جمال إحدى الدول العربية بين ثلاثين فتاة، يتم التنافس بينهن حتى تفوز إحداهن بعد معركة طويلة بعرش الجمال. وكاتب يكتب أيضاً عن بلادنا وديارنا ليقول: إنه فرح جذل بأخبار عن وجود قاعات (السينما) وإنها قد بدأت بالأفلام المتحركة للأطفال، فإنه يرجو ويأمل أن تتطور حتى تعرض الأفلام المختلفة. هذا هو واقع الحال، وتلك هي الصورة التي كانت في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل إلى رجوع من سبيل؟ وهل إلى نظر وتأمل إلى حقيقة المجتمع المسلم وما كان عليه؟

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في البقاء أو الخروج

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في البقاء أو الخروج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغته الأخبار عن تجمع قريش ومن معها لمقاتلته وأصحابه، توجه إلى أصحابه يستشيرهم ويرى رأيهم في صورة هي أعظم صور المشورة وأعظم صور التلاحم بين القيادة والأمة، دعك من ديمقراطية زائفة، ودعك من انتخابات مزورة، ودعك من صور كثيرة مبهرجة، واخلص إلى جوهر الإسلام في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. رأى رؤياه عليه الصلاة والسلام وقصها على أصحابه قال: (رأيت بقراً تذبح، ورأيت ثلمة في سيفي، ورأيت أني آوي إلى درع حصينة، وأولت البقر: نفراً من أصحابي يقتلون، وثلمة في سيفي: بعضاً من أهل بيتي يقتلون، والدرع الحصينة: المدينة، فلو رأيتم أن نبقى فيها، فإن أقاموا هم أقاموا بشر مقام، وإن أتوا إلينا قاتلناهم، فكان لنا عليهم النصر والظفر).

صغار الصحابة يتسابقون للجهاد في سبيل الله

صغار الصحابة يتسابقون للجهاد في سبيل الله لننظر إلى صورة أخرى فيما بين يدي المعركة: عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان قبل بلوغه أحد، بدأ بتفقد الجيش فوجد مع الجيش جمعاً من الصغار دون الخامسة عشرة، وجد منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنه وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والنعمان بن بشير وغيرهم، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم، هل خرجوا ليلعبوا في الملاهي كأطفالنا اليوم، بل كشبابنا الكبار اليوم؟! هل خرجوا ليأخذوا الحلوى أو ليأخذوا المسابقات؟! لا، بل خرجوا ليقاتلوا فردهم النبي صلى الله عليه وسلم، (وممن رد معهم سمرة بن جندب فقال له أحدهم: يا رسول الله! إنه رام، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رافع بن خديج وقال لزوج أمه مري بن سنان الحارثي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز سمرة وإني والله لأصرعه، فقام مري وقال: يا رسول الله! أجزت سمرة وأن ابني هذا يصرعه، فقال النبي: تصارعا، فصرع رافع سمرة فأجازهما النبي صلى الله عليه وسلم). شباب كان في ذلك السن يتوق إلى الجهاد، كان معداً إعداداً إيمانياً، كانت تربيته تربية معلقة بالسماء، معلقة بالله عز وجل، معلقة بالآخرة وثوابها، معلقة بنصر الدين وإعزازه، لا تلتفت إلى صغائر الأمور وسفسافها. تلك هي الصورة لأولئك الصغار، فأين صغارنا اليوم ومن يكون في الخامسة عشرة؟! إنه في الصف الثالث المتوسط، ماذا نطلب منه؟ إننا لا نأمنه أن يذهب إلى المتجر فيشتري شيئاً؛ لأنه لا يستطيع أن يسير خطوات وحده، دون أن يكون معه أحد من أهله من شدة خوفه وتكريس هذه التربية في نفسه، ولعلي لو مضيت وفتشت لوجدت شيئاً كثيراً.

موقف من مواقف الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في أحد

موقف من مواقف الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في أحد بين يدي المعركة أيضاً (رفع النبي صلى الله عليه وسلم سيفه وقال: من يأخذ هذا بحقه؟ فقام إليه رجال فمنعهم منه، حتى قام أبو دجانة رضي الله عنه وقال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تقاتل به حتى ينحني، فقال: أنا آخذه يا رسول الله، فأخذه ومشى مشية المتبختر بعصابة حمراء ربطها على رأسه، فقال بعض الصحابة: فلقد رأيت أبا دجانة يفري بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرياً). هل هناك من ينتدب لتلك المهام الصعبة؟ هل هناك في أمة الإسلام من يقول اليوم: أنا لها؟ إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد أما اليوم تدعو الدواعي وتأتي الأمور الملحة فلا تكاد تجد أحداً يتقدم لها، ولا ينتدب إليها، ولا يجدد القدوة بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم. (ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لن تراعوا لن تراعوا، وهو على فرس لـ أبي طلحة عري ما عليه سرج…). بأبي هو وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان المقدام في كل أمر: (كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم) كما قال ذلك الفارس المغوار علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. تقدم أبو دجانة ووفى بحق سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدى دوره كما كان يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قلت لكم: إن حديثي ليس عن الغزوة بل عما سبقها.

وقفة مع موقف المنافقين في غزوة أحد

وقفة مع موقف المنافقين في غزوة أحد هنا وقفة نقفها مع المنافقين قبل أحد، انخذل عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه من المنافقين ومن أجابه إلى دعوته، كان عبد الله بن أبي ممن يريدون البقاء في المدينة، فلما خرج الجيش خرج معهم وقبل الوصول إلى المواجهة قال: عصاني وأطاع الولدان والغلمان، فرجع ورجع معه من بين ألف رجل ثلاثمائة رجل. هذا شأن المنافقين المثبطين، وما أكثرهم في ديار وبلاد ومجتمعات المسلمين، لم لم يقعد في المدينة من أول الأمر؟ أراد أن يثير البلبلة، وأن يشيع روح التثبيط والخذلان، وقد كادت قبيلتان من القبائل أن ترجع معه كما ذكر الله جل وعلا ذلك في القرآن: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]. (لما رجع ابن أبي فلحق بهم عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه وقال لهم: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حل عدوكم؟ فقالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، ولكننا لا نرى أنكم تقاتلون)، وهذا تناقض مع القول الأول، وإرجاف ليس له معنى. القوم على مشارف المدينة والمعركة ظاهر أنها قائمة، ولكنهم يقولون تلك المقالة، فقال عبد الله رضي الله عنه: (أبعدكم الله يا بعداء، وسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الأنصار: يا رسول الله! ألا نستعين بحلفائنا من اليهود؟ فقال: إنا لا نستعين بمشرك). تلك هي الصورة في الاستعداد لكل مواجهة عسكرية أو غير عسكرية، إنه إيمان قوي، إنها نفوس أبية، إنهم صغار يطمحون إلى مطامح الرجال، إنهم رجال ينتدبون إلى مهمات الأعمال، إنهم مجتمع لا يستمعون إلى الإرجاف، ولا يفت في عضدهم خور الخائرين ولا خذلان المخذلين، بل يبقون خلف رسولهم ووراء منهجهم ولنصرة دينهم ولإعلاء كلمة الله عز وجل، لا يأبهون لشيء مطلقاً، تلك هي صورة المجتمع المسلم. ولنا وقفات أخرى سنرى فيها الوصية الجامعة التي نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بهدي وسنة وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا بها مستمسكين إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وقفة مع وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل غزوة أحد

وقفة مع وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل غزوة أحد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن. وإليكم وقفة موجهة إلينا بين يدي كل ملمة تحيط بنا؛ إنها كلمات قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بين يدي غزوة أحد قبل أن تلتحم الصفوف، خذوا هذه الوصية التي رواها الواقدي في مغازيه، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه، ثم وطن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كربه، قليل من يصبر عليه إلا من عزم له على رشده. إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي أمركم به، فإني حريص على رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر). كلمات جامعة ينبغي أن تنزل من قلوبنا موقعها، قبل أن يكون في آذاننا مسمعها، كلمات يخبرنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كيف ينبغي أن يكون حالنا عندما يتكالب علينا أعدائنا؟. يقول عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل، فلينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). تلك الوصية الجامعة يخبرنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بجماع الأمر، بالائتمار بما أمر الله والانتهاء عن محارمه، استقامة واستجابة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].

خطر المعاصي والمنكرات على المجتمعات

خطر المعاصي والمنكرات على المجتمعات إن الخلل إذا وقع والمعاصي إذا انتشرت والفسق إذا عم، تكون عاقبته وخيمة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. وفي حديث أم المؤمنين زينب رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج قدر هذا، وحلق بين السبابة والإبهام، فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، وقد كثر -والله- الخبث وقل من ينكره، بل قل في الناس أحياناً من يدركه ويشعر به. إن مأساتنا عظيمة، وإن الخطر بنا محدق؛ لأنه في أعماق نفوسنا وقلوبنا، والنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا فقال: (ولكن من رضي وتابع)، فكم من أمور منكرة قد رضينا بها أو ألفناها أو غضضنا عنها طرفنا، وصممنا عنها آذاننا، ولم ننطق بشيء يحذر منها أو ينبه عليها، بل إن قلوبنا في كثير من الأحوال لم تعد تنقبض ولم تعد تغتم بكثرة تلك المنكرات، وربما فشا ذلك في معظم مجتمعات المسلمين إلا ما رحم الله. إن كثيراً من وسائل الإعلام مقروءة ومسموعة ومرئية تطالعنا صباح مساء بما يخالف هذه الوصية تماماً، فإنها لا تدعو إلى صبر ولا إلى يقين ولا إلى جد ولا إلى نشاط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية: (فعليكم بالصبر واليقين والجد والنشاط) أين نحن من هذا الجد والنشاط ونحن نتابع موسماً رياضياً الأول يدخل عليه الثاني ويتبعه الثالث، وقنواتنا العربية اليوم لم تقصر، فهي لم تترك بقعة في العالم إلا نقلت ألعابها وترهاتها حتى لا يفوتنا شيء من ذلك، كأنه قد فرغت أوقاتنا وانتهت مهماتنا وصلحت أحوالنا وقويت أمتنا وانتصرت جيوشنا، فلم يعد لنا هم إلا أن نتابع هذا المسلسل أو تلك المباراة أو تلك المسابقة، أو اتصل على ذلك الرقم أو افعل كذا وكذا، في نوع من تتفيه العقول وتسفيهها، وشغل الأمة ورجالاتها فضلاً عن شبابها ونسائها بهذه الأمور السخيفة العارضة، حتى يصل الخور إلى القلوب والنفوس فتركن إلى عدوها وتهزم قبل أن تأتي المعارك. ولذلك كم من هزيمة وقعت للنفوس والقلوب، بل نحن اليوم نرى من أبناء جلدتنا من يتكلمون بألسنتنا وهم يجوسون خلال ديارنا ويقولونا كلاماً هو أشد وقعاً وأظهر ضرراً مما يقوله أعداؤنا فيما يفت في عضدنا، وفيما يسكننا ويركعنا ويذلنا لأعدائنا، والمؤامرات اليوم لا تخفى على أحد، ولم يعد أحد يجهل اليوم المؤامرات الكبرى التي تحيط بأمتنا الإسلامية. وكما قلت: قد غزيت ديارها واستبيحت دماؤها وانتهكت أعراضها وسلبت مقدساتها وفعل بها ما فعل، وهي ما تزال ترقص وتغني، وما تزال تقول أموراً عجيبة في شأن أعدائها، نسأل الله عز وجل السلامة.

الصدق في المواقف بين واقع الصحابة وواقعنا المعاصر

الصدق في المواقف بين واقع الصحابة وواقعنا المعاصر لقد كانت مواقف التصديق واضحة في أحد، بمعنى أن أقوال الصحابة صدقتها الأفعال: (ويوم انكشف المسلمون بعد أن تخلى الرماة عن مواقعهم وأراد بعض المشركين أن يتوجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فأحاط به سبعة من الأنصار واثنان من قريش، فكانوا يدافعون عنه ويذودون عنه ويجعلون ظهورهم ونحورهم دروعاً له، حتى سقط السبعة شهداء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو طلحة الأنصاري يذود عن رسول الله ويرمي، فإذا أشرف الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! لا تشرف؛ حتى لا يصيبك سهم من القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! ثم إنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ومعه بعض الأسهم فقال: انثرها لـ أبي طلحة، فنثرها فكان ينبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشهداء يتساقطون فداء لرسول الله عليه الصلاة والسلام). ويوم قال قائل: (أما سمعت أن رسول الله صلى الله عليه قد مات، قال الأنصاري: فعلام الحياة بعده؟! موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم). ويوم أن انجلى غبار المعركة: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفقد سعد بن الربيع سيد من سادات الأنصار، فوجد وبه رمق في اللحظات الأخيرة من حياته، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، فقال: وعلى رسول الله السلام، أبلغ قومي أنه ليس فيكم خير قط إن خلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف، دافعوا عن دينكم وعن رسولكم إلى آخر نفس من أنفاسكم). تلك هي وصية الثبات، وذلك هو مجتمع الإسلام، وهذا هو واقعنا، وتلك عظة وعبرة؛ كل منا مطالب وقد قامت عليه الحجة بمعرفة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يتدبر بعقله، وأن يتأمل بفكره، وأن يحيي هذه المعاني في قلبه، وأن يشيعها في أهله، وأن يدعو إليها صحبه ومجتمعه، وأن نحرك أمتنا لتجديد مسيرة وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم. إنه لا ينبغي لأمة الإسلام أن تحني رءوسها ولا أن تذل نفسها لأعدائها، ولا أن تتراجع عن ثباتها على منهجها وسيرها على إسلامها واستمساكها بدينها ورفعها لراية الجهاد في سبيل الله، سيما وهي اليوم معتدى عليها بلا أدنى شك، حتى لو قلنا: إن الجهاد جهاد مدافعة عند العدوان، فقد وقع العدوان وما زال يقع فأين الدفاع؟! وأين الجهاد؟! نسأل الله عز وجل أن يذب عن ديننا، وأن يذب عن أمتنا، وأن يحفظ للمسلمين أرواحهم وديارهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يؤلف بين قلوبهم، وأن يوحد بين صفوفهم، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وأن يجعلهم مجتمعين على التقى والهدى. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيها أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأرد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم رد كيدهم في نحرهم واشغلهم بأنفسهم واجعل بأسهم بينهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها برحمتك يا أرحم الراحمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً ذوي القدر الجلي والمقام العلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

خطوات عملية في أوقات المحن [1]

خطوات عملية في أوقات المحن [1] تعيش الأمة الإسلامية في هذا العصر في فتن ومحن، وبلايا ورزايا لا تخفى على ذي بصيرة، ولابد لها من البحث عن مخرج من ذلك، وبين يدينا خطوات ونقاط ينبغي الأخذ بها في معالجة الأوضاع، وتصحيح المسيرة.

رسالة المنبر

رسالة المنبر الحمد لله منه المبتدى وإليه المنتهى، وهو في كل خير يرتجى، ومن كل شر وضر إليه الملتجأ، نحمده سبحانه وتعالى، هو المحمود على كل حال وفي كل آن، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، بعثه الله إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وبصر به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! (خطوات عملية في أوقات المحن) ذلك ما يسأل عنه الناس، ويريدون معرفته، ويعزمون على الأخذ به، وهو موضوع حديثنا اليوم؛ لأننا في هذا المقام ينبغي أن نذكر أنفسنا ونذكر إخواننا بأن مقام الخطبة مقام عظيم، لابد فيه من أن تتوفر كثير من الصفات، ولكننا نشير إلى أهمها. أولاً: المقصد الأعظم؛ فإن هذا المنبر ليس لمناظرة سياسية، ولا لمظاهرة إعلامية، إنما هدفه الأعظم ومقصده الأكبر: الإخلاص لله عز وجل، وابتغاء رضوانه وإن سخط الناس، وقصد وجهه سبحانه وتعالى دون الالتفات إلى الناس. وثانياً: الهدي الأقوم، والاقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، كيف كان في خطابته وفي تأثيره وفي وضوحه وفي صراحته، وكيف كان في علاجه لأمراض الأمة، وتناول شئونها العامة والخاصة، وكيف كان ذلك دائماً ناشئاً عنده صلى الله عليه وسلم من معايشته لأصحابه وأمته، ومن معرفته العظيمة الواضحة الجلية لحاجتها. وأمر ثالث: مراعاة المصالح والمفاسد، والأخذ بالحكمة والبصيرة. أما والناس يريدون -كما يقولون- كذا وكذا، فليس هذا مثل وسائل الإعلام يقدم ما يطلبه الجمهور، فنسأل الله عز وجل أن يجعل لهذه المنابر إخلاصاً لله كاملاً، ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم تامة، وحكمة فيها بالغة.

جوانب فكرية في معالجة الفتن والمحن

جوانب فكرية في معالجة الفتن والمحن هذه الخطوات نذكرها حتى نفهم ونفقه، وربما نؤكد ونكرر ونزيد ونعيد لأهمية مثل هذه المعاني، ولست أطيل؛ وإنما أؤكد وأركز على المهم من هذه المعاني التي لابد لنا منها.

وضوح الرؤية وقوة العصمة

وضوح الرؤية وقوة العصمة أولاً: وضوح الرؤية، وقوة العصمة: لابد أن نكون على بصيرة واعية، ووضوح تام، وبينة فاصلة من أمر ديننا، وكتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لسنا في شك من أي قضية وحقيقة قرآنية أو نبوية، لسنا نبحث هنا وهناك، لسنا نقبل ما يروج من الشائعات، وما يكون له صدى واسع ودوي كبير من الأخبار أو الأقوال أو المقالات؛ لأننا كما قال الحق عز وجل في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، بينة من الله واضحة، آيات أنوارها ساطعة، أحكام أدلتها باهرة، لابد أن تكون معرفتنا بذلك ووضوح رؤيتنا فيه حتى في سنن الله الماضية، وفي حكمته البالغة التي نقرؤها في آيات كتابه، ونرى تطبيقها في واقع الحياة؛ كل ذلك له أهميته. ومن ذلك لا يمكن حينئذ أن يكون شك ولا ارتياب، ولا حيرة ولا اضطراب، إذ هذه هي البينة الواضحة، والرؤية التي ليس فيها غبش مطلقاً، قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس:105]. قال الله جل وعلا في خطابه لرسوله ليخاطب البشرية كلها والناس أجمعين: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:104 - 106]. ثم من بعد آيات قليلة يعود الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصرح بها أمام الناس كلهم والخليقة جمعاء قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:108 - 109]. نبقى على ثوابتنا، ونعرف عاقبتنا وخاتمتنا؛ لأن الله جل وعلا قد قال: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، ونوقن أيضاً في وضوح رؤيتنا أن الدائرة على الكافرين، كما كسر الكياسرة، وقصر القياصرة، وأغرق فرعون، فإن ظلمة اليوم من الغزاة المعتدين أمريكان أو بريطانيين عاقبتهم ولو بعد حين إلى ذل وهوان، فلا ينبغي أن تكون هناك عجلة، ولا ينبغي أن تكون هناك حيرة، قد تكون لهم جولة، وقد يكون لهم نصر في دائرة أو ميدان، فهل يعني ذلك أن يدب اليأس إلى النفوس؟ وهل يعني ذلك أن الكفر ظهر على الإيمان؟ وهل يعني ذلك أن نتشكك في حقائق القرآن؟ وهل يعني ذلك أن تضطرب الآراء وتحتار؟! لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ببصيرته النافذة، وكان قد أعلن عن نتائج كثير من معاركه وغزواته قبل بدئها، ألم يكن في يوم بدر قد قال: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم: هذا مصرع أبي جهل، هذا مصرع عقبة بن أبي معيط، هذا مصرع أمية بن خلف) لماذا؟ لأن يقينه بالله كان عظيماً؛ ولأنه يعرف أن سنة الله ماضية في نصرة من نصر الله، إن تخلف وعد فلم يكن تخلفه لذات الوعد؛ وإنما لتخلف شروط تحقق الوعد، فلا ينبغي أن نسرف في عواطفنا، وأن نجاري هذه الموجات الإعلامية التي تتلاعب بعواطف الناس، ثم لا يكون لهم من بصيرتهم ورؤيتهم ويقينهم ومعرفتهم القرآنية والإسلامية ما يكشفون به ذلك. ولقد كانت كسرة في يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فأي شيء صنع عليه الصلاة والسلام؟ هل استسلم لليأس؟ وهل شك أصحاب محمد في نبوته؟ وهل ظنوا أن الإسلام قد ذهبت ريحه وانقضت أيامه وزالت دولته؟ لم يكن من ذلك شيء، بل خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يليه ليلاقوا عدوهم؛ ليثبتوا أن الهزيمة لم تصل إلى القلوب، وأنها لم تبلغ النفوس، وأنها لم تخالط العقول، وأنها لم تغير الشعور، ذلك هو الذي كان يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقصد مجرد المواجهة المادية بقدر ما كان يريد تثبيت الروح والقوة والفهم المعنوي لأصحابه رضوان الله عليهم. وهكذا كان في كل واقعة عليه الصلاة والسلام، يوم بدأت حنين بما بدأت به من ارتداد بعض الأصحاب في أول الأمر، واختلاط الرؤية، وتضارب جيش المسلمين، ونزول السهام والنبال عليهم كوقع المطر؛ ثبت عليه الصلاة والسلام، وأي شيء كان يقول؟ بعض الذين كانوا من مسلمة الفتح لم يثبت الإيمان في قلوبهم، قال بعضهم: بطل اليوم سحر محمد. لم يكن عندهم وضوح رؤية، لم يكن عندهم صدق إيمان بعد، فهل نقول مثل ذلك إن وقعت واقعة أو حلت كارثة؟ كلا؛ ينبغي ألا يكون ذلك، لقد قالها عليه الصلاة والسلام: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، رفع بها صوته، ثبت في موقعه، تقدم في مواجهة عدوه، ثابت العقول إلى رشدها، ورجعت العزائم إلى قوتها، انعطفت الجيوش إلى مقدمتها، فعادت الجولة لأهل الإسلام والإيمان. ويوم كسر المسلمون في بغداد في محرم من عام (656هـ)، وكان ما كان من قتل ثمانمائة ألف وألف ألف كما ذكر ابن كثير، واستحر القتل أربعين يوماً، وسالت الميازيب من دماء المسلمين، وبلغ نتن جيفهم إلى بلاد الشام؛ قامت الأمة من كبوتها، ونهضت من وهدتها، واستعادت عزيمتها؛ لأن كتابها بين يديها؛ لأن سنة نبيها صلى الله عليه وسلم أمامها؛ لأن القوة المولدة موجودة، بقي أن نوصلها بنا، وأن نرجع إليها لنشحن أنفسنا بها. وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان في يوم الجمعة عام ثمانية وخمسين وستمائة من الهجرة، أي: بعد أقل من ثلاثة أعوام؛ نهض المسلمون، وواجهوا التتار، وكسروهم، وهزموهم، وتتبعوهم حتى لم يبق منهم أحد. وذلك ما ينبغي أن نعرفه، فليست مواجهتنا لأهل الكفر والعدوان في ميدان واحد، ولا في جولة واحدة، ولا في دولة واحدة، فإن رأينا ذلك كذلك، وخسرنا الجولة، أو ذهبت الدولة كأنما نسينا كل شيء! كلا ينبغي أن ندرك أننا نواجه أعداءنا على مدى طويل من الزمان كما فعلوا وكما يفعلون، وأننا نواجههم في كل الميادين قتالية وفكرية وخلقية وعقدية كما يفعلون: قطفوا الزهرة قالت من ورائي برعم سوف يثور قطعوا البرعم قالت غيره ينبني في رحم الجذور قلعوا الجذر من التربة قالت إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور كامن ثأري بأعماق الثرى وغداً سوف يرى كل الورى كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور وذلك ينبغي أن نستحضره في رؤيتنا: أن يبقى ولاؤنا لله، ولعباد الله، ولدين الله، وأن يبقى بغضنا لأعداء الله، وتربصنا بهم الدوائر، وشحذ هممنا للقائهم، وتغذية أبنائنا ورضاع ذلك مع لبانهم؛ فإنها ليست جولة واحدة إن اغتصاب الأرض لا يخفينا فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور والعطش الطويل لا يخفينا فالماء يبقى دائماً في باطن الصخور هزمتم الجيش إلا أنكم لم تهزموا الشعور قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور أبقوا الجذور للإيمان في قلوبكم فسوف تبسق شجرته، وتينع ثمرته، ويعظم ظله ويشمخ بإذن الله عز وجل رغم أنف كل قوى الأرض قاطبة وإن عظمت، وإن تضخمت، وإن هول الناس هولها وعظموا أمرها!

معرفة الخلل وطريق العمل

معرفة الخلل وطريق العمل ثانياً: معرفة الخلل، وطريق العمل: لا ينبغي أن نخادع أنفسنا، ما الذي آل بنا إلى هذا الأمر؟ ما الذي جعل عجزنا واضحاً فاضحاً؟ ما الذي جعل ذلنا ظاهراً بيناً؟ ما الذي جعل خلافنا مؤسفاً محزناً؟ ما الذي حل بنا؟ نعم! ذلك كيد من أعدائنا، وهل يتصور من الأعداء إلا ذلك؟ لكننا نريد أن نكاشف أنفسنا أن نضع النقاط على الحروف أن نقرأ آيات القرآن الكريم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]. انتبه إلى هذه المعاني! ولقد جاءت صريحة واضحة، ليس فيها مداراة ولا مجاملة، خوطب بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وصفوة البشر من أصحابه رضوان الله عليهم في حادثة واحدة، في معصية ومخالفة واحدة، في يوم أحد جاء الخطاب الرباني: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165]؟! كيف وقع هذا؟! كيف حل بنا هذا؟! كيف وبيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف ونحن ننصر دين الله؟! لقد كان ذلك والرسول معهم والصحب هم الصفوة المختارة، فهل تجاوزتهم سنة الله؟ وهل لم يمض عليهم قدر الله؟ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] كلام واضح، ومحاورة صريحة نفتقدها، ونداري أنفسنا، ونغالطها، ونرمي بالتبعة على الحكام، أو نلبسها على العلماء، أو ندفع بها نحو الأعداء، وكأننا من كل ذلك برآء، وكأننا مطهرون ليس فينا نقص ولا عيب، وكأننا لسنا سبباً من أسباب هذا البلاء، وكأننا لسنا طريقاً من طرق تسلط الأعداء! ولقد تنزلت الآيات في يوم أحد والجراح ما زالت نازفة، والحزن ما زال في القلوب يعصرها، وفي النفوس يفريها ويؤلمها، ومع ذلك جاء الوضوح القرآني والمنهج الرباني، فهل نحن قادرون على أن نقول: نحن أصحاب الأخطاء، ونحن جزء من البلاء، ونحن الذين ركنا في بلادنا وديارنا وأوضاعنا وأحوالنا إلى الأعداء؟! هل نقولها؟ ينبغي أن نقولها، وينبغي ألا نلتفت يمنة ويسرة، أن ننظر إلى ذوات أنفسنا، أن ننظر في المرآة إلى أحوالنا، أن نكشف خللنا، فإذا عرفنا مصدر الخلل يمكن أن نعرف مصدر الإصلاح والعمل، وذلك أمره بين. إذا شكا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أمر يسير ومخالفة واحدة، فكيف نحن نسأل اليوم: لم يجري ذلك؟! ولم يحل بنا ذلك؟! ألسنا نرى معاصي تبلغ إلى درجة الكفر بنبذ دين الله، والاستهزاء بكتاب الله، والتعدي على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم تقع في ديار المسلمين وبلسان عربي مبين؟ ألسنا نرى فسقاً وفجوراً مما تعلمون؟! وهذه مرة أخرى في وصف أحد: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152] أي: تقتلونهم قتلاً قوياً سريعاً، وذلك في أول المعركة، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152]. لـ ابن القيم كلمات كثيرة، انتخبت منها واحدة يقول فيها: من آثار المعاصي والذنوب، قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء، وطول الهم والغم، وظنك العيش، وكسف البال. كل ذلك يتولد عن المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء. لم لا نبحث في ذلك كما كان يعرفه ويتشربه سلفنا الصالح؟ روى ابن مسعود -يروى عنه موقوفاً ومرفوعاً-: (إن العبد ليحرم العلم بالذنب يصيبه). كانوا يرون أن خفاء المسألة أو نسيان النص إنما هو بسبب الذنب. ومن مقالات السلف: كان أحدنا يجد أثر الذنب في خلق زوجه ودابته. إذا رأى من زوجته خلقاً سيئاً اتهم نفسه أنه قد قصر أو أساء، فابتلاه الله بذلك، ففي أدق الدقائق وأبسط الأمور كانوا يعرفون ويوقنون أنها من الأسباب، فيبدءون أولاً بعلاج أنفسهم. لله در أبي هريرة رضي الله عنه حيث يقول لنا: ما بالك تبصر القذاة في عين أخيك ولا تبصر الجذع في عين نفسك!. نحن بصيرون بالبحث والتنقيب والاستخراج لعيوب الناس، ونحن أعمى الناس عن عيوبنا، وأغفل الناس عن تقصيرنا، إن كنا نريد في هذه المحن والفتن أن نخرج منها بخير فليكن معرفة تقصيرنا وتفريطنا أول ما نبدأ به، ونحن نعلم أن طريق العمل كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. نسأل الله عز وجل أن يقوي قلوبنا، وأن يعز نفوسنا، وأن يربطنا به، وألا يجعل لنا إلى سواه حاجة. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

جوانب نفسية في معالجة الفتن

جوانب نفسية في معالجة الفتن الجانب النفسي: وهو مهم جداً، ونذكر فيه أمرين:

المشاركة الشعورية للأمة الإسلامية

المشاركة الشعورية للأمة الإسلامية المشاركة الشعورية العميقة الصادقة، أين أخوة الإيمان؟ أين نصرة الإسلام؟ أين الصورة المثالية العظيمة الفريدة، والمثل الحي الكامل الذي ضربه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). لقد كنت أحدث نفسي وحدث بذلك بعض الناس، قلت: إني أنكر من نفسي أن حزنها ما زال قليلاً لا يكافئ المصاب والخطب العظيم، وإن ألم القلب ما زال دون المطلوب بكثير، وإننا ما زلنا نستطيع أن نضحك وأن نفرح، وأن نلهو وأن ننام، وأن نطعم وأن نشرب، وكأن خنجراً لم يطعن في قلوبنا، أو لم ينفذ إلى ظهورنا، وكأننا لسنا مصابين بذلك المصاب الضخم الهائل، كأننا لن يكون لنا هذا الأثر النفسي حتى يكون المصاب في أنفسنا وفي أعراضنا، وفي بيوتنا وحرماتنا. لقد كان صلاح الدين لا يضحك ولا يتبسم، فلما قيل له في ذلك قال: كيف أضحك وبيت المقدس في أيدي النصارى؟ ذلك كان همهم وحزنهم قد خالط شغاف قلوبهم، وجرى مع دمائهم في عروقهم، لم يملكوا معه أن يناموا وأن يهجعوا، ولا أن يلهوا ولا أن يضحكوا، لابد أن نعمق هذا الشعور، وأن نجعله عظيماً في قلوبنا لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان لابد أن نستشعر هذه المعاني، وأن نعمقها في نفوسنا ونفوس أبنائنا، ألا يتبلد الإحساس ونحن نشاهد المناظر أمامنا؟ كم طفلاً رأيناه مشوه الوجه قد قتلت براءته! كم أماً رأيناها تبكي على رضيعها وصغيرها! كم رأينا ممن فقدوا دورهم وأموالهم! ليس اليوم ليس في العراق فحسب؛ بل في فلسطين على مدى خمسين عاماً، وفي كشمير مثلها، وفي غيرها وفي غيرها، وما زال الحزن في نفوسنا قليلاً! ولقد قلت هذا لأنني أعني به نفسي، وأرى أننا إن لم يكن لنا حرقة نشعر بها تقض مضاجعنا، وتؤرق نومنا، وتجعلنا لا نهنأ بعيشنا؛ فلنتهم أخوتنا، ولنتهم صدق مودتنا، ولنتهم تلاحمنا كالجسد الواحد الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلب يفيض أسىً وعين تدمع والجسم من فرط الضنى متضعضع نار تمور بها الحشى وتألم يفري نياط القلب فهي تقطع حر يسام أذىً ويهتك عرضه قهراً فيالله كم ذا مفزع! وفتاة طهر بالحجاب تلفعت عنها حجاب الطهر قهراً ينزع وبيوتهم فوق الرءوس تهدمت والطفل مات وأمه تتوجع أفليس في قلوبنا رحمة إنسانية، وأخوة إيمانية، وعاطفة إسلامية؟! ما لم نبكها، ما لم نحركها، ما لم نبتغ بذلك أن نقويها فلن تكون لنا تلك الحركة الإيجابية التي نرجوها ونأملها.

القوة والعزة والاستعلاء بالإيمان

القوة والعزة والاستعلاء بالإيمان ثانياً: القوة والعزة: فلسنا نريد لهذه الأحزان أن تنال من عزيمتنا، ولا أن توهن من قوتنا، ولا أن تضعف من عزتنا، كلا، نريدها وقوداً يتفجر قوة، ويتطاير عزة، نريد أن نؤكد في كل الظروف والأحوال، بل في ظروف المحن والفتن على وجه الخصوص أننا نستعلي بإيماننا، وأننا نتشرف ونفخر بإسلامنا، وأننا نرفع رءوسنا، وأننا سادة الدنيا، وأننا معلمو البشرية، وأننا قادة الإنسانية، وأننا دعاة الحرية. نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نحن الأمة التي اختارها الله عز وجل لتكون الأمة الباقية إلى قيام الساعة، ولتكون الأمة الشاهدة على الأمم يوم القيامة قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. ما بالنا نفوسنا فيها حزن، وقلوبنا فيها ذل، وأحوالنا في تقهقر؟ إذا دام الأمر كذلك فإنه لا يرجى أن يتولد لنا عمل، ولا أن تكون لنا حركة، لابد أن نستحضر قول الحق جل وعلا: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، أقدامنا فوق كل الرءوس وإن علت وشمخت بقوتها المادية؛ فإن قوتنا الإيمانية أعظم، وإن جولتنا أوسع وأشمل، وإن نصرنا عليهم مؤزر مؤكد، ليس في ذلك أدنى شك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ينبغي أن ندرك ذلك، وأن نستحضر موقف ربعي بن عامر، وكلكم يعرفه، وقد قلناه وكررناه؛ لأنه موقف يدل على ما ينبغي أن يعمر قلوبنا ونفوسنا، يوم دخل على أبهة الملك عند رستم، وكان قائداً عظيماً من قادة الفرس في بهرج الدنيا، وزخرف الحضارة، وقوة الجند، وهيبة الملك، فهل لفت نظره شيء من ذلك؟ هل أضعف شيء من ذلك قوته وعزيمته؟ هل نال من فخره وعزته؟ دخل يخرق الطنافس برمحه، ويسير إلى أن يجلس على سرير ملكه، ثم يخاطبه عندما سأله ذلك Q ما الذي جاء بكم؟ فقال بعزة المؤمن: (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)! لله درك من نموذج للعزة ووضوح الرؤية نفتقده ونفتقر إليه، فكن مسلماً قوياً عزيزا. فإنك لا تلين لهم جنابا وإنك لا تقيم لهم حساباً ولا تبدي لهم قربىً وزلفى ولا تهدي لشيبهم خضابا وغيرك ينسج الألفاظ عهراً يدغدغ في عهارتها الرغابا وغيرك لا يجيد الرقص إلا على أوتارهم ولها استجابا ورأسك يا أمير القوم قاس ومن قبل المشيب أراه شابا لأنك مسلم ستظل حرباً على الأشرار ترهقهم عذاباً تذكروا وصيحوا دائماً لأن الإيمان أعلى وأجل، ويوم قام أبو سفيان بعد غزوة أحد، وقد رأى شيئاً من نشوة انتصار عابر، يصيح وينادي: أين محمد؟ أين أبو بكر؟ أين عمر؟ ويقول الرسول: لا تجيبوه. حكمة وحيطة، فلما قال: اعل هبل. أراد أن يفتخر بعقيدته ويعلي جاهليته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. فانتدب الفاروق عمر، فلما قال أبو سفيان: اعل هبل. قال: الله أعلى وأجل. فقال: يوم بيوم بدر. قال: لا سواء، قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة. يبقى راشد العقل، قوي العزم، رابط الجأش، لا تنال الأحداث من قوته وعزته، نسأل الله عز وجل أن يقوي قلوبنا، وأن يعز نفوسنا، وأن يربطنا به، وأن يجعلنا أوثق بما عنده مما في أيدينا، وألا يجعل لنا إلى سواه حاجة. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: لابد لنا أن نستحضر هذه المعاني، وأن نتواصى بها، ولقد كنت أريد أيضاً أن أضيف إلى حديثي هذا الجانب العملي، وهو جانب فيه كثير من الخطوات، وكثير من الميادين، ولكن المقام يقصر عنه، وبعض إخواننا قد يرى أن طول الحديث يتعبه أو يرهقه، مع أني لست ممن يريد طول الحديث شهوة في الكلام، وأيضاً: نحن نقضي من الأوقات في كثير من الأمور التافهة ما الله سبحانه وتعالى به عليم، ثم لا يكون لنا اجتهاد ولا صبر أن نتذاكر وأن نتحدث، وأن تطول مراجعتنا وأخذنا وردنا في حالنا وبلائنا، وفيما نستعين الله سبحانه وتعالى به في مواجهة أعدائنا. لعلنا -أيها الإخوة الأحبة- أن نكثر من التجائنا إلى الله عز وجل، ودعائنا إليه سبحانه وتعالى، وسأجعل حديث الجانب العملي في لقائنا وجمعتنا القادمة إن مد الله في الأعمار. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد كيد الكائدين، وأن يدفع شرور المعتدين. اللهم سلط على الغزاة المعتدين من الصليبين الحاقدين، واليهود الغاصبين رجزك وغضبك وبأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد؛ فصب اللهم عليهم سوط عذاب، وكن لهم يا ربنا بالمرصاد، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية. اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، ولا تجعل من المؤمنين للكافرين ولياً ولا ظهيراً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم إنهم قد طغوا وبغوا، وتجبروا وتكبروا، وحاربوا الإسلام والمسلمين، واستحلوا الحرمات، وسفكوا الدم الحرام؛ اللهم فانتقم منهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم سلط عليهم جند السماء، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أعطب أسلحتهم، وأسقط طائراتهم، وأغرق بارجاتهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك. يا ذا الجلال والإكرام! يا من أمره بين الكاف والنون! سدت الأبواب إلا بابك، وانقطعت الأسباب إلا أسبابك، وليس لها من دونك كاشفة، اكشف اللهم البلاء عن الأمة، وارفع الغمة، والطف بنا فيما يجري به القضاء يا رب الأرض والسماء! اللهم إنك على كل شيء قدير، وأنت بكل شيء عليم، إليك الملتجأ، وأنت المرتجى، نسألك اللهم أن تقضي لأمة الإسلام والمسلمين خيراً، وأن تجعل لهم من وراء هذه المصائب والرزايا والبلايا خيراً، وأن تكتب لهم فيها نصراً وعزاً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم رحمتك بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والصبية اليتامى، والنسوة الثكالى. اللهم ارحم إخواننا في العراق وفي فلسطين، وفي كشمير وفي الشيشان، وفي أفغانستان وفي كل مكان. اللهم انصر المستضعفين، اللهم انتصر للمظلومين، اللهم إنا نسألك أن تمسح عبرتهم، وأن تسكن لوعتهم، وأن تؤمن روعتهم، وأن تقيل عثرتهم، وأن تفرج همهم، وأن تنفس كربهم، وأن تعجل فرجهم، وأن تفك حصارهم، وأن تقهر عدوهم، وأن تزيد إيمانهم، وأن تعظم يقينهم، وأن تجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا على بصيرة وبينة من أمرنا، اللهم لا تفتنا ولا تفتن بنا، وإذا قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين. اللهم ثبت المجاهدين، اللهم أمدهم بقوتك وحولك ونصرك وعزك وتأييدك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل لنا في هذه الأيام المباركة عملاً صالحاً ترضى به عنا، وترفع به البلاء عنا، وتنصر به إخواننا، نسألك اللهم أن تسخرنا في نصرة دينك، وأن تستخدمنا في طاعتك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن توفق ولي أمرنا لهداك، وأن تجعل عمله في رضاك. اللهم الطف بنا فيما تجري به المقادير يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطوات عملية في أوقات المحن [2]

خطوات عملية في أوقات المحن [2] إن المحن والمصائب قد توالت وتتابعت على أمة الإسلام بسبب ما تمادت فيه من ارتكاب للذنوب والمعاصي والسيئات، وإن من أعظم ما يثبت المؤمن وينهض بالأمة عند المحن هو التزود من الطاعات والعبادات لله سبحانه وتعالى، وكذلك دعاء الله سبحانه والتضرع بين يديه، لعل الله أن ينظر إلى هذه الأمة الضعيفة بعين الرحمة، فيفرج عنها ما هي فيه.

أهمية الخطوات العلمية لنهضة الأمة عند حلول المحن

أهمية الخطوات العلمية لنهضة الأمة عند حلول المحن الحمد لله أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبد الله جل وعلا ورسوله الكريم، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! قد يكبر الجرح، ويكثر النزف، وتعظم البلية، وتتضاعف الرزية، ولكننا ينبغي أن نعي أن البكاء لا يشفي، وأن الدمع وحده لا يروي، وأن الحزن وإن عظم لا يغني، وأنه لابد من أن نعود إلى نفوسنا لنشحذها همة وعزيمة، وإلى قلوبنا لنملأها إيماناً ويقيناً، وإلى عقولنا لنحشوها رشداً وبصيرة وهداية، وإلى أحوالنا لنشيع فيها إصلاحاً وإحساناً واستقامة. لابد ألا نكون متأثرين بردود الأفعال، ولا يكون كل حدث يمر، وكل مصيبة تحل سحابة صيف تنقشع فتعود العقول إلى غيها، والألسنة إلى لغوها، وتعود النفوس إلى لهوها، والأوضاع إلى حالها، لا يتغير من ذلك شيء، فلا يحصل من أثر الخير الذي نرجوه ما نؤمله من رحمة الله، وما ننتظره من نصر الله، وما نتوق إليه وندعو به من هزيمة أعداء الله؛ لأن سنن الله جل وعلا ماضية؛ ولأن قدره غالب سبحانه وتعالى. خطوات عملية لنهضة الأمة الإسلامية، أسلفنا الحديث فيها عن الجانب الفكري في أمور أساسية مهمة: من وضوح الرؤية، وقوة العصمة، ومن معرفة الخلل، وطريق العمل، وجوانب نفسية: من المشاركة الشعورية الإسلامية، ومن روح العزة الإيمانية. واليوم نقف مع الجانب العملي، ولئن طال حديثنا فيه فإنه جدير بذلك، ولئن قال بعض من قد يسمع حديثنا هذا: ما لك ترجع إلى البدايات الأولى؟! ما لك تذكر بالمعلوم المعروف من ديننا كأنما نحن لا نعرف ذلك؟! فأقول: إن مشكلتنا الكبرى أننا نغالط أنفسنا ولا نصارحها، ونجاملها ولا ننصحها، وأننا كثيراً ما نبحث عن الأخطاء، ونعلق المسئوليات على هذا وذاك، ونرمي أعداءنا بفاحش القول وعظائم التهم، ولا ننظر إلى أنفسنا لنرى قصورنا، ولنعرف الوهن الذي يأتي من قبلنا، ولننظر إلى الثغرات التي يجوس الأعداء من خلالها عبرنا. نحن نريد -كما أسلفت مرات وكرات- أن يكون ما يمر بنا من قدر الله عز وجل محركاً لنا نحو ما يريده الله جل وعلا منا، وقد ذكرنا ما يتعلق بالفكر والنفس؛ لأنه أساس المنطلق؛ ولأنه قاعدة الارتكاز؛ ولأنه نور المستقبل الذي يبصرنا بالطريق الهادي والموصل إلى مرضاة الله عز وجل.

من الخطوات العملية عند حلول المحن كثرة الطاعات

من الخطوات العملية عند حلول المحن كثرة الطاعات وأما الخطوات العملية في نهضة الأمة فكثيرة؛ ولكنني أوجز المهم منها في هذه القواعد التي أحسب أننا نحتاج إلى مزيد من الحديث عنها. أولاً: كثرة الطاعات. ونحن نعرف أن الخير إنما يستجلب من الله بالتقرب إليه، وأن من أراد رحمته تعرض لها بطاعته، وأن من أراد مغفرته سعى إليها بمناجاته، وأنه لا يمكن أن ننال رحمة الله ولا نصره ولا عزه ما لم ننصر الله جل وعلا، ما لم نقبل عليه، ما لم نحسن صلتنا به، ما لم نعلق حبالنا به، ما لم نجعل توكلنا عليه، ما لم نفض بحوائجنا وذلنا وتضرعنا بين يديه؛ ما لم يكن أمرنا كذلك فستظل قلوبنا مشرقة ومغربة، وستظل آمالنا مخيبة ومضيعة، مرة نعلقها بمجرمين يتحدثون بألسنتنا، وفسقة يتصدرون في ديارنا، ومرة نعلقها بأعدائنا من اليهود أو النصارى، ومرة قد نظن أن في أنفسنا قوة، وأن بين أيدينا أسباباً تغنينا عن صلة الله عز وجل، فحينئذ نؤتى كما أتينا هنا وهناك، ليست بغداد ولا أفغانستان، وليس ما قبلها وما بعدها، وإنما هو هذا الأمر الذي ينبغي أن نحرص عليه. وأقولها في البدهيات وفي الأصول والأساسيات؛ لأنها التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يقل أحد: إن هذا أمر نعرفه؛ فإن تقصيرنا فيه ظاهر، وأقولها من بدايتها ومن أولها، ومن ألفها وبائها حتى ننتهي إلى يائها: حافظ على أداء الفرائض من الصلوات، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، هذه العبادة والشعيرة والركن والفريضة، هي صلة العبد بربه كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى مسلم في صحيحه من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله).

من أسباب ضعفنا هجر الصلوات

من أسباب ضعفنا هجر الصلوات ولعلي أقولها صريحة: من أعظم أسباب ضعفنا وذلنا أنه قد كثر فيما بيننا هجر الصلوات، وعدم أدائها بالكلية، فضلاً عن التفريط والتقصير والتأخير، وغياب القلب، وذهاب العقل في أثناء أدائها، فإذا كانت هذه الركيزة وتلك الفريضة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من آخر ما يحل من عرى الدين، فكيف بنا بعد ذلك نسأل: أين نصر الله الغائب المرتقب؟! أين العز والتمكين الذي تتوق إليه النفوس؟! إنه أمر واضح وبين. احرص على شهود الجماعات، أين هذه الجموع الغفيرة في الصلوات؟ ومع النداء والأذان؟ وفي الصفوف الأولى؟ كيف نريد أن نتقدم لمواجهة أعدائنا ونحن لا نبادر ونتقدم لطاعة ربنا؟ كيف نتنافس في ميادين الجهاد في قتال عدونا ونحن لا نتنافس في السبق إلى مرضاة ربنا، وأداء فرائضه سبحانه وتعالى؟! إنه لابد لنا أن نعي وعياً عميقاً أن هذا مرتبط بذاك، وأنه مقدمة له، وأنه سبب معين عليه، وأنه الذي يكون بإذنه سبحانه وتعالى بداية لما يأتي بعده من الخير: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:31]، والله جل وعلا قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النور:56]، {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} [الحج:35]، {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162]، بصيغة الجمع والجماعات التي بترت إلا من رحم الله، حتى قال ابن مسعود مقالته في عهده وزمانه، محذراً ومنبهاً ومذكراً بالعهد الأول الذي بناه وعلمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا يقول ابن مسعود؟ (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله تعالى جعل لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم تصلون في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف). كيف نواجه أعداءنا ونستنزل نصر ربنا وفينا نفاق؟! أخبر ابن مسعود بأنه كان أمراً واضحاً جلياً معلوماً عند جيل الصحابة (وما يتخلف عنها إلا رجل معلوم النفاق)، ويخبرنا أنها من سنن الهدى، وأن تركها ترك لسنن الهدى، وأن ترك سنن الهدى مقدمة للضلال والغي والانحراف الذي تلفعت به أمتنا ردحاً من الزمن، وما يزال فئام من أبناء الإسلام يعيشون في ظلامه وغياهبه، ويدرجون في ضلالاته ومتاهاته، بعيداً عن هدى الله، بعيداً عن الصلة بالله، بعيداً عن طاعة الله، بعيداً عن بيوت الله، بعيداً عن الأخوة في الله، بعيداً عن استماع آيات الله. كيف نرشد؟ كيف نصلح؟ كيف نستطيع أن نقوى ونعز؟ كيف نستطيع أن نجابه ونقاوم وفينا مثل هذا الخلل الأعظم الكبير؟! إنه خطاب قد قاله الله جل وعلا في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وتواصى ويتواصى بذلك كل أهل الإسلام في كل زمان ومكان، ولعلي أعيد ما قلته: قد يقول القائل: ما لنا نتحدث في هذه الأصول، وتلك البدهيات المعروفة؟ وأقول: هل أغنى عرفانها والعلم بها عن التحقق والالتزام بها؟ أين نحن من ذلك ونحن لا نرى إلا خللاً وضعفاً وتقصيراً وتفريطاً وابتعاداً عن كل هذه الأمور الأساسية المهمة؟!

أهمية جهاد النفس على إقامة الصلوات

أهمية جهاد النفس على إقامة الصلوات ولعلي أشير إشارة قد أكثرت من الحديث فيها من قبل: لئن لم يقو أحدنا أن يغالب راحته، وأن يجاهد نفسه، ويخرج في غلس الليل ليشهد صلاة الفجر، مبكراً إليها، مقدماً بين يديها سنتها التي هي خير من الدنيا وما فيها، فكيف نزعم أننا نستطيع أن نجاهد أعداءنا، وأن نصنع كذا وكذا! {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، تشهده الملائكة، وينام عنه مئات الآلاف، بل أحسب أنهم ملايين من المسلمين، يصب الأذان سمعه في ضوء الفجر، ولا يصب في آذان كثيرة قد بال فيها الشيطان كما أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عندما أخبر عن ذاك الذي لا يصلي حتى يوقظه حر الشمس، قال: (ذاك رجل قد بال الشيطان في أذنيه)، أخبر أهل العلم في شرح هذا الحديث بأن المراد: أنه تمكن منه تمكناً حتى جعله موضعاً لقاذوراته ونفاياته. أفلسنا -أنا وأنت- قد نكون من هذا الصنف في بعض الأحوال؟ وأن بعضاً من المسلمين لم يعد في قائمة حياته وبرنامجه اليومي أن يصلي صلاة الفجر في وقتها، فضلاً عن أن يؤديها في جماعة، وأن وقت الدوام والعمل أو السفر والارتحال أعظم عند كثير من الناس من طاعة الله، وعبادة الله، وأداء فريضة الله، ثم نشكو من بعد ذلك، ولا نطلب الشفاعة التي نلتمسها في طاعة الله عز وجل، ولا نطلب الوقاية والحماية التي أخبر بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في حديث جندب بن عبد الله عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم.

الصوم قوة معنوية وتربوية في مواجهة الصعاب

الصوم قوة معنوية وتربوية في مواجهة الصعاب وهذا باب واسع، زد من الصيام؛ فإنه عبادة وتربية، وطهارة وتزكية، إنه قوة إيمانية، إنه قدرة على مواجهة صعوبات الحياة، وتهذيب شهوات النفس، إنه ضرب من ضروب القوة المعنوية المهمة، والاستعلاء الإيماني الفريد، والقدرة على حزم الأمر، وإمضاء الإرادة، وشحذ الهمة، ونحن نحتاج إلى ذلك حاجة عظيمة؛ لأن الصيام جنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه شفيع لأصحابه يوم القيامة مع القرآن؛ ولأنه كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً) لم لا نجعل هذا ديدناً لنا؟ لم لا نجعل من هذه الأحداث رداً لنا إلى مزيد من الطاعات؟ أليس قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وقام به، وعمله، وانتدب إليه، واتبعه عليه أصحابه فكان كثيرون منهم يدمنون ويديمون ويواصلون الصوم في كثير من الأيام وخاصة فضائلها، فكانوا حينئذ خفافاً لينطلقوا إلى طاعة الله، وليلحقوا بالصفوف في الجهاد في سبيل الله؟ ونحن إذا جاء هذا النداء، وقد ملئت بطوننا، وثقلت أجسامنا، وعظمت شهواتنا، وشغلت بهذه الملذات أفكارنا، فلا نكاد ننطلق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]. ينبغي أن ندرك أن ضعفنا من قلة عبادتنا، والصوم عبادة فيه الخفة والقوة المحلقة نحو مرضاة الله سبحانه وتعالى، جاء في حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال، قال: وصيام حسن صيام ثلاثة أيام من الشهر) رواه ابن خزيمة في صحيحه. فلا أقل من أن نحرص على هذا فيكون لنا منه زاد.

إنفاق الأموال في نصرة المسلمين

إنفاق الأموال في نصرة المسلمين والثالث ما نذكره في كثرة الطاعات: الإنفاق في مصارف المسلمين ونصرتهم. ولئن كان هذا الإنفاق سبباً من أسباب المادة فإنه قبل ذلك سبب من الأسباب المعنوية الإيمانية التي يُمحص بها الإيمان، والتي تبتلى بها النفوس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة: (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع في قلب عبد: الإيمان والشح. وقال الله جل وعلا: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. إنها النفوس المرتبطة بالأموال، المتعلقة بالملذات، كيف نستطيع تهذيبها؟ كيف نستطيع أن نجعل فيها تعظيم أمر الله، ونصرة دين الله، وإعانة عباد الله قبل أن تكون مسخرة لشهوات البطون والفروج والملذات والترف والنعيم؟ ما بالنا ننفق أموالنا في شهواتنا، ولا يكاد أحدنا تجود نفسه إلا بأقل القليل على مضض وتردد إذا دعي للإنفاق في سبيل الله، ويقول: أريد الجهاد في سبيل الله، ولا يجاهد بماله ليكون ضرباً من ضروب الجهاد كما روى أبو داود والنسائي في سننهما من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)؟ ونعلم كثيراً من الآيات التي تقدم الأموال على الأنفس، فهل جاهدنا بأموالنا؟ وهل جعلنا ما هو فرض علينا أولاً، وما هو زائد على الفرض لننصر ديننا، ونعلي راية ديننا، أم أننا ما زلنا نبخل بذلك؟ {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. ليس أحد بأعز على الله عز وجل من أن يمضي فيه أمره، وأن تجري عليه سنته: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا -كما في الصحيح- بأنه: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) ألست تكفل يتيماً قد مات والده مجاهداً مستشهداً في سبيل الله؟ ألست تعين حينئذ على مواجهة أعداء الله؟ ما بالنا ننفق أموالنا لنقوي أعداء الله، ولنجعل الأموال في أيديهم ليستعينوا بها على حرب الإسلام وأهله؟ نداء نقوله بالعقل والقلب، وقبل ذلك بالدين والشرع: المدخنون كم ينفقون من الأموال؟ هذا ينفق قليلاً وهذا ينفق قليلاً، وإذا بنا نقول وتقول الأرقام: إن عشرات البلايين من الريالات تنفق في بلدنا هذا على هذا الدخان! أفهذا عقل عند من يرون أنهم مستهدفون من أعدائهم؟! أفهذا تصرف حكيم عند من يقولون: إنهم يريدون أن يطوروا أحوالهم وينصروا أمتهم؟! وانظر إلى ما وراء ذلك من السرف والترف في الزواج وفي غيره! وانظر إلى الإنفاق في البذخ وفي غير هذه الأبواب المعروفة التي يشعر المرء كأن شيئاً منها لم يتغير، وكأن ما جرى وما قد يجري لا يخصنا، ولا يغير من واقعنا شيئاً. هل غيرنا بعض ما نصرفه على كماليات لا فائدة منها ولا حاجة إليها، فضلاً عن محرمات ومكروهات وموبقات نصرف فيها الأموال، لندفعها إلى أيدي الأعداء، ولنشتري منهم، ولنأخذ منهم هذه المهلكات والمدمرات؟ ثم نقول بعد ذلك: إننا أمة مستهدفة، ونريد أن نواجه أو نقاوم! ذلك أمر عجيب! بخل في الطاعات، وسرف في المحرمات، ولسنا نريد أن نقول: كونوا كما كان أسلافنا، لسنا نريد أن نذكر بـ عثمان يوم جهز جيش العسرة، وسخر كل ما بيده في خدمة دينه، ونصرة أمته، وإعلاء إسلامه، ومواجهة أعدائه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10]، مجرد التقدم في هذا الباب يجعل هناك فرقاً في المراتب، واختلافاً في الدرجات، وينبغي لنا أن ندرك هذا وأن نعرفه. ولعلي هنا أختم بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو يجمل لنا هذه الجوانب التي ذكرتها؛ قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كما لا سهم له، وإن أسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة) هذه الأسهم أين حظنا منها؟ وأين نصيبنا؟ أول هذه الخطوات العملية: كثرة الطاعات؛ فإنها بداية التصحيح.

من الخطوات العملية عند حلول المحن استدامة الدعوات

من الخطوات العملية عند حلول المحن استدامة الدعوات ثانياً: استدامة الدعوات: وليس الدعاء إذا حلت المصائب، ولا إذا نزلت النكبات، بل كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من سره أن يستجيب الله له عند الكرب والشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي والحاكم وصححه. {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62] إنه الله سبحانه وتعالى الذي قال لنا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] أين نحن من دعائنا قبل الصلوات، وفي أثناء الصلوات، وبعد الصلوات؟ أين دعاؤنا في المجتمعات والمنتديات التي ينبغي أن تفتتح بالدعوات وأن تختم بالدعوات؟ أين نحن من دعائنا في السكون والخلوات، في جوف الليل، وقبيل الفجر، وفي الساعات الأخيرة من هزيع الليل الأخير، يوم ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: (هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، وذلك الدهر كله)؟ ليس في يوم النكبة، ولا في زمن المحنة، بل في كل يوم.

صور من إجابة الدعاء

صور من إجابة الدعاء نريد أن نرى كيف كان اليقين بهذا الدعاء يوم كان الإيمان في القلوب راسخاً، ويوم كان الصلاح والاستقامة في الأحوال الباطنة والظاهرة بيناً، فكان أحدهم يدعو جازماً بإجابة الله للدعاء، حتى اشتهر من بين الصحابة رضوان الله عليهم من كان مجاب الدعوة كما في شأن سعد بن أبي وقاص، الذي خاطبه المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: (أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة)، فسمع سعد رجلاً ينال من علي وطلحة، فنهاه وزجره فلم ينزجر، فقال: اللهم سلط عليه. فجاء جمل هائج يسير بين الناس، حتى وقع على الرجل بعينه فدكه، ثم داسه بأقدامه حتى قتله. وسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، ادعت عليه امرأة زوراً وبهتاناً أنه أخذ شيئاً من أرضها، فلما خوطب بذلك قال: كيف هذا وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتطع قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبعين أرضين)؟ ثم قال: (اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها)، فعمي بصرها، وسقطت في دارها فماتت. وأبو معاوية الأسود في مواجهة مع الروم خرج علج من علوجهم، فكان من أشدهم أذىً على المسلمين، فجاء إليه بعض المسلمين وقالوا: هذا فعل كذا وكذا، فادع الله عليه. فأخذ حربته ودعا وقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، ثم قال: أين تريدون؟ قالوا: المذاكير. فرمى بها فما أخطأ موضعهم الذي قالوه، فقتل الله عدوه سبحانه وتعالى. ونحن نقول هذا لأن بعض الناس ما زالوا يقولون: وما نفع الدعاء؟ دعونا فلم يجب الله دعاءنا! وما علموا أنهم ما استوفوا شروط إجابة الدعاء، وأنهم قد سدوا طريق الدعاء والقبول بكثير من ضعف اليقين، إضافة إلى الإعراض عن الطاعات، والوقوع في المعاصي والسيئات. ونحن نقول ذلك حتى نعظم هذا الإيمان في قلوبنا ثقة بالله سبحانه وتعالى، وإفضاءً إليه بمكنون نفوسنا، وضعف حالنا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل عند كل مواجهة لعدوه، وعند كل خطب يحل به. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع عنا البلاء، وأن يكشف الضراء، وأن يلطف بنا فيما يجري به القضاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا دوام وإخلاص الدعاء؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

لزوم الأخذ بالأعمال الصالحة حسب الأولوية

لزوم الأخذ بالأعمال الصالحة حسب الأولوية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله سبحانه وتعالى كثرة الطاعات، واستدامة الدعوات، والحرص على الاستقامة في الأحوال. ولعلي -أيها الإخوة الأحبة- أؤكد أننا نحتاج إلى مثل هذه المعاني والأصول والقواعد والأركان والفرائض، وأن نكون صرحاء مع أنفسنا، فلسنا في غنى عن التذكير بهذا والتواصي به، بل نحن في حاجة إلى التقريع عليه والتوبيخ على التقصير فيه، وفي حاجة إلى أن نحزم الأمر ولو بشيء من الشدة والغلظة؛ حتى نؤدي هذه الواجبات، ونقوم بتلك الأركان. وليس هذا هو الأمر العملي الذي نتحدث عنه فحسب، فإن الذي ذكرناه الآن إنما هو الدائرة الأولى في ذات نفسك، ولنا دوائر من بعد: دائرة الدعوة والتربية والإصلاح لعموم الأمة، ودائرة رابعة مهمة، وهي: دائرة الوقاية والمقاومة لأعداء الله. وينبغي أن نأخذ الأمور أولاً فأول، فإذا عجزنا عن الأصول فنحن في الفروع أعجز، وإذا تركنا الواجبات فنحن للتطوعات أترك وهكذا، ولئن كنا نريد لأنفسنا الخير فلنكن على أهبة الاستعداد لنصارح أنفسنا بواقعنا؛ حتى لا يقال: إنه قد كان منا ما كان، ونحن نطلب النهايات ولم نأت بالبدايات، ونرجو النتائج ولم نعمل بالمقدمات، ونريد المسببات ولم نأخذ بالأسباب، فلعل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى. اللهم اهدنا، واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين. اللهم لا تفتنا، ولا تفتن بنا، وإن قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين. اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقاً وأن ترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وأن ترزقنا اجتنابه، وأن تهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأن تخرجنا من الظلمات إلى النور. اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم اجعلنا عباداً لك مخلصين، وجنداً في سبيلك مجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك إخلاصاً في القول والعمل، وأن تجنبنا الفتنة والزلل، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آت، وأن توفقنا للطاعات، وأن تجنبنا المعاصي والسيئات. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بالصليبيين المعتدين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك بهم وبحلفائهم أجمعين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم رد كيدهم في نحورهم، وقنا اللهم من شرورهم. اللهم اجعل الدائرة عليهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، أنزل اللهم عليهم سخطك، وأحل بهم نقمتك، واشدد عليهم وطأتك، وأرنا فيهم عجائب قدرتك يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار. اللهم إنهم قد أفسدوا في البلاد، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، اللهم فسلط عليهم سوط عذاب، وكن لهم يا ربنا بالمرصاد، اللهم شردهم كل مشرد، ومزقهم كل ممزق، واجعلهم لمن خلفهم آية وعبرة يا رب العالمين. اللهم لا تجعل لهم في ديار الإسلام قراراً، اللهم لا تجعل لهم فيها أمناً ولا استقراراً، اللهم لا تجعل لهم فيها نصراً ولا عزاً ولا استكباراً، اللهم اجعلها عليهم ذلاً وعاراً، وأشعلها عليهم ناراً يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين. اللهم الطف بعبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم آمن روعاتهم، وسكن لوعاتهم، وأقل عثراتهم، وامسح عبراتهم، وفرج همومهم، ونفس كروبهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم اجعلنا أوثق خلقك بك، واجعلنا أفقر الفقراء إليك، وأغنى الأغنياء بك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة. اللهم إنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك، اللهم فأمدنا بحولك وقوتك وعزتك ونصرك وتأييدك يا رب العالمين. اللهم أفرغ في قلوبنا الصبر واليقين، وثبت أقدامنا في مواجهة المعتدين. اللهم وحد صفوفنا، وألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا. اللهم اجمعنا دائماً على الحق والهدى والتقى يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، وثبت خطواتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على أعداء الإسلام والمسلمين يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطوات عملية في أوقات المحن [3]

خطوات عملية في أوقات المحن [3] لا مخرج لهذه الأمة من الفتن والمحن التي ابتليت بها إلا بأمرين مهمين: الأول: النظر في حال الأمة وتقصي جميع العيوب والنقص الموجود. الثاني: إصلاح ومعالجة هذا النقص وهذا الزلل بدءاً بالأسرة الصغيرة وانتهاءً بالأمة والشعوب، وإذا لم نكن كذلك فإننا سنبقى على حالنا، وربما نرجع إلى الأسوأ والعياذ بالله، وحينها يحل علينا غضب الله سبحانه.

الجوانب الإصلاحية لنهضة الأمة ونصرتها

الجوانب الإصلاحية لنهضة الأمة ونصرتها الحمد لله أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، وأمرنا بالعدل والإحسان، ونهانا عن الظلم والطغيان، وجعل طاعته جل وعلا سبباً لنزول رحمته، وتحقق نصرته، وجعل معصيته سبباً لحصول النقم، ورفع النعم، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وأكمل به الشريعة والدين، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في واجباتنا العملية التي يلزم أن نتواصى بها، وأن تكون الأحداث التي تجري معيدة لنا إليها، ومذكرة لنا بها، ومعينة لنا على أدائها، وقد أسلفنا القول في أمرين اثنين: من كثرة الطاعات، وصدق الالتجاء ودوام الدعوات. واليوم نتحدث عن نصر المسلمين، ليس ذلك النصر الذي يختزله بعضنا فلا يراه إلا في ميدان قتال يعجز عنه الآن كثير من الناس، ولا تتيسر أسبابه ولا طرقه، بل ولم تتهيأ عند كثير من الناس أسبابه وإعداده المطلوب، ولكن نصر المسلمين بالإصلاح الداخلي الذي يكون متواكباً ومتزامناً، والذي يكون طريقاً مؤدياً إلى قوتهم وقدرتهم على مواجهة عدوهم. نداءات ثلاثة نحتاج إليها: أصلحوا أنفسكم، وربوا أبناءكم، وغيروا مجتمعاتكم، وإن الدائرة الأولى هي دائرة الانطلاق التي نواجه بها أنفسنا من غير مغالطة ولا مجاملة، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك، إلا أننا نوضح المفاتيح الأساسية المهمة التي نحتاج إليها، فإننا نحتاج أن نحارب جهل النفوس بالعلم، وأن نحارب ظلمها بالإنصاف والعدل.

محو الجهل بالعلم

محو الجهل بالعلم أول هذه الجوانب الإصلاحية: من الجهل إلى العلم. كم نحن مدركون لحقيقة خطر نفوسنا التي بين جنبينا! قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]، نحمل بين أضلعنا سبباً إن لم نفطن له ونحرص على تقويمه كان من أسباب ضعفنا وانحرافنا. قال ابن القيم رحمه الله فيما ينبغي معرفته عن النفس الأمارة بالسوء: أن يعرف أنها جاهلة ظالمة، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح. ويبين الواجب فيقول: إنه لا بد من بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل، والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم. ولقد استعاذ الرسل والأنبياء من الجهل بمعناه الواسع، إذ ليس الجهل هو مجرد ترك العلم أو عدم العلم، بل ربما يكون مع العلم، وذلك بما يكون من إعراض، وعدم التزام واهتمام واقتداء، فيكون ذلك صرفاً للناس عن الحق، واتباعاً للنفس في الهوى والشهوة وغير ذلك، ومن هنا جاء على لسان موسى عليه السلام كما في كتاب الله: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، قال القرطبي رحمه الله: وفي هذا دليل على قبح الجهل، وأنه يفسد الدين. ومن هنا لا بد لنا أن ندرك هذه القضية الخطيرة، وأن نجعل لجهلنا علاجاً شافياً كما أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (إنما شفاء العي السؤال)، وذلك أمر مهم لا مناص من الأخذ به؛ لأنه إن وجد ذلك الجهل بوصفه العام وجدت معه كثير من الصور السلبية من الإعراض والجحود، ومن فعل المنكرات، وارتكاب السيئات؛ لأن هذا هو الذي قاله الله جل وعلا، وبينه سبباً وعلة كما في قصة لوط عليه السلام: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، وكان سياق حديث الأنبياء لرسلهم يبين هذه العلة، كما قال هود عليه السلام: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23]. ولعلنا هنا نسائل أنفسنا: ما الذي نعرفه من ديننا الذي يعادينا الناس من أجله، وتتكالب الأمم علينا لوجوده في قلوبنا وفي نفوسنا وفي عقولنا وفي مجتمعاتنا؟ ألا نستحيي أن يكون علمنا بكتاب ربنا أن نقرأ منه آيات من عام لعام، وأن يكون فهمنا له أقل من القليل، وأن يكون تدبرنا في آياته نادراً عابراً غير أصيل ولا مكين في واقعنا وفي حياتنا؟! ومن هنا أقولها، ونحتاج أن نذكر بها، وقد أسلفنا فيها أحاديث وليس حديثاً واحداً: تعلموا القرآن تلاوة واستماعاً، تدبراً وانتفاعاً. عجباً! نحن عرب، لساننا لسان القرآن الكريم، ثم إذا بنا في قصار السور لا في كبارها لا نعرف مفردات ولا معاني للكلمات، ونقرأ بعضاً من هذه الآيات وكثيراً ما يغيب عنا جزء أصيل من معانيها، وتمر الأيام، وتتوالى الأعوام وكأن شيئاً لا ينقصنا، وكأن قضية خطيرة ليست حاضرة بيننا: أن نعرف كتاب ربنا الذي هو أساس عزنا، ودستور حياتنا، ونور بصائرنا، وهداية قلوبنا، كيف نزعم ذلك ونحن عنه بعيدون، ونحن به غير عالمين، ونحن في واقعنا إلى حد ما في كثير من الأحوال غير متبعين؟ إنها قضية مهمة! وأعجب من ذلك أننا لا نعرف هذا ولا نسعى إليه مع توفر الأسباب وكثرة الوسائل، فمن لا يحسن القراءة لن يعجز أن يصغي إلى حسن التلاوة، ومن لا يجد الوقت ليذهب إلى درس، فإنه يستطيع أن يحضر الدرس إليه، ويسمعه في شريط في بيته أو سيارته، ومن لا يستطيع هذا ولا ذاك يستطيع أن يقرأه في كتاب، ويستطيع أن يسمعه في مذياع، ويستطيع أن يراه في شاشة؛ لكنها الهمة التي قصرت، والغفلة التي عمت، لكنه صدأ القلوب الذي ران عليها، لكنه سهولة أن نوزع العلل والأخطاء على الآخرين، ولا ندرك قصورنا الذي نحتاج إلى علاجه. تعلموا السنة النبوية، سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أحاديثه التي لم تترك لنا شيئاً من أمور حياتنا إلا وجاءت لنا فيه بإرشاد ودليل وهدي منه عليه الصلاة والسلام، كم نحفظ من الأحاديث؟! كم نفقه من معانيها؟! كم قرأنا من شروحها؟! كم نعرف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟! إن الواقع محزن، ولا بد أن ندركه، ليس على مستوى عوام الناس، بل في طلبة الجامعة من تسأله وتتحدث معه إلى أمور أساسية كلية من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل والأحداث الكبرى فيها، فلا يرد جواباً، ولا يحوز علماً، ولا يعرف شيئاً، ثم بعد ذلك نقول: إننا نريد أن نفعل ونفعل، ونريد أن نواجه أعداءنا، ونحن لم نعرف الهدي الذي نسير عليه، والهدى والنور الذي نتبعه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. هل قرأت أخي كتاباً كاملاً في السيرة؟ هل قرأت كتاباً كاملاً في حديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مهمات الأحوال والأعمال التي تحتاج إليها؟ إن لم تكن تستطيع ذلك فاعلم -والحجة قائمة عليك- أنها موجودة مسجلة، كل الكتب الكبرى والأساسية، وكذلك الأحاديث التي تبث وتذاع، وكذلك السيرة التي تدرس في الدروس كلها بين أيدينا، ولكنها -مرة أخرى- الهمم العاجزة، والدنيا المشغلة، والتراخي العظيم الذي نعجز به ونقصر فيه عن كثير من واجباتنا. ثم نقول: تعلموا الفرائض. وهذا من العجائب! بعض أهل الإسلام ليس في شرق الأرض ولا غربها، بل في هذه الديار، بل في هذه المساجد، بل في هذه المدارس التي تدرس علوم الدين؛ لا يعرفون أحكاماً من فرائض الإسلام وأركانه الخمسة، وفي ديار الإسلام الأخرى كذلك ما هو مثل هذا وأكثر! ولقد قلت مرة، ولمست شيئاً من ذلك منذ سنوات في زيارة لبعض بلاد الإسلام، قلت: إن سألت فيها مسلماً عن أركان الإسلام هل عددها ستة أو خمسة؟ فمن أجابك بإجابة صحيحة فعض عليه بالنواجذ؛ فإنه من خير القوم؛ لأن الجهل قد عم، والناس لا يسألون، وهذا عجب! تجد من الناس من يبلغ به العمر عتياً، وهو في الحكم الفقهي قد بطلت صلاته كلها؛ لأنه لا يعرف أحكام الطهارة، أو لا يأتي بها على وجهها، وغير ذلك كثير، وعندما تأتي الأسئلة في الأوقات والمناسبات تعرف أن الناس لا يفقهون من دينهم إلا اسماً عابراً، ورسماً ظاهراً إلا من رحم ربك. ثم نقول بعد ذلك مرة أخرى، وأعيدها ثانية وثالثة، إنه حديث إلي وإليك: كم نحن مفرطون في علمنا بديننا، وفوق الجهل العظيم الذي هو جهل العلم هنالك جهل الغفلة، وجهل الترك، وجهل المعارضة والمخالفة، وهو الذي أشرنا إليه، والأمر في هذا خطير وعظيم.

تغيير الغفلة إلى الذكر

تغيير الغفلة إلى الذكر ثانياً: غفلة وذكر: وهي تابعة لذلك العلم الذي يورث الذكر، ويمنع الغفلة، وصحوة وغفلة، كم نحن في حاجة إلى ذلك، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:1 - 3] أليس هذا وصفاً يصدق في كثير منا معاشر المسلمين؟ ألسنا نمر بكثير من الأمور دون أن نتيقظ؟ أليس حال كثير منا نوم بلا يقظة، وتسويف بلا حزم، وابتلاء بلا اعتبار، قلوب عميت، وأنفس رتعت، وبصائر ضلت، وعقول في الغي سادرة، وألسن باللغو ناطقة، وآذان للفحش مصغية؟ أليست هذه الأحوال المهلكة هي سبب تسلط الأعداء علينا، وبها حلت بنا النكبات، ونزلت بنا المصائب؟ ألسنا في حاجة إلى أن نصحو من نومنا، وأن نتذكر من غفلتنا، أم أننا كما نقول في أمثالنا: (عادت حليمة إلى عادتها القديمة)؟ حادثة مرت، وسحابة صيف انقشعت، وعدنا إلى لغو القول، ولهو السمر، وغي الفعل والعقل، وكأن شيئاً لم يكن، ثم نقول من بعد: ما الذي جرى؟ ما الذي حصل؟ أين نصر الإسلام؟ أين نصر المؤمنين؟ ونحن في هذه القضية على هذا النحو من الغفلة، آيات تتلى، وأحاديث تروى، وعبر تتوالى، ومصائب تتعاظم، والقلوب ما زالت غافلة قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92]. احذر أخي المسلم! فإن القضية خطيرة، وإن الغفلة مهلكة، وإن سهو القلوب وغي النفوس عظيم في أثره الدنيوي من موات هذه القلوب وقسوتها، ومن ضلال تلك النفوس وظلمتها، ومن انحراف تلك العقول وغيها، وإنه من بعد ذلك في الآخرة -والعياذ بالله- سبب لاستحقاق عذاب الله قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فهل نريد أن يصدق فينا هذا الوصف وقلوبنا لا تعي، وأعيننا لا تبصر، وآذاننا لا تسمع -ليس السماع ولا البصر الحقيقي، وإنما ما وراءه من الانتفاع والاعتبار والتذكر واليقظة- أم نريد أن نكون من الغافلين، ثم يكون وصفنا القرآني أننا كالأنعام بل أضل، وأنه -والعياذ بالله- يكون حالنا أن نكون من حطب جهنم ومن حصاها وجثاها؟ أفلا قلوب تتذكر؟ قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. أنرضى أن نكون على وصف أولئك الذين ضلوا وانحرفوا وزاغوا وغيروا وبدلوا؟ أنرضى أن نكون نحن أمة القرآن، أمة محمد صلى الله عليه وسلم على خطا المنحرفين الضالين من اليهود والنصارى؟ أنرضى وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه)؟ ما بالنا؟! أين العقول؟! أين القلوب؟! أين الآذان والأبصار؟! قضية مهمة، وغفلة خطيرة حذر منها علماؤنا وأئمتنا، وبينوا خطورتها، ولا بد لنا أن نعي ذلك، وأن ننتبه له، يقول ابن تيمية رحمه الله: الغفلة عن الله والدار الآخرة تسد باب الخير الذي هو الذكر واليقظة، والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغموراً بما يهواه ويخشاه، غافلاً عن الله، رائداً غير الله، ساهياً عن ذكره، قد اشتغل بغير الله سبحانه وتعالى. ويقول: الغفلة والشهوة أصل الشر قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. والأمر خطير -أيها الإخوة الأحبة- والعلاج في الذكر واليقظة، وأقولها في كلمات ثلاث مرة أخرى: تذكروا الآخرة، تذكروا الموت وما بعده، الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، ورحم الله الحسن يوم قال عندما رئي الخوف في عينيه، وبادياً في اصفرار وجهه؛ قال: أفكر في ليلة صبحها يوم القيامة. نحن أمة الإسلام والقرآن كم نقرأ في الآيات ما تندك له الجبال، وتتصدع له الصخور الصماء! والله جل وعلا قد قال لنا ذلك، وبينه في كتابه سبحانه وتعالى حيث يقول: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:31] والتقدير: لكان هذا القرآن. قرآن يحيي موات القلوب فما بال قلوبنا لا تتذكر وتعتبر. ونقولها ثانية: أديموا المحاسبة، كيف تمضي الأيام، وتنصرم الأعوام، ونحن لا ننظر إلى الوراء، لا نحاسب أنفسنا، لا ننظر إلى سجلاتنا؟ ما بال التجار في كل عام؛ بل في كل شهر؛ بل في كل فترة يراجعون الحسابات ويبحثون عن سبب العجز، ويبحثون من المقصر فيه، ويحاسبون ويعاقبون؟ والليل يتبعه النهار، والنهار يتبعه الليل، واليوم يأتي به ما بعده، والأسبوع يخلفه غيره، ونحن بدون محاسبة (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم). وأخيراً في هذا الباب: اعتبروا بالأحداث، والله جل وعلا يقول: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، لا ينبغي أن يمر الأمر، والخطب الجلل، والمصيبة العظمى فنذرف عليها دمعة واحدة، ونتحدث عنها مرة واحدة، ثم لا يكون شيء وراء ذلك! والأمر -كما قلت- في غاية الخطورة.

تحويل الكسل إلى عمل

تحويل الكسل إلى عمل وثالث أحوالنا في إصلاح أنفسنا: أن نحول الكسل إلى عمل: نحن قد ركنا إلى الدنيا إلا من رحم الله، وانشغلنا بها عن كثير من الهمم العالية، والنفوس والعزائم الماضية التي لا ترضى بالدون، التي تطلب المعالي من الأمور، والتي تعرف المنافسة والمعيار الذي تتقدم به بين يدي الله قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، ليس ميدان القول، ليس ميدان الادعاء، ليس ميدان الأمنيات، وإنما هو ميدان العمل قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، ليس هناك مجال للتقصير بعد كل هذا الذي ذكرناه، فإذا المساجد خاوية، وإذا المصاحف على الرفوف باقية، وإذا دروس العلم لا يكاد يحضرها أحد، وإذا محاريب الليل ودعوات السحر لا تكاد تسمع أو ترى إلا قليلاً قليلاً لم ذلك ونحن نريد إصلاح نفوسنا، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30]. أصلحوا أنفسكم بهذه المعاني المهمة من علم ينفي الجهل، ومن ذكر ينفي الغفلة، ومن عمل يرفض الكسل.

تربية الأبناء

تربية الأبناء وبعد ذلك: ربوا أبناءكم: إن الذي يفشل في ميدان إنشاء الجيل الصالح، والنبتة التي تثمر خيراً وظلالاً وارفاً، وثماراً يانعة للإسلام والمسلمين، فإنه فيما سوى ذلك يكون أكثر فشلاً. أبناؤنا بين أيدينا، مسئوليتهم في أعناقنا، أقواتهم بعد فضل الله عز وجل من أيدينا، ثم بعد ذلك كله ماذا نصنع؟ وأي مهمة نقوم بها؟ أليس كثير من هذا الأمر المهم ضائعاً غير مرعي ولا ملتفت إليه؟ ما بالنا نشكو من انحراف الشباب؟ من هم أولئك الشباب أو الشابات؟ أليسوا هم أبناء لهذا وهذا؟ أليس لهم مسئولون من آباء وأمهات فرطوا في الأمانات، وضيعوا المسئوليات؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. قال ابن كثير رحمه الله: قال مجاهد في تفسير هذه الآية: اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله. وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وتقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه. وقال الضحاك: حقٌ على المسلم أن يعلم أهله وقرابته وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه قال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]. هذه مهمة عظيمة! وهذه قضية خطيرة! إن المرأة التي يخطط الأعداء لإفسادها نحن تركنا ميدان المرابطة، وجعلناهم يتسللون من خلف ظهورنا، وإلى عقر دورنا، ونحن غافلون، وتاركون للمرابطة والمهمة الجسيمة. وأقولها مرة أخرى: إن لم نرب أبناءنا وبناتنا فلا يحق لنا أن نشكو من سوء الأحوال في مجتمعاتنا، وهذه مهمة ليس لأحد فيها عذر، لن يأتي حاكم ليفسدك في بيتك، لن تمنع قوة في الأرض كلها أحداً أن يعلم أبناءه في قعر بيته. ولقد ذكرت مراراً أن الشيوعية الحمراء التي سقطت بعد سبعين عاماً ظهر من تحت الأرض في الأقبية شيوخ حنيت ظهورهم كانوا يقرئون أبناءهم وأحفادهم القرآن في منتصف الليل على ضوء الشمع، فتكشفت سبعون عاماً من الكفر عن جذوة إيمان متقدة في القلوب، وألسن عجمية ناطقة بآيات الله في تلاوة حسنة بديعة رائعة! فهل قال أولئك: إنهم معذورون، وإن المناهج التي تدرس لا تدرس الإسلام أو لا تدرس القرآن؟ ونحن مناهجنا تدرس ذلك، ومع ذلك لا نقوم بمجرد التذكير والتأكيد والتعليم لأبنائنا على هذه المعاني المهمة! ما بال أبنائنا وألسنتهم قد أصبحت من أشد الألسنة في الفحش والسباب والشتم واللعن حتى صارت تلعن الدين، وتسب الذات الإلهية والعياذ بالله! ما بال ألسنتهم قد صارت تنطق بألسنة القوم من الكافرين، الذين أصبح من أبنائنا من يتكلم بلسانهم، ومن يخفق قلبه بمشاعرهم، ومن يميل هواه إلى هواهم؛ وذلك لأننا فرطنا في بيوتنا ومدارسنا، وفي مجتمعاتنا ومنتدياتنا، وفي إعلامنا وفي منهاجنا في كثير من ذلك. وأقولها مرة أخرى في نداءات ثلاثة: اقتربوا منهم، وكونوا قدوة لهم، لا يصلح الفرع ما لم يصلح الأصل، كيف نريد أن نكون مربين لأبنائنا ونحن أسبق منهم إلى ما ننهاهم عنه؟! إنها كارثة عظيمة أن كثيراً من انحرافات الأبناء والبنات ناشئة من سلوك الآباء والأمهات، فكيف نرجو حينئذ أن تكون الأجواء صالحة والأجيال الناشئة أجيالاً خيرة؟! وهذه قضية مهمة أسلفنا فيها القول عندما نادينا بإصلاح الأنفس، فكونوا قدوة لأبنائكم، علموهم ورغبوهم في العمل. أيها المؤمن! أبناؤك أمانة في عنقك، علمهم دينهم، علمهم معاني الخير، علمهم سير الأصحاب، علمهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كن عاملاً من عوامل الخير والإرشاد لهم، ثم رغبهم في هذا العمل، وكن معهم قدوة حتى تتدرج الأحوال، ويصبح هذا النبت الصغير هو عدة المستقبل علماً وعملاً وتقوى وإصلاحاً، وذلك هو الأمر المهم، وهو السلاح الخطير الذي ما جاءت قوى الشر اليوم إلا عندما رأت بذرته في المساجد تحفظ القرآن الكريم، وفي مجالس العلم تتلقى سنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. عندما وجدوا الأمهات وهن يحرصن على العفاف والحجاب والستر، ويردن أن يبقين على ذلك ولو فصلن من أعمالهن، ولو منعن من تعليمهن، ليس في بلاد الكفر فحسب؛ بل في البلاد الإسلامية، وليس في البلاد الإسلامية فحسب؛ بل في بلاد عربية إسلامية، يوم رأوا ذلك قالوا: هنا مكمن الخطر، لئن هزمنا هذا الجيل فإن أجيالاً قادمة ستهزمنا بقوة إيمانها وإسلامها، حولوا بينهم وبين تنشئة جيل جديد على الإسلام. فأنت مستهدف بهذا، وعندك السلاح بيدك، ثم لا تقاوم ولا تعمل شيئاً، وتفرط وتضيع في الأمانة. وأخيراً: تابعوهم، وقوموا مسيرتهم، قال صلى الله عليه وسلم (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر). نسأل الله عز وجل أن يصلح ذرياتنا، وأن يصلح نفوسنا وقلوبنا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

إصلاح المجتمع

إصلاح المجتمع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وإن ما ذكرناه في نصر المسلمين بإصلاح أحوالنا وأبنائنا يتبعه أيضاً إصلاح وتغيير مجتمعاتنا، واعلم أن كل واحدة من هذه القضايا جديرة بأن يكون فيها حديث طويل، لكننا نريد المجمل المهم، نريد القاعدة الكلية، نريد العنوان وما وراء ذلك تعرفونه، وكلنا يعرف تقصيره، وكلنا يعرف تفريطه، وإنما نريد الذكر والتذكير، ثم بعد ذلك ينبعث القلب، ويلتمس الطريق، ويبحث عما ينقصه من أسباب النجاة. ولعلنا نواصل حديثنا بمشيئة الله تعالى في تغيير المجتمعات؛ فإن الإسلام لا يكتفي منك بأن تصلح نفسك وأهلك، ثم تقول: ما لي وما للناس؟ ولا أن تتبنى فهماً خاطئاً لقوله جل وعلا: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شرور أنفسنا، وأن يعيذنا من فساد قلوبنا، وأن يسلمنا من ضلال عقولنا، وأن يقينا انحراف جوارحنا. نسألك اللهم أن تردنا إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك يا رب العالمين! وأخرجنا من الظلمات إلى النور. اللهم إنا نسألك نقاء قلوبنا، وزكاة نفوسنا، ورشد عقولنا، وإخلاص نياتنا، وصواب أعمالنا، وحسن أقوالنا، ومضاعفة أجورنا، ورفعة درجاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم من علينا بالعفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ما مضى وما هو آت، وأن توفقنا للصالحات، وأن تجنبنا الشرور والسيئات، ارزقنا اللهم الإخلاص في القول والعمل، وجنبنا اللهم الفتنة والزلل يا ذا الجلال والإكرام. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بالصليبيين المعتدين، وعليك اللهم باليهود الغاصبين، اللهم عليك بهم أجمعين، اللهم عليك بحلفائهم ونصرائهم يا رب العالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، زلزل اللهم الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين. اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم. اللهم فرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار؛ يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين. اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في أرض فلسطين وفي العراق وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وأمن روعتهم. اللهم إنا نسألك أن تلطف بهم فيما تجري به المقادير، اللهم صبرهم على البلاء، ورضهم بالقضاء، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم عجل فرجهم، وفرج كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين، سدد اللهم رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم ووفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

الأم المربية [1]

الأم المربية [1] تشكل المرأة شريحة عريضة في المجتمع، فإذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع، وقد اهتم الإسلام بالمرأة، وبدورها في المجتمع، ولذلك يجب الاعتناء بها تربية وتعليماً وأخلاقاً وسلوكاً.

أهمية التربية ودأب الصالحين في ذلك

أهمية التربية ودأب الصالحين في ذلك الحمد لله خلق الخلائق، وأبدع الصنائع، وأحكم الشرائع، وأظهر الحقائق، وبين الطرائق، وهدى إلى النجدين، فإما شاكراً وإما كفوراً، أحمده سبحانه وتعالى، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، من اتبع شرائعه غنم، ومن خالفها وتنكبها غرم، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع آذاناً صماً. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

الأم الصالحة صمام أمان في المجتمع

الأم الصالحة صمام أمان في المجتمع أيها الإخوة المؤمنون! الأم المربية في المجتمع المسلم صمام أمان، ومصدر قوة، ومصنع جيل، ومعمل تربية، كان لنا حديث عن هذه الأم المربية ببيان مكانة الأم في هذا الدين العظيم، ومنزلتها العالية التي تجعلها في مكانة تؤدي دورها، وتقدم رسالتها في إجلال وتعظيم، واحترام وتكريم، يعترف بفضلها، ويقر ببرها، ويسعى ويجتهد في الوفاء بحقها. ومن هنا: فإن هذه الأم المربية إذا غابت من واقع حياتنا، أو ضعف دورها في بيوتنا، فإن خطراً عظيماً يتهددنا، وإن تفككاً في مجتمعاتنا ينتظرنا، وإن ضعفاً في أجيالنا سوف يكون له أثره الذي لا نحبه ولا نرضاه. الطريق إلى الأم المربية كيف نحرص ونبذل الأسباب لوجودها؟ ذلكم مطلب مهم، وقضية كان من المفترض أن تعتني بها وسائل الإعلام، ومناهج التربية على أعلى المستويات، نبدأ ذلك بتربية البنات، إن أم اليوم كانت بنتاً من قبل، فكيف تربى البنات؟ وكيف تعد البنت لمستقبل الحياة؟ هل تعد وتربى وتعلم لتكون زوجة راعية، وأماً مربية؟ هل تعرف دورها وتعلم رسالتها؟ هل تهتم بما تحتاج إليه من العلم والمعرفة ومن الخبرة والتجربة لتؤدي دورها، أم أن مسار التربية الخاصة والتوجيه العام في وسائل الإعلام أو مناهج التعليم ينحو بها منحىً آخر، ويريد منها مطالب أخرى غير هذه المهمة الشريفة، غير هذه المنزلة العظيمة، غير هذه المكانة الخطيرة في واقع المجتمع والأمة؟

الاهتمام بالتربية وصلاح الذرية

الاهتمام بالتربية وصلاح الذرية إن قضية التربية بعمومها، وقضية تربية البنات بخصوصها مسألة تحتاج إلى أن تحظى من المسلمين جميعهم بأعلى درجات الاهتمام، وأن يوفروا لها كل أسباب النجاح، والمعني بهذا هم أنتم أولاً، وبالدرجة الأولى معاشر الرجال والأولياء، أرباب الأسر، القوامين على النساء، إنها ليست مهمات تشريف، ولكنها مهمات تكليف، إنها ليست مجرد فخر أو اعتزاز، وإنما هي مسئوليات وتبعات، إنها واجبات مناطة بالأعناق، وديون محفوظة على الذمم، وواجبات شرعية مسئول عنها بين يدي الله سبحانه وتعالى. انظروا إلى رسل الله وأنبيائه كيف كانت هممهم، وكيف كان تفكيرهم منصباً ومتوجهاً إلى ذريتهم، وما ينبغي أن يغرسوه في قلبها من الإيمان، وفي نفسها من التزكية، وفي أخلاقها من الفضائل، وفي سلوكياتها من المحامد، وفي أفكارها من الرشد، وفي قلوبها من الحب والفيض بما ينبغي أن يكون من المعاملات والصلات بين الناس، يقول الله سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل، وهما يقيمان البيت ويعليان بنيانه: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128]. كانوا يدركون أن هذه مهمتهم، فعندما كانوا يسألون الله لم تقتصر مسألتهم على أنفسهم، بل كانوا يشملون من جعل الله عز وجل مسئوليتهم في رقابهم، وكان هذا موضع الاهتمام في القلوب والأفكار والنصوص، وينعكس حينئذ في الاهتمام العملي، والتوجيه والإرشاد التربوي، والرعاية الفائقة، والعناية العظيمة التي ينبغي أن يوليها الآباء والأمهات لأبنائهم.

اهتمام الناس بدنيا الأبناء

اهتمام الناس بدنيا الأبناء {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] ما هي وصايا الآباء والأمهات لأبنائهم؟ ما الذي يقولونه لهم؟ ما الذي يحبذونه منهم؟ ما الذي يرغبونهم فيه؟ ما الذي يحثونهم عليه؟ ما الذي يدور في البيوت؟ ما الذي يقال فيها؟ ألسنا ونحن اليوم على أعتاب الاختبارات نرى أن كثيراً من الاهتمام يكاد يستولي على أذهان الآباء والأمهات في سائر الأوقات بسبب الدراسة والعلم والنتيجة، دون أن يكون وراء ذلك أو معه أو فيه ما يلفت النظر إلى حقائق الإيمان، وأخلاق الإسلام، ولزوم وجوب التربية، والصلة بالله، ونحو ذلك من الأمور العظيمة والمهمة؟! والله سبحانه وتعالى يبين لنا أيضاً في قصة يعقوب عليه السلام: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] في آخر لحظات الحياة أي شيء كانت وصيته؟ أي أمر كان منصباً عليه اهتمامه؟ هل هو البيوت والدور والتركات والمواريث؟ هل هو العناية بالأمور الدنيوية والشكلية؟ إن قلبه الذي كان معموراً بالإيمان، والذي كان مسكوناً بالتقوى، وفكره الذي كان موصولاً بالله سبحانه وتعالى؛ جعل أهميته وتركيزه في آخر لحظات حياته على قضية الإيمان، والإسلام، والتربية، والاستقامة على منهج الله عز وجل، إن من يذكر هذا في مثل تلك اللحظات الحرجة التي يفارق فيها دنياه، ويودع الحياة بما فيها، ومن فيها لا شك أنه كان ذاكراً لهذه المهمة، ومعتنياً بها في كل أوقاته، وذلك ما ينبغي أن يلفت أنظارنا إلى هذه السير، وفي هذه الآيات. وليس هذا حديثاً إلى الرجال فحسب، بل هو كذلك حديث إلى النساء إلى الأمهات المربيات اللائي ننظر إليهن وإلى دورهن على أنه محوري وأساسي وجوهري، فيما نريد لأمتنا من الصلاح وفيما ننشده من تغيير أحوالنا إلى الأفضل والأمثل بإذن الله عز وجل، وكما قلت: إن دور تربية الأم في البيت هو أشد تأثيراً، وأقوى نفعاً من كثير من الوسائل المادية، والأسلحة العسكرية وغيرها.

الخطاب الرباني في وجوب التربية

الخطاب الرباني في وجوب التربية ثم الالتفات إليكم معاشر المؤمنين بالخطاب الرباني بآيات الله عز وجل، وكلامه سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] إن المسئولية ليست منوطة بك وحدك، ولست مسئولاً عن نفسك فحسب، بل إن الأهل من الزوجة والذرية أبناء وبنات لهم حق عليك، وأمانة في عنقك، والأمر في هذا عام، والنداء لأهل الإيمان للرجال والنساء والآباء والأمهات معاً، كلهم يجب عليهم أن يعملوا وأن يؤدوا الواجبات، وأن يحرصوا في تربية أبنائهم على ما يقيهم من الوقوع في سخط الله عز وجل، واستحقاق عذابه، نسأل الله عز وجل السلامة، فهل استشعر كل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وأب وأم هذه المسئولية؟! واستمعوا إلى عباد الرحمن الذين ذكر الله صفاتهم على أنهم قدوة لنا ومثال يحتذى ماذا كان في قولهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] قال ابن جرير في تفسيره: أي يعبدونك، ويحسنون عبادتك، ولا يجرون علينا الجرائر. كيف يكون الأبناء قرة أعين إذا لم تعلمهم القرآن؟ كيف تكون البنات قرة أعين إذا لم نلقنهن السنة؟ كيف تكون الذرية صالحة بارة وفية تقدم الخير للآباء والأمهات ما لم تسلك بها سبيل الصالحين والصالحات؟! إننا اليوم نشكو ونعلم أن هذه الشكوى تتعاظم من عقوق الأبناء أو انحرافهم، ونقول كما قال العرب: يداك أوكتا، وفوك نفخ، إن مرد ذلك في غالب الأحوال إليك أيها الأب، إليك أيتها الأم حيث لم تحرصوا على التربية، ولم تنشئوا التنشئة الصالحة، ولم تعلموا القرآن والسنة، ولم تحدثوا بالسيرة وتراجم الأصحاب، ولم تبثوا روح العزة، لما لم تحرصوا على أن يخرج من تحت أيديكم من هو خير منكم، وأكثر علماً وفضلاً، وأعظم إلى الخير سبقاً، ثم تشكون من بعد وأنتم ما بذلتم جهداً، ولا أعطيتم وقتاً، ولا حرصتم على تربية، ولا قدمتم علماً، ولا بذلتم توجيهاً وإرشاداً، مسألة مهمة والدعاء موصول بالله عز وجل، ولكن العمل مطلوب: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].

من وسائل التربية تجاه البنات

من وسائل التربية تجاه البنات إن مسألة التربية وآثارها في المجتمع مهمة جداً ليس في الحياة الدنيا فحسب بل في الحياة الأخرى، إن كل مؤمن يفكر في أخراه، ويريد النجاة في آخرته، ويريد السعادة فيما يئول إليه أمره ومصيره: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دون ذلك لتقر بهم عينه. هل تريد أن تنعم بإذن الله عز وجل بأبنائك وزوجك يوم القيامة، أم تريد أن يحال بينك وبينهم؟

تربية البنات على الإيمان وهدى الإسلام

تربية البنات على الإيمان وهدى الإسلام إن التنشئة والتربية الصالحة، والسير على طريق الإيمان وهدى الإسلام، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كفيلة بأن تلحقهم بك، وأن تنتفع منهم بإذن الله عز وجل، كما ثبت في الصحيح: (أو ولد صالح يدعو له). إنها مسألة مهمة، وقضية خطيرة، تتضح خطورتها في الجانب السلبي الآخر لمن فرط لمن ضيع لمن لم يؤد الأمانة لمن لم يقم بالمسئولية لمن فرط في أولئك الذرية: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] قال أهل التفسير في معناها: يفرق بينهم فلا يجتمعون، إما بأن يكون بعضهم في الجنة والآخرون في النار، وإما -والعياذ بالله- أن يكونوا جميعاً في النار ولا يجمعون، فيجتمع عليهم عذاب وحزن لا سرور فيه، نسأل الله عز وجل السلامة. كيف تربى البنات؟ قضية مهمة في مسألة الأم المربية، ألسنا اليوم نرى بنات لا هم لهن إلا موضات اللباس، وألوان مكياج الزينة، لا تفكر إلا في جوانب محدودة معدودة من الأمور الدنيوية البهرجية؟ وربما تعني كثيراً في جانب التعليم بفروع من العلم لا تعود عليها بكثير من النفع والفائدة. وربما كان في هذا الجانب فائدة، لكن المهمة الأولى من هو هذا الطفل؟ ما نفسيته؟ ما معنى التربية؟ ما وسائلها؟ ما مناهجها الإسلامية؟ من يعلم هذا للبنات؟ من يعدهن ليكن المربيات؟ مسألة أساسية مهمة، وواجب خطير، تؤكد ذلك علينا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتبينه سيرته العطرة عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، ألا وكلكم راع ومسئول عن رعيته) أين هذه الرعية؟ ألسنا اليوم نرى الشعوب وهي تطالب حكامها والمسئولين عنها بأن يوفروا العدالة، وأن يوفروا الأرزاق، وأن يوفروا ويوفروا، فأين مطالبات الرعية في بيوتنا؟ وأين حقوقها المهضومة؟ أين هذا الأب وتلك الأم من الحقوق في العدالة والتربية والتعليم والتزكية؟ أين هذه المهام الضائعة التي ليس لها من يطالب بها، وننشغل بالمطالبة بما يوصف في بعض الأحوال بأنه من حقوق المرأة وهو بعيد عن حقيقتها وطبيعتها وحقوقها ومكانتها كما أرادها الله عز وجل؟ من الذي يطالب؟ هل رأيتم في المحاضرات والندوات أو في وسائل الإعلام من يجعل هذه قضية لا بد أن نعنى بها، وأن نطالب بها، وأن نوفر الأسباب لحصولها؟ ثم انظر إلى التركيز الخاص الذي يجعله النبي صلى الله عليه وسلم لتربية البنات على وجه الخصوص، وذلك لما لتربيتهن من أثر محمود على الأجيال المستقبلية، وقد أسلفت قول القائل: (إذا علمت رجلاً فقد علمت فرداً، وإن علمت امرأة فقد علمت جيلاً أو أمة) لذلك يأتينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم وغيرهما: (إن من بلي بهذه البنات فأحسن إليهن كن له ستراً من النار) لماذا؟ لأنه يعد زوجة صالحة، وأماً مربية، لأنه يعد للأمة من يخرج أجيالاً مؤمنة متوضئة. مسألة مهمة يؤكدها ويعضدها حديثه صلى الله عليه وسلم عند الشيخين أيضاً: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين) وذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل تكون عنده الأمة، فيعلمها ويحسن تعليمها، ويؤدبها ويحسن أدبها، ثم يعتقها فيتزوجها) لم خصها بالذكر؟ لأن هذه التربية وذلك الأدب سيكون له عظيم الأثر.

الاهتمام بمناهج التعليم والتخصصات الشرعية

الاهتمام بمناهج التعليم والتخصصات الشرعية الوسيلة الثانية: مناهج التعليم للفتيات وللبنات: هل تعطي هذه المهمة حقها ونصيبها؟ هل يدرس في المناهج تخصص اسمه: تربية الأبناء؟ قليلة هي التخصصات التربوية، وقليل في التخصصات التربوية ما يختص بتربية الأبناء بالتفصيل، كأن هذه قضية ليست مهمة، وكأنه تخصص يقدم عليه غيره، نعم لا ننكر وجود تخصصات نافعة للمرأة، هناك الاقتصاد المنزلي تدرس فيه الفتاة الطبخ والخياطة، وتنظيم المنزل والديكور، وكل ذلك لمن؟ إنه لبني آدم فهل نحسن هذه الأمور المادية أو نعلمها كيف تحسن تنظيم هذه الأمور وليست من مهماتها الأساسية، ولا نعلمها ما يهمها في الأساس من فكر ونفسية أبنائها؟ كيف نعلمها كيف تغذيهم بالطعام والشراب ولا تغذيهم بالإيمان والإحسان؟ كيف نعلمها كيف تحسن تفصيل الملابس ولا تحسن تفصيل الأخلاق والسلوكيات. ينبغي أن يكون ذلك مهماً، وبدراسة الإحصائية: فإن النسب التي لها تخصصات مباشرة في هذه قليلة لا تتجاوز خمسة بالمائة من إجمالي ما تتخصص فيه الفتيات والطالبات في جوانب المعرفة المختلفة كلها، وهل نحن نريد منها أن تكون في ذلك الجانب أو هذا؟ قد يكون لنا حاجة لها كطبيبة، وحاجة لها كمدرسة، وحاجة لها ككيميائية، لست أنازع في هذا الآن، لكن أولئك كلهن نحن في حاجة إليهن كزوجات ومربيات، وإن كن طبيبات أو معلمات أو غير ذلك من المهمات. فإذاً لا بد في كل تخصص أن يدرس النساء ذلك؛ فضلاً عن أن يكون تخصصاً تنتدب له من تشاء من النساء والفتيات، ليكن مربيات ومعلمات لأخواتهن من بعد، أين مناهج التعليم من هذا وهي في عصرنا الحاضر وفي الدعوات الملحة وعصر العولمة، ما تزال تنحو إلى بعيد وبعيد عن هذا المجال، وتتشعب في أمور من التخصصات التي لا تقدم ولا تؤخر في أمر بناء الأمة وحسن تربيتها؟!

الإعلام

الإعلام ثم الثالثة وما أدراك ما الثالثة! يصدق فيها أنها ثالثة الأثافي: وسائل الإعلام: هل ترون أنها تخرج لنا امرأة صالحة مصلحة، وزوجة راعية مؤدبة، وأماً مربية مسئولة؟! ما هي صورة المرأة في وسائل الإعلام؟ لا أقول أنا هذا وأنا قد أكون شيخاً أو داعية ولا تقولوه أنتم وأنتم ربما من أهل الخير والصلاح في جملتنا نسأل الله عز وجل أن نكون كذلك، لكن يقول هذا أهل الإعلام أنفسهم في دراساتهم؛ يقولون: إن الإعلام يقدم المرأة نموذجاً رجولياً، كأنما هي تريد أن تكون نسخة من الرجل ولكنها وللأسف مشوهة، تقدم المرأة وهي تمارس العنف، وهي تمارس أدوار الإغراء والفتنة والإلهاء، ما رأيناها في أكثر الأدوار وهي تؤدي دور التربية، وحسن التعليم، والتنشئة، والقيام بالواجبات المهمة والرسائل العظيمة في حياة الأمة. هذه قضية مهمة! نرى الندوات، ونرى البرامج التلفزيونية، فما نرى إلا حديثاً عن التجميل والجمال، وما نرى في غالب الأحوال إلا حديثاً عن الطب والأمراض، وما نرى بعد ذلك إلا حديثاً عن الطبخ، كل قنوات التلفاز لا تخلو من برامج إعداد الأطعمة، قد تفتح هذه القناة وتنتقل إلى الثانية وترجع إلى الثالثة في الصباح فلا ترى إلا أواني الطبخ من هذه إلى تلك، ومن مطبخ إلى آخر، أين ما وراء ذلك مما هو أعظم أهمية؟! ونجد بعد ذلك الإعلام وهو يناقش حرية المرأة بمفاهيم غربية، وهو يناقش استقلالية المرأة بمفاهيم غير إسلامية، بل قد كتبت بعض الكاتبات من بلادنا تنقل عن امرأة غربية أنه لم تعد المرأة اليوم تحتاج إلى الرجل، ليس لأنها تعمل وتكسب، فهذا قد عفا زمانه، وقد تقرر في كثير من المجتمعات، بل تقول: إنها اليوم تستطيع أن تأخذ بموجب التقنيات الحديثة من البنوك التي تعرفون عنها، وتستطيع أن تنجب دون رجل، فإذاً تستطيع أن تعيش حياتها دون رجل، وتستطيع أن تكون منفصلة عن دنيا الرجل، ويكون ذلك كأنما هناك مجتمعان منفصلان وأمتان مختلفتان، رجال لا صلة لهم بنساء، ونساء لا صلة لهن برجال، وتذكر هذا ولا تقول إنها تدعو إليه، لكنها تقول: إن هذه القضايا ينبغي أن ننتبه لها والعالم من حولنا يتغير، فسبحان الله! إن تغير الناس من إيمان إلى كفر فهل يعني ذلك أن نتبعهم؟! وإن تحولوا من صلاح إلى فساد، ومن انضباط إلى انحلال كما هو حال كثير من أصقاع العالم اليوم، بل حتى أصقاع العالم الإسلامي، فهل نسير وراء القوم حيث ساروا، ونمضي إلى حتفنا كما رأينا حتفهم رأي العين بأعيننا؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) أي: فمن غيرهم، وهذا في وسائل الإعلام لا نرى اليوم إلا المرأة الممسوخة في فطرتها، التي تقدم كما يقولون ويزعمون ثقافة المرأة وعقلها وفكرها، فننظر ونريد أن نصدقهم فلا نرى شيئاً يصدق ذلك، لأنهم لا يعرضون لنا المرأة إلا بشعرها ونحرها ونهدها وغير ذلك مما تعلمونه وتسمعون عنه، وتشاهدونه.

محاضن الدعوة

محاضن الدعوة الأمر الرابع: وهو محاضن الدعوة: أعني الدعوة للنساء، نحن نرى جهوداً كثيرةً تبذل للدعوة في المحاضرات والكتب وغير ذلك، لكن كثيراً منها والقسم الأوفى منها للرجال دون النساء، ما العناية بالمرأة في محاضن الدعوة؟ ثم ما الموضوعات التي تلقى وتعرض على المرأة؟ أكثر الموضوعات تحدثها عن الحجاب والاختلاط! والاختلاط والحجاب! والحجاب والاختلاط! نعم هذه مسائل مهمة، لكن لماذا نقتصر عليها؟ أين دور المرأة في التربية؟ أين توعيتها بالواقع المعاصر؟ أين تعريفها بما يحاك للمرأة عموماً والمرأة المسلمة خصوصاً في مؤتمرات الأمم المتحدة وما تدعو إليه من الفساد والانحلال وغير ذلك؟ أين هي مما نعلمها إياه في شأن الداعيات المسلمات؟ أين هي من تذكيرها بـ أم شريك الأسدية رضي الله عنها التي ذكر ابن حجر في ترجمتها أنها كانت تخالف رجال قريش إلى بيوتهم، يخرجون فيصدون عن الإسلام، ويؤذون محمداً صلى الله عليه وسلم ويواجهون المسلمين، ثم تخالفهم إلى بيوتهم فتدعو نساءهم حتى فشا الإسلام في بيوت قريش، فنذروا بها، أي: بدءوا يبحثون من الذي يجوس خلال الديار؟ من الذي غير أفكار النساء؟ فوجدوا أم شريك فأخذوها واعتقلوها إلى آخر ما هو معلوم من قصتها. ولها في قصة أم سليم رضي الله عنها، وأم حرام بنت ملحان وغيرهن من النساء قدوة، لماذا لا نكثف جهود الدعوة النسائية؟ بل أين الداعيات من النساء ليتحدثن إلى بنات جنسهن؟ قلة قليلة! ولذلك ستأتي المنافسات الغير محمودة، وسيخاطب المرأة غير أهل العلم والصلاح والتقى، لأنها لم تعد تصغي إليهم إما لأن حديثهم إليها قليل وهو مصروف إلى الرجال، وإما أن حديثهم إليها مقصور على جانب أو جانبين قد عرفتهما وحفظتهما، وتريد غيرهما، وإما لأن طرائق هذه الدعوة وعرضها ليست مرغبة ولا مشجعة. ومسألة مهمة في هذا الباب: أن يركز هذا الحديث كذلك في ميادين الأم المربية، ومؤسسات المرأة الاجتماعية، وهذه الجمعيات المختلفة للمرأة أين دورها في هذا؟ نعلم أن كثيراً من الجمعيات تقوم بدورات في الحاسب الآلي، وفي اللغة الإنجليزية، وفي الطبخ، وفي الخياطة، وكل ذلك لا اعتراض عليه، لكن أين حجم الدورات في التربية؟ في معرفة نفسية الأطفال؟ في معرفة علاج مشكلات الأطفال؟ في معرفة علاج القضايا التربوية؟ وجوانب التربية ووسائل التربية وغير ذلك ثقافة محصورة محدودة تعطينا ثماراً فجة في نساء وفتيات لا نجد أنهن نماذج جيدة ليكن زوجات صالحات، وأمهات مربيات، فهذه قضية مهمة، والحديث فيها يطول كثيراً.

وصايا للمرأة المسلمة

وصايا للمرأة المسلمة ولذلك لا بد أن نوجه هذا الحديث إليكم معاشر الرجال، وإلى النساء من قبلكم إلى هذه المرأة التي نريد منها أن تكون أماً مربية، نقول: أولاً: استشعار الأهمية: لا بد أن تستشعر المرأة المسلمة أهمية دورها في التربية، وعظمة رسالتها في التنشئة، وأن تدرك أن هذا أمر مهم، وأن تحمل همه لا أن تحمل هماً في ماذا تلبس من الملابس، وماذا تتزين من الزينة فحسب، هذه مهمات ثانوية للأسف أنها بدأت تكون هي التي تشغل الاهتمام والتفكير، وهي التي لأجلها توفر الأموال، وتبذل الأوقات دون أن يكون حمل الهم في القضية المهمة الأساسية. ثانياً: معرفة القيمة الحقيقية لهذه المهمة العظيمة: اليوم عندنا مشكلة وهي: أنه إذا قالت المرأة إنها ربة بيت كأنها تستحي بذلك، وتغض طرفها كأنها في منزلة دونية، وفي مرتبة سفلية، لماذا؟ لأنها ليست موظفة، وليست مدرسة، وكأن هذه المهمة مهمة تافهة، وكأن وجودها في البيت يعطل نصف المجتمع، كأن المرأة في بيتها لا تعمل شيئاً، ولا تؤدي دوراً، وليس لها قيمة، ولا لفعلها ولا لدورها مكانة، فهذه قضية خطيرة يبثها اليوم عن قصد أو غير قصد الإعلام، وتشيعها كذلك البيئة الاجتماعية، حتى غدت المرأة اليوم ترى أن دورها في التربية دوراً ثانوياً ينبغي أن تحرص على تركه، أو على أن تجمع معه شيئاً آخر ليجعل لها مكانة، وهذه قضية مهمة وخطيرة. لا بد أن تعرف المرأة أن مكانة الأم المربية هي المكانة السامية، وهي مكانة صمام الأمان الذي يحول بين أعداء الأمة وبين أجيالها، وهي لذلك في أسمى مكانة وفي أخطر موقع من مواقع المواجهة مع أعداء الله عز وجل، وفي أخطر موقع من مواقع البناء، وصناعة الأجيال، ومواجهة المستقبل بإذن الله سبحانه وتعالى. ثالثاً: تحصيل العلوم الشرعية: لا بد للمرأة أن تحرص على أن تتعلم من الأحكام الشرعية، ومن القرآن والسنة والسيرة ما يكون نفعاً لها، وغذاءً لأبنائها، اليوم نحتاج من الأم أن تربي صغارها على قصص الصحابة والتابعين، وأجيال الأمة من الصالحين والصالحات، اليوم نريد من الأم أن تحفظ أبناءها الصغار قبل أن يذهبوا إلى المساجد والمدارس آيات من القرآن، وأذكاراً يقولونها في سائر جوانب حياتهم، عند منامهم واستيقاظهم، ودخولهم وخروجهم إلى غير ذلك، كيف سيكون ذلك والأم جاهلة أمية لا تعرف القراءة والكتابة، ولم تعلم شيئاً من أمور دينها؟! إن تعليم المرأة كما رأينا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن تأديبها يعطى الأجر مرتين؛ لأن في حسن التأديب أجراً خاصاً فعلى كل رجل وأب أن يتيح الفرصة لبناته ولزوجته أن يتعلمن؛ لأن ذلك سيكون له أثره. ثم كذلك معرفة المتطلبات التربوية، فلا يكفي أن تتعلم العلوم الشرعية، بل تربطها بالعلوم التربوية الإسلامية لتعرف التنشئة ومشكلاتها، والتربية ووسائلها وغير ذلك مما له أثر محمود ومعروف. ثم كذلك ممارسة الدعوة الإسلامية في صفوف النساء لمعرفة هذه الحقائق كلها، فنسأل الله عز وجل أن يجعل نساءنا زوجات صالحات، وأمهات مربيات، وبنات حانيات، ونسأله أن يحفظ أسرنا وذرياتنا من كل سوء ومكروه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

مهمة الأم المربية

مهمة الأم المربية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله عز وجل تقواه في الذرية والأبناء قياماً بمسئوليتهم، وعناية بتربيتهم، وحرصاً على تعليمهم، وبذلاً لكل الجهد لصلاحهم وإصلاحهم، ومن وراء هذا الموضوع تشريعات كثيرة، لكنني أختم هذا المقام ببيان قضية أساسية موجزة وهي: أن مهمة الأم المربية ربما ترتكز على ثلاث جوانب رئيسة أولها: المحافظة على الفطرة (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) الدور الأكبر للأم في ذلك. ثم جانب التعليم والتربية بكل آفاق التعليم والعلوم والمعارف الإسلامية وغيرها. ثم بكل آفاق التربية أخلاقية وإيمانية وسلوكية، وإبداعية وفكرية وغير ذلك. ثم الجانب الثالث وهو التحفيز والتنمية وإعلاء الهمم، ورفع شعار العزة، وحماسة العمل، والدفع بالقوة الإيجابية في هذه الحياة ذلك ما نسأل الله عز وجل أن يبصر به زوجاتنا وأمهاتنا حتى يكون لهن الدور الأعظم في تنشئة أجيالنا، ولنا حديث فيما بعد عما يقطع على هذه المهمة طريقها نسأل الله أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين، وأن يلبسنا ثياب المتقين، وأن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين، اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، واصرف عنا اللهم الشرور والسيئات، ووفقنا اللهم للصالحات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وارفع درجاتنا يا رب العالمين، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم ارفع كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

الأم المربية [2]

الأم المربية [2] إن الأم المربية الحانية على أولادها، الساعية إلى تنشئتهم تنشئة صالحة هي مصدر القوة والإعزاز لهذه الأمة، وهي صمام الأمان، فلابد أن تعرف المرأة دورها الحقيقي وواجبها إذا أرادت أن تنشئ جيلاً صالحاً يحمل هم هذه الأمة. ولقد خاض الغرب غمار الحرب على المرأة فأخرجوها من بيتها، وأشركوها مع أخيها الرجل، وفي نهاية المطاف اعترفوا بعظم الخطأ والذنب الذي ارتكبوه في حق المرأة، وعلموا أنها لا يصلح لها إلا البيت، فلنأخذ العبرة من غيرنا، ولنتبع كتاب ربنا.

دور الأم في تربية الأبناء

دور الأم في تربية الأبناء الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد سبحانه وتعالى جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وعظم عطاؤه، وعم نواله، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، الذي بعثه الله جل وعلا إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفا. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأم المربية مصدر قوة، وصمام أمان في المجتمع، حديث بدأناه نصل القول فيه حتى يستوفي هذا الأمر حقه لما له من أهمية وفائدة، ولعلنا نقرر في بداية هذا الحديث الدور العظيم للأم في تربية الأبناء، وتنشئة الأجيال، وندرك ذلك من خلال أمرين: أن هذا الدور للأم مرتبط بالأطفال، والطفل هو الأمة كلها، هو مع غيره وبقية الأطفال يكونون جيل المستقبل القريب قبل البعيد، ومن هنا فإن الدور الإصلاحي والتربوي الذي يوجه إلى هؤلاء الأطفال منذ ولادتهم ومنذ نعومة أظفارهم إنما يقوم به يد الأم المربية، وصدرها الحاني، وفكرها وعلمها النير، وسلوكها وخلقها الفاضل، وحينئذ ندرك أننا أمام مفتاح التغيير كما أشرنا. الجانب الثاني: أن الطفل والنفس البشرية بعمومها عظيمة في غرابتها وفي تقلباتها، والطفل عالم من المجهول، لا يكاد يعرف مسالكه ودروبه الخفية إلا تلك الأم، إنها تكاد تقرأ في نظراته حاجته، وتعرف من قسمات وجهه مشاعره، إنها التي تستطيع أن تكتشف ما لا يكتشفه الرجل بحال من الأحوال، وإذا كان الأمر كذلك فإننا لا بد أن نعطي هذه المهمة لمن يعرف خفاياها، ويبصر دقائقها، وذلك من الأهمية بمكان.

التربية مسئولية مشتركة بين الوالدين

التربية مسئولية مشتركة بين الوالدين وهنا وقفة لا بد منها: فإن التربية مسئولية مشتركة بين الوالدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) وفيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (والرجل راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها). فلا بد من تكامل وتعاون، لكننا ندرك أن الدور الأكبر في مثل هذا للمرأة سيما في سن الطفولة الأولى، لماذا؟ لأن عند الرجل مشكلتين طبيعيتين من واقع طبيعته وخلقته ودوره وعمله في هذه الحياة، ومن حيث الكم فإن الوقت الذي يقضيه مع أبنائه أقل بكثير مما تقضيه الأم معهم، وذلك بطبيعة عمله وحاجته إلى الكسب والكدح في هذه الحياة الدنيا، وارتباطه بالمشكلات في هذه الحياة. ومن حيث الكيف فإن الأب غالباً ما يعود إلى بيته مرهقاً متعباً جسدياً بسبب العمل والبذل والجهد، ومنشغلاً فكرياً بسبب المشكلات والتخطيط والترتيب. فهو أقل استعداداً للعطاء النفسي والعاطفي والفكري من هذه الأم، التي يدور محور رحى حياتها حول أبنائها، فقلبها لا يخفق إلا بالمحبة لهم، ونفسها لا تضيق إلا في الحزن أو الأسى على أحوالهم، وفكرها لا ينشغل إلا بتدبير أمورهم، فهي قد خلقت وجبلت لتكون كذلك، ومن هنا ندرك أهمية هذا الدور، وندرك أنه إذا اختفى أو غاب أو تقلص إلى حد كبير، فإن أحداً لا يمكن أن يعوضه، ولا يستطيع أن يتقنه، ولا يمكن أن يستمر فيه على المدى الطويل.

مهمة المرأة المربية كمهمة الدولة الحاكمة

مهمة المرأة المربية كمهمة الدولة الحاكمة ومن هنا أنتقل إلى تصوير هذه المهمة: إن مهمة المرأة المربية كمهمة الدولة الحاكمة، أليست الدولة الحاكمة لها رعايا تحتاج إلى تدبير شئونهم الاقتصادية، ورعاية أمورهم السياسية، ومعرفة أحوالهم القضائية وغير ذلك من الأمور؟ والأم كذلك تقوم بدور مجلس الوزراء كله، فهي تقوم بمهمة تربية وتعليم، وثقافة وإعلام، وإدارة واقتصاد، ومهمة صحة جسدية ونفسية، وقس على ذلك غيره من الأحوال المختلفة، فإنك ستجد أن القول الذي يطلق وهو: أن المرأة ملكة في بيتها ليس مجرد تصوير تشريفي أو لبيان المكانة، بل هو كذلك لبيان الدور والرسالة، فهي تقوم بهذه الأدوار كلها، وتقوم بتلك المهمات جميعها، وتسوس تلك الدولة المصغرة في عش الزوجية والأسرة الآمنة، فهل ترون هذا الدور بعد هذا التصوير دوراً هامشياً تافهاً، أو دوراً يحتقر وينتقص، أو دوراً يرى أنه ليست له فائدة ولا أثر؟! وقفة مع النظرة التي تغيرت وتبدلت نحو السوء وللأسف في واقع مجتمعاتنا إلى الأم المربية إلى ربة المنزل إلى الزوجة الحانية، إلى التي تهدهد بيدها سرير رضيعها؛ وهي بذلك تهدهد أوضاع الحياة من حولها: هذه المرأة المربية عندما نفقدها في المجتمع تحصل لنا مشكلات كثيرة، اليوم تجد بعض النساء تستحيي أن تقول: إنها ربة منزل، اليوم تجد وسائل الإعلام في غالب أحوالها تقول: إن نصف المجتمع مشلول معطل إذا كانت المرأة في بيتها، فكأنها في بيتها ساهية لاهية عابثة لا تقوم بدور، ولا تؤدي مهمة ولا تقدم نفعاً، ولا تقرب فائدة بحال من الأحوال، ثم كذلك فوق هذا أصبحت المنافسات لهذه المهمة كثيرة، وهي متعددة ومتنوعة، صرفتها شواغل من الإعلام الذي صرف عقول النساء، واستلب أوقاتهن، وغير أفكارهن، وأوجد الخلل في مشاعرهن. وجانب آخر في صور اجتماعية فارغة كثيرة، أصبحت المرأة حاملة حقيبتها، ماضية في هذه المناسبة أو تلك، وفي هذه الزيارة أو تلك، وبعد ذلك كأنما ليس وراءها مهمة، وليس عندها حصن تقوم عليه وترعاه وتحرسه، وبعد ذلك العمل الذي تشعبت نواحيه، والذي أصبحنا اليوم نسمع ضرورته وأهميته، وأنه يجب ألا تبقى امرأة إلا وقد عملت في كل ميدان، وفي أي وقت، وفي سائر الأنحاء، وكأنها ليست هناك مهمة. وليس هذا منعاً لعمل المرأة في كل جوانب الحياة التي يشرع فيها العمل، وفي قدره وبحاجته، ولكننا ندرك أننا سنجني ثماراً مرة كلما وسعنا هذه الدائرة وأطلقناها، ورغبنا فيها على حساب معرفة المهمة الكبرى للمرأة.

تجربة الغرب في خروج المرأة إلى الميدان للعمل

تجربة الغرب في خروج المرأة إلى الميدان للعمل واستمعوا إن شئتم إلى تجارب الأمم الأخرى والتي ينظر إليها البعض على أنها مجتمعات وحضارات يراد أن نقتدي بها، لا أريد أن أشير إشارات مطلقة، فإن الإشارات المطلقة معروفة، ومجتمع الغرب اليوم وحضارة العصر اليوم لا أقول: إنها تجني ثماراً مرة، ولكنها تعيش حياة الضنك والضيق التي وصفها الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] ليست بالآلاف ولا بعشرات الآلاف، ولا الملايين، بل بعشرات الملايين من الأطفال الذين يعتبرون لا أسر لهم من الآباء والأمهات، اللائي ينشأ عندهن أو يأتيها هذا الطفل وهي لاهية ساهية منشغلة بعملها، منطلقة في حياتها، إضافة إلى أمور أخرى. ولكني أنقل لكم تجربة واحدة في مقالة محددة لشخص معروف، وهو الزعيم السوفيتي السابق غورباتشوف الذي يقال: إنه صاحب الإصلاح الأكبر في تلك البلاد، يخبرنا عن التجربة التي خاضها هو ومن معه، ويخبرنا عن الدور الرائد الذي قاموا به في مساواة المرأة، وفتح الأبواب أمامها، وغير ذلك من النجاحات، ثم يقف ويستدرك ويقول: ولكن طوال سنوات تاريخنا البطولي والشاق عجزنا عن أن نولي اهتماماً لحقوق المرأة الخاصة، واحتياجاتنا الناشئة عن دورها كأم وربة منزل ووظيفتها التعليمية التي لا غنى عنها للأطفال. إن المرأة استعملت في مجال البحث العلمي، وفي مجال الإنتاج، والخدمات، وشاركت في النشاط الإبداعي، ولم يعد لها وقت للقيام بواجباتها في المنزل وتربية الأطفال وإقامة جو أسري طيب، لقد اكتشفنا أن كثيراً من مشاكلنا في سلوك الأطفال والشواب، وفي معنوياتنا وثقافتنا في الإنتاج تعود جزئياً إلى تدهور العلاقات الأسرية، ولهذا السبب فإننا نجري مناقشات جادة بخصوص مسألة ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة. إنهم في ذلك الوقت منشغلون بهذا الأمر؛ لأنهم وجدوا آثاره الوخيمة، وأضرارها العظيمة في شتى مجالات الحياة. إن غياب دور الأم المربية يعني أطفالاً مشوهين نفسياً؛ لأنهم فقدوا عطف وحنان الأمومة؛ أثبتت الدراسات العلمية أنه تبقى آثاره غائرة في قلوب ونفوس هؤلاء الأطفال، وينشئون وعندهم من الاضطراب النفسي، والحرمان العاطفي، ما يكونون به غير أسوياء، وغياب دور المرأة ومعها كذلك غياب دور الأب هو الذي أوجد في مجتمعاتنا اليوم انحرافات فكرية وسلوكية، حتى رأينا ما لم نكن نرى من قبل، وسمعنا ما لم نكن نسمع من قبل، ورأينا كيف أثرت هذه الأوضاع في حياة شبابنا على واقع مجتمعاتنا.

رد شبهة الزاعمين أن مكوث المرأة في البيت يؤثر على الجانب الاقتصادي

رد شبهة الزاعمين أن مكوث المرأة في البيت يؤثر على الجانب الاقتصادي وإذا مضينا حتى إلى الجانب الاقتصادي الذي يكثر الحديث فيه والجدل حوله ويقال: إن المرأة معطلة فنصف المجتمع مشلول، الاقتصاد يحتاج إلى تحريك، التنمية الاقتصادية في أمس الحاجة إلى المشاركة الكاملة للمرأة. ونحن نقول: إن عمل المرأة مطلوب في المجالات التي يحتاج إليها، أو إذا هي احتاجت إليها بالضوابط الشرعية، ولكننا نقول قبل ذلك ومعه وبعده: ينبغي أن نوفر الأسباب الكاملة لأداء المهمة الأولى بأحسن صورة ممكنة. ومرة أخرى نقول: إنه من تضليل الرأي العام، ومن خداع الناس أن نردد مثل هذه المقالات، وإذا خرجت المرأة للعمل فهل ذلك يعود بالضرورة على الأسرة أو على المجتمع بنفع اقتصادي كما يصور في ضخامته وفي عظمته؟! إن وراء ذلك خادمة يؤتى بها، وحاضنة أو مربية يؤتى بها، وحضانة أو مكان يدفع إليه بالأبناء لتعويض غياب المرأة، وكل ذلك إنفاق لم يكن له وجود بحضور المرأة في بيتها. ثم انظر كذلك ما قد يضاف من السائق والخدمات الأخرى الملازمة والمصاحبة لذلك، فإن الأمة المنشغلة بالأعمال بذلك الرحابة الواسعة كثيراً ما يحتاج مع وجودها وانشغالها في عملها إلى شراء الأطعمة من الخارج، وأنتم اليوم ترون كم هي المطاعم منتشرة؟! وكم هي النيران في البيوت مطفئة؟! لأنه لا أحد عنده وقت ليقوم بهذه المهمة، ولأن المرأة إذا أدخل في ذهنها أنها أعلى وأسمى من أن تطبخ أو أن تؤدي دوراً تغذي فيه أبناءها أو ترعى زوجها؛ فإن وراء ذلك من الإنفاق الاقتصادي ما وراءه، بل قد أثبتت الدراسات الاقتصادية أن المرأة إذا عملت أنفقت على نفسها أكثر، فهي تحتاج إلى نوع من الملابس أكثر، وإلى نوع من الزينة أكثر، وتحتاج أيضاً من المتطلبات للعمل أكثر، وإلى مناسبات أخرى ترتبط بالعمل اجتماعياً أكثر، وهذا كله إنفاق، ويكون حينئذ الأثر الاقتصادي مربوطاً بالمصلحة المتعينة في الحاجة التي تحتاجها المرأة، أو فيما يكون في جملته حاجة المجتمع دون حاجة إلى مثل هذا التهويل والتعظيم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في إشارة مهمة إلى الدور الاقتصادي للمرأة في داخل منزلها: (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد، وأرعاه على زوج في ذات يده)، إن المرأة المسلمة العاقلة هي مدبرة اقتصادية في منزلها تحسن الإنفاق، وتزيد التوفير، وتجعل نوعاً من الاقتصاد الذي يقي الأسرة أو يؤمنها أو يعينها في أوقات المحن. ثم إن المرأة في بيتها عندما تستشعر ذلك الجهد الذي يبذله زوجها، والمال الذي يحصله، تعرف أنها معنية بمثل هذه السياسة الاقتصادية، أما إذا كانت لا تأخذ إلا المال وتصرفه، وتخرج وليس وراءها مسئولية إنفاق وتدبير، فإنها حينئذ لا تكون على ذلك النحو.

الدور الحقيقي للأم في مملكتها

الدور الحقيقي للأم في مملكتها ووقفتنا الأخيرة: الحديث عن الدور الحقيقي لهذه الأم في تلك المملكة التي تحدثنا عنها، وهنا أقسم الحديث إلى قسمين: الأول دورها العام بشكل مجمل في البيت والأسرة. الثاني: الدور التربوي المفصل الذي يتناول تربية الأطفال في المجالات المختلفة. أما دورها الأول فهو دور السكن للجميع، هذه المرأة ليس دورها لأطفالها فحسب، بل دورها أوسع لزوجها ولأطفالها، ولجو الأسرة كله، اليوم نرى التشنج والتوتر، نرى الصراخ والنزاع والشقاق، نرى الأبناء وهم يعيشون في أجواء من الخصومات الزوجية لأن المرأة لم تع دورها، ولم تقم برسالتها، يقول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] ويقول الحق سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] تهيئة الأجواء العامة، أجواء الهدوء والسكينة، أجواء المحبة والمودة، أجواء التعاون والتكامل، أجواء الروح التي تسري من قلب هذه الأم إلى زوجها، فتشيع فيه المحبة والعطف والقرب والتلاحم، وإلى أبنائها فتشيع فيهم الحنان والعطف والرعاية الكبيرة العظيمة، وإذا بهذه الأسرة جنة من جنان الله عز وجل في الأرض لا تكاد ترى فيها نزاعاً ولا شقاقاً، تلك البيئة تصلح حينئذ أن تكون بيئة تربية، وتصلح حينئذ أن تكون بيئة من اللبنات القوية في بنيان المجتمع مهما وجهت لها من سهام الأعداء غزواً فكرياً أو انحلالاً خلقياً، أو ضغطاً أو نحو ذلك، فإنها تكون بإذن الله عز وجل كالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها السهام والنصال. الجانب الثاني: الإدارة الناجحة، المرأة هي الحاكمة في بيتها بحسن تدبيرها ورعايتها، وذلك في وجوه كثيرة من أهمها: تنظيم الأوقات والأغراض، بعض النساء وخاصة من تخرج من بيتها كثيراً لغير فائدة فإنك تجد أن الوقت عندها مضيع، والأغراض مبعثرة، وأنه ليس هناك دقة في أوقات الطعام، ولا في أوقات المنام للأطفال وغير الأطفال، فتجد حينئذ جواً من الفوضى والاضطراب يسود ذلك المنزل. ومن جهة أخرى: استغلال الفرص والأحداث، هذه الأم الحكيمة المربية، وتلك الزوجة العاقلة الراعية تحسن عند كل حدث من الأحداث -اجتماعية كانت أو اقتصادية خاصة أو عامة- أن تدبر، وأن ترتب، فإذا ضاقت ذات يد الزوج أحسنت استغلال الفرص، وأحسنت تربية الأبناء وتذكيرهم بالنعم، وتذكيرهم بحال غيرهم ونحو ذلك، وإذا جاءت حالة أخرى لبست لها لبوسها، وإذا جاء حادث وفاة ذكرت، وإذا جاء حادث فرح بينت ونحو ذلك، فيكون لها الدور الكامل في مثل هذا. وأخيراً تؤدي دور التكامل والتعاون مع الرجل في نوع من الوفاق والملاءمة الكاملة، ونحن إنما نشير بذلك إشارات، والأمثلة في تاريخ أمتنا كثيرة. ثم إذا نحن نظرنا إلى التفصيل فذلك موضوع يحتاج إلى بيان أكثر، وهو تفصيل تربية الأبناء إيمانياً وعبادياً وخلقياً وفكرياً ونفسياً، وذلك ما نجعل له حديثاً مستقلاً، نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يلهمنا كتاب ربنا، وأن يربطنا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل أزواجنا أمهات مربيات، وزوجات صالحات، وبنات بارات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الدورات الصيفية للشباب من عوامل التربية

الدورات الصيفية للشباب من عوامل التربية الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمر قلوبنا بالتقوى. وإن مما ينبغي لفت النظر إليه ونحن اليوم نستقبل أول أيام الإجازة الصيفية أن ننبه الآباء والأمهات على مسئوليتهم التربوية تجاه أبنائهم في هذه الإجازة الممتدة أشهراً متعاقبة، وأوقاتاً متطاولة، أن يعنوا بإعطائهم من الوقت والجهد والتوجيه ما هم في أمس الحاجة إليه، وهنا أشير إشارات متنوعة: هناك برامج كثيرة في بلادنا تشغل الأوقات، وتعمر القلوب بالتقوى، وترطب الألسنة بالذكر، وتوجه العقول إلى الخير، وتقوم السلوك والأخلاق على النهج القويم، حلقات ودورات صيفية للقرآن الكريم، حفظاً وتلاوةً وتجويداً وتفسيراً وتعليماً، تمتلئ بها مساجد هذه البلاد الطيبة، يتلقى فيها الأبناء في هذا الوقت جرعة عظيمة مكثفة، من كتاب الله عز وجل بحسب فراغ الوقت، وامتداد الصيف، فإذا بهذه القلوب تتشرب آيات الله عز وجل، والصدور تحفظ عن ظهر قلب كلام الله سبحانه وتعالى، وإذا بها تشيع فيها أحكام وآداب وأخلاق القرآن الكريم التي تهدي إلى ما هو أقوم كما أخبر الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]. كذلك الدورات العلمية الشرعية التي تمتلئ بها كثير من المساجد الكبيرة، وأقربها إلينا ما نذكر به دائماً مسجد الملك سعود الذي فيه الدورة الصيفية الشرعية المستمرة لسنوات طويلة، دروس في الفقه، وأخرى في السيرة، وثالثة في علوم القرآن، ورابعة في غيره، وفي هذا يوجد في وقت يسير ومتاح ومتعاقب في الأيام والأسابيع المتوالية معنا في هذه الدورات من مسابقات علمية تحث على معرفة كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاطلاع على كتب الأئمة والعلماء، ومعالجة أوضاع واقعنا المعاصر لشبابنا وشاباتنا على وجه الخصوص. فأي خير أعظم وأنفع لأبنائنا وبناتنا من مثل هذه الدورات! وهي متاحة للذكور والإناث بحمد الله عز وجل، ومن وراء ذلك المخيمات الدعوية بما فيها من البرامج الترفيهية المباحة، وفرص للأطفال في اللهو واللعب والتوجيه والإرشاد، معنا في ذلك أيضاً من البرامج المختلفة المتنوعة من الأمسيات والندوات الشعرية، وفوق ذلك وقبله المحاضرات التوعوية الإرشادية النافعة، وحسبنا أن نشير إلى أن المخيم القريب منا في أرض المطار القديم، قد زاره ووفد إليه في العام الماضي نحو نصف مليون من الرجال والنساء، وبعد ذلك ومعه كذلك المراكز الصيفية المتنوعة المختلفة، بما فيها من برامج الرياضة والفكاهة والترفيه، ومع ما فيها من الدورات التأهيلية والتدريبية، ومع ما فيها أيضاً من الدروس والمحاضرات والبرامج المتنوعة. فأي خير أعظم من هذا! ونحن نرى ذلك ونرى أن استمراره وزيادته إنما يشكل بؤرة لاحتواء الشباب، واستغلال أوقاتهم فيما يعود عليهم بالنفع والفائدة، وكذلك للأبناء الكبار فرص من العمل في بعض الوظائف يتعودون فيها على الجد، ويحرصون فيها على الكسب، ويكتسبون خبرات الحياة، والآفاق في ذلك واسعة، فما على الآباء والأمهات إلا أن يولوا العناية والاهتمام، لا أن يصيحوا ويقولوا: ماذا نفعل؟! وليس عندنا وقت، إن لم يكن عندك وقت فليكن لك وقت أن تجلس معهم، وأن تتجاذب معهم أطراف الحديث، وأن تتشاور معهم في الالتحاق ببعض هذه البرامج، فإذا دخلوا فيها شغلوا أوقاتهم بالنافع المفيد، وأصبح دورك في المشاركة معهم في بعض البرامج متمماً ومكملاً وكافياً بإذن الله عز وجل. فهذه فرص عظيمة، وهذه مزايا قل أن يوجد مثلها في غير هذه البلاد، فلا ينبغي لنا إلا أن نحرص على الانتفاع منها، والتشجيع عليها، والطلب من الاستزادة منها، والتنويه والذكر لدورها وفائدتها وأثرها، وذلك ما أحببت أن أشير إليه كرابط لدور التربية للآباء والأمهات. نسأل الله عز وجل أن يصلح أحوالنا، وأن يصلح شبابنا وشاباتنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، ومن ورثة جنة النعيم، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغ فيما يرضيك آمالنا. اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، رد اللهم كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، أنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنهم طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا، وأذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فاكفناهم بما شئت يا رب العالمين، واشف اللهم فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المسلمين المضطهدين، والمعذبين والمشردين المبعدين، والأسرى والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل اللهم لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه وشر وضر يا رب العالمين! اللهم يسر لنا أمنها وأمانها وسلمها وسلامها، ورزقها ورغد عيشها، وردها وجميع المسلمين إلى دينك رداً جميلاً يا رب العالمين. اللهم اجعلنا بالحق مستمسكين، ولكتابك متبعين، ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم مقتفين، ولآثار السلف الصالح متابعين، اللهم يا رب العالمين لا تضلنا بعد الهدى، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

الأم المربية [3]

الأم المربية [3] لقد جعل الله عز وجل في المرأة من المؤهلات الخلقية والفطرية ما يكون لائقاً بمكانتها ودورها في المجتمع الإسلامي من تربية للأطفال، والقيام بحقوق الزوج، والرعاية الكاملة لكل أفراد الأسرة، فواجب الأم هو تربية هذا النشء ليكون حافظاً لهذا الدين، متربصاً بأعدائه الذين يريدون أن ينالوا منه ويقضوا عليه.

مكانة المرأة ودورها الرائد في التربية

مكانة المرأة ودورها الرائد في التربية الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدأ وإليه المرجع والمآل، له الحمد كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأم المربية مصدر قوة مؤثرة، ومكمن تغيير عظيم، ومصنع تربية للأجيال. الأم المربية في واقع أمتنا الإسلامية اليوم قضية مهمة، وجودها على الصورة المنشودة والمنهج المطلوب يعد مفتاح التغيير الإيجابي المنشود، إن أهمية الأم المربية لا تقل بل ربما تزيد عن أهمية الجيوش العسكرية المدججة بالسلاح، وأهمية إصلاح مناهج التعليم، وتهذيب وسائل الإعلام؛ لأن قوتها التأثيرية تستطيع أن تواجه كل ذلك، وتستطيع بإذن الله سبحانه وتعالى أن تنتصر على كل ذلك إن كان مناوئاً لدينها وإسلامها. وديننا العظيم، ومنهجنا الإسلامي القويم أعطى لهذه المهمة أولوية عظمى، ووفر لها جميع الأسباب التي تعين على حسن أدائها واستمرار رسالتها، ودوام عطائها، لتكون المجتمعات مجتمعات إيمان وإسلام من قعر البيوت من ثدي الأمهات من رحم المنجبات، ليخرج حينئذ الجيل المؤمن في قلبه ويقينه، ولتخرج الأيدي المتوضئة، والجباه الساجدة، تواجه كل فساد وانحراف يمكن أن تعج به المجتمعات.

الأم المربية أنشأت العلماء

الأم المربية أنشأت العلماء ولذلك أي شيء يمكن أن يلفت النظر إذا رأيت ذلك الشاب التقي النقي الورع، أو حتى رأيت ذلك الرجل العالم الداعي المصلح، إن كثيراً من الناس يفكرون في جهده وتعليمه وشيوخه وينسون أن الأصل الأول، وأن البصمة الأولى، وأن البداية والانطلاقة إنما كانت من أم مربية! خذوا كل من تشاءون من أمثلة الأئمة والعلماء في التاريخ، نقبوا في صفحات حياتهم، ارجعوا إلى أيام طفولتهم، سترون وراءهم أماً عظيمة مربية، فهذا سفيان الثوري إمام التابعين، وعلم المحدثين، ورمز الزاهدين، ربته أمه وقالت له: يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي، كان أبوه ميتاً فجعلت عملها لكي تفرغه لطلب العلم، كانت تعلم ما الخير وما الأفضل والأمثل، ما الذي ينبغي أن تنشئ عليه صغيرها، ما الطريق الذي ترسم له مساره فيه، وتدرج به في خطواته الأولى عليه، وقد كانت تتخوله دائماً بالوعظ والتوجيه وهو في نعومة أظفاره، فكانت تقول له: يا بني! إذا كتبت عشر طرق -أي من الحديث- فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم يزد ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك. تريد أن تلقنه أن العلم إنما يكون للعمل، وأن أثر العلم ينبغي أن يستقر إيماناً وتقى في القلب والنفس، وأنه ما لم يكن ذلك كذلك فلا نفع ولا جدوى، بل ربما يكون ضرراً وإثماً لا قدر الله، أليست هذه الأم كانت أياديها التربوية ومنهجيتها التعليمية هي البداية لذلك الإمام الجليل، والعالم العظيم؟ انظروا إلى الصحابيات من الأمهات المربيات وكيف كان الأثر التربوي يغرس منذ نعومة الأظفار بذرة إيمان في سويداء القلوب، وسمات أخلاق في أعماق النفوس، فهذه الربيع بنت معوذ رضي الله عنها تقول: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء فقال: من كان صائماً فليتم صومه، ومن لم يصم فليمسك -أي: عندما بدأ بأمره أو توجيهه عليه الصلاة والسلام لصيامه- قالت: فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم أبناءنا -أي: الصغار- قالت: فكنا نصومهم ونأخذهم إلى المسجد، ونأخذ معنا لهم اللعبة من العهن، فإن بكى أحدهم لهيناه بها حتى يتم صومه ويؤذن المغرب) تلك هي التنشئة، وتلك هي ملامح ومعالم التربية، أخرجت جيل الأتقياء الأصفياء، جيل الأعزاء المجاهدين، أخرجت جيل العلم والعلماء، ويوم افتقدنا هذه الأم المربية، ويوم خرجت إلى الأسواق لاهية عابثة، ويوم شغلت بالأعمال وخلفت وراءها أبناء وبنات ليس لهم من يرعاهم ولا يربيهم أخرجت لنا أجيالاً لم يعد لها حظ من سمت الإيمان، وصفة الإسلام، واستغربت في فكرها، وامتهنت في شكلها وهيئتها، وذلت في عزتها، وضعفت في إيمانها.

أقوال الغربيين تشهد لمنهج الإسلام في وظيفة المرأة

أقوال الغربيين تشهد لمنهج الإسلام في وظيفة المرأة ولعلي أمضي بكم إلى ساحة أخرى أريد منها أن أؤكد أن هذا المعنى مهم ومعترف به حتى عند غير المسلمين من العقلاء والحكماء؛ لأن بعضاً من أبناء جلدتنا قد التوت أعناقهم فلا يرون إلا جهة الغرب، ولا يرون إلا المجتمعات المتحضرة كما يقولون، وربما لا تكاد آذانهم تصغي أو تسمع إلا لقول أولئك ولا ترى النموذج والقدوة إلا في أفعالهم وأحوالهم. أما وقد أصبح ذلك حال بعضهم فلا حرج أن ننقل لهم أقوال القوم وأحوالهم، لنريهم بعض ما يعيدهم إلى رشدهم وصوابهم، هذه كلمات ومواقف ينبغي أن نلتفت إليها، وسأذكر من بعد منهجاً عظيماً نحتاج إليه وإلى التذكير به. أول ذلك ما ذكرته زوجة لأحد رواد الفضاء الأمريكيين السابقين وقد كانت ربة منزل، ليست موظفة ولا عاملة، وإنما مهنتها كما نكتب في مهن بعض أزواجنا ربة بيت، وبعض نسائنا اليوم تطأطئ رأسها خجلاً إن سئلت ما هو عملك؟ وكأن هذه المهمة أصبحت شيئاً يستحيا منه، أو مرتبة لا تريد المرأة أن تكون فيها، مع أنها أسمى المراتب وأعلاها، وأعظم الوظائف وأكثرها أهمية وجدوى، حتى من الناحية الاقتصادية تقول هذه المرأة الغربية: أنا مسرورة جداً ببقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي، حتى في الأيام العصيبة التي كنا فيها في حاجة إلى المال لم يطلب مني زوجي أن أعمل، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر حاجاتنا الضرورية إن قل المال، لا تأكل هذا النوع وكل هذا، ولا تركب هذه السيارة واركب هذه، يمكن تدبير الأمور قالت: ولكننا لا نستطيع أن نربي أبناءنا إذا أفلت الزمام من يدنا. إن لم يكن في بيتك أم مربية فما هو البديل؟ خادمة! هي لم تحمل هذا الطفل في رحمها، ولم تعانِ في ولادته، ولم تكن يوماً مرضعته، ولا يهمها شأنه، ولا يعنيها مستقبله، ولا تنتمي إلى مجتمعه، بل ربما لا تنتمي إلى دينه ومعتقده. أو ما هو الحل الآخر؟ أن يسرح الأبناء إلى مؤسسات هنا أو هناك كما هي في مجتمعات الغرب، تكون كما يقول الرافعي رحمه الله للعشرين منهم أم واحدة، هذه موظفة ليست أماً، فلا تعطيهم شيئاً من معاني الأمومة فضلاً عن أن تمنحهم شيئاً من معالم التربية. البدائل قضية مهمة، فقد نستطيع أن نسد ثغرات هنا أو هناك، الأعمال والوظائف فيها رجال ونساء، إن تخلينا أو اضطررنا إلى التخلي عن امرأة في مكان ما فلسنا عاجزين عن أن نأتي بغيرها من الرجال أو النساء بحسب الحال، لكنك إن لم تجد في بيتك أماً مربية هل يمكن أن تكون أنت أيها الرجل أماً مربية، خاصة في سن الصغر؟ هل يستطيع رجل واحد أن يحتمل البقاء مع طفل في الثانية أو الثالثة من عمره أكثر من ساعة أو ساعتين دون أن يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور ويصيح ويضيق، فإنه لم يخلق لذلك، ولم يكن في نفسه وفكره وطبيعته لذلك، بينما هو يستطيع أن يحتمل الصعاب، وأن يرابط الأوقات الطويلة في عمله دون كلل أو ملل؛ لأن الله جل وعلا قد ركبه وخلقه على هيئة تصلح لذلك. ومن هنا أيضاً نقول من مقالات بعض القوم: المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدي عمل عامل بسيط، ولكنها لا تؤدي عمل امرأة، فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد جعلها في هذه المرأة مناسبة لهذه المهمة، أولاً في الأصل الخلقي الطبعي هل رأيتم في حياتكم رجلاً يحمل ويلد؟ وإن كنا نقرأ أحياناً من الطرائف والعجائب والغرائب ما يكتب في بعض الصحف مثل هذا، ولست واقفاً عنده، لكنني أقول: كل الناس حتى الذين يرتقون إلى أعلى الدرجات في المطالبة بالمساواة لم نسمع عن أحد منهم أنه طالب أن يساوى الرجل بالمرأة في الحمل والوضع والولادة، لماذا؟ لو كان من الناحية النظرية لدعوا إلى ذلك وطالبوا به، لكن هذا محال لطبيعة الخلقة، فإذا سلموا في هذا فلماذا لا يسلمون في طبيعة الفطرة والخلقة فيما وراء ذلك؟! يقول أحد الغربيين أيضاً: إن الرجل يبحث عن المرأة تعمر البيت بوجودها وحركتها وعملها، وليست المرأة التي تملأ المعامل والمصانع والمكاتب والشوارع، وتخلف وراءها بيتاً يفترسه الضياع والفساد بوسائله المباشرة وغير المباشرة.

بر الأم من الجهاد

بر الأم من الجهاد ومن أظهر ذلك وأبلغه ما رواه أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني لأشتهي الجهاد ولا أقدر عليه -أي: ربما كان من أهل الأعذار- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج، ومعتمر، ومجاهد، فإن رضيت عنك فاتق وبرها) ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط والصغير ورجالهما رجال الصحيح، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، وقال: إسنادهما جيد. ومثل ذلك وأظهر منه حديث معاوية السلمي رضي الله عنه، قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن له أماً تحتاج إليه: ارجع إلى أمك فالزمها، قال: فجئته من قبل وجه آخر، فقلت: يا رسول الله! إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فقال: الزم أمك، فقلت له ثالثة، فقال: ويحك الزم رجلها فثم الجنة) رواه النسائي وابن ماجة في سننهما بسند صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ذلكم أن الجنة تحت أقدام الأمهات. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فقال في سياق حديث طويل: (ودخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: قراءة من هذه؟ فقيل لي: قراءة الحارث بن النعمان فقال: كذلكم البر! كذلكم البر! وكان الحارث من أبر الناس بأمه) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. ومن هنا ندرك أن هذا المقام الجليل، والمكانة الرفيعة، والوجوب الشرعي لبر الأم إنما هو تقدير لدورها العظيم ورسالتها السامية، واعتراف بأثرها البليغ في قوة الأمة، ومكانة أجيالها، وصنع أسباب المناعة والحماية والوقاية من الآثار السيئة، ومن الشرور والأضرار الوخيمة.

تقديم حق الأم على حق الأب

تقديم حق الأم على حق الأب ووقفتنا الأولى: ومضة سريعة في المكانة والأهمية التي جعلها إسلامنا للأم، ولدورها الرائد في التربية. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] قال ابن عطية في تفسيره: ذكر الله الأم في هذه الآية في أربع مراتب، والأب في مرتبة واحدة، وجمعهما الذكر في قوله تعالى: (بوالديه) ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها، ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال، وهذا يناسب ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، وللأب الربع، وذلك حين جاءه الرجل فقال: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك). وهذا أمر بين واضح ودور فطري خلقي أراده الله عز وجل لكمال البشرية، ولحسن انتظام الحياة في هذه الدنيا، وروى الترمذي: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم قال: فبرها) أي: ذلك طريق توبة وتكفير ذنب.

الهجوم الغربي على الأسرة الإسلامية

الهجوم الغربي على الأسرة الإسلامية وأكمل لكم الثالثة في بيان الأهمية والخطورة، فإن هذا الدور إذا اختل ليس مجرد مناقض للفطرة، وليس مجرد أمر لم نستطع أن نجد له بديلاً، ولكنهم كذلك وضعوا هنا خطوطاً حمراء هي أحد المقاتل الخطيرة التي تضعضع كيان مجتمعاتنا الإسلامية، ويوشك أن يعيث من خلالها الفساد في ديارنا، ومن هنا فإن النقطة الثالثة هي الهجوم العظيم المتنامي على الأسرة عموماً وعلى المرأة خصوصاً، وعلى دور الأم المربية بشكل أخص، البروتوكولات المنسوبة إلى اليهود يقولون فيها: سوف ندمر الحياة الأسرية بين الأميين -أي: غير اليهود- ونفسد أهميتها التربوية. ولما علم أولئك القوم أن سراً من أسرار قوتنا وترابطنا، واستعصاء أجيالنا على مخططات التدجين والتهويد إنما هو إلى أولئك الأمهات العظيمات المربيات قالوا: لا بد أن نلغي دور هذه الأم المربية، والزوجة الراعية، والبنت الحانية، وأن نصدع هذه اللبنة القوية المتماسكة. وأنتم تعلمون كم تعقد الأمم المتحدة من المؤتمرات التي تحشد لها الأمم من شرق الأرض وغربها، وأي شيء تريد منها! عناوين كذابة، وشعارات براقة، ومضامين فاسدة ومفسدة للصحة الإنجابية أي: كيف تمارس المرأة كل أنواع الفسق والفجور والزنا والخنا، ثم تكون هناك بعض التعليمات والتوجيهات للوقاية من الأمراض، وماذا يقولون؟ كثير من الكلام تعلمونه. لماذا كل هذا الجهد المبذول والتخطيط المتتابع منذ عقود والأموال المصروفة المبذولة؟ واليوم الدعوات التي نسمعها لإصلاح المجتمعات العربية والإسلامية، وفي مقدمة هذا الإصلاح وضع المرأة كما يقولون ويروجونه وفق تصوراتهم، ومناهجهم، وآرائهم وأحوالهم.

المؤهلات الخلقية والفطرية للمرأة في التربية

المؤهلات الخلقية والفطرية للمرأة في التربية هذه قضية مهمة لعلي أقف وقفة لا بد لنا أن نعيها نحن معاشر المسلمين: المؤهلات الخلقية والفطرية للمرأة في التربية:

القرب والملابسة

القرب والملابسة وأخيراً: القرب والملابسة: من الأقرب إلى الأبناء؟ بل من الأقرب إلى الأزواج؟ من الأعرف بطبائعهم؟ من الأقدر على اكتشاف أسرارهم؟ أليست الأم هي التي تعرف ماذا يحب هذا وماذا يحب ذاك من الطعام والشراب؟! أليست هي التي تغسل الملابس وتعرف ما قد يكون فيها؟ أليس الأبناء أحياناً وإن كبروا يسرون بأسرارهم ومشكلاتهم إلى أمهاتهم؟ لماذا؟ لأن هذه طبيعة حانية، ولأنه استقرار في كل وقت يجده، يبحث عن أبيه فمرة في شرق، ومرة في غرب، وإذا كلمه وجد صرامة الوجه، وتقطب الجبين، والشدة التي يعرفها لا تناسب ذلك، لا يعني ذلك أنه ليس للأب من دور في التربية، ولكننا نذكر الدور الأساس في المراحل الأولى، وتبقى للأم أدوار مستمرة، فكل رجل مهما بلغ من الكبر فهو طفل عند أمه، لا يكبر الإنسان على أمه أبداً. هذه التربية! هذه الأم! هذا الدور لا بد أن نعني به وأن نحرص عليه؛ لنؤمن بيوتنا، ولنعد أجيالنا. نسأل الله عز وجل أن يحفظ نساءنا وزوجاتنا وأمهاتنا ومجتمعنا من كل الشرور والمفاسد، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخصائص النفسية

الخصائص النفسية أولها: الخصائص النفسية: فإن المرأة مجبولة على العاطفة الفياضة، والحنان المتدفق، ألا ترون ذلك فيما صورته أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يبين هذه العاطفة، وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً وقد كان يمر ببعض الأسرى وامرأة تأخذ وليدها فتضمه إلى صدرها فيقول: (أرأيتم هذه طارحة ولدها في النار؟! قالوا: يا رسول الله! هي أرحم به من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بكم من هذه بولدها) لكنه أراد أن يبين أن الرحمة الإنسانية في أعلى صورها إنما هي عند المرأة الأم. وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي كان من أقضية سليمان عليه السلام، وهو أن امرأتين تنازعتا في طفل، كل واحدة تدعي أنها أمه -فبأي شيء حكم؟ - قال: أحكم بأن يشق نصفين، فتعطى كل واحدة نصفه، ولم يكن يريد أن يكون هذا حكماً منفذاً؛ لكنه عندما قاله قالت إحداهما: لا تفعل، هو لها وهي أمه، فهل أقرت بهذا على أن تلك أمه؟ كلا، بل حكم لها بأن تأخذ هذا الابن؛ لأنه أثبت أن رحمتها به آثرت حياته ولو كان بعيداً عنها، فأيقن أنها أمه، هذه الصورة من الرحمة والعطف والحنان كيف ينشأ الأطفال إذا حرموا منها؟! لماذا تشكو المجتمعات الغربية اليوم ممن يسمونهم (التن إيجرس) الذين هم أبناء ما فوق العاشرة والعشرين؟! لماذا ترون هناك أبناء الخامسة عشرة وهم ينفذون جرائم قتل كاملة؟! إنهم لم يجدوا حناناً ولا عطفاً من الأم، عاشوا في بيئة صحراوية من المشاعر والعواطف، عاشوا في بيئة ليست مستقرة في ظلال الأسرة الوارفة، فخرجوا إلى المجتمع أشراراً لا يبغون فيه إلا فساداً. وانظروا إلى الصبر والاحتمال، وهو من الطبيعة النفسية عند المرأة على الصغار كما قلت من قبل، هذه أم طفل ترضعه، وآخر يحبو تنتبه له، وثالث يدرج توجهه، وتعيش في هذه المملكة ما لو عاشه الرجل كما قلت ساعة واحدة لكاد أن يساق إلى مستشفى المجانين، كيف ذلك؟! لأن الله جعل لها صدراً رحباً، واحتمالاً عظيماً في هذا الباب ليس له نظير.

طبيعة الاستقرار في المرأة

طبيعة الاستقرار في المرأة الأمر الثاني وهو مهم كذلك: طبيعة الاستقرار في المرأة: والقرآن العظيم والمنهج الإسلامي القويم يتطابق مع أصل الخلقة والفطرة: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات:20 - 21] الرحم قرار يستقر فيه كل واحد منا، فقد استقر فيه تسعة أشهر، هل لأحد منكم أن يدعي: أنه لم تكن له أم حملته ووضعته وأرضعته وغذته ورعته وربته؟! هذا الاستقرار هو من طبيعة المرأة، ولذلك حتى المرأة العاملة هل تبقى في البيت وقتاً أطول من زوجها أو لا؟ نعم. لماذا؟ لأن في طبيعتها الاستقرار، ومن هنا جاء التوجيه الرباني: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] ليس ذلك تحريماً للخروج أو العمل في صورته الشرعية، ولكنه ذكر للطبيعة المناسبة للمرأة تغليباً، ولذلك انظروا إلى الرجال ألا ترونهم في أيام العطل والإجازات إذا بقي أحدهم في بيته لم يستطع أن يبقى إلا جزءاً من الوقت ثم يخرج؛ لأنه ليس من طبيعته الاستقرار، بل هو متنقل مرتحل عامل متغير، هذه طبيعة الكد والكدح والسير في هذه الحياة: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11]، وهذا ضرب آخر يتناسب مع الرجل، فإذاً: طبيعة القرار والاستقرار جعلها الله لتكمل بها هذه الحياة.

دور الأم الفلسطينية البطولي

دور الأم الفلسطينية البطولي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من الأمور المهمة: العناية بدور الأم وتربيتها لأبنائها، ولعلي أشير هنا إشارات لا بد من ذكرها والتنبيه عليها، وهي لفت نظر إلى الأمهات العظيمات المربيات في أرض فلسطين، ما الذي أخرج لنا هذا الجيل من الشباب الصغار في مقتبل العمر يكشفون صدورهم للرصاص ومدافع الدبابات وقصف الصواريخ، وهم يبتسمون ويجددون قول أسلافنا: الله أكبر فزت ورب الكعبة؟! ثم نرى من بعد الأم وهي تقول: لا تعزوني ولكن هنئوني بشرف استشهاد أبنائي، ألم نر ذلك؟! ألم نعرف أن هذه القوة التي تواجه اليوم ألد أعدائنا وأحقرهم وأذلهم من اليهود عليهم لعائن الله إنما كان الدور العظيم بعد فضل الله عز وجل وأدوار أخرى لأولئك الأمهات؟ ألسنا نعرف أن قوة الإنجاب وكثرته في أرض فلسطين أحد الأسلحة العظيمة التي تقلق أعداء الله عز وجل، ثم يقال لنا: قللوا نسلكم، وأخرجوا نساءكم، وضيعوا أجيالكم، ومن بعد سوف تضيع كلمتكم وتذهب ريحكم. أمثلة عظيمة نراها وتؤكد لنا هذا المعنى، ونحن وإن كنا نألم ونحزن لما يجري في أرض العراق وفي فلسطين ونتفاعل معه في الخطب، لكننا كذلك نحتاج إلى أن نقف وقفات عملية لنؤدي دورنا ونقوم بواجبنا، أحد الكتاب يقول مقالة قوية معبرة: إن دور الأم في التربية أعظم من دور الثورة، نحن نريد ثورة على الظلم لإقرار العدل، وعلى الذل للتحلي بالعز، نحن نريد ثورة نغير بها الواقع في حياتنا، وإن من أعظم أسباب هذه الثورة دون أن تكون ثورة حمراء، ودون أن تكون ثورة في مبتدئها ثورة دماء، ودون أن تكون رعونة رعناء؛ هو دور التربية، ومفتاح التغيير، ومصدر القوة، وإن أسلحة التربية في الأجيال المؤمنة أعظم وأفتك من الأسلحة الذرية وأسلحة الدمار الشامل التي يكذبون على الناس بوجودها، ويعرفون أن حقيقة قوتنا في إيماننا وإسلامنا، وتربية أجيالنا، فيحاربوننا في مكمن قوتنا، ودعك من غير ذلك من الأضاليل والأكاذيب، وإلا فلماذا هذه الدعوات من الديمقراطيات والإصلاحات وغيرها من المغالطات التي يروجونها وفق المنظور الغربي والحضارة الغربية. وأقول: أيها الإخوة! إن هذا المعنى مهم جداً، ونحن عندما نقول ونتحدث في هذا فلسنا نتحدث بعيداً عن واقعنا، ولسنا لا نعي ما يجري حولنا، ولكننا نريد أن نكون أصحاب عمل، وقد قلنا من قبل في حديث مستفيض عن خطة الإصلاح ومنهجه في القرآن ومبدئه من قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] وهذا الذي نتحدث عنه حديثاً مهماً مكملاً لهذا الدور العظيم الذي عبر عنه شاعر العراق الرصافي بقوله: ولم أر للخلائق من محل يهذبها كحضن الأمهات فحضن الأم مدرسة تسامت بتربية البنين أو البنات وأخلاق الوليد تقاس حسناً بأخلاق النساء الوالدات وليس ربيب عالية المزايا كمثل ربيب سافلة الصفات وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في فلاة فاعلم أن هذا الابن والشاب إذا كان صالحاً فإن وراءه في الغالب أماً مربية صالحة، ولقد كان القاسم وإبراهيم يدخلان على عائشة رضي الله عنهما من التابعين، وكان أحدهما في لسانه لكنة يلحن في العربية فقالت: (قد علمت من أين فصاحة هذا وعجمة هذا، هذا ربته أمه، وذاك ربته أمه) وكانت أمه أعجمية ليست عربية فبقي أثر تربيتها إلى أن صار رجلاً عظيماً عالماً إلا أن بعض الأثر ما زال ظاهراً، ولذلك مقولة عظيمة تقول: إذا علمت رجلاً فقد علمت فرداً، وإذا علمت امرأة فقد علمت جيلاً. نسأل الله عز وجل أن يحفظ بيوتنا وأبناءنا وبناتنا من كل الشرور والمفاسد، وأن يعطينا الزوجات الراعيات، والأمهات المربيات، والبنات الحانيات. نسأله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا بكتاب الله مستمسكين، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم معتصمين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم طهر قلوبنا وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، ولا تبلغهم اللهم غاية، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، يا قوي يا عزيز يا متين؛ يا منتقم يا جبار يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك لطفك ورحمتك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، ووفر أقواتهم، وأدم عزهم، ووفر أمنهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم إنا نسألك أن تثبت أقدامهم، وأن توحد صفوفهم، وأن تقوي شوكتهم، وأن تسدد رميتهم، وأن تنصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العلمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون!

الوصايا الربانية [1]

الوصايا الربانية [1] في سورة الأنعام ثلاث آيات توصي بأصول الفضائل، وتحذر من أصول المحرمات والرذائل، وأول ذلك الأمر بالتوحيد والتحذير من الشرك بالله عز وجل، وذلك رأس الوصايا؛ لأنه لا فلاح إلاّ بعد تحقيق التوحيد، والبراءة من الشرك وأهله.

أهمية الوصايا الربانية

أهمية الوصايا الربانية الحمد لله جعل في الإيمان أمناً وأمانة، وفي الإسلام سلماً وسلامة، وفي القرآن رحمة وهداية، وفي الشرائع حكمة ووقاية، له الحمد سبحانه وتعالى لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! معاشر المسلمين! وقفات ستتوالى -بإذن الله عز وجل- مع وصايا في غاية الأهمية، أبدؤها بلفت النظر إلى أهميتها، فقد روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قال: (من يبايعني على هذه الآيات وتلا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] إلى آخر الثلاث الآيات، ثم قال صلى الله عليه وسلم: فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص شيئاً أدركه الله به -أي: في الدنيا- كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة كان أمره إلى الله؛ إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه مقالة عظيمة، تكشف عن أهمية ما نقف معه من هذه الوصايا القرآنية حيث قال: (من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151])، إنها وصية مختومة ممهورة بختم ومهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر القرطبي هذه الرواية عن غير ابن مسعود وقال فيها: (وعليها خاتمه الذي لم ينفك). فهذه الوصية التي وجهها الحق جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلت خطاباً وتوجيهاً لأمته، هي التي رأى الصحابة أنها خلاصة تلك الوصية، وخلاصة تلك الديانة العظيمة والشريعة الكاملة التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهمية آيات الوصايا العشر في سورة الأنعام

أهمية آيات الوصايا العشر في سورة الأنعام

قطع للعذر وإقامة للحجة

قطع للعذر وإقامة للحجة وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب). وذكر ذلك القرطبي نقلاً عن ابن عباس بقوله: (الآيات المحكمات التي ذكرها الله جل وعلا في آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ في ملة قط)، أفليس مثل هذه الوصايا حري بنا أن نعنى بها؟ وهي آيات تتلى في كتاب الله عز وجل، وهداية وجهت لخير الخلق عليه الصلاة والسلام، ولذا فإننا نقف معها هذه الوقفات المتتاليات، نسأل الله عز وجل أن يفتح علينا في معانيها، وأن يوفقنا لحسن قبولها والعمل بها. قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما ذكر القرطبي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما حرم الله عليهم، قال: وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم وما أحل، لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، فما نقوله اليوم يكون حجة لنا أو علينا، فإن امتثلنا وعملنا، وإن بلغنا ودعونا وذكرنا كان ذلك نوراً على نور، وهدىً على هدىً، وتقىً على تقىً، وإن كانت الأخرى فقد قامت الحجة، وانقطع العذر، وصار الأمر إما إلى عقوبة معجلة أو مؤجلة، أو إلى رحمة من الله واسعة، نسأل الله عز وجل من فضله.

خطاب للمسلمين غير المسلمين

خطاب للمسلمين غير المسلمين وثمة أمر آخر: وهو الخطاب الذي يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم، ويوجهه من بعده من حملة رسالته وأتباع سنته، فقوله: (قُلْ تَعَالَوْا) هذا النداء للخلق جميعاً، ويخص المسلمين وغير المسلمين معاً، فإن هذا النداء هو نداء هذه الشريعة الخاتمة، والرسالة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم. وما سبق من هذه الآيات يبين لنا حكمة وضع هذه الآيات في هذا السياق؛ وذلك أن الآيات السابقة كانت تخاطبنا عن المشركين من أهل الجاهلية، وعن أفعالهم الشنيعة التي أحلوا فيها ما حرم الله، وحرموا فيها ما أحل الله؛ اتباعاً لأهوائهم، وتقريراً لأعرافهم، وتثبيتاً لجاهليتهم، ومن هنا جاء الخطاب الرباني في مواجهتهم قبل هذه الآيات والوصايا بقوله سبحانه: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150]، فأولئك حرفوا وبدلوا وغيروا، فجاء النداء لتصحيح المسار، فإنه لا حلال إلا ما أحل الله، ولا حرام إلا ما حرم الله، ولا شرع إلا ما جاء عن الله أو بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فليس هناك اختيارات، وليس هناك أنواع من الأهواء التي تقدم شيئاً أو تؤخره، وإلا كان ذلك ضرباً من مناقضة أصل الإيمان، ومخالفة صفاء التوحيد، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أي: يقبلوا قبولاً تاماً من أعماق قلوبهم ونفوسهم دون أدنى شك، ولا أقل حرج، ولا أيسر معارضة، ولا شيء مما فيه ضرب من الاعتراض بحال من الأحوال. ولذلك جاء هذا الخطاب وهذه الوصية التي أمر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ لتبين لنا جملة الأمور المهمة، كما روي عن ابن عباس: أن هذه الوصايا قد أجمعت عليها الشرائع كلها، ولم ينسخ منها شيء قط، وأنها خلاصة هذا الدين وجوهره، وأن بها العصمة من كل زلل، ومن كل فتنة، ومن استمسك بها فقد أدى ما عليه، وقد وفّى لله جل وعلا بما أمره به ونهاه عنه، وبعد ذلك فمن قصر أو فرط فحسابه على الله عز وجل.

بيان لأصول المحرمات وأصول الفضائل

بيان لأصول المحرمات وأصول الفضائل ومن هنا فإن هذه الآيات والوصايا تشتمل على أصول المحرمات في الأقوال والأفعال، وأصول الفضائل وأنواع البر، فهي تجمع ما نهي عنه وما أمر به من الكليات التي تستقيم بها الحياة، ابتداءً من اعتقاد القلب ويقين النفس، وانتهاءً بفعل الجوارح والسلوك، ومروراً بألفاظ اللسان وأقواله، وتعريجاً على العلاقات والصلات والمعاملات والأحكام والتشريعات، فهي شاملة لذلك كله، ففيها قوام الدين كله؛ لأنها تشتمل على جوهر هذا الدين العظيم. أما المتبعون لأهوائهم الذين يقدمون الظنون على الحقائق، والذين يحللون ويحرمون بحسب أهوائهم، فقل لهم: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، فإن الذي يحل ويحرم إنما هو ما ثبت في الوحي وجاء به الشرع الكريم، ونطق به الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.

أحوال السلف في تلقي الوصايا الربانية

أحوال السلف في تلقي الوصايا الربانية ولقد كانت استجابة الأصحاب في زمن المصطفى عليه الصلاة والسلام للشرع استجابة فريدة نادرة، ذلك أنه قال لهم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، فكانت استجابتهم ليست مقتصرة على مجرد امتثال الأمر واجتناب النهي، بل المبادرة إلى ذلك كانت بالفعل سبقاً وحرصاً ومبالغةً عند بعض الناس في بعض الأحوال، كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يحرص على اقتفاء السنة واتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان ينيخ ناقته حيث أناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته، وحتى يستظل في سفره بالشجرة التي استظل النبي تحتها، فكان لا يدع شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا حرص أن يترسم فيها خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قال ما قال، وجاءه بعض الناس بأقوال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!) ليبين أن المعقد إنما هو في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الأقوال إنما تفهم في ضوئهما، وترجع إليهما، وتنطلق منهما، وما وافقهما فهو الحق، وما خالفهما فربما كان اجتهاداً وقع فيه خطأ. وهكذا نرى من جهة أخرى جانب الانتهاء عندهم عن التحريم، فلقد كان الصحابة رضوان الله عليهم كما وصفهم الحسن رضي الله عنه بقوله: كانوا يدعون بينهم وبين الحرام سبعين باباً من الحلال. أي: كانوا يتقون الشبهات، ويبتعدون عن المحرمات بعداً عظيماً؛ لما سيأتي ذكره في هذه الآيات والوصايا، كما في قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام:151]، أي: اجعلوا بينكم وبينها مسافة؛ ولأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه). وكم هي أقوالنا اليوم: هذا لا بأس به، وهذا ليس فيه شيء، وهذا من المكروهات، فما زلنا نفعل هذا، ونغض الطرف عن هذا، ونقع في هذا، حتى وقعنا في جملة أحوالنا في كثير من المحرمات إلا من رحم الله عز وجل. روى البخاري في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث إلى أصحابه يوماً وفي يده حرير وذهب، وقال: هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها، وكان في القوم رجل في يده خاتم من ذهب، فنزعه من فوره فوضعه، فلما انتهى المجلس قالوا له: لو أخذت خاتمك فانتفعت به، فقال: ما كنت لآخذه وقد طرحته لله ولرسوله)، أي: مع حل ذلك، لكنهم كانوا يريدون ألا يكون بينهم وبين شيء من النهي صلة ولا تعلق. ولما نزل قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] لم تبق لحظة واحدة ولا دقيقة واحدة قبل التنفيذ، بل كانت المبادرة التي شقت فيها دنان الخمر، وسكبت الكئوس من الأيدي، ومجت تلك القطرات من الأفواه؛ لأن القلوب مسلمة لأمر الله؛ ولأن الإيمان مستكن ومستقر فيها، ولسان حالها كما قال جل وعلا: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]. هذه الآيات موجهة لهذه الحقيقة الكبرى وفي ظلالها، وبعدها الآيات التي فصلت فيما كان عليه أهل الشرك والجاهلية في زمان مضى، وهي كذلك في جاهلية اليوم وأزمنة العصر الحاضر تختلف صورها، وتختلف مظاهرها، لكن تتحد حقائقها، وتتفق أصولها في مناقضتها ومخالفتها لأمر الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. وجملة هذه الوصايا فيها قيام الحياة كلها؛ ففيها قيام حياة القلوب بالتوحيد والإيمان، وقوام حياة الأسرة بالبر والإحسان، وقوام حياة المجتمع بالعفة والطهارة، وقوام حياة الإنسانية بالعدل والوفاء، فالإسلام العظيم يربي الفرد، ويقيم الأسرة، ويطهر المجتمع، ويظل الإنسانية بعدالته؛ لأنه دين كامل، وتشريع عظيم. هذه الوصايا موجزة في ثلاث آيات فحسب، اشتملت على جملة من المأمورات والمحظورات التي بها تستقيم حياة الناس جميعاً مسلمهم وغير مسلمهم؛ فإن الإسلام جاء بالعدل والإنصاف، والوفاء بالحقوق، وإعطاء الناس ما لهم، ومطالبتهم بما عليهم.

من الشرك تحكيم القوانين الوضعية

من الشرك تحكيم القوانين الوضعية وحقيقة الشرك بالله كما يقول السعدي في تفسيره: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظمه كما يعظم الله، أو يصرف له شيئاً من خصائص الألوهية والربوبية، وهكذا الذين يعظمون غير الله تعظيماً يشابه تعظيمهم لله، فيخضعون لهم، ويوافقونهم، ويتابعونهم، ويقرون لهم بما يخالفون به شرع الله عز وجل، فإنه يصدق فيهم قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. ثم نبين بعد ذلك أمراً مهماً، وهو ما يتعلق بصور كثيرة من معارضات هذا التوحيد التي -وللأسف الشديد- فشت وانتشرت في ديار الإسلام إلا ما رحم الله، ولعل أبرزها ما قلنا إنه متصل بهذه الآيات في معناها، وهو تحكيم غير شرع الله، والرضا بحكم غير حكم الله، أو النظر إلى حكم الله وتشريع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح لهذا الزمان، ولا يتناسب مع هذا العصر، وأنه ينبغي لنا أن نغير ونبدل ونحسن؛ حتى نظهر أمام المجتمعات الدولية بمظهر حضاري كما يقال. ولست أريد أن أتحدث من تلقاء نفسي، فكلام علماء الإسلام في القديم كثير، أكتفي منه بنزر يسير، وأنقل لكم بعض أقوال علماء العصر في هذا الزمان، سواء من مات منهم أو من بقي؛ لنرى أن القضية ليست قضية تشدد أو تطرف كما يقال، بل هي قضية دين حق: آيات تتلى، وأحاديث تروى، ومفاهيم واضحة، ومعاقد عقدية فاصلة ينبغي أن تكون واضحة. قال الجصاص رحمه الله في هذا المعنى: من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة. ويقول ابن تيمية رحمه الله: الإنسان متى أحل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه، كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء. إذاً: فخطئوا فقهاء الإسلام كلهم، وخطئوا إجماع الأمة كلها؛ لتقولوا لنا: إن مثل هذا القول يدخل في هذا الباب أو ذاك الباب، أو هذا التصنيف أو ذاك التصنيف. ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقاً: إن من الكفر الأكبر المستبين: تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، ثم ذكر القوانين الوضعية فرنسية وبريطانية مما يحكّم أو يحكم به في بعض ديار الإسلام. وقال ابن باز رحمه الله المفتي السابق: قد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو أن غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر. كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج على شريعة محمد أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال، وكم نسمع اليوم من يأتينا بأمثلة قد ذكرها أيضاً علماء العصر! فقد ذكر الشنقيطي هذا الحكم، فقال: الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على لسان أوليائه، مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله، لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم. ثم ضرب لنا أمثلة فقال: كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، بل يلزم استواؤهما في الميراث، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوها أعمال وحشية لا يسوغ فيها بالإنسان، ونحو ذلك. وأظننا جميعاً نعلم أن مثل هذه المقالات تقال، وتكتب في الصحف، وتسمع في الإذاعات، وترى في المقابلات على الشاشات، ويتحدث بعض الناس فيها على أنها سجال ورأي وحرية فكر! ولا يفرقون بين حرية فكر وحرية كفر تنقض الدين من أصوله، وتأتي على مناقضة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأختم بقول لشيخ الأزهر سابقاً محمد الخضر حسين يقول فيه: أما أن تفعل البلاد الإسلامية ما فعلته البلاد الغربية من تجريد السياسة من الدين، فهو رأي لا يصدر إلا عمن يُكِن في صدره أن ليس في الدين من سلطان على السياسة، وهذا ما يبثه فئة يريدون أن ينقضوا حقيقة الإسلام من أطرافها؛ حتى تكون بمقدار غيرها من الديانات الروحانية التي فصلها أهلها عن السياسة، ثم صبغوا هذا المقدار بأي صبغة أرادوا، فيذهب الإسلام، فلا القرآن نزل، ولا محمد صلى الله عليه وسلم بُعث، ولا الخلفاء الراشدون جاهدوا في الله حق جهاده، ولا الراسخون في العلم سهروا في تعرف الأصول من مواردها، وانتزاع الأحكام من أصولها. هذه أقوالهم تقول: إن من يقول ذلك ينقض عرى الإسلام، ويخلخل قاعدة التوحيد والإيمان، نسأل الله عز وجل السلامة، ونسأل الله عز وجل أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يجعل توحيدنا خالصاً لوجهه الكريم، سالماً من كل شرك وشبهة ورياء، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب الإيمان بالله عز وجل وتوحيده

وجوب الإيمان بالله عز وجل وتوحيده قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151]. فأول الأمر وبدايته: الإيمان بالله خالصاً له سبحانه وتعالى، والتوحيد له نقياً من كل شائبة، ولعلنا هنا نقف وقفات عديدة؛ لأن الناس يتصورون الشرك في تلك الأصنام التي كانت حول الكعبة في مكة، ويتصورونه فيمن يسجد لتلك الأصنام أو يذبح لها، ويقتصر فهمهم على مناقضة التوحيد أو خالطه بغير ما هو منه. ولذلك ينبغي أن ننتبه إلى أن القرآن في هذه الوصايا بدأ بأكبر المحرمات وأفضعها وأشدها إفساداً للعقل والفطرة، وهو الشرك بالله تعالى، سواء كان الشرك باتخاذ الأنداد له جل وعلا، أو باتخاذ شركاء يُرى أنهم يشاركونه في تصريفه للأمور وتدبيره لها، أو اتخاذ شفعاء يكونون عنده وسطاء، أو اتخاذ تشريع وحكم غير تشريعه وحكمه الذي أنزله في كتابه وبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم. فكل شيء وكل ضرب من ضروب الشرك ينبغي أن يكون في قائمة أعظم المحرمات المنهي عنها؛ إذ التوحيد قاعدة بناء الإسلام، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]؛ لأنه عمل على غير إيمان، ولأنه عمل من غير توحيد، قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. إن أمر توحيد الله عز وجل عظيم؛ ففيه الاعتراف بربوبية الله جل وعلا خلقاً وتدبيراً، والاعتراف بألوهيته سبحانه وتعالى خضوعاً وتعبداً، والاعتراف بأسمائه وصفاته تعظيماً وإجلالاً، إنه يشتمل على كل مشاعر القلب التي تخرج منه كل تعلق بغير الله، وكل رجاء في غير الله، وكل خوف من غير الله، وكل ذل لغير الله عز وجل؛ ليبقى موحداً قوياً في صلته بربه سبحانه وتعالى، وليبقى حينئذ مقراً بخلق الله وتدبيره ورزقه وإحيائه وإماتته وتصريفه لكل أمر، وليبقى عالماً بأن الذي أنعم ينبغي أن يعبد، وإذا عبد ينبغي ألا يشرك معه غيره، وإذا كانت له أسماء وصفات فليس له معها ولا بها ولا فيها أحد يشابهه، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. إن امتلاء القلب بهذه الحقيقة هو أساس هذا الدين كله، وهو الذي طهر محمد صلى الله عليه وسلم منه قلوب وعقول الكافرين والجاهليين، فأصبحوا من خلص أصحابه رضوان الله عليهم، وأصبح عندهم صفاء في توحيدهم، وقوة في يقينهم، ورسوخ في إيمانهم، وتجرد في إخلاصهم، وعظمة في تقواهم، وصدق في توكلهم، وقوة في ثقتهم بالله عز وجل، وعظمة في حبهم له، وشدة في خوفهم منه سبحانه وتعالى، وذلك هو جوهر الإيمان والتوحيد، وليس مجرد كلمات تقال فحسب، وليس مجرد اتباع للأوامر فحسب، بل هو ذلك الشعور الذي يستقر في سويداء القلب، وفي أغوار النفس، فيملك على الإنسان كل مشاعره، وكل خواطره، وكل أقواله، وكل أفعاله، وكل أحواله، فيكون في كل حركة وسكنة وكلمة وسكتة يعبر عن صلته بالله عز وجل وتوحيده له سبحانه وتعالى.

الوصية بالتوحيد والتحذير من الشرك

الوصية بالتوحيد والتحذير من الشرك وقوله عز وجل: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] الآيات، فيها أوامر، وليست كلها محرمات، ولذا قال المفسرون: إن ذكر أصول المحرمات يدل على ما يقابلها من المباحات، وإن الله نوّع بين نهي عن محرم وأمر ببر وواجب؛ ليشتمل ذلك على هذا وذاك كل بحسبه في بلاغة القرآن المعجزة، فبماذا كانت البداية؟

التحذير من بعض مظاهر الشرك الموجودة في واقع الأمة

التحذير من بعض مظاهر الشرك الموجودة في واقع الأمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجرين إلى جنات النعيم نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أوصيكم أحبتي الكرام! بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولنعلم أن هذه الوصية أول ما بدأت بالتحذير من الشرك بالله عز وجل؛ وذلك لأنها مفتاح لما يريد الله عز وجل من الخير لأهل الإيمان والتوحيد؛ لأن الإيمان والتوحيد هو أساس الأمر ومبدؤه ومنتهاه، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة). ولو أردنا أن ننتبه إلى الصور الكثيرة التي يعج بها واقع أمة الإسلام اليوم لوجدنا مخاطر كثيرة ينبغي الحذر منها، وأكتفي بالإشارة إلى اثنين منها:

من المخاطر تمييع الولاء والبراء

من المخاطر تمييع الولاء والبراء وثانيهما هو: مما عد اليوم من المحظورات التي ينبغي أن نكف ألسنتنا عنها، وأن نمنع أقلامنا من الكتابة فيها، وأن نعطلها من التدريس والتعليم، أتعلمون ما هو هذا الأمر؟ إنه أمر تنزلت به آيات من عند الله عز وجل، ولا يمكن لأحد من الخلق مهما كان أن يمحوها ويلغيها، بل لا يستطيع أن يغير حرفاً واحداً منها مهما كان شأنه. إنها الحقيقة التي أريد أن أكشفها لكم بالآيات، وبما جاء في كتاب الله عز وجل، قال عز وجل: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]، ويقول الحق جل وعلا: {لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28]، ويقول كذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1]، إنه أمر الولاء والبراء، المحبة لله، والبغض في الله، إنه أمر يصورونه على أنه مناقضة للعدالة، أو مخالفة للسماحة. وليس فيه شيء من ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعدل الخلق، وأسمح الناس، وأرأفهم بالخلق جميعاً، ودعا وبصر وهدى غير المؤمنين، لكنه علم وعلّم أن بغض الكفر في ذاته وبغض الفحش والفاحشة في ذاتها أصل مرتكز من عقيدة المؤمن، وبين أن أهل الكفر إن ناصبوا العداء، وإن كادوا واستخدموا أساليبهم في المكر والدهاء، فإنه لا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله ورسوله إلا أن يُكِن بغضهم، وأن يعتقد عداءهم، وأن يسعى إلى مواجهتهم، وذلك هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويوم جاءت المواقف الفاصلة بين إيمان وكفر مضى بعض الأنصار مع حلفائهم من اليهود في المدينة ينشدونهم النصر، ويطالبونهم الوفاء بالعهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكلوا وتخاذلوا وأحجموا، فأي شيء قال ذاك الصحابي؟ قال: (اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء وحلفهم، وأكون مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم)، وفي هذه الحادثة تنزل قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]. وكثيرة هي الصور التي نراها مخالفة لحقيقة التوحيد وهي ليست سجوداً لصنم, ولا بقاء عند قبر، وإن كان ذلك كله من المعارضات والمناقضات التي تجرح التوحيد، وقد تنقض أصله، وتدخل صاحبها في دائرة الشرك أو الكفر، أصغر أو أكبر كل بحسبه وبحسب حكمه. إذاً: أحبتنا الكرام! أول ما حرم الله علينا هو: ألا نشرك به شيئاً، فإن التحريم لهذا تحريم قاطع؛ لأنه أساس كل ما يأتي من المحرمات والمأمورات. فنسأل الله عز وجل أن يبرئ قلوبنا من الشرك به، وأن يطهر نفوسنا من الشرك به، وأن يطهر عقولنا من الشرك به، وأن يجعلنا أعظم اعتماداً عليه، وأصدق توكلاً عليه، وأشد إخلاصاً له، وأعظم خوفاً منه، وأصدق ثقة به، وألا يجعل في قلوبنا خوفاً ولا رهبة ولا رجاءً ولا تعلقاً إلا به سبحانه وتعالى. اللهم إنا نبرأ إليك من الشرك والكفر وأهله، اللهم إنا نسألك أن تحبب إلينا عبادك المؤمنين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا. اللهم أصلح أحوالنا، واختم بالصالحات أعمالنا وآجالنا. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، واحفظ اللهم عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها، ورغد عيشها يا رب العالمين. اللهم احفظ ديار المسلمين من كل سوء ومكروه. اللهم رد كيد الكائدين، وادفع شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم وأموالهم يا رب العالمين! اللهم رد كيد الأعداء في نحورهم، واشغلهم في أنفسهم، واجعل الدائرة عليهم، لا ترفع اللهم لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم اللهم لمن خلفهم آية، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. اللهم صلَّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

من المخاطر تقديم العقل على النقل

من المخاطر تقديم العقل على النقل الأول هو: تقديم العقل على النقل, وكم نرى اليوم من ينظر إلى الأحكام والتشريعات فيقول: هذه لا تتفق مع العقل، وكيف يمكن أن نطبق هذا؟ وكيف نستطيع أن نفعل هذا؟ إن هذه الأحكام لا تتطابق مع مقتضى العقل وحقيقة المصلحة! وكم سمعنا ذلك حتى في أحكام قد يرونها يسيرة، فكم تسمع من امرأة أو رجل يجادلك في تشريع الله عز وجل في حجاب المرأة المسلمة، ويناظر في ذلك بأمور يزعم أن من العقل، وحقيقتها أنها من الهوى، ويزعم أنها عليها دلائل من الحقائق، وهي ضلالات من الأوهام! وكم نرى صوراً من ذلك في واقع الحياة!

الوصايا الربانية [2]

الوصايا الربانية [2] بر الوالدين من أعظم أبواب الطاعات، ولذا أمر الله عز وجل به وحث عليه، بل إن الله عز وجل قرن بر الوالدين بعبادته سبحانه في غير ما موضع من كتابه الكريم، وما ذاك إلا لما للوالدين من المنزلة والمكانة والقدر، فيجب على كل مسلم أن يكون باراً بوالديه، مطيعاً لهما.

وصية الله عز وجل بالوالدين

وصية الله عز وجل بالوالدين الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وجعل لنا في الطاعة خيراً وسعادة، وكتب لنا في الاستقامة عطاءً وزيادة، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداًَ نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثّر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فها نحن نمضي مع الوصايا الربانية التي عرفنا قدرها ومقامها، ووقفنا على أهميتها وخطورتها، وأدركنا من قبل أنها سر النجاة، وسبب السعادة، والمخرج -بإذن الله- من كل فتنة، والعصمة من كل محنة؛ لأنها هدى الله عز وجل، وأوامره ووصاياه التي بدأها بقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151]. ووصية هذا الموضوع هي الوصية التي أقرتها الفطر البشرية السوية، واتفقت عليها جميع الشرائع السماوية، وأقرتها وتواطأت عليها جميع المجتمعات الإنسانية، وهي التي تدل على الخلق المرضي، والعقل المهدي، والنهج السوي، وهي التي تكشف عن أصالة المعدن، وحسن الوفاء، وكريم المعاملة، إن هذه الوصية التي نتحدث عنها اليوم تكررت في كتاب الله كثيراً، وتنوع الأمر بها والحرص عليها ودوام التذكير بها في سنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكرارً، إنها قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام:151]. إنها الوصية بالوالدين، بر الوالدين، فالإحسان إلى الوالدين جاء في القرآن كثيراً متنوعاً، وها هو تقديم الجار والمجرور في ذكر الوالدين وتأخير الإحسان لإظهار الاختصاص والقصر، وإطلاق لفظ الإحسان منكراً ومنوناً ليكون عاماً شاملاً، ليكون إحساناً في القول والفعل، وقسمات الوجه، ونظرات العين، ولمسات اليدين، وكل حركة وسكنة، وفي كل وقت وآنٍ، وفي كل ظرف وحال؛ لأنه إحسان مطلق، وإحسان يكون في كل أحوالهما، وفي كل أحوال أولادهما كذلك. والفيروزآبادي في تعريفه لبر الوالدين ذكر كلاماً نفيساً فقال: هو الإحسان إلى الوالدين، والتعطف عليهما، والرفق بهما، والرعاية لأحوالهما، وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما. غير أن كلامه وكلامي وكلام كل الخلق ليس بشيء مع كلام الله عز وجل ومع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما كنت أبحث وأقلب رأيت أن أمسك لساني إلا من ذكر الآيات ورواية الأحاديث؛ لندرك أن القضية دين وتشريع رباني، وأنها سنة وتشريع وهدي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما قال القائلون أو عبر أهل العلم فإن ما جاء في الكتاب والسنة أبلغ وأعظم، ولذا آثرت أن نقف مع هذه الوصية ومكانة الوالدين وبرهما مع الآيات القرآنية العظيمة.

وجوه تعظيم حق الوالدين وبرهما

وجوه تعظيم حق الوالدين وبرهما الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وجعل لنا في الطاعة خيراً وسعادة، وكتب لنا في الاستقامة عطاءً وزيادة، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداًَ نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثّر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فها نحن نمضي مع الوصايا الربانية التي عرفنا قدرها ومقامها، ووقفنا على أهميتها وخطورتها، وأدركنا من قبل أنها سر النجاة، وسبب السعادة، والمخرج -بإذن الله- من كل فتنة، والعصمة من كل محنة؛ لأنها هدى الله عز وجل، وأوامره ووصاياه التي بدأها بقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151]. ووصية هذا الموضوع هي الوصية التي أقرتها الفطر البشرية السوية، واتفقت عليها جميع الشرائع السماوية، وأقرتها وتواطأت عليها جميع المجتمعات الإنسانية، وهي التي تدل على الخلق المرضي، والعقل المهدي، والنهج السوي، وهي التي تكشف عن أصالة المعدن، وحسن الوفاء، وكريم المعاملة، إن هذه الوصية التي نتحدث عنها اليوم تكررت في كتاب الله كثيراً، وتنوع الأمر بها والحرص عليها ودوام التذكير بها في سنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكرارً، إنها قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام:151]. إنها الوصية بالوالدين، بر الوالدين، فالإحسان إلى الوالدين جاء في القرآن كثيراً متنوعاً، وها هو تقديم الجار والمجرور في ذكر الوالدين وتأخير الإحسان لإظهار الاختصاص والقصر، وإطلاق لفظ الإحسان منكراً ومنوناً ليكون عاماً شاملاً، ليكون إحساناً في القول والفعل، وقسمات الوجه، ونظرات العين، ولمسات اليدين، وكل حركة وسكنة، وفي كل وقت وآنٍ، وفي كل ظرف وحال؛ لأنه إحسان مطلق، وإحسان يكون في كل أحوالهما، وفي كل أحوال أولادهما كذلك. والفيروزآبادي في تعريفه لبر الوالدين ذكر كلاماً نفيساً فقال: هو الإحسان إلى الوالدين، والتعطف عليهما، والرفق بهما، والرعاية لأحوالهما، وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما. غير أن كلامه وكلامي وكلام كل الخلق ليس بشيء مع كلام الله عز وجل ومع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما كنت أبحث وأقلب رأيت أن أمسك لساني إلا من ذكر الآيات ورواية الأحاديث؛ لندرك أن القضية دين وتشريع رباني، وأنها سنة وتشريع وهدي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما قال القائلون أو عبر أهل العلم فإن ما جاء في الكتاب والسنة أبلغ وأعظم، ولذا آثرت أن نقف مع هذه الوصية ومكانة الوالدين وبرهما مع الآيات القرآنية العظيمة.

أثر دعاء الوالدين على الأبناء أو لهم

أثر دعاء الوالدين على الأبناء أو لهم وثمة أمر مهم في غاية الأهمية، وهو أن دعاء الوالدين له خصوصية في القبول في شأن أولادهما، وإن كان الدعاء على الأبناء، أي: ليس لهما، وقد صح في الحديث قصة جريج العابد، وأن أمه دعت عليه فقالت: اللهم! لا تمته حتى يرى وجوه المومسات. فتحققت هذه الدعوة، كما وردت في الأحاديث الصحيحة. وثمة حديث أيضاً يوضح ذلك، وهو قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم) رواه أحمد في مسنده، وقال الذهبي: سنده قوي.

استمرار بر الوالدين بعد وفاتهما

استمرار بر الوالدين بعد وفاتهما ومن أدل الدلائل كذلك على الأهمية أنه ما من أمر ولا من شرع ولا من حكم إلا وينتهي بانتهاء الحياة، إلا هذه الشعيرة العظيمة وهذه الوصية المهمة، فإن بر الوالدين لا ينتهي بوفاتهما، وكثير منا يعلم ذلك الحديث الذي رواه أبو أسيد الساعدي في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فيقول: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ وهذا دليل على حرص الصحابة، قد قضى حظه وقدرته وما يسر الله له من البر في حياة والديه، ثم جاء يسأل من بعد: هل بقي شيء حتى أصلهما؟ وهل ثمة ما يعمل حتى أستمر فيه؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم. الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما) فهل هناك دين أعظم من هذا الدين في الوصية بالوالدين حتى بعد الوفاة؟ ففتش عن أصدقائهما، وأكرم أصدقاءهما لأجلهما، وابحث عن أقاربهما ومعارفهما فاجعل ذلك استمراراً لبرهما حتى بعد موتها، وهذا من عظيم ما في ديننا هذا، وقد طبق الصحابة ذلك، فهذا ابن عمر يلقى أعرابياً وهو في طريق السفر قرب مكة، فيُركِبه حماره، وينزع عمامته ويضعها على رأسه، ويسلم عليه ويكرمه، حتى إذا انصرف قال أحد أصحابه: إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير! يعني: لمَ صنعت ذلك كله؟ ولمَ هذه الحفاوة وذلك الإكرام؟ فقال ابن عمر رضي الله عنه: (إن والد هذا كان من أهل ود عمر، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) رواه مسلم في صحيحه.

أثر بر الوالدين في تفريج الكربات

أثر بر الوالدين في تفريج الكربات وهناك كذلك أمر آخر، وهو أثر البر في تفريج الكربات، وأكثرنا يعرف الحديث في قصة الثلاثة الذين آواهم الغار فسقطت عليهم صخرة فسدت مخرجهم، فقالوا: لا نجاة إلا أن نتوسل إلى الله بأخلص الأعمال التي عملناها. فكان مما قاله أحد الثلاثة أنه كان لا يسقي أبناءه وزوجه إلا بعد أن يسقي والديه، فجاء مرة بغبوق -أي: باللبن- فإذا هما نائمان، فلم يشأ أن يقدم عليهما غيرهما، ولم يستطع أن يزعجهما فيوقظهما، فظل واقفاً حتى انبثق ضوء الفجر، فقال: اللهم! إن كنت عملت هذا لوجهك وابتغاء مرضاتك ففرج عنا. فتزحزحت الصخرة، فدل ذلك على أن من أسباب التفريج الحرص على هذا البر.

بر الوالدين سبب في سعة الرزق وحسن الخاتمة وبركة العمر

بر الوالدين سبب في سعة الرزق وحسن الخاتمة وبركة العمر وهكذا سعة الرزق، وحسن الخاتمة، وبركة العمر، كل ذلك مربوط بالبر، كما صح من حديث أنس رضي الله عنه: (من أحب أن ينسأ له في أثره ويبارك في رزقه فليصل رحمه)، ومن أعظم الرحم وأولاها وأولها بر الوالدين. ومن هنا كذلك جاءت الرواية الأخرى في هذا الحديث بلفظ آخر من حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، وتدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه).

بر الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب

بر الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب وثمة أمر آخر، وهو أن بر الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب، فكم نصلي! وكم نستغفر! وكم ننفق نبغي مغفرة الذنب! وكل عمل صالح فيه مغفرة للذنب، غير أن ذلك ورد له اختصاص، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت ذنباً كبيراً فهل لي من توبة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: هل لك من أم؟ قال: لا. قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها) رواه الترمذي والحاكم بسند صحيح، ولعل هذا التوجيه موضع عجب، وأحسب أن كثيراً منا ربما لم يسمع هذا الحديث من قبل، فهو يقول: (أصبت ذنباً كبيراً) يريد طريقاًَ لتكفير الذنب، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن أمه فيقول: إنها ليست حية. فيقول: (هل لك من خالة) والخالة بمثابة الأم، فقال: نعم. فيقول: (فبرها) أي: فسيكون برها طريقاً إلى تكفير ذنبك ومغفرة ما أصابك من أثره. وهذا ولا شك من أعظم الأمور.

بر الوالدين طريق من طرق الجنة

بر الوالدين طريق من طرق الجنة وإذا قلنا: ما أعظم شيء نأمله ونرجوه؟ وما أعظم أمنية نفكر بها ونتعلق بها؟ فإن الجواب عند كل مؤمن ومسلم واحد، وهو دخول الجنة، ونيل رضوان الله عز وجل، فإليك طريقاً ممهداً سالكاً موصلاً إلى تلك الغايات العظيمة، وهو بر الوالدين. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل الجنة فقال: (دخلت الجنة فسمعت قراءة، فسألت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم البر، نعم البر. وكان حارثة من أبر الناس بأمه) فهذا الربط بين إخبار النبي عن كونه في الجنة وبره بأمه ظاهر الدلالة في أن هذا العمل بظهوره في حياته وعنايته به وحرصه عليه واستمراره فيه جعل له هذا المقام العالي وتلك الرتبة الرفيعة. وكذلك جاء الحديث العظيم الذي رواه أبو هريرة وفيه يثلث النبي صلى الله عليه وسلم القول فيقول: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه. قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة) أي: لم يقم ببرهما بما يدخله الجنة؛ لأنه فرط وقصر، أو عق وجحد، والعياذ بالله. وإذا تأملنا ذلك فإننا واجدون الصراحة والوضوح في تلك النصوص، ومن ذلك ما رواه الترمذي وابن حبان وصححه عن أبي الدرداء قال: قال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه). قال بعض الشراح: (أوسط أبواب الجنة) أي: خيرها. والمقصود بالوالد الوالدان معاً الأم والأب، فهما اللذان يكون من خلالهما باب هو خير الأبواب إلى الجنة، وهو باب برهما والإحسان إليهما. ولو مضينا لوجدنا ذلك أكثر وأظهر، فإن معاوية بن جاهمة السلمي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك ابتغي وجه الله والدار الآخرة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أحية أمك؟ فقال: نعم. قال: ارجع فبرها. قال معاوية: فأتيته من الجانب الأيمن فقلت: يا رسول الله! إني أردت الجهاد -وكرر القول- فقال له: ويحك! أحية أمك؟ قال: نعم. قال: ارجع فبرها. قال: فأتيته من أمامه فأعاد القول، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: ويحك! الزم رجلها فثمَّ الجنة) رواه النسائي وابن ماجة والإمام أحمد والحاكم بسند صحيح، فهل ثمة ما هو أوضح وأظهر في الدلالة على عظمة هذا البر وهو يكرر الأمر ثلاثاً ويريد الجهاد مصراً والنبي يرده إلى ذلك الباب والمسلك والطريق ليمهد له به عملاً له أجره في الآخرة وله نفعه في الدنيا بإذن الله سبحانه وتعالى؟! وهكذا نرى الأمر واضحاً -كما قلنا- في رضا الله عز وجل، فقد ورد الحديث صريحاً بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد) كما رواه أهل الحديث بسند حسن.

بر الوالدين من الجهاد في سبيل الله عز وجل

بر الوالدين من الجهاد في سبيل الله عز وجل ووجه آخر من العظمة أن برهما معدود من الجهاد في سبيل الله، والجهاد من أعظم الأعمال وأشرفها، وأجلها من حيث كونه بذلاً للروح وإزهاقاً لها في سبيل الله عز وجل، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أحي والداك؟! فقال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو. وروى أنس أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. فقال له صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ فقال: أمي. قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد) رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه بسند جيد، وصححه العراقي. ففي هذا أنه قال: (أريد الجهاد ولا أقدر عليه) فدله على عمل -صلى الله عليه وسلم- يكون به من المجاهدين؛ لأنه قال في الحديث السابق: (ففيهما فجاهد). وعن ابن مسعود أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث عظيم في تقديم بر الوالدين على الأمور العظيمة والأعمال الجليلة- فقال: (أي العمل أفضل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عبادة الله. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فقدم بر الوالدين على الجهاد.

اقتران حقهما بحق الله جل وعلا

اقتران حقهما بحق الله جل وعلا أول هذه الوجوه: اقتران حقهما بحق الله عز وجل، وكم هي الآيات التي جاءت بالأمر بالتوحيد وثنت بالإحسان إلى الوالدين! كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] واقترن كذلك في قوله جل وعلا: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فأي حق أعظم من حق يأتي تالياً مباشرة لحق الله سبحانه وتعالى؟! قال ابن عباس: (ثلاث لازمات لثلاث، وقرن بينهما فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] فلا تتم طاعة الله إلا بطاعة الرسول {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فلا تتم إقامة الصلاة إلا بإيتاء الزكاة، وقال في شأن الله عز وجل: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فلا يتم شكر الله إلا بشكر الوالدين. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك ويبينه ويوضحه؛ لأن المكانة عظيمة، كما في حديث أسماء رضي الله عنها في بيان الوجه الثاني، وهو الصحبة والإحسان ولو مع الكفر؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فهل رأيت قدراً أعظم ومكانة أرفع من أن يكون إنسان على غير الإيمان والتوحيد ثم يأتي أمر الله متنزلاً بالآيات بحسن صحبته؟ فقد جاءت أسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (جاءت إليّ أمي وهي راغبة) قال بعض الشراح: أي: فيما عندي. تريد وصلاً من إحسان دنيوي، قالت: (فاستفيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلم يكن أحد يصنع شيئاً إلا بعد أن يعرف حكمه ومكانه في دين الله، فقالت: (يا رسول الله! إن أمي قدمت إليّ راغبة، أفأصل أمي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم صلي أمك) وهذا مقام عظيم.

بر أبي هريرة بأمه

بر أبي هريرة بأمه ولعلنا نقف مع هذه القصة لـ أبي هريرة لنرى صورة حية من المشاعر الفطرية التي تبين لنا عظمة وسماحة ديننا، وأنه يريد الخير لعموم الناس فكيف بخصوصهم؟ ألسنا نريد للكافر أن يؤمن؟ ألسنا نريد للضال أن يهتدي؟ ألسنا نريد للمنحرف أن يستقيم؟ إن لم نكن نريد ذلك فنحن في خطأ وعلى انحراف، فإن أردناه فليكن لأقرب المقربين إلينا وأحب الناس إلينا وأعظمهم فضلاً علينا وهم الوالدان، فهذا أبو هريرة يخبر ويقول: (كانت أمي مشركة، فكنت أدعوها إلى الإسلام فلا تستجيب. قال: فدعوتها يوماً فنالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تكلمت عليه بما لا يليق- قال: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله! إن أم أبي هريرة قد نالت منك، وإني أدعوها). فماذا طلب أبو هريرة من الرسول بعد أن سمع الذي أغاظه في حبيبه ورسوله عليه الصلاة السلام؟ قال: يا رسول الله! فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! اهد أم أبي هريرة) يقول: فرجعت مسرعاً مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا بالباب مجافىً -يعني: مفتوحاً قليلاً- فأردت أن أدخل، فقالت: مكانك يا أبا هريرة. قال: وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها، ثم خرجت وقالت: يا أبا هريرة! إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح -وكانوا يحبون الخير- قال: فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! حبب أبا هريرة وأم أبي هريرة للمؤمنين)، قال أبو هريرة: فما رأيت أحداً من أهل الإيمان إلا وهو يحبني. إنها صورة لعظمة هذا الدين، وعظمة التربية الإيمانية، فانظر كيف كان حرص أبي هريرة! فقد كان يكرر الدعوة، وانظر كيف كظم غيظه عندما نالت من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم! لأنه كان يرجو لها الخير، ويؤمل لها الهداية، وإنما حزن وغضب وبكى، ولكنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية، فلما هداها الله لم يطق من فرحته إلا أن بكى فرحاً بعد أن بكى حزناً، ثم جاءت هذه الصورة المشرقة لندرك في الحقيقة كيف كان فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] عجباً لهذا السلوك! وعجباً لهذا الدين العظيم الذي يعلمنا ذلك!

عظم عقوق الوالدين وعقوبة العاق

عظم عقوق الوالدين وعقوبة العاق ولعلي هنا أقف وقفة أحسب أن الجميع سيكون ملتفتاً إليها، فهل بعد هذه الوجوه وبعد هذه الآيات الواضحات والأحاديث الصحيحة والصور المشرقة العملية التي كانت في حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هل يتصور أحد أنه يخطر في البال عقوق للوالدين؟ وهل يمكن بعد هذا كله أن يكون في النفس متسع أو في القلب مجال لقسوة أو غلظة؟ وهل يمكن بعد هذا كله أن يلفظ اللسان بما لا يليق؟ إن العقوق بعد هذا كله يظهر تماماً على أنه الأَمُ وأشد وأسوأ ما يمكن أن يصدر عن الإنسان، إنه يكشف حينئذ عن انحراف في الفطرة، وضعف واختلال في الإيمان، ونقص في حقيقة التمثل والالتزام بالإسلام، إنه يدل على انفصام بين كليات هذا الدين وحقائقه الكبرى وهداياته العظمى التي تنزلت بها الآيات وجاءت بها الأحاديث، ولذلك قال بعض أهل التفسير في هذا الموطن في تفسير قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] قالوا: جاء بالأمر وليس بالنهي عن العقوق. قال القرطبي: لأنه لا يتصور العقوق في حق الوالدين. كيف يمكن أن يتصور عقوقك لامرأة حملتك في بطنها تسعة أشهر، وأرضعتك عامين، وظلت تغذوك بحنانها وعطفها، فتسهر ليلها، وتمرض في تمريضك، ويشغل بالها أمرك أكثر مما يعنيها أو يشقيها أو يتعبها شيء يتصل بها؟! إن الإنسان الذي يجحد بعد ذلك أو يعق يمثل الصورة الشوهاء للانحراف السيء في غاية السوء، ومن هنا جاء الأمر بالإحسان، كما قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وكذلك ذكر الآيات الكثيرة كقوله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف:15] وذكر ذلك على التفصيل كما هو في الآيات، وكما جاء في الحديث: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) فقال أهل العلم: لبر الأم ثلاثة أرباع وربع للأب. وقالوا: لأنها حملت وولدت وأرضعت، وهذه كلها لا يشاركها فيها الأب، وإن كان حق الوالدين جميعاً عظيماً. لذلك كان من المتوقع ومن البدهي أنَّ من يخرج عن هذه الأوامر الربانية وهذه السنن النبوية أنه قد خالف الدين مخالفة عظيمة تستوجب له وعيداً خطيراً، ومن هنا وجدنا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر مقترناً بأعظم ذنب في الوجود كله، والحديث في هذا معلوم، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين. وكان متكئاً فجلس فقال: وشهادة الزور، وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) فأكبر الكبائر وأعظم الذنوب على الإطلاق ثانياً وتالياً بعد الشرك بالله عز وجل هو عقوق الوالدين. وما الذي تخشاه؟ وما الذي تخاف منه في هذه الدنيا؟ أليس حرمان رضوان الله؟ أليس الخوف من عذاب الله؟ إن الذي يخوض في هذا المضمار يستوجب الوعيد الشديد، فقد روي عن النبي صلى الله عيه وسلم في حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة) والديوث هو الذي يرضى السوء في أهله، والرجلة هي المرأة المتشبهة بالرجال. رواه الحاكم وصححه، ورواه البزار بإسناد جيد. بل إن الأمر يرى رأي العين، فإنه ما من ذنب إلا وقد يؤجل عذابه أو يقدم إلا ذنبين اثنين لابد أن يكون لهما عقوبة معجلة وإن بقيت لهما عقوبة مؤجلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أنس رضي الله عنه: (بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق) رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وفي رواية أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) وترجم البخاري في الأدب المفرد لهذا الحديث بقوله: (باب عقوبة عقوق الوالدين). وعقوق الوالدين أعظم القطيعة للرحم، فأي شيء بعد هذا يمكن أن يقال؟ وأي قول بعد قول الله وبعد قول رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وما هو واقعنا اليوم؟ فكم نسمع من قصص مبكية محزنة مؤلمة! وكم نرى من صور عجيبة غريبة شاذة!

واقع الناس في بر الوالدين

واقع الناس في بر الوالدين روي في كتب الأدب عن الأصمعي أنه قال: عزمت أن أبحث عن أعق الناس وأبرهم. فظل يبحث ويسير في حياته وهو يبحث عن هذا الأمر، قال: حتى رأيت مرة شاباً ومعه شيخ كبير مربوط بحبل ينزع دلو ماء، وهذا يشتد عليه ويغلظ له، ويعرض له بالضرب أحياناً، قال: فقلت له: ويحك! ألا تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟! فقال: ثم هو مع ذلك أبي! قال الأصمعي: فرأيت أنه أعق الناس. قال: ثم نظرت -أي: في حياته مرة أخرى- فرأيت شاباً يحمل شيخاً في زنبيل كبير، ثم يزق له كما يزق الطير لفرخه -يعني: كل لحظة يأتي فيطعمه، ويأتي فيسقيه، ويأتي فيحمله- فقال: هذا أبي. قال: فقلت: هذا أبر الناس. فلاحظ الصور المتباينة، لاحظ الواقع الذي بلغ أن سمعنا في مجتمعاتنا ليس عن أبناء رموا بآبائهم أو بأمهاتهم في دور العجزة أو في المستشفيات وتركوهم، بل رأينا ما وصل فيه الأمر إلى حد القتل وغيره، فما الذي جرى؟! وهل هذه الوصايا لا تتلى؟! ألم نختم القرآن في رمضان؟! ألا تقرأ هذه الآيات في الصلوات؟! ألا يعرف الناس هذه الأحاديث؟! ألم يروا كيف كانت سيرة الأصحاب؟! ألا يجدون في كل شيء من ديننا ما يدل على عظمة هذا الأمر ورفعة هذه الصفة وأهمية هذه الخلة في حياة المسلم، وأن ضدها من العقوق هو أشنع شيء وأبشعه؟! إن الصورة تحتاج إلى مراجعة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يبرون آباءهم ويبرهم أبناؤهم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لكل ما يرضي آباءنا وأمهاتنا، وأن يسخرنا لرضاهما، وأن يجعل طريقنا إلى رضاء الله من رضاهما، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحسن ختام من بقي لهم من آباؤهم وأمهاتهم، ونسأله عز وجل أن يبعدنا ويجنبنا عن كل ما يسخطهما أو يسيء إليهما؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

كيفية الطريق إلى بر الوالدين

كيفية الطريق إلى بر الوالدين

ذكر سيرة البارين بوالديهم

ذكر سيرة البارين بوالديهم ومما يعين كذلك ذكر سير أهل البر بآبائهم وأمهاتهم، فقصة أبي هريرة نموذج من نماذج عدة ليست في حياة الصحابة فقط، بل في حياة الصحابة والتابعين وصلحاء المؤمنين إلى يوم الناس هذا، فانظر كيف يكون التوفيق حليفهم! وانظر كيف تكون السعادة مالئة قلوبهم! وانظر كيف يكون الأثر في أبنائهم! لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) والأمر في هذا ظاهر الدلالة، والحساب فيه والقصاص بيّن للعيان، فكم رأينا من مسيء لوالده -والعياذ بالله- ووالده كان مسيئاً بوالده، والعكس كذلك، فمن عق والده فإنه يجد العقوق من أبنائه، وذلك ظاهر.

قيام الوالدين بدورهما وواجبهما

قيام الوالدين بدورهما وواجبهما ثم هناك أمر مهم، وهو أداء الوالدين لدورهما، وقيامهما بواجبهما، هو أيضاً من أعظم أسباب البر، فهل علمت ابنك كتاب الله وسنة رسوله؟ وهل وجهته إلى الخير؟ وهل كنت قريباً منه؟ وهل حرصت على تربيته؟ وهل أحسنت في اختيار أصدقائه؟ ذلك هو الطريق الذي يعود عليه بالخير استقامة في سلوكه، وبراً بأبيه وأمه، أما إن أسلمته للضياع، وألحقته برفقاء السوء، وغبت عنه ولا تدري ما يصنع ولا ما يقول، ثم تعض أصابع الندم وتقول: عقني فما عقك إلا من تفريطك وتقصيرك. والأمر يطول، والحديث يتكرر في مثل هذا، ويلحق به ما هو في هذه الآيات كذلك، كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] وليس المقصود ما كان عند أهل الشرك من أنهم يقتلون أولادهم كما كان في بعض أحوال الجاهلية، فبعض الناس يقتل ابنه يوم لا يرشده ولا يعلمه ولا يربيه، ويوم يبعثه إلى بلاد الكفر أو إلى بلاد الفساد والانحراف العقدي والخلقي، فكأنما هو يقتله؛ لأنه يقتل إيمانه، ويقتل خلقه، ويقتل فضيلته، ويقتل شرفه وخيره ونحو ذلك. إذاً هذا باب آخر من الأبواب، وثمة أبواب أخرى كثيرة، ومنها التذكير الدائم بهذه المسألة، والحديث يطول، والمقام يقصر، نسأل الله عز وجل أن يحفظنا، وأن يحفظ لنا آباءنا وأمهاتنا، وأن يشيع البر في أبنائنا وبناتنا، وحسن التربية والرعاية في آبائنا وأمهاتنا. اللهم! إنا نسألك أن تؤلف بين القلوب، وأن توحد بين الصفوف. اللهم! إنا نسألك أن نبر آباءنا، وأن نسعى إلى رضاهما، وأن نجتهد في طاعتهما في المعروف، وأن نبذل غاية ما نستطيع في الإحسان إليهما وإدخال السرور عليهما، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! وفقنا لطاعتك ومرضاتك، واسلك بنا سبيل الصالحين، واجعلنا من عبادك المخلصين، واكتبنا في ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتك فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ -اللهم- لها أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها يا رب العالمين. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

استحضار فضل الوالدين

استحضار فضل الوالدين والأمر الثاني الذي يعين على ذلك استحضار فضل الوالدين، كما دلت على ذلك الآيات، مثل قوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24]، فتذكر نفسك وحالك وأنت طفل لا تملك من دنياك ولا من أمرك ولا من حالك، ولا من تدبير شئونك شيئاً، وتذكر كل تلك الفضائل التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تقدر قدرها فضلاً عن أن توفي حقها، ولو أن كل عاق أو كل مخطئ في حق والديه إذا أراد أن يلفظ الكلمة، أو إذا أعرض، أو إذا صنع شيئاً من ذلك تذكر الحليب الذي أرضعته إياه أمه، والمال الذي أنفقه عليه أبوه، والحماية التي كان يتعرض فيها للمصاعب والمخاطر لكي يحميه، لو تذكر -كما يقول بعض أهل العلم- ولو قبضة أو انقباضة من انقباضات وقت الولادة ومخاضها لشعر أنه قد أجحف في حق نفسه، وأنه ينبغي له أن يطأطئ رأسه خجلاً من تصرفه، وأنه قد أتى بما لا يليق بحال من الأحوال، حتى إن البهائم -وهي بهائم- تعطف الأمهات على أبنائها، ونرى الأبناء كيف ترتبط بأمهاتها، وهذه سنة فطرية في الخلائق، فكيف بالإنسان الذي أعطاه الله العقل وأنزل عليه التشريع وضرب له الأمثلة من رسل الله وأنبيائه وصالح الأمة وعلمائها وأفاضلها؟!

استحضار الثواب في البر

استحضار الثواب في البر وأمر ثالث كذلك، وهو استحضار الثواب والفضل والأجر في البر، فقد رأينا أن طريق الجنة عبرهما، ورأينا أن استنزال رضاء الله برضاهما، ورأينا أن تكفير الذنوب بالإحسان إليهما، ورأينا أن تفريج الكروب بإكرامهما، فأي شيء نريد؟ وكل ما نريد نجد طريقه يمر عبرهما، فلمَ لا نفكر في ذلك ونتأمله؟! وانظر إلى الجانب الآخر المقابل، وهو التذكر للوعد والوعيد والعقوبة المنتظرة في الدنيا قبل الآخرة لكل من أساء ولو بكلمة؛ لأن الله قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] فجاء بالأدنى، وجاء بما قد يكون الأعلى.

التدبر في الكتاب والسنة

التدبر في الكتاب والسنة أحسب أنه مهما أطلنا الحديث وأعدناه فإن الأمر يستحق، وإن المسألة تستدعي، وإن الواقع يدلنا على وجود خلل كبير في هذا الباب، فما الطريق إلى تقويمه؟ وما الطريق إلى رجوعه إلى جادة الصواب؟ هنا أمور كثيرة يضيق المقام عن حصرها، لكن أولها وأعظمها: التدبر في كتاب الله، والاغتراف من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث ليس حديث هذا الرجل أو ذاك، وليست موعظة ذلك الواعظ أو هذا، وليس استنباط ذلك العالم أو غيره، إنه كلام الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن كنت مؤمناً ومسلماً فالمخاطب لك هو الله، والموجه لك هو رسوله عليه الصلاة والسلام.

الوصايا الربانية [3]

الوصايا الربانية [3] الله عز وجل أعلم بما يفسد الخلق وما يصلحهم، ولهذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأمر بمحاسن الأخلاق والصفات ما ظهر منها وما بطن، فلا سعادة للبشرية جمعاء إلا باتباع أوامر ربها عز وجل واجتناب نواهيه.

تحريم الفواحش الظاهرة والباطنة

تحريم الفواحش الظاهرة والباطنة الحمد لله الرحيم الرحمان، الكريم المنان، ذو الفضل والجود والإحسان، حبب إلينا الإيمان، وكره لنا الكفر والفسوق والعصيان، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فها نحن نواصل حديثنا في الوصايا الربانية التي جاءت في سورة الأنعام، وقد سلف لنا الحديث عن التوحيد والنهي عن الشرك، ومر بنا أمر بر الوالدين وأهميته وآثاره الدنيوية والأخروية، ووصية اليوم عظيمة مهمة، لها أثرها في النفوس والقلوب، ولها أثرها في الأمن والأمان، ولها أثرها في العرض والشرف والأنساب، قال جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] والفواحش: كل ما فحش وزاد عن الحد بحيث يكون في غاية الذم والقبح. وذلك يتناول المعاصي والذنوب الكبيرة في جملتها، ما كان منها ظاهراً -أي: في الجوارح قولاً أو فعلاً كقذف أو زنا- وما كان منها باطناً بالقلب، سواءٌ أكان كفراً وشركاً، أم استكباراً، وغير ذلك من أدواء القلوب. وسياق الآيات فيما مضى يبين لنا أن النهي مختص بأمور بعينها، كما مر في الشرك وفي بر الوالدين، وكما يأتي في النهي عن أموال اليتامى وعن عدم الوفاء والقيام بالميزان والقسط، ومن هنا ذكر أهل التفسير أن من المعاني الظاهرة للفواحش اختصاصها بالزنا -أعاذنا الله وإياكم منه ومن القرب منه-؛ لأن السياق يحدد أموراً بعينها ومحرمات بذاتها، فغلب بعض أهل التفسير اختصاص هذه الفواحش في الآية بالزنا، وكل ما زاد عن حده فإنه داخل في عموم ذلك، وقد ذكر كثير من أهل التفسير عند هذه الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا في الجاهلية لا يرون بأساً بالزنا في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الزنا في السر والعلانية) وذلك فيه دلالة على هذا المعنى الذي غلبه بعض أهل التفسير. ووقفتنا الأولى في قوله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا} [الأنعام:151] والنهي عن القرب مبالغة في النهي عن الفعل؛ لأنه إذا قيل: لا تقترب من هذا المكان فلا شك أنه من باب الأولى أنك لا تصل إليه ولا تدخل فيه، ومعنى ذلك -كما هو معلوم- أن المعنى ترك كل ما يقرب من الزنا ويوصل إليه، ويهيج النفوس والشهوات إليه، ويبعث الفكر فيه، ويعلق النظر به، ويرعي السمع ويصغيه إليه؛ لأن كل الجوارح تتأثر وتفضي إلى القلب حتى ينعقد العزم وتتوجه الإرادة من بعد لفعل ما تأثر به ذلك القلب، فالعين تنظر، لكن الأثر يكون في القلب ميلاً وشهوة إلى ما رأت العين، والأذن تسمع، والقلب يميل ويهفو، وكذلك كل ما يتعلق بفعل الإنسان يعود أثره على قلبه ونفسه ميلاً وتوجهاً.

سد الذرائع في الشريعة الإسلامية

سد الذرائع في الشريعة الإسلامية وهنا ننظر إلى التشريع الحكيم في ديننا العظيم، وفي هدي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فكل جارحة من الجوارح وكل عمل من الأعمال يعلق القلب بهذه الفاحشة الكبيرة ورد النهي عنه، وجاء المنع به؛ لأن غير ذلك يعد غير قابل للتطبيق، فلو كنت قد فتحت الأبواب والنوافذ على مصراعيها فلابد أن تدخل إليك القاذورات من كل جانب، فإن أردت الحفظ والصيانة، وإن أردت الوقاية والحماية فلابد أن تغلق الأبواب، وذلك هو ما وردت به الآيات، كقوله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وجاء الأمر كذلك للنساء في قوله سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، وورد الحديث كذلك في سنن الترمذي بسند حسن عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) وعندما سأل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة أو الفجاءة قال: (اصرف بصرك) رواه النسائي. وكذلك وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن هذا النظر وما يؤدي به إلى أمور من العظائم والمحرمات، وأكبرها وأبشعها وأقبحها الوقوع في فاحشة الزنا. ونحن اليوم نرى واقعاً لا يتفق مع هذا من وجوه عدة، وأخطرها وأعظمها تحليل الحرام، فإن كثيرين من الناس اليوم لا يرون النظر إلى العورات محرماً، بل ويطلقون عبارات تدل على جواز مثل هذا وتهوينه في النفوس والقلوب، فمن قائل: العين بحر. أي: لا ساحل لها تنظر متى شاءت وكيفما شاءت، ومن قائل: النظر إلى الجمال عبادة، وهو معنىً قبيح من يقصدونه في النظر إلى العورات والمحرمات، وجعلوا تلك المحرمات عبادات، ومن جهة ثانية وجود وكشف العورات، حتى إن من يريد أن يغض بصره يجد عناءً ومشقة، حيث تفجؤك العورات المكشوفة في الطرقات والأسواق، بل وفي المعاهد والجامعات، وتفجأك العورات المكشوفة المثيرة على الشاشات، وعلى الصفحات؛ إذ لا تكاد ترى اليوم مجلة -وإن قالت: إنها علمية أو ثقافية- إلا وفي صدرها أو في صفحاتها الكبرى داخلية أو خارجية صوراً للنساء باديات الشعور أو النحور أو غير ذلك، وهذا من بعد يجعل قلب الإنسان إذا دخل في هذا الميدان يعلق، فإن النظرة إن لم تصرفها أثرت في القلب فصار يطلبها ويكررها، ويجيل النظر بحثاًَ عنها، كما قال الشاعر: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر لأن الإنسان إذا فطم نفسه فطمت، وإذا علقها بما تحبه من الشهوات وما تميل إليه من الملذات تعلقت وأبت أن تفطم.

خطر الإعلام الهابط على الأخلاق

خطر الإعلام الهابط على الأخلاق إننا لنرى أموراً في هذه الأيام عجيبة، فإن القنوات الفضائية العربية المنطلقة من البلاد الإسلامية والممولة من المسلمين ترى فيها عجباً، فلم يعد الأمر اليوم مقتصراً على امرأة تظهر بادية الوجه والشعر، بل ولا ظاهرة اليدين والذراعين، بل ولا مكشوفة كاملة إلا ما يغطي السوءتين؛ لأن ذلك اليوم قد صار من الأمور المعتادة، إذ اليوم تأتي هذه العورات مع اللقاءات والكلمات والقبلات والمعانقات، وغير ذلك من الأمور التي لم يعد باقياً منها إلا ممارسة الفواحش على هذه القنوات، أعني القنوات العربية المسلمة باعتبار ملاكها ومموليها، ولا أريد أن أذكر إحصاءات وأرقاماً، فإن الأمور مفزعة إلى أقصى ما يمكن تصوره، ولكن أذكر منها اثنتين: الأولى: في دراسة لخمسمائة فيلم من الأفلام التي تعرض كانت النسبة أن نحو اثنين وسبعين في المائة مما يعرض في هذه الأفلام مركز في مناظر وحوارات الحب والجنس والجريمة، أي: ثلاثة الأرباع. فأين ما يزعمونه من معالجة المشكلات؟ وأين هي الثقافة في تلك الأفلام والمسلسلات؟ وأين وأين مما يقال ويدعى؟ ونحن نعلم ذلك ونقرأ عنه، وربما ابتلينا به فشاهدناه كذلك. الثانية: وفي دراسة أخرى على مائة فيلم وجد أن فيها بنسبة ثمانية وتسعين في المائة لقطات أو كلمات مما يثير الغرائز الجنسية، ويهيج هذه المعاني الساقطة. ونحن عندما نقول ذلك ننتقل إلى وجوه أخرى كثيرة، ونحن نعلم ما يدور في مجتمعاتنا وديارنا الإسلامية اليوم، حتى الأذن المصغية قد جاء النهي عن إصغائها إلى ما يثير هذه الكوامن، فالله جل وعلا في سياق الأمر الوارد والتوجيه الوارد لأمهات المؤمنين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -وهن الطاهرات العفيفات المؤمنات القانتات العابدات- ورد الأمر إليهن بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] لا يقلن كلاماً متكسراً متأنثاً فيه الإغواء والإغراء، والتهييج والإثارة، حتى لا يؤدي ذلك إلى الفتنة وإثارة الشهوة.

أثر الأغاني الماجنة في الدعوة إلى الفواحش والمحرمات

أثر الأغاني الماجنة في الدعوة إلى الفواحش والمحرمات نحن نعلم اليوم ما يبث من الأغاني الماجنة التي تدعو صراحة وبكل بجاحة ووقاحة إلى ارتكاب المحرمات والفواحش بشكل لا يحتاج إلى استنباط ولا تحليل، وكلها في جملتها لا تكاد تخرج عن الحب والغرام والعشق والهيام، وهي تدعو إلى اللقاء والعناق وإلى الانتقال والانقطاع عن الناس لأجل ذاك الحبيب أو تلك المعشوقة كما يقولون. ومن أراد التأكد فليطلع على الدراسات العلمية الإعلامية على تلك الأغنيات، وكم رصد فيها من الكلام والحركة التي كلها تصنف بالمقاييس العلمية لا الدينية، أي: لسنا نحن الذين نقول: وجه أو كفان أو شعر أو غير ذلك، وإنما قالوها بالمقاييس العلمية العادية التي لا تعتبر لأحكام الشريعة اعتباراً، وذكروا ما ذكروا في ذلك.

نهي الشرع عن خروج المرأة متعطرة

نهي الشرع عن خروج المرأة متعطرة ثم نزيد الأمر ونأتي بأمور أخرى؛ فإن التشريع الحكيم قد أوردها وذكرها، فنهى عن الرائحة التي تكون مثيرة أيضاً، وقد جاء ذلك عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الناس من إذا ذكرت ذلك له قال: ما هذا التشدد، وما هذا التضييق؟! ولمَ أنتم تفكرون بالتفكير والهوس الجنسي كما يقولون؟ فليستمعوا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليجترئوا إن كانوا قد خلت قلوبهم من الإيمان بأن يوجهوا مثل هذه التهم -والعياذ بالله- إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي قال ولسنا نحن، ولأنه هو الذي حذر ونبه ولسنا نحن، وهو يبلغ عن رب العزة والجلال، فأين يمضي أولئك الذين يقولون تلك الأقاويل ويطلقون تلك التهم على عوارمها ولا يدرون أنهم يجترئون على الله جل وعلا وتشريعه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة) لماذا؟ لأن تلك الرائحة منها قد تلفت النظر إليها، وقد تعلق القلوب بها، وقد تكون سبباً للفتنة. وفي الحديث الآخر الذي رواه النسائي في سننه والإمام أحمد في مسنده من رواية أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فخرجت على قوم ليجدوا ريحها فإنها زانية) والمقصود بذلك ليس حكم الزنا المعروف، فإنه لا يثبت بذلك، ولكن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم تفهم من وجوه، وهي أن الزنا المعروف هو زنا الفرج، لكن ثمة زناً للنظر وللعين وللأذن، حتى للرائحة، أو إشارة إلى أن مثل هذا اليسير قد يدعو إلى غيره حتى يصل الأمر إلى الوقوع في الفاحشة.

الأموال التي تنفق على العطور وأدوات التجميل في دول الخليج

الأموال التي تنفق على العطور وأدوات التجميل في دول الخليج هناك إحصائية تجارية علمية تقول لنا: إن عاماً واحداً قبل بضع سنوات كانت الأموال التي صرفت على العطور عموماً نسائية ورجالية في عام واحد في دول الخليج بلغت سبعمائة وتسعة وتسعين مليون دولار، أي: ما يعادل ثلاثة مليار من الريالات السعودية. ونحن لا نقول: إن العطور محرمة. لكن ذلك يمثل نوعاً من الإسراف، ويمثل أيضاً في الاستخدام نوعاً من التجاوزات لدى بعض الناس، وهو كذلك نمط استهلاكي لا يبلغ أن يصل إلى مثل هذا الحد المخيف من الأموال المنفقة. وإذا جئنا إلى تكملة تلك الاحصاءات في هذا الشأن لنرى كيف تصب في خانة في جملتها تدعو أو تروج أو تقرب إلى الوقوع في المعاصي فإننا نكملها لنرى أن هذه الاحصائية تقول لنا: إن الإنفاق في ذلك العام كان على صبغات الشعر بنحو أربعة ملايين دولار. أي: خمسة عشر مليون ريال، وكلها تنفق لصبغات شعر ليصبح مرة أشقر ومرة أغبر ومرة أحمر، ولست أدري كيف يكون ذلك أيضاً يبلغ مثل هذا الحد! ويضاف إلى ذلك أن المستهلك في ذلك العام بلغ ستمائة طن من أحمر الشفاة، وتأمل كم يكون الطن؛ لأن أحمر الشفاة خفيف، فكم الذي استهلك منه؟! أليس ذلك يدعونا إلى النظر والتأمل؟! وكيف تنفق هذه الأموال بهذه الأقدار ونحن نعلم أن جزءاً منها على أقل تقدير ينشأ عنه الممارسة المحرمة الخاطئة؟! وكم نحن اليوم في مشكلة كبرى في هذه القضية الخطيرة؟! ألسنا اليوم نشكو ونعلم يقيناً زيادة نسبة الانحرافات الخلقية، والفواحش، والخلوات التي يضبط فيها الشباب والشابات؟! ألسنا نعلم اليوم ونقرأ أحداثاً عن كون هروب الفتيات متزايداً في كل عام؟! ألسنا نسمع ونعلم ما قيل وذكر ونشر عن اعتداء الشباب على الفتيات، والصور التي نقلت عبر الأجهزة والآلات؟! إلى أين يبلغ الحد والمدى؟! لا يعلم ذلك إلا الله؛ لأنه بقدر الاخلال والنقض لما حرم الله وعدم الالتزام بما شرع الله بقدر ما يكون من الآثار الوخيمة الوبيلة.

دراسة تبين خطر القنوات الفضائية على الفتيات

دراسة تبين خطر القنوات الفضائية على الفتيات أقف وقفة مع دراسة أرجو أن تضع بعدها يديك على قلبك، وربما على رأسك، وأن تنتبه لما وراءك في بيتك، إنها دراسة لها أيضاً بضع سنوات، أجريت على مجموعة من الطالبات والفتيات بلغ عددهن خمسة آلاف، ورصدت هذه الدراسة أحوالهن قبل دخول الفضائيات وبعدها، وإليك هذه الأرقام المخيفة المفزعة التي تحتاج منا -كما قلت- إلى التدبر الخطير. هناك أولاً نسبة كانت تبلغ تسعة وثمانين في المائة قبل دخول الفضائيات لديهن حرص على العلم والتعليم والتفوق في المجال الدراسي، وست وسبعون في المائة كان رأيهن الحذر والمنع من الاختلاط، وكانت لدى هذه الشريحة نسبة خمسة في المائة من أمراض الأعراض النسائية واضطراب الدورة الشهرية وغير ذلك، ثم ماذا بعد تلك القنوات؟ زادت الأمراض تلك إلى أن وصلت إلى نحو ثلاثة وعشرين في المائة من أفراد العينة، واسمح لي أن أذكر بعض الألفاظ مما لا أذكره ولا أستحسن ذكره في مثل هذا المقال، فإن سبع عشرة في المائة من تلك العينة من الفتيات أفدن أنهن أصبحن يمارسن العادة السرية بعد مشاهدة الفضائيات، وأن خمساً وثمانين في المائة من مشاهداتهن تتعلق بالمشاهد الجنسية والأفلام الجنسية، وأن ستاً في المائة فقط أفدن بمتابعة البرامج الثقافية والترفيهية، ولم يرد إلا صفر لمتابعة البرامج العلمية! لست أنا ولا أنت من يقول ذلك، بل يقوله الدارسون والباحثون بالاحصاءات والاستبيانات الميدانية، وبعد ذلك يقولون لنا: إنكم تبالغون، وإنكم تهولون، وإنكم منغلقون، لماذا لا تفتحون الأجواء لتعلم الثقافة والفكر والانفتاح؟ ولست أدري أين هي الثقافة في العورات المكشوفة، والأرداف المهتزة، والكلمات المحمومة وغير ذلك؟! فأين هي الثقافة في العري والرقص والمجون والفنون المزعومة؟! إن هذه الثقافة بالفعل في جملتها تدور حول ذلك، وما هو متضمن فيها أو منفرد عنها مما يدخل في تثقيف أو علم قليل في كثير، تذهب فائدته ويُلغى أثره، ولا يبقى إلا أثر ذلك الفساد المحموم والإثارة المغرية التي وصلت في بلادنا هذه إلى ما رأيناه وقرأنا عنه في الاعتداء وسط الطرقات، وفتح أبواب السيارات، ونزع وجذب الفتيات أمام الناس في الطرقات، هل كنا نصدق أن ذلك يبلغ إليه أمرنا؟!!

أسباب انتشار الأمراض الجنسية الفتاكة

أسباب انتشار الأمراض الجنسية الفتاكة هناك ما يسمى باليوم العالمي لمكافحة الإيدز، ذلك المرض الذي نقول -وسنظل نقول-: إنه عقوبة ربانية لكل من شذ عن الفطرة السوية، وتنكب وارتكب المحرمات الشرعية. تقول الاحصاءات: إن خمسة وأربعين مليوناً من البشر مصابون بالمرض أو حاملون له، وإن عشرين مليوناً من البشر قد ماتوا بسببه من قبل، وإن الأعوام الماضية تسجل زيادة يبلغ معدلها في العام ما بين ثلاثة مليون ونصف إلى أربعة مليون، وإن خمساً وتسعين في المائة من الحالات في البلدان النامية وضعوا تحتها خطوطاً حمراء، وأن كل يوم يسجل نحو ستة آلاف حالة جديدة، وقد رصدت الحالات أيضاً في بلادنا وديارنا. أما الأسباب فإنها مباشرة في الدراسة العلمية: الرقم الأول: الممارسات الجنسية التي يسمونها غير الآمنة، ونحن نسميها الآثمة المحرمة، وبعد ذلك يقولون: نحتاج إلى التثقيف والتوعية، ونحتاج إلى أخذ الاحتياطات الصحية! بدلاً من أن يقولوا: أوقفوا هذا الفساد والعهر والمجون، أوقفوا هذا الشذوذ الذي بلغ إلى ممارسة الفاحشة مع الحيوانات والبهائم. وهذا واقع معلن عنه، وله جمعيات ونوادٍ وعضويات وبطاقات، وهذا هو الأمر الذي نستيقنه؛ لأننا نوقن بقوله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124]. إننا لم نبلغ ذلك، ونسأل الله أن لا نبلغه ولا قريباً منه، لكنني أقول: ما بلغناه اليوم كنا قبل أعوام لا نتصور أن نبلغه، فالخرق يتسع على الراقعين، بل الراقعون يحجبون عن قول كلمة الحق أو التحذير، ونحن اليوم نرى ذلك في كل ما يهيج ويدعو إلى هذا، وكأن صدى هذه الآية غائب، فأين هذه الآية: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]؟ ليتها تكتب في كل سوق، وفي كل متجر، وفي كل معهد؛ لأننا نحتاج إلى أن نعود إلى الأخلاق، وأن نعود إلى العفة، وأن نعود إلى الطهارة، وأن نعود إلى البصر الذي يغض والأذن التي تمسك عن سماع الحرام، وغير ذلك مما هو معلوم.

المرأة والعمل

المرأة والعمل وإذا مضينا فإننا نرى صوراً كثيرة، فعمل المرأة لا أحد من أهل العلم والعقل والبصيرة وفهم هذا الدين يقول: إنه محرم في كل وجه وفي كل صورة. وإن ذلك يمثل -كما يقولون- ضيقاً في الفكر وتحجراً في الرأي، وتشدداً في التعامل، كلا، لكننا نقول: أتجعلون أصل حياة المرأة مبنياً على العمل؟ وتقولون: إن المرأة التي لا تعمل -أي: خارج المنزل- معطلة، وأكثر من نصف المجتمع معطل؟ خذوا -أيها القوم- ما يقوله من تتغنون بهم في الغرب، فهذه دراسة أمريكية على المرأة ربة الأسرة القابعة في بيتها التي تزعمون أنها مقيدة ومكبوتة وأنها معطلة، هذه الدراسة تقول: إنها بالتحليل العلمي تقوم بسبع عشرة وظيفة، فهي طاهية، وهناك من تعمل طاهية، وهي ممرضة؛ لأنها تمرض أبناءها، وهناك مهنة ممرضة، وهي خادمة لأنها تخدم، وهي مدبرة منزل، وتلك وظيفة، وهي كذا وكذا، حيث عدوا سبع عشرة وظيفة، وقالوا: إن عدد الساعات التي تعملها قد تصل في اليوم إلى تسع عشرة ساعة، فأعطوني امرأة تعمل في دوام تسع عشرة ساعة! وعندما قدروا المبالغ المالية قالوا: إن جملة أجرها في العام ينبغي بموجب هذا التحليل أن يصل إلى خمسمائة ألف دولار (نصف مليون دولار). فكل واحد يقرر لزوجته هذا المبلغ الآن؛ لأنها تقوم بهذه الوظائف. ثم انظر إلى العمل التي تقوله الدراسات في بلادنا العربية، فنحو ألفين وخمسمائة امرأة عاملة في بلد عربي كبير أجريت عليهن دراسة، فقالت هذه الدراسة: إن نحو سبعين في المائة يتعرضن للمضايقات في الأعمال بسبب الاختلاط بالرجال، وإن من هذه المضايقات أربعاً وخمسين في المائة منها تأخذ أشكالاً جنسية، وسبع عشرة في المائة هي عبارة عن تحرش جنسي! وأما في بعض الدول الخليجية فأجريت دراسة عن سبب عمل المرأة، فوجد أن خمساً وثلاثين في المائة من العينة كان سبب عملها إرادتها لتحقيق الذات؛ إذ ليس ثمة حاجة، ولكن تريد أن تقول: إني امرأة عاملة. وتريد أن لا يقال لها: إنك في البيت معطلة. أو: إنك زيادة عدد لا قيمة لك ولا فائدة، وأربع وثلاثون في المائة قلن: إنهن يعملن لشغل أوقات الفراغ، وأربع وعشرون في المائة قلن: إنهن يعملن لأجل الكسب والإعانة على مصاعب الحياة. وعندما نأتي إلى التحليل نجد دراسات أخرى تقول لنا: إن نحو أربعين في المائة مما تحصله المرأة من أجرها ينفق على ملابسها وزينتها عند خروجها لعملها، فنحو الثلث أو أكثر قد ذهب منها في غير فائدة، وكثير من الدراسات التي أجريت على العاملات في الخليج قالت: إن نسبة أكثر من خمسة وسبعين في المائة من أولئك النساء لدى كل واحدة منهن خادمة في البيت أو أكثر لاحتياجها، فستنفق أيضاً راتباً عليها. وقالت دراسة في اليابان: إن إجمالي ما يعود من اقتصاد المرأة على الاقتصاد العام لا يزيد عن عشرة في المائة؛ لأن المال الذي تحصله المرأة تنفقه كثيراً على أمور تخصها مباشرة، ولا يوظف فيما قد يكون من تنمية اقتصادية عامة. وبعد ذلك لا نقول هذا، وإن كان يقوله أهل العلم والاقتصاد والتحليل والخبرة، ولا نقول: إن كل امرأة يجب أن تكون في بيتها ولا يجوز خروج امرأة للعمل، ولكنا نقول: تعمل في ميدان يناسبها، وبضوابط شرعية تحفظها، ولمدة بحسب الحاجة، حتى تعود إلى مملكتها، فهل تريدون أن تبقى المرأة عاملة حتى تبلغ الستين لتتقاعد كما يتقاعد الرجل؟! اتقوا الله. وقد جاءت الاحصاءات بأن أكثر من ثمانين في المائة يقلن: إن العمل يشكل لهن جهداً مضاعفاً؛ لأنها ستعود إلى بيتها، وسيكون لها عمل مع أبنائها ومع أسرتها ومع شئون منزلها، ولا يكون ذلك كذلك حتى في بلاد أخرى. تقول الاحصاءات: إن اليابانيين الرجال لا يقضون إلا عشرة في المائة من الوقت في مجال خدمات المنزل، وأما تسعون في المائة منه فهو للنساء، فلعل اليابانيين يلحقون بنا ركب المتخلفين؛ لأنهم جعلوا مهمة التربية ومهمة رعاية الأسرة للمرأة، فنحن تخلفنا لذلك، ولعلهم يلحقون بنا ويصيرون متخلفين عند أولئك الذين يقولون هذه المقالات.

وجوب الغيرة على الأعراض

وجوب الغيرة على الأعراض أيها المؤمنون! أيها المسلمون! أيها الغيورون! إن الخطر داهم، وإن المشكلة عظيمة، وإن الخرق الذي يتسع يوشك أن لا يمكن رقعه أو رتقه، وهذا حديث ابن مسعود في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا أحد أغير من الله تعالى، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وفي حديث الشيخين أيضاً أن سعداً رضي الله عنه قال -ولعل بعض الناس ممن ذكرت وصفهم يعترضون على سعد، ويتهمونه بتهم مما أسلفت القول فيها-: (لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح) فمالك يا سعد؟! هل أنت من المتعصبين؟ وهل أنت من غير المنفتحين؟ وهل أنت من الذين لا يقدرون حرية المرأة؟ ولا أريد أن أسلسل القول، فإن الصحابة وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأجل من أن يوصف أحد منهم بمنقصة ولو كانت صغيرة، فلما بلغ ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (أتعجبون من غيرة سعد؟! والله إني لأغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وهذا حديث يدلنا على أن المعنى أن نكون غيورين على أعراضنا، قائمين بأمر الله عز وجل في حفظها وسترها وصونها، ولا أريد أن أتوسع وإن كان الأمر يحتاج، فإن تلك المشكلات أدت إلى تأخر في الزواج، وإلى كثرة العوانس، وجاء من بعد ذلك كثرة الطلاق، وأصبحت الأحوال الاجتماعية متوترة توتراً عجيباً، حتى إنه صار من المعلوم المنتشر في وسائل الإعلام أن نسب الطلاق قد بدأت تتجاوز ثلاثين في المائة من نسب الزواج، أي: كل ثلاث حالات زواج ربما تنتهي واحدة منها بالطلاق، ومعنى ذلك ما معناه مما نعرفه من الآثار الوخيمة. ومن هنا كذلك نجد الأحاديث في مثل هذا المعنى عظيمة وكثيرة، والحديث يطول، والآية ظاهرة: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]. نسأل الله عز وجل أن يسلم قلوبنا وأعيننا وأبصارنا من الفواحش وما يدعو إليها، وأن يطهرنا ويطهر مجتمعاتنا رجالاً ونساءً شيباً وشباناً مما يدعو إلى تلك الفواحش ويقرب إليها.

حماية الأعراض مسئولية الجميع

حماية الأعراض مسئولية الجميع إنني أوصي جميع إخواني المسلمين بتقوى الله؛ استجابة لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وإن من أعظم التقوى كف الجوارح عما حرم الله، نظراً وسمعاً ولمساً وخلوة وغير ذلك مما هو معلوم لا يكاد أحد يجهل حكمه، بل كثيرون من الناس يعرفون دليله وحجته، وهنا صرخة مدوية لكل منا، فما منا إلا وهو زوج لامرأة، أو أب لبنت أو بنات، أو أخ لأخت أو أخوات، فقم بدورك حفظاً للعورات، ولكل ما نحتاج أن نحافظ عليه من الشرف والعرض، لا بالإكراه والإجبار، وإنما بالتربية الإيمانية، والتوعية الإسلامية، وذكر مساوئ مخالفة ما حرم الله، وذكر الشواهد والوقائع في مجتمعنا، فإنك إن التفت يميناً أو يساراً لم تعدم جاراً أو شخصاً تعرفه أو قريباً من الأقارب قد انزلقت قدمه فوصلت إلى الهاوية بسبب ترخص يسير في أول الأمر، ونحن نعلم ما هو معلوم في طبائع النفوس البشرية وتدرجها في أمور المحرمات، نظرة فابتسامة فسلام فكلام، ويأتي بعده ما بعده، وقد أصبحنا نشعر بذلك ونلمسه، فالله الله في أنفسنا وأعراضنا وأزواجنا وبناتنا وشبابنا وشاباتنا، فإن النار تزداد اشتعالاً، ويوشك أن لا يسلم منها أحد، سلمنا الله وإياك من كل سوء ومكروه. اللهم! إنا نسألك أن تصرف عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن تصرف عنا المحن والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم! إنا نسألك أن تطهر قلوبنا، وأن تزكي نفوسنا، وأن تغض عن المحرمات أبصارنا، وأن تصم عن الآثام أسماعنا، وأن تجعلنا من عبادك المؤمنين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم! إنا نسألك أن تمكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، وأن تقمع أهل الزيغ والفساد، وأن تنشر رحمتك على العباد، وأن ترفع في الأمة علم الجهاد. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم! احسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا -اللهم- من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم! استرنا ولا تفضحنا، اللهم! لا تفضحنا على رءوس الأشهاد، نسألك -اللهم- أن ترزقنا إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وعلماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراًًًًًً، وطرفاً دامعاًًً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيها أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، رد -اللهم- كيدهم في نحورهم، واشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة عليهم، وأنزل -اللهم- بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، امسح -اللهم- عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل -اللهم- لنا ولهم من كل هم فرجاًَ، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتها وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ -اللهم- لها أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها يا رب العالمين. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم! صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الإيمان مفهوما وتأثيرا

الإيمان مفهوماً وتأثيراً ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل، فلا يقبل الإيمان القولي مجرداً عن العمل، ولا يقبل الإيمان العملي مجرداً عن التصديق والإقرار بالقلب؛ ولذا جمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بين هذين الأمرين، فكانوا سادة الأمة وقادتها، وفتحوا البلاد والأمصار بالإيمان الذي حملوه في صدورهم، وتحقق في أقوالهم وأفعالهم، وأثبتوا رسوخه في قلوبهم، وظهرت آثاره في سلوكهم ومعاملاتهم.

أهمية الحديث عن الإيمان

أهمية الحديث عن الإيمان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين والدعاة، ونحمد الله جل وعلا أن هيأ لنا هذا اللقاء الطيب المبارك الذي نصل فيه ما سلف من هذه الدروس والمواعظ العامة، وأسأله جل وعلا أن يكتب لنا بها أجراً، وأن يرزقنا من ورائها نفعاً، وأن يجعل لنا فيها خيراً، وكما جمعنا في هذا البيت من بيوته أن يجمعنا في مستقر رحمته، ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأله جل وعلا مزيد التوفيق والتسديد، والهداية والإلهام إلى الطاعة، هو جل وعلا الهادي والموفق سبحانه وتعالى. وبعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهذا هو درسنا الخامس بعد المائة الأولى ليوم الجمعة، الثاني من شهر جمادى الأولى عام (1415هـ). وعنوان هذا المجلس: الإيمان مفهوماً وتأثيراً. ولعلنا نتفق جميعاً على أن أهم شيء في هذه الحياة كلها، وأهم شيء في هذا الوجود كله، والأمر الذي قامت لأجله السماوات والأرض، وخلقت لأجله الجنة والنار، والثواب والعقاب، هو أمر الإيمان، وحقيقة التوحيد، ومضمون شهادة أن لا إله إلا الله، إذ إن الله جل وعلا إنما خلق الخلق لعبادته وتوحيده سبحانه وتعالى، وإنما جعل هذه الحياة كلها ابتلاءً واختباراً، لتعقبها بعد ذلك حياة أخرى فيها حساب، وبعد ذلك إما ثواب وإما عقاب، وكل ذلك أساسه ومداره على الإيمان. ولعلنا أيضاً نتساءل: ما الداعي إلى أن نتحدث في مثل هذا الموضوع؟ وربما قال كثير منا: إنه أمر متفق عليه ولا خلاف فيه، والعلم به حاصل، إلا أنني أقول: إن أمر الإيمان لما كانت له هذه الأهمية العظمى وجب أن يكون هو الأمر الذي لا يفتر الذاكر عن ذكره، ولا يغفل المعلم عن تعليمه، ولا يتناسى الناس أمره، ولا يجعلون مجلساً من مجالسهم يمر دون تذكرة به أو دعاء إليه أو تعريف به؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم -وهم أعلم الأمة، وأزكاها نفوساً، وأطهرها قلوباً، وأعظمها إيماناً، وأكثرها عبادة- كان أحدهم ينادي صاحبه ويقول له: تعال بنا نؤمن ساعة. وإن القلوب تغشاها الغفلة، ويضرب عليها الران، وتتكاثر عليها ظلمات المعاصي، فتحتاج دائماً وأبداً في كل ظرف وحال، وفي كل بلد ومكان، وفي كل عصر وأوان، وفي كل حالة من حالات الإنسان؛ إلى أن يتذكر حقيقة الإيمان التي تجلو صدأ قلبه، والتي تربطه في هذه الحياة الدنيا بالحياة الأخرى، والتي تشد حبل صلته بخالقه ومولاه سبحانه وتعالى. ولذلك جاء مثل هذا الحديث التذكيري الذي أسأل الله جل وعلا أن يجعله حياة لقلوبنا، وأن يجعله تقوية لإيماننا، وزاداً لنا في حياتنا، وقد جعلت الموضوع متعلقاً بمفهوم الإيمان وتأثيره؛ لأن الفهم أساس العمل، ولأن التأثير ثمرة العمل، وعمل بلا فهم كبناء بلا أساس، وعمل بلا أثر كشجر بلا ثمر، إذ عندما يعمل العامل من غير حسن فهم، وكمال تصور، ودقة في العلم، وشمول فيه يخبط خبط عشواء، ويقع في الضلال والانحراف، وتتلقفه الشبهات، ويأخذ في سبل الشياطين إلا من رحم الله، ولأنه إذا فهم ثم لم يعمل العمل الذي يترك بصماته وآثاره في حياته وسلوكه، وفي أقواله وأفعاله، فكأنه إنما أتى بظاهر من القول وظاهر من العمل لم تخلص حقيقته إلى قلبه وسلوكه.

حقيقة الإيمان وأثره على حياة المؤمن

حقيقة الإيمان وأثره على حياة المؤمن

لا يقتصر الإيمان على القول باللسان ولا العمل ولا التصديق

لا يقتصر الإيمان على القول باللسان ولا العمل ولا التصديق ونبدأ بأمر الفهم وهو المقدم في هذا المقام، ونتساءل سؤالاً بدهياً ربما يتبادر إلى أذهان كثير منا أنه من الوضوح بمكان، بحيث لا يسأل عن مثله، ولكن ما سأذكره من خلال الآيات القرآنية يجعل لهذا السؤال بعداً أعظم وأوسع مما قد يخطر ببال بعضنا: ما هو الإيمان؟ هل الإيمان مجرد القول الذي ينطق به اللسان؟ وهل هو دعوى يمكن لكل أحد أن يدعيها؟ إذاً: كما قيل: (لو كانت الأمور بالدعاوى لقال من شاء ما شاء) إن الإيمان ليس مجرد القول، بل قد أثبت الله عز وجل النطق بالإيمان مع نفي حقيقته، فقال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] أولئك قوم نطقوا بألسنتهم، ورفعوا بالإيمان رايتهم، وصدعوا به في كل مجلس، ونطقوا به في كل محفل، ومع ذلك قال الله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] فنفى عنهم حقيقة الإيمان مع أنهم أظهروها ونطقوا بها باللسان؛ فإذاً: ليس الإيمان مجرد القول، فهل الإيمان هو العمل والالتزام بالمقتضيات والقيام بأداء الصلاة والزكاة، وسائر الأركان؟ لو كان الأمر كذلك لكان بعض أهل النفاق أحظى بوصف الإيمان، وأحظى بالرتب العليا فيه من كثير من الناس، إذ المنافقون يظهرون من الأعمال والمنافسة في الخيرات ما قد يظهر به عند كثير من الناس أنهم قد بلغوا الرتب العليا من الإيمان. ونأتي مرة أخرى إلى الآيات القرآنية فنجدها تصف أقواماً قاموا بالأعمال الإيمانية، ولكن نفى الله عز وجل عنهم الإيمان، فجاء في وصف أهل النفاق: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وفي سورة التوبة: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] أولئك قوم جاءوا بالشعائر الإيمانية الواضحة البارزة، فالصلاة قد أطلق عليها في القرآن مسمى الإيمان كما قال جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، لكنهم قوم نفى الله عنهم الإيمان، بل قد قال جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]. فإذا لم يكن الإيمان هو مجرد القول، ولا مجرد العمل، فهل الإيمان هو حقيقة التصديق والإدراك والعلم والمعرفة؟ والجواب القرآني ينفي ذلك أيضاً، فالله سبحانه وتعالى يقول في حال الكافرين: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] جحدوا بها: أي أنكروها بعد أن عرفوها، واستيقنتها أنفسهم: أي بلغت معرفتهم بها درجة أعظم من درجة العلم، وهي درجة اليقين الذي يعرف به كل الأمور المتعلقة بهذه الحقيقة، فقد عرفوا الحق وأيقنوا بدلالة الإيمان ومع ذلك ما آمنوا، بل صرفهم الظلم والعلو عن ذلك. ويبين الله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الحقيقة في قوله جل وعلا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] فهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان كفار قريش يسمونه الصادق الأمين فقد رأوا من الأدلة البرهانية والمعجزات النبوية ما كان حجة واضحة داحضة لكل شك، فقد انفلق القمر فلقتين حتى كان فوق كل جبل منهما فلقة، ورأوا ذلك عياناً، ثم أصبحوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مكذبين، وبالله سبحانه وتعالى كافرين، نسأل الله تعالى السلامة. وأبو جهل يمثل صورة من صور نفي الإيمان مع تحقق المعرفة، يقول: كنا وبنو هاشم نتنافس الشرف، فإذا كانت لهم السقاية كانت لنا الرفادة، وإذا كانت لهم كذا كان لنا كذا حتى إذا تساوينا وتجاثينا على الركب قالوا: منا نبي، فمن أين لنا بنبي؟ فوالله لا نصدقه الدهر كله. إذاً: ليست القضية أنهم كان ينقصهم الدليل حتى يعرفوا الحق، كلا، فقد عرفوا الدليل، وأقيمت الحجة، وانقطع الشك، لكن القلوب المظلمة المعرضة لم تؤمن بالله سبحانه وتعالى. وقال قوم مسيلمة الكذاب: (كاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر) أي: مادام هذا صاحبنا فنصدقه وإن كنا نعلم حقيقة كذبه، وذلك نكذبه وإن كنا نعلم حقيقة صدقه.

أمثلة في بيان حقيقة الإيمان وأثره على الحياة

أمثلة في بيان حقيقة الإيمان وأثره على الحياة إذاً: فالإيمان ليس قولاً، وليس عملاً، وليس معرفة، فأي شيء هو هذا الإيمان؟ قد نقول: إنه جماع هذه كلها، ولكني أريد أن أعمق هذا المعنى تعميقاً يجعل له حقيقته الواجب معرفتها. وأضرب لذلك مثلاً بعيداً، ثم آتي بمثل آخر أقرب حتى ندرك أن قضية الإيمان وأن مفهومه أعمق وأوسع وأكثر شمولاً مما قد نتصوره في بعض الأحيان: لو أن إنساناً جاء إلى أرض صحراوية جرداء لا شجر فيها ولا ماء، وليس فيها من معالم الحياة شيء يذكر، ثم غاب عنها فترة من الزمن وجاء إليها فإذا هي جنان خضراء، وأشجار وثمار، وظلال وارفة، وأزهار زاهية، وثمار يانعة، فإنه لا شك سيعجب عجباً شديداً، بل قد يحكم أو يجزم أو يتصور أن هذه الأرض ليست هي التي رآها من قبل، بل هي أرض جديدة مختلفة، وسيكون عنده يقين جازم أنه قد حصلت أمور أوجبت مثل هذا التغيير، وهذه الأمور بالنسبة له في مثل هذا المثل أمور مادية محسوسة، لابد أن يكون قد جاء إلى هذه الأرض أقوام فحرسوها وزرعوها وحفروها وأخرجوا منها الماء، وفعلوا بها وفعلوا واجتهدوا فيها وجدوا حتى حصل مثل هذا الأمر. ونحن حينئذٍ كأننا نمثل بين شيئين مختلفين، كأننا نذكر صورة من صور الموت والجفاف والجفاء، وصورة أخرى من صور الحياة والحيوية والرواء، وبينهما بعد شاسع وفرق كبير، حتى كأن الأمر لا يرتبط أوله بآخره، أو لا ترتبط هذه بتلك. وأنتقل إلى المثل الحسي الواقعي بعد هذا المثل التجريبي النظري: جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجزيرة وقد كانت صحراء جرداء من المبادئ، وكان فيها الكفر ضارباً أطنابه، والظلام مرخياً أستاره، والناس يتخبطون في الجهل والعمى، ويتخبطون في أنواع من الشرك والكفر، وبينهم شحناء وبغضاء، وبينهم حروب مشتعلة وعداوات وحزازات، وعندهم تفاهات في الأفكار. ثم هؤلاء الناس بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا فيهم تغيراً كاملاً شاملاً مستوعباً، فإذا أهل الظلمات هم أهل النور والضياء، وإذا الفرق المتناحرة أمة واحدة، وإذا أصحاب الأفكار التافهة هم أصحاب الغايات العظيمة، وإذا بأولئك القوم الذين كان فيهم كثير وكثير من أوصاف الرذيلة قد صاروا معلمي البشرية وقادتها في المبادئ والأخلاق والفضائل والأفكار والأعمال. فكأن المثل ينطبق مرة أخرى! كأن هؤلاء ليسوا هم الذين كانوا من قبل! ليس هؤلاء القوم هم الذين رأيناهم في تلك الحالة! وسنبحث حينئذ كما بحث صاحبنا في المثل الأول عن السبب.

الإيمان هو الذي غير حياة الصحابة وليس الماديات

الإيمان هو الذي غير حياة الصحابة وليس الماديات وينطلق كثير من الناس إلى نظرات مادية فيقول: لعل هؤلاء القوم تغيرت أحوالهم الاقتصادية فأصبح عندهم ارتفاع في مستوى المعيشة، وبالتالي تغيرت أنماط حياتهم أو سلوكياتهم أو طريقة كلامهم ومعاملاتهم ونحو ذلك، وقائل قد يقول: لعله قد تغيرت أنماط من حياتهم الاجتماعية بأن وفد إليهم أقوام آخرون، أو بأن سافروا واغتربوا ورحلوا إلى بلاد أخرى ونحو ذلك. وإذا جئنا إلى هذه الحقيقة التي ضربنا بها المثل في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قريشاً هي كما هي ما تغير اقتصادها، ولا أمور حياتها الاجتماعية، هي كما هي في رحلة شتائها وصيفها في كبريائها وغطرستها في أحرارها وساداتها وفي عبيدها وهي كما هي في شرب خمرها وفي لهوها وعبثها ما تغير فيها شيء في أحوالها المادية. فما الذي إذاً غير هؤلاء الناس؟ ما الذي غير العقول؟ ما الذي غير النفوس؟ ما الذي غير الكلمات؟ ما الذي غير الأعمال؟ ما الذي صاغ الأفكار؟ ما الذي غير كل هذا التغيير الجذري الشامل وبنى هذا البناء العظيم المتكامل؟ سنجيب بكلمة باردة ربما لا ندرك شأوها وعظمتها، سنقول: إنه الإيمان إنها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولكنا نريد أن نعمق ذلك من خلال الآيات القرآنية أيضاً، فقد وصف الله جل وعلا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف الرسالة التي جاء بها، وما حقيقتها، وما الذي جاءت به إلى البشرية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52].

الإنسان بلا إيمان كالجسد بلا روح

الإنسان بلا إيمان كالجسد بلا روح انظر إلى هذه الآية وتأمل قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] هذا الإيمان هو الروح، ولا قيمة لجسد بلا روح، ما الفرق بين الإنسان الحي والذي يموت، ويكون تواً قد مات قبل لحظات؟ إنك لا تنكر من أمر هذا الميت شيئاً، جسمه طري، وكل شيء فيه كامل تام، ماذا يقول الناس؟ كلمة واحدة باردة: فلان مات! ما معنى مات؟ خرجت روحه. لكن ما حقيقة هذا المعنى؟ إنه ألغي من الوجود كله، لم يعد له حركة ولا أثر، ولا فكر ولا كلام ولا عمل، وكذلك الإنسان في حقيقة أمره بلا إيمان لا قيمة له لا وجود له لا قيمة لعمله لا أثر لقوله، هو تماماً كجسد بلا روح، ولو أننا رأينا يوماً مريضاً قد أنهكه المرض وأعياه حتى اصفر لونه، وخارت قواه، وغارت عيناه، وأصبح الناس ينتظرون موته بين لحظة وأخرى، ثم أراد الله عز وجل له أن يحيا وأن يبقى، فإذا بهذه القوى الخائرة تعود مرة أخرى فينشط، وإذا بتلك الصفرة التي كانت من أثر المرض تعود قوة وحيوية، إذا بالناس يقولون: سبحان الله! سبحان المحيي! لأنه قد بلغ مبلغاً كأنه قد مات! ثم بعد ذلك قد عادت إليه الحياة: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52].

الإيمان هو النور الذي يضيء طريق الحياة

الإيمان هو النور الذي يضيء طريق الحياة فإذا جاء الروح في الجسد، وتحرك الجسد ومضى لينطلق في هذه الحياة، فأي شيء يحتاج إليه؟ إنه يحتاج إلى النور؛ لأن هذه الحركة قد تكون وبالاً عليه قد تجره إلى أن يمشي في الظلمات، فإذا به يقع في الهاوية إثر الهاوية، وإذا بالحفرة تسلمه إلى أختها، وإذا به كحال الإنسان الذي يمشي في ظلام دامس، يمشي فيخبط في رأسه مرة يمشي فينقلب من أثر قدمه مرة يمشي فإذا به يصاب هنا ويصاب هناك، ولا يصل إلى غايته، ولا يصل إلى مبتغاه، ولا يمكن أن يحقق هدفاً، ولا أن يجني ثمرة، وكذلك الإنسان بلا إيمان يفقد النور الذي يسير به في هذه الحياة. والله سبحانه وتعالى قد ضرب لنا أمثلة كثيرة بشأن الإيمان وتمثيله بالنور الذي هو أهم شيء للإنسان في سيره في هذه الحياة، فحقيقة الإيمان إذاً: هي الروح المغيرة المحركة، وهو النور الذي يبصر به الإنسان حقائق الدنيا حقائق الآخرة حقائق الناس حقائق الأفكار حقائق الأحوال حقائق الأعمال نور يهدي به الله سبحانه وتعالى من يشاء من عباده.

الإيمان تغيير جذري يتناول جميع جوانب الإنسان

الإيمان تغيير جذري يتناول جميع جوانب الإنسان قضية الإيمان -أيها الإخوة الأحبة- قضية تغيير جذري شامل، وبناء متكامل، ومعنى ذلك أن الإيمان يتناول كل شيء في حياتك، يتناول خاطرة عقلك، ولفظة لسانك، وعمل جوارحك، وآمالك وطموحاتك، وأهدافك وغاياتك، كل شيء ينبغي أن يكون منضبطاً بهذا الإيمان، حتى خفقة القلب والمحبة والميل يجب أن تكون مضبوطة بالإيمان بالله عز وجل؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). ولا شك أن من الجرح في الإيمان: أن تحب أعداء الله، وأن تبغض أولياء الله عز وجل، الإيمان ينبغي أن يكون مستولياً على كل شيء، فالكلمة إن نطقت فبمقتضى الإيمان، والعمل إن عمل فعلى منهج الإيمان، والأمل إن وجد فإنه أمل منبثق من حقيقة الإيمان، والغاية إن سعى إليها فإنما هي غاية من غايات الإيمان، وهذا كله معناه أن تتغير الحياة كلها في صغير الأمور وكبيرها، وفي سائر الأحوال والأعصار، لتتغير تغيراً جذرياً شاملاً وفق حقيقة الإيمان، ووفق حقيقة لا إله إلا الله. ولقد أدرك الكفار هذه الحقيقة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (قولوا لا إله إلا الله كلمة تملكون بها العرب والعجم)، فما كان أسهل أن يقولوها! لكنهم كانوا يدركون أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بها معنىً عظيماً يكون فيه الحكم لله سبحانه وتعالى، والعلاقة مبنية على مقتضى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والمحبة والبغض مرتبطة بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأن تغير الحياة كلها وفق هذا المعنى العظيم وهذه الحقيقة الشمولية الكبيرة التي لا تحدها حدود، وهي حقيقة الكون كله، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الحياة الآخرة. ولذلك فالإيمان تغيير جذري يتناول ميل النفس، ومشاعر القلب، وخواطر العقل، وكلمات اللسان، وعمل الجوارح، ويتناول كل شيء، ويكون مع الإنسان كالدم الذي يجري في عروقه، وكالنفس الذي يتردد في صدره، وأسألكم: هل يمكن للإنسان أن يستغني عن النفس؟ A لا؛ لأنه إن منع عنه النفس انقطعت عنه الحياة، والأمر كذلك بالنسبة للإيمان، فإن رفعت عنه حقيقة الإيمان أو لم تتغلغل حقيقة الإيمان؛ فكأنه قد قطعت عنه أسباب الحياة، وأصبح ميتاً وإن كان يدب بين الأحياء. وأمثل أيضاً بهذا المثل في صورة أخرى: لو أن إنساناً جاء ليكتم نفسك، هل تبتسم في وجهه؟! وإذا صبرت على ذلك وقتاً من الزمن ثم بدأت تختنق ماذا تصنع؟ إنك تستنفر كل قواك وإن كان هذا الذي يكتم أنفاسك قوياً أو جباراً أو تخشاه، لكن المسألة هنا مسألة موت أو حياة، فيدك ستنطلق، ورجلك ستتحرك، وبدنك سيتغير كله؛ لأنك تدافع عن حياتك ووجودك كله. فكذلك ينبغي إن حوربت في إيمانك، أو شككت في إيمانك، أو جاء من يمنعك من إيمانك ومقتضيات إيمانك؛ فإن الأمر كأنما يريد أن يسلبك حياتك، وأن يقتل فيك وجودك وحيويتك، فكما لا تستطيع أن تملك صبراً على ذلك الذي يكتم نفسك، فينبغي ألا تملك صبراً على كل ما يخالف مقتضى حقيقة إيمانك.

صور من تغيير الإيمان الجذرية

صور من تغيير الإيمان الجذرية هذه صور من مفاهيم هذا الإيمان، وأضرب مثلاً قرآنياً من سيرة الأنبياء السابقين، ثم أضرب أمثلة من سيرة صحب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لندرك حقيقة التغيير الكامل الذي يتناول كل شيء، حتى ندرك هل نحن متحققون بالإيمان تحققاً كاملاً، أم أن في إيماننا ضعفاً، وفي إيماننا دخناً، وفي إيماننا بعض التصورات الخاطئة؟

أثر الإيمان على سحرة فرعون

أثر الإيمان على سحرة فرعون سحرة فرعون لما دعاهم فرعون وأقبلوا عليه كان أول قولهم: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]. أول شيء سألوا عنه وهم في ظلمات الكفر، وهم بعيدون عن الإيمان: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) أرادوا مصلحتهم الذاتية على حساب المصالح الأخرى، وأرادوا حظهم الدنيوي دون اعتبار لحظ الآخرة، وانظروا إليهم وهم يقولون: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)، لم يسألوا: هذه القضية حق أم باطل صدق أم كذب ظلم أم عدل؟ ما سألوا عن شيء من ذلك؛ لأنهم لا إيمان لهم، وبالتالي لا مبادئ عندهم لا قيم عندهم لا أخلاقيات عندهم ليس عندهم مقومات الحياة الإنسانية ولا مؤشرات الفطرة البشرية. وأجابهم فرعون بنفس المنطق المادي الدنيوي الذي ليس له من الإيمان حظ ولا نصيب: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114] أي: سيكون لكم أجر مادي، وستكونون من المقربين من فرعون وخاصته وحاشيته، وكان ذلك عندهم مما تهواه قلوبهم، ويخطف أبصارهم، وربما يبذلون كل ما يستطيعون لينالوا حظوة عند فرعون. ثم مضت القصة كما نعلم، وألقى موسى عليه السلام عصاه: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] فماذا حدث؟ آمن السحرة برب هارون وموسى. ما الذي استغرقه هذا؟ جزء يسير من الزمن، كانوا قبل لحظة رمي العصا كافرين، وبعدها مؤمنين، فانظروا إلى التغيير الذي وقع فيه في كلامه في أفكاره في آماله في مقالبه لنرى أن هذه اللحظة كانت ومضة واحدة سريعة لكنها شملت تغييراً فكرياً نفسياً عاطفياً قوياً عملياً في كل شيء، هؤلاء السحرة الذين قالوا: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41] وكانوا يريدون إبطال الحق ومعاداته، ماذا قالوا بعد أن آمنوا؟ {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] وذكروا هارون مقدماً على موسى في سورة طه، ومؤخراً عنه في الشعراء، وهارون ما ألقى عصا ولا جابه سحرهم، إنما أرادوا بهذا أن يقولوا: آمنا بالإيمان الحقيقي، آمنا برب هارون الذي لم يعمل لنا شيئاً، ولم يواجهنا بعصا، كما آمنا برب موسى، فنحن لم نؤمن بالعصا لم نؤمن بهذه القوة الظاهرية، وإنما عرفنا أنها تعبر عن صدق في الرسالة، وحقيقة الإيمان الذي بعث به موسى عليه السلام. وجاء فرعون بالمنطق الدنيوي الذي بقي عليه: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] هؤلاء الذين كانوا ينتظرون من فرعون نظرة، وينتظرون منه عطاء، انظروا إلى قولهم وموقفهم! قالوا له وقد تغيرت أفكارهم وآمالهم ومشاعرهم وطموحاتهم: مسكين أنت يا فرعون! ما زلت في ظلمات الكفر! ما زال عقلك بليداً! ما زالت أفكارك تافهة! ما زال حيزك محدوداً ضيقاً! أما نحن فقد تغيرنا فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. افعل ما تشاء فإن ما تفعل كله في ميدان الحياة الدنيا، ونحن عندنا أمر آخر وحياة أخرى، فإن أردت أن تقتل فلتقتل فإن وراء الموت حياة أخرى، وإن أردت أن تحرم فافعل فإن وراء الحرمان نعيماً، وهذه لحظة إيمان واحدة. ثم لما جابههم وجادلهم قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51] في السابق كانوا يريدون الأموال والعطاء، والآن يريدون المغفرة والرضوان من الله سبحانه وتعالى، هكذا غيرهم الإيمان في موقف واحد، كانوا قد دخلوا على فرعون راكعين خاضعين معظمين له، كانوا يريدون من فرعون العطاء والنوال، ويرجون عنده المنزلة والجاه، ثم إذا بهم يعرضون عن ذلك كله، ولا يلتفتون إليه، ولا يرهبون قوة فرعون ولا سلطانه ولا جبروته، كل ذلك يعبر لنا عن أمر -كما قلت في الكلمات هو أمر بارد- قد لا يظهر له ذلك التأثير نقول: السبب أنهم آمنوا، لكن انظر إلى حقيقة هذا الإيمان وفهمه الشامل الذي غير كل شيء في هؤلاء القوم.

تغيير الإيمان في حياة الطفيل بن عمرو الدوسي

تغيير الإيمان في حياة الطفيل بن عمرو الدوسي وكذلك مواقف من صحب النبي صلى الله عليه وسلم تبين لنا أن الإيمان جذري شامل يغير كل شيء وفق حقيقة التوحيد والإيمان. فهذا الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، وآمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، ودخل في دين الإسلام، والإسلام مازال في أول أمره، وآيات القرآن لم ينزل منها كثير، والأحكام لم يأت فيها بعد تفصيل. ثم مضى الطفيل إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام فلما قدم عليهم لقي زوجته فقال: إليك عني فلست منك ولست مني، مفاصلة اقتضاها إيمانه الذي استولى على قلبه، فلم يطغ عليه حب الزوجة كما لم يطغ عليه تقدير الأب، فلما لقي والده قال: إليك عني فلست منك ولست مني! أي شيء اعتراك يا طفيل؟ قال: إني آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ودخلت في الإسلام، فانقلبت حياته كلها، وتغيرت مشاعره، وغير علاقاته وصلاته وفق هذه الحقيقة الإيمانية.

أبو ذر خامس خمسة في الإسلام

أبو ذر خامس خمسة في الإسلام وأبو ذر رضي الله عنه هو خامس خمسة في الإسلام، بعد أن أسلم مضى إلى قبيلته ودياره، ولم يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم إلا في العام السابع للهجرة، فما صنع أبو ذر وقد ملأ الإيمان جوانح نفسه، وقد دخل إلى سويداء قلبه، وخالط شغاف قلبه، وجرى مع دمائه في عروقه؟ لقد فاض إيمان أبي ذر واستولى عليه هذا الإيمان حتى جهر به في كل مكان، وصبه في كل الآذان، وخاطب به كل القلوب، وإذا به عندما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم ومعه قبيلتان هما: قبيلة أسلم وقبيلة غفار، كانتا من قبائل الكفر والشرك وقطع الطريق والسطو والسلب والنهب، أتى بهما أبو ذر وحده رضي الله عنه وقد نور الله عز وجل قلوبهم بالإيمان على يده.

ربعي بن عامر واعتزازه بإيمانه

ربعي بن عامر واعتزازه بإيمانه فهذه بعض نماذج لهذا التغيير، حتى إن الأهداف والطموحات تتغير، فقد كان الأعرابي في الجزيرة العربية قبل الإسلام لا تتجاوز طموحاته الشاة والبعير والرعي، ولم يكن عندهم طموح، وكانت أهدافهم حتى على المستوى المادي محدودة، فكانوا ينظرون إلى ملك كسرى، وإلى ملك قيصر، وإلى من وراءهم من الغساسنة والمناذرة أنهم شيء عظيم لا يمكن أن يرتقوا إليه، ولا أن يتطاولوا معه، ولا أن ينافسوه، لكن لما جاء الإسلام والإيمان تغيرت الأهداف والغايات. وجاء ربعي بن عامر رضي الله عنه، وهو بملابس رثة، ودخل إلى أبهة الملك ومعه حربته يخرق بها الطنافس، ويرقى إلى أعلى مكان عند العظيم الذي يعظمونه، فيسأل: أي شيء جاء بكم وقد كنتم لا يجرؤ أحدكم أن ينظر إلينا؟! قال: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. لقد أصبحوا أصحاب رسالة وغاية، أصبحوا معلمين وأساتذة وقادة بهذا الإيمان. ومن خلال هذا الإيمان تغيرت الطموحات، فإذا شاب صغير كـ ربيعة بن كعب رضي الله عنه وهو في الرابعة عشرة من عمره يسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (سلني ما شئت؟ فيقول: أسألك مرافقتك في الجنة)، تغيرت الآمال والأفكار والطموحات، كل ذلك هو مفهوم الإيمان وحقيقته، ولذلك ينبغي ألا نظن أن الإيمان هو القول، أو نضم إليه العمل فحسب دون أن يكون هناك اليقين الراسخ، دون أن يكون هذا التغيير الشامل، دون أن يكون هذا التحول الجذري الذي يتناول جميع مظاهر الحياة، ينبغي أن نأخذ هذا الإيمان من هذا المفهوم العظيم.

مؤمن آل فرعون وصدعه بالحق

مؤمن آل فرعون وصدعه بالحق وانظر إلى مثل قرآني أيضاً: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28]. قال هذا القول في وسط بيئة الكفر الفرعونية، قاله كما جاء في القرآن الكريم بعد قول فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. وهذا الضعيف المغمور في بيئة فرعون كان يكتم إيمانه، فلما جد الجد، وحق الحق، نطق لسانه، وتحركت عاطفته، وأظهر الوضوح التام والمنهج الصائب الذي لا خطأ فيه.

امرأة فرعون مثل عظيم في الإيمان

امرأة فرعون مثل عظيم في الإيمان بل انظر إلى مثل قد ضربه الله عز وجل لأهل الإيمان جميعاً في سائر الأعصار والأزمان كما قال جل وعلا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. امرأة فرعون الكافر المدعي للربوبية مؤمنة في وسط هذه البيئة الكفرية، ثم هي تقول: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)، وهي بالنسبة لأهل الدنيا في أعظم وأرقى درجات الثراء والغنى في القصور والرياش والمال والجاه، لكن ما رأت ذلك شيئاً، بل احتقرته وازدرته، وكان عندها استعلاء على كل ذلك، استعلاء على الجبروت والطغيان الذي كان يمثله فرعون، استعلاء على الجاه والمال والحياة الدنيا التي كانت تمثلها دنيا فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].

ظاهرة ضعف آثار الإيمان في حياة الناس

ظاهرة ضعف آثار الإيمان في حياة الناس أيها الأحبة الكرام! ومما أود الإشارة إليه أن مفهوم الإيمان هو الحقيقة المستقرة في القلب، المنطوق بها على اللسان، الظاهرة على الأعمال والجوارح وسائر الأركان، المغيرة لكل شيء في حياة الإنسان وفق حقيقة الإيمان. فهو أمر عظيم جداً، ولذلك كل تغيير في حقيقة الأمر ينبغي أن ندرك أنه يرتبط بأمرين اثنين: مبدأ يعتقد أو شهوة تتبع. انظر إلى أحوال الناس وإلى أعمالهم فإنما يفعل أحدهم الفعل بسبب شهوة دفعته إليه، وإذا لم يكن محباً لهذا فقد يفعله بسبب مبدأ ومعتقد ربطه به، أفلا ترى أهل الإيمان يتركون الدنيا ونفوسهم بها متعلقة، وقلوبهم فيها بحكم الفطرة البشرية راغبة، لكنهم يعرضون عنها؛ لأن عندهم اعتقاداً ومبدأً وإيماناً. وأحياناً إذا ضعف إيمانهم قادتهم الشهوة إلى مخالفة الإيمان، فما من عمل عند الإنسان إلا وله دافع نفسي، وإما أن يكون الدافع مبدئياً إيمانياً، وإما أن يكون شهوانياً غريزياً، فإذا استحكم الدافع الإيماني فإنه يضبط الشهوة فيجعلها محكومة بحكم الإيمان، وإذا استعلى الجانب الغريزي الشهواني انطلقت هذه الشهوة في ميادين تتعارض مع الإيمان، وتطمس نوره في القلب، وتظلم بها النفس، ويحصل ذلك في حياة كثير من المسلمين وكثير منا إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فإذا كان هذا هو مفهوم الإيمان فما بعض تأثيراته وآثاره التي نحتاج أيضاً إلى نتأملها تأملاً عظيماً؟

لا تكفي العبادة لإثبات قوة الإيمان دون التضحية بالدنيا

لا تكفي العبادة لإثبات قوة الإيمان دون التضحية بالدنيا إن القضية التي تتبادر إلى ذهن كثير من الناس في كثير من الأحوال أن أثر الإيمان الأعظم والأظهر هو أمر العبادة والخشية والخشوع هو أمر الدموع التي تذرف من خشية الله سبحانه وتعالى هو أمر العبادة التي يتقرب بها الإنسان لله جل وعلا، وهذا لا شك أنه من أعظم آثار الإيمان، ولكن مثل هذا الأثر قد لا يكون ممحصاً ومميزاً، فإنك تجد كثيراً من الناس يؤمن بالله عز وجل، ويعبد، ويزهد، ويدعو ويتقرب إلى الله عز وجل بما شاء الله له أن يتقرب، لكنه لا يثبت إيمانه، ولا يظهر أثر إيمانه في مواقف أخرى، وإذا بك ترى انفصاماً في حياة بعض الناس، فهو في المسجد ساجد عابد، وهو خارجه لاه عابث أو منشغل بالدنيا، أو هو قد جعل له غايات أخرى أو نحو ذلك. وقد نبه بعض الصحابة تنبيهات إلى أن هذا الأثر مهم، لكنه ليس هو الأصل الأول والأخير، لكنه ليس هو الأثر الوحيد، فإن من الناس من يتصنع البكاء، ومن الناس من يستطيع أن يكون في زحام مع أهل العبادة وأهل الزهد في صورة من الصور، لكن هناك أمور أخرى سأذكر بعضاً منها هي أكثر وضوحاً وتمحيصاً وتمييزاً لآثار الإيمان.

الحرص على الحياة والخوف من الموت محك اختبار لقوة الإيمان

الحرص على الحياة والخوف من الموت محك اختبار لقوة الإيمان أقول: قد أشار بعض الصحابة إلى ذلك، فرأى ابن مسعود رجلاً مطأطأً رقبته فقال: (يا صاحب الرقبة! ارفع رقبتك فإن الخشوع خشوع القلب). ليست القضية هي هذه المظاهر التي في صدقها خير كثير بإذن الله عز وجل، لكنها في بعض الأحوال تكون من مداخل الشيطان. ورأت عائشة رضي الله عنها فتية يمشون مشية ضعيفة وقد انحنت رءوسهم، فقالت: (من هؤلاء؟ قالوا: قوم عباد نساك، قالت: رحم الله عمر كان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وكان هو والله الناسك حقاً). وأذكر ثلاثة آثار أراها من أعظم الآثار ذات التمييز والتمحيص، والتي يظهر أثرها فيمن يشهدها، ويكون لها فعلها في الناس: نحن نعلم أن أعظم شيء تنخلع له القلوب، وترتعد له الفرائص، وترتجف منه الأوصال، وتقشعر منه الجلود؛ هو الموت والخوف على الحياة، هذا أكثر ما يجعل الإنسان مضطرباً خائفاً حائراً زائغاً، فإذا جاء الإيمان الحق فإن من أعظم آثاره التحرر من الخوف على الحياة. كم تحول الناس عن مقتضيات إيمانهم، وتحولوا عن مستلزمات إسلامهم، وغيروا مبادئهم، وباعوا دينهم خوفاً على هذه الرقبة أن تنفصل عن الجسد، وخوفاً على الحياة وتشبثاً بها، ولذلك قد ذم الله عز وجل اليهود بهذا الذم القبيح في وصفهم المستحقين له، قال في حقهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]. يحرصون على الحياة وإن باعوا المبادئ، وإن داسوا على الإيمان، وإن تخلوا عن المعتقد، المهم أن يحيا وأن يعيش. أما المؤمن فمن أعظم آثار إيمانه أنه إذا وضعت حياته في كفة وإيمانه في كفة ضحى بالحياة في سبيل الله، ورأى أنه ينبغي أن يستبقي إيمانه بالله وإن ذهبت في سبيله الحياة، فهذا يمحص الناس ويفرق بينهم، قد نتزاحم في المساجد وقت الرخاء قد نفعل ما نفعل من أعمال البر والخير؛ لأنها ميسورة، أما إذا جاء الأمر متعلقاً بالروح والموت، والاستشهاد في سبيل الله، أو تقديم الروح افتداء لدين الله عز وجل؛ فهنا يتردد المترددون، وينكث الناكثون، ويتخاذل الضعفاء.

الصحابة يثبتون إيمانهم وعدم حرصهم على الحياة

الصحابة يثبتون إيمانهم وعدم حرصهم على الحياة هنا يتميز الناس، وهنا تميز أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بأحدهم عندما يندق السهم في صدره وينفذ إلى قلبه يضحك ويتبسم ويقول: فزت ورب الكعبة؛ كان أحدهم يقبل على الموت ويذهب إليه ويرمي بنفسه إليه دون أن يختلج له طرف، أو أن يضطرب له قلب، أو أن يخالطه خوف. هذا أنس بن النضر رضي الله عنه في أحد لما فاتته بدر قال: (لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين ما أصنع)، فلما جاء يوم أحد وحصل ما حصل من تحول موازين المعركة قال أنس بن النضر: (واهاً لريح الجنة! والله إني لأجد ريحها دون أحد) ثم انطلق ومضى، مضى إلى أي شيء؟ لم يمض ليلقي بموعظة في المسجد أو ليزور أخاً في الله، مضى إلى سيوف تبرق، وإلى دماء تسيل مضى إلى الموت وهو يراه أمام عينيه، فجعل يضرب في صفوف المشركين، ويلقي بنفسه عليهم، لا يعبأ بالموت ولا ينظر إليه، ولا يخشى منه، حتى استشهد وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة، وفي صحيح البخاري عن بعض الصحابة أنه قال: (ليس منها شيء في ظهره). هؤلاء قوم تحققوا من إيمانهم، أما أن يكون الإيمان أقوالاً وادعاء، وبعض الأعمال التي فيها خير فإن ذلك مرتبة، ومرتبة أعلى منها هي مثل هذه المرتبة عندما مثل بها علي رضي الله عنه فقال: أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أو يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر عندما يهدد الإنسان بالموت أو يرهب بأن تسلب منه الحياة، هنا تظهر آثار الإيمان القوية: هذا عبد الله بن حذافة السهمي لما كان في أسر أهل الكفر قال له عظيمهم وملكهم: تدخل في ديني وأعطيك شطر ملكي. ينظر منظار المادة، قال: لو أعطيتني ملكك وملك غيرك ما تركت ديني، فجيء ببعض أسرى المسلمين يغمس أحدهم في زيت مغلي يدخل لحماً ويخرج عظماً، ثم الثاني والثالث، ليؤثروا على عبد الله بن حذافة ويقولون: اعلم أن مصيرك كمصيرهم إن لم تجب إلى ما أردنا. يريدون أن يزعزعوا ثقته، أن يملئوا نفسه رعباً وقلبه خوفاً، لكنه كان في واد آخر غير واديهم، فدمعت عينه دمعة، فأخبر الملك بذلك، فأوقف الأمر وقال: لعله قد لان، ثم سأل: ما يبكيك؟ قال: قد ذكرت أن لي نفساً واحدة تغمس في هذا القدر فتزهق في سبيل الله، ولقد وددت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفس تزهق في سبيل الله عز وجل! بكى أن عنده نفساً واحدة تزهق في سبيل الله، وكان يتمنى أن تكون عنده أنفس كثيرة ليحقق إيمانه، ويبذل حياته في سبيل هذا الإيمان، يريدون منه أن يتزعزع بهذه السيوف التي تبرق بهذا الجبروت الذي يسيطر، لكن إيمانه كان أعلى وأقوى وأسمى من كل ذلك. وهكذا نجد هذا الأثر واضحاً جلياً في مثل هذه الأمثلة، وليس مقصودنا الاستطراد والاستيعاب.

الحرص على متاع الحياة الدنيا محك اختبار لقوة الإيمان

الحرص على متاع الحياة الدنيا محك اختبار لقوة الإيمان وأثر آخر: هو أيضاً من أعظم الآثار الإيمانية التي نرى ضعفها في واقع حياة كثير منا إلا من رحم الله، وهو أمر المال والحرص على متاع الحياة وعلى لقمة العيش: كثير من الناس يقول لك: مالك تلقي بنفسك إلى التهلكة؟ دعنا نأكل لقمة عيش، ولعله كما في ذهني أن يكون لنا حديث في درس قادم إن شاء الله عن هذا المعنى وحده، فكم أذل الحرص أعناق الرجال! وكم ذهب الذهب بكثير من الأبصار! وكم مال المال بكثير من الرجال! فهذه الحياة الدنيا إذا جاءت المساومة عليها والضغط فيها هنا يظهر الإيمان قوياً، وتتجلى آثار الإيمان العميق، فيبقى الثبات قوياً، وتبقى الدنيا كلها لا قيمة لها في مقابل الإيمان والدين، أما ما يحصل في حياة كثير من الناس بأن يغيروا فيما نهوا، وأن يتلونوا كالحرباء، وأن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، فأولئك لا شك في ضعف إيمانهم، وفي تزعزع يقينهم، وفي غلبة الأهواء على نفوسهم وقلوبهم، نسأل الله عز وجل السلامة. فهذا التحرر من الخوف على الرزق تظهر له أمثلة كثيرة جداً في حياة الصحابة، بل وفي حياة من جاء بعدهم من أهل الإيمان، فـ عثمان رضي الله عنه كان إنفاقه في سبيل الله كثيراً حتى إنه جهز جيش العسرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، وقصة أبي بكر وعمر شاهدة لهذا، لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى التبرع بتجهيز جيش العسرة كما في سنن الترمذي قال عمر رضي الله عنه: اليوم أسبق أبا بكر، فأخذ عمر رضي الله عنه نصف رأس المال كله بما فيه -كما يقول أهل الأموال- الأصول الثابتة والأموال السائلة، وذهب متبرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما أبقيت لأهلك يا عمر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله وشطر مالي، قال: فما هو إلا أن وافى أبو بكر فوضع ما جاء به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) يعني: تصدق بكل ماله، رأس المال والأرباح، وكل شيء جعله في سبيل الله عز وجل. ماذا يقال لمثل هذا الصنيع بالمقياس المادي؟ يقال لمثل هذا أو لفاعل هذا من الناس: إنه رجل أحمق وأخرق، وإنه رجل لا يعرف كيف يدبر أمور حياته، ولا يعرف كيف يؤمن مستقبله، ولا يعرف كيف يختزن القرش الأبيض لليوم الأسود كما يقولون، أما الصحابة وأهل الإيمان فكانوا ينفقون ولا يخشون الفقر؛ لأن الدنيا كلها في كفة، ونصرة إيمانهم ودينهم في كفة أخرى، وإذا سوموا على الإيمان بهذه الدنيا والأموال فلا أثر ولا قيمة للدنيا مطلقاً، وقد رأينا قصة عبد الله بن حذافة السهمي. وذكر عن بعض أهل العلم أنه جيء به في فتنة خلق القرآن ودعي إليها، وكان ممن ينفق عليه من بيت مال المسلمين؛ لأنه يعلم في المساجد، فأبى أن يجيب إلى ذلك فقيل له: إذاً نقطع عنك جرايتك أي: نقطع عنك مصدر الرزق، فماذا قال هذا المؤمن الواثق بالله عز وجل الذي ظهر أثر إيمانه جلياً واضحاً؟ تقول الرواية: فأخذ بزر قميصه فخلعه، ثم قال به في وجه من أمامه قائلاً: ما دنياكم التي عليها تحرصون إلا كمثل زري هذا، هذه الدنيا لا قيمة لها عندنا، نخلعها وقت ما نشاء مثل الثوب أخلعه وقت ما أشاء، وألبسه وقت ما أشاء، ويبقى الجسم والجسد هو الأساس. وهكذا نجد الأمثلة في ذلك كثيرة، والإمام أحمد قد ضرب في ذلك مثلاً، فإنه ما خشي الموت، ولا مالت به الدنيا حتى جاءه من يهون عليه فيقول له: إن لك أبناء، وإن لك نساء، وإن لك كذا وكذا فقال لمحدثه: يا أبا سعيد إن كان هذا عقلك فاسترح. أي: هذه عقول تفكر بالتفكير الدنيء بالتفكير الذي لا يرتقي إلى مستوى الإيمان العظيم.

مراقبة الله سبحانه وتعالى محك اختبار لقوة الإيمان

مراقبة الله سبحانه وتعالى محك اختبار لقوة الإيمان ثالث هذه الآثار: وهو الذي نختم به حديثنا، هو الأمر العظيم في يقظة الضمير ومراقبة الله عز وجل: فالمراقبة هي التي تجعل الإنسان في مشهده ومغيبه في ظاهره وباطنه في سره وعلانيته، على مقتضى ما يحب الله سبحانه وتعالى، هذه اليقظة الإيمانية هي التي حكمت قلوب المؤمنين فعرف كل منهم الحق الذي له فلم يتجاوزه، وعرف كل منهم الواجب الذي عليه فلم يقصر فيه، فما وجد اعتداء، ولا وجدت خيانة، ولا وجدت مراوغات، ولا وجدت صور أخرى من صور فساد الحياة؛ لأن الناس كانوا يراقبون الله عز وجل، فيصدقون إذا صدقوا لأجل الله، ويحرصون على الإتقان في أعمالهم لوجه الله، وكل حياتهم فيها استشعار لمراقبة الله عز وجل، بل ربما كان بعضهم إذا كان خالياً بنفسه منفرداً لوحده أكثر احتياطاً وشدة مع نفسه، وتربية لها وتذليلاً لها بين يدي الله منه أمام الناس، وكان كل منهم يستيقن بذلك يقيناً ظاهراً واضحاً بيناً يملك عليه نفسه، والأمثلة أيضاً في ذلك كثيرة؛ وكما قال القائل في هذا الشأن: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وكذلك سئل بعض السلف عن غض البصر، كيف الطريق إليه؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق منك من نظرك إلى ما حرم عليك، يعني: أن تعلم وأن توقن أن الله مطلع عليك، وناظر إليك قبل أن تنظر إلى ما حرم الله عز وجل عليك. وهكذا كان هذا الإيمان مملكة كاملة تحكم ضمير المؤمن فلا يتجاوز حداً من حدود الله، ولا يرتكب شيئاً من معاصي الله إلا غفلة أو سنة ثم يعود، وهذا من طبيعة الفطرة الإنسانية البشرية، لكن هذه اليقظة الإيمانية هي التي أوجدت الأمثلة الرائعة الرائدة في حياة الأمة الإسلامية، كما ورد في بعض كتب السير والتراجم: أن أبا بكر رضي الله عنه اتخذ عمر قاضياً يقضي بين الناس إذا اختلفوا، فما أتاه أحد، ولا اختلف عنده أحد، ولا احتكم إليه أحد، وقال عمر: (ما حاجتي إلى قوم عرف كل منهم الذي عليه فأداه، وعرف الذي له فلم يتجاوزه). وهكذا نعلم قصة المسلم من جيش القادسية، رجل من غبراء الناس لم يذكر له اسم، ولا عرف بميزة، أرسله سعد ليبشر عمر بفتح القادسية، وأرسل معه ما أخذ من إيوان كسرى ملك الفرس، وماذا كان فيه؟ كان فيه التاج والذهب واللؤلؤ والجوهر، وأشياء مما لم تكن تخطر على بال أولئك المسلمين الذين عاشوا حياة شظف وبادية ليس فيها شيء من هذا الترف. فجاء هذا المسلم البسيط من أقصى شمال الجزيرة إلى المدينة وعنده هذه الثروة العظيمة! لم تحص عليه، ولم تدرج عليه، ولم يوقع باستلامها، ولم يدخل في بوابات لتفتش جيوبه، وإنما سلمت له هكذا، ومضى بها في هذا الطريق الطويل، وقدم بها على عمر رضي الله عنه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! إن سعداً يبلغك السلام، ويبشرك بنصر الإسلام والمسلمين، وهذا ما في إيوان كسرى. فنظر عمر إلى هذا فاستعظمه واستكثره، ثم بكى وقال: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقيل: لقد عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا). هذا رجل من عامة الناس ليس مشهوراً، ليس مذكوراً، ليس معروفاً، فهذا نموذج لمن كان الإيمان يحكم حياته ويقوم مراقبته في كل شأن من شئون الحياة، وهكذا تجد أمثلة كثيرة ليس هذا هو مقام ذكرها، وإنما أردت أن أبين أن هذه الآثار الثلاثة من أعظم الآثار التي تميز إيمان المؤمن، وتمحصه وتبين حقيقة موقفه.

تذكرة وعبرة

تذكرة وعبرة وإذاً: عندما نتحدث مثل هذا الحديث -أيها الإخوة الأحبة- إنما نجعله تذكرة لأنفسنا، ومراجعة لحساباتنا، هل استولى الإيمان على قلوبنا؟ هل حكم مشاعرنا في محبتنا ومودتنا وبغضنا وكرهنا؟ هل ضبط ألفاظ ألسنتنا وكلماتنا؟ هل حكم سلوكنا؟ هل ظهرت الآثار فآثرنا الأخرى على الدنيا؟ هل تحققنا بأثر الإيمان فراقبنا الله في السر والعلانية؟ هل انقلبت حياتنا انقلاباً صحيحاً كاملاً لا حظ فيها ولا شركة لغير الإيمان بالله؟ هل تجردنا لهذه الحقيقة؟ هل وقفنا المواقف الإيمانية التي نعمق فيها حقائق الإيمان لتثبت وتصد كل شيء يعتورها أو يجابهها أو يصادمها من أمور القوة أو الغطرسة أو الجبروت أو الطغيان أو الفتنة أو الشهوة أو المال أو الجاه أو غير ذلك؟ أظن كل واحد منا لو سأل نفسه لوجد في الإجابة تقصيراً كثيراً، ولوجد هناك ما يستدعي أن يلوم نفسه، وأن يعاتبها، وأن يحاسبها، وأن يشدد عليها، وأن يحيي معاني الإيمان في قلبه، وأن يتطلب المواطن والمواضع والأعمال والأحوال التي تعيد الحياة إلى قلبه، والنور إلى نفسه، أن يعيد الارتباط بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وأهل الإيمان الذين ضربوا لنا الأمثلة الرائعة التي أشرنا إلى بعض منها. نحن -أيها الأحبة- في حاجة إلى إحياء إيماننا إلى تقويته إلى إزالة الشركة التي دخلت مع إيماننا فصارت لنا أهواء غير مقتضيات الإيمان، وصارت رغبات غير رغبات الإيمان، وصارت لنا أهداف وغايات ومطامح وأمور، بل ربما سلوكيات وأعمال لا تتفق معها سلوكيات الإيمان، ولذلك كان أمر الإيمان فاصلاً ومفاصلاً، ومقتضياته واضحة وجلية، وممحصة مميزة. فالله أسأل أن يجعلنا من أهل الإيمان والتقوى، وأن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله أسأل أن يحفظنا، وأن يعصمنا بالإيمان والتقوى، وبالصلاح والاستقامة والهداية، ونسأله جل وعلا لنا ولكم المزيد من التوفيق والسداد، والثبات على الحق، والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

الوسائل المعينة على زيادة الإيمان

الوسائل المعينة على زيادة الإيمان Q ما هي الوسائل المعينة على زيادة الإيمان وارتقاء الروح؟ A أحب -أيها الإخوة- أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ولذلك أسأل سؤالاً أوجهه إلى نفسي وإليكم: هل نحن نجهل الوسائل التي تزيد الإيمان أم أننا لا نعمل بها؟ في تصوري أن الجواب يتعلق بالشق الثاني لا بالشق الأول، أيجهل أحدنا أن من أسباب زيادة الإيمان الإكثار من الطاعات والنوافل والصلوات في جوف الليل؟ أيجهل أحدنا أن من وسائل زيادة الإيمان دوام الاستغفار وكثرة الأذكار وتلاوة القرآن، وترطيب اللسان بذكر الله عز وجل؟ أيجهل أحدنا أن من زيادة الإيمان دوام الدعاء والتذلل لله سبحانه وتعالى؟! أيجهل أحدنا أن من وسائل زيادة الإيمان تذكر الآخرة واستحضار الموت واستعظام الوقوف بين يدي الله عز وجل؟ أيجهل أحدنا أن من أسباب تقوية الإيمان زيارة المقابر وتذكر الآخرة؟ أيجهل أحدنا أن المواعظ التي تذكر بالآخرة والآيات التي تذكر بها هي مما يزيد الإيمان؟ أيجهل أحدنا أن الإنفاق وأن الجهاد من زيادة الإيمان وأسباب زيادته؟ أيجهل أحدنا أن من أسباب ضعف الإيمان غفلتنا عن هذه المعاني وارتكابنا للمعاصي؟ أقول: إن أكثرنا إن لم يكن كلنا لا يجهل شيئاً من ذلك، نحن لا نفتقر إلى العلم، بل نفتقر أكثر ما نفتقر إلى العمل، وليس إلى العمل فقط، وإنما إلى استمرار العمل، وليس استمرار العمل فقط، وإنما إلى حقيقة كمال وتأثير العمل، نحن نصلي وقلوب أكثرنا إلا من رحم الله غافلة لاهية، نحن ندعو وأبصارنا تطوف هنا وهناك، وعقولنا تمضي في أودية الدنيا ومشكلاتها ومشاغلها، نحن نقرأ القرآن لكن التدبر قليل لكن التأمل نادر لكن التأثر محدود. فإذاً: ينبغي أيها الإخوة! أن يواجه كل منا نفسه: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14]، وانظر أخي إلى مواطن تعلم من نفسك فيها تأثراً إيمانياً، وصفاء روحانياً، فانظر إليها أين تكون، والزمها حتى لا تفوتك، ألست في بعض الأحوال تسمع من يذكرك بالآخرة ويشتد عليك ويذكر الآيات فتتأثر ويلين قلبك، وتدمع عينك؟ إذاً: فقد عرفت فالزم، ألست ترى في بعض الأحوال كما يكون أحياناً في رمضان، ومع جمع الناس، ومع كثرة الصلاة والتلاوة أنك سريع العبرة، كثير التذكر، حاضر القلب؟ قد رأيت ذلك، وقد لمسته، وقد عرفته وذقته، فما بالك تتخلى عنه؟ إنه ضعف العزيمة، إنه الانشغال بالدنيا، إنه عدم وجود المذكرات والمرغبات والملزمات التي نتواصى بها فيما بيننا، فنحن كما قلت: لا نجهل، ولكننا لا نعمل، والله عز وجل أسأل أن يبرئنا من هذه العيوب وأن يحيي قلوبنا ويزيد إيماننا.

كلمة توجيهية لمن يقعون في الذنوب والمعاصي

كلمة توجيهية لمن يقعون في الذنوب والمعاصي Q نريد توجيه الناس إلى ما يفعلونه تجاه ما يحصل لهم من الفتن والظلم والبلاء والوباء والغلاء والفواحش في كلمة جامعة، فجل الناس يشكون من هذا؟ A هذا كلام حق، فقد كثرت الفتن، وأطلت برءوسها، وتعددت الشبهات، وتغيرت أسماؤها وألوانها، وقد كثرت صور الفساد والفواحش في كثير من البلاد والعباد، ولا شك أن هذا يستلزم مزيداً من التوقي والتحصن ومزيداً من العمل والاجتهاد. فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم والقرآن يتنزل عليه، والبيئة نقية طاهرة نظيفة ليس فيها لغط من القول، ولا فاحش من الفعل، ولا منكر من الأحوال، ولا ظهور بالآثام، ومع ذلك كان الواحد منهم يخشى الذنب والغفلة، كأنما هو محاط بها وغارق فيها، وموجهة إليه سهامها، إذا كان هذا حالهم فما ينبغي أن يكون حالنا! الحق أننا نحتاج أولاً إلى الوقاية من الواردات التي ترد على الأسماع والأبصار، وترد على الأفكار، لأنها تخلص إلى القلب، فتضعف الإيمان، وتزرع الشك، وتبذر بذور الشهوة الآثمة المحرمة، فاصرف بصرك عما حرم الله، وصم أذنك عما حرم الله، وامنع فكرك أن يفكر في غير ما أحل الله حتى تحفظ نفسك أولاً، ومن جميل كلام ابن القيم أنه قال: دافع الخطرة، أي: خاطر السوء الآثم من البداية، فحاول أن تجعل الحواجز وأسباب الوقاية، فإن لم تفعل صارت فكرة تعشعش في رأسك وفي عقلك، فدافعها، فإن لم تفعل صارت شهوة، أي: نزلت إلى قلبك وتمكن حبها منه، فحاربها؛ لأن المسألة تحتاج إلى مدافعة، فإن لم تفعل صارت همة وعزيمة، فحاربها وامنعها، فإن لم تفعل وقعت في الذنب، فتداركه بضده، أي: التوبة والاستغفار، فإن لم تفعل صار عادة يصعب عليك الانتقال عنها. فينبغي أن نأخذ بأسباب الاحتياط، فلا تجعل سمعك وبصرك وفكرك مفتوحاً لهذه الأمور، ثم تشكو بعد ذلك: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

بيان مرتبة إنكار المنكر بالقلب

بيان مرتبة إنكار المنكر بالقلب Q قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) فهل الإنكار بالقلب دليل على ضعف الإيمان؟ A هو دليل أولاً على وجود الإيمان، وهو كذلك دليل على رتبة في الإيمان أدنى من غيرها؛ لأن هذه مسألة مهمة يرى بعض الناس أو يظن أو يتوهم أن إنكار القلب لا شيء، وهذا خطأ مخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره) فكل ما ذكر في الحديث من أسباب التغيير: يغيره بيده بلسانه بقلبه فإذاً: الإنكار بالقلب نوع من التغيير، قد يقول قائل: وكيف يكون نوعاً من التغيير ولم تنطق به لسان، ولم تتحرك به يد؟ أقول: أولاً لا بد أن نوقن بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ونؤمن به، ولسنا في شك من هذا، فهو قد أثبت الإيمان للمنكر بقلبه، وأثبت وجود التغيير وحقيقة الإنكار للمنكر بالقلب، وإن كان الإنكار باللسان أو باليد بحسب الإمكان أقوى وأعظم، كيف يكون الإنكار بالقلب مؤثراً؟ أولاً: أعظم أثر له أنه يحفظ الإيمان في قلبك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) إذا لم يتغير قلبك وينكر فقد برئ منك الإيمان إلا أن يشاء الله شيئاً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، وفي بعض الأحاديث الأخرى: (ولكن من رضي وتابع) أي: من وافق وأحب، وهذا فرقان ما بين أهل الإيمان وأهل النفاق، قد يسكت اثنان عن أمر فلا ينكرانه بلسان، ولا يغيرانه بيد، لكن أحدهم في قلبه حزن وألم وضيق وتبرم لهذا المنكر، وذاك فرح به سعيد، يتمنى لو ارتكب المنكر بنفسه، فهذا فرق عظيم غير ظاهر للناس، ولكنه معلوم عند الله عز وجل. وأمر آخر: أن القلب إذا تغير فأنكر انقبض عن صاحبه المنكر، فكان هناك نوع مجافاة أو اعتزال، فيرى صاحب المنكر أن القلوب منه نافرة، وأن النفوس عنه منقبضة، وأن الوجوه في وجهه مكشرة، فيجعله ذلك محاصراً حصاراً نفسياً يدفعه إلى أن يترك المنكر ليكون مع الناس.

علاقة الهموم والغموم بضعف الإيمان

علاقة الهموم والغموم بضعف الإيمان Q كثيراً ما تتنازع الإنسان الهموم والغموم، فهل هذا من ضعف الإيمان؟ A ليس على إطلاقه، فإذا كان همك بالإسلام، وغمك على أحوال المسلمين، وضيق صدرك لأنك لا تستطيع أن تؤدي الواجبات كما فرضت عليك، ولأنك تريد أن تعمل بالدعوة والجهاد ولكنك لا تستطيع، فهذا همٌّ جيد وحسن، وهو همّ مطلوب يذكي حرارة الإيمان في القلب ويشعل جذوتها في النفس، وهذا أمر مطلوب، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس حملاً لهم الدعوة والإسلام، حتى قال الله عز وجل في شأنه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: لعلك مهلك نفسك وراءهم تريد إيمانهم، وترغب في إسلامهم، وتحزن لضلالهم. وقد كان كذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في نفسه وقلبه من الرأفة والرحمة والشفقة على الناس ما يريد به الخير لهم كلهم، وقد قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار) وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن. أما إذا كان مهموماً لأنه لم ينل الترقية، أو مهموماً لأنه نقص راتبه أو لكذا فهذا لا شك أنه هم دنيوي دنيء ينبغي أن يستعلي المسلم بإيمانه عن هذا. ولا شك -أيها الإخوة- أن هناك أموراً فطرية بشرية؛ الإنسان قد يفقد عزيزاً يموت فيحزن ويغتم، وهذا شيء لا شيء فيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا)، وإن الإنسان قد تقع به المصيبة أو تمر به الضائقة فينشغل بها فكره، ويقع في قلبه بعض الهم، فلا شيء في ذلك في أمر الحياة وفي الناحية البشرية الفطرية، لكن أن يكون كل همه دنياه ومشاغله، وأمواله وتجاراته، وكل حزنه على ما يفوته من هذه الدنيا، فلا شك أن ذلك من صور ضعف الإيمان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

السيرة العمرية [1]

السيرة العمرية [1] عمر رضي الله عنه هو ثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وشهيد المحراب، وقرين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الحياة وبعد الممات؛ كان إسلامه عزة للإسلام والمسلمين، ومناقبه وفضائله كثيرة مشهورة، فيجب علينا إحياء سيرته رضي الله عنه؛ لتتجدد في هذا الجيل المعاني التي كانت في سيرته رضي الله عنه.

أحوال المسلمين في هذا الزمان

أحوال المسلمين في هذا الزمان الحمد لله، الحمد لله الكريم المنان، دعا إلى الطاعة والإيمان، وأمر بالعدل والإحسان، جعل لكل شيء قدراً، وكتب لكل حي أجلاً، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه كافة للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! لا شك أن أوضاع المسلمين وأحوال مجتمعاتهم تنبئ عن وجود مفارقات ومخالفات، ويظهر من خلالها ذلك البعد عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتفاوت ذلك من بلد إلى بلد ومن فرد إلى فرد، وبقدر هذا التفاوت وبمقدار ذلك البعد يكون العناء والشقاء، وتكون الذلة، ويقع الصغار، وبقدر ما تعود الأمة إلى كتاب ربها، وتسعى إلى تتبع هدي نبيها صلى الله عليه وسلم، بقدر ما ترجع إليها عزتها المفقودة، وهيبتها الضائعة، وقوتها المبددة. ونحن في هذا الزمن الذي فشا فيه الظلم في كثير من البلاد، وجثم على صدور معظم العباد، تتلهف النفوس إلى العدل الذي يطمئنها، ويدخل عليها السرور. ونحن في هذا الزمن الذي رق فيه الدين، وضعف فيه اليقين عند كثير من المسلمين، تتلهف قلوبنا إلى نماذج من اليقين الراسخ والإيمان الصادق. ونحن في هذا الزمن الذي سرى فيه الضعف، وفشا فيه الكسل، ودب بين كثير من أبناء الأمة الخور، نتلفت لنرى صور القوة الإيمانية، ونبحث عن صور العزة الإسلامية. ونحن في هذا الزمن الذي كثرت فيه المداهنة، وانتشر النفاق، نبحث عن صورة الحزم والعزم والجد والمفاصلة في دين الله عز وجل. ونحن في هذا الزمن الذي ضُيعت فيه الأمانة، وغابت فيه المسئولية؛ حتى غدت المسئوليات أموراً ملهيات وأموراً مغريات، وأصبحت تعتمد على المجاملات، نبحث عن صورة المسئولية في نموذجها الإيماني الذي يراقب الله عز وجل، ويحرص على مصلحة الأمة. ونحن في ظل هذه الصور من التخلف والمخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى نحتاج إلى النماذج التي تذكرنا بمنهج الإسلام، وتذكرنا بتربية محمد صلى الله عليه وسلم، وتذكرنا بالتاريخ العريق الذي ضرب فيه المسلمون أروع الأمثلة على شمول هذا الدين وكماله، وعلى تنظيمه لشئون الدنيا ورعايته لأمور الآخرة في المجتمع الإسلامي الذي يرفع شعاراً إسلامياً في كل أمر من أمور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، نحن نريد نماذج من مدرسة النبوة.

ذكر بعض فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

ذكر بعض فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كنت أتصفح بعض هذه النماذج رأيت نموذجاً أرى أنه النموذج الذي يعد قمة شامخةً من قمم الإسلام السامقة، تحنو أمامه كل الهامات التي ترتفع غروراً، وكل العظمة التي تنتفخ وليس لها أصل ولا فصل، وعندما نتأمل في هذه السيرة وفي تلك الشخصية نجد كثيراً من الحنين والشوق إليها؛ لما ضاع من معانيها ومعالمها في حياتنا. إنها معالم السيرة العمرية؛ سيرة الفاروق رضي الله عنه، ثاني خلفاء هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتحدث دائماً ويتردد في آذاننا نبأ العدل العمري، وقصص الحزم العمري، وفصل القول العمري، ونعرف قصة الدرة العمرية، ونعرف العسس بالليل في سيرة عمر، وهكذا أموراً وأموراً كثيرة أخرى، فعندما طالعت بعض هذه المواقف رأيت أنني أنشد إليها شداً، وأنجذب إليها جذباً؛ لأنه بقدر ما يكون فيك من فراغ وضعف بقدر ما تنجذب إلى القوي، ونحن اليوم تغيب عنا كثير من معالم السيرة العمرية في العدل والحزم والجد والمسئولية والورع والتواضع والقوة في الدين؛ فأحببت أن يكون لنا من السيرة العمرية ذكرى نحيي بها ما مات من هذه المعالم والمعاني في عقولنا وقلوبنا، ونتذكرها لتكون واقعاً حياً في حياتنا، وعندما نقول: عمر رضي الله عنه، وعندما نذكر الفاروق رضي الله عنه فليس لنا أن نتحدث عنه بألسنتنا، وليس عندنا من قدرة مهما رأينا من عظمته ومهما رأينا من سبقه وقوته ونصرته لدين الله ليس في أساليبنا ولا في بلاغتنا ولا في إمكاننا أن نصف عمر بمثل ما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمثل ما نطق به الصديق أبو بكر رضي الله عنه، وبمثل ما قال عثمان وعلي وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إننا في الحقيقة عندما نتحدث عن عمر بألسنتنا نجهل قدر عمر، ونغض من مكانته، وإذا أردنا أن نعرفه أو أن نهيئ القلوب لتلقي سيرته أو أن نحيي في نفوسنا ما مات من هذه المعاني العزيزة، فلنستمع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في عمر المبشر بالجنة، ففي الحديث الصحيح عند البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: (بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لـ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأسرعت بعيداً منه، وتذكرت غيرتك يا عمر! فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: أمنك أغار يا رسول الله؟!)، إنها صورة تمثل لنا تلك الشخصية في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعبر عن هيبته من غيرة عمر ومن حياء عمر ومن قوة عمر، وذلك في المنام في رؤيا يرى فيها قصراً لـ عمر في الجنة تتوضأ إلى جانبه امرأة. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده في يوم من الأيام نساء من قريش -ذكر بعض أهل الحديث أنهن من أزواجه- وكن يتحدثن إليه، وتعلو أصواتهن بين يديه، فدخل عمر رضي الله عنه، فانقمعن، وابتدرن إلى حجبهن فقال: يا عدوات أنفسكن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم؛ فإنك فظ غليظ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك -وما كانت فيه فظاظة، ولكنه حزم، وما كانت فيه غلظة، ولكنها قوة وهيبة- فلما رأى ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تبسم وضحك عليه الصلاة والسلام، وقال: (إيهٍ يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان قد سلكت فجاً قط إلا سلك فجاً غيره). عجباً لهذه القوة، ولتلك الهيبة، ولذلك الإيمان، ولتلك العظمة التي فرق منها إبليس الذي أقسم بأن يغوي بني آدم، وأن يقعد لهم بكل صراط، وأن يقف لهم على كل ناصية، وأن يكون مقدماً لهم في كل ميدان من ميادين الشر، فإذا به ينقمع عن عمر، وإذا به يخشى الفاروق، وإذا به يفرق من الفاروق رضي الله عنه، هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم. وجاء أن عمر قال: من يحدثنا حديث الفتن؟ فقال حذيفة: أنا يا أمير المؤمنين! فقال: إنك والله! لجريء، قال حذيفة: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة الرجل في أهله وماله وأنها يكفرها الصلاة، قال: لست عن هذا أنشدك، وإنما أسألك عن الفتن التي تموج كموج البحر، فقال حذيفة: يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها باباً -أي: ليست في زمانك ولا في عهدك، ولا يمكن أن ترفع رأسها وبيدك سيفك ودرتك، ولا يمكن أن يظهر صوتها وصوتك بالحق جاهر- فقال عمر رضي الله عنه: أيفتح أم يكسر يا حذيفة؟ قال: بل يكسر يا أمير المؤمنين! قال: فإذاً لا يغلق، فقيل لـ حذيفة: أكان عمر يعلم ما الباب؟ فقال: نعم، فهبنا أن نسأله، حتى سأله بعض منا خفية، فقال: الباب عمر. رضي الله عنه وأرضاه). لقد كان يفر منه الشيطان، وتفر منه الفتنة، وينخنس الظلم، ويتوارى الضعف، فكان رضي الله عنه وأرضاه مجمعاً لخصال من الخير عظيمة. وهذا أنس رضي الله عنه -كما في مسند الإمام أحمد - يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر رضي الله عنه، وأشدهم في دين الله عمر). عمر ذاك الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ذاك الذي لا تعرف المداهنة والنفاق إليه سبيلاً، ذاك الذي لا تعرف الشفاعة بغير الحق إليه طريقاً، فهل عرفنا من هو عمر بهذه الأقوال اليسيرة من بعض مناقبه الكثيرة رضي الله عنه؟ إننا عندما نتحدث عن عمر نتحدث عن قول علي رضي الله عنه في مفهوم حديث الفتنة الذي ذكرته، فإنه قال: (إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا تُسد إلى يوم القيامة)، ولقد كان علي رضي الله عنه صادقاً مصدقاً في لهجته رضي الله عنه وأرضاه. وهاهو علي رضي الله عنه -كما في مسند الإمام أحمد - يقول على ملأ من أصحابه، في الزمن الذي ظهرت فيه الفتن، وغلا في علي رضي الله عنه من غلا، فأراد أن يرد الناس إلى الجادة، وأن يعلمهم الصواب، وأن يعرفهم مقادير الرجال، فصاح في صحبه: (ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى، قال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. ثم صاح مرة أخرى: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنه؟ قالوا: بلى، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، فليمت بغيظه كل شانئ لـ عمر رضي الله عنه. وفي بعض الروايات: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً وعن يمنيه أبو بكر وعن يساره عمر، ثم قال: هكذا نبعث يوم القيامة). ويوم اهتز أحد قال: (اسكن أحد؛ فما فوقك إلا نبي وشهيد وصديق)، هكذا كان عمر رضي الله عنه. وهذه بعض الملامح والمعالم التي تهيئنا بأن نطيل الحديث في سيرة عمر، وأن نستخرج المخبوء من الكنوز المشعة المضيئة والمعاني العظيمة والدروس الكثيرة في سيرة عمر رضي الله عنه.

ذكر بعض وصايا عمر رضي الله عنه

ذكر بعض وصايا عمر رضي الله عنه نحن اليوم نرى الناس في عصرنا قد مالوا إلى الدنيا، وشغلت بها عقولهم، وانخطفت من بريقها أبصارهم، وتعلقت بحبها قلوبهم، يوم نرى ذلك نسمع قول عمر يدوي في سمع الزمان، ويصب في قلب كل مسلم ذي إيمان، وهو يقول: (إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم؛ فإن كل محب يخوض فيما أحب). وعندما نرى ذلك التميع والترخص والخور والضعف والتكاسل والتماوت الذي سرى في كثير من أبناء الأمة الإسلامية، بل في المتصدرين من قوادها وزعمائها، نستمع إلى قول عمر في حكمة موجزة، وكلمات بليغة معبرة سطرها في تاريخه الكريم، في تاريخه الوضيء وهو يقول: (إن هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف، والقوي في غير عنف). لقد أرسلها حكمة، وطبقها واقعاً، فساس الأمة أعظم سياسة، وكان لها في عهده عظمة لا منتهى لها، حينما دك عروش كسرى وعروش قيصر، وحينما ذهبت جيوش الإسلام تفتح الأمصار، ثم يمضي الخليفة رضي الله عنه وأرضاه يمشي برجليه، ويركب على جمله؛ يتناوب مع غلام له، خرج من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الصحراء إلى شمال الجزيرة؛ ليأخذ بيده مفاتيح بيت المقدس، ويفتحها باسم الله، ويرفع فيها ذكر الله عز وجل. هكذا كان عمر رضي الله عنه، وهذا بعض ما يهيئنا إلى سيرته، وعندما نرى في واقعنا كثرة الجدل وقلة العمل نسمع عمر رضي الله عنه وهو يدعو قائلاً: (رحم الله امرأً أمسك فضل القول، وقدم فضل العمل)، فنحن أمة قوالة؛ تجيد كثيراً فن الخطب وتكثر كثيراً من الكلام مكتوباً ومقروءاً، مسجوعاً ومنثوراً ومنظوماً، ثم ليس لها في ميدان العمل إلا النزر القليل الذي لا يقدم متأخراً ولا يحرك ساكناً، إلا ما رحم الله، أما عمر فكان قليل الكلام كثير العمل رضي الله عنه وأرضاه. وعندما نرى الأمانة التي ضُيعت والمسئولية التي غيبت نسمع عمر يخشى أن يُسأل عن بغلة تعثر في أرض العراق: لِمَ لم يسو لها الطريق؟ ونحن نعلم عمر وهو يعس في الليل؛ لينظر هل من شاكٍ أو من باكٍ أو محزون، ونذكر واقع الأمة اليوم ونسمع عمر وهو ينادي في سمع الزمان: (من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)، وعندما يكثر اللغط واللغو، وتمتلئ المجالس بذكر السوءات وتلمس العثرات تأتينا مقالة عمر وهي نصيحة أثمن من الذهب والألماس وكل ما يغلو ويعز في هذه الدنيا وهو يقول لنا: (إياكم والحديث عن الناس! فإنه داء، واشغلوا أنفسكم بذكر الله؛ فإنه دواء).

فائدة معرفة سيرة عمر رضي الله عنه

فائدة معرفة سيرة عمر رضي الله عنه أيها الأحبة! بمثل هذه المقالات اليسيرة أشوقكم لأشتاق معكم ونمضي لنتلمس كل مَعْلَم من معالم سيرة عمر على حدة؛ حتى نجدد مثل هذه المعاني والمعالم؛ لأن أمتنا اليوم قد تغيرت أحوالها كثيراًَ؛ فتحتاج إلى مثل هذه السيرة، وقد حل بها ما حل مما يصفه الواصفون، ويطنب فيه المطنبون، ويفيض فيه الشعراء والأدباء، حتى قال قائلهم في وصف أبناء هذه الأمة وما حل بها من نكبات وما شغلوا به مع ذلك كله من الترهات: ديست كرامتهم واحتل موطنهم وأنفهم راغم في الوحل ممدود وهم إلى اللهو سباقون غايتهم هز الخواصر والأوتار والعود هذا فتىً تائه والعشق ديدنه وذاك صب أسير القلب معمود وثالث طيف ليلاه يؤرقه وتستبد به أجفانها السود وهؤلاء أضاعوا العمر في سفه وآخرون سكارى أو عرابيد أولئك الذين ضلوا من أبناء أمتنا أولئك الذين ضاعوا وغفلوا كيف لنا أن نعيدهم؟! وأن نذكرهم؟! وأن نسعى نحن وهم؟! وأن نتلمس خطا عمر الذي كان واحداً من مدرسة النبوة على منهج الإسلام وبتربية محمد صلى الله عليه وسلم؟! نريد أن نذكر أنفسنا ونذكر مجتمعاتنا وأمتنا حتى تتجدد في الجيل الجديد هذه المعاني والمعالم، كما قال الشاعر: فمن يذكر أبناء العروبة والإسـ ـلام بالعز والإكرام والغلب ومن يقص عليهم ماضياً عطراً ومن يذكرهم بالفتية النجب ومن يعلمهم أن البطولة في إجادة الطعن لا في جودة الخطب وأن دينهم الغلاب منذ أتى لم يقبل العيش بين اللهو والطرب وأن آباءهم سادوا الورى زمناً بالكد والجد لا بالنوم واللعب هذا الذي أرت أن أحييه في نفسي وفي نفوسكم، وأن أذكر به نفسي وإياكم، فالله أسال أن يجدد لنا سيرة الخلفاء الراشدين، وصحب محمد ومن كان معهم من التابعين. والله أسأل أن يلزمنا هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا كتابه. والله سبحانه وتعالى أسال أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى العمل والاجتهاد في نصرة دين الله عز وجل، وتتبع آثار السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين. أيها الإخوة الكرام! إنما أردت في هذا المقام أن أهيج القلوب والنفوس إلى سيرة رجل من رجال الإسلام، عاش ثلاثين عاماً في الجاهلية في ظلماتها، فكان نسياً منسياً، وكان ظلماً وظلاماً، ثم أشرق قلبه بالإيمان، فدخل تاريخ البشرية كله، ورفع راية العدل في ربوع الأرض، ونشر نور الإسلام، وأدخله في قلوب ونفوس كثير من الناس بإذن الله سبحانه وتعالى. كان عمر في الجاهلية نسياً منسياً، فعاد بعد الإسلام ذكراً مجيداً عاطراً. كان عمر رضي الله عنه في الجاهلية من أشد الناس وأغلظهم وأفظهم، ثم إذا هو في شأن الإيمان والخشية والتقوى من أرقهم في دين الله سبحانه وتعالى، وكان ذا قوة وشكيمة، فإذا به يجعلها قوة في دين الله، وحراسة لدين الله، وحماية لعباد الله، هكذا كان عمر في جاهليته، لم يكن فيه من الصفات والمزايا غير أن خيراً كان يستقر في نفسه، وكانت فيه خلال تتوارى في ظلمات الجاهلية، فاستخرجها الإسلام، وفتح لها الآفاق، ورباها محمد صلى الله عليه وسلم حتى عظمت كأعظم ما تكون الجبال. فهذه أم عبد الله بنت حنتمة -وهي من المسلمات المهاجرات- كانت تعد عدتها من أجل الهجرة إلى الحبشة، يوم أن كان عمر ما يزال يرسف في أغلال الجاهلية، وكان من أشد كفار قريش على أهل الإسلام، فأتى عمر رضي الله عنه ودارت في ذهنه أول خاطرة من الخواطر المهيئة لإسلامه: كيف يخرج هؤلاء الناس من أرضهم؟ وكيف يتركون أهلهم وقرابتهم؟ وكيف يخلفون أموالهم وديارهم؟ أي شيء سرى في أولئك القوم فغيرهم؟ وأي أمر خالط عقولهم وقلوبهم فنورهم؟ تروي لنا هذه الصحابية قصتها فتقول: لما أردنا أن نرتحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر ووقف علي، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: الانطلاق يا أم عبد الله؟ الرحيل؟ الوداع؟ الفراق؟ الهجرة؟ ترك الأهل والديار والأموال؟ الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم، والله! لنخرجن في أرض الله؛ لقد آذيتمونا وقهرتمونا؛ حتى يجعل الله لنا فرجاً! إنها كلمات ما سمع بها عمر من قبل، ومبادئ ما رآها متجسدة في الواقع من قبل، فإذا بـ عمر رضي الله عنه يرق، وتفجأه هذه القوة في موقف الحق، وهو يعرف القوة في أسمى معانيها، فيقول رضي الله عنه: صحبكم الله! تقول أم عبد الله: فرأيت منه رقة لم أرها من قبل، فلما جاء عامر بن ربيعة قلت له خبر عمر، فالتفت إلي وقال: لعلك طمعت في إسلام عمر؟ فقلت: نعم، قال: والله! لا يسلم؛ حتى يسلم حمار الخطاب! قالها مستبعداً إسلام عمر، مستنكراً أن يكون هذا الشديد على المسلمين الغليظ عليهم ممن سيكون يوماً ناصراً ومعزاًَ لهم بإذن الله، فانظر إلى أقدار الله كيف تسوق المرء إلى رضوان الله عز وجل، فكانت هذه أول ومضة. ثم يذكر عمر رضي الله عنه كيف ساقته الأقدار مرة أخرى إلى إشراقة أقوى، فيروي لنا قوله: إنه مضى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعرض له، خرج ليتعرض للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، قال: فإذا هو قد سبقني إلى المسجد. أي: إلى بيت الله الحرام، قال: فقمت وراءه، فكان يقرأ من سورة الحاقة، قال عمر: ما رأيت مثل هذا الكلام، ثم قلت لنفسي: إنه شاعر، فتلا قول الله عز وجل في هذه السورة: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40 - 41]، قال: فقلت في نفسي: فإنه كاهن، فتلا قوله سبحانه وتعالى: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:42]، ثم تلا الآيات، قال عمر رضي الله عنه: فوقع الإسلام في قلبي، ولكن بقايا الجاهلية وظلماتها ما تزال تصارعني، وتأتي دعوة رسول الله مع قدر الله، وتنطلق الدعوة النبوية الكريمة: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، أي: إما بـ أبي جهل. الذي هو عمرو بن هشام، أو بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنهما كانا أشد الناس على المسلمين، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون إحدى هاتين القوتين للمسلمين على الأقل، فأصابت الدعوة عمر رضي الله عنه. فتلك ومضة، ثم إشراقة، ثم دعوة، ثم يأتي القدر، ليروي لنا أهل السيرة قصة إسلام عمر رضي الله عنه: اجتمعت قريش لتنظر في شأن قتل محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بدأت هجرة أصحابه إلى الحبشة؛ تريد أن تتدارك الأمر، فقالوا: من يقتل محمداً؟ فقال عمر: أنا لها! كان صاحب قوة ومواقف، ولو كانت غير حق، فقالوا: أنت لها يا ابن الخطاب! فتوشح سيفه، وخرج يتيمم موقع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سمع أنه هو وأصحابه يجتمعون في مكان ما في الصفا، فلقيه رجل -اختُلف في اسمه أو في إسلامه- فجرى بينه وبينه حوار ساقته إليه الأقدار الإلهية، فإذا بهذا الرجل يعترض عمر، وهو قد خرج متوشحاً سيفه ليقتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أراد أن يتوشح سيفه ليقف منافحاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له الرجل: أين تريد يا ابن الخطاب؟! قال: أريد محمداً الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب آلهتها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله، هكذا كان عمر في ذلك الموقف، وهو يعيب محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم انقلب إلى أنه لو سمع شطر كلمة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى لها دواءً إلا قطع لسان صاحبها، أو فصل ما بين رقبته وجسده، هكذا صار عمر رضي الله عنه، فانطلق، فقال له الرجل: لبئس الممشى مشيت يا عمر! وكان رجلاً ذكياًَ حصيفاً، فقال له: والله! لقد غرتك نفسك؛ ففرطت، وأردت هلكة بني عدي؛ أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي في الأرض وقد قتلت محمداً؟! أراد أن يصرف عمر بمثل هذه المقالة المخيفة، لكن عمر لا تثنيه هذه الكلمات العارضة وهذه التهديدات؛ فإنه من علو همته قد قال: أنا لها، فأراد أن يكون لها، وأراد الله عز وجل أن يكون لها بطريقة أخرى، فلم ينثن عمر عن هذا، فلما رأى الرجل عزمه قال: أوغير ذلك يا ابن الخطاب؟! قال: وما ذاك؟ قال: أختك وختنك قد سبقوا إلى دين محمد وصبئوا. أراد أن يحرف الطريق، فرأى عمر -وقد كان ذلك ديدنه بعد ذلك في خلافته- أن يبدأ بأهله أولاً، فتوجه صوب بيت أخته وختنه؛ حتى يقوم ما اعوج في نظره، ثم ينصرف بعد ذلك إلى الغاية الأخرى، وأراد الله به الخير، فجاء وهم مع خباب بن الأرت يتدارسون القرآن خفية في ذلك الزمن في العهد المكي، فسمع هينمة القرآن، ثم دخل عمر بقوته، وبشدته، وبهيبته، دخل وقد اختبأ خباب رضي الله عنه حينذاك، ودخل عمر يسأل: ما هذه الهينمة التي تُسمع؟ قالوا: لا شيء؛ كنا نتحدث، كانت القلوب ترتعد من عمر خوفاً، لكن قلوب المؤمنين لا تأبه بالطغاة والجبارين، فلما رأى عمر هذه المقالة، قال: والله! لقد سمعت نبأً، وبدأ يرعد ويتوعد، فأراد ختنه سعيد بن زيد رضي الله عنه أن يواجه عمر بالحق، وأن يجهر في وجهه بالدعوة، وأن يظهر علو الإيمان وقوة الإسلام، فقال: يا عمر! أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فماذا قال عمر؟ لم يكن قوله كلاماً وإنما كان ضرباً ولكماً، فوثب عمر على ختنه يضربه ويصارعه، فجاءت المرأة الضعيفة بجسمها، القوية بإيمانها، العزيزة بإسلامها، جاءت تذوده عن زوجها، وتضربه بيدها، فنفحها نفحة أزاحها عنه، وأدمى وجهها، فتحركت قوة الإيمان في قلبها رضي الله عنها، وقالت: يا عدو الله! أتضربني على أن أوحد الله؟ قال عمر في غيظته وشدته: نعم، فقالت له: ما كنت فاعلاً فافعل؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله! فأدركت عمر رقة، وجاءته دعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطوني صحيفتكم أقرأ فيها، وما كان هناك ذلك الخوف ولا التميع، فقالت: إنك امرؤ كافر نجس؛ وإنه لا يمسه إلا المطهرون، قم فاغتسل يا ابن الخطاب! فصارت تأمر عمر وتوجهه، فاستكان بداية لسكينة الإيمان، واغتسل عمر، وجاء يقرأ، والروايات في ذلك فيها أقوال كثيرة، ومنها: أنه قرأ أول طه: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:1 - 6]، قرأها عمر رضي الله عنه فانخلع لها قلبه، ورأى فيها عظمة؛ حتى قال: من كان هذا وصفه لا يصح أن يعبد معه غيره، ثم قال: دلوني على محمد، فدلوه على المكان بعينه، وهو دار الأرقم بن أبي الأرقم في أسفل ا

السيرة العمرية [2]

السيرة العمرية [2] كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوياً شديداً في الحق؛ ولهذا لقب بالفاروق؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، ومواقفه في نصرة الحق كثيرة جداً، سواء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه أو في زمن خلافته، وهذه الشدة والقوة لم تكن تخرجه عن طور الحق والمشروع، وإنما هي في نصرة الحق وتأييده.

مشاهد من قوة عمر رضي الله عنه وشدته في الحق

مشاهد من قوة عمر رضي الله عنه وشدته في الحق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! القوة العمرية معلم من معالم السيرة العمرية، نجعله موضوع حديثا هذا اليوم، ونحن نستجني سيرة عمر رضي الله عنه، ونعيش معها، وننظر إلى جوانب العظمة فيها، ونستلهم الدروس منها. وكما أشرت فيما مضى فإن الجوانب العظيمة في الشخصية العمرية، وإن المواقف العظيمة في السيرة العمرية تستحق منا كثيراً من الوقفات، وعديداً من مواقف التأمل والتدبر، وهذا أحدها، وهذا موقف من مواقفها. فلقد كان عمر مشهوراً بقوته، ومعروفاً بحميته، ولكن لننظر إلى هذه القوة في أي مجال كانت، وفي أي ميدان صالت، ولنرى حدودها ومواقفها، ولنرى منافعها ومآثرها؛ حتى ندرك جوانب النقص في حياتنا، وأسباب الضعف والخور في نفوسنا، وما يُرى في بيئاتنا وكثير من مجتمعاتنا من صور الكسل والخور والخمول مما لا يليق بالمسلم ولا يليق بمجتمع المسلمين، وقد كانت قوة عمر في الحذر من الكافرين؛ فقد كان لا يأمنهم على دينه، وكان لا يأمنهم على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يأمنهم على أمة الإسلام، وكانت قوته متجسدة في عمق إيمانه، وفي رسوخ يقينه، وفي همة نفسه، وفي علو إيمانه واستعلائه به عند الله عز وجل، فنفسه تأبى عليه إلا أن يكون قوياً في حيطته، شديداً في حذره من أولئك القوم، وقد تجسد ذلك في أوائل حياته في الإسلام، وفي أوائل سيرته مع ركب المؤمنين من صحب محمد صلى الله عليه وسلم.

قوة عمر رضي الله عنه وشدة حذره من الكفار

قوة عمر رضي الله عنه وشدة حذره من الكفار لما أراد عمر الهجرة هو وبعض الصحابة قص علينا خبره؛ فقال: اتعدت -أي: تواعدت- أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي عند أضاة بني غفار، وكان موعدهم أن من أتى منهم مضى، ومن حُبس تُرك، قال: فجاءني عياش وحبس عنا هشام، ثم مضى هو وعياش بن أبي ربيعة مهاجرين إلى المدينة النبوية قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغا قباء، ونزلا في بني عوف، فجاء أبو جهل وأخوه الحارث، وقد كان أبو جهل أخاً لـ عياش من أمه، وأدركا عمر وعياشاً وهما في قباء، فجاء أبو جهل وقد كان يمثل موقف القوة وصورتها في صف الكافرين، كما كان عمر يجسد صورة من صور القوة في صف المسلمين، فجاء أبو جهل إلى أخيه عياش وهو يريد أن يثنيه عن عزمه، ويريد أن يثبطه عن هجرته، فجاء إليه وهو يقول: إن أمك قد نذرت ألا يظلها سقف، وألا يمس رأسها دهن حتى تراك. وهذا أسلوب من أساليب الضغط النفسي، وأسلوب من أساليب التأثير العاطفي، وفي بعض الروايات: فما زال أبو جهل يفتل في الذروة والغارب، أي: ما زال يدور ويحور ويناقش ويعارض حتى كأن عياشاً لان له، فالتفت عياش إلى رفيق هجرته عمر يريد رأيه ومشورته، فانظر إلى قوة عمر في شدة حيطته وحذره، فإذا بـ عمر يقول لـ عياش رضي الله عنه: والله ما أرادا إلا دينك. أي: أي شيء يريدون؟ أهم أحن عليك من أمك؟ أهم ينظرون إلى هذه المعاني الإنسانية؟ أهم يلتفتون إلى هذه الأمور العاطفية؟ وقد كان عمر أبعد في نظره وأعمق في فكره وأقوى في قوته من عياش رضي الله عنه، فهتف بها واضحة قوية: والله ما أرادا إلا دينك! ثم قال: فاحذرهما، ولا تذهب معهما، فوالله لو آذى أمك القمل لادهنت وامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت. أي: دع عنك مثل هذه الأقاويل المثبطة، ودع عنك مثل هذه الخدعة الهامشية التافهة، إذ كان عمر أعلى وأقوى من هذا كله؛ فقال هذه المقالة لـ عياش، ولكن عياشاً قد تأثر بذلك رضي الله عنه، فقال: ولي مال في مكة آخذه فأعين به المسلمين، لكن عمر ما يزال في موقفه من الحيطة والحذر وقوته في حماية الدين والحياطة له، فقال: إنك تعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فخذ شطر مالي ولا تذهب معهما، فرأى إلا أن يذهب، فقال عمر: أما وقد عزمت أن تذهب فخذ ناقتي هذه؛ فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها. انظر إلى هذه القوة التي تستمر في هذه المواقف ولا تخور، ولا تنثني، ولا تتغير، بل كان يستمر في الحيطة إلى آخر الأمر، وقد كان من الأمر ما قال عمر، فلما كانوا في بعض الطريق قال أبو جهل: قد استوحشت واستصعبت جملي، فهلا أركبتني ناقتك يا عياش؟! فأناخ عياش، وما عنده حيطة عمر وقوته وشدته، فلما أناخ واستبدل الناقة قيداه وكتفاه، ثم ذهبا به إلى مكة أسيراً يضربانه، وفي بعض الروايات: أنه جلده كل واحد منهما مائة جلدة، وكان أبو جهل يقول: هكذا افعلوا بسفهائكم كما نفعل بسفهائنا. فـ عمر رضي الله عنه كانت قوته واضحة في الحيطة والحذر من الكافرين؛ لا يأمنهم، ولا يغتر بقولهم، ولا ينخدع بمعسول كلامهم.

موقف عمر مع عمير بن وهب

موقف عمر مع عمير بن وهب وهكذا كان له موقف آخر: يوم جاء عمير بن وهب بعد بدر، وكان قد خلا بـ صفوان بن أمية يندبان ما كان من قتلى قريش في بدر، ويتحرقان شوقاً لقتل محمد صلى الله عليه وسلم، فأعطى صفوان عميراً مالاً وجهزه ليمضي إلى قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ سيفه وذهب إلى المدينة، بحجة أنه يريد أن يفدي ابناً له عند المسلمين من أسارى بدر، فلما رآه عمر وقد أناخ ناقته عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى سيفه معلقاً برقبته مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسبقه إليه، فقال: يا رسول الله! هذا عمير بن وهب عدو الله مرني لأضرب عنقه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أدخله علي يا عمر)، فجاء به عمر وهو ممسك بتلابيبه -شد عليه ملابسه- حتى دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتعد فرائصه فرقاً وخوفاً من عمر، فقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: (أرسله يا عمر!)، فاستجاب عمر أمر النبي عليه الصلاة والسلام، فماذا صنع؟ أكان يترك النبي مع عدو من أعداء الله؟ A لا، وإنما خرج عمر وقال لبعض الأنصار: ادخلوا فكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخلصن إليه عدو الله، وإنما خرج لأن نفسه لم تتحمل أن ترى هذا الكافر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه قوته في الحذر من الكافرين. وكانت قوته أيضاً في إذلال الكافرين، فقد كان دائماً يحقق معنى العلو والاستعلاء بالإيمان المأمور به في قوله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فكان يرى كل مؤمن مهما كان فقيراً ضعيفاً هو أقوى وأعز من كل كافر مهما كان غنياً قوياً فتياً. وهكذا كان عمر دائماً في كل المواقف تظهر قوته ليذل أهل الكفر والكافرين.

قوة عمر رضي الله عنه عند هجرته إلى المدينة

قوة عمر رضي الله عنه عند هجرته إلى المدينة في يوم هجرته يروي علي رضي الله عنه فيقول: ما هاجر أحد من المهاجرين إلا مستخفياً إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه لما أزمع الهجرة توشح سيفه، وتنكب قوسه، وأخذ أسهمه بيده، ثم أتى البيت فطاف متمكناً، ثم صلى خلف المقام، ثم مر على حلق قريش حلقة حلقة وهو يقول: شاهت الوجوه، والله لا يغضب الله إلا هذه المعاصي، ثم نادى فيهم بقوة: من أراد أن تثكله أمه، من أراد أن ييتم ولده، من أراد أن يرمل زوجه فليلحق بي إلى بطن هذا الوادي! فهل لحق به أحد من المشركين؟ لم يجرؤ أحد منهم -وفيهم من فيهم من الصناديد والعظماء- أن يفكر في مجرد اللحاق بـ عمر رضي الله عنه، لقد أذلهم بهذه المقالات الإيمانية وبهذا الاستعلاء الإيماني وهو يطوف بهم في مجالسهم، ويسفههم بلسانه، ويتحداهم بفعله؛ حتى يظهر عزة الإيمان وعزة الإسلام.

اعتزاز المسلمين بإسلام عمر رضي الله عنه

اعتزاز المسلمين بإسلام عمر رضي الله عنه وكانت قوة عمر أيضاً في الاعتزاز بالدين وإعزاز المسلمين، فهذا ابن مسعود -كما يروي الإمام البخاري - رضي الله عنه يقول: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر رضي الله عنه)، لقد كان في قلبه فيض من القوة، وفي نفسه بحر متلاطم من العزة يأبى إلا أن يعز به هذا الدين، وأن ينصر به إخوانه المؤمنين، فلما أسلم عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد رأى في الإسلام انتشاراً، وقد رأى في صحبه كثرة تناسب الظهور، فقال عمر: ما ينبغي لنا أن نختفي بديننا، فاستجاب له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فخرج المسلمون في صفين في أحدهما عمر بن الخطاب فاروق الأمة، وفي الآخر: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم المشركون -ورأوا على وجه الخصوص عمر وحمزة - علتهم الكآبة ودخلهم الهم والغم وما استطاع أحد منهم أن ينطق ببنت شفة، وما تكلم أحد منهم بكلمة؛ لهذه القوة والهيبة التي كان عمر يعز بها دين الله، وينصر بها عباد الله.

عزة عمر يوم أحد

عزة عمر يوم أحد ولما كان يوم بدر وانتصر المسلمون، وجاء بعده يوم أحد وحل ما حل بالمسلمين، وجاء أبو سفيان بعد المعركة واندلاع غبارها يسأل: أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ فصاح به عمر: قد أبقى الله لك ما يخزيك يا أبا سفيان! ثم قال أبو سفيان: اعل هبل، قال عمر: الله أعلى وأجل. فقال: الحرب سجال يوم بيوم بدر، فقال عمر رضي الله عنه: لا سوى؛ قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. وكلما جاء بكلمة رد عليه عمر رضي الله عنه، حتى قال: اعل هبل، فقال عمر رضي الله عنه: الله مولانا ولا مولى لكم، هكذا كان عمر لا يرضى الدنية في دينه، ولا يرضى الضيم على المسلمين ولا الذلة على أمة الإسلام، حتى كان يتحرق ويتحرك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

موقف عمر في صلح الحديبية

موقف عمر في صلح الحديبية ونعلم موقفه الشهير في صلح الحديبية، فبعد أن قُضيت وانتهت بدر وأحد والخندق، وبعد أن أعز الله المسلمين، وجاءوا إلى بيت الله معتمرين، ثم صدوا عنه من قبل المشركين، وجاء بالمفاوضة، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع والقبول بالصلح، جاء عمر وقد تحركت غيرته الإيمانية، وحميته الإسلامية فقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟)، إنها كلمة ما زال عمر يشقها في آذان المسلمين إلى اليوم، هذا هو ظاهر الموقف، أما النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فقد كان مسدداً بالوحي، فقال: (إني رسول الله؛ وإنه لن يضيعني أبداً)، لكن عمر هكذا كان لا يحب أن يرى موقفاً فيه إهانة للإسلام، أو إذلال للمسلمين بأي حال من الأحوال، وهكذا كان عمر في مواجهة الكافرين. وأيضاً فإن قوته كما ظهرت في نصرة المسلمين، وفي إعزاز الدين، فقد ظهرت في مواجهة الكافرين، فكان في قلبه وفي نفسه شدة وغلظة عليهم، هدفها هو: إعلاء راية الله عز وجل، وإخضاع كل قوي وجبار ومتكبر لنهج الله ولشرع الله ولهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

موقف عمر رضي الله عنه من أسارى بدر

موقف عمر رضي الله عنه من أسارى بدر ويوم انجلى غبار المعركة في بدر، وكان بين يدي المسلمين سبعون أسيراً من صناديد قريش، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر رضي الله عنه: (يا نبي الله! بنو العم والعشيرة والإخوان؛ فإني أرى أن تأخذ منهم فدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة، عسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضداً). هذه رقة أبي بكر، وهذا لينه، فانظر إلى شدة عمر، وإلى حزمه وقوته رضي الله عنه، لما التفت له الرسول فسأله: (ما ترى يا عمر؟!)، فقال: والله! ما أرى رأي أبي بكر، قد كان صريحاًَ في الحق، قد كان مخلصاً في النطق، قد كان جريئاً فيما يظنه مصلحة للمسلمين، قال: (والله! ما أرى رأي أبي بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه، وأن تمكن حمزة من فلان -أخ له- فيضرب عنقه، وأن تمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه؛ حتى يعلم أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار)، وهؤلاء كانوا صناديدهم وقادتهم وأئمتهم، ثم تنزل الوحي من فوق سبع سموات يشير إلى أن رأي عمر رضي الله عنه كان رأياً وجيهاً حكيماً: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:67]، هكذا كان عمر رضي الله عنه في مواجهة الكفر والكافرين.

موقف عمر رضي الله عنه من أبي سفيان في صلح الحديبية

موقف عمر رضي الله عنه من أبي سفيان في صلح الحديبية وانظر إلى موقف آخر من المواقف الطريفة والعجيبة التي تتجلى فيها قوة عمر بأظهر ما تكون في شدته على الكافرين: يوم نقضت قريش عهدها في صلح الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتدت على حلفائه، ورأت أنها بذلك قد ارتكبت خطأً فادحاً، ويوشك النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرك جيوش الإيمان وجند الإسلام فيسطو على خضراء قريش وبيدائها، فأرسلوا أبا سفيان حكيمهم ومفاوضهم عله أن يهدئ من روع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: شد العقد، وزد في المدة. فجاء أبو سفيان إلى بيت بنته أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان منها ما كان؛ إذ طوت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغرب، وقال: (أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟!) فقالت: (إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك امرؤ نجس)، ثم مضى إلى أبي بكر يريد أن يكون شفيعاً له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر، ثم مضى إلى علي وقال: أنت أقرب الناس إلى محمد فكلمه، فقال: (قد والله رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأياً، ولا يكلمه فيه أحد)، ثم أخطأ أبو سفيان خطأً فادحاً فذهب إلى عمر ليكون شفيعاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش وكفارها وصناديدها، فأي شيء قال عمر رضي الله عنه؟ قال: (أنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به)، أين عقلك يا أبا سفيان! أو عمر يشفع في أعداء الله؟ ولو لم يجد من قوة إلا الذر والنمل لقاتل به الكفار؛ من شدته عليهم، وحنقه منهم، وتأديبه لهم، هكذا كان عمر في قوته في مواجهة الكافرين، وهكذا كانت صورته التي جعلته مؤهلاً بعد ذلك لقيادة المؤمنين.

قوة عمر رضي الله عنه وصراحته في الحق وموقفه في ذلك يوم الحديبية

قوة عمر رضي الله عنه وصراحته في الحق وموقفه في ذلك يوم الحديبية ومع هذه القوة في هذه الجوانب كانت لـ عمر قوة في جانب من أهم الجوانب، ذلك أنه كان قوياً في الصراحة في الحق، وقوياً مع ذلك في الالتزام والسمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي موقف الحديبية لما قال له النبي ما قال، سكت عمر، وسكن غضبه، وهدأت حميته، وعلم ما كان من نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال -كما في بعض الروايات-: (فلم أزل أكفر وأستغفر من الذي قلت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية). ثم انظر أيضاً إلى صراحته التي قد يظهر لأول الأمر أنها لا تتفق مع قوته، فيوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، وأرادت قريش أن ترده، أراد أن يبعث إلى قريش مبعوثاً ليخبرها أن النبي وصحبه لم يأتوا إلا معتمرين، وللبيت معظمين، وما جاءوا محاربين مقاتلين، فدعا الرسول عليه الصلاة والسلام عمر ليبعثه إلى قريش، وهو المؤمن العظيم في إيمانه، القوي الشديد في قوته، لكنه كان أيضاً قوياً في الصراحة، وقوياً في رعاية المصلحة الإسلامية، ولم تكن قوته تهوراً، ولم تكن حميته طيشاً واندفاعاً، فقال للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب -أي: قومه- أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر رضي الله عنه، وما كان في ذلك الموقف جبن ولا خوف، بل كان فيه قوة وشجاعة في الحق، ونظر إلى رعاية المصلحة الإسلامية، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمره لامتثل؛ فإنه كان وقافاً عند حدود الله، قوياً في التزام أمر الله سبحانه وتعالى. وفي يوم الحديبية أيضاً بعد أن وقف عمر موقفه، والتزم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، جاء أبو جندل وهو من المستضعفين المسلمين المحبوسين في مكة، جاء وهو يرسف في قيوده، وأبوه هو الذي أمضى العقد ممثلاً لقريش، جاء يريد أن يلتحق بالمسلمين، وتصوروا هذا الموقف: هذا مسلم مستضعف يعذب لأجل دينه، جاء راكباً مقيداً بقيوده، وهو يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه المسلمين رأي العين، يريد أن ينضم إليهم، وأن يلحق بهم، وأن يكون معهم، ولكن العهد والميثاق قد أُبرم، والمسلمون عند شروطهم، ولا أحد أوفى بعهوده منهم، فماذا فعل عمر رضي الله عنه؟ لم يخرق الالتزام، ولم تأخذه شدته وقوته، ولكن كانت قوته فيها التزام، وكانت شدته تظهر على أعداء الإسلام، فقال عمر رضي الله عنه: (فماشيت أبا جندل، وكنت أقول له: اصبر يا أبا جندل! اصبر يا أبا جندل!) هذا جانب الالتزام وقوته فيه، ثم قال له: (إنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم مثل دم الكلب)، وجعل يدني قائم السيف منه، ماذا يريد عمر؟ قال: (وكنت أريد أن يأخذ السيف فيضرب به عنق أبيه)، أي: بدون أن يكون هناك إخلال بالعهد؛ لأن أبا جندل لم يكن ممن أبرم العهد ودخل فيه، قال: (فما زلت أقول له: إنهم المشركون، وإن دم أحدهم مثل دم الكلب، وأدني منه قائم السيف لعله أن يضرب به عنق أبيه، فضن الرجل بأبيه)، ومضت القضية، وهكذا كان موقف عمر رضي الله عنه مع قوته، فهو قوي في التزام أمر الله وفي التزام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت قوته طيشاً ولا تهوراً رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا ينبغي أن تكون لنا القوة في هذه الجوانب. فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا القوة في دين الله، والقوة على أعداء الله، والقوة في نصرة عباد الله.

شدة عمر رضي الله عنه في دين الله عز وجل

شدة عمر رضي الله عنه في دين الله عز وجل أيها الإخوة المؤمنون! عندما نقف هذه الوقفات مع قوة عمر قد يقول القائل: فأين السماحة؟ وأين اللين؟ فأقول: قد أسرف الناس اليوم في أمر السماحة واللين وما يتصل بهما؛ حتى انقلب الأمر إلى مجاملات، ثم إلى مداهنات، ثم إلى منافقات، ثم إلى تنازلات، ثم إلى إعطاء الدنية في الدين، ثم إلى بيع الدين بالدنيا. نسأل الله عز وجل العافية. وكأني بـ عمر لو شهد مثل مواقفنا ومجتمعاتنا وأقوالنا لتفجر غيظاً من هذا التميع والتساهل والترخص بحجة إظهار سماحة الإسلام، والإسلام كله سماحة، وكله لين، وكله رفق، لكن فيه شدة، كما قال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، هذا وصف النبي الكريم ووصف صحبه رضوان الله عليهم، أفلا نرضى أن نأخذ بهذا الوصف؟ أفلا نجرؤ أن نقتفي آثار القوم، وقد كان عمر كذلك، وقد بين لنا حقيقة موقفه في شدته، ولم يدع لقائل مقالاً، ولم يدع لشبهة بقاءً، فإذا هو يخطب الناس عندما ولي أمره، فهو يعلم ما في قلوبهم من هيبته وشدته وقوته، وقد كان الناس في عهد أبي بكر يدنون منه؛ حتى إذا مشى في الطريق جاء صبيان المسلمين إلى أبي بكر يلاعبونه، فيمسح رءوسهم، وهكذا كانت سجيته: لين هين، أما عمر فكان الرجال يفرقون منه، ويتفرقون عنه، ويخافون عندما يرونه، وكانت هذه هيبته وشدته، لكنه جعل لكل شيء موضعاً، فقد رقى المنبر يشرح منهجه في القوة، وقال للناس مقالة عظيمة شرح لهم فيها موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر من بعده فقال: (بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟!) إنه يتحدث بما يجول في خواطرهم، وبما يهجس في نفوسهم، فإنهم يقولون: عمر كان شديداً بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وغليظاً بين يدي أبي بكر، فكيف وقد صارت الأمور إليه، والأمر رهن إشارته؟! فإذا به يقول: (ومن قال ذلك فقد صدق، كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكنت عبده وخادمه، وكان لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فكنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي). لقد كان رضي الله عنه رهن الإشارة وطوع الأمر، فإن دعته قوته إلى أمر وأجيز مضى، وإن منع وقف. قال: (وكنت مع أبي بكر، وكان من لا تنفد دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدته بلينه، وأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، ورغم أني وليت أموركم أيها الناس! واعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت -أي: تضاعف، فتصوروا ماذا خالط قلوب القوم وهم يسمعون عمر يقول هذا؟ - ولكن إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، أما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه؛ حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق -هذه هي القوة فانظر إلى اللين- وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف ولأهل الكفاف). وقد كان عمر رضي الله عنه كما قال، فكان منهجاً في القوة فريداً، وكان يضع كل شيء في موضعه وضعاً عجيباً.

هيبة الناس من عمر رضي الله عنه لشدته وحزمه

هيبة الناس من عمر رضي الله عنه لشدته وحزمه وانظر أيضاً إلى موقف آخر يوضح فيه عمر هذا الأمر توضيحاً عجيباً فريداً: اجتمع بعض الصحابة ورأوا من عمر في شدته ما يدعوهم إلى أن يكلموه في ذلك، فانتدبوا عبد الرحمن بن عوف، وكان أجرأهم على عمر، فجاء إلى عمر وقال: (يا أمير المؤمنين! لن للناس، فإنه يقدم القادم -أي: من بلاد المسلمين- فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك، قد خاف الناس أن يكلموك بحوائجهم)، فماذا قال عمر رضي الله عنه؟ قال: (أنشدك الله، أقال لك هذا فلان وفلان؟) أي: هذا ليس قولك وحدك، بل هو قول جمع من الصحابة، فقد كان عمر يعرف ذلك منهم، ويعرف هيبتهم له، وجرأة عبد الرحمن عليه، فقال: (نعم، فقال عمر: يا عبد الرحمن! لقد لنت للناس حتى خشيت الله في ديني، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في شدتي، وايم الله! لأنا أشد منهم فرقاً -أي: خوفاً من الله- منهم مني)، أي: أنا أشد خوفاً من الله من خوفهم مني، فأين المخرج؟ فماذا يقصد عمر؟ قال: (إني ألين ولا أترك اللين إلا عندما أرى أنه ضعف في الدين، وأشتد ولا أطلق الشدة إلا أن أرى أنها غلظة ليست في موضعها، وأجتهد في ذلك رعاية المسلمين ومراقبة لله، فوالله! إني لأشد منهم فرقاً منهم مني)، ثم جر رداءه وخرج يبكي رضي الله عنه وأرضاه، فالتفت عبد الرحمن بن عوف وهو يقول: (أف لهم من بعدك يا عمر! أف لهم من بعدك يا عمر!). وهكذا نجد هذه الفلسفة وهذا الشرح والبيان في موقف عمر في قوته رضي الله عنه، فقد كان كما قال الشاعر: في الجاهلية والإسلام هيبته تثني الخطوب فلا تعدو عواديها في طي شدته أسرار مرحمة للعالمين ولكن ليس يحكيها وبين جنبيه في أوفى صرامته فؤاد والدة ترعى جراريها أغنت عن الصارم المسلول درته فكم أخافت غوي النفس عاديها قد كانت شدة عمر نصرة للحق، وكان لينه تقريباً لأهل الحق، وهكذا كان عمر رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم، وهكذا كان يجسد ما أنبأنا الله عز وجل به في شأن وصف أهل الإيمان الذين يحبهم الله عز وجل ويحبونه، فقد جاء في وصفهم قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وقد كان عمر كذلك، فقد كان يعس ويرعى شأن العجائز والأطفال والصغار، بل كان يبكي ويرق لهم، بل كان يخدمهم بنفسه رضي الله عنه، وهكذا جسد المعنى الذي ذكره النبي الكريم في قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وكان عمر رضي الله عنه يريد بقوته أن يعز الإسلام، وأن يظهر قوته، ويريد بلينه أن يدعو إلى الإسلام وأن يظهر سماحته، فكان في كل موقف داعياً لله عز وجل، وكان في كل موقف ملتزماً أمر الله سبحانه وتعالى، وكان مجسداً لصورة الإسلام الحق في أبهى وأجلى وأنصع صوره، وما أحرانا أن نتلمس مثل هذه القوة بمثل هذا المنهج في سيرة عمر رضي الله عنه. فالله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والله أسأل أن يجعلنا آخذين بالقوة في الدين، والشدة على أعداء الدين، واللين للمسلمين.

السيرة العمرية [3]

السيرة العمرية [3] اشتهر عمر رضي الله عنه بالعدل؛ فقد كان عادلاً حتى على نفسه وأقرب المقربين إليه وأحب الناس إليه، وكان حريصاً في هذا الباب على متابعة ومراقبة ومحاسبة عماله، حتى لا يحصل منهم حيف أو ظلم على الرعية، وبهذا انتشر العدل في زمنه، وزادت الفتوحات، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، فرضي الله تعالى عن عمر وأرضاه.

تولية أبي بكر رضي الله عنه عمر من بعده

تولية أبي بكر رضي الله عنه عمر من بعده الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! المسئولية العمرية معلم بارز من معالم السيرة العمرية النورانية، وقد وقفنا من قبل مع قوة عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، فلننظر إليه اليوم وهو يتحمل أمانة الله عز وجل، وهو يتكلف مسئولية الأمة كلها، فكيف تأهل عمر لهذا المنصب الرفيع، إنه لم يتقدم إليه بنفع من قرابة، ولا بدفع من وساطة، وإنما كان إيمانه في قلبه، ويقينه في فؤاده، وبلاؤه في نصرة دين الله عز وجل، وحفاظه على الأمة، وغيرته على الدين، وشدته على الأعداء، إلى غير ذلك من المواصفات العظيمة التي كانت مؤهلاً لأن يتسلم هذا المنصب الرفيع في أمة الإسلام، وأن يكون خلفاً لـ أبي بكر الذي كان خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. لما اشتد المرض على أبي بكر رضي الله عنه دعا بعض الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقال: (اختاروا لكم أميراً من بعدي؛ فإنكم في حل من عقدي وبيعتي، وأوشك أن أنتقل إلى ربي)، فلم يجتمع أمرهم على أحد، وقالوا: (قد فوضنا الأمر إليك يا أبا بكر، فنظر أبو بكر فيمن صحب محمداً صلى الله عليه وسلم فوجدهم كلهم أصحاب فضل وسبق، وكلهم أصحاب جهاد وبلاء، وكلهم أصحاب بذل وعطاء؛ فإذا به يقلب الأسماء اسماً اسماً، وإذا به يتصفح الوجوه وجهاً وجهاً، وإذا به يستنطق التاريخ حدثاً حدثاً ويوماً يوماً، وإذا به يستقر رأيه على عمر رضي الله عنه، ثم ينطلق مستشيراً أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كانت الشورى منهجاً نزل في القرآن وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المسدد بالوحي من الرحمن، وسار على إثره من بعده صحابته رضوان الله عليهم، فأي شيء قيل عن عمر؟ دعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف ليسأله عن عمر؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: (ما تسألني عن أمر وأنت أعلم به مني؟) أي: لا يوجد رجل أخبر بـ عمر من أبي بكر، لكن أبا بكر أراد أن يستفرغ جهده في النصح للأمة وتحمل المسئولية في أمر هو من أعظم أمورها وأخطر قضاياها، فقال: (وإن يا عبد الرحمن؟!) أي: وإن كنت به خبيراً فإني أقضي في توليته مستشيراً، فأجاب عبد الرحمن بكلمات موجزات، وقال: (هو والله! أفضل من رأيك فيه)، ولعمري إنها لكلمات عظيمة؛ فأي رأي لـ أبي بكر في عمر؟ إنه رأي التقدير والتعظيم لرجل قد ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في شأنه على وجه الخصوص ما ذكر، ثم دعا أبو بكر رضي الله عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه واستشاره، فقال عثمان: (علمي به: أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله)، ثم دعا أسيداً وبعض الأنصار، فقال أسيد: (اللهم أعلمه الخيرة بعدك)، ثم قال عن عمر: (يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن)، ثم قال مقالة واضحة جلية في أهلية عمر: (ولن يلي الأمر أحد أقوى عليه منه)، وكان الأمر كما قال، فاستقر رأي أبي بكر على عمر، فتكلم بعض الناس في أمر عمر وشدته وقالوا: أتولي بعدك عمر؟! أما تخاف الله يا أبا بكر؟! فأمر أبو بكر أن يجلس، وكان قد أقعده المرض، وقال: أبالله تخوفونني؟! والله لئن سئلت لأقولن: وليت على أمة الإسلام خيرهم)، وكان يرى ذلك أبو بكر والصحابة رضوان الله عليهم، واستقبل عمر رضي الله عنه الخلافة في صبيحة الثلاثاء بعد دفن أبي بكر وانتقاله إلى الدار الآخرة ليلقى ربه ومولاه.

مباشرة عمر رضي الله عنه للمسئولية بنفسه

مباشرة عمر رضي الله عنه للمسئولية بنفسه بدأت ملامح القيادة العمرية والتصوير الدقيق لعظمة وأهمية ودقة المسئولية في صورة عملية تكررت في كل لحظة من اللحظات، وفي كل ليلة من الليالي، وفي كل يوم من الأيام عبر عشر سنوات طوال امتدت فيها خلافة عمر رضي الله عنه، ولم يكن الأمر كلاماً وثناءً، ولم يكن قولاً وادعاءً، وإنما كان ممارسة وتطبيقاً تنظر إليه الأمة كلها في شرق الأرض وغربها، عبر مرور الزمان، وعبر تغير المكان، فالكل رأى هذه الصورة المشرقة الوضيئة لمسئولية عمر، ولقيادة عمر، ولنموذج الحاكم المسلم الذي ضرب أمثلة رائعة في شتى المجالات يقصر حديثنا دونها، وتضيق مقاماتنا عن استيعابها، وتقل طموحاتنا وخيالاتنا في هذا العصر الذي تخلفت فيه أمتنا عن أن ندركها أو نتصورها. فكان أول أمر عمر هو أول أمر ينبغي أن يبدأ به كل مسلم في كل عمل وكل مسئولية صغيرة كانت أو كبيرة، إنه أمر الاستعانة بالله عز وجل، إن المرء ضعيف بنفسه، قليلة حيلته، ذاهبة خبرته ما لم يسدد من الله سبحانه وتعالى، ولقد كان عمر من أعظم الناس اتصالاً بالله، وأعظمهم ارتباطاً وخشية وخوفاً من مولاه، فلما تلقى الأمر ولما تحمل المسئولية كان أول ما قال دعاءً يستعين الله سبحانه وتعالى فيه على أن يعينه، فقال: (اللهم إني ضعيف فقوني، اللهم إني غليظ فليني، اللهم إني بخيل فسخني)، فكان عمر يرى في أمر نفسه شدة، وكان يريد لنفسه في أمر أمته أمراً يحبه الله عز وجل ويرضاه، ثم قال عمر: (لو علمت أن أحداً أقوى على هذا الأمر مني لكان ضرب العنق أحب إليَّ من أن ألي هذه الولاية)، أي: لم تكن فرصة أو غنيمة اكتسبها، ولم يكن شرفاً كان يسعى إليه، ولم يكن أمراً من الفخر كان يتطلع إليه، بل كانت مسئولية عظيمة ناء بها ظهره، وأشغلت ليله ونهاره. ولذلك بدأ عمر يرسم ملامح المسئولية، وأولها: المباشرة والمشاركة، فلم يتخذ عمر أبواباً، ولم يتخذ حجاباً، ولم يجعل بينه وبين الناس باباً، ولذلك كان أول مجلس جلسه في بداية سياسته أنه بين للناس ما ينبغي أن يؤدى من الرعية للراعي، ومن الراعي للرعية في فقه إيماني عمري، قال فيه عمر رضي الله عنه: (الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى إلى الله عز وجل، فإذا ركع ركعوا)، بين في هذا أن أمر الصلاح متعلق بصلاحه؛ لأنه القائد والحاكم والآمر والناهي، فإن أدى حق الله وإن خاف الله انعكس ذلك في رعيته، ثم قال للناس: (والله! لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني شيء من أمركم فآلوا فيه عن أهل الصدق والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم، ما يكون من أمر بين يدي إلا وأكون أنا الذي أتولاه، وأنا الذي أباشره، وأنا الذي أشارك فيه، لا أكون بعيداً عنكم، ولا مترفعاً عنكم، ولا مبتعداً عن أموركم)، أي: أنه سوف يباشر ذلك بنفسه رضي الله عنه وأرضاه. ولقد طبق ذلك؛ فكان عمر بنفسه يطعم ويسقي، ويسأل ويفصل، ويقضي ويحكم، ويعس ويستقضي، وكان يذهب كل مذهب، حتى قال فيه الصحابة: لقد أتعبت من بعدك يا عمر! ثم إنه لم يخلد إلى الراحة، ولم يسكن إلى الاستراحة، وإنما كان الأمر عنده مسئولية عظيمة، فهذا معاوية بن خديج يأتي من مصر في زمن عمر يبشره بالفتح ودخول الإسكندرية، فوافى المدينة في وقت الظهيرة، فأتى إلى بيت عمر ناحية مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده فيه، فدخل إلى المسجد، فلما قدم عمر قالوا: رجل من مصر يسأل عنك، فذهب إلى المسجد فدعاه إلى بيته، ثم قال له: (ما قلت يا معاوية! إذ لم تجدني؟) يعني: أي ظن دار في خاطرك؟ فقال معاوية: (قلت: إن أمير المؤمنين قائل)، أي: نائم في وقت القيلولة، فقال عمر وقد ضرب على صدره: (بئس ما ظننت؛ والله لئن نمت النهار لأضيعن رعيتي، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي!) قالوا: وكان عمر لا ينام إلا غراراً من ليل أو نهار. أي: خفقات يخفقها، لا يطمئن فيها قلبه، ولا يغمض جفنه؛ لأنه يرى أنه تحمل مسئولية الصغير والكبير، وشرق الأرض وغربها، والجنود والرعية كلها، فكان لا يرى هذه الراحة ولا يأنس بها؛ لأن في قلبه هماً عظيماً يشارك فيه الأمة في كل مأساة من مآسيها، وفي كل مصيبة من مصائبها، وفي كل حاجة من حاجاتها.

موقف عمر رضي الله عنه مع رعيته عام الرمادة

موقف عمر رضي الله عنه مع رعيته عام الرمادة ولما جاء عام الرمادة -وهو عام المجاعة الذي أصاب المدينة وبعض بلاد نجد، وبلغ الأمر مبلغاً- كان عمر أول المشاركين في تحمل هذه المعاناة، وأول المبالغين في الشدة على نفسه رحمة الله عليه ورضي الله عنه، وكان من شأنه -كما ذكر كُتَّاب السيرة- ما روى أسلم -وكان من مواليه والعاملين معه- فقال: (كنا نقول: لو لم يرفع الله المجاعة عام الرمادة لظننا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين)، أي: أنهم كانوا يخشون عليه الموت من شدة همه وغمة لحال الأمة في ذلك الوقت. وقد روى الواقدي عن بعض أزواج عمر ونسائه: (أن عمر ما قرب امرأة من أهله في عام الرمادة؛ هماً بأمر المسلمين) أي: من شدة همه وتحمل مسئوليته، حيث إنه كان يتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإمارة: (إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة)، فكان عمر يحمل الأمانة كما ينبغي أن تحمل، وكان يخشى الخزي والندامة خشية لا يتصورها كثير من الناس، وهكذا كان عمر في مباشرته وفي مشاركته لرعيته أنه بين أول صورة من صور المسئولية.

توجيه عمر رضي الله عنه وإرشاده للأمة

توجيه عمر رضي الله عنه وإرشاده للأمة ثم قام بأمر ثانٍ وهو: أمر التوجيه والإرشاد، وهو أمر من مهمات المسئولية، فأي شيء كان يوصي عمر به رعيته؟ لقد قال لهم في أول أمره وفي بداية خلافته: (اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية. اتقوا الله عباد الله! وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخباري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم)، هذا هو توجيهه لكي يحصل التكامل والتعاون بين الراعي والرعية، حيث قال: (أعينوني على أنفسكم بكفها عني، فلا تشغفوا، ولا تخالفوا، ولا تعتدوا، ولا تظلموا، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخباري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم).

حب عمر رضي الله عنه لنقد الناس ونصيحتهم له

حب عمر رضي الله عنه لنقد الناس ونصيحتهم له كان عمر رضي الله عنه يطلب من الناس أن ينقدوه وينصحوه، ويوجهوه ويأمروه وينهوه ما دام ذلك بأمر الله وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو وهم خاضعون لأمر الله ولهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يقول رضي الله عنه: (أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي)، ولم يكن ذلك أيضاً إعلاناً سياسياً، ولا قولاً ادعائياً، وإنما كان صورة حية عملية، وكان عمر يأتيه الآتي من الناس ويقول: اتق الله يا عمر! ويهز عمر بقوته وهيبته، فيطأطئ عمر رأسه، وينسكب دمعه من عينه خشية لله عز وجل، وكان يسمع للصغير والكبير، وللقاصي والداني؛ حتى إنه كان يبحث عمن يستشيره ومن يسأله بحثاً عجيباً.

مسئولية عمر المالية ومنهجه في ذلك

مسئولية عمر المالية ومنهجه في ذلك ثم هناك أمر ثالث في مسئولية عمر المالية، وما أدراك ما ارتباط المسئولية بالنواحي المالية، كان عمر يرسم في ذلك على نفسه ثم على ولاته صورة من أعظم الصور التي يضمن بها ضبط الحقوق ووضعها في مواضعها، فقال للناس من أول يوم وفي بداية أمره: (لكم علي ألا أجتبي من خراجكم ولا من فيئكم شيئاً إلا من وجهه -أي: الشرعي- ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج إلا في حقه، ثم قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وان افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا أيسرت قضيت، أما أموالكم وخراجكم وبيت مال المسلمين فلا حق له فيه إلا كحق ولي اليتيم، إن افتقر أكل بالمعروف بقدر ما يحتاج مقابل عمله، وإن أيسر استغنى، قال: (وإن استغنيت استعففت)، أي: أنه استغنى من أن يأخذ شيئاً، وإن أخذ أخذ بالمعروف، ثم إن أيسر قضى إلى بيت مال المسلمين. وهكذا كان عمر في صورته العملية، فقد كان يعمل في بعض الأحوال بالتجارة؛ ليكسب قوته وقوت عياله، فأرسل مرة إلى رجل من الصحابة من يستقرض له أربعة آلاف درهم يريد أن يستعين بها في أمر تجارة من الشام، فرد الصحابي رسول عمر، وقال له: قل له: يأخذها من بيت المال، فإذا غنم فليردها. فغضب عمر وأسرها في نفسه، وشق ذلك عليه، فلما لقي ذلك الصحابي قال له: (أنت القائل: فليأخذها من بيت المال ثم ليردها؟ قال: نعم، قال: ولعلي إن فعلت ذلك فمت قلتم: أخذها أمير المؤمنين دعوها له، وأؤخذ بها يوم القيامة، لا والله! لا أقدر، ولكن أردت أن آخذها من رجل صحيح شحيح مثلك، حتى إذا مت أخذها من ورثتي)، وهكذا كانت عفة عمر عن الأموال العامة وسياسته ومسئوليته فيها، وقد جاء إليه مرة حفص بن أبي العاص، ودخل إلى بيت أمير المؤمنين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر، وصاحب أعظم منصب في الأمة التي ورثت ملك كسرى وقيصر، فدخل على عمر، فقدم له عمر طعاماً، فأمسك الرجل يده، فقال: (مالك لا تصيب من طعامنا؟!) إنه طعام الخليفة في دار الخليفة في وقت خلافته وعظمته، فقال الرجل: إن طعامك جشب غليظ، وإني راجع إلى طعام لين قد صنع لي فأصيب منه. فقال عمر: (أو أعجز أن آمر بشاة أو بعناق فتذبح، ثم يسلخ عنها جلدها، ثم آمر بدقيق فيعجن، ثم آمر بهما فيضرم عليهما النار؟) فوصف الطعام حتى عجب الرجل، وقال: والله! إنك لعالم بالطعام يا عمر! فقال عمر رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده! لولا أن تنتقص حسناتي لشاركتكم لين عيشكم؛ فإني سمعت الله عز وجل يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]). لقد كان عمر يعف ويتوقأ ويزهد؛ لأنه تلقى ذلك من مدرسة النبوة؛ فقد دخل يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نام على حصير أثر في جنبه، فحزن عمر، وجرت دمعته في عينه، وطأطأ رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا عمر؟! قال عمر: كسرى وقيصر في العيش الرغيد الهنيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد بينه وبين الحصير وقاءً يقي جنباً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم)، هكذا تربى عمر رضي الله عنه، فلم يكن في قلبه تعلق بالمال، ولم يكن في نفسه شغف بالثروة، وإنما كان عنها معرضاً، وفيها زاهداً، ولمصلحة المسلمين مسخراً، ولذلك كان عمر في هذا سريع التجاوب، لقيه مرة أبو الدرداء رضي الله عنه وهو علم من أعلام الزهد في مدرسة النبوة من صحب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لـ عمر يعظه ويذكره ويذكر نفسه: (أتذكر حديثاً حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما هو يا أبا الدرداء؟! قال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)، فقال عمر: نعم، فقال أبو الدرداء: فما صنعنا بعده؟ فجعلا يتذاكران ويبكيان رضي الله عنهما وأرضاهما). فإذاً: لم تكن المسئولية عند عمر مغنماً، ولم يكن ذلك في شأنه، وكان يطبق هذا على ولاته أيضاً، كما سنذكر. وهناك معلم رابع من معالم مسئولية عمر وهو: الدقة والشمولية، والدقة في هذه المسئولية وشمولها لا يخرج عنها صغير ولا كبير، ولا قوي ولا ضعيف، وليس فيها محاباة لأحد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه من دقته أنه كان ينظر في إبل الصدقة أمراضها، وكان ينظر إلى البعير من إبل الصدقة قد أصابه المرض، ويقول: (إني لخائف أن أسأل عنك يوم القيامة). وهكذا قال في الرواية المشهورة التي ذكرها ابن سعد في طبقاته وغيره: (والله! لو أن جملاً مات بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه)، فكان دقيقاً في مسئوليته غاية الدقة، حتى إن علياً رضي الله عنه رآه مرة وهو يمشي ويستبكي، فقال: (مالك يا أمير المؤمنين؟! قال: إبل من إبل الصدقة ند فأنا في أثره حتى أرجعه! فقال علي: لقد أتعبت من بعدك)، وهكذا كان عمر رضي الله عنه. ثم إنه كان إذا أمر بأمر أو نهى عن نهي جمع أهل بيته وذوي قرابته، ثم قال لهم: (فإني قد أمرت بكذا وكذا، أو نهيت عن كذا وكذا، وإن الناس ناظرون إليكم لمكانكم مني -أي: لأنكم أقرباء الخليفة، أو أصهار أمير المؤمنين- فإذا وقعتم وقعوا، وإذا هبتم هابوا، والله! لا أرين أحداً منكم أتى ما نهيت عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني، فمن شاء منكم فليتقدم، ومن شاء منكم فليتأخر). وكان عمر رضي الله عنه يتنبه لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]، وكان يخشى مما ذكر الله عز وجل من وصف اليهود وكبرائهم، وأنهم كانوا يأمرون الناس بما يخالفونه، فكان يطبق ذلك على نفسه وعلى خاصة أهله.

بغض عمر رضي الله عنه للمداهنة والمجاملة

بغض عمر رضي الله عنه للمداهنة والمجاملة كان أيضاً لا يدع مجالاً للنفاق والادعاء والكذب، بل كان دائماً يضع حداً فاصلاً بين الحق والباطل، ولا يقبل مداهنة ولا مجاملة، وكان مرة في مجلسه، فتذاكر بعض الناس مآثر عمر، وهو جالس معهم، فقال بعضهم: (والله! ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط ولا أقول بالحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين! فأنت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عوف بن مالك -وكان يعلم من عمر عدم حبه للنفاق والمراءاة والمداهنة-: (كذبتم؛ إني قد رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً من عمر أبا بكر رضي الله عنه)، فماذا قال عمر في مثل هذا الموقف، وهو أمير المؤمنين يمدح، ثم يأتي من يقوِّم المدح ويرد ما كان فيه من باطل؟ قال: (صدق عوف، وكذبتم، والله! لـ أبو بكر أطيب من ريح المسك وإني أضل من بعير أهلي)، أي: يوم كان قد أسلم كنت لا زلت بعد في الجاهلية، فهذه بعض معالم المسئولية في سيرة عمر رضي الله عنه. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتحملون الأمانة حق التحمل، ويقومون بكل ما استرعانا الله عز وجل فيه من المسئولية؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

منهج عمر رضي الله عنه في تولية القضاة ومحاسبتهم

منهج عمر رضي الله عنه في تولية القضاة ومحاسبتهم إن من أعظم معالم المسئولية العمرية منهج عمر في تولية الولاة ومحاسبتهم؛ فإنه كان يشرف بنفسه على ما تحته أو ما عنده من الأمور، وكان يولي على الآفاق والأمصار، وعلى الجند والجيوش، فأي الرجال كان يولي عمر؟ لقد كان يعرضهم عوداً عوداً، ويخبرهم واحداً واحداً، ويسأل عنهم، ثم بعد ذلك لا يطمئن حتى يتابع أعمالهم، فكان عمر رضي الله عنه يقول: (إني لأستحيي أن أستعمل رجلاً وأنا أجد أقوى منه)، أي: ولو كان هذا الرجل صالحاً لهذه المسئولية، ولكن هناك من هو أصلح منه، فإن عمر كان لا يرى جعله على هذه الولاية وهذا الشأن، وهكذا كان عمر رضي الله عنه على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حذر من مغبة آخر الزمان، وذكر من أوصافه: (أنه يوسد الأمر إلى غير أهله، وتضيع الأمانة)، أما في عهد عمر فقد كان معلم النبوة بارزاً ظاهراً، ولذلك كان كثيراً ما يستشير أصحابه ويقول: دلوني على رجل لأمر كذا وكذا، فذكروا له فلاناً من الناس، فقال: لا حاجة لي فيه، قالوا: فمن تريد يا أمير المؤمنين! قال: (أريد رجلاً إذا كان في قوم وليس أميرهم كأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو أميرهم كأنه رجل منهم)، يريد عمر نموذجاً مصغراً، وصورة منه رضي الله عنه، فقد كان شديداً في الحق ليناً لأهل الحق، كان يريد رجلاً إذا كان في الناس وليس أميرهم كأنه أميرهم من حبهم وتوقيرهم له، وتقديمهم إياه، وإذا كان فيهم وهو أمير عليهم كأنه واحد منهم من قربه منهم، ومن لينه معهم، ومن بساطته بينهم، ومن عدم غلظته عليهم، وهذه المواصفات لم تكن خيالاً أو تنظيراً، بل كان عمر يمحص ويمهد ويختبر وينتقي مثل هذه المواصفات في أعيان الصحابة وأعيان الرجال الأبطال ممن جاء بعدهم. وكان إذا ولَّى رجلاً كتب له كتاباً، وأشهد عليه جمعاً من الأنصار والمهاجرين؛ حتى يعظم المسئولية في نفس هذا الوالي، وحتى يعظم خوف الله في قلبه، فكان يقول له فيما يكتب عليه مما قد يشابه اليوم ما يسمى بالقسم الذي يقسمه أصحاب المسئولية أو نحو ذلك، كان يقول له في كتابه: (إنه ينبغي له ألا يظلم أحداً في جسده، ولا في ماله، ولا يستغل منصبه لفائدة أو مصلحة له، ولا لمن يلوذ به)، وكان يقول لولاته: (إني لم أستعملكم على دماء المسلمين ولا على أعراضهم، ولكن أستعملتكم لتقيموا الصلاة، وتقسموا بينهم، وتحكموا بالعدل. إني لم أبعثكم جبابرة، ولكن بعثتكم أئمة؛ فلا تضربوا المسلمين فتضلوهم، ولا تمدحوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم فتظلموهم)، وكان يشهد على هذا الكلام عندما يولي الولايات، وكان يأخذ على كل والٍ ألا يغلق بابه دون الناس. بل قد ورد في بعض السير أنه بلغه أن بعض ولاته اتخذ قصراً أو داراً وجعل له باباً، فبعث إليه محمد بن مسلمة -وكان المفتش الإداري العام عند عمر رضي الله عنه- وبعث معه من يحرق هذا الباب أول بلوغه، وقال: (اتخذت باباً دون الناس حتى لا يصل إليك ذو الحاجة المظلوم؟!) وهكذا كانت ولايته رضي الله عنه، وقد كان ولاته من الصحابة، فكيف إذا كانوا من غيرهم؟! ورد أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: (أن سو بين الناس في مجلسك وجاهك؛ حتى لا ييئس ضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك). ثم بعد هذا الاختيار والانتقاء والوصايا والإشهاد لا يقنع بذلك، فقد قال مرة لجمع من الناس: (أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت الذي علي؟ -أي: هل أخليت مسئوليتي باختيار الأفضل وتوصيته وأمره؟ - قالوا: نعم يا أمير المؤمنين! قال: لا؛ حتى أنظر في عمله: أعمل بما أمرته أم لا؟).

اتخاذ عمر رضي الله عنه مبدأ الإشراف والمراقبة والمتابعة لعماله

اتخاذ عمر رضي الله عنه مبدأ الإشراف والمراقبة والمتابعة لعماله كان عمر يأخذ مبدأ الإشراف والرقابة والمتابعة، وأذكر نموذجاً واحداً من نماذج شتى يضيق المقام عن حصرها، هذا أحد النماذج التي كان عمر يفتح لها صدره وبابه ليسمع شكاية الناس في الولاة، ثم يأتي بالوالي والرعية في المجلس بين يديه، وينظر أمير المؤمنين في القضية: سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه كان والياً لـ عمر على حمص، فجاء إليه أهل حمص، فسألهم عن أميرهم، فشكوا إليه أربع خصال، فاستدعاه عمر من حينه إلى المدينة إلى مقر الخلافة؛ ليكون في مجلس القضاء الفصل، والحكم بالعدل بين يدي عمر رضي الله عنه، فجيء بـ سعيد وجيء ببعض أهل حمص الذين قالوا هذه المقالة، وتقدموا بشكاواهم، وكان سعيد بن عامر يدافع ويرد على ذلك بين يدي عمر، وقبل أن يقدم على عمر قال: (اللهم لا تخيب فراستي فيه)، فقد كان عمر يحزن أشد الحزن إذا وجد في ولاته تغيراً؛ لأنه كان ينتقيهم ويختارهم، ويتفرس فيهم، وينظر فيهم بفراسة المؤمن التي آتاه الله إياها، فكان يرى سعيد بن عامر مثلاً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يحب أن يكون فيه نقص أو تغير، لكنه كان يرى العدل، وكان يرى ضرورة ضبط الأمور في هذه المسئولية، فلما جاء أهل حمص قال لهم: ما شكايتكم؟ قالوا: كان لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، فالتفت عمر إلى سعيد: ما تقول؟ فيقول: أما إني ما كنت أحب أن أقول، ولكنه ليس لأهلي خادم، فإذا أصبح الصباح عجنت عجيني، وخبزت خبزي، فلا أخرج لهم إلا وقد مضى من النهار شيء، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قال لأهل حمص: وما شكايتكم؟ قال: لا يرد على أحد بالليل، فالتفت إليه عمر، فقال: قد تركت النهار لهم، وتركت الليل لربي، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قالوا له: إنه يغيب عنا يوماً في الشهر فلا يظهر إلا آخر النهار، فقال: أما إني كنت لا أحب أن أقول، ثم قال: إنه ليس لي إلا ثوب واحد، فإذا اتسخ غسلته، وانتظرته؛ حتى يجف، فأخرج إليهم متأخراً، قالوا: وكان يغشى عليه المرة بعد المرة، أي: يصاب بإغماء، قال: أما إني ما كنت أريد أن أقول، ولكني شهدت مصرع خبيب بن عدي رضي الله عنه في مكة يوم صلبه كفار قريش وقالوا له: أتحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فقال: ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا آمن في أهلي، ثم قتل، قال: ففي نفسي أني لم أكن نصرته يومئذٍ، وكنت من الكافرين، فكلما ذكرت موقفه أُغمي علي، فحمد الله عمر على أن هذا النموذج من ولاته يمثل سياسته ويمثل نظرته للمسئولية، ثم بعث به إلى حمص مرة أخرى، وبعث في إثره بأربعة آلاف درهم، كتب له أن ينفقها على نفسه وأهله؛ لأنه قد بلغت حاله من الزهد والفقر مبلغاً عظيماً، فدخل سعيد بن عامر على أهله -وقد كان في ذلك الوقت يتوقع مجيء جيش من جيوش الكفر- وهو مهموم مغموم، فقالت له زوجته: أي شيء يا سعيد! أجاء العدو؟ قال: لا، بل أعظم، قالت: فاذكر من عندك، قال: فإني لا آمنكم عليه، قالت: خذ الأمان لنفسك، قال: قد بعث عمر إلي بأربعة آلاف درهم، وأمرني أن أنفقها على نفسي وأهلي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن فقراء المهاجرين يسبقون أغنياءهم إلى الجنة بأربعين خريفاً)، وأخشى ألا أكون من السابقين، قالت: قد أمنتك، فدونك المال، فجعل يربطه خرقاً خرقاً ويوزعه، حتى ما انتهى يومه إلا وقد وزعه كله. فهذا نموذج من نماذج ولاة عمر رضي الله عنه، وهذه ثمرة ذلك النظر الثاقب في الرجال، وتلك المراقبة الدقيقة في متابعة الأعمال، فرضي الله عن عمر على ما قدم لأمة الإسلام والمسلمين. ونسأل الله عز وجل أن يجدد فينا سيرة عمر وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

عمر رضي الله عنه والتنمية

عمر رضي الله عنه والتنمية أما التنمية العمرية فقد ساس عمر الناس وقادهم وسعى في صلاحهم، وجهد في خيرهم وعطائهم ورخائهم؛ لتبرز لنا صورة مشرقة من صور التطبيق الإسلامي الأمثل لإدارة شئون الحياة، وللتعامل مع مستجدات الأمور، ونحن اليوم نسمع حديث التنمية والرخاء يتردد صباح مساء، وكثير من حديث الناس والساسة وأهل التحليلات والأخبار إنما يدور حول هذه القضايا، وقد مر بنا قريباً مؤتمر السكان والتنمية، وغير ذلك مما هو حديث الناس اليوم عن الدول المتقدمة والدول المتخلفة، وعن الفقر، وعن مستوى المعيشة، وغير ذلك، ويُنسب كثير من النقص والقصور زوراً وبهتاناً واعتداءً وافتراءً إلى دين الإسلام! والإسلام من ذلك براء. فهذه صورة الحياة الإسلامية والرفاهية الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه تبرز لنا الجانب المهم الذي ينبغي أن يكون يقيناً راسخاً عند كل مؤمن ومسلم، وهو أن الحياة في ظلال القرآن وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى منهج الإسلام هي الحياة الهنيئة الوضيئة في هذه الحياة الدنيا، وهي التي تؤهل -بإذن الله عز وجل- إلى رضوان الله ورحمته في الحياة الأخرى، وأما غير ذلك فهو الشقاء وإن عظمت الأموال، وهو النكد والتعاسة والبلاء وإن اتسعت أسباب الرزق وتنوعت سبل التقدم، كما قال جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]. إن عمر رضي الله عنه كان قد جعل للتنمية أسساً في طبيعة الفكر والحكم والمبادئ التي ساس بها أمته، فجعل المساواة والعدالة والحرية والشورى أسساً تنطلق من خلالها كل الإبداعات، وتتفجر عبرها سائر الطاقات، ويحصل من خلالها التنافس في مجال الخيرات، ولذلك جعل عمر هذه القوائم دعائم وأسساً لم يتخل عنها في إعلانه، ولا في تطبيقه، ولا في ممارسته، فجعل ذلك أمراً بيناً واضحاً، فهو في المساواة يعلن للأمة في ملأ منها قائلاً: (والله! الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه، وما أحد أحق به من أحد، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: التفريق إنما هو في العطاء والبذل للإسلام، قال عمر: (الرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وضناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام، والله! لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه)، أي: في طلبه واستجداءً لغيره، قالها عمر بلسانه ثم طبقها بفعله، كما سنتحدث في بعض ومضات من تنمية عمر رضي الله عنه. لقد كان عمر رضي الله عنه يطبق المساواة عملياً، فحينما جاءت بعض البرد -وهي الثياب الطيبة الرخية من بلاد اليمن- وزع عمر على الصحابة وعلى المسلمين، وأخذ لنفسه مثلهم، ثم لما رقي المنبر قال: (اسمعوا وأطيعوا)، قال: سلمان: (لا سمع ولا طاعة)، قال: (ما بك يا أبا عبد الله، قال: أعطيتنا برداً برداً وأخذت بردين، فقال عمر: قم يا عبد الله بن عمر! من أين هذه البردة؟ قال: إنها لي، وقد أعطيتها لأبي، قال عمر: لم يكن لي ثوب) وكان عمر طويلاً جسيماً، فأخذ ثوب ابنه وجعله معه، فقال سلمان: (أما الآن فقل نسمع ونطع بإذن الله عز وجل).

عدالة عمر رضي الله عنه

عدالة عمر رضي الله عنه ثم جاء عمر ليؤسس العدالة، ويبين أنها أمر مهم لكي تستوي الفطرة البشرية، ولكي يمكن أن تنطلق الطاقات والابداعات، فإذا بـ عمر يقول مقدراً حقيقة مهمة هي أعظم من كل الدساتير التي تنادي بحقوق الإنسان اليوم، يقولها عمر في كلمات موجزة: (ليس الرجل بمأمون على نفسه إن أجعته أو أخفته أو حبسته أن يقر على نفسه)، أي: بما لم يكن، وهذا دليل على حرية الإنسان وكرامته في الإسلام، وأن حقه محفوظ، وأن العدل ينصفه من كل من يعتدي عليه أو يجور، وإذا بـ عمر يطبق ذلك عملياً، كما في القصة المعروفة الشهيرة: لما أجرى عمرو بن العاص -وكان والياً على مصر- الخيل سبق أحد الأقباط ابناً لـ عمرو بن العاص، فأخذ هذا الابن درة وضرب بها المصري، وقال: أتسبق ابن الأكرمين؟! فخشي عمرو من هذا الحدث أن يبلغ عمر، فذكرت بعض الروايات أنه حبس الرجل أو أخره، ثم خرج الرجل من مصر إلى المدينة ينشد عدالة عمر، فاستدعى عمر عمرو بن العاص وابنه، وجمع الناس، فلما حق له الحق وعرف الواقعة أعطى درته للقبطي، وقال: اضرب بها ابن الأكرمين، ثم لما ضربه، قال: (جل بها على صلعة عمرو بن العاص، فوالله! ما ضربك إلا من سلطان أبيه)، فقال: القبطي -وقد رأى العدالة-: قد ضربت الذي ضربني يا أمير المؤمنين! وإني مسلم لله رب العالمين، قال: (والله! لو ضربته لما منعتك منه)، ثم التفت إلى عمرو بن العاص وهو يقول كلمته الأثيرة الشهيرة الذائعة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!).

تثبيت عمر رضي الله عنه لأصل الشورى في حياة المسلمين

تثبيت عمر رضي الله عنه لأصل الشورى في حياة المسلمين ويمضي عمر في الأصل الثالث، وهو أصل الشورى في حياة الأمة الإسلامية فيجعله أمراً واضحاً في كل شأن من شئون الحياة، فكانت الأمور في عصر عمر تجد، فكان يشاور رضي الله عنه ولا يستبد، وكان يعطي الحرية لكل من شاء أن يقول بالحق ما شاء، وأن يطلب بالحق ما شاء، ومن ذلك: أنه خرج هو ورجل يقال له الجارود، فمضى معه في الطريق، فإذا بامرأة تعترض طريق عمر، وقالت: يا عمر! لي إليك حاجة، فوقف عمر يسمع منها، فقالت: يا عمر! عهدي بك وقد كنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تصارع الفتيان، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية! واعلم أن من خاف الموت خشي الفوت، فقال الرجل الذي مع عمر: إيهٍ! قد اجترأت على أمير المؤمنين، فأسكته عمر وقال: دعها يا جارود! أتعلم من هذه؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فلعمر الله لـ عمر أحرى أن يسمع من قولها. ويقول حذيفة رضي الله عنه: (دخلت على عمر وهو مهموم حزين، فقلت: ما أهمك يا أمير المؤمنين؟! قال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد عنه منكم تعظيماً لي)، أي: أنه كان يخشى أن تصد هيبته الناس من أن يأخذوا حريتهم في بيان الباطل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال حذيفة: (والله! لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك، ففرح عمر لذلك وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقومونني إذا اعوججت).

الفتوحات في عهد عمر رضي الله عنه

الفتوحات في عهد عمر رضي الله عنه عندما جعل عمر المساواة والحرية والعدالة والشورى مبدأً عاماً في كل جانب من جوانب حياة الأمة تهيأت الأسباب الحقيقية لكل ما يأتي بعد ذلك، فكانت هناك أبواب عظيمة جعلها عمر -بإذن من الله عز وجل وتوفيقه- باباً من أبواب الخير والرخاء والقوة المادية للأمة الإسلامية، ومن أعظم هذه الأبواب: باب الجهاد والفتوحات الإسلامية، لم تكن الأمة في عهد عمر راكنة إلى الأرض، راضية بالدون، مخلدة إلى متاع الحياة الدنيا، ولم تكن ممن يصدق عليها قول الله عز وجل: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38]، لم يثقلهم شيء، فانطلقوا في فجاج الأرض، انطلق صحب محمد صلى الله عليه وسلم يقودهم عمر، ويوجههم ويفرقهم ويوزعهم على شتى البقاع والأمصار، فإذا بعهد عمر عهد الفتوحات العظيمة. ففي العام الرابع عشر فتحت بعلبك وحمص، وفي العام الخامس عشر فتحت المدائن، وكانت في هذه السنة وبعدها اليرموك والقادسية وفتوح الشام وفتوح العراق، وفي العام السادس عشر فتحت حلب وأنطاكية، وفي السابع العاشر كانت معركة جلولاء وفتحها، وكان فيها من الفيء ثمانية عشر ألف ألف في هذه الوقعة وحدها، وفي السابع عشر فتحت الأهواز، وفي الثامن عشر فتحت حران والموصل وتستر ونصيبين، وفي التاسع عشر فتحت تكريت وقيسارية، وفي التاسع عشر والعام العشرين أيضاً: فتح عمرو بن العاص أرض مصر، وفي العام التاسع عشر فتحت الجزيرة وإرمينيا، ومن بعدها في عام اثنين وعشرين فتحت أذربيجان وجرجان، وهذه بلاد نسمع عنها اليوم قد عفا عليها الزمن بعد أن ذهبت من بلاد الإسلام منذ أن فتحها عمر رضي الله عنه. وقد كان فتح جرجان ونهاوند على يد المغيرة رضي الله عنه، والدينور وهمدان على يد حذيفة رضي الله عنه، ومن بعد ذلك أتم عمرو بن العاص فتح طرابلس في الغرب، ففتحت البلاد، وتوسعت الأراضي، وزاد الخير، وعم النوال بلاد الإسلام والمسلمين بفضل الله عز وجل ثم بإقامة شريعة الجهاد التي لم تكن إرهاباً ولا قتلاً ولا سفكاً للدماء، بل كثير من هذه البلاد قد فتح صلحاً، وأقر أهل البلاد المسلمين على دخولها، وعلى حكمهم وعلى حفظهم وعلى أداء جزيتهم للمسلمين. وكذلك كان أعظم هذه الفتوح، وهو فتح بيت المقدس، الذي مضى إليه عمر رضي الله عنه بنفسه، ويأتي لنا حديث عنه بإذن الله عز وجل.

موقف عمر رضي الله عنه من الأراضي التي ملكها المسلمون بعد فتحها

موقف عمر رضي الله عنه من الأراضي التي ملكها المسلمون بعد فتحها ولما فتحت هذه البلاد رأى عمر الخير يأتي من جوانبها كلها، فرأى عمر رضي الله عنه أن هذا المال وهذا العطاء حق للمسلمين، وكان ينظر نظراً بعيد المدى، لا ينظر إلى اليوم والغد فقط، وإنما ينظر إلى الأمة الإسلامية في شتى الأصقاع، وينظر إلى الأجيال التي ستأتي من بعده، فلما فتحت أرض العراق، وكان الشأن أن الأرض والسبي توزع على المقاتلين بحسب بلائهم وبحسب مشاركتهم في الجهاد، لكن عمر رأى أن هذا الفتح أعظم من أن يقسم بين أولئك الجند وحدهم، ثم لا يكون نصيب ولا شيء لسائر الأمة ولا لمن يأتي بعدهم، فماذا صنع عمر؟ لم يستبد برأيه، وإنما جمع أهل الشورى وطرح رأيه مستنبطاً بفقه دقيق عميق من كتاب الله عز وجل، لينظر إلى مصلحة الأمة، وليؤسس لها أسساً تفيدها وتنفعها في قوتها ورخائها وعزتها، قال عمر رضي الله عنه مستنبطاً من كتاب الله عز وجل أن هذه الأرض يرى عمر أن تكون وقفاً لعموم الأمة الإسلامية في عصره والعصور من بعده، وأن يقر أهلها عليها، فلا يكونون من السبي؛ حتى يؤدوا الجزية، ويعطوا الخراج أيضاً، ورأي عمر هذا استنبطه من كتاب الله؛ قال: يقول الله عز وجل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، هذا أمر الفيء بعامته، قال: ثم خص الله به الفقراء من المهاجرين، ففي قوله جل وعلا: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، ثم يقول عمر: ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم أي: بالمهاجرين غيرهم، فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، ثم قال: وهؤلاء هم الأنصار فيما نعلم، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم، فقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، قال: فكانت هذه عامة للمسلمين وللمقاتلين وغيرهم، كيف أقسمها بينهم؟ أيأتي من بعدهم فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت؟ نظر عمر هذا النظر فخالفه بعض الصحابة، وخالفه بعض من كان من المقاتلين، وقالوا: حقنا يا أمير المؤمنين! فأعطنا إياه، فاستشار عمر، وما زال يستشير؛ حتى جمع جمعاً من الأنصار من الأوس والخزرج وقال لهم مقرراً كل الحقائق التي أشرت إليها من العدالة والحرية والمساواة والشورى، قال قولاً بسط فيه الرأي لهم، وسطر فيه ما رأى من الخير للأمة، فقال رضي الله عنه وأرضاه: (إني لم أجمعكم إلا لتشتركوا معي في أمانتي التي حملت، وإني واحد منكم كأحدكم، وأنتم الذين تقرون بالحق خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فقالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين! فقال: سمعتم كلام هؤلاء الذين يقولون: إني ظلمتهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أرتكب ظلماً، ولئن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت)، ثم شرح ما سبق أن أسلفته من الآيات، قال: ورأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها -أي: على المسلمين كلهم- لتكون وقفاً لهم، وأضع عليهم فيها الخراج -أي: على الأرض- وعلى رقابهم الجزية، فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم، أرأيتم هذه الثغور -أي: البلاد التي على حدود بلاد المسلمين- لابد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن -البصرة والكوفة ونحوها- لابد من شحنها بالجند، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يُعطى هؤلاء إذا اقتسم هؤلاء؟ فأجمع الصحابة على رأي عمر فأمضاه، وكان الخير تلو الخير في ذلك، كما سنذكر بعد. فهذا باب من أبواب التنمية في الفتوحات وما كان فيها من الغنائم وما جعله عمر وقفاً على الأمة الإسلامية.

إحياء عمر رضي الله عنه للأرض الموات

إحياء عمر رضي الله عنه للأرض الموات وهناك أمر ثانٍ: وهو إحياء الأرض الموات، كان عمر يذكر الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، وهذا هو أمر التنمية، وهذا هو أمر الاستصناع والاستثمار، أن تبسط أيدي الناس في أرض الله عز وجل، وأن يعطوا منها، وأن يكلفوا بإعمارها، وأن يستخرجوا خيراتها، وأن يستثمروا ما فيها مما جعله الله من الأرزاق، فرأى عمر رضي الله عنه بعض الناس يأخذون هذه الأراضي ليستصلحوها وليحيوها، لكنهم يحتجزونها ويبقونها كما هي، فقال عمر رضي الله عنه: (إنه ليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين)، ثلاث سنوات للإحياء والاستثمار، أما أن يجعلها تحت يده ليستكثر بها من الأراضي فلا. وجاء رجل من أهل البصرة إلى عمر وقال: إن قبلنا أرضاً ليست من أرض الخراج، فلو رأيت أن تقطعنيها لتكون مرعىً لخيلي، فكتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنه: (إن كانت كما يقول -أي: هذه الأرض ليست من الخراج، وليس فيها مصلحة للأمة- فأقطعه إياها واجعلها له)، وهكذا كان عمر رضي الله عنه يجعل الناس يأخذون ويعملون ولا يبقى أحد عالة أو فقيراً.

حث عمر رضي الله عنه على مبدأ العمل والصنعة والحرفة

حث عمر رضي الله عنه على مبدأ العمل والصنعة والحرفة كان عمر يأخذ مبدأ ثالثاً: وهو مبدأ العمل والصنعة والحرفة، حتى لا يبقى في الأمة أحد كالاً أو عاجزاً، فقد كان عمر يسمع بالرجل وعبادته وشأنه فيحبه ويعظمه، فيسأل بعد ذلك عن حرفته أو مهنته، فيقال: إنه يُنفق عليه، فيسقط من عينه رضي الله عنه، وكان عمر يقول: (إني لأحب الرجل يعمل العمل ويحترف الحرفة)؛ لأن العمل هو الأساس الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن فيه الشرف والعزة لصاحبه، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (ما أكل أحد قط طعاماً خيراً من أن يأكل من كسب يده) وكان يذكر عن داود عليه السلام أنه كان يأكل من كسب يده، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر للأمة أنه كان يرعى الغنم لأهل مكة بقراريط يأخذها منهم، وهكذا كان عمر بنفسه في أول أمره يتجر لنفسه ويعمل لنفسه، ثم بعد ذلك فرض له الصحابة من بيت المال.

إعمار عمر رضي الله عنه للمدن وتخطيطه لها

إعمار عمر رضي الله عنه للمدن وتخطيطه لها ثم من معالم التنمية العمرية إعمار المدن وتخطيطها، فليس الإسلام -كما يظن البعض- دردشة أو تخلفاً، رأى عمر رضي الله عنه هذه البلاد وهي تفتح والناس وهم يصيحون في الأرض، فرأى أن يمصر الأمصار، وأن يقيم البلاد، فأنشأ البصرة والكوفة والفسطاط وغيرها من البلاد. وكان عمر رضي الله عنه يكتب في دقيق الأمور وجليلها، ويفصل في صغيرها وكبيرها، كتب عمر إلى سعد بأن يدعو صاحب التنزيل -وصاحب التنزيل بمثابة رئيس المهندسين الذي يخطط- فيأمره أن يحدد لهم خطط المدينة، وأن يجعل فيها مناهج -أي: شوارع كبيرة، وهي الشوارع الرئيسة كما تسمى اليوم- بعرض أربعين ذراعاً، وما يليها ثلاثين -أي: الشوارع التي أقل منها- وما يليها عشرين وأن يجعل فيها أزقة -وهي: الطرق الصغيرة- عرضها سبعة أذرع ليس دون ذلك شيء. فقام بهذا العمل، وأسست على ذلك المدن، ثم أيضاً بنوا هذه البيوت بالقصب، ثم جاء الحريق فأحرقها، فاستأذنوا عمر أن يبنوا باللبن، وكان عمر المستشار في كل أمر من أمور الأمة في كل مكان، فكتب إليهم أنه لا بأس بذلك، وكتب إليهم يبين أنه ينبغي ألا يؤدي الأمر إلى الإتراف والركون إلى الدنيا، فقال: (لا يزيد أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطيلوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة، وابنوا ما لا يقربكم من الترف، ولا يخرجكم من القصد).

فتح عمر رضي الله عنه قناة بين النيل والبحر الأحمر

فتح عمر رضي الله عنه قناة بين النيل والبحر الأحمر كان عمر ينظر أيضاً إلى أمور عجيبة دقيقة، فقد كتب إلى عمرو بن العاص واستدعاه هو وجماعته من أهل مصر، فلما جاء قال عمر رضي الله عنه: (إن مصر بلد كثيرة الخير والطعام، ولقد ألقي في روعي الرفق بأهل الحرمين والتوسيع عليهم حين فتح الله عليهم مصر وجعلها قوة لهم، ورأيت أن أحفر خليجاً من نيلها حتى يسيل في البحر؛ فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فاذهب يا عمرو! وشاور أصحابك)، يريد أن يفتح القناة بين النيل والبحر الأحمر؛ ليسهل الطريق، فذهب عمرو إلى أهل مصر يستشيرهم فخاف أهل مصر أن يضر ذلك بنيلهم وبشربهم وبزراعتهم، فقالوا: نخشى ذلك، فعظم الأمر على أمير المؤمنين يا عمرو! يعني: اجعله عظيماً وخطيراً حتى يصرف النظر عنه، فجاء عمرو إلى عمر رضي الله عنه يعظم له الأمر، ويهوله عليه، فقال عمر -وله فراسة-: (كأني بك يا عمرو! ذهبت إلى أهل مصر فقالوا: نخشى على مائنا وزرعنا، فعظم الأمر لأمير المؤمنين، قال: والله إنه لكما قلت يا أمير المؤمنين! قال عمر: فامض لما أمرتك فاحفر الخليج، فلا يأتين قابل إلا وقد فرغت منه)، فكان كما كان، فما أتى عام إلا وقد جرت السفن فيما بين النيل والبحر الأحمر كما ذكر أهل التاريخ والسير. وهكذا كان عمر رضي الله عنه يجهد للأمة، فدون الدواوين، وأنشأ النظم الإدارية الحديثة، ورعى الأمة بسياسة حكيمة، فعم الرخاء والنوال، وهكذا يكون كل من سار على منهج الإسلام، والتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم ورأى العدالة والحرية والمساواة وأخذ بالشورى كما كان عمر رضي الله عنه. فالله نسأل أن يجدد في أمتنا سيرة عمر رضي الله عنه، وأن ينهج بنا نهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

انتشار الرخاء في عهد عمر رضي الله عنه

انتشار الرخاء في عهد عمر رضي الله عنه كان عمر رضي الله عنه يأخذ بالإسلام والتقوى، فعم الخير والنوال، وأنقل لكم صورة تبين الرخاء الذي عم بلاد الإسلام في عهد عمر: فهذه أسس السيرة والتاريخ تجمع على هذه المعلومات وهي: أنه ما كان مولود يولد في الإسلام إلا وله من بيت مال المسلمين مائة درهم، فإذا ترعرع -أي: نشأ- وكبر قليلاً صار له مائتا درهم، وكان عمر في أول أمره لا يكتب ذلك للمولود حتى يفطم؛ لأنه لا يحتاج إلى طعام ولا عطاء؛ لأنه يرضع من أمه، فمر مرة فرأى امرأة ومعها غلام يبكي، فقال: (يا أمة اللهّ! انتبهي لغلامك)، ثم بعد فترة رآه يبكي فزجرها، ثم رآها بعد ذلك، فقال: (مالك يا أمة الله؟! قالت: إني أراغمه على الفطام، قال: ولم تفطمينه قبل وقته؟ قالت: إن عمر لا يفرض إلا لمن فطم)، أي: أنها تريد عطاء عمر لأنها في حاجة، فبكى عمر رضي الله عنه حتى غلبه النشيج، ثم قال: (ألا كل مولود في الإسلام له عطاء من بيت مال المسلمين)، أي: أن كل مولود بلا استثناء يعطى من بيت المال بلا منة، وبلا أن يكون هناك داعٍ إلى طلب يمنعه منه الحياء، كل ذلك كان في عهد عمر رضي الله عنه، ثم كان يأخذ كل من كان يحتاج من اللقطاء أو غيرهم؛ حيث جعل لهم نفقة من بيت مال المسلمين، ثم إنه جعل العطاء عاماً في الأمة كلها مما يأتي من الخراج والأرض الموقوفة والغنائم وغيرها، فجعل لأهل بدر ألفين ألفين، وخص الحسن والحسين فجعل لهما خمسة آلاف إلحاقاً بأبيهما علي رضي الله عنه لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى بعد ذلك الصحابة السابقين ثلاثة آلاف، وأعطى أسامة بن زيد أربعة آلاف، فجاء عبد الله بن عمر، وقال لـ عمر: (أعطيتنا ثلاثة آلاف، وأعطيت أسامة أربعة آلاف، وليس أبوه في الإسلام مثلك؟ فقال عمر رضي الله عنه: فإن أبوه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وإنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك)، وهكذا كان يحكم بقدر البلاء في الإسلام والقرابة والصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى فرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحدة منهن اثني عشر ألف درهم، فجاء عطاء عمر إلى زينب أم المؤمنين رضي الله عنها، وقالوا لها: هذا من عمر، فقالت: (رحم الله عمر قد كانت غيري من أخواتي أقدر على قسمه مني)، أي: أنها ظنت أن عمر أعطاها إياه لتفرقه على المحتاجين والفقراء، فقالوا: (بل هو لك، فاستترت منه بثوب، وقالت: أفرغوه، فلما أفرغوه قالت: استروه بثوب، فلما ستروه بثوب، قالت لمولاة عندها: خذي منه قدر يديك، واذهبي به إلى بيت آل فلان، ثم جاءت المرة الأخرى فقالت لها: خذي منه كذا خذي منه كذا، فقالت لها: يا أم المؤمنين! والله! إن لنا في هذا لحقاً، قالت: ما تحت الثوب فهو لكم، -أي: ما بقي- قالت: فكشفنا عنه فإذا هو خمسة وثمانون درهماً، وفرقت كل ذلك، ثم قالت رضي الله عنها: اللهم لا يدركني بعد عامي هذا عطاء لـ عمر)، فماتت قبل أن يحول الحول رضي الله عنها وأرضاها، وكان عمر يعطي كل أحد، ويبلغ عطاؤه كل إنسان، حتى إنه مر مرة بيهودي قد أسن وبلغ به الكبر عتياً، وهو في حالة رثة، فقال له عمر: (من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما لك هكذا؟ قال: أشكو الجزية والحاجة والتعب، فأخذ عمر رضي الله عنه بيده إلى بيت المال وأعطاه، ثم قال: انظروا هذا وأضرابه فأعطوهم من بيت مال المسلمين؛ والله! ما أنصفناه في شيبته وقد أخذنا منه في شبيبته)، وهكذا كان عطاء عمر يصل إلى كل مكان، حتى جاء مرة رجل من أهل العراق اسمه خالد بن عرفطة العذري، فقال عمر: (كيف حال الناس؟) وانظروا إلى حال الناس في عهد عمر، فقال هذا الرجل: (يا أمير المؤمنين! إني تركت الناس يسألون الله أن يزيد في عمرك من أعمارهم، ما أحد وطئ القادسية -أي: شارك فيها- إلا وعطاؤه ألفان أو خمسة عشر مائة وإنه ما من مولود يولد إلا لحق في مائة -يعني: له مائة- وجريبين -أي: كيسين من طعام- كل شهر، ذكراً كان أم أنثى، وما يبلغ لنا ذكر إلا لحق على خمسمائة أو ستمائة) هذا لرجل يصف هذه الحال، ثم يستكثر هذا العطاء لأن هذا العطاء أكثر من حاجة ذلك الصغير أو ذلك البالغ أو نحو هذا، فقال: (فإذا خرج هذا بأهل البيت منهم من يأكل الطعام ومنهم من لا يأكل -أي: منهم الصغير- فما ظنك به؟ إنه لينفقه فيما ينبغي!) رأى هذا أن في هذا زيادة، فأراد من عمر أن يقلل في عطاء الناس، فقال عمر رضي الله عنه: (الله المستعان! إنما هو حقهم أعطوه، وأنا أسعد بأدائه إليهم منهم بأخذه، فلا تحمدني عليه؛ فإنه لو كان من مال للخطاب ما أعطيتموه)، ثم بين أسساً في الاستثمار والتوسع والتخطيط للمستقبل فقال: (ولكني قد علمت أن فيه فضلاً -أي: زيادة- ولا ينبغي أن أحبسه عنهم؛ فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء ابتاع منه غنماً فجعله بثوابه، فإذا خرج عطاؤه مرة ثانية، ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها؛ فإنه أنفع له، وإني أخاف عليكم بعدي: أن يليكم ولاة لا يعطونكم عطاءً، وإني أنصح لك كما أنصح لأقصى رجل في ثغور المسلمين)، فكان رضي الله عنه يريد منهم أن يستثمروا الأموال، وألا يكونوا معتمدين على العطاء، وهكذا كتب عمر إلى عماله: (أن أعط الناس على تعلم القرآن)، وكانت الجوائز والمنح للسابقين في الإسلام، ولمن يعملون بالأعمال الإسلامية، والتشجيع والمكافئات في هذه الميادين لا في غيرها، فكتب إلى عماله: (أن أعطوا الناس على تعلم القرآن)، فكتب إليه هذا الوالي -وفي بعض الروايات أنه سعد -: (إن الناس قد أقبل بعضهم على تعلم القرآن لا يريد إلا العطاء)، أي: أصبحوا يتعلمون لأجل أن يأخذوا هذه المكافئات من عمر، وهو يريد أن عمر يمنعها، فقال عمر: (أعط على القرآن، وأعط على المروءة والصحبة)، أي: من قصر في تعلم القرآن، ولكنه سبق في ميدان آخر فأعط هؤلاء، وأعط هؤلاء، بل قد أمر عمر رضي الله عنه لامرأة بخادم ونفقته؛ فقد روي أنه رأى امرأة تحمل قربة ماء قد ناءت بها، فسألها عن حالها، فقالت: إني أشكو التعب وليس لي خادم يخدمني، فحمل عنها عمر رضي الله عنه، ثم قال لها: (ائت أمير المؤمنين؛ فلعله أن يخدمك خادماً، فقالت: إني لا أصل إليه، قال: بل تأتينه فتجدينه)، فجاءت فإذا هو عمر رضي الله عنه، فأمر لها بخادم ونفقة. لقد اتسع العطاء وعم الرخاء في عهد عمر، حتى إنه كان يكتب مع الجيوش الغازية بتسمية الأطباء والقضاة والمرشدين يعينهم ويصرف عليهم من بيت مال المسلمين، وهذا كله من فضل الله عز وجل، ثم من فضل هذا الدين العظيم، وكذلك من الالتزام العظيم من عمر بمنهج الله عز وجل وبما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإقرار الحق، وإقامة العدل، فكانت هذه الصورة المشرقة، ولم يدع عمر رضي الله عنه لأجل التنمية إلى منع النسل أو تحديده، كما يزعم الزاعمون، ولم يدع إلى أية حلول من هذه الحلول العرجاء العوجاء، وإنما كان عمر يؤسس الأسس المنهجية، ثم يتحرك في صورة عملية، ثم يجعل الأمة كلها على قلب رجل واحد، فكان هذا الخير الذي عم ديار الإسلام والمسلمين، ويتكرر ذلك في كل زمان ومكان بحسب قرب الناس من دين الله والتزامهم شرع الله عز وجل. فالله نسأل أن يلزمنا دينه، وأن يلزمنا شرعه، وأن يقيمنا على هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يلحقنا بآثار أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.

العدالة العمرية

العدالة العمرية العدالة العمرية معلم عظيم من معالم السيرة العمرية التي نتفيأ ظلالها، ونستقي أخبارها، ونجني من ثمارها، والعدل أساس في الحياة الإنسانية كلها، وبانعدامه تختل الأمور، وتضطرب الأحوال، وتقع الشحناء والبغضاء، ويفشو الظلم والاعتداء، وما من نفس بشرية ما تزال على فطرتها إلا وهي مفطورة على إباء الظلم، ومفطورة على حب العدل، وتجد أن في العدل راحتها وطمأنينتها، وتجد فيه أساساً لانطلاقها وحريتها، وتجد من خلاله فرصة لعملها واستثمارها، وبدونه تتعطل الطاقات، وتكبت الحريات، وتتبلد الأحاسيس، ويفوت الناس خير كثير. وعمر رضي الله عنه جاء في فترة من الزمان عصيبة وعجيبة، تضاعفت فيها مساحة الدولة الإسلامية أضعافاً مضاعفة، ودخل فيها في دين الإسلام آلاف مؤلفة، وتشعبت الأمور، واختلفت طرائق الحياة، وتغيرت موارد الرزق، وتفجرت خيرات الدنيا، وكان عمر رضي الله عنه قد عاش مع النبي صلى الله عليه وسلم بيئة فيها بساطة، وفيها محدودية في مساحتها وفي إطارها، ولكنه تعلم المبادئ، وتلقن الأسس، وتلقى المنهج الذي يطبق على الفرد كما يطبق على الأمة وإن بلغت الملايين من البشر، ويطبق على الرقعة الصغيرة كما يطبق على الدنيا كلها في شرقها وغربها، وتلقى قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، وقول الله جل وعلا: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وتلقى من محمد صلى الله عليه وسلم نموذج العدالة الأكمل في فعله عليه الصلاة والسلام، فلذلك جعل عمر رضي الله عنه هذا المعلم ركناً ركيناً وأساساً مكيناً في سياسته، وفي معاملته، وفي إدارته، وفي فتوحاته وجهاده رضي الله عنه وأرضاه.

مزايا عدالة عمر رضي الله عنه

مزايا عدالة عمر رضي الله عنه ولـ عمر منهجية فريدة متميزة لعلنا أن نشير إلى بعض ملامحها، وأن نقتبس بعض أنوارها في هذه الوقفة الوجيزة التي تقصر عن الإشارة إلى المزايا في عدالة عمر فضلاً عن الإحاطة بها: أولاً: جعل عمر العدالة شعاراً وعنواناً معلناً لكل الناس، ظاهراً في كل المحافل، منصوباً عليهم في كل أمر وفي كل حكم وفي كل قضاء، وهكذا أراد أن يقول للناس: إن العدل حق لكم، وأن العدل أساس في حياتكم. فنجد عمر رضي الله عنه أنبأ عن ذلك في مقالة بدأ فيها بنفسه، وضرب المثل من شخصه، فقال: (أيما عامل ظلم أحداً وبلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا الذي ظلمته)، إنه يريد أن يقول: إن العدالة أمر لابد أن يكون عاماً شاملاً واسعاً معلناً، وكذلك نجده يكتب إلى ولاته وعماله أن يوافوه في موسم الحج؛ ليلتقي بهم، ويسألهم عن أحوال الرعية، ويسمع ما يقال عنهم من الشكاوى، ويواجههم بها، فلما اجتمع مرة في موسم من المواسم جمع من ولاته وأمرائه قام في الناس رضي الله عنه وأرضاه وقال: (أيها الناس! والله ما أبعث إليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفسي بيده! لأقصنه منه أمام الأمة كلها)، لقد أعلن أمام الأمة كلها ولاة ورعية، ضعفاء وأقوياء، صغاراً وكباراً، أغنياء وفقراء، أن العدالة شعار مرفوع ينبغي أن يعم الناس جميعاً. ولكن عمر لم يكتف بذلك، بل جعل العدل غاية وأساساً لا مجرد لافتة ترفع، ولا كلمات تقال، وإنما أراد أن يجعله محوراً تنجذب إليه كل الأمور، وتنطلق منه كل الأحكام، وتعود إليه كل الولايات، وترتبط به جميع أمور الحياة التي كان يسيرها عمر رضي الله عنه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجده لا يتجاوز العدل مطلقاً، ولا يغفل عنه أبداً، ويأمر أن يكون هو الذي يكون المحور الأساسي في شتى الأمور التي تدار في حياة الأمة الإسلامية، فها هو يكتب إلى أبي موسى رضي الله عنه أحد ولاته يبين أن العدل ينبغي أن يكون الغاية، فإن فات في مرحلة فلا يفوتن في الأخرى، وإن وقع خطأ فلا ينبغي أن يسكت عنه، بل ينبغي أن يصحح، فكتب إليه قائلاً: (لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل)، وتأمل قول عمر: (فإن الحق قديم لا يبطله شيء)؛ لأن الحق مرتبط بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وقع خطأ في اجتهاد فليصحح، فإن كانت غفلة فلتتبعها يقظة، وينبغي أن يكون عند الإنسان العود إلى العدل والإنصاف، وإلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولذلك أراد عمر أن يرسخ المعاني الإيمانية في الآيات القرآنية، كقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]. ويبين عمر أيضاً في توضيح غاية العدل وأساسه أنه لابد فيه من التجرد والتنزه عن الأهواء، وعدم التأثر بأية عوامل خارجية من قرابة أو صحبة أو معرفة أو علو منزلة، ولا يرقب الوالي في قضائه وفي حكمه وفي قسمه به بين الناس إلا وجه الله عز وجل، ولا يخاف إلا عقاب الله عز وجل، فكان عمر إذا جاءه من يتقاضى جثا رضي الله عنه وأرضاه على ركبتيه، وقال: (اللهم أعني عليهما -أي: على المتخاصمين- فإن كل واحد منهما يريدني عن ديني)، أي: أنه يريد أن أقضي له على حساب ديني وعلى حساب أمانتي وعلى حساب التزامي كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وما أبالي إذا اختصم إلي رجلان لأيهما كان الحق)، أي: وإن كان للضعيف أو للفقير أو للوضيع، فالحق هو الذي يحكم ولا يحكم عليه، وقال: (ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة)، أي: في الحق وإقامة العدل.

تقرير عمر رضي الله عنه وترسيخه لمنهج العدل

تقرير عمر رضي الله عنه وترسيخه لمنهج العدل ثم يمضي عمر في تقرير منهجية العدل وترسيخه داعياً إلى إزالة العوائق التي تحول بين الناس وبين العدل؛ فإن بعض الناس قد يتنازل عن حقه، وقد يسقط ما له، وقد يترك قضيته، لا عن رضا وطيب نفس، ولكن من خلال بعض العوائق التي توضع في طريقه، كأن يماطل في حقه، أو يخوف من قريب أو بعيد، أو يبعث إليه من هنا وهناك، فيأتي ويعلن أنه قد أسقط حقه، وأنه قد تنازل عن قضيته، فأراد عمر ألا تكون هذه المظاهر تدل على إقامة العدل مع أنها أسست على صور من الظلم أو من منع العدل، فـ عمر رضي الله عنه يكتشف هذا بثاقب نظره، ويوصي بألا يكون هناك ما يبطئ إقامة العدل، أو ما يجعل الناس لا يندفعون لطلب الحق بقوة وجرأة، فإذا به يكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ويقول له: (إذا حضر الخصمان، فعليك بالبينات العدول والأيمان القاطعة، ثم ادن الضعيف حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه؛ فإنه ربما هاب السلطان والحكم، وربما هاب قوة الحكم فلم يفصح عن حجته، ولم يبن عن قضيته، فإن كان هذا في نفسه فأزل هذا العائق من نفسه، وتعاهد الغريب -أي: الذي جاء من بلد آخر لأجل هذه القضية، يريد أن ينتهي منها ليرجع إلى أهله- فإنه إن طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق، وآس بينهم)، أي: بين الخصوم، أي: ساوي بينهم، وفي أي شيء يساوي بينهم؟ هل في المنزلة والقدر أو في مجلس الحكم؟ ليس هذا مراد عمر؛ فهذا أمر مفروغ منه، ولكنه يقول: (وآس بينهم في لحظك وطرفك)، أي: في نظرتك إليهم، فإذا نظرت إلى هذا فانظر إلى ذاك، وإذا بششت في وجه هذا فبش في وجه ذاك؛ لئلا يكون لهذا مظنة في الاسترسال ولذلك مظنة في الانقباض، قال: (آس بينهم في لحظك وطرفك، واحرص على الصلح ما لم يتبين لك القضاء). وهكذا يبين أساس العدل، وكيف يكون في نفس المؤمن، فيقول رضي الله عنه: (باب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد)، ولعمري إن هذه الكلمات من عمر رضي الله عنه لكلمات تستحق أن تكتب بماء الذهب على صفحات النور، إذ يبين فيها الدافع الإيماني الذي يوجد الاندفاع والالتزام بالعدل، ثم يبين العائق الذي قد يصد الإنسان عن قيامه بالعدل، فهو يقول: (باب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزهد)، ثم يشرح ويقول: (والاعتبار: ذكر الموت بتذكر الأموات، والاستعداد له بتقديم الأعمال، ومن ذكر ما بعد الموت اعتبر وارتدع عن الظلم، وعلم أنه إن ظلم أو جار أو قسط فإن من وراء ذلك حساباً، وإن من بعد الحساب عذاباً، فكان ذلك باب للعدل، وهو إقامة الخوف من الله عز وجل، ومراقبته في قلب المؤمن، فمن لم يخش الله لا يخشى أحداً من الناس، ومن لم يستحي من الله فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت))، ثم يكمل عمر الشق الثاني بحكمته البليغة فيقول: (والزهد: أخذ الحق من كل أحد عنده له حق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا يُصانع في ذلك أحد، الزاهد: الذي نزع من نفسه التعلق بالدنيا وشهواتها، حينئذٍ لا يميل في حكمه طمعاً في دنيا الغني، ولا يميل في حكمه خوفاً من بطش القوي، فقد زهد -بمعنى: أنه لم يجعل للدنيا ولا لأهلها في نفسه ميزاناً- فمن استكمل ذلك فإنه قد استكمل الأساس الركين الذي يقيم به العدل بين الناس). ولئن كان هذا قول عمر ومنهجه الذي بسطه لولاته، فإن تطبيقه العملي كان أروع وأعظم وأقدر من كل هذه المقالات على بلاغتها ووضوحها وشيوعها وذيوعها، فها هو عمر يعطينا المثل في تطبيق العدل على نفسه وعلى أهله وعلى ولاته وعلى الأشراف والعظماء، فكل يخضع لسلطان العدل، وكل يأخذ حقه بالعدل. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

جعفر بن أبي طالب - الشهيد الطيار

جعفر بن أبي طالب - الشهيد الطيار جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو شقيق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم هاجر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بالمدينة مدة قصيرة، ثم أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش في مؤته فحمل الأمانة وتقلد المسئولية حتى استشهد رضي الله عنه.

قرابة جعفر بن أبي طالب من النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عنده

قرابة جعفر بن أبي طالب من النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عنده بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فباسم الله نبدأ، وعليه نتوكل، ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق في كل ما نأتي وما نذر، ونسأله الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الفتنة والزلل، ونسأله أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر إخواناً على سرر متقابلين. أخي الكريم! حديثنا عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الشهيد الطيار. وجعفر رضي الله عنه واحدٌ من خريجي مدرسة النبوة المباركة، المدرسة التي خرجَّت لنا معالم القمة والقدوة في سائر جوانب الحياة، في العقيدة صفاءً وعمقاً وثباتاً، وفي العبادة كثرةً وإخلاصاً وخشوعاً، وفي الفكر إدراكاً ونضجاً ووعياً، وفي المعاملات المالية ورعاً وبذلاً وزهداً، وفي سائر جوانب الحياة المختلفة. ووقفاتنا مع الصحابي الجليل جعلتها في خمس محطات: الأولى: في الحب والقرب. والثانية: في التضحية والهجرة. والثالثة: في الفطنة والدعوة. والرابعة: في الجود والكرم. والخامسة: في الشجاعة والإقدام. ولقد نال جعفر رضي الله عنه في كل هذه الجوانب قصباً من السبق عظيماً، وقدراً وافراً كريماً، ولعل هذه الوقفات الموضوعية تعيننا على الانتفاع من سيرة جعفر رضي الله عنه، وهي كذلك لا تخلو أو لا تقطع سير وسرد الحياة التي كانت له في صورة قصص وأحداث. ونبدأ بمحطتنا الأولى محطة القرب والحب، فـ جعفر قريب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيب. وأما قربه فمن وجوهٍ كثيرة، فهو ابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ إذ هو جعفر بن أبي طالب، واسم أبي طالب: عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، وهو الأخ الشقيق لـ علي وعقيل ابني أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وأمهم جميعاً فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فالنسب موصولٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الأب ومن جهة الأم. وقد أسلم جعفر بن أبي طالب -كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب- بعد علي رضي الله عنه بقليل. وروى ابن إسحاق -كما نقل عنه ابن عبد البر وكذلك ابن حجر في الإصابة- أنه أسلم بعد واحد وثلاثين رجلاً، وكان هو الثاني والثلاثين. وفي روايةٍ أخرى أنه كان الخامس والعشرين، فهو من السابقين الأوائل إلى الإسلام. وورد في بعض الروايات أن الذي دعاه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وفي روايات أخرى -وإن كانت الروايتان السابقتان أشهر وأظهر- أنه كان في أوائل من أسلم بعد خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب وزيد وبلال والمقربين القريبين من رسول الله عليه الصلاة والسلام. وبالجملة فإن الذين سبقوا إلى الإسلام كانت لهم مزايا ومحاسن هي التي جاءت بهم إلى الإسلام دون غيرهم ممن أعرضوا وصدوا وممن قاوموا وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذين أسلموا وأقبلوا على الإسلام كان لهم زكاء نفس، ورجاحة عقل، وطهر قلب، ثم أراد الله عز وجل قبل ذلك بهم الخير، فأقبل بقلوبهم على الإسلام ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إسلام جعفر رضي الله عنه

إسلام جعفر رضي الله عنه

بعض القصص التي تبين حب النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه

بعض القصص التي تبين حب النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن وجوه الحب قصص كثيرة مع هذا القرب الذي كان للنسب، والذي كان تبعاً لذلك بالمعاشرة والمعايشة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في فترة من الزمان في ظل رعاية وكنف أبي طالب والد جعفر رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب تربى ونشأ في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعفر شقيقه، وهو أسن من علي بعشر سنين، فكان قريباً ومخالطاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام. وروى البخاري من حديث البراء بن عازب قصةً تنبئنا عن هذا القرب والحب، قال رضي الله عنه: (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد صلى الله عليه وسلم) إلى آخر ما هو مذكور في قصة الحديبية، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بما أخذ به من شأن الصلح، ثم مضى الأجل، فلما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم –أي: مكة- في عام القضاء ومضى الأجل. أتوا علياً –أي: كفار مكة- فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا عم، يا عم. فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بيدها، وقال لـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: دونكِ ابنة عمكِ. فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها، وهي ابنة عمي -أي: ليرعاها ويربيها؛ لأنها ابنة حمزة رضي الله عنه-. وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي –أي: خالتها زوجتي- وقال زيد: ابنة أخي. فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى هذا القضاء العظيم وإلى هذا العقل الراجح، وإلى التربية النفسية الفريدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كلٌ يفضي إلى ابنة حمزة بنسب أو سبب، فكيف يكون القضاء؟ ولابد من أن يقضي لواحدٍ، فكيف يكون لغيره الرضا؟ فقضى بها النبي عليه الصلاة والسلام لخالتها، وهي زوجة جعفر رضي الله عنه، وقال: (الخالة بمنزلة الأم) ثم قال لـ علي: (أنت مني وأنا منك) وقال لـ جعفر: (أشبهت خلقي وخُلقي) وقال لـ زيد: (أنت أخونا ومولانا) فأثنى على كل واحد منهم بما طيَّب نفسه وخاطره، وقضى عليه الصلاة والسلام بما هو الأصلح والأكمل. وشاهدنا هنا قوله لـ جعفر: (أشبهت خلقي وخُلقي) وقد كان أشبه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم برسول الله من حيث الخلقة، وأضاف النبي بنص حديثه الخُلقُ، وذلك دليل موافقةٍ وحبٍ. وذكر الذهبي في السير رواية هذا الحديث من طريق ابن إسحاق عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ جعفر: (أشبه خَلْقك خَلْقي، وأشبه خُلقك خُلقي، فأنت مني ومن شجرتي) رجاله ثقات، وأخرجه أحمد في المسند. ومثل ذلك رواه ابن سعد في الطبقات، وهذا دليل قربٍ وحبٍ واضح فيما كان لـ جعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواية أخرى لهذا الحديث عن هانئ بن هانئ عن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشبهت خَلقي وخُلقي). ومن صور المحبة الفياضة لـ جعفر في قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما عُلم بعد ذلك مما سيأتي في سيرة جعفر يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من الحبشة إلى المدينة المنورة، فوافى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد غزوة خيبر، وفتح الله عز وجل لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أدري لأيهما أُسر: بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟)، فجعل ذلك الفتح العظيم الذي كان من أعظم الفتوح من حيث الغنائم، ومن أعظمها وأجلها من حيث تطهير الجزيرة من اليهود -عليهم لعائن الله- جعله في قمة السرور، لكنه قارن ذلك ووزاه وسواه وقارنه بحبِّه صلى الله عليه وسلم لـ جعفر وسروره بقدومه. قال الذهبي رحمه الله في السير: وقد سُر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقدوم جعفر، وحزن والله لوفاته. ذكر ذلك في مقدمة ترجمته في السير. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب بعد جعفر أبناء جعفر، ويضمهم إليه، ويشمهم ويردفهم ويقربهم؛ لما كان لـ جعفر رضي الله عنه وأرضاه من الحب والمنزلة الأثيرة. روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفرٍ تُلقي بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفرٍ فسبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة رضي الله عنها فاردفه خلفه، فدخلنا المدينة ثلاثةً على دابةٍ) أي: كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ورد كذلك في شأن قدوم جعفر ما يكشف عن مزج تلك المحبة بالإجلال والتقدير لـ جعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن عبد البر في سياق هذه الرواية: أنه لما قدم جعفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه المصطفى عليه الصلاة والسلام واعتنقه، وقبَّل بين عينيه، وقال: (ما أدري لأيهما أنا أشد فرحاً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟) وأنزله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار المسجد. وهذا التقبيل بين عينيه إجلالٌ وحبٌ، والاعتناق دليل شوقٍ من الرسول صلى الله عليه وسلم لـ جعفر، وقد نأت به هجرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ما قبل هجرته عليه الصلاة والسلام، مدة سبع سنين إلى يوم فتح خيبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. وقد ذكر ابن حجر في الإصابة -أيضاً- أن في المسند عند الإمام أحمد من حديث علي رفعه قال: (أعطيت رفقاء نجباء) وعد منهم سبعةً. منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وسياق الحديث على أن هذه الكوكبة من أقرب وأحب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم إليه، ولذلك بلغ الحزن برسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً يوم استشهد جعفر بن أبي طالب. روت عائشة رضي الله عنها قالت: (لما جاءت وفاة جعفر عرفنا في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الحزن) وعن أسماء بنت عميس زوج جعفر رضي الله عنه قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بني جعفر،، فرأيته شمهم –أي: قبَّلهم واعتنقهم- وذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا رسول الله! أبلغك عن جعفر شيءٌ؟ قال: نعم. قتل اليوم، قالت: فقمنا نبكي، فرجع وقال: اصنعوا لآل جعفر طعاماً؛ فقد شغلوا عن أنفسهم). ووردت روايات أخرى تحكي لنا حزن النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر، كقوله عليه الصلاة والسلام فيما وردت به بعض الروايات: (على مثل جعفر فلتبك البواكي). وكان عليه الصلاة والسلام يحب جعفر ويقربه، وتلك بعض مواقف الحب والقرب في محطتنا الأولى.

تضحية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهجرته في سبيل الله

تضحية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهجرته في سبيل الله وأما المحطة الثانية: فالتضحية والهجرة، وهي السمة الغالبة على حياة جعفر رضي الله عنه، فقد هاجر ثلاث هجرات لم يهاجرها غيره من الصحابة إلا نفرٌ قليل. قال ابن عبد البر في الاستيعاب: هاجر الهجرتين إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة المنورة، فحياته كلها كانت هجرةً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولإقامة الدين والدعوة إليه، ولإقامة شعائره وشرائعه، فهو ممن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولى، وهاجر إلى الحبشة مع زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها الهجرة الثانية، وولد له أولاده الثلاثة في الحبشة، وعاش فيها ردحاً من الزمن. وقال ابن حجر في الإصابة: وعلى يديه أسلم النجاشي ومن تبعه في الحبشة، وذكر روايةً عن ابن مسعود أن جعفر بن أبي طالب كان أمير المهاجرين في الحبشة، وروى ذلك ابن سعد في الطبقات. وذلك كله يدلنا على أن جعفراً رضي الله عنه كان من أهل الإيمان الراسخ، واليقين العظيم، والتضحية الكبيرة، حيث ترك داره وأرضه وبلاده، وهاجر إلى الحبشة بعد أن أذن بذلك وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن بأرض الحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا بأرضه -أو ببلاده-)، فذهب جعفر رضي الله عنه في الفوج الأول الذي لم يكن يتعدى عددهم -كما في بعض روايات السيرة- اثني عشر أو ثمانية عشر ما بين رجل وامرأة، ثم كان كذلك في الفوج الثاني الذي زاد على ثمانين رجلاً وامرأة، وكانت له المواقف العظيمة هناك، وكانت هجرته على هذا النحو، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسجلت له هجرة إضافية أو هجرة ثالثة، فكان ممن كانت حياته كلها هجرةً وتضحيةً في سبيل الله، وفي سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل. ثم إن أبا موسى الأشعري روى لنا قصة المهاجرين من الحبشة، وكيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أبو موسى رضي الله عنه أنه خرج ومعه نفرٌ من قومه من بلاده من اليمن، قال: نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقذفت بنا السفينة إلى أرض الحبشة، فوافينا جعفراً وأصحابه، ثم خرجنا معهم جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافينا المدينة في أعقاب خيبر. وهنا وقعت قصةٌ كذلك تدلنا على مسألة الهجرة وأهميتها وفائدتها، ترويها لنا أسماء بنت عميس، وهي مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة المشهورة، هذه الرواية فيها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم ودخل على بيته، وعند زوجته امرأةٌ فقال: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، فقال عمر رضي الله عنه: ألحبشية -أي: هل هي الحبشية التي جاءت من الحبشة-؟ فقالت: نعم. فقال الفاروق عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم. وكان تفاخر القوم ليس بالأحساب والأنساب، وإنما بالبذل والتضحية في سبيل الله، وبالقرب وبالخدمة والذود والحماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فغضبت أسماء رضي الله عنها من ذلك وحزنت -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير والفضل في هذا الدين- فقالت: كلا. والله! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، وكنا في دار البعداء والبغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف. فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم -يا أهل السفينة- هجرتان) فأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لفضل الهجرة وترك الديار والأهل والعيش في الغربة حفاظاً على الدين وحرصاً على إقامته، فقال: (له ولأصحابه هجرةٌ، ولكم يا أهل السفينة! هجرتان)، فقالت أسماء رضي الله عنها: (فجعل أهل الحبشة يأتون إليَّ أرسالاً؛ يسألونني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأنهم كانوا أفرح الناس بالخير. وهذا يدلنا على فضل الهجرة عموماً، والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصاً، وقد نال جعفر بن أبي طالب قصب السبق في كل هذه الهجرات التي كانت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

فطنة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ودعوته إلى الحق

فطنة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ودعوته إلى الحق وفي سياق الهجرة ننتقل إلى المحطة الثالثة لنفرد بعض أحداث الهجرة في هذه المحطة المهمة، محطة الفطنة والدعوة، لقد كان جعفر رضي الله عنه ذكياً أريباً أديباً، حسن المنطق، راجح العقل، وافر الذكاء، يحسن القول في وقت القول، ويحسن ما يذكر في القول مما ينفع ولا يضر، وكان رضي الله عنه وأرضاه داعيةً حكيماً حصيفاً أريباً. ولذلك كان مُقَدَّم القوم والصحابة في الحبشة، كما أشرنا أن ابن سعد في الطبقات روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان أميراً للمؤمنين في الحبشة. ونعلم جميعاً القصة الشهيرة التي نريد أن نذكر سياقها في قصة بعث قريش لـ عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص ليذهبا إلى النجاشي ويطلبا منه تسليم الصحابة رضوان الله عليهم الذين هاجروا إلى الحبشة، فإن قريشاً بجاهليتها الجهلاء وغطرستها العمياء ورغبتها في العدوان والإيذاء لم تترك المهاجرين وقد تركوا لها مكة كلها وذهبوا إلى الحبشة، فلحقت بهم، وأرادت أن تردهم لتشفي غيضها بعذابهم وإيذائهم، ولتمنع تسرب الدعوة من الجزيرة إلى خارجها، ولئلا يشوه المسلمون سمعتها وصورتها عند الآخرين من الأمم والأقوام، فبعثوا حينئذٍ عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وسياق الرواية نذكره من رواية أم سلمة رضي الله عنها، وكانت من المهاجرات إلى الحبشة، وهذا السياق عند الإمام أحمد في مسنده، وهو الذي ذكره ابن إسحاق وابن هشام في السيرة، وبنحوه ذكره ابن سعد في الطبقات، والبيهقي في دلائل النبوة، وهو سياقٌ فيه كلامٌ نفيس وعرض جميل يدل على الذكاء والفطنة، وعلى الدعوة كذلك. قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، آمننا على ديننا، وعبدنا الله فلا نؤذى، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، فجمعوا له أدماً -أي: جلداً- كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له. وهذا ما يسمى اليوم بالضغط السياسي، حيث هيئوا له، وأهدوا للبطارقة الهدايا حتى يوافقوهم على قولهم. ثم قالت: بعثوا بذلك -أي: بهذه الهدايا- عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص -وكانا على غير الإسلام- وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريقٍ هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم -لا يريدون للنجاشي أن يسمع قولهم- فقدما على النجاشي فدفعا إلى كل بطريقٍ هديته، وقالا: إنه قد صبأ إلى بلدكم منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدينٍ مبتدعٍ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً. فقالوا: نعم. وانظر إلى دهاء عمرو بن العاص؛ حيث قال لهم: فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم. أي: فلا هم منا ولا هم منكم، فليست لكم بهم صلة، وليس عندكم شيءٌ لأجله تحفظونهم أو تراعونهم. ثم أشاروا إليهم أن يدفعوا النجاشي إلى أن يسلمهم دون أن يسمع لهم. فجاءا إلى النجاشي وقربا إليه هدايا، ثم قال لهما: تكلما. فقالا له: أيها الملك! إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وبما عابوا عليهم. فقالت بطارقته: صدقوا، فأسلمهم إليهما -تسليم مجرمين كما نقول اليوم، أو اتفاقيات تسليم لمجرمين أو لإرهابيين كما يزعمون اليوم-. فغضب النجاشي وقال: لاها الله إذاً: لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقولون، فإن كانوا كما يقولان -أي: عبد الله وعمرو بن العاص - سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما أن جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله قال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين آخر من أديان هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب. -وفي بعض الروايات أن جعفراً قال: إذا جئنا فأمسكوا فإني أكون أنا الذي أكلمه. فماذا قال جعفر؟ قال: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكف الأذى، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه، وآمنا به، فعبدنا الله عز وجل فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، فاخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. وأعتقد لو أن مؤتمراً إسلامياً كاملاً يعقد حتى يصوغ مثل هذه الدعوة الجليلة الذكية لقصر عن ذلك.

مسائل مهمة في مواجهة جعفر بن أبي طالب لعمرو بن العاص رضي الله عنهما أمام النجاشي

مسائل مهمة في مواجهة جعفر بن أبي طالب لعمرو بن العاص رضي الله عنهما أمام النجاشي وهنا مسائل كثيرة في هذه الحادثة يقصر مقامنا عن ذكرها، فالمسلمون كانوا أقليةً في بلدٍ غير إسلامي، وهم لحالهم ذلك كأنما يمثلون أوضاع الجاليات المسلمة في بلادٍ غير إسلامية كما هو حال كثيرٍ من المسلمين اليوم، فأول أمرٍ نلحظه هنا مشورة المسلمين فيما بينهم، ثم وحدة كلمتهم واجتماع أمرهم؛ إذ لم يتفرقوا ولم يختلفوا، بل أجمعوا أمرهم، ووحدوا كلمتهم، وانتدبوا المتحدث باسمهم، فليست هناك أقوالٌ ولا آراءٌ متعددة يظهرون بها لغير المسلمين. ثم إن جعفراً رضي الله عنه أحسن المقالة، وأظن أن من يسمع قول جعفر لابد من أن يوافقه ويؤيده مباشرةً؛ فإنه بدأ بقوله: (أيها الملك) وهذا ليس فيه شيء من التعظيم لغير المسلم، بل فيه وصفٌ لحقيقته التي هو عليها، فهو ملك تلك البلاد، فليس في مثل هذا حرجٌ شرعيٌ، بل فيه تنزيل حسنٌ؛ لكي يكون هناك جسرٌ يمتد منه الحديث وتتحد به الأرضية لكي يقبل على ذلك القول ويسمع له ويصغي. ووردت روايات أخرى في غير هذا السياق أنهم كانوا إذا دخلوا على النجاشي يركعون له، وأن عبد الله وعمرو بن العاص فعلا ذلك، فلما جاء جعفر لم يصنع مثل هذا، فقال له: لِمَ لا تركع كغيرك؟ قال: إنا لا نركع ولا نسجد إلا لله عز وجل. فكان هذا الموقف أيضاً لفت نظرٍ إلى أن المساومة في أمرٍ شرعيٍ ثابتٍ أو عقديٍ أساسيٍ لا مجال فيه مطلقاً، لكن قوله: (أيها الملك) ليس فيه غضاضة ولا حرجٌ شرعيٌ بحال. ثم بدأ يسرد له، فذكر له مساوئ الجاهلية، ذكرها بصيغةٍ موجزةٍ بليغة محكمة، وبينها وفصلها، فقال: (كنا نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف). فأي صورةٍ هذه؟ وأي مجتمعٍ هذا؟ وأي أخلاقٍ هذه؟ إنها تلك التي تنفر منها كل نفس سوية، ويأباها كل عقلٍ راشد، تلك هي صور الجاهلية على حقيقتها المؤلمة، والكفر على صورته البشعة وأخلاقه الرذيلة الذميمة وأحواله الاجتماعية الطبقية العنصرية الظالمة الباغية. ثم قال: (فبعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه). وهذا هو سر اختيار الصحابة وإجماعهم على جعفر؛ لأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أعرف به وألصق به من غيره من بقية الصحابة، فقوله فيه يكون عن بصيرةٍ وعلمٍ وخبرةٍ وقربٍ أكثر من غيره، ولذلك قال هذه المقالة. ثم بين دعوة الإسلام، فبدأ بالتوحيد فقال: (فدعانا إلى الله عز وجل لنعبده ونوحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان). ثم ذكر الجانب الأخلاقي الإنساني في الإسلام؛ لأن هذه الجوانب الإنسانية قاسمٌ مشترك بين الأمم وبين الناس جميعاً من أصحاب الفطر السوية، والمسلمون يحسن بهم أن يظهروا هذه الجوانب لغير المسلمين؛ لأنها الجوانب التي تلفت العقول والأنظار، وتسلب أو تجبي أو تستميل النفوس والقلوب إلى حقائق الإسلام، ولذلك عرضها فقال: (أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة)، ثم ذكر بعد ذلك الأمر بالتوحيد والصلاة والزكاة، وهذا تلخيصٌ حسنٌ لجوامع الإسلام وأسسه وقواعده دون أن يخوض في التفصيل والتفريع؛ لأنه في مقام عرضٍ إجماليٍ يبين حقيقة هذا الدين في كلياته وأصوله وقواعده، ويظهر محاسنه ومنافعه وفوائده. ثم ذكر بعد ذلك ما يكشف حقيقة الكفر والشرك والجاهلية في معارضتها للأخلاق الفاضلة، ومضادتها لحقوق الإنسان، ومنعها لحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، فقال: (فلما رأى قومنا ذلك عذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل) أي أنهم شقوا عليهم وعذبوهم وآذوهم، فظهر حينئذٍ أن هذا ظلم وبغي، وكل صاحب نفسٍ حرةٍ وفطرة سوية يكون مع هؤلاء المظلومين ضد المعتدين، بغض النظر عن الدين والمعتقد، وهذا نراه اليوم أيضاً لدى بعض الأفراد والجماعات والمجموعات والمنظمات من غير المسلمين، حيث قد يكون عندهم تشبثٌ حقيقي بحقوق الإنسان، ورغبةٌ في رد الظلم والعدوان من أي أحدٍ كان، ولذا نرى منهم مواقف عجيبة، ليست منطلقة من منطلقات الإسلام، لكنها منطلقة من منطلقات الإنسان، ولذلك نرى من يسمونهم نشطاء السلام يدافعون عن إخواننا في فلسطين، ويرفعون قضيتهم، وربما قتل بعضهم كما هو معلومٌ ومعروف، وهم في ذلك يرون أنهم يدافعون عن حقٍ وعدل، ويمنعون ظلماً وجوراً، وينصرون إنساناً مضطهداً دون أن ينظروا إلى دينه وعقيدته، فبعض المعاني الإنسانية المشتركة راعاها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في دعوته بذكاءٍ وفطنة، ثم ختمها بأحسن ختامٍ عندما أثنى على النجاشي وبلاده بما هو فيها من غير زيادة، والمسلم الحق من يذكر الحق والواقع بإنصافٍ وعدل، حتى وإن كان عند غير المسلم، فقال: لما حصل ذلك خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك. وهذا يستدعي من النجاشي حميته وقوته وعطفه، كيف يلتجئ إليَّ أناس فأخذلهم؟ وكيف يرغبون في جواري فأطردهم؟ وكيف ينشدون عدلي فأظلمهم؟ ولذلك أحسن جعفر رضي الله عنه هذا العرض إحساناً بالغاً فائقاً، وأثنى على النجاشي وبلاده في مجمل أوضاعها بما هو حقٌ، وليس في هذا حرجٌ شرعي، ليس من حرجٍ أن نقول عن نظام بعض تلك البلاد أو بعض قوانينها أو بعض أحوالها ما هو عدلٌ وحق وما فيه مصلحة ومنفعة، وإن لم يكن قائماً على أساسٍ عقدي صحيح، وإن لم يكن منطلقاً من الإسلام وعقائده ومبادئه، ولذلك قال له هذا القول. ثم ختم بقوله: (ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك) فلما قال هذه المقالة الجامعة الوافية الذكية، قال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله عز وجل شيء؟ وهنا جاهزية الداعية المسلم الذي لا يتلكأ، فقال جعفر: نعم، فقرأ عليه صدراً من سورة مريم، واختيار القراءة أيضاً موفق؛ فإن صدر سورة مريم فيه قصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً، وفيه ذكر أمورٍ يعرف جعفر أن النجاشي يعرفها من كتابه ودينه، فقرأها فبكى -والله- النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى بلوا مصاحفهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما أبداً. فردهما، ولكن هل استسلم عمرو بن العاص، وهو داهية العرب كما نعلم؟ فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأتينه غداً أعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم. أي: سوف آتي غداً في جولةٍ أخرى، وأذكر عن هؤلاء المسلمين قضيةً سوف تغير موقف النجاشي عليهم. فأي شيءٍ سيذكر؟ سيذكر أمراً متعلقاً بالعقيدة والدين، لنعلم أن المحرك الأساسي والجوهري في اتخاذ المواقف إنما هو العقيدة والمبدأ قبل المصلحة والمنفعة. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أكبر الرجلين كما تقول رواية أم سلمة -: لا تفعل؛ فإن لهم أرحاماً. فقال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون في عيسى بن مريم أنه عبد! وما لـ عمرو بن العاص وهو وثني مشرك ولعيسى بن مريم وللمسيحية والنصرانية؟! إنما يريد الفتنة، وهذا هو الذي يستغله -أيضاً- أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، فإنهم لا يريدون حقاً وعدلاً، وإنما يريدون أن يطعنوا المسلمين ويسيئوا إليهم ويؤلبوا عليهم. فغدا عليه من الغد، فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. ونلاحظ أنه لم يقل ما يقولون، إنما أراد أن يجعل القضية في حس النجاشي ضخمةً وعظيمة، حتى إذا سمع النجاشي القول كان غضبه في غاية العظمة والشدة، فأرسل إليهم ليسمع منهم، وهذا من عدل النجاشي؛ فإنه لم يسمع من طرفٍ في كلتا الحالتين. تقول أم سلمة ولم ينزل بنا مثلها. أن هذه معضلة، فالقوم في كتبهم تحريف، ونعرف أنهم يقولون: إن عيسى هو ابن الله. أو: عيسى هو الله. ونحن قطعاً ويقيناً في عقيدتنا وديننا أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. قالت: فقال بعضهم: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، وكائن في ذلك ما كان. فلما دخلوا عليه قال: ما تقولون في عيسى؟ قال له جعفر رضي الله عنه: (نقول فيه الذي جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام: هو عبد الله وروحه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول). وهذا الكلام مختصرٌ موجز، لكنه دقيق وحكيم؛ فإنه قال: نقول فيه ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم. فليس القول من عندنا، وليس اجتهاداً، وإنما هو دينٌ ووحيٌ، ثم قال: (عبد الله)، وذلك ينفي أنه ابن الله، وينفي أنه الله عز وجل -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-، لكنه أضاف المعنى المعجز الذي نؤمن به، وهو (وروحه) أي: التي قذفها في مريم عليها السلام، (ورسوله) فهو نبي مرسل كرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: (وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول) أيضاً ليبرئ مريم عليها السلام مما يقذفها به بعض اليهود والمحرفين منهم على وجه الخصوص، فهو جمع في ذلك محاسن عقيدة الإسلام في هذه المسألة المهمة، فلا هو ابن الله، ولا هو الله، ولا هو بشرٌ كسائر البشر، بل هو كلمةٌ وروح ألقاها الله إلى مريم، وليست مريم عليها السلام فيها شيء من شبهة أو من قذفٍ أو غير ذلك. وهنا استطراد يسير نذكره لبعض علماء الإسلام، وهو أبو بكر الباقلاني، حيث جاءه بعض النصارى، وأرادوا أن يثيروا بعض الشبه، فقالوا له: إن زوجة نبيكم قد وقع لها ما وقع -يعنون بذلك حادثة الإفك، ويرمون بذلك عائشة

كرم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وجوده

كرم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وجوده وأما المحطة الثالثة فمحطة الجود والكرم، ولقد نال منها جعفر مبلغاً ورتباً لم ينلها كثيرٌ غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -وأبو هريرة كما نعلم كان من أهل الصفة، ومن فقراء المسلمين الذين كانوا ليس لهم مصدر عيش ولا قوت ولا طعام إلا ما يكون من الغنائم في الجهاد، وما يكون من إكرام المسلمين وهداياهم وصدقاتهم لهم- يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (كان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فيشقها فنلعق ما فيها) أي أن العكة من العسل تكون ليس فيها شيء، فيشقها حتى يلعقوا بقاياها التي فيها من شدة كرمه. وكان يعطي ما عنده، ولا يستبقي شيئاً قليلاً ولا كثيراً، ولذلك كثر مدح أبي هريرة على وجه الخصوص له؛ لأنه كان من الفقراء، ويعلم رضي الله عنه شدة الفقر والجوع. وأبو هريرة كان متعلقاً بـ جعفر لهذا الكرم؛ لأنه كان يتفقد أهل الصفة دائماً، ويعطيهم ويطعمهم، قال أبو هريرة: (ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب). أخرجه الترمذي والحاكم وصححه، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه: يعني بذلك في مجال الكرم؛ لأن هذا هو تقييد الحديث. وقد ذكر ابن حجر في الإصابة أن هذا الحديث ساقه أبو هريرة بقوله: (ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب) ورواه الترمذي والنسائي، وإسناده صحيح كما قال ابن حجر رضي الله عنه. وهذه رواية ساقها الترمذي فيها طرافةٌ، وفيها ذكر لهذه المنقبة العظيمة لـ جعفر رضي الله عنه، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن كنت لأسأل الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن أنا أعلم بها منه -يسأله عن معاني بعض الآيات، وهو أعلم بها، ولا يريد السؤال ولا يريد الجواب، وإنما يريد حديثاً حتى يقول له: تفضل وادخل البيت، فينال شيئاً من طعام- يقول: كنت أسأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن وأنا أعلم بها منه، ما أشاء إلا ليطعمني شيئاً، فكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله، فيقول لامرأته: يا أسماء! أطعميني شيئاً، فإذا أطعمينا أجابني). أي أنه كان يعرف أن أبا هريرة إنما يريد الطعام أولاً. ثم يقول أبو هريرة في تتمة الحديث: (وكان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين) وهذه كنيةٌ اشتهرت لـ جعفر رضي الله عنه، فهو أبو المساكين. وفي رواية أبي هريرة أيضاً عند الترمذي قال: (كنا عند جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أبي المساكين، فكنا إذا أتيناه قرب إلينا ما حضر، فأتيناه يوماً فلم يجد عنده شيئاً -يعني: يقربه لهم- فلما لم يجد عنده شيئاً أخرج جرةً من عسل فكسرها، فجعلنا نلعق منها)، فمن شدة كرمه رضي الله عنه أنه كان يكسر جراراً للعسل حتى يلعقوا ما فيها. ثم كذلك وردت الرواية عند البخاري في هذا المعنى الذي ذكرناه، وذلك من وجوه الكرم والجود التي كانت معروفة عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا يدل على بروز هذا الخلق عند جعفر رضي الله عنه؛ لأن جعفراً كان في الحبشة، وإسلام أبي هريرة إنما كان في العام السابع بعد خيبر، ونعلم أن جعفراً رضي الله عنه -كما سيأتي- شارك في مؤتة واستشهد فيها، أي أن عاماً واحداً هو الذي كان يجمع بين أبي هريرة وجعفر في المدينة، ومع ذلك كان كرم جعفر رضي الله عنه مشتهراً حتى لقب بأبي المساكين، حتى كان أبو هريرة -وهو من هو- يذكر أنه ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أو أفضل من جعفر بن أبي طالب، لما كان لأثر كرمه وجوده على أبي هريرة، وعلى غيره من فقراء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وهذا يدلنا على هذه المنقبة العظيمة التي تدل على نفس سمحة سخية، وعلى رغبة في الأجر والمثوبة، وعلى رغبة في إدخال السرور إلى قلوب الضعفاء والمحتاجين.

شجاعة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وإقدامه

شجاعة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وإقدامه وأما وقفتنا الأخيرة والأثيرة ومحطتنا الختامية فهي مع الشجاعة والإقدام، وهنا بيان لمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وإرادته إظهار المناقب والمراتب لبعضهم، فإن جعفراً رضي الله عنه كان في الحبشة وقتاً طويلاً، فلم يشهد غزوة بدرٍ ولا أحد ولا الخندق ولا الحديبية ولا خيبر، لكنه وافى مع الصحابة خيبر، فقسم له النبي عليه الصلاة والسلام من غنائم خيبر. وأول معركة أو غزوة عظيمة كانت بعد ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم جعفراً من قادتها، وهذه المعركة الشهيرة هي التي سميت غزوةً واشتهرت بأنها غزوة وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يشارك فيها، وهي غزوة مؤتة، وهي أول تحرك عسكري للمسلمين خارج الجزيرة العربية، وخارج المواجهة مع العرب وقبائل العرب لمقاتلة ومنازلة الروم، وهي الغزوة الوحيدة التي أمَّر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمراء، وهي الغزوة الوحيدة التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على نتيجتها وخبرها وحياً وقت وقوعها قبل عودة الصحابة ورجوعهم رضوان الله عليهم أجمعين. وقد أمَّر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم زيد بن حارثة وقال: (فإن قتل فـ جعفر بن أبي طالب، فإن قتل ف عبد الله بن رواحة) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدرك عظمة هذه المواجهة. فالمواجهة كانت عجيبة إذ كان عدة جيش المسلمين ثلاثة آلاف، وأقل عددٍ ذكر في الروايات لجيش الروم أنه كان ثلاثين ألفاً، أي: عشرة أضعاف، وفي بعض الروايات: مائة ألف، وفي بعضها: مائتا ألف. فما هي النتيجة المتوقعة لعشرة أضعافٍ من الجيش يقابلون عشرهم مع قلة الزاد والعتاد، وطول السفر والشقة؟ من المفترض أن لا يأخذوا إلا سويعة من الزمان فيفنوهم عن بكرة أبيهم. ولست بصدد الحديث عن الغزوة، ولكني أقول: ما نتيجتها في آخر الأمر؟ وكم عدد الذين استشهدوا في غزوة مؤتة من هذا العدد الذي كان يبلغ ثلاثة آلاف؟ أظن أن أكثرنا لا يستحضر الرقم، وقد يتعجب منه كثيراً. لقد كان شهداء غزوة مؤتة اثني عشر شهيداً، ربعهم قيادة الجيش، القواد الثلاثة رضوان الله عليهم أجمعين، حيث لم تكن القيادة بمعزل، بل كانت في مقدمة الصفوف، ثم كيف تسنى لهم أن يواجهوا الجيش حتى يفصل عنهم؟! ثم ولوا خالد بن الوليد كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكما وقع به الحال، ثم استطاعوا أن ينسحبوا انسحاباً عسكرياً قوياً، ولم يكن انسحاب هروب أو فرار، بل كانوا هم الكرار؛ إذ لو كان انسحاب هروبٍ لكان انسحاباً متعثراً مرتبكاً، ولكان مغرياً للأعداء أن يلحقوا بهم وأن يبيدوهم، لكن الأعداء قد رأوا الهول فاكتفوا بأن انسحب المسلمون من أمامهم، ورأوا أن هذه فرصة عظيمة لهم أن لا يواجهوا هؤلاء الناس الذين كانوا يحبون الموت أكثر من حب أولئك للحياة. وهنا وقفاتنا مع جعفر رضي الله عنه. قاتل زيد حتى استشهد، فحمل الراية جعفر رضي الله عنه، وقاتل قتال الأبطال، كما قال بعض الصحابة: (والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة حين اقتحم عن فرسٍ له شقراء، فعقرها ثم تقدم حتى قتل رضي الله عنه). ومن هنا ذكر أصحاب السير -وأولهم ابن إسحاق: أن أول من عقر في الإسلام هو جعفر بن أبي طالب. أي أنه لما كانت المعركة بكثافة جيش العدو، وليس فيها مجال لركض الخيل، وكانت فرسه تعيقه عن ذلك نزل عنها فعقرها، ثم قاتل رضي الله عنه واقفاً على قدميه، وقطعت يده اليمنى فحمل الراية بيسراه، فقطعت يسراه، ثم خر شهيداً رضي الله عنه وأرضاه. وإليك هذه الروايات التي ذكرنا فيها رواية عقر فرسه، وقد رواها أبو داود في السنن، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أنه لما قاتل جعفر قطعت يداه، والراية معه لم يلقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة)، ولذلك سمي بالطيار، وسمي بذي الجناحين. وصح عند البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا رأى عبد الله بن جعفر قال: (يا بن ذي الجناحين، يا بن ذي الجناحين) يعني ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وخذ هذه الرواية، وهي رواية قد كثرت في كتب السيرة وفي كتب السنة على اختلاف فيها، قال الراوي: ولما قتل وجد به بضع وسبعون جراحة، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح كلها فيما أقبل من بدنه. وقيل: بضع وخمسون. والأول أصح، كما قال ابن عبد البر: بضع وسبعون ما بين ضربةٍ وطعنة كانت في مقدمة جسمه. وذلك دليل شجاعة وإقدام وثبات وقوة إيمانٍ ويقينٍ وفروسية كانت لـ جعفر رضي الله عنه وأرضاه. وفي رواية ابن إسحاق: (قص النبي صلى الله عليه وسلم القصة في وقتها) أي: في وقت حدوثها. وهي رواية بألفاظ أخرى في الصحيح أيضاً، فلما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فقاتل بها حتى قتل شهيداً. ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه كان في عبد الله بن رواحة ما يكرهون، فقال عليه الصلاة والسلام: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم قال: لقد رفعوا في الجنة على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله ضراراً عن سريري صاحبيه، فقلت: عمَ هذا؟ قيل: مضيا وتردد) أي: تردد عبد الله ثم مضى، وإنما تردده رضي الله عنه ليس خوفاً على نفسه، وإنما خوفاً على المسلمين، وإلا فلـ عبد الله بن رواحة في أول المعركة ما يدل على هذا، فعندما وصل المسلمون إلى مؤتة وعلموا ضخامة الجيش الذي ينتظرهم وقفوا يتشاورون: ماذا نصنع؟ فقال بعضهم: نرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يمدنا بمدد. فقال عبد الله بن رواحة: (والله للتي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون -أي: الشهادة في سبيل الله- فامضوا لما أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فثبتهم وحضهم رضي الله عنه، فما كان ليتردد خوفاً أو جبناً –حاشاه-، وإنما كان يفكر في أمر المسلمين إذا هو أقدم واستشهد كيف قد يضطرب حالهم، ثم مضى لأمره ولما ولاه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشهد، فكان لتردده أثرٌ. ووردت الرواية عند ابن إسحاق -وهي مما سبقت إشارتنا إليها- أن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عجنت عجيني وغسلت بنيَّ ودهنتهم ونظفتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتيني ببني جعفر. فأتيته بهم، فشمهم، ودمعت عيناه، قالت: فقلت: بأبي وأمي ما يبكيك يا رسول الله؟! أبلغك عن جعفر وأصحابه شيءٌ؟ قال: نعم. أصيبوا هذا اليوم، فقمت أصيح وأجمع النساء، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا تغفلوا آل جعفر؛ فإنهم قد شغلوا). وروي أيضاً أنه لما جاء ذلك قال: (على مثل جعفر فلتبك البواكي)، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام: أنه قد ضرج بالدم، وأنه يطير بجناحين مخضبين بالدم في الجنة، وفي هذا إشعار بما كان له من فضل وإقدام في جهاده في سبيل الله عز وجل. وفي شجاعته أيضاً ذكر الرواة ما ذكروا من هذا الأمر، ومن ذلك رواية عقره لفرسه، ذكرها -أيضاً- الذهبي في سيره، وهي مروية بإسناد رجاله ثقات. وقد وردت أيضاً رواية أبي هريرة عند الترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت جعفراً يطير في الجنة مع الملائكة)، قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه من يضعف. وقد ذكر العلماء رواياتٍ عديدة في هذا الشأن، ساق منها ابن حجر رحمه الله قول ابن عمر لابن جعفر بن أبي طالب: (السلام عليك يا ابن ذي الجناحين) ثم قال شارحاً: كأنه يشير إلى حديث عبد الله بن جعفر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هنيئاً أبوك يطير مع الملائكة في السماء) أخرجه الطبراني بإسناد حسن. ثم ذكر ابن حجر طرقاً عن أبي هريرة وعلي وابن عباس، وقال في طريق ابن عباس: (إن جعفراً يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه) قال: وإسناد هذه جيد –أي: إسناد هذه الرواية جيد-، وهذه الرواية مسوقةٌ سياقاً آخر من حديث ابن عباس: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ قال: يا أسماء! هذا جعفر مع جبريل وميكائيل مر بي فأخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا، فسلم، فردي عليه السلام، وقال: إنه لقي المشركين فأصابه في مقادمه ثلاثة وسبعون، فأخذ اللواء بيده اليمنى فقطعت، فأخذه بيده اليسرى، فعوضه الله من يديه جناحين يطير بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة يأكل من ثمارها)، وهذا مما وردت به روايات يعضد بعضها بعضاً.

رثاء الشعراء لجعفر رضي الله عنه وثناء العلماء عليه

رثاء الشعراء لجعفر رضي الله عنه وثناء العلماء عليه وهكذا ختمت هذه الحياة العطرة التي كانت في أولها هجرة وفي آخرها شهادة لـ جعفر بن أبي طالب، وسطر حسان بن ثابت ذلك الموقف العظيم والشهادة المباركة لشهداء وقواد غزوة مؤتة، فكان مما قاله رضي الله عنه: غداة مضى بالمؤمنين يقودهم إلى الموت ميمون النقيبة أزهر أغر كضوء البدر من آل هاشم أبيٍّ إذا سيم الظلامة مجسر فطاعن حتى مات غير موسدٍ بمعترك فيه القنا تتكسر فصار مع المستشهدين ثوابه جنان وملتف الحدائق أخضر وكنا نرى في جعفر من محمد وقاراً وأمراً حازماً حين يأمر وما زال في الإسلام من آل هاشم دعائم عز لا ترام ومفخر وبعد حسان بن ثابت جاء كعب بن مالك فأرسل شعره رثاءً، فقال: وجداً على النفر الذين تتابعوا يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا صلى الإله عليهم من فتية وسقى عظامهم الغمام المسبل صبروا بمؤتة للإله نفوسهم حذر الردى ومخافة أن ينكلوا إذ يهتدون بجعفر ولوائه قدام أولهم فنعم الأول حتى تفرجت الصفوف وجعفر حيث التقى وعث الصفوف مجدل فتغير القمر المنير لفقده والشمس قد كسفت وكادت تأفل فذهب ومضى أبو المساكين رضي الله عنه، والمساكين يندبون فقده، وذهب فارس الفرسان، والشجعان يندبون فقده، ومما قاله العلماء والأئمة في ذكره ووصفه، ما جمع هذه الألقاب والمناقب كلها. فقد صدَّر الذهبي رحمه الله ترجمته في السير بقوله: السيد الشهيد، الكبير الشأن، علم المجاهدين، أبو عبد الله ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي الهاشمي، أخو علي بن أبي طالب وهو أسن من علي بعشر سنين، هاجر الهجرتين، وهاجر من الحبشة إلى المدينة، فوافى المسلمين وهم على خيبر إثر أخذها، فأقام بالمدينة أشهراً، ثم أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة مؤتة بناحية الكرك، فاستشهد، وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً بقدومه، وحزن -والله- لوفاته. لقد أوجز الذهبي رحمه الله إسلامه وسبقه، وهجرته وفضله، ثم إمرته وجهاده واستشهاده رضي الله عنه بهذه الكلمات العظيمة الدالة على فضل جعفر رضي الله عنه.

معالم من حياة جعفر رضي الله عنه

معالم من حياة جعفر رضي الله عنه

الخصال التي يعظم بها أجر المؤمن

الخصال التي يعظم بها أجر المؤمن ثم كذلك نلحظ أمراً أخيراً مهماً، وهو الخصال العظيمة التي يعظم بها أجر المسلم، ويخلد ذكره عند الناس، وتكون له في القلوب محبة عظيمة ومكانة كبيرة، فذلك ما كان من جوده وكرمه رضي الله عنه وأرضاه، وما كان من شجاعته وإقدامه، فكان في هذه الأحوال -أي: حال السكون وحال الإقامة- على ذلك القدم من السبق في الإحسان والجود والإكرام، وكان في موضع الشدة والقتال على ذلك القدم من السبق في الشجاعة والإقدام رضي الله عنه وأرضاه.

المسلم والدعوة إلى الله عز وجل

المسلم والدعوة إلى الله عز وجل وهنا مسألةٌ مهمة، وهي أن دعوة المسلم يحملها بين جنبيه، وينشغل بها فكره، ويهتم بها قلبه، وينطق بها لسانه، ويجتهد في الإحسان والإتقان بقدر ما يستطيع حتى تؤدي الدعوة ثمرتها وتبلغ غايتها، كما رأينا في فطنة ودعوة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا به وببقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على خيرٍ وتقىً وهدىً، وعلى استمساكٍ بكتاب الله واتباعٍ لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونسألك -اللهم- أن تلحقنا بهم في الشهداء الصالحين، وفي المؤمنين العاملين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ارتباط الإسلام والإيمان بالحق لا بالأشخاص

ارتباط الإسلام والإيمان بالحق لا بالأشخاص الأمر الثاني: نلحظ أن جعفر رضي الله عنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً طويلاً، وذلك يدلنا على أن أساس الإيمان والإسلام ليس الارتباط بالأشخاص، وإنما الاعتقاد بالحق، والارتباط بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمرٌ عظيم؛ فإن جعفراً بقي محافظاً على إسلامه مع من معه من الصحابة، وكانوا يحرصون على الإيمان والطاعة والعبادة، ويأخذون ما قد يرد إليهم من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كانوا دعاةً يدعون إلى الإسلام، ويقيمونه فيما بينهم، وربوا عليه أبناءهم، وأقاموه في مجتمعهم دون أن يكونوا قريبين ومتصلين مباشرةً برسول الله صلى الله عليه وسلم. الأمر الثالث: الحرص على السبق والفضل في مناقب الخير، والدعوة والبذل والنصرة لدين الله عز وجل، كما رأينا في قصة المفاضلة بين عمر وأسماء رضي الله عنهما، فقد كانوا أحرص على الخير، وكان أحب شيءٍ إليهم أن يبذلوا، وأن يسبقوا في طاعة الله ومرضاته ونصرة دينه وعون عباده.

الأجر والفضل بالعمل والكسب لا بالنسب والقرب

الأجر والفضل بالعمل والكسب لا بالنسب والقرب إن الفضل والأجر والمثوبة بالسبق والعمل والبذل، وليس بالنسب والقرب والحب وحده؛ فإن جعفراً رضي الله عنه وإن كان من النبي صلى الله عليه وسلم قريباً وإليه حبيباً إلا أنه كان لله عز وجل باذلاً، وبأمره قائماً، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متبعاً، وبشأن دعوته قائماً، فكان حينئذٍ على هذا المقام العظيم والقدر الجليل الذي كان له رضي الله عنه وأرضاه.

الأسئلة

الأسئلة

الكتب التي ترجمت لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه

الكتب التي ترجمت لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه Q نرجو الإرشاد إلى بعض الكتب التي ترجمت لـ جعفر رضي الله عنه؟ A ليس هناك -فيما رأيت- كتاب أفرد ترجمة جعفر، إلا أن يكون من بعض الكتب المتأخرة ولم أطلع عليه، لكن ترجمة جعفر موجودة في أمهات الكتب التي ترجمت للصحابة، كطبقات ابن سعد، و (الاستيعاب في معرفة الأصحاب) لـ ابن عبد البر، و (الإصابة في معرفة الصحابة) لـ ابن حجر، وفي (سير أعلام النبلاء) للذهبي، وغيرها من الكتب الأصيلة التي أوردت تراجم الصحابة رضوان الله عليهم، ولـ جعفر كذلك ترجمات واردة فيمن اقتصروا على ترجمة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ما أفردوه من هذه الكتب.

حكم الهجرة في هذا الزمان إلى بلاد أهل الكتاب

حكم الهجرة في هذا الزمان إلى بلاد أهل الكتاب Q هل يجوز للمسلم في زماننا هذا أن يهاجر إلى بلاد أهل الكتاب الذين اشتهر العدل بينهم أم أنه لا يجوز؟ A هذه أحوال تحتاج إلى تفصيل، فأين هو مقيم؟ هل هو في بلد يضطهد فيه في دينه، ولا يستطيع إقامة شعائر الله، ولا يستطيع أداء أركان الإسلام؟ إذا كان كذلك فقد تكون حينئذٍ هجرته إلى بلدٍ يأمن فيه على نفسه وماله وولده، ويأمن على إقامة شعائره وشرائع دينه أمراً جائزاً سائغاً، بل قد تكون في حق بعض الناس واجباً إذا كانت الإيذاءات قد تصل به إلى الفتنة في دينه، لكن المهم في الحقيقة ليس هو جواز هذه الهجرة أو عدم جوازها، بل الأكثر أهميةً هو كيف يكون حاله إذا ذهب إلى غير بلاد المسلمين؟ وهل يذوب فيها ويصبح مع القوم؟ وهل يبيع دينه ويداهن في دينه، أم يكون كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتين على الحق، داعين إليه، لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يعطون الدنية في دينهم؟ ومع ذلك فقد نجدهم يحسنون القول الحق والعدل والإنصاف فيما عليه أولئك القوم من خيرٍ أو من نفعٍ وفائدة، وقد يحسنون خطابهم بجوانب من الإسلام التي تؤثر فيهم وتقنعهم بعظمته، وبما فيه من الخير العظيم.

تعريف الأدم

تعريف الأدم Q ما هو الأدم؟ A الأدم هو الجلد.

الحكمة في اختيار جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لقيادة معركة مؤتة

الحكمة في اختيار جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لقيادة معركة مؤتة Q لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم جعفراً ليقود معركة مؤتة؟ A السؤال لا يرد كذلك، لكن نقول: لو التمسنا حكمة لذلك فإننا نلتمس وجوهاً عدة، من أهمها: بيان أن الصحابة الذين كانوا في الحبشة وإن كانوا بعيدين عن النبي صلى الله عليه وسلم فليسوا بأقل فضلاً، ولا بأقل قدرةً عن أن يتسلموا المهام العظيمة في الدفاع عن الإسلام وفي إعلاء رايته والجهاد في سبيله من غيرهم. والأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحرص على استبقاء أقاربه أو أصحابه، أو من لهم به صلة دون غيرهم، بل قدَّم زيد بن حارثة وهو حبه عليه الصلاة والسلام الذي كان مولاه، والذي كان من المقربين إليه، ثم قدَّم جعفر بن أبي طالب وهو ابن عمه والأثير لديه، وهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الخير بمن هم قريبون منه بتقديمهم لما هو خير لهم في دنياهم وأخراهم. ومن جهة أخرى لا يفرق بين الناس، فيستأثر بعضهم بأمورٍ ويقدم بعضهم إلى أمور مما فيه مظنة الهلكة ونحو ذلك. وأيضاً فيه موازنة لجملة المهاجرين من أصحاب الحبشة؛ إذ كان جعفر مقدمهم فقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليشعر أولئك جميعاً أنهم مقدمون، وأنهم على قدم المساواة مع بقية إخوانهم.

بيان أن النجاشي الذي هاجر إليه الصحابة هو الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم

بيان أن النجاشي الذي هاجر إليه الصحابة هو الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم Q هل النجاشي الذي أسلم وصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي كان المهاجرون عنده؟ A أكثر الذين تكلموا في هذا رجحوا أنه هو باعتبار هذه الحادثة، وإظهاره لهذا المعنى من الإسلام، وبعضهم يقول: إنه نجاشي آخر. أي: ملك آخر بعده. وقد وقعت واقعة ذكرها أهل السير، وهو أن بعض أقارب النجاشي هذا الذي كان مع جعفر قد انقض عليه، وخرج عليه وقاتله يريد أن يزيحه من مكانه وملكه، وكان الصحابة في ذلك الوقت في قلق، يخشون أن يغلب غير هذا النجاشي العادل فيظلمهم أو يبطش بهم حتى إنهم نفخوا بعض القرب، وجعلوا بعضهم يخرجون إلى البحر على هذه القرب حتى يكونوا من جهة المعركة لينظروا كيف سيرها، حتى إذا رأوا شيئاً من الأمور مما قد يضرهم يتهيئون له. فالذي ذكره بعض أهل العلم هو أنه هذا النجاشي الذي ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه.

عدد قتلى الروم في غزوة مؤتة

عدد قتلى الروم في غزوة مؤتة Q كم كان عدد قتلى الروم في غزوة مؤتة؟ A فيما ذكر أنه بلغ المئات، فقد كانوا أضعاف عدد المسلمين، وقتلاهم أضعاف شهداء المسلمين.

معنى اسم جعفر

معنى اسم جعفر Q هل اسم جعفر له معنىً؟ A يقولون في اللغة: إن الأسماء لا تعلل مطلقاً. وإن كان بعض الأسماء يمكن أن تكون لها معانٍ من أصل كلامها الاشتقاقي، وليس بالضرورة أن يراد المعنى الذي هو راجعٌ إلى الاشتقاق.

تعريف البطارقة

تعريف البطارقة Q من هم البطارقة؟ A البطارقة هم رجال الدين المسيحي الذين كانوا عند النجاشي، وكان يلقب الواحد منهم بالبطريق، مثل القسيس ورجل الدين.

بلاد الحبشة

بلاد الحبشة Q هل بلاد الحبشة ما زالت معروفة إلى اليوم؟ A بلاد الحبشة هي التي هي إلى اليوم بلاد الحبشة، وهي من البلاد التي دخلها الإسلام مبكراً في الفترة المكية بسبب هجرة الصحابة رضوان الله عليهم في هجرة الحبشة الأولى والثانية.

حال الرواية التي فيها أن جعفرا يطير

حال الرواية التي فيها أن جعفراً يطير Q هل الرواية بأن جعفراً يطير رواية صحيحة؟ A جملة الروايات مذكورة عند الترمذي وعند غيره، قال عنها ابن حجر رحمه الله: إن إسنادها قوي وجيد.

أسماء أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه

أسماء أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه Q ما هي أسماء أولاد جعفر؟ A هو يكنى بـ أبي عبد الله، وعبد الله أكبر أبنائه، وله ابنٌ ثانٍ اسمه عون، وثالث اسمه محمد.

بعض سيرة أسماء بنت عميس رضي الله عنها

بعض سيرة أسماء بنت عميس رضي الله عنها Q نريد بعض سيرة أسماء بنت عميس رضي الله عنها؟ A أسماء بنت عميس رضي الله عنها امرأة فاضلة عظيمة، لما استشهد جعفر رضي الله عنه تزوج بها أبو بكر رضي الله عنه، وهي التي تولت غسل أبي بكر رضي الله عنه، فلما مات أبو بكر خلفها عليه وتزوج بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتزوجها خيرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لفضلها ومقامها وإيمانها وهجرتها رضي الله عنها وأرضاها. وقد أنجبت من علي رضي الله عنه، وأنجبت من جعفر، وكان هناك بعض مفاضلة بين أبنائهم، وقالت في ذلك قولاً حكيماً رضي الله عنها وأرضاها.

وقت موت أبناء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم

وقت موت أبناء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم Q هل مات أبناء جعفر قبله أم بعده؟ A أبناء جعفر ماتوا بعده، وليس قبله، وكان عبد الله من أشهرهم، وهو أيضاً من أجل صغار الصحابة، وله فضل عظيم ومناقب جليلة رضي الله عنه وأرضاه.

نظرة الغرب نحو المسلمين وواجب المسلمين نحو ذلك

نظرة الغرب نحو المسلمين وواجب المسلمين نحو ذلك Q جعفر بن أبي طالب رمز من رموز التضحية، ضحى بكل شيءٍ في سبيل دينه وعقيدته، وبه وبأمثاله أعز الله دينه، أما رموز اليوم ممن يلتزمون دين الله ويعلنون ولاءهم لله والتزامهم بالمنهج الصحيح فهؤلاء في عصرنا إرهابيون بمفهومٍ غربي يدعمه ويعضده الإعلام العربي والإسلامي، فما رأيكم في هذه المفارقة؟ A إن القلة المسلمة هنا أو هناك على هذه الشاكلة، بل اليوم أصبح الكلام على المسلمين كلهم على هذا النحو، وبقدر تفريط المسلمين في دينهم وعدم اعتزازهم وتشبثهم بالتمسك به بقدر ما يكون ضعفهم وهوانهم وتسلط الأعداء عليهم، وهنا لابد حينئذٍ من قوةٍ وثبات، وبيان للحق، وبيان لمحاسن الإسلام، وردٍّ لهذه الشبه، وحكمةٍ يمنع بها التهور الذي يضر الإسلام وأهله أكثر مما ينفعهم.

حال حديث طالب الشهادة بصدق

حال حديث طالب الشهادة بصدق Q قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من طلب الشهادة بصدقٍ نالها ولو مات على فراشه) فما صحة الحديث؟ A الحديث عند البخاري في الصحيح بلفظ: (من طلب الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).

بيان الشهيد الذي يشفع في سبعين من أهله

بيان الشهيد الذي يشفع في سبعين من أهله Q هل الشفاعة في سبعين من الأهل ينالها الذي طلب الشهادة ومات على فراشه؟ A فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء، لكن المتبادر إلى الذهن عند ذكر الشهيد هو الذي يموت في القتال في سبيل الله عز وجل.

عدد الغزوات التي حارب فيها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه

عدد الغزوات التي حارب فيها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه Q كم غزوةً حارب فيها جعفر؟ A لم يشهد إلا غزوة مؤتة، وفيها كان قائداً، وفيها كان شهيداً رضي الله عنه وأرضاه. والحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم- وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تاج العفة والرءوس المريضة

تاج العفة والرءوس المريضة العرضُ من الضروريات الخمس التي دعا الإسلام إلى حفظها، فهو مصون في الإسلام، فيجب على المسلم أن يحافظ على عرضه وأن يحافظ على عرض أخيه المسلم، وأن يعف عن الحرام، كما أنه يجب على المسلم أن يحافظ على أهل بيته ومحارمه من الفساد وأسبابه، فهو مسئول عن ذلك بين يدي الله عز وجل.

تعريف العفة ومعناها

تعريف العفة ومعناها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الكبير المتعال، الموصوف بصفات الكمال، المتفرد بالعزة والجلال، منه المبتدى وإليه المرجع والمآل، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وله الحمد أولاً وآخراً دائماً وأبداً ملء السموات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، أحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فنحمد الله جل وعلا على أن جدد الأنفاس؛ لنعاود التذكر والتفكر في آياته، ونستلهم العبر والفوائد من أحاديث وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولنجدد العهد بحلق الذكر ومجالس العلم، سائلين الله جل وعلا أن يتقبلنا في عباده الصالحين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا، وأن يزيدنا علماً، ويعيننا على طاعته، ويجعلنا من عباده الصالحين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعنا في دار رحمته ومستقر كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر إخواناً على سرر متقابلين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو أكرم مسئول وأعظم مجيب، ونسأل الله جل وعلا من عظيم فضله ووافر عطائه وعظيم جوده سبحانه وتعالى. وكلامنا سيكون عنوانه (تاج العفة والرءوس المريضة)، ويأتي ضمن دروس لفضلاء من أهل العلم والمشايخ كان أكثرها يدور حول موضوع المرأة والأسرة وبناء المجتمع الإسلامي في ظل هذه التغيرات العظيمة في المجتمعات المعاصرة، وفي ظل الهجمة الشرسة على نظم الإسلام وتشريعاته، وفي ظل الانحرافات السلوكية الأخلاقية التي غزت بلاد الإسلام والمسلمين عبر الفضاء من خلال القنوات الإعلامية، وعبر المخالطة من خلال السفر والاختلاط، ونحو ذلك من أسباب أخرى كثيرة، وموضوعنا يتعلق بأساس مهم وركيزة عظمى من ركائز حفظ المجتمع المسلم؛ لأن أمر الأسرة عظيم. وسنحاول أن نلم بأطراف هذا الموضوع الذي يتشعب في الحقيقة إلى موضوعات كثيرة كل منها جدير أن يفرد بحديث مستقل، فنتحدث أولاً عن معنى العفة، ثم نعرج على عوامل تحقيق العفة، ونسلط الضوء على ثمارها ومنافعها عندما تتحقق في واقع المجتمع، وبعد ذلك ننتقل إلى الشق الآخر لنقف على عوامل تضييع العفة، والأوهام والشبهات الباطلة المتعلقة بهذا الموضوع، ثم نختم بالمخاطر والآثار السلبية الناشئة عن التفريط في العفة. أولاً: معنى العفة. قال ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة): العين والفاء أصلان صحيحان. أي: أصل الكلمة مبني على هذين الحرفين، ويرجعان إلى أصلين صحيحين: قال: الأول: الكف عن القبيح. والثاني: الدال على قلة الشيء. فأصل الكلمة يعود إلى الكف عن القبيح وإلى معنىً آخر هو قلة الشيء، وبينهما ربط يأتي الحديث عنه. ثم قال: العفة: الكف عما لا ينبغي، والعفة -وهي الأصل الثاني- بالضم هي بقية اللبن في الضرع. أي: هي الشيء القليل كما مر. وقال الراغب الأصبهاني في (مفردات القرآن): العفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة. أي أن هذه العفة معنىً يقوم بالنفس، فيمنع من غلبة الشهوة فيما حرم الله سبحانه وتعالى، قال: والمتعفف هو المتعاطي للعفة بضرب من الممارسة والقهر، وأصله -أي: أصل معنى العفة-: الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفافة. وهذا هو الربط بين المعنيين. فالعفة: الكف عن الحرام. ومن كف عن الحرام فإنه يأخذ القليل من الحلال الذي يكفيه ويعفه ويحصل به النفع له، ويمتنع به الضرر عنه وعن غيره في بناء المجتمع المسلم. وقال صاحب (لسان العرب): العفة هي الكف عما لا يحل ويجمل. والأمر هنا في كلامه أوسع. فالمراد بالعفة الكف عن المحرم وعما لا يجمل أيضاً، أي: عما يكون قبيحاً في أعراف الناس الصحيحة، بمعنى الكف عما لا يتفق مع الذوق العام مما يكون مستهجناً في وسط المجتمع المسلم. قال: وعف عن المحارم والأطماع الدنية يعف عفة وعفاً وعفافاً فهو عفيف، وعف إذا كف، أما الاستعفاف فهو طلب العفة والعفاف. ولذلك ورد في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم (ومن يستعفف يعفه الله)، وقال جل وعلا في محكم التنزيل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33] أي: ليطلبوا العفة والعفاف من طريقه الذي سنشير إلى بعض معالمه وملامحه. قال: والاستعفاف هو طلب العفاف، وهو الكف عن الحرام والسؤال من الناس. فإذاً ظهر لنا أن معنى العفة الكف عن المحرم الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، والاكتفاء بما حل وإن كان قليلاً؛ لأن القليل الذي أحله الله هو الذي يشبع الغريزة، ويطمئن النفس، ولا يحتاج معه العاقل إذا عرف عواقب الأمور إلى زيادة عن هذا الحد المشروع. وفي مقابل العفة معنىً آخر، هو الخسة والدناءة، فثمة رجل عفيف ورجل دنيء، والعفة لا يقتصر في معناها على جنس دون جنس، فليست العفة خاصة بالنساء دون الرجال، بل يقال: امرأة عفيفة ورجل عفيف، وكذا فيما يقابلها، ثم أيضاً مما يتصل بمعنى العفة أن نعرف طبيعة النفس الإنسانية، والنفس هي كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض مناحيها بقوله: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى ثالثاً، ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب)، فطبيعة النفس البشرية أنها لو تركت لهواها لا تشبع. فالعفة التي هي اقتصار على القليل الكافي هي أمر فيه نوع من التربية والتهذيب للنفس، أما لو تركت النفس كما تشاء فإنها لا تقتصر على العفة، بل تتجاوزها إلى ما وراءها. فإذاً العفة تقبض النفس التي في أصل طبيعتها نهم وشغف لا ينتهي مطلقاً، وإن كان النهم في بعض الجوانب يستحسن، كما ورد أيضاً في حديث المصطفى (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا)، فطلب العلم أصله صحيح، والنهم فيه محبوب، وطلب الدنيا أصله صحيح، ولكن النهم فيه غير مرغوب؛ لأنه لا ينتهي إلى حد، ولا يزال الأمل بالإنسان حتى يقطعه الأجل، ولو مد للإنسان لحظة من عمره لكان له فيها آمال جديدة يزيدها إلى سالف آماله. فإذاً: لو تركنا النفس بطبيعتها لما انتهت إلى حد، وشارب ماء البحر لا يفيده شرب الماء لملوحته إلا الزيادة في العطش. فلابد من ضابط، والضابط هو ما جاء في شرع الله من قليل نافع كافٍ حلال يحصل به المقصود، ويتحقق به النفع، ومن ثمَّ كان للعفة صلة في معناها بالتوسط والاعتدال، والعفة عندما تقتصر على شيء وتترك شيئاً فإنها تأخذ بالوسط الذي لا يبلغ الغاية في مداه، ولا يحرم النفس مما تشتهيه وتحتاج إليه، فكانت العفة -أيضاً- ضرباً من الوسطية، ونوعاً من تحقيق المراد الذي تحتاج إليه النفس من غير إفراط ولا تفريط.

عوامل وأسباب العفة

عوامل وأسباب العفة عوامل وأسباب العفة كثيرة، وأبوابها متعددة، وحسبنا أن نشير إلى الأسس المهمة منها مع التعريج على بعض فروعها.

الإيمان

الإيمان أولاً: الإيمان. فأعظم واق من المعاصي وأعظم رادع عن المحرمات وأعظم مذكر دائم للإنسان يرافقه في سره وعلنه في حله وترحاله وفي شهوده وغيبته هو الإيمان بالله عز وجل. الإيمان الذي ينشئ مملكة الضمير التي لا تجعل العبد المؤمن يستحضر أموراً مهمة من أعظمها وأجلها الخوف من الله، والحياء من الله، وتذكر الآخرة، واستشعار لعظمة الله يبعث على الخوف من الله، واستشعار لنعمة الله يبعث على الحياء من الله، واستحضار لهول الآخرة يبعث على قمع الشهوة في النفس وردعها عن تجاوز الحد، ولذلك كانت التربية الإيمانية والزاد الإيماني بأركان الإيمان الستة أعظم ما يقوي العبد على التزام أمر الله، ويعينه على المصابرة والامتناع عما حرم الله سبحانه وتعالى. سئل بعض السلف من أهل الإيمان والصلاح والتقى: كيف السبيل إلى غض البصر؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما حرم عليك. فهل نحن نستحضر مراقبة الله عز وجل، واطلاعه علينا، ومعرفته التي أخبرنا بها في كتابه، كما في قوله جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]؟! وهل نتحقق بذلك ونستشعره في خفقات قلوبنا وخلجات أفكارنا وتصرفات جوارحنا؟! أثر عن بعض السلف أنه كان يربي بعض الصغار من ذوي قرابته، فكان هذا الصغير ينظر إليه عابداً متهجداً ذاكراً تالياً داعياً لله سبحانه وتعالى، فالتفت إليه هذا المربي يوماً وقال له: استحضر في قلبك وإن لم تنطق بلسانك أن تقول: (الله ناظرٌ إلي، الله مطلع علي)، فكلما هممت بهم أو فعلت فعلاً فقل ذلك في قلبك، قال: فما زلت أتعود ذلك وأنا صغير السن، فلما كبرت كان ذلك من نعمة الله علي ومن عصمة الله لي. ونحن نعلم أمثلة كثيرة، منها: المثل القرآني العظيم الذي فسرته آيات القرآن في سورة كاملة في قصة يوسف عليه السلام، قال عز وجل: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] جاء هذا الوقت الذي فيه كل الإغراء والإغواء مع الأمن والإحسان، فقال يوسف عليه السلام: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، ثم اعترفت وقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]، فكان جوابه: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]. وذكر ابن القيم في (روضة المحبين) قصة في عهد عمر رضي الله عنه، وهي تتعلق بشاب صالح كان عمر رضي الله عنه ينظر إليه ويعجب به ويفرح بصلاحه وتقواه، ويتفقده إذا غاب، فرأته امرأة شابة حسناء، فعشقته وتعلقت به، وطلبت السبيل إليه، فاحتالت لها عجوز وقالت: آنا آتيك به. ثم جاءت إلى الشاب وقالت له: إني امرأة عجوز، وإن لي شاة لا أستطيع حلبها، فلو أعنتي على ذلك لكان لك أجر. قال ابن القيم في سياق القصة: وهو كان أحرص ما يكون على الأجر. فذهب معها، فلما دخل البيت لم ير شاة، قالت: أنا آتيك بها. فظهرت له المرأة الحسناء، فاستعصم عنها وابتعد منها، وأراد أن يذكرها الله عز وجل فتعرضت له، فلما أيست منه دعت وصاحت وقالت: إن هذا هجم عليّ يراودني عن نفسي. فتوافد الناس إليه فضربوه، فتفقده عمر في اليوم الثاني، وأتي به إليه، فقال عمر: (اللهم! لا تخلف ظني فيه) وقال للفتى: (أصدقني الخبر) فقص عليه القصة، فأرسل عمر إلى جيران الفتاة ودعا بالعجائز من حولها حتى عرف الغلام تلك العجوز، فرفع عمر درته فقال: (أصدقيني الخبر) فصدقته لأول وهلة، فقال عمر: (الحمد لله الذي جعل فينا شبيه يوسف)، هكذا أورد ابن القيم رحمه الله هذه القصة. ومن ذلك الحديث الصحيح الذي ورد في مثل الثلاثة الذين آواهم الغار فسقطت صخرة فأغلقت عليهم باب الغار، فدعوا بأفضل الأعمال التي تقربوا فيها وأخلصوا فيها لله، فكان من قول أحدهم: (اللهم! إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها عن نفسها فأبت، حتى ألمت بها سنة من السنين -يعني: حالة من الفقر- جاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها، فلما تمكنت منها -وفي رواية: فلما قعدت بين شعبها- قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. قال: فقمت عنها خوفاً من الله عز وجل بعد أن تمكنت منها، اللهم! إن كنت عملت هذا العمل ابتغاء وجهك ففرج عنا) فكان هو آخر الثلاثة، كما ورد في الحديث.

الأحكام التشريعية الإسلامية

الأحكام التشريعية الإسلامية العامل الثاني: التشريع. أي: الأحكام التشريعية التي جاء بها الإسلام، يقول الحق عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، والأحكام التي جاءت في الإسلام تتفق مع فطرة الإنسان، وتحقق المصالح، وتمنع المفاسد، وهي تحقق أعلى المصالح، وتدرأ أقل المفاسد فضلاً عما هو أكثر منها، ويمكن أن نسلط الضوء على هذه التشريعات في جوانب ثلاثة: الجانب الأول: الجانب الوقائي، وهو مهم، أي: التشريعات الوقائية، فإن الإسلام حطم كل الدواعي والطرق والوسائل والمرغبات والمقربات من الحرام ومما يجرح العفة ويضيعها، فحرم النظر إلى غير المحارم، كما في قول الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وكذلك: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس)، وهذا النظر قد حرمه الله عز وجل. وحاسة السمع -أيضاً- لها تأثير، فجاء التشريع يضبط أمرها، فـ بشار بن برد كان من فحول الشعراء وكان أعمى، فكان يقول أبيات الغزل والحب والعشق والغرام، فسئل: كيف يصف هذه الأوصاف وهو كفيف البصر؟ فقال: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحياناً ولذلك قال الله عز وجل في شأن نساء المؤمنين وفي شأن أمهات المؤمنين على وجه الخصوص: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] نهاهن عن قول متكسر متميع له وقع في والسمع أثر في القلب، وإيقاد للشهوة وميل إلى المحرم. وحاسة الشم -أيضاً- ورد فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة خرجت متعطرة فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فهذا -أيضاً- لأن له تأثيراً، بل الصوت قد جاء النهي عنه في قول الله عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} [النور:31] حتى لا يسمع ذلك الصوت الذي قد يكون في الغالب يلفت النظر أو يدعو إلى الفتنة ونحو ذلك. ثم اللمس، فإنه قد ورد النهي عن مصافحة الرجال للنساء، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء وما مست كفه كف امرأة لا تحل له قط. وهذا كله من أسباب الوقاية والطهر، فكل الحواس لها أثر على القلب، فالعين تنظر، لكن القلب يتأثر، والأذن تسمع، والقلب يتغير، والأنف يشم، والقلب يتأثر، فإذا وضعت هذه الحدود والحواجز التي هي –كما يقال- خطوط الدفاع الأولى والثانية والثالثة فإنها صمامات الأمان، فمن أخذ بها وقي بإذن الله عز وجل. ومن التشريعات الوقائية -أيضاً- التحريم المطلق للخلوة، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء. قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت). وكذلك النهي عن الاختلاط بما يحمله من المعاني التي تقع بها كثير من أسباب الفساد. ومن الأحكام -أيضاً- في باب النساء أنه إذا خرجت المرأة لحاجة أو إذا اضطرت إلى أن تقضي بعض أمورها فإنها مدعوة بحكم الله عز وجل أن تتحجب، فهذا الحجاب -أيضاً- هو تشريع من تشريعات الوقاية والأمن والسلامة، وكما يقولون: درهم وقاية خير من قنطار علاج. ودائماً يقولون: السلامة قبل وقوع المصيبة. لأن العلاج بعد المرض أصعب من فعل بعض الأسباب قبل المرض، ولذلك يدعون إلى تطعيم الأطفال، وهذه التطعيمات هي تطعيمات وقائية قبل حصول المرض، حتى يكون الجسم مستعداً، فإذا جاء المرض كان عنده أهبة الاستعداد لمواجهته وصده بإذن الله عز وجل، فهذه -أيضاً- تشريعات وقائية، وقد جاء الأمر للنساء بأن يكن غير مختلطات بالرجال، كما قال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]. الجانب الثاني: جانب التشريعات الاجتماعية. فإن الإسلام -أيضاً- جاء بتشريعات اجتماعية تحفظ للمجتمع وعيه وأمنه وسلامته وصيانته بإذن الله عز وجل. وأبرز هذه التشريعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليس هناك عبارة (ليس لي تدخل) في الإسلام، ولا يوجد هذا الأمر، بل كل إنسان مسئول، وكل مطالب بأن يقول كلمة الحق، وأن يؤدي أمانة النصيحة؛ لأن المرأة المتبرجة أو الرجل الذي يؤذي النساء في المجتمع لا يضر نفسه، ولا يضر هذه المرأة وحدها، وإنما يعود الأمر على الجميع، فالمضرة تلحقني وتلحقك، وتلحق الثاني والثالث، فإذا لم يقم الناس بهذا الأمر وهذا التشريع الاجتماعي فإن الآثار الوخيمة تتسع حتى تشمل كل أحد، ولا ينجو منها بعد ذلك إلا من رحم الله، ولا ينجو منها الناجي إلا بصعوبة ومشقة وعناء، وإن عالم اليوم نعرف ونرى ونحس ونلمس أنه يغزو الصالحين في عقر بيوتهم، ويغزوهم وهم في الشوارع سائرون لقضاء حوائجهم، أو ذاهبون إلى الأسواق لشراء حاجاتهم، وفي أي جانب من الجوانب أصبح الغزو يأتيك يمنة ويسرة عبر الفضاء ومن تحت الأرجل، عبر الأذن سماعاً، وعبر العين رؤية، وعبر أمور كثيرة متنوعة متعددة؛ لأن الناس غضوا الطرف أولاً، وأمرَّوا المنكر والوسيلة إليه حتى صار أكبر منه، ثم بعد ذلك تفاقم الأمر واتسع الخرق على الراقع. ومن الآداب التشريعية الاجتماعية التي يتساهل الناس ويترخصون فيها الاستئذان، وتربية الأطفال وتعويدهم على هذه الأمور، والتفريق بين الإخوة من الذكور والإناث في المضاجع، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (وفرقوا بينهم في المضاجع) وذلك إذا بلغوا العاشرة، فهذه الأمور كلها من التشريعات المهمة في هذا الجانب. الجانب الثالث: التشريعات العقابية، فمن وقع في هذه الحوادث وتلك الأدواء ولم يستمع للنصيحة ثم تجاوز الحد ووقع في المحرم فتردعه التشريعات العقابية والحدود على اختلاف أنواعها، فالرجم للزاني المحصن، والجلد للزاني غير المحصن، وهكذا كل الأحكام المتعلقة بهذه النواحي لتكون رادعاً، ولتكون عبرة لكل من تسول له نفسه أو يدعوه شيطانه إلى ارتكاب المعصية أو خرق حاجز العفة في المجتمع.

التربية عامل من عوامل العفة

التربية عامل من عوامل العفة العامل الثالث: التربية. والتربية أمرها عظيم؛ فإن الإيمان النظري الذي نحفظه نصوصاً أو نقرأه علماً، وإن التشريعات التي نعرفها فقهاً ونتقنها تفريعاً لا تغني عنا شيئاً إذا لم تحصل التربية عليها والالتزام بها، وهناك -أيضاً- جوانب متعددة متعلقة بالتربية، منها: الجانب الأول: المجاهدة والتعبد. فلابد -لَنحَصِّل العفة- من أن نحرص على عمق وقوة وحسن ودوام الصلة بالله عز وجل، وأن نكثر التلاوة والذكر والدعاء، وأن نكثر الصلاة والمناجاة والتبتل والتضرع، وأن نكثر الصوم؛ فإنه عبادة من العبادات التي تتطهر بها النفس، ويتزكى بها القلب، وتنحصر وتضيق فيها مجاري الشيطان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)، وهذا نوع من العلاج والتربية، وقال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فضيقوا مجاريه بالصوم) فهذه التربية العملية العبادية من أهم الجوانب التربوية. الجانب الثاني: التنشئة والتعود. وهذا يتعلق بالصغار، ونلمحه باختلاف البيئات، فهناك بيئة لا تراعي التربية الإسلامية، فالفتاة التي في سن العاشرة عندهم صغيرة السن، وقد تكون في الثانية عشرة وهي ما زالت طفلة، وتبلغ الرابعة عشرة وما زالت دون السن الذي يعتقدون أنها تكون فيه في مبلغ البنات أو البالغات، وكذلك الطفل يظل طفلاً ويدخل على النساء من المحارم وغير المحارم وهو في العاشرة، ثم في الثانية عشرة ثم في الخامسة عشرة، وهذا التسيب تلحظه عند من لا يحسن ولا يلتزم التربية الإسلامية، بينما تجد في البيئة الإسلامية أن الفتاة الصغيرة التي في الخامسة من عمرها ترى أمها وترى بيئتها تتحجب وتلتزم فتطلب الصغيرة الحجاب قبل وقتها، وتشعر وتعرف وتدرك بالفطرة التربوية على العادة أن فرض الحجاب أمر طبيعي، فهي تنظر إلى المرأة غير المحجبة على أنها تفعل فعلاً قبيحاً، وعلى أنها ليست كأهلها، وليست كأمها أو أختها أو خالتها، فهذا الشعور لا يعرفه الصغير على أنه حلال أو حرام، ولا يعرفه بدليل من كتاب وسنة، وإنما يعرفه بالتنشئة والتعود، كما قال الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه أما من لم ينشأ على هذه التنشئة ثم بعد ذلك نأتي إليه فنقول: هذه آيات القرآن وهذه أحاديث. فكيف وقد عاش هذه البيئة؟! وكيف وقد مارس هذه الممارسة؟! فهذا -أيضاً- أمر مهم. الجانب الثالث: المعرفة والتعلم. ينبغي أن نعلم الشباب في أول مراحل العمر، وفي أول تفتح الذهن هذه المعاني المتعلقة بالأجر والثواب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم-: وشاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله أن يعينهم -وذكر منهم-: والمتعفف يريد النكاح)، كما ورد الحديث عند النسائي في سننه. فإذاً نعلّم ونعرّف الشباب بهذه المعاني وبأجرها عند الله، ونعلّمهم ونعرفهم بما يضاد هذه، حتى يكون هناك تلخيص صحيح. الجانب الرابع: التفكر والتطلع، فالقضية التربوية دائماً تعتمد على إحلال الخير محل الشر، وأن الفراغ في حد ذاته ضرب من الشر؛ لأن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فينبغي أن نعود الشباب في أول أعمارهم على أن تكون أفكارهم وتطلعاتهم وطموحاتهم ترقى إلى رقي تام، وإلى الآفاق الواسعة، لا كما يشيع اليوم في صفوف الشباب من أثر هذه الهجمات التي أشرت إليها، فإذا كل فكره هو في الفتاة التي يحبها، والهندام الذي يتزين به، أو العطر الذي يتعطر به، أو التسريحة التي يسرح بها شعره، وعلى ذلك قس في جانب الفتاة ما هو أعظم وأدهى، فهناك ألوان للعيون زرقاء وخضراء، وألوان للصبغات في الشعر من شقراء وغير ذلك، وكل هذا أصبح هو الذي يملأ الفكر ويشغله، فأين رسالة الإسلام؟ وأين التفكير في العلم؟ وأين قوة البدن ورياضة الجسم؟ وأين الارتباط بمآسي المسلمين والتفكر في أحوالهم؟ لو شُغل الشباب والفتيات وعودوا على هذه المعاني وكان هناك ما يسمى بنظرية التفاني التربوية التي يسمو فيها الإنسان عن الشهوات الطبيعية الفطرية التي إذا أتيح لها الفرصة تمكنت من الإنسان لكانت النتائج إيجابية، وإذا شغل الإنسان نفسه بغيرها لم تتحكم فيه. وأضرب لذلك مثالاً: هذه الشهوات مع الإنسان في كل وقت، لكنها في وقت تقع وتظهر وتبرز، فالطلاب أو الشباب في سن الطلب من الفتيان والفتيات يشغل بالهم شيء من أثر هذه المؤثرات، لكن إذا جاء وقت الاختبارات يحصل عندهم عمل مهم، فيحصل عندهم جهد يبذلونه في هذا العمل وتفكيرٌ ينشغلون به، واهتمام قلبي ونفسي يتوجهون به إلى هذه الاختبارات، وفي ذلك الوقت وفي هذه الفترة تجد أنهم يدعون مثل تلك الأمور جانباً وراء ظهورهم. إذاً فالأمر كذلك في كل وقت لو أننا استطعنا هذا، وعلى الشاب وعلينا أن نفقه هذه المعاني. الجانب الخامس: القوة والانتصار. القوة والانتصار يحصلان بقوة الإرادة التي تحمل الإنسان على الدواعي التي تدعوه، فيكون حينئذٍ أسيراً أو عبداً لشهواته، فمثلاً: بعض الناس من أصحاب النهم في الطعام إذا أردت أن تعذبه فامنع عنه الطعام أو قلل كميته، وإذا أردت أن تأخذ منه أي شيء فامنع عنه الطعام أو قلل الكمية ثم اطلب ما تشاء فسوف يتنازل؛ لأن فكره الأول والأخير هو في هذا، فإذا منع منه يمكن أن يعطي من ماله، ويمكن أن يتنازل، المهم أن ينال طلبه. وكذلك في جانب شهوة الجنس، فمن كانت هي أوفر همه وأعظم شغله فإنه قد يبيع أخلاقه، ويبيع دينه، ويضيع ماله، ويسيء إلى سمعته، ويسيء إلى أهله؛ لأنه جعل نفسه أسيراً لهذه الشهوة، فمتى يكون قوياً؟! فليس القوي هو الذي يتبع شهوته، بل القوي هو الذي يملكها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب). فهذا مقياس تربوي مهم لابد من أن ننتبه له، وأن نربط -أيضاً- أنفسنا بوعد الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].

التوعية عامل من عوامل العفة

التوعية عامل من عوامل العفة العامل الرابع: التوعية. وما أدراك ما هذه التوعية التي نحتاج إليها! إننا -للأسف- في كثير من مجتمعات المسلمين نجد هذه التوعية عكس المطلوب، فالتوعية التي نقصدها أن نبرز المنافع والمصالح التي تنشط من العفة ومن التزام أمر الله عز وجل، ليس بمجرد قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هذا يكفي المؤمنين، لكن بما يضاف إلى ذلك من أمور مصلحية حياتية، فإنه تحصل منافع كثيرة عندما يطبق الإنسان شرع الله عز وجل، وفي المقابل ينبغي -أيضاً- أن تبين الآثار السلبية لنوعي المجتمع -الشباب والشابات-، وذلك ببيان أن ما يجول في أفكارهم وما تطمح إليه نفوسهم بعيداً عن منهج الله عز وجل سوف يعود ضرره عليهم عاجلاً أو آجلاً أمراضاً في أبدانهم، وقلقاً في نفوسهم، واختلالاً في أمنهم، إلى غير ذلك من الأمور التي ابتلي بها من تركوا أمر الله عز وجل، ويصدق في هذه الأوضاع كلها شطر آية من كتاب الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] إنه ضنك يحصل في الاقتصاد وفي الاجتماع وفي الأمن، وفي كل جانب من جوانب الحياة، عندما يتخلف الناس عن التزام شرع الله عز وجل. فهذه التوعية أمرها مهم.

الاستعانة بالله عز وجل

الاستعانة بالله عز وجل العامل الخامس: الاستعانة. وأعظم الاستعانة هي بالله عز وجل، فإن هذا الزمان زمان فتن، وإن هذا الزمان زمان شهوات ومغريات، وزمان صار فيه شياطين الإنس أعظم كيداً ومكراً من شياطين الجن، وحاول الأبالسة أن يصرفوا الناس عن دينهم وعن عفتهم وعن أخلاقهم، حتى جاءوا بما لا يتصوره العقل، بل بما يترفع عنه الحيوان البهيمي، وبما لا يتفق مع الإنسانية في قليل ولا كثير، فلابد للإنسان من أن يستعين بالله عز وجل، وأن يكثر الدعاء، وأن يكثر الالتجاء إلى الله عز وجل حتى يعف نفسه عما حرم الله، وحتى يقوي عزمه في مواجهة هذه المغريات والمثيرات، وحتى يسهل له ما يعف به نفسه.

الأخذ بالمباح

الأخذ بالمباح الأمر السادس: الأخذ بالمباح؛ لأن الفطر والغرائز أمر من أصل خلقة الله عز وجل لا يمكن تجاهلها. ومن أعظم أسباب العفة تصريف الغرائز البشرية الفطرية الطبعية فيما أحل الله عز وجل، ولهذا أبيح أمر الزواج المبكر الميسر، ولو فتح هذا الباب لانسدت أبواب من الشر عظيمة، ولو فتح هذا الباب لسكنت النفوس، وغضت الأبصار، وعفت الألسنة، وانقمعت الفتنة من نزوات الشهوة، وزال كثير وكثير وكثير من الأمور التي تشكو منها مجتمعات إسلامية كثيرة، فقد يبلغ الشاب في سن الخامسة عشرة ولا يتزوج إلا في الثلاثين في أغلب الأحوال، فيكون في هذا الزمن الممتد عرضة لتحطيم الحواجز، ولخدش الحياء وتضييع العفة، وهكذا تبلغ الفتاة في العاشرة أو الثانية عشر ولا تتزوج إلا في العشرين أو الخامسة والعشرين. ونرى ونعلم ما يحصل -أيضاً- من تجاوز هذه الحدود العمرية -سواء في الشباب أو الشابات- في بعض المجتمعات الإسلامية التي يعجز فيها الفتى عن أن يتزوج حتى يبلغ الخامسة والثلاثين إلى الأربعين، وتعجز الفتاة عن الزواج حتى الثلاثين وبعد الثلاثين، وليس هذا كلاماً جزافاً، بل كلنا يعلمه في مجتمعات كثيرة، ونلمسه ونراه، وأعرفه في كثير من بيئاتنا ومجتمعاتنا وذوي قرابتنا. ثم نستسلم أو نقول بالأقوال التي يروجها بيننا دعاة الباطل، ومنها أن الزواج المبكر لا يتناسب مع مقتضيات العصر، ولا يتناسب مع الوعي والفكر لدى الشاب الصغير وتلك الفتاة الصغيرة. ونحو ذلك، ويحصل التعسير الذي يقع في الزواج وما ينتج عنه. فإذاً من أهم الأسباب الأخذ بالمباح من الزواج المبكر الميسر، وكذلك أبواب التعدد العادل النافع؛ فإن شرع الله عز وجل أتى بما ينفع ويشفي، وبما يدفع الضر ويبعد الأذى عن المجتمع المسلم. فهذه بعض العوامل الرئيسة التي بها تتحقق العفة في المجتمع الإسلامي الإيماني.

ثمار العفة

ثمار العفة الجانب الثالث: ثمار العفة. فماذا نجني عندما نحقق هذه العفة ونلتزمها ونشيعها بين شبابنا وشاباتنا؟ إننا نجني الثمار التالية: أولاً: السلامة من الفواحش، والفاحشة هي الأمر الذي يفحش أو الذي يتجاوز الحد وتعافه النفس والفطرة السوية، قال الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]. فإذا التزمنا بتلك التشريعات وبتلك الجوانب التي ذكرناها -من تربية إيمانية، وتشريعات وقائية، وتربية إسلامية، وتوعية تنبيهية تحذيرية، واستعانة بالله عز وجل- فكل هذه العوامل ستجعلنا بمنأى عن هذا الدنس والهاوية الخطيرة السحيقة. ومن الثمار: السلامة من أضرار الفواحش، وما أدراك ما أضرار الفواحش؟ فالعالم الغربي الذي كسر حواجز العفة يعج بالأمراض الجنسية المعروفة التي حيرت عقولهم، ودمرت صحتهم، وفتكت بهم، وزرعت بينهم الخوف والرعب، والتي سلبتهم حرية ولذة الاستمتاع الذي يسعون إليه ويجرون وراءه، وكلفتهم وراء ذلك الضرائب العظيمة والضخمة من اقتصادهم وأموالهم التي أهدرت بالمليارات في إجراء الأبحاث والتماس العلاج والطب ومراكز الأبحاث ونحو ذلك من الأمور، إضافة إلى ما ينشأ عن ذلك من اختلال الأمن والجرائم والاغتصاب مما سيأتي ذكره في الشق الآخر. ومن الثمار العظيمة: نقاء المجتمع وطهارته، فإذا وجدت هذه العفة لن ترى امرأة متبرجة، ولا شاباً متسكعاً، بل ترى جداً في الشباب وعفة في الفتيات، وترى مجتمعاً طاهراً نقياً ليس فيه ذلك الابتذال ولا تلك الدناءة والخسة. وكذلك من الثمار: قوة الإرداة التي تحدثنا عنها، والأجر والثواب العظيم من الله سبحانه وتعالى، والتوكل، لقوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فهذه العفة من الحرام فيها تجديد وتقوية وزيادة للإيمان. والعفة -أيضاً- سبب من أسباب النجاة من النار، كما ورد في حديث أخرجه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه -وتكلم بعض أهل العلم في بعض رجاله بأنهم غير معروفين- قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله). ثم -أيضاً- من أعظم الثمار الصحة وحصول اللذة؛ لأن الذين يجرون وراء الشهوات يفقدون صحتهم، ويفقدون قوتهم التي يأخذون بها هذه اللذة الجنسية، ولذلك أثبتت البحوث العلمية أن القوة باقية ومستديمة بهذا الاعتدال الذي ينشأ أولاً عن الابتعاد عن الحرام، وثانياً عن العفة بمعناها الذي ذكرناه، أو الاقتصار على القليل النافع المفيد والابتعاد عن كثير الضرر؛ لأن كل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده، وهذه مجتمعات الغرب تركت الحبل على غاربه، فليس هناك عندهم شيء ممنوع ولا محرم من زناً ولواط وشذوذ ونحو ذلك، فماذا انتهى إليه أمرهم؟ انتهوا إلى أمراض جنسية مهلكة، وإلى أمراض الضعف، وإلى أمراض أخرى، وهم الآن يبحثون عن علاجات تقوي صحتهم، إلى غير ذلك من الأمور. يقول أحد الأطباء: إنه رأى شيوخاً ناهزوا الخامسة والسبعين وهم لا يزالون في كامل قوتهم وصحتهم، وهم قادرون على المعاشرة والإنجاب، سئل هؤلاء عن سبب ذلك، فأجابوا أنهم لم يمارسوا العادة السرية في فترة شبابهم، وعندما بلغوا مبلغ الرجال لم يدخلوا في أبواب الحرام، وعندما تزوجوا أخذوا بالتوسط والاعتدال، ثم ابتعدوا عن الأمور التي يستخدمها الناس من هذه الأمور الطبية، فأبقى الله عز وجل لهم هذه الصحة؛ لأن هذا المنهج هو المنهج الطبيعي المتوافق مع الفطرة. أخي الكريم! إن ما يتعلق بكل ما قيل في ثمار الطاعة وحلاوتها، وما يتعلق بنورانية القلب، وما يتعلق بهذه المحاسن الكثيرة والمنافع العديدة التي تأتي في باب ترك المعاصي والتزام أمر الله سبحانه وتعالى من قوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن، وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، إلى آخر الأمور المعروفة كله يكون ببركة الطاعة والبعد عن شؤم المعصية وآثارها الوخيمة.

عوامل تضييع العفة

عوامل تضييع العفة الجانب الرابع: عوامل تضييع العفة. وهي في الجملة عكس ما قلناه في عوامل تحقيق العفة، لكني أشير إليها في أمور محسوسة ملموسة مما نعيشه في واقعنا، وما نلمسه في واقع مجتمعات المسلمين في كثير من بلادهم وبقاعهم.

الإثارة الإعلامية المحرمة

الإثارة الإعلامية المحرمة من أهم هذه العوامل: الإثارة الإعلامية المحرمة، وهذه اليوم هي من أعظم أسباب تضييع العفة وتهييج الشهوة والدعوة إلى الفسق والفجور، خاصة ما جاء للناس من بلاء القنوات الفضائية، وما يبثه أهل الكفر وأهل العهر من الكفرة والفاسقين والمنحلين إلى الفضاء الذي خلقه الله لننتفع به، فسخره أهل الباطل ليكون مصدراً للفساد، وهو المصدر الذي نزل منه الوحي ونزل منه النور من عند الله سبحانه وتعالى، فانظر إلى جحود الإنسان كيف يسخر النعمة في الباطل والفساد والإفساد! هذه الإثارة التي تدخل فيها المجلة الرقيعة، والقصة الوضيعة، والتمثيلية المبتذلة، والفيلم الإغرائي إلى آخر ما لا ينتهي حصراً ولا عداً ولا لوناً ولا شكلاً مما يُغزى به المسلمون في عقر ديارهم. والعجب كل العجب، والغرابة كل الغرابة، والاندهاش كل الاندهاش من مجتمعات أو أسر إسلامية تسمح أو يسمح فيها رب الأسرة أن يشاهد أبناؤه أو بناته أو هو نفسه مثل هذه الأمور ولا يرى في ذلك غضاضة، ولا يرى فيها خبراً حتى إذا وقع الفأس في الرأس قال: من أين هذا؟ سبحان الله! ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فكثيرون من الآباء -وربما الأمهات- لا يفكرون تفكيراً جاداً، ولا ينتبهون انتباهاً صحيحاً لما يقولون، بل يكونون هم سبباً وعاملاً رئيساً من عوامل وقوع أبنائهم في الأمور المحرمة، أو وقوعهم بعد ذلك فيما لا تحمد عقباه مما يترتب عليه مخاطر وأضرار كثيرة.

التغريب الفكري والعملي

التغريب الفكري والعملي ثانياً: التغريب الفكري والعملي، فبعض الناس اليوم أمامه كل الاتجاهات الأربعة، ولكنه لم يعرف إلا الاتجاه الغربي، فنسي الشمال والجنوب والشرق، وليس هناك أمامه إلا الغرب، فقبلته إذا توجه الغرب، وفكره إذا فكر الغرب، وبعض الناس فتنوا بهذه الحضارة وبهرجها، ونظروا إلى أحوالهم على أنها هي التأخر والرجعية والتخلف وغير ذلك من السمات والأوصاف، وأشاع بعض الناس من الذين فتنوا من الكتاب أو القصاص أو المفكرين أشاعوا هذه القالة بين الناس وبين مجتمعات المسلمين، وأنه لا تقدم إلا في الغرب، ولا حضارة إلا في الغرب، ولا أدب ولا سلوك إلا في الغرب إلى آخر ذلك. ومثل هذا أيضاً الجانب العملي، وذلك بما وقع -أيضاً- في كثير من بيئات المسلمين بالسفر المتكرر والاختلاط الدائم بهذه البيئات التي انحلت حتى تحللت، فلم يبق فيها شيء مرتبط بشيء مطلقاً، حيث ظهر السفر والسياحة في تلك البلاد، وشد كثير من المسلمين رجالاً ونساءً وأسراً وشباباً وشابات رحالهم وتوجهوا إلى تلك البلاد، فحصل من ذلك ما حصل من الأمور التي نعرفها.

الدعوة إلى تحرير المرأة

الدعوة إلى تحرير المرأة ثالثاً: استعباد المرأة الذي يسمونه (تحرير المرأة)، الذي سخر المرأة لتكون فتاة إعلام وفتاة غلاف، وعراها لينظر إلى جمالها ثم يضحك عليها، وتُنَصَّب هذه ملكة للجمال، وتلك ملكة لجمال الورود، وتلك ملكة لجمال الأشجار، وثالثة ملكة لجمال البحار إلى غير ذلك مما يضطرب فيه العقل ويحار، وكل ذلك كان من أعظم أسباب الفساد والإفساد، حتى في تلك المجتمعات، وهكذا من قلدهم –وللأسف- من مجتمعات المسلمين.

التسيب الاجتماعي

التسيب الاجتماعي رابعاً: التسيب الاجتماعي على المستوى العام والخاص، أما على المستوى العام فنراه -وللأسف- في كثير من البلاد الإسلامية من إقرار الاختلاط في التعليم بمراحله المختلفة، وسأذكر بعض ما يقولون من الأوهام والأباطيل مما يقال ويشاع بين الناس، وأنه ليس هناك ضرر من هذا الاختلاط، وأن العفة في القلب، وأن الثقة ينبغي أن تعطى للفتاة، وغير ذلك مما يقال. فهناك تسيب اجتماعي على المستوى العام، وهناك تسيب اجتماعي على المستوى الخاص في دائرة الأسرة، فهذا ابن عمها، وهذا ابن خالتها، وهذا صديق ابن عمتها، حتى صار الرجال كلهم كالمحارم! والعجب -أيضاً- مما يقع من التفريق الذي لا أساس له من الصحة ولا منطق له بالعقل، فتجد في بعض المجتمعات التي فيها بعض المحافظة تتحجب الفتاة ولا ترى الأجانب من الرجال، لكن تكشف أو تتكلم أو لا تراعي هذه الأحكام الشرعية مع السائق أو مع الخادم، وتقول: هذا سائق. أو: هذا خادم! أو العكس بالنسبة للشباب: هذه خادمة. أو هذه مربية! فيا سبحان الله! فكل خادم أو سائق أو عامل أو تاجر هو رجل، وكل مربية أو أستاذة هي امرأة. فهذه من الأمور والثغرات التي ترخص فيها الناس وجنوا من ورائها الحنظل والعلقم والمر، ووقعت من وراء ذلك ما وقعت من المشكلات والأمور التي نسمع عن بعضها، وقليل منها في مجتمعنا، ونسمع عن الكثير في مجتمعات أخرى.

تعسير المباح

تعسير المباح الجانب الأخير: التعسير للمباح الذي يدفع إلى التيسير في المحرم، فنعرف اليوم ما يشاع من أمور لابد من توافرها للزواج، ومن مهور غالية، وأنه لابد من سكن شكله كذا، ولابد من أثاث لونه كذا، ونحو ذلك مما عقَّد الأمور وصعبها، حتى غدا النادر من الشباب من لا يستطيع الزواج إلا بعد معاناة شديدة، وربما بعد وقوع في حمأة الرذيلة بصورة أو بأخرى، نسأل الله عز وجل السلامة والعافية.

الرد على بعض الأوهام والشبهات التي يروجها من يريد هدم العفة

الرد على بعض الأوهام والشبهات التي يروجها من يريد هدم العفة هناك بعض الأوهام والشبهات التي يروج بها أهل الباطل مثل هذه الثغرات، وأسرد سرداً، ثم أذكر بعض التفصيل، فهذه الموجة الإعلامية الانحلالية مقبولة بحجة الترفيه والترويح عن النفس، ولا شيء فيها؛ لأن الإنسان أو لأن الشباب والشابات عندنا -بحمد الله- عندهم عقول، ولأن المجتمع عندنا -بحمد الله- محافظ! وهكذا نقول الأقوال الوهمية والدعاوى غير الحقيقية، ونغالط أنفسنا، ثم نقف بعد ذلك أمام النتيجة المرة. وننبه على جانب واحد من هذه الجوانب يتعلق بالنساء على وجه الخصوص، ومن يقوم على شئونهن من الأزواج والآباء، إنه أمر الحجاب، فتجد كثيراً من الفوارق والمفارقات العجيبة، فهناك دعاوى كثيرة. منها: أن الطهارة والعفة في القلب، فلا تغرنك المرأة المحجبة التي قد تجلببت بالسواد، وأرخت الحجاب على وجهها وكذا، فإنه كم وراء الحجاب من فتاة تتوصل بهذا الحجاب إلى الفتنة أو إلى الفساد. وهذه كلمات يقولونها وينمقونها، وكم من فتاة لا يضرها أن تكشف عن وجهها أو أن تحسر عن شعرها أو تبدي ذراعها؛ لأنها واثقة من نفسها. وهذا هو الذي يصبونه في الآذان صباح مساء، من خلال البرامج الإعلامية، فهذه فتاة تقول: أنا واثقة بنفسي، أنا مؤمنة بقدرتي وقوتي. ثم بعد ذلك تزول هذه الثقة، وتتحطم هذه القوة، ويحصل ما يحصل مما يعلم! ومنها -أيضاً- أن الفتاة تقول: ما زلت في سن الشباب، فإذا كبرت تحجبت. وهذه -كما يقولون- البضاعة البائرة التي تنزل في السوق ولا يريدها أحد، فتتحجب بعد أن تكون عجوزاً، ولو لم تتحجب وهي عجوز ما نظر إليها أحد، وما سأل عنها أحد، ولا تكلم معها أحد، بل قد جاء التشريع القرآني بأن القواعد من النساء يختلفن عن غيرهن؛ لأنهن لا ينظر إليهن، ولا يرغب فيهن، فالحجاب إنما يكون للمرأة في سن الشباب. والعجب أنك ترى امرأة كبيرة في السن عليها وقار الحجاب ونور التستر وسيما الحشمة وهي تمسك بيد ابنتها وقد تكشفت وتبرجت وتعطرت وتغنجت، فإذا سئلت هذه المرأة المحجبة والأم المربية قالت: دعها تتمتع بشبابها؛ فإن العمر فيه فسحة! فهذا أيضاً من الأمور العجيبة التي سرت –وللأسف- في مجتمعات المسلمين. وثالث هذه الأوهام والأباطيل القول بأن كل ممنوع مرغوب، فإذا حجبت المرأة رغبنا فيها، فاكشفوا عنها حتى تصبح أمراً عادياً ولا تلفت النظر. فيا سبحان الله! لو كان الأمر كذلك فمن أين جاء الاغتصاب الذي نسمع عنه هناك في تلك البلاد، ولو كانت هذه القضية تنتهي إلى هذا الحد الذي يتصورونه ببلادة ذهن وغباء عقل لما كان بين الرجل وزوجته عشرة؛ لأنه سيألفها وسيراها، وبالتالي تصبح عنده شيئاً عادياً وكأنما هي جزء من الأثاث، فهؤلاء يغالطون أنفسهم، وينسون أصل خلقة الإنسان وفطرته، وهذه -أيضاً- من الأمور التي تروج بين كثير من فتيات المسلمين. وأيضاً من هذه الأمور أن بعض الفتيات تقول: سأتحجب، ولكن عندما أقتنع أولاً، فنحن نريد أن تكون عندنا قناعة، ونريد أن نثبت من هذا بالعقل. بمعنى أنها لا تريد أن يكون الحجاب مجرد حكم شرعي، وهذا لا شك أنه من جهة أخرى أمر عظيم، ولكن هل هي تريد أن تقتنع حقيقة أم أنها تفرح ببعض جمالها وشبابها وتريد أن تغري أو أن تبدي؟! وكذلك في هذا الباب أن بعض الفتيات تقول: أريد أن أتبرج أو أتكشف قليلاً حتى أرغب بعض الشباب في الزواج بي، فهي تعرض نفسها حتى يأتي -كما يقولون- فارس الأحلام فتتزوج، وحينئذٍ -إن شاء الله- تتحجب. فنقول: سبحان الله! أي مبدأ هذا؟! إنه مبدأ اليهود الذي يقول: إن الغاية تبرر الوسيلة. فهي تريد أن تتزوج، لكن ما الذي يضمن لها أن لا تختطف وأن لا تغتصب، فما دامت معروضة لهذا الغرض فقد يأتي الغرض على غير ما تريد، وهذه كلها أباطيل وحيل إبليسية شيطانية. ومن قائلة أيضاً: إن الحجاب يعيق عن الحركة، والأجواء الحارة أيضاً لها أثر في هذا! إلى غير ذلك من أمور كثيرة شاعت بين المسلمين وللأسف الشديد.

المخاطر الناشئة عن ترك العفة

المخاطر الناشئة عن ترك العفة أختم بما يتعلق بالمخاطر الناشئة عن ترك العفة، وهذه قد عرجنا عليها في أثناء حديثنا، والحقيقة أن التفصيل فيها بالإحصاءات والأرقام التي وقعت في المجتمعات التي تركت كل مبدأ وكل خلق وكل فضيلة فضلاً عن أنها تركت كل دين وتشريع، فهناك مخاطر أمنية، فلم يعد هناك أمن على النساء ولا على الأعراض ولا على الأموال، واختلط الحابل بالنابل في هذا الشأن، وهناك المخاطر الصحية من هذه الأمراض الفتاكة التي ابتلى الله عز وجل بها أولئك القوم؛ لأنه قد ورد في حديث -وإن تكلم فيه بعض العلماء بالضعف-: (ما فشت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم). وهذا في الحقيقة واقع في هذا المجتمع المعاصر، وفي البيئات المنحلة الإباحية. وهناك -أيضاً- أمور خطيرة، وهي المتعلقة بتغير الفطرة الإنسانية، حيث وجد الشذوذ من خلال هذه الإباحية التي تركت العفة والحصانة، ووجد -أيضاً- التخنث من الرجال بالنساء، ووجد الاسترجال من النساء بالرجال، وظهر ما يسمى بالجنس الثالث، فلم تعد المرأة امرأة فيها حياء ورقة وأنوثة، ولم يعد الرجل رجلاً فيه شهامة وقوة ورجولة، فلم تعد الأمور تتبين. يقول الشيخ الطنطاوي حفظه الله في بعض كتبه: إنه ركب مرة في إحدى المواصلات العامة في بعض البلاد العربية الإسلامية، قال: فرأيت إنساناً لم أستطع أن يتبين لي هل هو رجل أو امرأة. لشدة ما قد يختلط في هذا الجانب، وهذا فساد عظيم. ومن أعظم المخاطر تحطم الأسرة، فقد تحطمت الأسرة، ولم يعد هناك رباط زوجي؛ لأنه لا داعي للزواج ما دام هذا الأمر متاحاً مباحاً، وتحطم الأسرة به تحطم المجتمع، وأيضاً فوق هذا كله هناك ضياع للأطفال وتشردهم وسيرهم في الخط الإجرامي الذي يتوه فيه هؤلاء ويعبثون في المجتمع وأمنه. وأيضاً قلة نسبة المواليد، والابتعاد في ضرورة هذه الإباحية عن الإنجاب، وعن تكوين الأسرة، إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ويعلم في كثير من الأحوال عند كثير منا أمره. نسأل الله عز وجل أن يجنبنا هذه المخاطر، وأن يرزقنا العفة والحصانة لنا ولنسائنا ولأبنائنا وبناتنا ومجتمعاتنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

الأسئلة

تربية الأولاد بين توجيه البيت وهدم المدرسة والشارع

تربية الأولاد بين توجيه البيت وهدم المدرسة والشارع Q نحاول توجيه بناتنا وأولادنا بالقدوة الحسنة في البيت، ولكن المدرسة والشارع قد يعيقان التوجيه، خاصة في مسألة تربية البنات وتوجيههن للحجاب، فنريد التوجيه للطريق الذي نسلكه في التربية والتوجيه بما لا يأتي بأمور عكسية، خاصة في أمور الفتيات؟ A السؤال مهم وخطير وواقعي، فلذلك أقول: في المجتمع المتكامل إسلامياً تجد أن العوامل الأخرى تعينك وقد تكفيك المئونة، أما في مجتمعات لا تطبق الإسلام، أو يكون التطبيق الإسلامي فيها منتقضاً في أكثر جوانب الحياة فتجد أن دورك يحتاج إلى أن يكون مضاعفاً؛ لأنها قضية محسومة، فلكل فعل رد فعل يضاده في الاتجاه ويساويه في القوة، فهناك فعل كثيف وهجوم شديد يحتاج إلى قوة في الرد، لذلك أهم وأولى ما يعتنى به التنشئة في الصغر؛ لأن الطفل يشب على ما تعود، سواء في ذلك الفتى والفتاة، وهذا أمر مهم. الجانب الثاني: الترسيخ الإيماني لكل المعاني الإيمانية المتعلقة بالرقابة والمخافة من الله عز وجل، وهذا أهم؛ لأنه لا يستطيع الأب ولا الأم مطلقاً أن يفعلا -كما يتصور بعض الآباء والأمهات- رقابة صارمة دائمة، سواء بالقوة أو بالسوط أو بالصراخ، فكل ذلك لا يفيد؛ لأنك -أيها الأب- ستخرج من البيت، وستغيب قطعاً، وتنشغل أحياناً، وهنا إذا زال هذا الجانب الرقابي وليس هناك جانب داخلي يحصل الانحراف والتفلت. الجانب الثالث: استمرار الإبعاد عن الأمور المثيرة المحرمة قدر الاستطاعة، فإذا علمت أن ثمة –مثلاً- مناسبة اجتماعية فيها بعض الأمور المحرمة فعليك أن تنأى بنفسك عنها، ولتبتعد عنها، ولتبعد أهلك عنها. الجانب الرابع: توفير الأجواء الطيبة الطاهرة العفيفة النقية في كل مجال قدر الاستطاعة. وأما الجانب العملي فزواج الشباب والشابات في أقرب الأوقات، وبأيسر الأمور قدر الاستطاعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة وهي ابنة ست، ودخل بها وهي ابنة تسع. فهل نحن خير أو أعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم لماذا هذه المغالطة؟ فـ الشافعي رحمه الله قد قال: رأيت جدة لها واحد وعشرون عاماً. أي أنها كانت بلغت وعمرها تسع سنوات، وهو السن الأقل في البلوغ غالباً، فتزوجت وعمرها عشر سنوات فأنجبت بنتاً، فبنتها بعد تسع سنوات تزوجت، وكانت الأم قد بلغ عمرها عشرين، وبعد سنة ولدت البنت فصارت أمها جدة وعمرها واحد وعشرون، ولذلك من عوامل التربية قلة الفارق في السن بين الآباء والأبناء والأمهات والبنات. وأما اليوم فيكون الرجل في الأربعين وينجب له أول ولد يتدرب عليه، ويتعلم -كما يقولون- الحلاقة في رأسه، ولم يتعود على القرب من ابنه، وكثيرون منا لا يستطيعون أن يخاطبوا أبناءهم الصغار، ولا يستطيع أن يتحاور معه، وفي الغالب لا يتكلم معه، ودائماً الابن مع أبيه ساكت لا يتكلم، والكلام هو الأمر: اذهب وأحضر، اذهب، افعل، لا تفعل. بينما عندما يكون هناك التقارب في الشيء تجد الفرصة لممارسة التربية والتوجيه الأكبر، ثم نحن لماذا نستصغر الشباب؟ نستصغرهم لأننا فقدنا المعاني الإيمانية والتربوية، فهذا أسامة بن زيد قاد جيشاً وهو ابن السابعة عشرة، ومحمد بن القاسم فتح الهند والصين وهو في السابعة عشرة! وأما نحن اليوم فنرضى أن يكون القائد متزوجاً، لكننا ننظر إلى الطالب في السنة الثالثة الثانوية وننظر إليه كأنه ما زال رضيعاً، فهذه النظرة نحن أوجدناها، ثم بنينا عليها ما بنينا من الأحكام، بل قل: الأوهام. فهذا -أيضاً- أمر مهم، فكل يأخذ بما يستطيع ويجد ويخلص، ومن كان مخلصاً سهل الله عز وجل له، ويخاف الناس الآن من أمور المعاش، مع أن الرازق هو الله عز وجل، وقد يقولون: هذا كلام صحيح، ونحن نؤمن أنه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] لكننا لا نريد أيضاً أن نكتفي بالقليل وبالكفاف، بل نريد أن نأكل خمس وجبات في اليوم، ونريد أن يكون عندنا العديد من أنواع الأثاث. ونحن فرضنا أشياء وأموراً لا حاجة لها، ولو نظرنا إلى أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيات أزواجه، ولو نظرنا إلى سلمان رضي الله عنه لوجدنا عجباً، وستقول لي: ذاك في عصره! فأقول: نعم. ولكن هناك نسبة في الأمور، فهل لابد من أن يكون عندك فلة؟! أو يكون عندك كذا غرفة؟! نسأل الله عز وجل السلامة.

كيفية التخلص من فتنة الصور

كيفية التخلص من فتنة الصور Q أشكو من مشكلة التعلق ببعض الصور في ذهني، حيث تعاودني أحياناً وتسبب لي مفاسد كثيرة، فما هو الحل؟ A الذاكرة التصويرية هي إحدى المعجزات الربانية عند الإنسان، فنحن قد نلتقي فيرى بعضنا بعضاً، ثم نفترق، لكن في ذهني أستطيع أن أتصور الصورة، وأتخيل المجلس ومن فيه وكيف كان، ومن كان متبسماً، ومن كان متكئاً، ومن كان ناعساً إلى آخره، فهذه القدرة تجعل الإنسان يستعيد الصور، فإذا رأى صوراً محرمة أو مثيرة تكون إثارتها في وقتها، لكنه لا يسلم بعد ذلك من شرها. لذلك قال ابن القيم رحمه الله تعالى مقالة نفيسة طويلة أشير إليها إشارة، قال فيها: دافع الخطرة. أي: الخاطر الذي يمر ادفعه مبكراً ولا تجعله يأتي؛ لأنه بعد أن يدخل سيصعب إخراجه. قال: دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة -أي أنها كانت في الخارج فجاءت إلى الداخل- فدافعها، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت همة وعزيمة، فقاومها، فإن لم تفعل وقعت في المحذور، فتداركه بالتوبة وبضده، فإن لم تفعل تعودت عليه، وصعب عليك الانتقال منه. ثم -أيضاً- مثل في مقالة أخرى بمثل، وهو الحب والرحى، أي: الرحى التي تطحن الحب، يقول: إن جئت في هذه الرحى بتبن وبعر فطحنته فسيكون هذا هو الناتج. فإذا أدخلت أفكاراً سيئة وصوراً رديئة وطحنتها في فكرك فسيتبلور هذا الفكر إلى مسارات عملية محددة من جنس تلك الأفكار، فمن فكر في الجهاد ومن فكر في الدعوة ومن شغل باله العلم طحنت هذه الأمور طحناً، فجاءت حباً نظيفاً مغربلاً يستفيد منه الإنسان.

وجوب غض البصر عن الحرام

وجوب غض البصر عن الحرام Q في غض البصر يكون هناك صراع، والنفس تدعو، والقلب يشتاق، فكيف المخرج من نظرة البصر؟ A يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك شيئاً لله عز وجل عوضه خيراً منه)، ويقول (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) قال أهل العلم: من هم بها متمكناً قادراً عليها ثم تركها لله عز وجل وخوفاً وارتداعاً بالإيمان كتب له بذلك حسنة فتفكر -أخي- في عواقب الأمور وفي عاقبة الهوى وعاقبة النظر، قال الشاعر: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر وهذا مثل الذي يجعل نظره دواراً، وأذكر أني ركبت مرة مع أحد أصحاب التكاسي، فوجدت على طبلون السيارة مكتوباً: حرم الله الزنا ولم يحرم النظرة! ومكتوب أيضاً: العين بحر! يقول هذا القائل: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر ولو كنت عطشان ترى الماء لكنك لا تشرب منه فما هي الفائدة من رؤيته؟ لو لم تر الماء لكان أحسن لك، ولكنت مرتاحاً وهادئ البال، فإذا تركت النظر فأنت في أمن وسلام وطمأنينة بإذن الله عز وجل.

حكم من يدخل أقاربه على زوجته

حكم من يدخل أقاربه على زوجته Q زوج أختي يدخل بعض أقاربه على زوجته، ومنعته كثيراً ولم ينته، فهل إذا وجدت رجلاً في البيت وهو غير موجود أبلغ أمن الهيئة؟ A خذ الأسباب الشرعية النافعة والمفيدة، وكرر الوعظ والنصح، فبعض الإخوة يقول: قد نصحته فما انتصح. فأقول: يا أخي! كرر لعل القلب كان لاهياً فيتذكر، ولعله في مرة من المرات كان غارقاً في الأمور المحرمة ومرة يتيقظ، فلا تيأس وحاول.

الطلاق حكم وأحكام

الطلاق حكم وأحكام إن الناظر بنظرة عميقة إلى مشروعية الطلاق في الإسلام يجد أن الشرع لم يسن الطلاق إلا لحكم عظيمة قد لا يدركها كثير من الناس اليوم، وخاصة لمن يسمع الشبهات التي تثار حول هذا الموضوع من أعداء الدين، ومن هذه الحكم: الحاجة الماسة إليه عند تعذر الحياة الزوجية بين الزوجين، وقد جعله الشرع بيد الرجل؛ لأنه أكثر تحملاً وتعقلاً وصبراً من المرأة، كما جعل الخلع من حق المرأة بضوابطه الشرعية؛ حتى يحفظ لكل من الرجل والمرأة حقه.

الحكم المتعلقة بالطلاق

الحكم المتعلقة بالطلاق الحمد لله أتم النعمة، وأكمل الدين، ورضي لنا الإسلام ديناً، أحمده سبحانه وتعالى على ما أنعم علينا به من الإيمان، وما أكرمنا به من الإسلام، وما وفقنا له من الطاعة والالتزام، أحمده جل وعلا حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً يكافئ فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! ما يزال حديثنا موصولاً في موضوع المرأة والأسرة، وما يتصل ببناء المجتمع الإسلامي في هذا الشأن العظيم المهم من شئونه الاجتماعية. وحديث اليوم يتصل بأمر من الأمور التي يكثر فيها مخالفة الناس لشرع الله، والتي يكثر فيها جهل الناس في ذلك الأمر بشرع الله، ويختلط عليهم كثير من حكمه وأحكامه. هذا الموضوع بعنوان (الطلاق حِكم وأحكام)، فيه أمور مهمة، وهو في حد ذاته وما يتصل به في شأن الأسرة من أعظم وأهم الأمور التي يحتاج المجتمع الإسلامي إلى معرفة الأحكام والاطلاع على الحكم فيه، والبعد عن مخالفات شرع الله سبحانه وتعالى؛ لما يترتب على ذلك من تهديم الأسر، وتقويض البيوت، وتشتيت الأبناء، وتقطيع الأواصر بين أسر المجتمع الواحد. والناظر بنظرة غير عميقة ولا مستقصية لحكم التشريع وأحكام الله سبحانه وتعالى، والذي يذعن ويسمع للشبهات المثارة حول هذا الأمر، يظن لأول وهلة أن الطلاق شر كله، والنساء على وجه الخصوص ينظرن هذه النظرة أكثر من الرجال، والحق أنه ليس في شرع الله عز وجل إلا الخير المحض، وإلا الصلاح التام، وإلا الكمال المطلق، ولا يأتي النقص ولا يظهر الشر إلا من سوء أفهام الناس ومن مخالفتهم لتشريع الله سبحانه وتعالى. فلنقف هذه الوقفات المهمة في هذا الشأن الخطير من شئون الأسرة والمجتمع.

الحاجة إليه

الحاجة إليه إن الحاجة إلى الطلاق أمر قد تفرضه طبيعة الحياة، فما هو الحل إذا انقبضت النفوس بين الزوجين، وحصلت النفرة واختلاف القلوب بينهما، أو وجد من أسباب النزاع والخلاف واختلاف وجهات النظر ما لا يكون معه وفاق ولا اتفاق؟! لو لم يكن ثمة مخرج لهذا التشريع وما فيه من الأحكام والضوابط لانقلب الأمر إلى جحيم لا يطاق، ما ظنك بزوج وزوجة يرغمان على الحياة معاً تحت ظل سقف واحد وهما يبغضان بعضهما ولا ينسجمان مع بعضهما؟! كيف يكون الحال؟ سيوجد عسف وظلم واعتداء من الرجل، ونكود وجحود وإعراض من المرأة، وضياع للذرية وللجيل الناشئ في ظل هذا النزاع والشقاق والخصام الذي ينفرط معه العقد، والذي لا تتحقق بالوجود في ظله الأهداف المنشودة للأسرة الإسلامية، من حصول الأنس والمودة والسكن بين الزوجين، وحصول الرعاية والتربية والتنشئة الصالحة للذرية، ومن ثم إذا تعذرت استمرارية الحياة الزوجية بما يحقق أهدافها كان الطلاق في هذا الشأن نوعاً من العلاج، ودواء يشفي هذه الأسقام داخل الأسرة، ومعلوم أثر هذه الأسقام وما تنشئه من بلايا ورزايا في المجتمع كله، فإن الرجل قد ينطلق في خارج هذا الجو المحموم والمرأة كذلك، فيحصل من ذلك من الفساد المعنوي والحقيقي ما الله سبحانه وتعالى به عليم. والمسيحية في بعض مذاهبها تمنع الطلاق؛ تزعم في ذلك أنها تقدس الطلاق، وتزعم في ذلك أنها تكرم المرأة وتحفظ حقها، ومع ذلك يشهد الواقع بأن مثل هذا الأمر غير مقبول على الإطلاق والدوام، وغير منضبط أو متحقق في سائر الأحوال والزيجات، ولابد أن هناك ما يستدعي وجود الطلاق، ولذا قال بعض أولئك الذين كانوا في ظلال المسيحية ثم أكرموا بنعمة الإسلام: لقد حرّمت المسيحية الطلاق، لكن في الوقت نفسه نجد أنظمة بلادها وقوانينها الرسمية تنص على إباحته، وفي المقابل أيضاً فإن الغرب الذي في بعض مذاهبه يمنع الطلاق فيه اليوم نسبة الطلاق أعظم بكثير وبأضعاف مضاعفة من نسبة الطلاق في مجتمعات المسلمين؛ لأن الطلاق في الإسلام له أحكامه وآدابه، التي لو التزمها أبناء الإسلام لما كثرت وفشت فيهم نسبة الطلاق. إذاً: فإن هذا الأمر هو من الدواعي التي قد تقتضيها شئون الحياة، فلما كان كذلك مما تقتضيه الحياة ومما تقتضيه الفطرة جاء شرع الإسلام به.

الحكمة من جعل الطلاق بيد الرجل

الحكمة من جعل الطلاق بيد الرجل إن جعل الطلاق وأمر فصم عروة الزواج بيد الرجل له حكم عظيمة جليلة. إنما جُعل للرجل في مقابل ما كان منه من إنفاق في المهر ومن تكلفة في النفقة وغير ذلك. كذلك الرجل بطبيعة خلقته وفطرته أكثر تحملاً للمشكلات، وأكثر صبراً على المعضلات، وأوسع صدراً فيما يتعلق بالمنغصات، وبالتالي فإن له خصيصة أخرى إذ هو أكثر تغليباً للعقل على العاطفة، وأكثر ترجيحاً لعواقب الأمور من أوائلها، ومن ثم فإن تقديره لما يترتب عليه الطلاق من مخاطر ومضار عليه وعلى زوجه وعلى أبنائه أكثر مما قد يكون من تقدير المرأة التي تغلبها عاطفتها، والتي قد تندفع عند غضبها، إذ لو كان الأمر لها لكان منها الطلاق في كل يوم ربما عدة مرات، كلما غضبت من زوجها في أمر أو قصر في حق أو لم يشتر لها ما تطلبه. وهذه حكمة من حكم الله سبحانه وتعالى، مصلحتها للمرأة كما هي للرجل؛ إذ لو جعل الأمر للمرأة لتسرعت بحسب عاطفتها ثم تندمت، فما عسى الندم أن ينفعها حينئذ. أما أهل الغرب الذين لا يدينون دين الإسلام فقد لفت نظرهم هذا التشريع الحكيم، فقال أحدهم وهو يحلل هذه الحكم التشريعية: والغرض من هذا التقييد للمرأة في المبادرة إلى الطلاق هو وضع حد لممارسة الطلاق؛ لأن الرجال يعتبرون أقل استهدافاً لاتخاذ القرارات تحت اللحظة الراهنة من النساء. فالرجل ليس سريعاً في اتخاذ القرار عند أدنى عارض أو عند أدنى غضب، وهذه ميزة في الأصل، أما من خالف هذه الحكمة فليس هو حجة على دين الله، بل دين الله عز وجل حجة عليه، ومبين لخطئه وزلله.

الحكمة من جعل الخلع من حق المرأة وضوابط ذلك

الحكمة من جعل الخلع من حق المرأة وضوابط ذلك لئن كان هذا الحق للرجل فإن للمرأة حقاً أيضاً يكافئ هذا الحق، ويجعل له حده وضوابطه التي تتحقق به المصلحة، فللمرأة حق الخلع في مقابل حق الطلاق للرجل؛ لأن المرأة قد تقول: هذا الرجل متى أبغض المرأة له حق أن يطلقها، فما شأن المرأة إذا أبغضت زوجها، أو إذا لم تشأ أن تستمر في الحياة معه، بحيث لا يكون ذلك لأدنى سبب ولا لأتفه عارض وإنما لسبب جوهري؟! فهل يحكم عليها أن تبقى في عقده وتحت سلطانه وهي غير راضية أو غير راغبة في ذلك؟ A كلا، فإن لها حق الخلع من زوجها، ولكن هذا لا يكون أيسر كما في الأمر الأول، بل له ضوابط منها: أنه ينبغي للمرأة أن تبدي الأسباب التي تستدعي الخلع للقاضي الذي يقضي بذلك ويعطيها حقها، وقد وقع ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع في صورة تبين فيها رعاية الإسلام لحق المرأة ومراعاة مشاعرها وعواطفها، والحفاظ على حياتها وعلى استمراريتها على ما يترجح فيه مصلحتها. فهذا ابن عباس كما في صحيح البخاري وغيره يقول: (إن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني لا أعيب على ثابت في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام)، وفي رواية أخرى عند البخاري: (ولكني لا أطيقه) أبدت أنها قد انقبضت من نفسها، وتمكن كرهه وبغضه من قلبها، وأنها لا تعيب عليه في خلق ودين، فكيف لو كان يعاب في خلق ودين بحكم الشرع؟! لكان لها حق أولى من هذا. قالت: (إني لا أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني لا أطيقه). وفي الرواية الأخرى: (ولكني أكره الكفر في الإسلام). قال بعض أهل الشروح من المحدثين: إنها تكره أن تكفر العشير؛ لما في قلبها من بغضه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ -أي: التي دفعها لها مهراً لها عند زواجه بها- قالت: نعم، قال: فردي عليه حديقته، وفسخ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها). فهذا يدل على هذا الحق، ولكن ليس الأمر مرسلاً ومطلقاً على ما قد تقتضيه أهوية النساء، أو تدفعهن إليه عواطفهن، فإن هذا الأمر جد خطير، إنه فصل لميثاق غليظ ولعقد عظيم قد عظمه الله عز وجل وعظم شأنه؛ فلذلك ينبغي ألا يكون هذا الأمر مفهوماً عند النساء أو عند المرأة على صورة ساذجة، كما قد تتأثر بوسائل الإعلام والتمثيليات، إذا كلمها زوجها كلمة ما قالت له: طلقني، أو قالت له: لا أستطيع الحياة معك، كلا، فقد ورد في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (أيما امراة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه. قوله: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس) أي: إن كان هناك بأس وأمر مشروع فلها أن تطلب الطلاق، أما إن كان من غير ما بأس وإنما لمجرد التشهي والهوى، أو لمجرد الإغراء والإغواء، أو التأثر بالأجواء الاجتماعية والأعراف غير الشرعية؛ فإن هذا من أعظم الأمور وأخطرها.

ترغيب الإسلام في النكاح وتبغيضه الطلاق

ترغيب الإسلام في النكاح وتبغيضه الطلاق إن ترغيب الإسلام في النكاح وتبغيضه للطلاق يدلنا على أن الأمر له إطاره العام، وله ضوابطه المحكمة، فما أكثر الآيات والأحاديث في الترغيب في النكاح، وما ورد من آيات وأحاديث عن التعدد وما يترتب على ذلك من المنافع والمصالح، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النكاح من سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فهذا الترغيب في هذا العقد مع عظمه ووصف الله عز وجل له بأنه الميثاق الغليظ لم يكن بعد هذا كله ليفسخ أو يترك هملاً للأمزجة والأهواء لتلعب به. ومن الأدلة على تبغيض الشرع للطلاق ما اشتهر بين الناس عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وهذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو حديث مرسل، وله شواهد من حديث معاذ ولكنه منقطع، ومن حديث علي ولكنه ضعيف، وإن كان معنى الحديث صحيحاً، وتشهد له أحاديث أخرى. وهذا حديث بريدة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه. قوله: (من خبب) أي: من أفسد. وتأملوا في هذا الحديث، من أفسد المرأة على زوجها كما يحصل في واقع مجتمعات المسلمين، وكما يحصل في كثير مما يذاع ويشاع في وسائل الإعلام، مثل: اطلبي منه كذا، افعلي معه كذا، انظري إلى فلانة فهي كذا، حتى يفسدوا المرأة على زوجها؛ فيحصل الشقاق، وقد يتبعه الطلاق، لكن جعل الإسلام وجعل نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام هذا الأمر من الأمور الخطيرة، التي لا تمت للإسلام ولا لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم بصلة. وهذا حديث أبي هريرة أيضاً عند ابن حبان في صحيحه، ورواه أبو داود والنسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها). وقد أشار نبي الإسلام إلى أن شأن الطلاق هو من أعظم ما يفرح الشيطان، ومن أعظم ما يبلغ به الكيد بين الرجل والمرأة، ففي صحيح مسلم من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه -أي: من الشياطين- فأدناهم منزلة منه أعظمهم فتنة -أي: الذي يكون عظيم الفتنة والإفساد بين عباد الله هو الذي يكون مقرباً إليه- فيأتون إليه فيقول أحدهم: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما فعلت شيئاً -يعني: هذه فتنة يسيرة ليست عظيمة- حتى يأتيه أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه إبليس منه ويقول: نعم أنت فيلتزمه)؛ لأنه عمل أعظم نتيجة إبليسية شيطانية في مجتمع المسلمين، وهي الإفساد ما بين الرجل والمرأة. إذاً: الإسلام قد جعل هذا الأمر غير مرغوب فيه، وجعله من أساليب الشيطان ومن أعظم الفتنة، وجعل السعي فيه ليس من سمت المسلمين في شيء.

الأحكام التشريعية العامة المتعلقة بالطلاق

الأحكام التشريعية العامة المتعلقة بالطلاق قبل أن ننظر إلى الطلاق فلننظر إلى أحكام الإسلام وتشريعاته في هذا الشأن كله، فإن هناك أمرين وتشريعين مهمين وهما من أعظم التشريعات التي لو التزمهما الرجال والنساء لضاقت دائرة الطلاق، حتى يكون في دائرة محدودة بحيث يتعين الطلاق ويصبح علاجاً.

الأمر بالعشرة الحسنة والإحسان للزوجات من قبل الأزواج

الأمر بالعشرة الحسنة والإحسان للزوجات من قبل الأزواج يقول الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وهذا نبي الهدى عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، -أي: لا يبغضها- فإن سخط منها خلقاً رضي منها آخر)، هذا الإحسان من الرجل لزوجته أمر قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب التفاضل في ميزان الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، هذا الأمر لو تحقق به الرجال لما طلبت المرأة السبيل إلى الشقاق أو النزاع فضلاً عن السبيل إلى الطلاق.

حسن تبعل المرأة لزوجها وطاعتها له

حسن تبعل المرأة لزوجها وطاعتها له في المقابل تشريع آخر وهو طاعة المرأة لزوجها وحسن تبعلها له وتجملها له، والتماس رضاه والقيام بحقه، فإن هذا الأمر لو تم لكان مكافأة على الأمر الأول، ولحسنت به مسيرة الحياة الزوجية، وابتعدت أسباب الشقاق والطلاق بإذن الله عز وجل، والمصطفى عليه الصلاة والسلام يقول: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها) رواه أبو داود في سننه. ولما جاءت المرأة كما في الصحيح تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجال فضلوا علينا بالجهاد والغزو في سبيل الله عز وجل، فقال: إن حسن تبعل إحداكن لزوجها يعدل ذلك) فهذا التشريع هو الذي ينبغي أن نلتفت إليه، وقبل أن نلتفت إلى النهاية فلننظر إلى البداية. وثمة أحكام عامة أخرى تتعلق بالطلاق وهي مهمة؛ فإن الطلاق ليس إلا مرحلة نهائية تسبقه مراحل عديدة وأدوية وعلاجات متنوعة، تسد الطريق إليه وتبعد الوصول إليه، فالله عز وجل يقول: {والَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:34 - 35]. هذه مراحل أربع: موعظة، تذكير بحق الزوج على زوجته، تذكير بطاعة الله عز وجل، باتباع هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وعظ وتخويف بالآخرة، فإن لم يجد ذلك نفعاً فهجر في المضجع وإظهار للغضب، فإن لم يكن ذلك فضرب غير مبرح، يشعر بوجود الخطأ، ويهدف إلى التقويم والتهذيب والتأديب، فإن زاد الأمر عن حده فحكم من أهله وحكم من أهلها. انظر إلى المراحل الثلاث فهي بين الرجل وزوجه لا يخرج عن إطار الخلاف بينهما، حتى لا يتسع ويتشعب، وتأخذ به أم المرأة شرقاً ويأخذ به أهل الزوج غرباً ثم يشيع، فإذا أراد أطراف النزاع اللقاء كان قد اشتبك النزاع وتوسع، فلم يعد للاثنين فيه خيار، وقد فرض عليهما استمراره من غيرهما؛ لذلك فالأصل أن يكون هذا النزاع أو الخلاف في دائرة الزوجين ابتداء، ثم إن أعياهم الأمر فلهما أن يختارا حكماً من أهله وحكماً من أهلها؛ للإصلاح وتقريب وجهات النظر وتأليف القلوب، ولفت النظر إلى أهمية الأسرة ورعاية الأبناء ونحو ذلك.

وقفات مع بعض الأحكام التفصيلية المتعلقة بالطلاق

وقفات مع بعض الأحكام التفصيلية المتعلقة بالطلاق ننتقل إلى الأحكام التي فيها بعض التفصيل في الطلاق لمن بلغ هذه المراحل كلها، وهنا يقع جهل عظيم ومخالفات كثيرة واجتراء عظيم على حدود الله من كثير من المسلمين. الطلاق كما قلنا وقدمنا: أمره جد خطير، وعندما ننظر إلى الحكم الشرعي في هذا الطلاق فإننا نقف وقفات وجيزة مع الدلائل الفقهية.

الطلاق السني والطلاق البدعي وحكمهما

الطلاق السني والطلاق البدعي وحكمهما وقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فأبلغ عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) وهذا تفسير لقوله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء). والمقصود بهذا الحديث أن الطلاق السني الشرعي الصحيح الذي شرعه الإسلام أن يطلق الرجل امرأته في حالة طهر لم يجامعها فيه، ولو أن الناس طبقوا هذا الحكم، بحيث إذا غضب الرجل وأراد أن يطلق امرأته وكانت حائضاً انتظر حتى تطهر؛ لذهب في أثناء هذا الانتظار ما كان من ثورة الغضب، ولذهب كذلك ما كان من عدم تقدير لمخاطر الطلاق، وغالباً ما يصرف النظر عنه، كذلك لو أراد أن يطلقها وكانت في طهر قد جامعها فيه فإنه يحتاج -ليلتزم السنة النبوية- أن ينتظر فراغها من الطهر ثم الحيض ثم طهر آخر حتى يمضي الطلاق، لكن جهل الناس بهذا الحكم، فجعلوا الأمر على غاربه، ولما سئل ابن عمر: (فهل حسبت تلك طلقة؟ قال: فمه؟) أي: أنه يقع الطلاق، ولكن فيه مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

العدة للنساء وما يتعلق بها من أحكام

العدة للنساء وما يتعلق بها من أحكام لقد شرع الإسلام العدة للنساء، وهي فترة للمراجعة والمداولة، وجعل الطلاق ثلاثاً، وليس من أول مرة يبت الحكم فيه، فلذلكم كل هذه التشريعات تضيق الدائرة في الوصول إلى المرحلة النهائية، وتجعل الفرصة سانحة للمراجعة، يبين هذا قوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ * فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:229 - 230] أي بعد أن أنهى كل الطلقات. {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]. يقول عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] العدة ثلاثة قروء، وفسرها أهل العلم: إما ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار. وهذه العدة قد بين الله عز وجل فيها الحكمة فقال جل وعلا: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]. والحكم في العدة أن العقد باق كما هو، وأن الزوجية مستمرة كما هي، وأن المرأة ينبغي أن تقضي عدة طلاقها في بيت زوجها، فلو تصورنا بقاءها مدة ثلاثة أشهر في بيت زوجها وهي مطلقة، فإنها فرصة له ولها أن يراجعها، والمراجعة كما هو الراجح عند الفقهاء تقع ولو بدون إشهاد، والإشهاد فيها سنة، والمراجعة تقع بالمعاشرة دون التصريح بلفظ الرجوع، فهذا تضييق لإمضاء الطلاق حتى يمكن التراجع عنه، فهذه أولى، وقد تكون طلقة ثانية، فإذا جاءت الثالثة فإنها لا تحل له. وإذا انتهت عدتها في الأولى فله أن يراجعها لكن بعقد ومهر جديد، فليس النساء لعبة في أيدي الرجال، وهذا التشريع الحكيم لو التزمه المسلمون لما وقعت هذه الفتن، والله سبحانه وتعالى لما بين هذه الأحكام ربطها بالتقوى والخوف منه عز وجل، وذلك للفت النظر إلى مراعاة حقوق الله ومراقبة الله في هذا الشأن العظيم، فقال سبحانه وتعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1]، قال: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) واليوم إذا طلقت المرأة أخذت عفشها وأبناءها ومضت إلى بيت أهلها، فوجدت الأبواب مفتوحة، والصدور مرحبة، وهؤلاء يفسدون ما بين الرجل وزوجته، ويسيئون إلى حياة ابنتهم، ولو كان الرجل عاقلاً لقال لابنته: إن شرع الله عز وجل يقضي أن تبقى المرأة في بيت زوجها، فإن هذا أدعى إلى حصول التوافق مرة أخرى، والرجوع والتراجع في حل هذه القضية، وحتى يعود الشمل ملتئماً على أسس واضحة من جديد بإذن الله عز وجل؛ لذا قال جل وعلا: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]. فهذا شأن الطلاق بإيجاز، انظر إلى وقوعه، وانظر إلى العدة التي جعلت له، ثم انظر إلى التحذير في التلاعب فيه وإلى التهاون فيه، أخرج الحاكم في مستدركه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة). مثال هذا التلاعب: أن يطلق الرجل ثم يقول: لا أقصد، وكنت أمزح، نقول: هذا التلاعب في هذا العقد العظيم، وفي هذه الأسرة المهمة، وفي هذا البناء العظيم المهم؛ لا يقبل بحال من الأحوال. ورد في سنن ابن ماجة بسند حسنه بعض المحدثين عن أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، يقول أحدهم: قد طلقتك قد راجعتك قد طلقتك) والله جل وعلا قال في آية الطلاق: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق:1]. إذاً: الأمر ليس لعباً ولا هوى وتسيباً كما يفعل كثير من الرجال اليوم وفقاً للأهواء أو وفقاً لبعض الأعراف، فإذا دعا ضيوفه حلف بالطلاق إلا أن يأكلوا، وإذا فعل أي أمر من توافه الأمور جعل الطلاق على لسانه، وكأنه كلمة عادية من الكلمات، ومن هنا وجد هذا الخلل الذي قد يقع في المجتمعات من مخالفات المسلمين لتشريع الإسلام. نسأل الله عز وجل أن يحفظ أعراضنا، وأن يحفظ أزواجنا، وأن يحفظ أبناءنا، وأن يحفظ أسرنا، وأن يحفظ مجتمعنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاسغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

حكم التلاعب بالطلاق وتخبيب النساء على الأزواج وضوابط ذلك

حكم التلاعب بالطلاق وتخبيب النساء على الأزواج وضوابط ذلك الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فأوصيكم ونفسي القاصرة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى التي ينبغي أن يلتفت إليها الرجال، مراعاة الله عز وجل في معاملة أزواجهم، ورعاية حقوق النساء، وعدم التلاعب بهذا الشأن العظيم من شئون المجتمع والأسرة، والذي هو من حدود الله سبحانه وتعالى. إن الصور التي نراها في واقع مجتمعات المسلمين كثيرة، وهذه الصور لا تمت إلى هذا التشريع الحكيم ولا إلى هذه الضوابط والحدود بشيء، فنرى -كما أسلفت- من يستهين بأمر الطلاق، فيطلق في كل لحظة وآن، وعند أي عارض وعند أي أمر أغضبه، وتجد بعض الرجال وقد فقد مروءته وشهامته ورجولته، فاستعمل الطلاق أسوأ استخدام، يهدد به زوجته في كل لحظة: إن فعلت كذا وإلا فسأفعل كذا، إن لم تفعلي كذا وإلا سأطلقك، فجعل الأمر كأنه تلاعب بحدود الله، وجعله كأنه سيف يرفعه على زوجه أم أبنائه ومربية أبنائه، كيف يمكن أن يكون هذا شأن رجل شهم كريم؟! إن الرجل المسلم الشهم هو الذي يرعى حق زوجته، ويعرف عظمة عقد الزواج، ويعطي حدود الله عز وجل حقها؛ لا يمكن أن يكون بهذا الشأن. وكذلك نسمع عن كثير من الناس في عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم الاجتماعية الحلف بالطلاق على كل شيء، أو إمضائه في كل أمر، فإذا زاد ملح الطعام طلق، وإذا نقصت برودة الماء طلق، فتراه يطلق في اليوم والليلة أكثر من مرة! هذا التشريع الذي جعل للرجل حكمته وعقله وصبره، أفسده أمثال هؤلاء الذين ليس فيهم من صفات الرجولة الحكمة والصبر والقوة والشهامة والنخوة. والنساء اللاتي يخببن النساء على أزواجهن من أهلهن أو من بعض أقاربهن، أو من الأجواء الاجتماعية النسائية، فواحدة تقول لها: قولي له كذا، فإن لم يفعل فنكدي عيشه حتى يطلقك، ويسمعن ويشاهدن عبر الإذاعات والشاشات من مسلسلات وتمثيليات تخبيب وإفساد النساء على أزواجهن ما الله سبحانه وتعالى به عليم، حتى شاع بين النساء طلب الطلاق، حتى إذا عرض عارض أخذت نفسها إلى بيت أهلها، وهجرت زوجها مع أن الهجر حق للزوج، فضيعت بذلك أبناءها، وضيعت مستقبلها، وأفسدت حياتها، وبسبب هذا الشقاق والنزاع بين الأسر وجدت أسباب الرذيلة والفساد والانحلال في المجتمع، وكل هذا يقع بسبب الأعراف الاجتماعية والعادات الجاهلية والحملات الإعلامية الفاسدة. ولو نظرنا إلى القواعد والضوابط والأحكام العامة والعلل الحكيمة في هذا التشريع لوجدنا أنه تشريع حكيم عالج الداء علاجاً ناجعاً، فلو سدت الأبواب أمام بقاء الأسرة فليكن الطلاق كما جاء في تشريع الله هو المخرج من هذا المأزق، وكما طبق ذلك صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكما هو في الأحكام التفصيلية الفقهية، والأمر في هذا يطول، والمخالفات فيه كثيرة، وكم العناء والشقاء الذي جر على مجتمعات المسلمين؛ بسبب جهلهم بهذه الأحكام، وعدم التزامهم لهذه الحكم، وبسبب ذلك تفرقت الأسر وضاع الأبناء. نسأل الله عز وجل أن يسلمنا من هذه الويلات، وأن يفهمنا شرع ربنا، وأن يعيننا على الاقتداء بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يقربنا إليك يا ربنا. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا بما يرضيك آمالنا. اللهم أقل عثراتنا، واستر عوراتنا، وامح سيئاتنا، واغفر زلاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر. اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى، اللهم الطف بهم يا رب العالمين! اللهم عجل فرجهم، وفرج كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم. اللهم ثبتهم على الإيمان واليقين، ولا تجعل ما قضيت عليهم فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم اصرف عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجعل عمل ولاتنا في رضاك، ووفقهم لهداك، وارزقهم بطانة صالحة تدلهم على الخير وتحضهم عليه، وتحذرهم من الشر وتنهاهم عنه برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم يا رب العالمين، انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز يا متين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم شأناً، ذوي المقام العلي والقدر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

إلى أهل القرآن طلابا وحفاظا ومدرسين

إلى أهل القرآن طلاباً وحفاظاً ومدرسين لا شك أن أهل القرآن المشتغلين به تلاوة وتدبراً، وحفظاً وتعلّماً، وتعليماً وتفسيراً، لهم منزلة رفيعة، ومكانة سامية، فهم خير الناس لاتصالهم بأعظم كتاب وأفضل كلام، ولهذا ينبغي للمسلم أن يعرف فضل تلاوة القرآن، ومنزلة أهله، وما أعده الله لهم من الحياة الطيبة والرفعة في الدنيا، والمكانة العالية والفضل العظيم في الآخرة، حتى يدفعه ذلك إلى اللحاق بأهل القرآن ليحصل له ما حصل لهم من الخير.

المنزلة العظيمة التي جعلها الله لأهل القرآن وثمرات تعلمه وتعليمه في الدنيا والآخرة

المنزلة العظيمة التي جعلها الله لأهل القرآن وثمرات تعلمه وتعليمه في الدنيا والآخرة بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام الدائمان التامان الأكملان على النبي الكريم سيدنا ونبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، عنوان محاضرتنا هذه الليلة: (إلى أهل القرآن طلاباً وحفاظاً ومدرسين) والله أسأل أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته، ودار كرامته، وأن يجعلنا من أهل القرآن العاملين به، والتالين له، والمتدبرين له، والناشرين لعلومه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. نبدأ هذا الموضوع بالحديث عن أهل القرآن ليعرفوا أنفسهم وليعرفهم الناس. لا شك أن هناك فضلاً عظيماً ومنزلة سامية جعلها الله عز وجل لأهل القرآن الذين يشتغلون به تلاوة وتدبراً، وحفظاً واستذكاراً، وتعلماً وتعليماً، وعملاً ودعوة وتطبيقاً. ولا شك أن هذا القدر وهذه المنزلة من أسمى وأرقى وأعلى ما يمكن أن يحوزه مسلم بعمل من الأعمال التي يرجو بها القرب من الله عز وجل.

خيرية أمة الإسلام مخصوصة بأهل القرآن

خيرية أمة الإسلام مخصوصة بأهل القرآن ثمرات تعلم القرآن وتعليمه في الدنيا والآخرة كثيرة ومنها: أولاً: الخيرية الفائقة. لقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي لا أظن أن أحداً لا يحفظه، ولكنه يحتاج إلى مزيد التأمل والتدبر والتفكر في مضمونه وفي دلالته، حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم خيرية الصالحين والعابدين من أمته مخصوصة بأهل القرآن، كما في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وفي لفظ آخر عند البخاري: (إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه). واعلم أن المرتبط بالقرآن تعليماً وتعلماً هو في الرتبة العليا، والمنزلة الرفيعة في هذه الأمة التي شرفها الله عز وجل.

ضمان أهل القرآن لشفاعته لهم

ضمان أهل القرآن لشفاعته لهم ثانياً: الشفاعة النافعة بإذن الله عز وجل. نحن نعلم أن كل أحد في هذه الحياة الدنيا يلتمس أسباب النجاة، ويحرص على الفكاك من النار، والعتق من سخط الله سبحانه وتعالى، وإذا بالقرآن الذي يحرص عليه صاحبه، ويرتبط به، ويسعى دائماً إلى أن يكون عظيم الصلة به هو الذي يشفع لصاحبه، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. من ذلك ما ورد في صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، قال معاوية أحد الرواة: بلغني أن البطلة هم السحرة، فهذا وعد منه عليه الصلاة والسلام أن القرآن يشفع لصاحبه. وفي الأَثر أن المرء إذا انشق عنه قبره يلقاه القرآن في صورة إنسان، ويكون المرء قد شحب لونه من هول ذلك اليوم، فيطمئنه القرآن ويقول له: ألا تعرفني؟ فيقول: لا، فيقول: أنا الذي أظمأتك في الهواجر، أنا الذي أسهرتك في الليالي، ثم يشفع فيه فيشفع بإذن الله عز وجل. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما). وقد ذكر ذلك علماء الإسلام مذكرين بعظيم المنزلة والشرف الذي يحوزه حافظ القرآن والعامل به، قال ابن الجزري رحمة الله عليه عن القرآن: وهو في الأخرى شافع مشفعُ فيه وقوله عليه يسمع يعطى به الملك مع الخلد إذا توّجه تاج الكرامة كذا يقرا ويرقى درج الجنانِ وأبواه منه يكسيان وقد ورد في ذلك أحاديث وآثار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته.

صاحب القرآن يحمل أعظم معجزة عرفتها البشرية

صاحب القرآن يحمل أعظم معجزة عرفتها البشرية ثالثاً: المعجزة العظيمة. اعلم يا صاحب القرآن أن لديك أعظم معجزة في هذا الوجود، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن معجزته الكبرى الخالدة ما دامت السماوات والأرض هي هذا القرآن المعجز الذي يحيي القلوب، ويوقظ العقول، وينشط الضعيف الكسول، ويجمع الخير كله من أطرافه، فأنت عندما ترتبط به فإنك ترتبط بأعظم معجزة لله عز وجل في هذا الوجود، وكما ورد في مصنف ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن رافع عن رجل عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من قرأ القرآن فكأنما أُدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه. وفي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر -أي: أعطي معجزة تكون سبباً كافياً لإيمان البشر وإظهار صدق نبوة هذا النبي- وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، فأنت -إذاً- متصل بالوحي، وبالرسالة، وبالمعجزة الخالدة.

حامل القرآن ينافس في أعظم الأمور وأشرفها

حامل القرآن ينافس في أعظم الأمور وأشرفها رابعاً: المنافسة الكبيرة. فإذا تشاغل الناس بالصفق في الأسواق، وتنافسوا على ملذات الدنيا وشهواتها، وتسابقوا إلى الرفعة والجاه فيها، وتزاحموا على أبواب السلاطين؛ فأنت تنافس في أعظم الأمور وأشرفها، حتى إن أهل الفقه والإيمان ليرون أنك قد سبقتهم سبقاً عظيماً، وفقتهم فوقاً كبيراً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع صاحب القرآن مع صاحب المال المنفق في سبيل الله، وجعل عملهما من أعظم الأعمال التي يحرص كل أحد على المنافسة فيها، والمسابقة إليها، والمواظبة عليها قدر استطاعته. ففي البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل والنهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار). فإذا تنافس المتنافسون في الدنيا، فأنت في أعظم منافسة، وإذا تسابق المتسابقون لها فأنت في أعظم ميدان، فاعرف لحامل القرآن قدره ومنزلته.

حامل القرآن متبع لأفضل الخلق من الملائكة والبشر

حامل القرآن متبع لأفضل الخلق من الملائكة والبشر خامساً: المتابعة الشريفة. عندما تتمسك بكتاب الله عز وجل فإن أسوتك جبريل عليه السلام، وأسوتك محمد صلى الله عليه وسلم، وسلفك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، والكوكبة العظيمة الشريفة من صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون سلسلتك متصلة بالأئمة الأعلام والعباد والزهاد والأتقياء والصلحاء، فإنك في الحقيقة تسلك طريقاً قد سبقك إليه الأشراف والأطهار، بل سبق إليه الرسل والأنبياء والملائكة المقربون! فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام، فإذا تدارست القرآن فتذكر تلك المدارسة التي ليس في الدنيا أشرف منها؛ فهي مدارسة بين أمين الوحي جبريل وبين خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فما أعظم هذه المتابعة، وما أشرف هذه السلسلة. وانظر إلى آثار كثيرة، وأحاديث عديدة تبين لك أن الاشتغال بالقرآن هو اشتغال بما اشتغل به الذين قد بلغوا الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة والقرب من الله عز وجل. عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سمع رجلاً يقرأ القرآن في المسجد، فقال: يرحمه الله! لقد أذكرني كذا وكذا من سورة كذا)، ولم يكن القارئ يقصد المراجعة ولا المدارسة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن يقصد ذلك ترداداً وتذكيراً وحفظاً ومراجعة ومدارسة؟! فهذا رجل دعا له النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أحيا وقته، وأحيا بيت الله عز وجل بتلاوة القرآن قال: (يرحمه الله! لقد أذكرني كذا وكذا من سورة كذا)، والحديث في صحيح البخاري في باب: (نسيان القرآن، وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا)؟ واعلم أنك عندما تثني ركبتيك في حلق القرآن، وعندما تتأدب بين يدي حافظ القرآن الذي يعلمك ترتقي بهذا إلى شرف عظيم، وتصعد إلى رتبة عليا، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: لقد أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله! لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم. ويقول شقيق صاحب ابن مسعود رضي الله عنه: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون -أي: عن ابن مسعود - فكان القول ما قال أي: في عظيم منزلته وعلمه بكتاب الله عز وجل. وعن سليمان بن يسار -كما في مصنف ابن أبي شيبة -: أن عمر رضي الله عنه انتهى إلى قوم جلوساً يقرئ بعضهم بعضاً، فلما رأوا عمر سكتوا، فقال: ما كنتم تراجعون؟ قالوا: كنا يُقرئ بعضنا بعضاً، قال: اقرءوا ولا تلحنوا. فلقد كانت سُنّة ماضية ونحن على إثرها سائرون، حلق ومدارسة، وحفظ ومذاكرة، فما أجلّها من متابعة، وما أعظمها من موافقة. وفي حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم قالت: (أسر إليَّ النبي عليه الصلاة والسلام: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا قد حضر أجلي). ونعلم أيضاً قصة ابن مسعود رضي الله عنه لما طلب النبي عليه الصلاة والسلام منه أن يقرأ عليه القرآن، فقال ابن مسعود متعجباًً: (أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: نعم، فإني أحب أن أسمعه من غيري)، فلا تستكثرن ذلك ولا تأنفن منه، ولا يكونن أحد ممتنعاً أن يسمع القرآن ممن هو أدنى منه، فلقد طلب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ذلك من ابن مسعود رضي الله عنه (فقرأ عليه من أول النساء حتى بلغ قوله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك! حسبك! قال ابن مسعود: فالتفتُّ إليه فإذا عيناه -صلى الله عليه وسلم- تذرفان بالدموع). وفي حديث أنس المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بن كعب: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)، فانظر -رعاك الله- هذه المتابعة الشريفة، والقدر العظيم، فإن الوحي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ على أبي رضي الله عنه القرآن، قال أبي: (آلله سماني لك؟! قال: نعم، قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟! قال: نعم، فذرفت عيناه) وحُقّ له أن يبكي رضي الله عنه وأرضاه. فاعلم يا حامل القرآن! ويا متعلم القرآن! ويا مدرس القرآن! أنك في هذه المتابعة تنال أعلى أوسمة الشرف، فإذا سار الناس شرقاً وغرباً فأنت تسير في إثر محمد صلى الله عليه وسلم، وتعمل عمل أصحابه، وتجلس مجالس الصالحين والعابدين والمتقين لله رب العالمين.

حامل القرآن مقدم على غيره في ميادين الشرف والرفعة

حامل القرآن مقدم على غيره في ميادين الشرف والرفعة سادساً: الشرف والرفعة. حامل القرآن مقدم في أعظم الأمور وأشرفها، حسبك بعد التوحيد الركن الثاني من أركان الإسلام: الصلاة التي يجتمع لها المسلمون في كل يوم خمس مرات، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل)، فهذه الصلاة التي هي أعظم العبادات وأعظم الأركان -بعد الشهادتين-، وأكثرها تكرراً، وقد جاء عن الصحابة والسلف أنهم لم يكونوا يرون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فهذه الصلاة التي تعلم منزلتها وعظمتها أنت المقدم فيها، والمنتدب للإمامة فيها. ومن ذلك: أن شهداء أحد لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يدفن منهم الاثنين والثلاثة في القبر الواحد كان يسأل إذا أراد أن يجمع بينهم عن أكثرهم حفظاً للقرآن فيقدمه في الدفن، فحتى بعد موتك أنت مقدم يا حامل القرآن. وفي صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه سأل عامله على أهل مكة، فقال: من خلفت على أهل مكة؟ قال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: رجل من الموالي، فقال عمر -كالمتعجب أو المستنكر-: استخلفت عليهم مولى؟! فقال: إنه قارئ لكتاب الله، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم قال: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين)، وهذا لا شك أنه من الأمور العظيمة، حتى كان الصحابة يقول أحدهم: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في أعيننا. ولقد كان المستشارون في مجلس الخليفة الأعظم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عِلْية القوم وجِلّة الصحابة من قدماء المهاجرين والأنصار، وكان يحضر في هذا المجلس حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه وهو غلام صغير السن، ما أُدخِل في مثل هذا المجلس إلا أنه كان عالماً بكتاب الله عز وجل، ونعلم قصة عمر رضي الله عنه لما سأل في مجلسه عن قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ما تعلمون منها؟ قالوا: بشارة ساقها الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي القوم ابن عباس، فسأل عمر هذا وهذا، ثم التفت إلى ابن عباس وقال: ما عندك فيها يا ترجمان القرآن؟ فيقول: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نُعي إليه، فيقول عمر: والله ما أعلم منها إلا ما ذكرت يا ابن عباس، وكان بعض الأنصار يقولون لـ عمر: ما لك تدخل بيننا هذا الغلام وفي أبنائنا من هو أسنّ منه؟ فسأله عمر بينهم عن كتاب الله عز وجل ليظهر علمه، ويجلو علو كعبه في مقاله وعلمه بكتاب الله، فيرى حينئذ أين وكيف يكون التقدم والشرف وعلو المنزلة.

حامل القرآن طيب المظهر والجوهر

حامل القرآن طيب المظهر والجوهر سابعاً: الطيب ظاهراً وباطناً. حامل القرآن طيب يشع منه القول الطيب، والسلوك الطيب، والسمت الطيب، بل والرائحة الطيبة، ففي سنن الترمذي بسند حسّنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (تعلموا القرآن فاقرءوه، فإن مثل القرآن لمن تعلم فقرأ وأقام به كمثل جراب محشو مسكاً تفوح رائحته على كل مكان، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكئ على مسك). فأنت في يقظتك وفي منامك يفوح منك الطيب ظاهراًُ وباطناً، قد طيبت باطنك وطهرت قلبك ونقيت نفسك بهذا الكلام الطاهر الشريف كلام رب العالمين. وفي صحيح البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو)، فعلى كل حال ما دام القرآن بين جنبيك فأنت طيب ظاهراً وباطناً.

حامل القرآن قائم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم

حامل القرآن قائم بوصية النبي صلى الله عليه وسلم ثامناً: وصية مهمة. أنت قائم بالوصية العظمى التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ما خلف درهماً ولا ديناراً، ولا أوصى بأرض ولا ضياعٍ، وإنما كما ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قيل له: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، فقيل: كيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ فقال ابن أبي أوفى: أوصى بكتاب الله عز وجل. فهذه وصية النبي لأمته، فأنت آخذ بهذه الوصية، قائم ببعض الواجب فيها، فاعلم أنك في هذا الميدان على قدر ومنزلة شريفة.

حامل القرآن متصل بأسباب السماء

حامل القرآن متصل بأسباب السماء تاسعاً: الصلة السماوية. عندما تقرأ القرآن وترتبط به فإنك تربط أسباب الأرض بالسماء، فإن هذا القرآن قد أنزل من فوق سبع سماوات، وأنزل لتحيا به القلوب، وأنزل لينير ظلمات هذه الأرض، ويشع فيها النور بهدي الله عز وجل، فإذا قرأت القرآن فإنك تستنزل الأسباب، وتكون ذا صلة بالسماوات، وهي صلة حسية لا معنوية، فقد ورد في حديث أسيد بن حضير أنه كان يقرأ سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس -أي: تحركت واضطربت- فسكت فسكنت، فقرأ مرة أخرى فجالت الفرس، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها -أي: نائماً- فأشفق أن تصيبه الفرس، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها -أي: ما يرى هذه الظلة التي رآها في أول أمره- فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له: (اقرأ يا ابن حضير اقرأ يا ابن حضير، -يعني: حبذا لو واصلت القراءة- قال: يا رسول! أشفقت أن تطأ يحيى وكان منها قريباً فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم). وفي حديث مشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، ولا شك أن هذه صلة عظمى، ومنزلة عالية.

حامل القرآن حاصل على الأنوار الربانية التي تضيء قلبه وطريقه

حامل القرآن حاصل على الأنوار الربانية التي تضيء قلبه وطريقه عاشراً: النورانية الربانية. فإن هذه منزلة عظيمة ينبغي أن تحرص عليها، وأن تذكرها، وأن تعرف قدرها، فإن هذا النور الرباني يضيء قلبك ويضيء طريقك، والله عز وجل قد قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] فهذا النور بين جنبيك يضيء طريقك، فاعلم أنك في هذه المنزلة على رفعة وقدر سامٍ شريف، فهو أمر عظيم، وقد قال ابن سابق -كما روى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب فضائل القرآن-: إن البيوت التي يقرأ فيها القرآن لتضيء لأهل السماء كما تضيء السماء لأهل الأرض، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ليضيق على أهله، وتحضره الشياطين، وتنفر منه الملائكة، وإن أصفر البيوت -أي: أشدها إفلاساً- لبيتٌ صِفْر من كتاب الله عز وجل. فلا شك أن هذه أيضاً منزلة عظيمة ينبغي أن تحرص عليها.

حامل القرآن حائز على الحصانة الإلهية

حامل القرآن حائز على الحصانة الإلهية الحادي عشر: الحصانة الإلهية. أنت محفوظ بهذا القرآن بحفظ الله عز وجل، حسبنا أن نعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غُفر له). وفي الحفظ أيضاً حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاًً في الآيات الأخيرة من سورة البقرة، وفي ذكر العصمة من الدجال في قراءة عشر آيات من الكهف، وأحاديث كثيرة يأتي ذكر بعضها لاحقاً.

انتساب حامل القرآن إلى الله عز وجل

انتساب حامل القرآن إلى الله عز وجل الثاني عشر: الانتساب العظيم. عندما تكون في صلة مع كتاب الله عز وجل فإنما أنت في هذا الميدان العظيم منتسب إلى الله، ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)،فأنت منتسب إلى الله عز وجل، وأعظِمْ بها من نسبة وشرف. يقول الناظم: وبعد فالإنسان ليس يشرفُ إلا بما يحفظه ويعرفُ لذاك كان حاملو القرآنِ أشراف الأمة أولي الإحسان وإنهم في الناس أهل اللهِ وإن ربنا بهم يباهي وقال في القرآن عنهم وكفى بأنه أورثهمُ ما اصطفى فما أعظم هذه المنزلة العالية الرفيعة. قال ابن الجزري في النشر: (ولما تكفل الله بحفظه -أي: القرآن- خص به من شاء من بريته، وأورثه من اصطفاه من خليقته، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته)).

الأجر والثواب الذي يحصله حامل القرآن

الأجر والثواب الذي يحصله حامل القرآن إن كان هناك قدر ومنزلة لحامل القرآن في الدنيا والآخرة، فاعلم أن وراء ذلك أجراً عظيماً كما في الحديث الذي في سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للقارئ بكل حرف يقرؤه من القرآن حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). وعن عائشة في الصحيح مرفوعاً: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) أي: أجر القراءة وأجر المشقة. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عظيم جدير بالتأمل- أنه قال لأصحابه: (أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان -وهو وادٍ بظاهر المدينة- فيأتي منه بناقتين كوماوين -أي: سمينتين عظيمتين- في غير إثم ولا قطيعة رحم؟) أي: يذهب فيجدها، وكانت الإبل أعظم أموالهم وأغلاها وأنفسها، وكانت تقوم ثرواتهم بها، فكيف بك كلما أردت من هذه الإبل تذهب إلى هذا المكان فتأخذ ما شئت؟! (قالو: يا رسول! كلنا يحب ذلك، فقال: فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل). ولكي نقترب من المعنى أكثر نقول: لو قيل لأحدنا: لو ذهبت إلى مكان ما فإنك ستجد سيارتين أو ثلاث من أفخر أنواع السيارات فتأخذها، فماذا يصنع الناس؟ سيتسابقون تسابقاً شديداً. والله عز وجل قد ذكر عظيم الأجر والمثوبة بقوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:30] وهذا أمر واضح، ومن أوضحه ومن أعظمه أجراً أنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارقَ، أي: ارتفع، حتى تكون منزلته عند آخر آية يقرؤها من كتاب الله عز وجل.

المنافع الجليلة التي يستفيدها حامل القرآن

المنافع الجليلة التي يستفيدها حامل القرآن مع كل هذا القدر العظيم والمنزلة الرفيعة، ومع الأجر الكثير والمثوبة العظيمة، فإن هناك نفعاً غزيراً وفائدة عميمة -إضافة إلى كل ما سبق- تجنيها عندما ترتبط بكتاب الله عز وجل، وحسبك من هذه الفوائد أن نذكر بعضاً منها: أولاًً: المتمسك بالقرآن حفظاً وتلاوةً وتعلماً يحوز أموراً كثيرة، منها: أولاً: الاستشهاد، وقوة الحجة. فأنت إذا حفظت القرآن كانت الحجة جارية على لسانك، ليناً بها لسانك، فلا تحتاج إلى أن تحصر، وإلى أن تتتعتع، فإذا ذكر أمر فإنك تجيب بكتاب الله عز وجل، فقد ذكر عن السلف مواقف كثيرة، كان القرآن فيها يجري على ألسنتهم إجابة على كل سؤال، وفتيا لكل مستفتٍ، ودمغاً لكل باطل، وهكذا من كان قريب الصلة بالقرآن فإن القرآن يجري على لسانه، فيكون قوي الحجة، سريع الاستشهاد، كثير الاستدلال، لا يلقي القول على عواهنه، فما من كلمة أو كلمتين أو جملة أو جملتين إلا بيّنها بآية من كتاب الله عز وجل تثبت قوله وتؤكده وتقويه. ثانياًً: علم العلوم كلها في كتاب الله عز وجل. فأنت عندما تتعلم القرآن فإنك تتعلم -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- النحو والصرف والبلاغة والفصاحة، وأشياء من التاريخ، وأحوال الأمم السالفة، وتعرف ضروباً من علوم النبات والزراعة والمياه والبحار، وأشياء أخرى كثيرة، فإن القرآن كتاب جمع علوماً عديدة، حتى إن المرء قد يسأل السؤال في غير ما يجيده ويحسنه، فإذا كان حافظاً للقرآن استذكر من القرآن ما يجيب به في أمر لا يعهد أنه يعرف مثله، فإن سئل في تاريخ ربما أجاب وليس من أهل التاريخ، وإن سئل في لغة وفي إعراب ربما استشهد بالآية وإن لم يكن قد قرأ النحو أو عرفه، فإذا صرت مع القرآن فاعلم أنك تجمع أطرافاً من العلوم وأسساً تقودك إلى أن تجيد وأن تتقن وأن تنتفع وأن تستفيد. ثالثاً: حياة القلوب. فهذا القرآن هو الحياة الحقة للقلوب، فأنت إذا كنت دائم الصلة بالقرآن، كل يوم عندك حلقة تتلقى فيها، وليل تقومه بهذا القرآن، ووقت تمضيه في المراجعة والمدارسة، فإن هذا القرآن هو حياة القلب، وهو غياث النفوس، وهو الذي يذكّر ويعظ، فأنت إذاً حي القلب بإذن الله؛ لأنك دائم الصلة بكتاب الله. فما ظنك بأناس لا يقرءون القرآن إلا لماماً؟! ولا يفتحون المصحف إلا نادراً؟! ولا يسمعون الآيات إلا من العام إلى العام أو في رمضان؟! ما ظنك بقلوبهم؟ ألا ترى أنها تصبح أقسى من الصخور والجلاميد؟ ألا ترى أنها قد يغلق عليها أو يختم عليها عياذاً بالله؟ فاحمد الله؛ لأنك باشتغالك بالقرآن تحفظ الحياة على قلبك، وتحفظ الانشراح والسعة لصدرك، فما أعظمه من نفع وفائدة تدرك أثرها عندما ترى المحرومين من هذه النعمة الكبرى. رابعاً: الجدية والإنتاج. أنت عندما تحفظ القرآن وتسعى في تعلمه تتعود على أن تكون رجل جد ومواظبة واستمرار، ولست ممن يبدأ العمل فيقطعه، ولست ممن يسرع إليه السأم فينقطع عما بدأه، ولست ممن يستهول الأمر ويستعظمه فيعجز ويضعف، عندما تجعل حفظ القرآن نصب عينيك، ثم تثني له ركبتيك، ثم تسعى إليه في المسجد، ثم تقعد بين يدي المدرس، ثم تفعل هذا وهذا، فإنك إذا نجحت في هذا السبيل فأنت في سواه بإذن الله عز وجل أنجح، ولا شك أنك تتعود بذلك على طلب العلم، وعلى ارتياد المساجد، وعلى كثير من هذه الأمور التي تجعلك مُجدّاً منتجاً ومنتفعاً، غير ما يكون عليه كثير من الشباب العابث اللاهي الذي لا يحسن شيئاً، كما قال القائل في وصف بعض ميوعتهم وتهتّكهم: أغار عليك من إدراك طرفي وأشفق أن يذيبك لمس كفي فأمتنع اللقاء حذار هذا وأعتمد التلاقي حين أغفي خامساً: الصحبة الصالحة. الإنسان كأصحابه، والصاحب ساحب -كما يقولون-، فأهل الرياضة ينادمون أهل الرياضة، وأهل الفن يصاحبون أهل الفن، وأهل الأموال والأرقام الفلكية والحسابات المتعددة والطرح والقسمة والضرب مع أصحابهم، وهكذا كلٌ مع أضرابه، والطيور على أشكالها تقع. فإن سرت في ركب القرآن تطلبه أو تقرؤه أو حتى تسمعه أو حتى تحضر مجالسه فأنت تنتفع بصحبتهم كما في الحديث: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، وهذا أمر لا شك أنه عظيم، انظر إلى كثير من الشباب أين ضاعوا، وفي أي الأودية تاهوا، ومع من ساروا، وأي صحبة اختاروا! فإنك تجد أنك قد استفدت فائدة جليلة، وكسبت مكسباً عظيماً جداً. سادساً: الاستثمار الأفضل للوقت والجهد. فإنك في فترة الصبا يمكن أن تكون مع الصبيان العابثين اللاعبين الذين يلعبون في الشوارع والطرقات، والذين ليس لهم همّ إلا الجري هنا وهناك، وإن صغار الصحابة وصغار السلف قد ضربوا لنا أمثلة رائعة لا بأس أن نُعرّج تعريجاً يسيراً على بعض منها حتى تدرك أنك إن دخلت هذا الميدان من صغر سنك فأنت تستثمر الوقت وتصوغ الشخصية بشكل مغاير ومختلف. فقد جاء في ترجمة سفيان بن عيينة رحمة الله عليه أشياء عجيبة في صغر سنه، من ذلك أنه قد بدأ طلب الحديث بعد العاشرة، وجلس إلى عمرو بن دينار وهو في الثانية عشرة من عمره، وكان يقول عن نفسه: كنت أجيء إلى حلقة عمرو بن دينار وأنا كالمسمار، طولي بضعة أشبار، وذيلي بمقدار، فإذا جئت قال الكبار: افسحوا للمحدث الصغير! ويذكر أيضاً في ترجمته أنه لقي عمرو بن دينار قبل أن يعرفه، فقال -وقد رآه في الشارع-: يا غلام! امسك حماري حتى أغدوا إلى المسجد فأصلي ركعتين، قال: لا أفعل حتى تحدثني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما عسى أن ينفعك الحديث؟ قال: إذاً لا أفعل، وأبى أن يمسك حماره حتى يحدثه، قال: فحدثني ببضعة أحاديث، ثم دخل وصلى وخرج، قال: ما انتفعت بما حدثتك؟ قال: فأعدت عليه الأحاديث، قال: فعجب مني! قال: فلما مضى سألت عنه، قيل: هذا عمرو بن دينار فلزمت مجلسه. فالصغير عندما يذهب إلى حلق القرآن لا يعود عابثاً من العابثين، ولا صغيراً من الصغار، فكيف بالشاب، أو من بدى في مقتبل العمر وفي ريعان الشباب إذا دخل في هذا الميدان، فلا شك أنه يستطيع -بإذن الله عز وجل- أن تكون حجته بين يدي الله عز وجل قوية، عندما يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، فلئن أفنى بعض الشباب أوقاتهم في السيارات!! وفي الملاعب!! وفي السفر!! فأنت تستثمر هذا الوقت استثماراً عظيماًً في هذا الجانب. سابعاً: الحصانة والتحصن. وهذا ما أشرت إليه إلماحاً، فإنك عندما تدخل في هذا الميدان تحصن نفسك كما ورد في الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تتخذوا بيوتكم مقابر، صلوا فيها، فإن الشيطان ليفرُّ من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه)، فأنت تحصن بيتك وتحصن نفسك وتحصن ولدك وتحصن أهلك، عندما تقرأ أو تراجع، فإذا بك تمر بآية الكرسي وتمر بخواتيم البقرة، وتقرأ آيات سورة الكهف، وتمر بالآيات التي فيها استعاذة من الشياطين، فكلما قرأت كلما حصنت نفسك، وانظر اليوم إلى حال الناس وإلى الظاهرة التي تفشت وانتشرت، كم نرى من الناس قد مسّتهم الشياطين، وقد ابتلوا بالسحر، وقد تلبست بهم العفاريت من الجن، والسبب أنه لا حظّ لكثير منهم في القرآن والذكر، وتحصين البيوت بتلاوة كتاب الله، فأنت بطبيعة اشتغالك بالقرآن تديم هذه التلاوة، وتحصل هذه الفائدة النافعة، وهكذا تجد هذه الأمور كلها ميسرة. ثامناً: السلامة من الملل والسآمة لمن صدق الله وأخلص النية. لو كنت تريد حفظ القصائد والأشعار ونحوها، أو كنت تريد حفظ العلوم والمتون وتردادها، فإنه -لا شك- يسري إلى نفسك الملل، وبذلك -إن لم ترغم النفس وتخالفها- قد تنقطع، أمّا عند تردادك للقرآن واشتغالك به فلا خوف من الملل مطلقاً، فإنه لا يمل على كثرة ترداده. وقد عد الماوردي ذلك من إعجاز القرآن، فقال: ومن إعجازه أن تلاوته تختص بخمسة بواعث عليه لا توجد في غيره، أحدهما: هشاشة مخرجه، والثاني: بهجة رونقه، والثالث: سلاسة نظمه، والرابع: حسن قبوله، والخامس: أن قارئه لا يكلّ، وسامعه لا يملّ، وهذا في غيره من الكلام معدوم. فليس هناك تعب ولا ملل من تلاوة القرآن وتكراره، فأنت تجني هذه الفوائد دون أن يتسرب إلى نفسك ملل ولا تعب. والنويري أيضاً عدّ ذلك من إعجاز القرآن، فقال: إن قارئه لا يمل قراءته، وسامعه لا تمجه مسامعه، بل الإكباب على تلاوته وترديده يزيده حلاوة ومحبة، ولا يزال غضاً طرياً، وغيره من الكلام ولو بلغ ما عساه يبلغ من البلاغة والفصاحة يمل من الترديد، ويُسأم إذا أعيد، وكذلك غيره من الكتب لا يوجد فيها ما فيه من ذلك: تزداد منه على ترداده ثقةً وكل قول على الترداد مملول وكما قال الشاطبي أيضاً: وإن كتاب الله أوثق شافعٍ وأغنى غَنَاءً واهباً متفضلاً وخير جليس لا يمل جليسه وترداده يزداد فيه تجمُّلاً

وصايا وتوجيهات لأهل القرآن

وصايا وتوجيهات لأهل القرآن

وصايا عامة لأهل القرآن

وصايا عامة لأهل القرآن ثم ننتقل أيها الإخوة الأحبة بعد أن ذكرنا أنفسنا بمنزلة أهل القرآن والتعريف بهم، إلى الشق الثاني المهم، وهو: التوجيه بالوصايا لأهل القرآن، وأولها الوصايا العامة: أولاً: الإخلاص. وأهميته لا تخفى؛ فهو أول الأمر وآخره، وأوسطه وجوهره, ولا شك أن الأمر بدءاً بدونه لا قيمة له، ومن لطيف ما ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في كتاب الفوائد أنه قال: العمل بغير إخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملاً، يثقله ولا ينفعه، يتعب بدون نفع ولا فائدة. ثانياً: ألا يحرموا أنفسهم علوم القرآن، فلئن حفظت فجود، ولئن جودت ففسر، ولئن فسّرت فتعلم البلاغة، ولئن تعلمت البلاغة فعليك بأسباب النزول، وخذ حظك، فإنه لا يشبع منه أحد، ولا يمكن أن يصدر عن منهله أحد مطلقاً، وحسبك في ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح: والله الذي لا إله غيره! ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه. ثالثاً: العمل بالعلم، فإن هذا القرآن حجة لك أو حجة عليك، فكل مرتبط بالقرآن لابد أن يستشعر هذه المسئولية، أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخراً، وكائن لكم أجراً، وكائن عليكم وزراً -يعني: بحسب ما تعملون به أو تتخلفون عنه- فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من يتبع القرآن يهبط به في رياض الجنة، ومن يتبعه القرآن يزخ في قفاه فيقذفه في جهنم. وهذا لا شك أنه من الأمور المهمة التي نحتاجها، وقد كان هذا دأب الصحابة، قال أبو عبد الرحمن السلمي: كان الذين يقرئوننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نعرف ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل معاً. ولئن كان هذا الأمر غير متيسر ولا مأخوذ به فلا ضير أن تقرأ وأن تحفظ وأن تراجع، لكن لا تحرم نفسك من أن تستزيد وأن تتعلم، وأنت ملزم أن تعمل بما علمت. رابعاً: أن تطلب بصلتك بالقرآن الآخرة لا الدنيا، فإن أردت أن تحفظ فاجعل حفظك لله، وإن علّمت فاجعل تعليمك لله، فإن أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة: قارئ للقرآن، يأتي به الله عز وجل فيسأله: (فيم قرأت القرآن؟ فيقول: فيك -يا رب- قرأتُ القرآن وعلمتُه، فيقال: كلا! بل فعلت ذلك ليقال: قارئ، وقد قيل، فيؤمر به فيلقى في جهنم) فاطلب وجه الله عز وجل بقراءتك وتلاوتك وحفظك وتدريسك. وهذا أبو إياس معاوية بن قرة كما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه يقول: كنت نازلاً على عمرو بن النعمان بن مقرن، فلما حضر رمضان جاءه رجل بألفي درهم من قِبَل مصعب بن الزبير، فقال: إن الأمير يقرئك السلام ويقول: إنا لا ندع قارئاً شريفاً إلا وقد وصل إليه منا معروفاً، فاستعن بهذه على نفقة شهرك هذا، فقال عمرو: اقرأ على الأمير السلام وقل له: والله ما قرأنا القرآن نريد به الدنيا. وردّ عليه ما آتاه!! فهكذا كان أهل القرآن. وفي حديث عمران بن الحصين أنه مرّ على قاص يقرأ القرآن، ثم سأل -أي: طلب من الناس مالاً كما يصنع بعض الناس اليوم عندما يقرءون قراءات التطريب والتنغيم، ثم يبسطون أرديتهم ليضع الناس فيها أموالاً، فهؤلاء القراء يتكسبون بتلاوة القرآن!! - فلما رأى عمران بن الحصين ذلك استرجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس) والحديث في مسند الإمام أحمد، فلا تكن هذا الذي ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه كائن في أمته في آخر هذا الزمن. خامساً: تحسين الصوت وحسن التلاوة. اجتهد في ذلك ما استطعت فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) ونعلم أن النبي قال لـ أبي موسى الأشعري: (إنك أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) فاجعل من أهدافك أن تحسن بالقرآن صوتك، وأن تزين صوتك بالقرآن، فإن ذلك مما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (زينوا القرآن بأصواتكم) أخرجه ابن حبان في صحيحه. وجاء في صحيح ابن حبان من حديث أبي قتادة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بـ أبي بكر رضي الله عنه وهو يصلي خافضاً صوته -أي: بالقراءة- ومر بـ عمر يصلي رافعاً صوته رضي الله عنه، قال: فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك، قال: قد أسمعتُ من ناجيتُ، قال: ومررت بك يا عمر وأنت ترفع صوتك، فقال: يا رسول الله! أوقظ الوسنان وأحتسب به، فقال النبي لـ أبي بكر: ارفع من صوتك شيئاً، وقال لـ عمر: اخفض من صوتك شيئاً) فكن بين بين، وحسّن بهذا القرآن صوتك، وأسمعه الناس كما كان ابن مسعود يغشى به مجالس كفار مكة حتى يسمعهم كلام الله عز وجل. سادساً: المنافحة والدفاع عن القرآن. إذا كنت من أهل القرآن فلا بد أن تكون من الدعاة إلى القرآن، ومن المدافعين عن القرآن والمنافحين عنه، ولا ينبغي لك أن تسكت عمن يتهجم على القرآن، أو يستهزئ به، فإن سكتّ على هؤلاء فلست في الحقيقة من أهل القرآن؛ لأن من قدّر القرآن وجمعه في صدره وحفظه في قلبه فإنه يعز عليه أن يهجره الناس، فضلاً عن أن يتهجموا أو يعتدوا على القرآن، وحسبك في ذلك مواقف الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ومن ألطف وأبهر المواقف ما كان من عمر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: (أن عمر كان في المسجد، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يقرؤها قراءة لا يعرفها عمر - فكدت أساوره في الصلاة -أي: كدت أقطع عليه الصلاة-، فلما قضى صلاته لببّته بردائه وقلت: من أقرأك هذه السورة؟! قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: كذبت -أي: أخطأت- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما سمعتك تقرأ، قال: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله، فلما جاء إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وأبلغه الخبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام، فلما قرأ هشام قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف)، وبين له أن هذا وهذا كله من رسول الله صلى الله عليه وسلم. سابعاً: التميز في الشخصية، فأنت تحمل بين جنبيك كلام الله عز وجل، وقد أخذت المعجزة العظيمة، وقد سبق بيان ما لصاحب القرآن من القدر والمنزلة، فما ينبغي لك أن تكون مثل غيرك، وحسبنا في ذلك قول ابن مسعود: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون). وقال النووي عن حامل القرآن: ومن آدابه أن يكون على أكمل الأحوال، وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالاً للقرآن، وأن يكون مصوناً عن دنيء الاكتساب، شريف النفس، مترفعاً على الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا، ومتواضعاً للصالحين وأهل الخير والمساكين، وأن يكون متخشعاً ذا سكينة ووقار. يقول الفضيل بن عياض: ينبغي لحامل القرآن ألا يكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم. وعنه أنه قال: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو؛ تعظيماً لحق القرآن. وقال الحسن: إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل ويتفقدونها بالنهار.

وصايا خاصة لمتعلمي القرآن الكريم

وصايا خاصة لمتعلمي القرآن الكريم أولاً: المواظبة والاستمرار: كثيراً ما ينقطع هذا الخير ويتوقف رصيد الحفظ، بل تُنسى الآيات والسور المحفوظة شيئاً فشيئاً بسبب الانقطاع، وخير الأعمال أدومها وإن قل، وكان من دأب النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما بدأ بطاعة ثم تركها، وفي ترجمة الإمام أحمد عن إبراهيم الحربي أنه قال: صحبت ابن حنبل أربعين سنة فما رأيته في يوم إلا وهو أزيد من الذي قبله. فكيف تتكامل وتنقطع؟ واعلم أن الاستمرار هو الذي يؤتي الثمار، وأما الانقطاع فهو مظنة الضياع، وهذه حكمة احفظها والتزمها لعلها أن تنفعك إن شاء الله تعالى. ثانياً: الوقت المناسب: فلا تضحك على نفسك! بأن تخصص خمساً من الدقائق أو عشراً، أو تخصص ساعة نصفها يذهب في لغو ولعب وانصراف ذهن، فإنك حينئذ لم تأت بالأمر على تمامه، وهذا يقع من طلبة التحفيظ، فيأتي أحدهم بعد صلاة المغرب متأخراً، ثم يصلي السنة مطولاً، ثم يلتفت متحدثاً، ثم يجلس متلفتاً، ثم يردد مع المؤذن في أذان العشاء، ويقول: قد قضيت الوقت وداومت وواظبت، فما صنع هذا شيئاً ينفعه وإنما ضحك على نفسه، وأغرى به شيطانه، فينبغي له أن يفطن إلى ذلك، وينبغي له كذلك أن يختار الأوقات المناسبة، فلا يجعل حفظه ومراجعته في أردأ الأوقات، بعد أن ينهي كل الأعمال، والمذاكرات، وبعد أن يقضي كل المصالح، وبعد أن ينهي كل المشاوير والأعمال، فيأتي وقد كَلّ ذهنه، وتعب جسمه، فمهما أعطى من وقت فإنه لا ينتفع به، وقد قال الخطيب البغدادي: أجود أوقات الحفظ الأسحار، ثم نصف النهار، ثم الغداة، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود أماكن الحفظ كل موضع بعيد عن الملهيات، وليس الحفظ بمحمود بحضرة النبات والخضرة وقوارع الطرق؛ لأنها تمنع خلو القلب، وينبغي أن يصبر على ذلك إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى. ثالثاً: الإصغاء والتلقي: بعضهم يسرع ويتحمس ويسابق قبل أن يتقن ويسمع ويتلقى، وهذا قد جاء في القرآن الكريم لما كان النبي عليه الصلاة والسلام من شدة حرصه يسابق جبريل خوفاً أن يتفلت منه القرآن، فنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17]، وبعض الطلبة يريد إذا جاء المدرس يلقنه أو يقرأ عليه الدرس الجديد يظن أنه قد بلغ المنزلة والوضع الذي لا يحتاج معه إلى هذا التلقي، فلا يصغي له بأذنه، ولا يلقي له سمعه، ولا يحضر معه قلبه، ويتبرم بذلك ويريد الانصراف، ثم إذا به يخطئ فيما كان ينبغي أن يتلقاه وأن يتعلمه، وهذا كثيراً ما يقع فيه الطلاب فيخطئون في الحفظ، ويكون حفظهم الأول حفظاً خاطئاً، ويستمر معهم هذا الحفظ الخاطئ. رابعاً: الجد والاجتهاد: فإن أمر الحفظ والمراجعة وعلوم القرآن ليس أمراً ينال بالتمني ولا بالأحلام والأوهام، ولا بكثرة الطعام، ولا مع كثرة الراحة والمنام، هو أمر قد شمر له المشمرون، وتسابق إليه المتسابقون، وتنافس فيه المتنافسون، ووصل فيه السابقون ليلهم بنهارهم، وكانوا يقرءونه في حِلّهم وترحالهم، بل كانوا يرددونه وهم على صهوات الخيول وقت المعارك والجهاد والسيوف تسمع قعقعتها، والغبار يملأ الأجواء، والميدان تعلو فيه رائحة الدماء، قد كانوا يبذلون فيه جهداً عظيماً، ولذلك ينبغي أن تدرك هذا الأمر، ومع هذا فلا يهولنك الحفظ كما يقع لبعض الطلاب: فيرى بعد أن يبدأ في جزء أو جزءين أن العقبة كئود، وأن المهمة في غاية المشقة، وأنه لا يمكن أن يبلغ النهاية، إذا ظن ذلك فقد حطم نفسه، وهدم ركن عزيمته، وانقطع به سبيله في غالب الأحوال. أخي الطالب! اعلم أن الله قد قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، فليس الأمر صعباً، بل هذا من إعجاز القرآن كما ذكر ذلك الماوردي فقال: من إعجاز القرآن تيسيره على جميع الألسنة، حتى حفظه الأعجمي الأبكم، ودار به لسان القبطي الألكن، ولا يحفظ غيره من الكتب كحفظه، ولا تجري به ألسنة البكم كجريها فيه، وما ذلك إلا بخصائص إلهية فضله بها على سائر كتبه. كيف تقول: إنك لا تستطيع أن تحفظ أو ترى ذلك صعباً، وأنت ترى من لا يحسن العربية، ولا يجيدها ولا يتقنها، يحفظ ويرتّل ويجوّد، فإذا نطق بكلام آخر غير القرآن لم يستطع أن يقيمه، ولم تفهم منه كلمة، كما هو معروف في الأعاجم الذين يقرءون القرآن يحبرونه تحبيراً، فإذا تكلموا العربية كسَروها تكسيراً! وهذا من الإعجاز ومن التيسير للقرآن، فهو ميسر مذلل، لكنه يحتاج إلى جد واجتهاد، واعلم أنك في هذا مأجور بإذن الله عز وجل. خامساً: اغتنام الفرص: كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام حين أوصى بقوله: (اغتنم خمساً قبل خمس) فاحرص على الحفظ والتلقي في صغر السن، واحرص على ذلك في سن الطلب أي: في أوقات الدراسة قبل أن تتخرج وتصبح موظفاً، وتصبح رباً لأسرة، فإذا عجزت في الأولى فأنت في الثانية أعجز، فلذلك ينبغي أن تغتنم الفرص قدر استطاعتك. سادساً: الاستفادة من الزملاء في المدارسة والمذاكرة والتشجيع والمنافسة: بعض الطلاب ليس له مع إخوانه وزملائه صلة إلا صلة الود والمحبة، والأنس والمصاحبة، والأحاديث والمفاكهة، والنزهات والرحلات، لكن قل ما تجدهم يجتمعون لمراجعة ومدارسة وتسميع القرآن. سابعاً: توقير القرآن ومعلم القرآن: فإن بعض الطلبة لا يلتزمون هذا الأدب المهم وقد ذكر أبو شامة في أول شرحه على الشاطبية بعض هذه الآداب التي ينبغي أن يلتزمها الطالب، ومنها: أن يلزم مع شيخه الوقار والتأدب والتعظيم، وقد قيل: بقدر إجلال الطالب للعالم ينتفع الطالب بما يستفيد من علمه، وينبغي أن يعتقد أهلية ورجحان معلمه، وذلك أقرب إلى أن ينتفع به، وأن يكون مجلاً له وحافظاً لهيبته، ومن آدابه: أن يتحرى رضا معلمه وإن خالف ذلك هوى نفسه، ومن ذلك أيضاً: أن يدخل إلى حلقة القرآن بكامل الهيئة، فارغ القلب من الشواغل متنظفاً بسواك، وقد قص شاربه وظفره وأزال أي رائحة كريهة، منها أيضاً: ألا يترك طالب القرآن حلقته ولزومه معلمه لأي عارض بسيط من العوارض، أو لأي عذر يسير مما قد يمكن احتماله.

وصايا خاصة لحفاظ القرآن الكريم

وصايا خاصة لحفاظ القرآن الكريم هذه جملة يسيرة من وصايا الحفاظ، ولا شك أنهم يحتاجون إلى مزيد من التوجيهات والتنبيهات، والوصايا العامة التي ذكرتها آنفاً تعنيهم كما تعني الطلاب، ثم يزاد عليها الوصايا التالية: أولاً: إحكام التمكين: فلا يدفعك الفرح بختمك أو بحفظك عن أن تتمكن وتراجع وتديم هذه المراجعة في أول الأمر خاصة؛ لأن القرآن سريع التفلّت، ففي البداية وعند أول الختم راجع ما استطعت أن تراجع، ولو أن تختم في ثلاث، وهذا هو الحد الأقصى لختم المصحف، ولا يفقه من قرأ في أقل من ثلاث، ولو استطعت أن تختم في كل ثلاث فإن ذلك مطلوب منك. ثانياً: دوام التلاوة: كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو موسى: (تعاهدوا القرآن؛ فوالذي نفسي بيده! لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها). وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل صاحب القرآن كصاحب الإبل المعقلة -أي: المربوطة- إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت). ولذلك لابد من المداومة على التلاوة بالليل والنهار، والحل والترحال، في الصلاة وفي خارج الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم -كما في مسلم وفي مسند الإمام أحمد - يذكر الله في كل أحيانه. وفي حديث علي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء ما خلا الجنابة)، وفي حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع رأسه في حجر إحدانا -أي: من أزواجه- فيتلو القرآن وهي حائض) أي: يقرؤه ويديم التلاوة قائماً وقاعداً ومستلقياً، وإن كان متطهراً -أي: متوضئاً- أو غير متوضئ لا يمنعه من تلاوة القرآن إلا الجنابة. قال ابن الجزري: فليحرص السعيد في تحصيله ولا يمل قط من ترتيله وليجتهد فيه وفي تصحيحه على الذي نقل من صحيحه وهذا لا شك أنه من الأمور المهمة، قال النووي في (التبيان): ينبغي لحافظ القرآن أن يحافظ على تلاوته ويكثر منها، وكان السلف لهم في ذلك عادات مختلفة في قدر ما يختمون، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان، وعن الأكثرين في كل سبع ليال، وهذا بعد التمكن من إتقان الحفظ، فإنه ينبغي أن تديم التلاوة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. ثالثاً: اتقان التجويد: فلئن طُلب ذلك من الطالب فإنه من الحافظ آكد وألزم، فإن الحافظ يُعدّ في رتبة من يكون مدرساً ومحفظاً، فلابد أن يعنى بالتجويد، وبعض الناس يظن أن التجويد لا أهمية له!! وهو -كما نعلم- فرض كفاية، لكن كل أحد في اختصاصه مطلوب منه دواعي ومؤهلات ذلك الاختصاص، فالحافظ لاشك أنه يلزمه تعلم التجويد وإتقانه بصورة أكبر من غيره، ولذلك ينبغي له أن يتقن التجويد إتقاناً جيداً، وأن يحفظ في ذلك متناً كالجزرية أو غيرها، وأن يقرأ ويضبط شرح هذا المتن لكي يلمّ بالتجويد، وأن يختم ختمة كاملة على شيخ متقن مُجاز حتى يجاز ويمكنه أن يجيز غيره في هذه الرواية، فالقرآن إنما هو بالتلقي، والقراءة التي يقرأ بها بعضنا جيدة، لكن الحافظ ينبغي له أن يقرأ على الشيخ حتى يتصل سنده، ويكمل -بإذن الله عز وجل- المطلوب منه في هذا الشأن. رابعاً: تعليم القرآن بعد تعلمه وإتقانه: فإن هذا من أعظم أسباب العون على دوام التلاوة والتمكن من إتقان القرآن وتجويده. خامساً: الاستزادة من القرآن: فإذا حفظ ينبغي له أن يجوّد، وإذا جوّد طلب الإجازة في روايته، فإذا وجد في نفسه مكنة انتقل ليجمع القراءات السبع أو العشر، أو يجمعها من طرقها المتعددة إذا استطاع؛ لأن هذا -كما قلت- يرتبط بالقرآن وما مضى من القدر والمنزلة والشرف، إضافة إلى القيام بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون سبباً من أسباب حفظ القرآن بكل قراءاته وحروفه التي نزل بها، والتي بلغها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. سادساً: أن يفرح بنعمة الله عز وجل فرحاً مشروعاً، فلئن فرح الناس إذا تخرجوا من الجامعات أو إذا أخذوا الدكتوراه فإن التخرج من حفظ القرآن أعظم وأشرف: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، جاء في بعض التفاسير أن ذلك الفرح إنما هو الفرح بكتاب الله عز وجل، وقد ذكر الآجري في كتابه: (أخلاق حملة القرآن) ما ينبغي للحافظ من بعض الآداب التي ننصح بالرجوع إليها.

وصايا خاصة لمعلمي القرآن الكريم

وصايا خاصة لمعلمي القرآن الكريم أولاً: الحرص على تلقين الطلاب: فينبغي للمدرس ألا يجعل الطالب يحفظ إلا بعد أن يتلقى منه ويسمع جزءه منه، وذلك على سبيل الدوام بقدر الاستطاعة، ولا يكون المدرس متهاوناً في ذلك فيسري هذا التهاون إلى الطالب، فيظن نفسه أنه قد أجاد وأفاد، فينطلق ليحفظ حفظاً خاطئاً. ثانياً: حسن التوزيع والترتيب في الوقت: فبعض المدرسين ينشغل بالطالب الأول حتى يمضي نصف الوقت، ثم يمضي النصف الثاني من الوقت مع العشرين الباقين!! وهذا أمر فيه تخليط، إذ ينبغي له أن يحسن التوزيع بين التسميع وبين التلقين وبين توزيع الحلقة في المراجعة؛ حتى يستطيع أن يفيد الطلاب، وأن يحقق الغاية التي ترجى إن شاء الله تعالى. ثالثاً: التدقيق في الحفظ والمراجعة: فلا ترخّص ولا تتساهل، سيما في الحفظ الجديد كما ذكرنا، إذ لابد أن تحرص على إتقان الطالب وتمكنه من حفظه بأكمل وأتم صورة يستطيعها؛ حتى يضمن له أساساً صحيحاً يمكن البناء عليه، وكذلك المراجعة لا تدعه يفرط ويكسل في هذا الجانب. رابعاً: البذل للمقبلين: فإن بعض الطلبة أصحاب همم عالية، وأصحاب إمكانات حباهم الله عز وجل إياها، فلا تقتصر -أخي المدرس- على الوقت المقرر، فإذا جاء هذا وقد حفظ نصف جزء أو خمس صفحات أو غير ذلك قلت له: إلى يوم غد إن شاء الله، ويأتي الغد فيضيق الوقت فإلى بعد غد، فكلما تحمّس الطالب ثبّطته، وكلما انطلق أعقته، وكلما زاد نقصته، فكنت سبباً في عدم اندفاعه. فينبغي إذا كان صاحب همة إن أراد بالليل فبالليل، وإن أراد بالنهار فبالنهار، وإن أراد بعد الفجر فلا بأس، وإن أراد قبله فلا شيء في ذلك. وخشية الإطالة فإني قد أعرضت عن ذكر بعض ما ورد من التراجم، ومن ذلك: أن أحدهم قد مضى إلى قارئ دمشق يقرأ القرآن عليه، قال: فخرجت مع الأذان الأول -أي: قبل الفجر- حتى أسبق إلى الحلقة، فجئت فإذا قبلي ثلاثون! فمتى جاء هؤلاء الثلاثون؟! فتأمل وتدبر. خامساً: حسن المعاملة للطلبة وترغيبهم: فلا تكن منفّراً، ولا تكن أيضاًَ مرخصاً، فالأمر الوسط هو الأمر الحسن. سادساً: أن تكون ذا فطنة تستطيع أن تحوز في الوقت القليل وبالجهد القليل أكبر قدر من الفائدة: على سبيل المثال في أمر المراجعة: لك أن تقسم الطلبة إلى اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، وتجعل ذلك التقسيم غير ثابت، بل ينبغي أن يتغير بين يوم وآخر، أو بين بضعة أيام وأخرى، حتى لا يكون هذان الطالبان يلازم أحدهما الآخر للمراجعة، والمدرس بعد تسميع كل طالب يرجع إلى صاحبه فيبدآن في حصة المراجعة، والمدرس يمر في أقل من خمس دقائق على الجميع فيرى ويسمع ويعرف إن كان الأمر يسير سيراً حسناً أم لا، ثم يغير الطلبة حتى لا يرخص أحدهم لزميله، أو يتجاوز الأول للثاني، فكل مرة يغير هذا مع هذا وذاك مع هذا؛ حتى يستطيع -إن شاء الله- أن يضبط الطلاب جميعاً. ولا شك أن هناك أموراً ووصايا كثيرة مذكورة في مواضعها، من التزام الآداب، وإخلاص النية، والحذر من كراهة قراءة أصحابه على غيره، كما يقول النووي رحمة الله عليه: كما يقع من بعض المعلمين الجاهلين، أن يحب أن طلابه لا ينتفعون إلا به، فإذا كان عند غيره في القرآن انتفاع أو مزيد علم أو إحكام وتجويد فأخذ بعض طلابه من هذا الشيخ أو من هذا المدرس فائدة غضب لذلك واستشاط، وزجر ووعد وتهدد، فهذا لا شك أنه غير لائق به.

وصايا وتوجيهات متعلقة بحلقات تحفيظ القرآن الكريم

وصايا وتوجيهات متعلقة بحلقات تحفيظ القرآن الكريم هذه بعض الملامح المهمة التي نرى أنها تجعل الحلقة تقترب نحو المثالية: أولاً: ينبغي أن يكون العدد ما بين خمسة عشر طالباً إلى عشرين لا يزيد حتى يؤتي العمل ثمرته. ثانياً: وقت الحلقة في كل يوم ما بين ساعة ونصف إلى ثلاث ساعات، فلا يقل عن ساعة ونصف عملية -وليست نظرية- لأن النظرية معناها أن تمضي ساعة ونصفاً منذ بدء الحلقة، لكنها يتخللها أمور لا تجعل الوقت الفعلي أحياناً سوى أقل من ساعة أو نحوها، أما الوقت الفعلي فيكون بعد حذف الأوقات الضائعة وعدم حسابها على الحلقة. ثالثاً: التعاون والتواصل مع الآباء وأولياء الأمور: فإن هذا يسهل كثيراً من العوائق، ويساعد في الوصول إلى الثمرة إن شاء الله. رابعاًًً: دعم المجتمع ومعرفته بهذه الفضائل والثمار: حتى يتوافر الدعم العام الذي يشجع المدرس والطالب ويعينهما على الاستمرار والمواصلة. خامساً: إكرام المدرس وتشجيع الطالب: إكرام المدرس فلا ينبغي أن يُنظر إلى حافظ القرآن ومدرسه ومعلمه نظرة فيها شيء من الازدراء أو الاحتقار، أو أنه أدنى منزلة، أو أقل مالاً، أو نحو ذلك؛ فإن هذا مما يعيق، وكذلك تشجيع الطلاب، فلا ينظر إلى من اشتغل بالقرآن أنه أدنى ممن اشتغل بالدرجات وتحصيل الامتياز في المدرسة، أو غير ذلك. هذه بعض الملامح العامة التي أسأل الله عز وجل أن يكون فيها النفع والفائدة، وأسأله جل وعلا أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.

الأسئلة

الأسئلة

اقتران الدروس بالرقائق

اقتران الدروس بالرقائق Q هناك دروس علمية مليئة بالفوائد، ولكن هلا طبعت بالطابع الإيماني، وهلا خلط بعضها بشيء من الرقائق؟ A أرجو أن يكون الأمر كذلك، وإن كان لهذه الأمور أهلها المجيدون فيها، والقادرون عليها.

إمامة الصغير للناس

إمامة الصغير للناس Q قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فكيف يكون الحال عندما يكون أقرؤهم صغيراً؟ A إذا كان صغيراً مميزاً فهو الذي يؤم القوم إن كان أقرؤهم، وقد ثبت ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حياة السلف، وقد ذكر الذهبي في تراجم بعض القراء بأنه جمع القراءات وهو بعد العاشرة بقليل.

لبس الزي الشرعي المخصص لطالب التحفيظ

لبس الزي الشرعي المخصص لطالب التحفيظ Q هل من نصيحة لبعض الطلاب الذين يحضرون التحفيظ بغير الزي المخصص؟ A قد ذكرنا في آداب الطلاب أنه ينبغي لهم أن يتهيئوا ويتطهروا، ويتنظفوا بالسواك، ويقصوا أظفارهم، وأن يمتنعوا من الروائح الكريهة، وغير ذلك، فهذا من أدب القرآن قبل أن يكون من نظام التحفيظ.

صحة ما جاء في الاستعانة على قيام الليل بقراءة آيات معينة قبل النوم

صحة ما جاء في الاستعانة على قيام الليل بقراءة آيات معينة قبل النوم Q ما صحة قول: من قرأ العشر الآيات الأولى والأخيرة من سورة الكهف بنية الاستيقاظ من آخر الليل أيقظه الله؟ A لا أذكر أن له أصلاً، والله أعلم.

رفع الصوت في صلاة النافلة

رفع الصوت في صلاة النافلة Q هل يجوز أن أتلو بصوت مسموع -قليلاً- في صلاة النافلة؟ A في النافلة أو في غير النافلة الأصل في صلاة المنفرد أن يُسمع نفسه، ولابد أن ننبه إلى بطلان الصلاة التي يصليها بعض الناس ويقول: إنه يقرأ في سره ولا يحرك لسانه ولا شفتيه، فهذا لا تقبل قراءته بقلبه دون تحريك لسانه، وهذه من المسائل المهمة، ففي صلاة السر لابد أن يحرك لسانه وشفتيه، وألا يقرأ قراءة قلبية بل لفظية ليسمع نفسه، وبعض الناس يسمع نفسه ويسمع سبعين عن يمينه وسبعين عن يساره -أي: يرفع صوته فوق الحاجة- وهذا لا ينبغي، فإذا كنت تصلي صلاة نافلة فلا بأس أن ترفع صوتك، ولو جهر المصلي بصوته في صلاة السر فلا شيء في ذلك، وإن كان الجهر في غالبه مأثور في صلاة النافلة في الليل، والسر مأثور في صلاة النافلة في النهار.

حكم عدم التدبر أثناء الحفظ والمراجعة

حكم عدم التدبر أثناء الحفظ والمراجعة Q عندما يراجع الطالب لا يتدبر ولا يتأمل، بل يجمع ذهنه في الحفظ والترتيل ومخارج الحروف؟ A لا بأس، افعل ذلك أولاً، وسيأتي التدبر ثانياًَ، إن كنت باقياً على صلتك بالقرآن فاعلم أنك سوف تتمكن وتجوّد، ويصبح التجويد ملكة لك لا تحتاج أن تفكر في غنة ولا في سبب مد، فستكون القراءة بعد ذلك سليقة لك، فتتفرغ بعد ذلك للتدبر والتأمل والتفسير.

أهمية أخذ القرآن عن المتقنين له

أهمية أخذ القرآن عن المتقنين له Q لي أخ يأبى أن يسمع من قارئ متقن، ويقول: إن هذا ليس ضرورياً، والتجويد ليس مهماً، وهو معي في جدال مستمر؟! A كل شيء له باب وله مفتاح، وله أصول وآداب، وله سنن، بل له واجبات، فلابد من أخذ الأمور كما ينبغي أن تؤخذ.

حكم نسيان المحفوظ من القرآن

حكم نسيان المحفوظ من القرآن Q ما حكم من حفظ ثم نسي؟ A قد ورد في ذلك الوعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك من أعظم الذنوب التي عرضت عليه من ذنوب أمته.

الامتناع عن قراءة القرآن بداعي الخجل

الامتناع عن قراءة القرآن بداعي الخجل Q بعض الناس إذا قيل له: اقرأ آيتين من القرآن خجل؟ A هذا أمر شخصي لا أظن فيه بأساً، إذا كان لا يتقدم أمام الناس خجلاً فينبغي أن يتعود شيئاً فشيئاً، وأن يترك الحياء في مثل هذه الأمور، فإنها من الأمور التي قد جعلت لها أسس وسنن مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ضرورة الاستمرار في مراجعة القرآن وعدم الانقطاع

ضرورة الاستمرار في مراجعة القرآن وعدم الانقطاع Q حفظت القرآن بدون مراجعة بعد تلك المرة، وكلما بدأت المراجعة تقدمت قليلاً ثم توقفت لأني لا أدرس في حلقة، ولا أستطيع ذلك، وأنا حفظت بطريقة جيدة ولله الحمد، فماذا علي أن أفعل؟ A الحل أن تراجع، وألا تتوقف عن المراجعة، والمقطع الذي لا تضبطه حفظاً اقرأه ولو نظراً، وكرر قراءته نظراً فإن ذلك ينفع، المهم ألا تقطع ولا تنقطع.

التحذير من جلساء السوء

التحذير من جلساء السوء Q بعض طلبة التحفيظ يخالطون بعض الشباب غير الملتزمين الذين قد يصرفونهم عن التحفيظ فما توجيهكم لهم؟ A أقول: إن يكن فيهم خير يأت بهم الله، فأديموا نصحهم، ولا يكن ذلك سبب في أن يحرموا من حلقة القرآن، فسيظل القرآن بهم حتى يمنعهم بإذن الله مما لا يليق بهم، ويمنعهم مما يضيع أوقاتهم أو يقترفون فيه الإثم والذنب، ويرجعون به إن شاء الله، مع نصح مدرسهم، ووعظ إخوانهم، وحسن سياستهم لهم.

تفريغ القلب لتدبر القرآن

تفريغ القلب لتدبر القرآن Q أحاول أن أتدبر القرآن، ولكن تأتيني أفكار وتشويشات؟ A وكلنا ذلك الرجل إلا من رحم الله!! فاستعن بالله وبالدعاء وبجمع القلب وإحضار العقل ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

أخذ الأجرة على تعليم القرآن

أخذ الأجرة على تعليم القرآن Q ما حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟ A فيه خلاف بين أهل العلم، والأشهر أنه مكروه، وهو محرم عندما يكون على سبيل الاشتراط والإلزام، مثل: أنه لا يُعلّم إلا أن يُعطى أجراً قدره كذا وكذا، ورخص فيه بعض السلف، فلا بأس أن يأخذ إذا لم يشترط، وإذا لم يقدر، وهذا لا شك أن فيه فسحة ورخصة، ليكون هناك من يتفرغ للقرآن وتدريسه، ولا حرج في ذلك إن شاء الله ما دام المرء مبتغياً بذلك وجه الله عز وجل.

دعوة للآباء لتسجيل أبنائهم في حلقات التحفيظ

دعوة للآباء لتسجيل أبنائهم في حلقات التحفيظ Q نشكو غياب الوعي لدى الآباء، فلا يسجلون أبناءهم في التحفيظ، ولا يهتمون بمثل هذه الأمور؟ A قد ذكرنا القدر والمنزلة والنفع والفائدة والأجر والمثوبة لحملة القرآن، وأظن الآباء لو تأملوه لحضروا بأنفسهم لحلقات التحفيظ، فضلاًً عن أن يُحضروا أبناءهم.

التوسط في اللهو المباح

التوسط في اللهو المباح Q كيف نوفق بين قول من قال: حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، وقول ابن مسعود رضي الله عنه فيما ينبغي أن يكون عليه حال حامل القرآن، مع ما عليه أغلب شباب التحفيظ وبعض الحفاظ من اللعب بالكرة وغيرها من الألعاب؟ A ينبغي لك أن تكون متزناً في حكمك، ومعتدلاً في رأيك، فليس اللهو محرماً بالكلية، وإن بعض اللهو يستجم به، كما جاء عن أبي الدرداء في الساعات الأربع، قال: ومنها ساعة أستجم فيها لنفسي فهي عون لي على الساعات الثلاث، والأمر المباح الذي ينشط ويرفه الناس لا حرج فيه، وصاحب الرسالة ليس بالضرورة أن تراه دائماً حزيناً باكياً، فربما تبسم وقلبه ينطوي على هموم الأمة، وملء نفسه همة تطمح إلى ذرى القمم وأعالي الجبال، ثم أخي لا تعمم وتقول: الأغلب أو الأكثر، ولا تكن متشائماً في نظرتك، فإن هذا مما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: (من قال: هلك الناس فهو أهلَكُهم)، وفي ضبط آخر للرواية (فهو أهلَكَهم) أي: هو الذي أراد إهلاكهم أو فهو أهلَكُهم، أي: أشد هلاكاً منهم.

قراءة القرآن بحضرة الأغاني

قراءة القرآن بحضرة الأغاني Q هل يجوز قراءة القرآن وهو يسمع الغناء، ولكن لا يستطيع أن يغير مكانه؟ A إذا كان هناك غناء واستطاع أن يغير مكانه فهذا الأولى، وهو الذي ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان يردف ابن عباس وراءه، فسمع مزماراً فتنحى عن الطريق، وجعل إصبعه في أذنه وكان يقول له: (هل تسمع؟ هل تسمع؟) حتى لا يسمع اللهو والباطل، وإن كان في مكان لا يستطيع التحول عنه إلى غيره، فهذا مغالبة للباطل إن شاء الله تعالى، فهو يغالب بالحق الباطل، ويصر على أن يرفع صوت القرآن على صوت الغناء.

إتيان المعاصي والذنوب ليس سببا للتخلي عن حفظ كتاب الله

إتيان المعاصي والذنوب ليس سبباً للتخلي عن حفظ كتاب الله Q قد يخالف المسلم ما يحفظ ويرتكب ذنوباًَ، ولكن مع ذلك يقول: لن أتوقف عن الحفظ والمراجعة، ولست مصراً على المعاصي وأتوب وأستغفر، فما الحكم في مثل هذه الحالة؟ A كلنا ذاك الرجل، وخير الخطائين التوابون، واحرص وكن مع القرآن، فسيكون ذلك إن شاء الله أبعد لك عن هذه الآثام والذنوب إن شاء الله تعالى. أسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق والفائدة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

بدر والعشر

بدر والعشر إن المتتبع لما حدث في معركة بدر من اندفاع الصحابة لامتثال أوامر الله عز وجل وأوامر رسوله ليتملكه العجب، كيف لا وهم يعلمون أن عاقبة هذا الفداء إزهاق للأرواح وذهاب للأنفس والمال، لكن لا يلبث هذا العجب أن يتلاشى عندما يعلم أن سبب ذلك هو قوة صلتهم بربهم سبحانه وتعالى، فهم ما أقدموا على ذلك إلا بعد أن علموا بأن الله سيجازيهم على ما بذلوه بالخير العميم والأجر العظيم، وعلموا أن الله تعالى ناصر دينه ومعز أوليائه.

بدر والعشر وواقعنا المعاصر

بدر والعشر وواقعنا المعاصر الحمد لله جعل في رمضان خلة الصبر، وجعله مخصوصاًَ بمعارك العز والنصر، وخصه بليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر وسلاماً حتى مطلع الفجر، ووعد فيها بمحو الوزر ومضاعفة الأجر، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، أحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، النبي المجتبى، والرسول المصطفى، علم التقى ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فحديثنا عن بدر والعشر وواقع العصر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل لنا في تشريعاته وفيما قضى وقدر فيما سلف من الأيام والتواريخ عبراً وعظات ينتفع بها العبد. فبدر حدث عظيم وفي تاريخ الإسلام، يوم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والحديث فيها يطول، غير أنّا نقف وقفات نستلُّها من بين تلك الأحداث، ونربطها بما نرومه ونتطلع إليه ونقبل عليه في العشر المرتقبة في ختام هذا الشهر، ونصل ذلك كله بواقع أمتنا ومسلك حياتنا، وما هي أحوالنا في كل ما نتصل به من أمر ربنا وفرائضه، وما نتصل به من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه، وقفة مع الفداء بلا امتنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تكلموا بألسنتهم، وعقدوا العزائم في قلوبهم، وصدقوا ذلك بأفعالهم، ومزجوه بدمائهم، وسطروه في تاريخهم، يوم استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عندما تعين القتال بعد إذ لم يكن، حين تحولت المسألة من ثروة إلى ذات شوكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فتكلم أبو بكر فأحسن، وتكلم عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال مقالته الشهيرة: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، فوالله ما نقول لك ما قالت بنوا إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالله لو سرت بنا إلى برك الغماد فجالدت بنا لسرنا معك حتى تبلغه. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فقام سعد بن معاذ سيد الأنصار فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال سعد يعبر بلسان الإيمان وبكلام اليقين وبموقف الثبات وبرؤية ما وراء هذه الحياة: آمنا بك وصدقناك، وشهدنا على أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة. ثم قال: صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، وما أخذت منا أحب إلينا مما تركت لنا، وما أمرتنا بأمر إلا ونحن تبع لأمرك، فامض بنا -يا رسول الله- لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فانفر على بركة الله.

ضرورة التوفيق بين ميادين الخير

ضرورة التوفيق بين ميادين الخير هذه ومضة مهمة ونحن نقبل على عشرنا، فماذا نفعل في ميدان من ميادين الخير مع تفاوتها؟ علينا أن نعمل لعل الله أن يرى منا ومن طاعتنا وعبادتنا وذكرنا ما يحبه ويرضاه، ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم منا من بعد ما نحن سائرون في أثره ومقتفون له في هذه العشر من قيام أو اعتكاف أو عبادة أو غير ذلك. (لعل الله يريك منا ما تقر بها عينك) هذه التضحية قالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في ميدان الجهاد والسيوف تبرق، وعلائم الموت تخفق، والصفوف على وشك أن تلتحم، عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مواجهة جيش عدته ثلاثة أضعافهم، فما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا وما استكانوا، وما تراجعوا وما ترددوا، ولكن أقدموا وعزموا وجزموا، وأعلنوا الفداء والتضحية بلا منة، بل المنة ذكروها لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل من شئت، واقطع من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت لنا) وصدقوا ذلك، فكم نحن في حاجة إلى أن نصدق الله عز وجل في كل ميادين التضحية، ليس في مجرد أذكار نذكرها، ولا ليال بالقيام نعمرها، ولا مجرد خلوة لله عز وجل وعليه نقصرها، وكل ذلك خير، غير أن البذل والفداء والتضحية في سبيل الله وفي سبيل نصرة دين الله وفي سبيل الذود عن عباد الله المؤمنين أمر له في الإسلام مقام رفيع ومكان سام ومنزلة عظيمة، فينبغي أن لا نقتصر في المنازل والمراتب في السير إلى الله وابتغاء رضاه على مجرد الأذكار والصلوات والعبادات والدعوات، فهذه ميادين وتلك ميادين، هذا يستمد من هذا وهذا يؤيد هذا، دون أن نقتصر على صورة محدودة ننفصل بها عن ديننا وننقطع بها عن أمتنا، ولا يكون في همنا ولا في فكرنا ولا فيما يشغل بالنا مصير أمتنا ومواجهتها لأعدائها وحاجتها إلى النصرة والفداء والبذل دون منِّ أو استكثار، كما رأينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نماذج من المتسابقين نحو الجنان

نماذج من المتسابقين نحو الجنان خطوة أخرى: سباق نحو الجنان. ألسنا نريد ذلك في عشرنا التي نرتقبها؟! ألسنا نريدها في كل أعمال الطاعات والعبادات؟! ارقبها وانظر إليها في صور وضيئة مشرقة نادرة عزيزة المثال في حياة البشر، انظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه وهو يتحدث عن غزوة بدر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) وليس القيام هنا إلى تلك الجنة بقيام ليل ولا بتلاوة قرآن، ولكن بمجاهدة عدوٍ وإعزاز دين ورفع رايةٍ، (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فسمع عمير بن الحمام فقال: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض -يستوثق ويتأكد-؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال عمير: بخ بخ. فقال له المصطفى عليه الصلاة والسلام: ما يحملك على ما قلت؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: فأنت من أهلها. فأخرج تمرات يأكلها، ثم قال: ما أطولها من حياة حتى أتمها. فرمى بتمراته وانطلق يغمس نفسه في العدو حتى قضى شهيداً إلى الله عز وجل) إنها أقوال تترجم إلى أعمال، إنها أخبار يراها المؤمنون رأي العين، ليس مجرد تصوير، بل كأنما لمسوها وكأنما عاينوها، كما قال أنس بن النضر في يوم أحد: (وآه لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد). ترجمت تلك المعاني إلى سباق حقيقي إلى الجنان ببذل المهج والنفوس والأرواح، لا بمجرد الاقتصار على جزء من الطاعات والعبادات دون غيرها. وتأمل وتدبر في حادثة أخرى لعلها أقل شهرة، وربما لا يعرفها كثير من الناس، ذكر ابن حجر في الإصابة عن ابن شهاب في مغازيه أن خيثمة وابنه سعد أنهما استهما في يوم بدر للخروج -كان لا بد من أن يخرج أحدهما ويبقى الآخر؛ لأن لهما من شئونهما ومن واجبهما تجاه أهلهما ما يحتاج إلى بقاء أحدهما- فاستهما قرعة، فجاء السهم لـ سعد الابن، فأراد أن يخرج، فقال له أبوه: ألا تؤثرني بذلك يا سعد؟! فرد سعد بكلام فيه التوقير والإجلال والاحترام: لو كان غير الجنة يا أبي. فمضى سعد واستشهد في بدر، ومضى من بعده خيثمة في أحد ومضى شهيداً). فاته بدر فلم تفته أحد. فهل رأينا صورة أروع من هذه الصورة تصديقاً للإيمان وبرهاناً على اليقين ونصرة للدين؟! لم يكن أحدهما يتأخر والآخر يتقدم، بل كانا يتسابقان، فلم يجدا إلا قرعة تفصل بينهما، فلما خرجت القرعة للابن أراد الأب أن يستغل مكانه ومقامه وقدره واحترامه فقال: آثرني بها يا سعد! ولو كان الأمر في ميدان آخر لتأخر الابن وقدم أباه، لكنه قال: لو غير الجنة يا أبي لآثرتك بها. أي أن هذا ميدان لم يعد فيه مجال لإيثار، وأي ميدان هذا؟ إنه ليس ميدان صف الأقدام في القيام، ولكنه ميدان قعقعة السيوف وضرب السهام، ميدان إزهاق الأرواح وإفضائها إلى ربها ومولاها سبحانه وتعالى، فكم نحن في حاجة ونحن نستبق إلى مرضاة الله ونطلب جنانه في عشرنا الأواخر إلى أن ندرك أن دورنا جميعاً ودور أمتنا أن ترفع راية الجهاد في سبيل الله والذود عن دين الله، وأن تكون جبهة واحدة في وجه أعداء الله عز وجل، ليس مجرد تلك العبادات وحدها، فإن من هذه العبادات ما نعلم أنه ذروة سنام الإسلام، ألا وهو الجهاد في سبيل الله.

ارتباط النصر والتمكين والعزة بحسن الصلة بالله عز وجل

ارتباط النصر والتمكين والعزة بحسن الصلة بالله عز وجل ننظر إلى مواقف أخرى لنرى مرة ثانية وثالثة كيف تكون الموازنات كاملة في دين الإسلام في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وهديه، صلة بها مدد الرحمن، ألسنا اليوم نرفع أكفنا؟! ألسنا اليوم نسجد بجباهنا؟! ألسنا اليوم نلهج بألسنتنا في دعائنا؟! أي شيء نريد؟! إنما نريد التعرض لرحمة الله، إنما نستمد العون من الله، إنما نطلب مغفرة الله عز وجل، وينبغي أن نوقن أن صلتنا بالله عز وجل هي نور طريقنا، وهي مفتاح مغاليق أمورنا، وهي -بإذن الله عز وجل- عوننا في مواجهة خطوبنا وتيسير أمورنا إن شاء الله تعالى. في يوم بدر يوم تعين القتال بعد أن كان أمر الغنيمة وأمر الثروة السهلة التجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ومولاه ورفع يديه يدعو الله سبحانه وتعالى: (اللهم! أنجز لي ما وعدتني، اللهم! نصرك الذي وعدتني. حتى قال له أبو بكر رضي الله عنه بعد أن رأى شدة إلحاحه: حسبك يا رسول الله! فإن الله منجز لك ما وعدك) فاستبشر النبي صلى الله عليه وسلم، وعين مصارع المشركين، فما أخطأ أحد الموضع الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما كانت القلوب كلها موصولة بالله عز وجل، وعندما كان الصحب الكرام رضوان الله عليهم يمثلون الصفوة المختارة من أهل الإيمان تغيرت أحوال الكون، وتغيرت معطيات الحياة لأجل أولئك النفر الذين أمدهم الله سبحانه وتعالى بكل شيء: {إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] أنزل عليهم النعاس في الوقت الذي كان قد خالط القلوب رهبة من هول ذلك الموقف ولقاء جيش هو ثلاثة أضعاف العدد، أفاض الله عليهم الأمان، وأنزل عليهم الأمطار تطهرهم، وتثبت أقدامهم، وتربط على قلوبهم، عجب! مطر هنا وليس هناك مطر في الجانب الآخر، إنها عناية إلهية، إنها أمداد ربانية يمكن أن تخص الواحد الفرد بذاته فضلاً عن الصفوة المختارة، فضلاً عن الأمة كلها إذا كانت مع ربها وعلى هدي رسولها صلى الله عليه وسلم، وهكذا رأينا {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] تنزلت ملائكة السماء تقاتل مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وثبت في ذلك من الروايات والأحاديث كثير وكثير، وصدقته قبل ذلك وأثبتته الآيات، ثم كل الصور التي يمكن أن نتصورها قد وقعت من ذلك التأييد الرباني الذي كان مما ذكره الله عز وجل ومما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] ونحن نطلب مدد الرحمن، ونرفع أيدينا نريد عزه ونصره وتأييده، فلا شك أن هذا المدد هو مبني على حسن تلك الصلة بالله عز وجل في سائر الميادين، وفي كل المجالات التي وردت فيها أوامر الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقفة مع زعماء الكفر

وقفة مع زعماء الكفر لعلنا ندرك ذلك -أيضاً- في وقفة رابعة مهمة نربطها بواقع عصرنا لنرى صورة الأعداء في ذلك الزمان وهذا الزمان، لنرى أننا إذا نظرنا بعين البصيرة، وإذا قرأنا الأحداث بقلب المؤمن وجدنا فيها جلاء ووضوحاً لكل ما يمر بنا أو يقع حولنا في عصرنا هذا، كان مما ذكر أهل السير أن عاتكة بنت عبد المطلب قبل أن تكون المعركة وقبل أن يصل ذلك الرسول الذي أرسله أبو سفيان ليستنجد قريشاً ويستحثها لإنقاذ ثرواتها رأت رؤيا، ورأت في هذه الرؤيا مقتل عدد من الصناديد الذين كانوا من زعماء الكفر في قريش، وأن صخرة تفتت فما بقي دار إلا وصل إليها منها حجر. ثم من بعد ذلك كانت رؤيا لـ جهيم بن الصلت من بني هاشم قبيل المعركة، وكان فيها أن رجلاً أقبل فما زال يقول: قتل فلان وفلان وفلان. وسمى من سمى من صناديد قريش، ثم قال: فنظرت إليه فإذا به يطعن لبة بعيره ثم يكون من دمه ما أصاب كل أحد. وهذا أبو جهل زعيم الكفر في بدر، ويمكن أن نصوره في عصرنا بألد الأعداء وأشرسهم ممن يناوئون دين الله عز وجل ويحاربون أهل الإسلام، تأمل فيما قال أبو جهل وهو ينكر هذا، وهو يستعظمه، وهو يتندر به في شأن عاتكة للعباس: ما كفانا منكم -بني عبد المطلب - حين تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم. يستهزئ ويسخر، ثم قال عندما روجع في ذلك حتى يرجع عن هذا القتال وقد مضت قافلتهم وسلمت أموالهم وانقضى السبب الذي لأجله خرجوا قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً -وكانت بدراً موسماً يجتمع فيه العرب في بعض الأوقات- فنقيم عليها ثلاثاً فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ومقامنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا واثبتوا. ويقول في موضع آخر سعى حكيم بن حزام إلى عتبة وقال له: قد نجت القافلة، وإنما نطلب محمداً بدم ابن الحضرمي، وإنه حليفك فتحمل عنه دمه. فقال: أفعل. اذهب بهذا إلى ابن الحنظلية -يعني أبا جهل - وقل له. فقال أبو جهل في هذا الأمر ما قال. ثم كذلك جاء موقف ثالث في أحداث السيرة يبين لنا صورة أخرى سنربط بها واقعنا هذا فعندما تعين القتال وأصر عليه أبو جهل وساق الناس إليه سوقاً وحشدهم إليه حشداً وثبتهم فيه رغماً عنهم استفتح أبو جهل كما ورد في الصحيح وظل يدعو الله عز وجل، وهذا من العجائب أن يكون كافراً بالله محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعادياً للدين الحق ثم يدعو فيقول: اللهم! أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. أي: من كان منا أقطع للرحم، ومن جاء بما لا نعرف وأساء إلينا فاجعل هلكته اليوم. وفي ذلك تنزلت الآيات: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] فما الحكمة وما السر في دعاء أبي جهل هذا؟ إنه يريد أن يقول لمن معه: ليس محمد صلى الله عليه وسلم وحده متصلاً بالله، بل نحن كذلك موصولون بالله، ولأن كان محمد يستنجد ويستنصر بربه فنحن كذلك نستنجد ونستنصر بالله. يريد أن يجعل للمسألة بعداً دينياًًً ومفاضلة عقدية، كما يقول زعماء الكفر في عصرنا: إن الله أمره اليوم بأن يقاتل هنا أو هناك. وهو لا يعلم أنه على ضلال كبير وكفر عظيم، بل هو رأس من رءوس الكفر، بل ربما رأسه الأكبر الذي تولى كبر حرب الإسلام والمسلمين، نسأل الله عز وجل أن يجازيه بما يستحق. عندما نتأمل في هذا المعنى نضيف إليه -أيضاً- مقالة ووقفة أخرى مع أبي جهل تربطنا بواقعنا لنرى كيف كان الأمر، فعندما جاء خفاف بن إيماء الغفاري -وقيل: أبوه- ومر قريباً من مكة قبيل مسير الكفار إلى بدر وقد علم بالخبر، فأرسل إليهم جزائر -أي: بعض الجزور والإبل هدايا لهم- وقال: إن شئتم أن أمدكم بسلاح ورجال فعلت. فردوا له مع ابنه شاكرين له، وقالوا: وصلت الرحم، ولئن كنا نقاتل محمداً بالناس فإنا لمنتصرون، ولئن كنا نقاتل الله مع محمد كما يزعم فما لأحد بالله من طاقة. لقد كان أبو جهل أعقل من كفار اليوم الذين تحدوا حتى الرب سبحانه وتعالى في مقالتهم وأفعالهم. صحيح أنهم قالوا ذلك تهكماً وقالوه إنكاراً وجحوداً لما كان يقوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكنه في الوقت نفسه دلالة على شيء من التوازن الذي أراد به أبو جهل وغيره أن يسوقوا الناس إلى المواجهة والقتال بنوع من الحمية الجاهلية ونوع من الإسناد المعنوي العقدي الديني ليحشدوا الناس في مواجهة خاسرة، مواجهة الباطل مع الحق والشر مع الخير، والعاقبة للمتقين، ولتعلمن نبأه بعد حين، فقد وعد الله سبحانه وتعالى أن ينصر من نصروه، وأن يكون مع من آمنوا به، وأن ينجي الذين آمنوا بإذنه سبحانه وتعالى، فمن قدم العهد وصدق الوعد جاءه بإذن الله عز وجل نصر الله سبحانه وتعالى {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:48] فغرهم الشيطان بحشدهم وبجمعهم وبقوتهم وبتزيينه لهم أنهم ينصرون، ثم تخلى عنهم فكانت الهزيمة ماحقة؛ لأن الصف الآخر كان مؤمناً، ولأن القلوب كانت بالله معلقة، ولأن النصر استمد من الله لا من قوة الأرض ولا من أسباب المادة ولا من كثرة العدد ولا من حسن الأسلحة بحال من الأحوال، وذلك فقه الإيمان الذي ينبغي أن نعرفه وأن نتقنه.

ما يستفاد من معركة بدر الكبرى

ما يستفاد من معركة بدر الكبرى هذه بعض معالم من بدر تدلنا على أن المسألة ليست مجرد معركة، وليست مجرد وقفة في السيرة، بل هي خلاصة حقيقة الإيمان، وخلاصة مواقف المسلمين، وخلاصة المواجهة بين الحق والباطل، وفرقان ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما سمي يوم بدر بيوم الفرقان، ونحن اليوم نقبل على طاعة الله عز وجل، ونحن بعد ذلك سندخل في العشر، فنحن نقوي صلتنا بالله بالطاعة والعبادة لأجل أن نستمد بها مدده، ونحن نفعل ذلك مخالفة للكفرة الذين لا صلة لهم بالله عز وجل ولا يؤمنون بنصره ولا يثقون بالأمور الغيبية من وراء المحسوس والمادة. وكل هذا في سباق إلى الجنان، وإلى طاعة الرحمن سبحانه وتعالى. إذاً لنعلم أن الميادين كلها في دين الله عز وجل تنتظم هذه المعاني، فلا ينبغي أن نغض الطرف عن بعضها وأن ننسى الحديث عنها، بل يجب علينا أن نذكر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه الدعاء إلى الفداء والتضحية ورفع راية الإسلام ومواجهة أعدائه وإعزاز دين الله سبحانه وتعالى كما كان ذلك في يوم بدر. لندرك تلك المعاني الإيمانية، ولندرك النواحي الروحية، ولندرك آثار العبادات والطاعات، لكن مع ترجمتها إلى سلوكيات، وإلى منهج تغييري في الحياة تمثل ذلك الشمول الذي كان في سيرة وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.

صور من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان

صور من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان

إحياؤه صلى الله عليه وسلم ليالي العشر

إحياؤه صلى الله عليه وسلم ليالي العشر روت عائشة رضي الله عنها (أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر) وما كانت أم المؤمنين لتذكر هذه الكلمات لو كان هذا أمراً دائماً بوصفه وحاله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ذكرت قولاً له خصوصية في هذه العشر دون غيرها، فهي صور موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها هنا مميزة. قال بعض أهل العلم في قولها: (أحيا ليله): أحيا ليله كله فلا ينام. وقال أكثر أهل العلم: المقصود ما غلب على الليل. فكان غالب ليله في هذه العشر قائماً ذاكراً عابداً. وقولها (وأيقظ أهله) قالوا: كان يخص هذه العشر بتقصد الإيقاظ لإدراك الفضيلة العظمى وإدراك ليلة القدر وما فيها من عظيم الأجر. قولها (وشد المئزر) قالوا: إنه كناية عن اعتزال النساء مع إباحة ذلك في ليالي رمضان؛ لأنها أيام وليالٍ خصها النبي صلى الله عليه وسلم بمزيد من الطاعة والعبادة، فهي مختلفة عن غيرها من أيامه ولياليه المملوءة بطاعة الله عز وجل وعبادته، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما ترك قيام الليل في سفر ولا حضر منذ أن خوطب بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] لأن كل أمر في حقه يستمر ولا ينقطع، وكل سنة يبتدئها يداوم عليها ولا يتركها صلى الله عليه وسلم، فالأمر هنا فيه خصوصية زائدة، فلئن كنت تصلي بالليل فأنت تزيد التهجد، ولئن كنت تخرج وترتاح فأنت تقيم وتعتكف. إذاً ثمة صور مختلفة، أيام غير تلك الأيام، وليال غير تلك الليالي، وأحوال غير تلك الأحوال التي نكون فيها في رمضان، فضلاً عما نكون فيه في غير رمضان.

اعتكافه صلى الله عليه وسلم وهديه فيه

اعتكافه صلى الله عليه وسلم وهديه فيه روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلما كان العام الأخير اعتكف عشرين صلى الله عليه وسلم) والاعتكاف معروف، وهو سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل واعتكف نساؤه من بعده، واعتكف أصحابه رضوان الله عليهم، انقطعوا عن الدنيا لله سبحانه وتعالى، كما قال بعض أهل العلم في تعريف هذا الاعتكاف: إنه قطع العلائق بالخلائق والتفرغ للصلة بالخالق سبحانه وتعالى. أيام نقتطعها من عامنا كله، عشرة أيام من ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماًَ نجعلها لله عز وجل لنحقق هذه الصلة، ولنرجو الله عز وجل أن يفيض علينا من الخير وأن يحقق لنا ما وعد من الأجر، وليكون لنا ذلك زاداً لنصحح مسيرتنا في هذه الحياة وفق أمر الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سفيان الثوري رحمه الله: أحب إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أن يجتهد المسلم في الطاعات. أي أن يتهجد فيها، وأن يوقظ أهله إلى الصلاة؛ لأن ذلك أمر مؤكد خاص، فقد ورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت فيه عائشة صفته. وكانت امرأة حبيب بن زيد تقول في مثل تلك الليالي: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين سارت قدامنا، وبقينا ونحن وحدنا. ثم كان ذلك النداء الذي يحثنا ويحضنا على أن يكون حظنا من تلك الليالي مختلفاً عن غيرها: يا نائم الليل كم ترقد قم يا حبيبي قد دنا الموعد وخذ من الليل وأوقاته ورداً إذا ما هجع الرقد من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنزل أو يجهد قل لذوي الألباب أهل التقى قنطرة العرض لكم موعد وكانت عائشة رضي الله عنها تحرص على ذلك وتبينه، وتبين حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الشأن. قال ابن رجب في فعل النبي صلى الله عليه وسلم واعتكافه والحكمة من هذه السنة: فيه قطع لأشغاله، وتفريغ لباله، وتخلَّ لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان صلى الله عليه وسلم يحتجر حصيراً فيتخلى فيه عن الناس، فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم. ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس، حتى ولا تعليم علم أو إقراء قرآن؛ لأن الغرض هو أن ينفرد بنفسه لمناجاة ربه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يمن علينا في هذه العشر بالقيام بحقها وإدراك ليلة القدر ومحو الوزر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

خصائص العشر الأواخر من رمضان والحث على استغلالها

خصائص العشر الأواخر من رمضان والحث على استغلالها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم وسار على دربهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه. ولا شك أن من خصائص وغرر هذه العشر ليلة القدر التي أخبر الحق جل وعلا أنها خير من ألف شهر، وأن الملائكة تتنزل فيها، وأن الخير فيها من الله عز وجل عظيم، كما أخبر به أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ليلة واحدة تغفر ذنوب عمر مضى بإذنه عز وجل وفضله سبحانه وتعالى، فما بالنا لا ندرك عظمة مثل هذه الأجور والإقبال على الطاعات؟! وللأسف فإن واقعنا الذي ذكرناه مخالف لما عليه أهل بدر في الجملة فداء وتضحية وجهاداً ونصرة، كذلك في جانب الطاعة والعبادة والذكر والتلاوة ثمة صور مناقضة ومعارضة ومخالفة ومحزنة ومؤلمة، فبدلاً من أن تمتلئ في هذه الليالي المساجد بالناس نجد الامتلاء في الأسواق، وبدلاً من الانشغال بالأذكار والدعوات يكون الانشغال بالصفق في الأسواق، وبدلاً من قطع العلائق بالخلائق تزداد هذه العلائق وتمتد، إلا ممن رحم الله، وبدلاً من صور الطاعات نجد صوراً جديدة من المعاكسات والمغازلات وغيرها تنتشر، خصوصاً في هذا الشهر الكريم، وللأسف الشديد أن بعضها يكون ملاصقاً لبيوت الله، بل لبيت الله الحرام، وفيما يحيط به من تلك الأسواق وغيرها، يعجب المرء كيف يصلي الناس في الحرم في الليل في هذه الليالي العشر وفي الوتر التي يبتغى فيها ليلة القدر وهناك من لا يسمع صوتاً ولا يصيغ سمعاً ولا يحرك قلباً ولا يتحرك بقدم ولا يلتفت إلى شيء مطلقاً، وبينه وبين البيت الحرام أذرع أو خطوات يسيرة، إنه الحرمان الذي -والعياذ بالله- من وقع فيه حرم الخير الكثير. نقول: عجباً! إذا جاء موسم طاعة وعبادة وموسم دنيا وتجارة أيهما نغلب؟! لا أقول هذا في أعيان الأفراد، بل أقوله للمجتمع كله، ولأهل الحكم والسلطان، ألا يجعلون حداً حتى يفرغ الناس لتلك العبادات، بدلاً من أن نغير أوقات أعمالنا ثم لا يكون لنا حظ من طاعتنا ولا حظ من قيامنا بأمر دنيانا كما يجب. صورة عظيمة نجد فيها غفلة للقلوب، ونجد فيها انصرافاً عن الخير الذي يتعاظم ويتكاثر من الناس. إننا كلما مضى الشهر ينبغي أن نزداد من الخير، وأن تعظم الهمم، وأن تزداد الأعمال، لكننا نرى عكس ذلك، وخير شاهد على هذا أنه كلما مضى الشهر رأينا الناس يتخلفون وينامون، فيبدأ الخطيب في آخر جمع رمضان وليس في المسجد إلا أقل من ربعه، والناس يسرعون خطاهم كأنما قد ضرب الشيطان على آذانهم فناموا، كيف يكون ذلك وهم في يوم جمعة أغر؟! كيف يكون ذلك وهم يستقبلون العشر؟! كيف يكون ذلك وهم يريدون أن يستزيدوا من الخير؟! أختم بمقالة ابن رجب، وهي نداء إيماني تذكيري، يقول فيها: إخواني! المعول على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبار بعمل القلوب لا بعمل الأبدان، رب قائم حظه من قيامه السهر، كم من قائم محروم وكم من نائم مرحوم، هذا نام وقلبه ذاكر، وهذا قام وقلبه فاجر. فلنحرص على أن نجمع الخيرين، وعلى أن نطابق ما بين أعمالنا في ظاهرها وقلوبنا وما تنطوي عليه في باطنها، وأن لا نجعل للشيطان فرصة ليسرق من أوقاتنا الثمينة الغالية، بل من دقائقنا وثوانينا في هذه الليالي؛ فإنها معدودة، وإن كل واحدة منها إذا مرت وانقضت لا ترجع إلا أن يشاء الله إذا أحيانا لعام قادم، فكيف نفرط؟! وكيف نضيع؟! وكيف نمضي لنشتري حذاء أو كساء ونترك تضرعاً ودعاء، ونترك إصابة وموافقة لوقت عظيم وفضل عميم من الله سبحانه وتعالى؟! لا يفعل ذلك إلا من قل عقله أو حرم الخير، أو انصرف إلى دنيا فضلها وآثرها على الأخرى. نسأل الله عز وجل كما بلغنا الشهر أن يبلغنا العشر الأواخر من منه، وأن يعظم لنا فيها الأجر، وأن يبلغنا ليلة القدر، وأن يمحو عنا فيها الوزر. ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يعيننا على ما بقي من رمضان، وأن يختمه لنا بالمغفرة والقبول والرحمة والرضوان والعتق من النيران، وأن يدخلنا الجنة من باب الريان؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم! طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وضاعف أجورنا، وامح أوزارنا، وارفع درجاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداًًًً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! لطفك ونصرك وعزك وتأييدك لعبادك المؤمنين المضطهدين المعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاًً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح! اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم! احفظ عليها سلمها وإسلامها، وأمنها وإيمانها، وسعة رزقها ورغد عيشها. اللهم! يا أرحم الراحمين! انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً، ذوي المقام العلي والقدر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. اللهم! صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

القرآن والحياة [1]

القرآن والحياة [1] القرآن الكريم هو أعظم كتاب في الوجود، وله فضائل عديدة، ولقراءته أجور كثيرة، ولحافظه فضل وميزة يقدم بها على غيره، ولقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن غاية الاهتمام، وكذلك كان دأب صحابته والتابعين لهم بإحسان؛ لأنه نزل ليحكم الحياة في كل شئونها، وليكون منهاجاً تسير عليه الأمة.

أهمية الاعتناء بموضوع القرآن الكريم

أهمية الاعتناء بموضوع القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه. وبعد: فهذا درس عنوانه (القرآن والحياة)، حديثنا فيه عن القرآن الكريم المنزل في شهر رمضان، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. وذلك لبيان صلة القرآن بالحياة في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياة أصحابه وحياة الأمة الإسلامية، سيما في القرون الأولى الفاضلة، وما آلت إليه الأحوال في آخر هذه الأزمان من انفصام بين الحياة وبين تسييرها بكتاب الله عز وجل. ولذلك فإن لهذا الموضوع أهمية كبرى فيما يتعلق بتقويم الإنسان بحياته ومعرفة موقفه من كتاب ربه ومن نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحتى ننتفع في إيجاز نبدأ بأول عنوان في هذا الموضوع، وذكر بعض ما يتعلق بالقرآن في أول نزوله. نزل القرآن على رسولنا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا النزول وفي تلك الطريقة وفيما لابسها وشاكلها وصاحبها دروس وعبر وفوائد تنبهنا على طبيعة هذا القرآن وصلته بالمسلم وتسييره لهذه الحياة. أخرج البخاري وصفاً لأول مرة نزل فيها جبريل عليه السلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا السياق عندما نزل عليه جبريل: (قال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ - أي: لا أعرف القراءة، وليس نفياً أو اعتراضاً- قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: أقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: أقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ. قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]). أيها الأخ الكريم! الذي يتبادر إلى الذهن أن أول نزول لهذا القرآن يكون نزولاً لطيفاً هيناً حتى يكون البدء بما هو أسهل، ثم يأتي ما هو أشق منه، ولكننا نرى هذا النزول الأول على المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه هذه الصورة من الشدة ومن التكرار ومن القوة ومن مفاجأة النبي عليه الصلاة والسلام. وكل ذلك تدليل على أن هذا القرآن ونزوله ليس بالأمر الهين ولا بالشيء العارض، وليس هو أمراً أو كلاماً يُتلى أو تُحسن به الأصوات أو يُتخذ للبركة، بل نزل في هذه الشدة ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتلقى وحي الله، وأنه يحمل رسالة الله، وأنه يتلقى أمانة الله عز وجل ليدرك منذ الوهلة الأولى أنه أمام مهمة عظمى وأمام رسالة كبرى. وذلك حتى يتهيأ المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا خاطبه بقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فليس الأمر بالأمر الهين ولا بالسهل، إنما هو الأمر الذي قضاه الله عز وجل والنهج الذي أراده وارتضاه للأمة المسلمة وللبشرية جمعاء إلى أن يرث الأرض ومن عليها. فالكتاب الذي ما ترك فيه الله عز وجل شاردة ولا واردة إلا جاء بها وكان فيها ذكر هو كتاب الله عز وجل القرآن، ولذلك كان هذا النزول في حد ذاته دليلاً وتنبيهاً للمسلمين على أن تلقي هذا القرآن وأن نزوله إلى هذه الدنيا وأن تحمل المصطفى صلى الله عليه وسلم له إنما كان تحمل رسالة ودعوة ومنهج وأمانة حتى يدركوا أنه ليس كما يتصور كثير من الناس أو يتعامل كثير منهم مع كتاب الله عز وجل.

وصف القرآن بأنه روح

وصف القرآن بأنه روح عندما ننظر إلى الوصف الأساسي الرئيسي الذي ذكره الله عز وجل عن هذا القرآن وعن طبيعة ارتباطه في الحياة وعن طبيعة دوره في هذه الدنيا نجد قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52]. فلبيان أثر القرآن في هذه الحياة وصف الله عز وجل القرآن بأنه روح فقال: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) ولا قيمة للأجساد بلا أرواح، فالقرآن هو روح هذه الحياة، وبدونه تفسد الحياة، وبدونه تضل وتموت القلوب، وتنطمس البصائر، وتفسد النفوس، نسأل الله عز وجل السلامة. وكذلك قال الله عز وجل في الآية ذاتها: (ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء) أي: نوراً يبدد الظلمات. فإنه لا قيمة للأجساد بلا أرواح؛ لأنها لا يكون فيها حياة، كما أنه لا قيمة للحياة ولا للقوة إذا لم يكن هناك نور تستضيء به. إن الإنسان إذا كان جسداً هامداً وجثة لا روح فيها لا قيمة له، وإذا كان جسماً حياً متحركاً بقوة وبفتوة ولكنه يسير في الظلماء لاشك أنه يتعثر وأنه تصيبه الكوارث وأنه تعترضه العوارض وهو لا يملك معرفتها ولا كشفها، فضلاً عن أن يملك الحذر أو الواقية منها. ولذلك هذا القرآن في حقيقته بالنسبة للإنسان المسلم هو روحه التي بين جنبيه، فإذا سلبت منه هذه الروح وإذا نزعت منه آيات القرآن العظيم فحاله كما قال الله عز وجل في وصف الإنسان قبل القرآن وبعده: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122]. فهذا القرآن هو حياة القلوب الميتة، وهو طمأنينة النفوس، وهو سكينة القلوب، لذلك جعل الله عز وجل هذا الوصف منبهاً لعظمة هذا القرآن ودوره وأهميته في الحياة.

إعجاز القرآن الكريم وبلاغته

إعجاز القرآن الكريم وبلاغته ننظر من وجه آخر إلى تعظيم القرآن ولفت الأنظار إليه وربط الناس به عندما جعله الله عز وجل معجزة خالدة ما دامت السماوات والأرض، كما في البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة). لقد نزل القرآن في العرب الذين كانوا أرباب الفصاحة وأهل البلاغة وأهل اللسان، فجاء هذا القرآن معجزاً في بلاغته وفصاحته ودقة معانيه وغزارتها، فأعجز الناس عن أن يضاهئوه أو أن يأتوا بمثله، وقد تحداهم الله عز وجل أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله مفتريات أو بسورة واحدة فعجز القوم كلهم. فهذا الوليد بن المغيرة عندما سمع بعض آيات القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لأعرفكم بالكهان وسجعهم، والسحرة وهمهمتهم، والشعر قريضه ورجزه ومبسوطه، لا والله ما يقول محمد شيئاً من ذلك، إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه. والحق ما شهدت به الأعداء. ثم كذلك ننظر إلى معنىً آخر فيما يتعلق بنزول القرآن، وهو معنى يهز القلوب هزاً، وينور البصائر التي تتدبر وتتأمل، فقد جاء من حديث عائشة وابن عباس في البخاري قالا: (لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشر سنين).

القرآن الكريم فيه حل لجميع شئون الحياة

القرآن الكريم فيه حل لجميع شئون الحياة لقد كان هذا القرآن هادياً للأمة الإسلامية وقت حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما كان يقع في المجتمع من حادث ولا يأتي سؤال ولا تعرض معضلة إلا ويتنزل القرآن، فتشعر الأمة المسلمة باطلاع الله عليها وبتأييده لها، وبتبصيره لمسيرتها، وهذا أوثق في تعلق القلوب بكتاب الله واستشعارها بأن القرآن إنما جاء ليعالج مشكلات هذه الحياة، وليكون دوره وطيداً وأكيداً في صميم هذه الحياة. فانظر على سبيل المثال إلى ما وقع عندما جاء هلال بن أمية رضي الله عنه يرمي زوجته بـ شريك بن سحماء، أي: يتهم زوجته بالخيانة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عنده من الحكم المبلغ له من الله عز وجل: (البينة أو حد في ظهرك) أي: إما أن تقدم البينة -والبينة أربعة شهود يشهدون شهادة صريحة واضحة- أو حد في ظهرك؛ لأنك تستوجب حد القذف فقال الرجل قولة الغيرة الإيمانية: (أيجد أحدنا السوء في أهله فيذهب يلتمس الشهداء؟) أي: هذا أمر لا يطيقه الإنسان أن يرى الفاحشة فيذهب ويلتمس الشهداء حتى يقيم الحجة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، وهذا الحكم هو المبلغ عن الله عز وجل حينذاك. فاشتد الأمر وتعقد وتأزم، فرجل إذا قال: إنه رأى السوء في أهله فإنه لا يتوقع كذبه؛ لأنه يتهم زوجه ويهتك عرضه، ولو لم يكن صادقاً لما تجرأ على ذلك، وعندما اشتد الأمر صارت هناك أجواء متوترة، عند ذلك نزلت آيات اللعان تبين حكم الله عز وجل فيما يتعلق بالقذف بين الأزواج، فنظر الناس إلى ذلك ورأوا أن الله عز وجل مطلع عليهم، وأن القرآن علاج للمشكلات وحل للمعضلات، وأنه رعاية لمسيرة هذه الحياة. وعندما نتأمل القرآن وهو يتنزل عبر عشر سنين نجد أن هناك من كان يقول القول من المنافقين ومن يدبر الكيد من الكافرين فيتنزل الوحي يفضح كل تلك المؤامرات، ويبين كل تلك المقالات، وعندما يتساءل بعض الصحابة عن الأحكام يتنزل الوحي بذلك، وعندما تقع المشكلة أو المعضلة وعندما تقع القسوة أو المعركة يتنزل الوحي بذلك. فإذا بالقرآن يتقدم مسيرة الأمة المسلمة، ويبين لها حلول مشكلاتها ومعضلاتها، وينور قلوبها، ويزكي نفوسها، ويهدي عقولها، ولذلك كان القرآن في نزوله منهجاً بحد ذاته يعلم الأمة المسلمة أن القرآن لم ينزل ليُوضع في أعالي البيوت، ولم ينزل ليُتبرك به فحسب، ولم ينزل ليُتلى في المحاريب فقط، وإنما ليكون هو المهيمن والمسيطر على هذه الحياة كلها. وقد وصف الله عز وجل كتابه الكريم فقال: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، ولذلك جاء فيه خلاصة الهدايات والخيرات التي كانت فيما مضى من الكتب.

بيان ربط المنهج النبوي الأمة بكتاب ربها

بيان ربط المنهج النبوي الأمة بكتاب ربها ثم ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي المنهج النبوي الذي ربط من خلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة بكتاب الله عز وجل. فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام جعل كل شيء مما يهتم به المسلم ومما تنتفع به نفسه ويرغب في تحصيله كل ذلك جعله مرتبطاً بكتاب الله عز وجل. ونبدأ أولاً بتلقي المصطفى عليه الصلاة والسلام لهذا القرآن بعد أن انتقل إلى عظمته وإلى رسالته وإلى دوره في الحياة. لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتظر نزول الوحي انتظار الأرض القاحلة للقطر من السماء، ولقد كان يتشوق إلى هذا القرآن ويتوق إليه ويحرص عليه ويبالغ في حفظه ورعايته وصيانته. ولذلك كان من شدة تلهفه عليه الصلاة والسلام أنه كان يسابق الوحي إذا نزل به جبريل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد وراءه خوفاً من تفلت القرآن؛ حتى نزل قول الله عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19]. وكذلك جاء قوله عز وجل: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114]، فتلقاه عن جبريل بهذا الشغف وتلك المحبة والإقبال، ولقد كان عليه الصلاة والسلام هو قائد الجيوش، وهو حاكم البلاد، وهو الذي يرعى المصالح، وهو الذي يجيب السائلين، وهو الذي يعلم الجاهلين، وهو المنشغل بأمور كثيرة ومع ذلك لم يشغله ذلك عن أداء مهمة عظمى ورسالة كبرى رأى عليه الصلاة والسلام أنها من أوجب واجباته، وأراد أن يورثها لأمته من بعده، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بنفسه بتلقين الصحابة كتاب الله عز وجل وتعليمهم تلاوته، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري - يقول: (تلقيت من فيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة من القرآن). لم يكتف عليه الصلاة والسلام بهذا التلقي ولا بذاك التعليم، فقد كان حبه للقرآن وتعلقه به أعظم من ذلك، فكما يلهج به لسانه وكما يعلم به إخوانه طلب أن يسمع القرآن منهم، كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ علي القرآن. فقال ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم؛ فإني أحب أن سمعه من غيري). فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب أن تشارك جوارحه كلها في كتاب الله عز وجل، فينطق به لسانه، ويتدبره بعقله، وينفعل به بقلبه، ويسمعه بأذنه، لقد ملك القرآن كل جوارحه وكل مشاعره، فكان عليه الصلاة والسلام في سيرته التي نقلت لنا يعبر لنا ويصور لنا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم وارتباطه بكتاب الله عز وجل. ولذلك قرأ عليه ابن مسعود من أول النساء حتى بلغ قول الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42] قال: (حسبك حسبك! قال ابن مسعود: فنظرت فإذا عيناه -صلى الله عليه وسلم- تذرفان). فهكذا كان في حياته صلى الله عليه وسلم، ثم ربط الأمة كلها بهذا النهج القويم، فما هو الذي يرتبط به المسلم في هذه الحياة؟ وما الذي يرجوه المؤمن الذي يفكر في العاقبة؟ إن أهم ما تندفع إليه النفوس المؤمنة هو طلب الأجر والمثوبة من الله عز وجل، وطلب الرفعة والعلو عند الله سبحانه وتعالى، وطلب الجنة ومنازلها العالية. هذا هو الذي تتوق إليه قلوب المؤمنين، وهذا هو الذي يبذلون من أجله الغالي والرخيص، فأين طريقه؟ وأين سبيله؟ لقد جعل المصطفى عليه الصلاة والسلام الطريق إلى كل ذلك عبر القرآن العظيم.

ذكر بعض فضائل تعلم القرآن الكريم وتلاوته

ذكر بعض فضائل تعلم القرآن الكريم وتلاوته جاء عنه عليه الصلاة والسلام جملة من أحاديث الفضائل التي تبين عظمة الأجر في هذا القرآن العظيم، وفي الوقت نفسه يرتبط المسلم ارتباطاً وثيقاً بكتاب الله عز وجل إذا أراد أن يغنم الأجر، وإذا أراد أن يمحو الله عنه السيئات، وإذا أراد أن تُرفع له الدرجات. فهذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). ومن أعظم هذه الأحاديث التي وردت ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: (أيحب أحدكم أن يغدو إلى بطحان أو إلى العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين -أي: سمينتين- زهراوين من غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقال الصحابة: يا رسول الله! كلنا يحب ذلك -لقد شوقهم وعلقهم بالأجر، ثم رسم لهم طريقهم- فقال: لأن يغدو أحدكم إلى بيت من بيوت الله فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل). ونأخذ هذا الحديث لنقدمه في واقعنا، فلو قيل للناس: من ذهب إلى مكان كذا فسيأخذ سيارتين فارهتين من الطراز الحديث والموديلات الجديدة من غير إثم ولا قطيعة رحم ولا مال، ويرجع وهو غانم لهاتين السيارتين كل يوم وكل لحظة كلما أراد، لو قيل ذلك لانصرف الناس إلى ذلك انصرافاً عظيماً، ولتقاتلوا قتالاً عجيباً. فالنبي شوق النفوس وعلقها بهذا الأجر، وقد كانت الناقة الكوماء عندهم ثروة، فقد كانت ثروة الرجل في ذلك الوقت تقدر بما عنده من النوق والجمال، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يحثهم ويرغبهم ويعلقهم، ثم يرسم لهم الطريق في حديثه عبر الارتباط بهذا القرآن. هذا فيما يتعلق بشأن الأجر، أما شأن المراتب العالية فقد ورد حديثه عليه الصلاة والسلام: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: إقرأ وارق - أي: ارتفع- ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)، فمن أراد الأجر والمثوبة ومن أراد الرفعة في الجنة فطريقه كتاب الله عز وجل، هذا بالنسبة للآخرة.

ذكر بعض فضائل صاحب القرآن

ذكر بعض فضائل صاحب القرآن وقد ربط المصطفى عليه الصلاة والسلام أمر الدنيا والتقدم فيها والجاه والشرف بالإيمان بكتاب الله عز وجل. ففي صحيح البخاري عن عثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فمن أراد أن تكون له الخيرية في هذه الأمة في مجتمعات المسلمين التي تقوم بتنظيم ميزان الإسلام والإيمان فطريقه أن يكون مرتبطاً بهذا الكتاب تعلماً وتعليماً. ولذلك ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه ما يدل على أن الصحابة كان صاحب القرآن فيهم معظماً وصاحب شرف ومنزلة، فهو يقول: (كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في أعيننا) أي: صار ذا منزلة عالية، وصارت نظرة الناس إليه محترمة وموقرة، وصار هو الذي يُقدم على غيره. وهذا يبين أن الشرف في الدنيا والشرف في الآخرة طريقه موصول بكتاب الله عز وجل. ثم ننظر إلى وجه آخر، فبالقرآن يكون التقدم في أمر الدين والتقدم في أمر الدنيا والتقدم في أعظم فريضة بعد التوحيد والركن الثاني من أركان الإسلام وهو الصلاة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله)، فأعظم مؤهل في التقدم لأعظم فريضة جامعة مكررة في اليوم والليلة خمس مرات هو حفظ كتاب الله عز وجل. ولذلك يروي أحد الصحابة أنه روى لبعض القوم هذا الحديث ثم قال: (فأقيمت الصلاة وليس في القوم أقرأ مني، فصليت بهم إماماً وأنا ابن سبع)، وفي رواية عند البخاري: (أن أحد صغار القراء تقدم فصلى إماماً، وكان ثوبه قصيراً، فقال قائل: غطوا عنا است قارئكم). وسأضرب أمثلة واقعية حية كثيرة من حياة المجتمعات الإسلامية لتقدم حفظة القرآن في أمر الدين وفي أمر الدنيا ومسألة الولايات والحكم والقضاء وغير ذلك. جاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي عامله على مكة في الحج فقال: من خلفت على أهل مكة -أي: من جعلته نائباً لك-؟ قال: خلفت عليهم ابن أبزى. فقال عمر: ومن ابن أبزى؟ فقال: مولى من موالينا. فقال عمر كالمستنكر: أخلفت على أهل مكة مولى؟! وفي رواية البخاري: أخلفت على أهل الوادي مولى؟! يعني: ما وجدت في الأمة من هو مؤهل حتى تدع هذا يتولى هذا الأمر. فتكلم العامل بالمؤهل الأعظم الذي تأهل هذا الرجل به لنيل هذه المنزلة، فقال كلمات قصيرات موجزات، قال: يا أمير المؤمنين! إنه قارئ لكتاب الله. فقال عمر رضي الله عنه في تتمة هذا الحديث: أما إني سمعت رسولكم صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين). فهذا هو التقدم في شأن الدين والتقدم في شأن الدنيا، فقد ربطهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، فمن أراد هذا أو ذاك فطريقه أن يرتبط بكتاب الله حفظاً وتلاوة وتدبراً وعملاً. ثم كذلك نلمح منهج النبي عليه الصلاة والسلام في ربط الأمة بكل صورة من الصور بكتاب الله، فهذا البخاري يروي لنا قصة فريدة جميلة عجيبة فيها أن امرأة جاءت إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض نفسها ليتزوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام، جاءت تهب نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس مع أصحابه، وكانت جريئة وصاحبة أيمان، ولم يكن للرسول عليه الصلاة والسلام بها حاجة، فسكت حياءً أن يرد عليها، وطال الصمت، وتأزم الموقف، ودخل الإحراج، فانتهز رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرصة، وأراد أن يقتنص الغنيمة الباردة، فقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، وكان متأدباً في سؤاله وطلبه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اذهب فالتمس شيئاً -أي: بعض المهر- فذهب ثم عاد فقال: يا رسول الله! لا أجد شيئاً. قال: التمس ولو خاتماً من حديد. قال: ولا خاتماً من حديد. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ولى الرجل، فقال: ردوه عليَّ. فلما رجع قال: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم. معي سورة كذا وكذا. فقال: زوجتكها على ما معك من القرآن).

الاستشفاء بالقرآن الكريم

الاستشفاء بالقرآن الكريم والحياة الاجتماعية يربطها النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بالقرآن، بل يربط أمور الناس كلها به، حتى في مسألة الاستشفاء والعلاج من الأمراض، قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82]. وهذا أبو سعيد الخدري -وحديثه في البخاري - يقول: (مررنا على حي من إحياء العرب، فطلبنا أن يضيفونا فأبوا. قال: فذهبنا، فلدغ سيد القوم، فجاءوا إلينا وقالوا: هل منكم من راقٍ؟ قال: قلنا لهم: لا نرقي لكم حتى تعطونا أجراً. قال: فذهب أحدنا فقرأ عليه الفاتحة فبرأ كأنما نشط من عقال. قال: فلما أخذنا ما أعطونا من الغنم ورجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عن ذلك فقال: وما أدراك أنها رقية؟! إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله عز وجل).

تقديم الأحفظ للقرآن في الدفن في قبر واحد

تقديم الأحفظ للقرآن في الدفن في قبر واحد بل قد ذهب النبي عليه الصلاة والسلام في ربط الأمة بالقرآن مذهباً بعيداً لا تتصوره العقول، فلما كان ما كان في يوم أحد وجاء النبي عليه الصلاة والسلام يدفن الشهداء كان يدفن الاثنين والثلاثة والأربعة في القبر الواحد، فكان يسأل: (أيهم أحفظ لكتاب الله؟) فيقدمه في قبره ولحده؛ ليبين لهم النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا القرآن هو شرف هذا المؤمن وعزه، وأن طريقه إلى الله عز وجل موسومة مرسومة بكتاب الله عز وجل وبارتباطه به. ولذلك عندما ننظر إلى هذه الصور نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يكون هو القدوة لهم عندما كان يقرأ ويسمع ويطلب السماع عليه الصلاة والسلام، ثم جعل خير الدنيا والآخرة ورفعة الدنيا ورفعة الآخرة والتقدم في أمر الدنيا وفي أمر الآخرة كل ذلك جعله مربوطاً بكتاب الله عز وجل؛ ليعلم كل فرد في هذه الأمة أنه إذا أراد الفلاح والنجاح والأجر والمثوبة والتقدم والخيرية فإن طريقه عبر كتاب الله سبحانه وتعالى.

صور من حياة الصحابة في تأثرهم بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم

صور من حياة الصحابة في تأثرهم بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم انتقل إلى نقطة ثانية، وهي صور من مجتمعات الصحابة والمجتمعات الإسلامية الأولى المتعلقة بأثر هذا النزول القرآني وبأثر ذلك المنهج النبوي، وكيف كان انعكاسه على الصحابة رضوان الله عليهم، إنها صور عجيبة فريدة تبين لنا كيف كان القرآن هو الحياة وكانت الحياة هي القرآن في مجتمعات المسلمين في القرون الفاضلة. فهذا عمر بن الخطاب - كما في صحيح البخاري - يقول: (كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرد إلى المسجد وأرد إلى السوق ليستمع ما ينزل من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان آخر اليوم أخبرني بما نزل من القرآن) فإذا كان اليوم الثاني غير كل موقعه. هذه الصورة تبين لنا أن الصحابة قسموا الحياة نصفين: فنصف جعلوه للعمل وكسب الرزق والقوت بما ييسر الله عز وجل. ونصف جعلوه لئلا يفوتهم من القرآن ومن سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام شيء أبداً. وكان بالإمكان أن يُجعل ذلك على تراخٍ وتهاون، وأن يسأل عنه عندما يفرغ من عمله إذا وجد الفرصة المناسبة، أو لا يسأل حتى يأتي من يخبره. لقد كان أثر ذلك المنهج من الرسول عليه الصلاة والسلام منعكساً، فجعلوا الأهمية العظمى لتلقي هذا القرآن وفهمه وتدبره وحمله والعمل به. وننظر إلى صورة أخرى في البخاري -أيضاً- عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار)، والأشعريون قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن، وكانوا إذا جاءوا في الليل يعرف النبي عليه الصلاة والسلام أن القوم قد وصلوا، وأنهم نزلوا في شرق المدينة أو غربها، فلقد كان القرآن هو الذي يُحيا به الليل، وتعمر به المحاريب، وتلهج به الألسنة، وتُستجاش به مشاعر القلوب والنفوس. وهناك صورة أخرى، فـ سعد رضي الله عنه عندما فتح الله عليهم في القادسية أرسل إلى عمر يبشره بالفتح، وكان في ضمن كتابه أنه قال: ذهب من الناس فلان وفلان -يعني استشهدوا- ممن لا تعلمهم -أي: ولا تعرفهم ولا تعرف أسماءهم؛ لأنهم مجهولون مغمورون، لكنهم مؤمنون مجاهدون- الله بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن كدوي النحل في الليل. ومتى هذا؟ إنه في السفر والحرب، فكيف إذا كانوا في الحضر وإذا كانوا في الأمن؟! فكان هذا دأبهم وهم في المعارك على صهوات الجياد، وهم في الخوف في حراسة الثغور كان هذا دأبهم، كما عند البخاري من غير تسمية الأسماء، وعند غيره بتسمية عباد بن بشر ورفيق له أنهما كانا مكلفين بحماية المسلمين في ليلة من الليالي، فنام أحدهما وقام الآخر يصلي ما شاء الله له أن يصلي ويقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، فأصابه سهم وهو واقف يصلي، فنزعه ومضى في صلاته، فأصابه الثاني فنزعه ومضى في صلاته، فأصابه الثالث فقال لصاحبه لما أنكر عليه أنه لم يوقظه: لولا خشية أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك كراهة أن أقطع صلاتي. كان هذا هو وصف القوم وارتباطهم بكتاب الله عز وجل، وكان معلوماً في صفوف الجيوش الإسلامية وراياتها أن في كل فرقة وكتيبة قارئاً، وإذا التحمت الصفوف وحمي الوطيس كان القارئ يقرأ سورة (الأنفال) يهيج بها على الجهاد، ويقوي بها العزائم، ويثبت بها الأقدام، ويشوق إلى لقاء الله عز وجل، فكانت القلوب حينئذ تطير من صدورها وتهفوا إلى لقاء ربها، وتتوق إلى نعيم الله عز وجل. ولذلك كان هذا القرآن يتقدم مسيرة الأمة في كل منحىً من مناحي حياتها، وعندما نرى الشرف والمنزلة والتقديم والتعظيم يأتينا أمر ابن عباس ذلك الغلام الصغير والفتى الذي لم يكن عمره عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجاوز الخامسة عشرة، وفي بعض الروايات أنه كان ابن ثلاث عشرة سنة، وفي بعضها أنه كان ابن عشر سنين. ذلك الشاب كان يدخل مجلس عمر رضي الله عنه، وكان مجلس عمر يضم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من البدريين المتقدمين في الإسلام، فقال بعض الأنصار: يا أمير المؤمنين! إن عندنا من أبنائنا من هو في مثل سن هذا، فلماذا تقدمه عليهم؟ فسكت عمر حتى إذا ضمه المجلس سأل فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]؟ فأجاب بعض الصحابة وقال: بشر الله رسوله بالفتح وبدخول الناس في دين الله أفواجاً، ومنَّ عليه بذلك، وأمره أن يسبح إزاء هذه النعمة. وكل قال قولاً. فالتفت إلى ابن عباس الغلام الصغير فقال: ما تقول فيها يا ابن عباس؟! قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه) يعني أنه قد أراد الله عز وجل أن يشير إلى رسوله أنه قد اقترب أجله وانتقاله إلى ربه ومولاه؛ لأنه إذا بلغ الرسالة وفتح الله عليه ودخل الناس في دين الله أفواجاً فقد أكمل ما عليه، وأوشك أن ينتقل إلى خالقه ومولاه، فقال عمر: (والله! ما أعلم منها إلا ما قلت يا ابن عباس!)، وبهذا شرفه عمر وقدمه، فكان أهل القرآن هم المقدمون والمستشارون والمعظمون في مجتمع المسلمين.

اهتمام الصحابة بعدم الاختلاف في القرآن

اهتمام الصحابة بعدم الاختلاف في القرآن وانظر كذلك إلى مواقف أخرى كثيرة تبين لنا هذا الشأن، فقد كان القرآن هو الذي يلفت الأنظار، وهو الذي يحدد المواقف، ففي صحيح الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وعمر له قصص كثيرة فيها مزية الغيرة لدين الله والاهتمام بشرع الله وبدين الله- قال: (سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، فإذا هو يقرأها على غير ما أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وتأمل في كون الذي أقرأه إياها هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإنه كان هو الذي يعلم الصحابة القرآن، إنها مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (سمعته فإذا هو يقرأها على غير ما أقرأنيها رسول الله عليه الصلاة والسلام - وكان هشام يصلي ويقرأ- قال عمر: فكدت أساوره في الصلاة) يعني: كاد أن يقطع عليه صلاته لينكر عليه هذه القراءة؛ لأنه تلقاها عن الرسول وعنده منها علم وبينة، قال: (فانتظرته حتى سلم فلببته بردائه وانطلقت به أجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). هكذا كان عمر، وهكذا كان حرصهم على القرآن أن لا يحرف وأن لا يغير وأن لا يُدخل فيه ولا يزاد عليه، وفي هذا قصص عجيبة وأمثلة كثيرة، قال: (فلببته بردائه وأخذته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتني. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام!). فقرأ هشام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا أُنزلت. وقرأ عمر فقال: هكذا أُنزلت، إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف).

اعتناء الصحابة رضي الله عنهم بجمع القرآن الكريم

اعتناء الصحابة رضي الله عنهم بجمع القرآن الكريم ولعل من أعظم المواقف في حياة مجتمع الصحابة وارتباطهم بكتاب الله عز وجل ذلك الموقف الذي كان لـ عمر رضي الله عنه. في الصحيحين أن عمر قال لـ أبي بكر رضي الله عنه: (إني رأيت القتل قد استحر بالقراء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر بهم القتل في المواطن فيضيع كتاب الله عز وجل، وإني أرى أن تجمع القرآن). هذا هو الاهتمام، وهذه هي المهمات، وهذه هي المشاغل، وهذا هو الذي كان يحرك العقول ويشغلها، فقال أبو بكر: (كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان عند القوم منهج، هو أن لا مخالفة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فما زال عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر للذي شرح له صدر عمر. فانظر بعد ذلك للمهمات والشرف! فبعث أبو بكر إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال له: (إنك كنت تكتب القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما كان من القرآن فاجمعه) ومن الذي يحدثه؟ أبو بكر خليفة المسلمين ومعه عمر وزيره الأول، وأبو بكر وعمر هما صاحبا الحكم هنا، وهما صاحبا السابقة في الإسلام، وهما صاحبا الفضل، وهما صاحبا العلم، ومع ذلك لم يمنع هذا كله زيد بن ثابت أن يؤكد لنا المنهج الذي رُبي عليه الصحابة، وذلك أنه قال: (كيف تفعلا شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) أي: وإن كنتما الحاكمين والسابقين والفاضلين والمقدمين فإن هناك ما هو أفضل وأكثر تقديماً، وهو نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما زالا به حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فماذا قال بعد ذلك؟ قال: (فوالله! لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون عليَّ) أي أنه رأى أنها مهمة عظمى، وأنها قضية خطيرة؛ لأن فيها أنه يحفظ على الأمة كتاب الله عز وجل، فماذا صنع؟ وكيف نفذ؟ قال: (فجعلت أتتبع القرآن في الجلود واللحاف والعظام) وكان لا يقبل آية إلا بشاهدين أنها كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (وآخر سورة التوبة ما وجدتها إلا عند أبي خزيمة وحده) وبعض الناس يظنون أنه لم يكن أحد يحفظها إلا هو، وليس كذلك، إنما المقصود أنه لم يكن أحد شاهد كتابتها بأمر الرسول إلا هو، ومن عظمة وإعجاز ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان قد جعل شهادة أبي خزيمة بشاهدة رجلين، فكان هذا مغنياً، فما وجدها إلا عنده، ثم وجد أن الرسول قد حكم بأن شهادته بشهادتين قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام. وكذلك ما جاء في شأن حذيفة لما كانوا في بلاد الأرمن في جهة المشرق يفتحون البلاد، ورأى الناس يختلفون في القراءة، خاصة الداخلين في دين الله حديثاً، فرجع إلى عثمان وقال: (أدرك أمة محمد قبل أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى) فجمع عثمان رضي الله عنه الأمة على مصحف واحد، وفرق منه في الأمصار سبع أو تسع نسخ، فاجتمعت الأمة، وكانت كلها متوافرة جهودها منشغلة أفكارها بكتاب الله عز وجل.

تحكيم الصحابة رضي الله عنهم للقرآن الكريم في جميع أحوالهم

تحكيم الصحابة رضي الله عنهم للقرآن الكريم في جميع أحوالهم جاءت امرأة إلى أبي بكر رضي الله عنه وهي جدة تسأله ميراثها، وذلك بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو بكر: (لا أجد لك شيئاً في كتاب الله) أي: نحن عندنا القرآن نبحث فيه ونحكم به. فقام رجل وقال: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل لها السدس) قال: (ومعك من يشهد بذلك؟) فشهد رجل فأمضى أبو بكر رضي الله عنه ذلك. ومن ذلك تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في حديث معاذ لما بعثه النبي عليه الصلاة والسلام إلى اليمن فإنه قال له: (بمَ تقضي؟ فأجاب: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم). هكذا كان القرآن هو ديدنهم، وهو مشغلتهم، وهو مهمتهم، وهو حاكمهم، وهو الذي به يتشرفون ويشرفون، ويقدمون ويؤخرون، ولذلك كانت هذه الصور العظيمة في حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اهتمام الأمة الإسلامية بالقرآن الكريم

اهتمام الأمة الإسلامية بالقرآن الكريم وليس هذا الأمر مرتبطاً بسيرة أو بحياة الصحابة فحسب، بل كان هذا شأن الأمة في صور كثيرة من أحوالها، وإن كان من ذلك عبر العصور ما يزيد وما ينقص، لكن لابد من أن نعرف أن الأمة مرتبطة بكتابها ارتباطاً وثيقاً عبر قرون متتابعة، وإن كانت هناك مخالفات، لكن الهيمنة الأولى والحكم والتشريع لكتاب الله عز وجل. ولذلك نجد صوراً كثيرة واحتفاءً واهتماماً عظيماً من الأمة المسلمة عبر القرون بكتاب الله عز وجل، ولعلي أضرب أمثلة أشير بها إلى ما مضى على سبيل المثال: انظر إلى اهتمام الأمة بالقرآن من خلال العلوم القرآنية والمؤلفات فيها! فكم من التفاسير ألفت منذ عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام! والنقل عنه إلى هذا اليوم وإلى ما شاء الله، وعد فإنك لن تحصي، وانظر كم ألفوا في مبهمات القرآن، وفي علوم القرآن، وفي إعجاز القرآن، وفي بلاغة القرآن، وفي نواسخ القرآن، وفي مشكلات القرآن، وفي كل ضرب من الضروب، بل حتى ربما كأن الإنسان يتصور أن لكل حرف اهتماماً ورعاية ودراسة وتحليلاً، وهناك من يدرس في الأوقات المعاصرة بعض هذه القضايا، فهناك رسالة علمية عنوانها (الفاء في القرآن الكريم) أي: مواقعها الإعرابية من الناحية اللغوية. فالقرآن بحر لا ينضب، ولذلك توجه الاهتمام بهذا القرآن العظيم، وانصبت إليه جهود الأمة بصورة لم يُسبق إليها ولم يكن لها مثيل مطلقاً، فما لقي كتاب من التوثيق والرعاية والدلالة والصيانة ثم من الشرح والعناية والتفصيل ما لقي القرآن العظيم؛ لأن الأمة شغلت وارتبطت به، وكان هو الذي يسيرها في كل شأن من شئون الحياة. ولذلك قصص كثيرة جداً ووقائع متفرقة عبر التاريخ، حيث نجد فيها أن القرآن كان هو الذي يهيمن على حياة المجتمعات الإسلامية، خاصة فيما يتعلق في الحكم بالقرآن. وعندما نقول ذلك نقول: إن الدول الإسلامية من الخلافة الراشدة والأموية والعباسية وما جاء بعدها كالعثمانية كلها كانت في الأصل لا تحكم إلا بكتاب الله، ولم يكن هناك شيء آخر، ولا حكم ولا قانون وضعي، ولا مبدأ بشري، وإنما جاء ذلك -كما سأحكي في آخر الحديث- في الواقع المعاصر الذي استُبدلت فيه شريعة الله بقوانين بشرية وضعية ابتُليت بها الأمة دهراً طويلاً.

الشمول في كتاب الله عز وجل

الشمول في كتاب الله عز وجل أنتقل إلى نقطة مهمة قبل أن أعرج على الواقع المعاصر وإلى الصورة التي نريد أن تكون لنا في ذواتنا وفي أفرادنا. أريد أن أشير إلى قضية الشمول التي جاءت في كتاب الله عز وجل؛ لأن لها ارتباطاً وطيداً بعلاقة القرآن بالحياة، لقد جاء هذا القرآن شاملاً شمولاً متعدد الجوانب، فإذا نظرنا فإننا نجد هذا القرآن شاملاً من حيث ما يتعلق بالمعاني التي يحتاج الناس إليها في حياتهم الدنيا في قضايا الإيمان والنفوس والقلوب. والله عز وجل يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] ففيه الهداية، وكذلك يقول الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] فهو الشفاء والرحمة، ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] فهو الموعظة للقلوب والمهيء للنفوس إلى ابتغاء رضوان الله عز وجل، وهو كذلك العاصم، كما قال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقد ذكر أهل التفسير أن حبل الله هو القرآن، وكما قال الله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23] فتوافر الشمول والهداية والطمأنينة والسكينة والرحمة والموعظة والتذكرة في هذا القرآن. ثم انظر إلى الشمول من وجه آخر لتجد أن هذا القرآن خاطب كل شيء في هذا الإنسان. ففيه خطاب للعقول بالتدبر والتأمل، وفيه خطاب للقلوب بالموعظة والتذكير، وفيه خطاب للجوارح بتعليمها ما أراد الله عز وجل منها من البصر وغضه، والسمع وكفه عن الحرام، وفيه ذكر الجبال الساجدة والألسن الذاكرة، كل ذلك مذكور في كتاب الله عز وجل، فهو شامل لكل شيء في حياة الإنسان. وانظر كذلك إلى الشمول من وجه ثالث، فهو الذي يشمل كل أصناف الإنسان. فهو الذي يخاطب الرجال، ويخاطب النساء، ويذكر منهج الصغار والأطفال، ومنهج الرجال الكبار، فلا يخرج عن هذا القرآن شيء أو صنف من الناس مطلقاً، فلهم جميعاً خطاب، ولهم تنبيه، ولهم آداب، ولهم تعليم وهداية. ثم انظر إلى الشمول من وجه رابع، فإنك تجد شمول القرآن ينتظم سائر مناحي الحياة. ففيه منهج متكامل في الحكم والسياسة، ومنهج متكامل في العسكرية والجيش، ومنهج متكامل في المال والاقتصاد، ومنهج متكامل في الحياة الاجتماعية، ومنهج متكامل في سائر ما تحتاج إليه هذه الحياة، فأنت ترى منهجاً كاملاً في الأسرة المسلمة، وفي تربية الأبناء، وفي رعاية المجتمع، وفي الحقوق بين الزوجين وغير ذلك في أصول كلية جامعة، وأنت ترى كذلك منهج الحكم والسياسة الذي يتمثل بأن الحكم لابد من أن يكون بما أنزل الله، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. ثم يؤسس القرآن في منهج الحكم أساس العدل الذي لا قيام لحكمه إلا به، ثم يذكر بعد ذلك في ثنايا هذا ما يتعلق بنزعات الأهواء واستبدال شرع الله عز وجل اتباعاً لهوى النفوس، ويبين ملامح عامة في كل ذلك، ثم يذكر الله عز وجل في شأن الاقتصاد قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وينهى عن أكل أموال اليتامى وأكل أموال الناس بالباطل، ويبين الله سبحانه وتعالى التجارة التي تكون عن التراضي، ويبين أوجه الرزق والزراعة والثمار وما يلحق بذلك وما يترتب عليه من الزكاة في الأموال والشفقة على الفقراء والمساكين. إنه منهج متكامل للمال والاقتصاد في كنزه وفي إنفاقه وفي تشغيله واستثماره، منهج متكامل لا يخرج عنه صغير ولا كبير مطلقاً. وانظر كذلك إلى سائر الجوانب فإنك واجد هذا واضحاً بيناً، ولقد ذكر الله عز وجل لنا من قصص الأنبياء والمرسلين ما يبين فيه تقويم هذه المناحي في الحياة، فقد قص الله عز وجل علينا نموذجاً للحكم الفاسد الجائر الظالم في قصة فرعون، وبين فيها مغبة الاستبداد السياسي والحكم الدكتاتوري كما يسمى اليوم، وبين لنا كيف عالج موسى عليه السلام هذا الفساد السياسي بالعلاج الإيماني الذي نقضه من أساسه، وقوض بنيانه، وهد أركانه، وأزاله من هذه الأرض ليكون حكم الله عز وجل وشرع الله سبحانه وتعالى هو المسيطر. وبين الله عز وجل كذلك في قصة لوط المفاسد الأخلاقية في تلك الرذيلة التي ذكرها الله عز وجل على لسان لوط عندما خاطب قومه فقال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165]، وبين كيف عالج لوط عليه السلام بالإيمان وبالعقيدة والتوحيد هذا الفساد الأخلاقي، وأسسه بعد ذلك على المنهج الإيماني. وذكر لنا الله عز وجل في قصة شعيب نقض قومه للمكيال والميزان، وما يتعلق بهذا الانحراف في مجال الاقتصاد والمعاملات المالية، وكيف قوَّم ذلك شعيب صلى الله عليه وسلم بالمنهج الإيماني وبالرسالة الربانية، كل ذلك ليبين للأمة أن كل شأن من شئون حياتها لابد أن ترجع فيه إلى كتاب ربها. وهذا الشمول -كما قلت- يتناول ما يتعلق بالنفس الإنسانية من ألوان تغيراتها، ويتناول بعد ذلك ما يحتاجه الناس على اختلاف أجناسهم صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً، ويتناول كذلك ما يتعلق بنواحي الحياة، وما يتعلق كذلك بجوارح الإنسان. ولذلك حق لهذا الكتاب أن يكون هو كتاب الحياة، وأن تكون الحياة منبثقة منه وراجعة إليه؛ لأنه كما قال الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، فما من شيء إلا له أصل، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه خبراً). وقال سلمان رضي الله عنه حين قيل له: علمكم نبيكم كل شيء؟ قال: (أجل، علمنا كل شيء حتى الخراءة)، يعني: كيف يقضي الرجل حاجته. فكل شيء مذكور في كتاب الله بأعجز لفظ وبأدق معنىً وبأحكم هداية وبأشمل توجيه، فإنك تجد ما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وما يتعلق بحيض النساء، وما يتعلق بالأطفال، وما يتعلق بالاستئذان، وما يتعلق بأدق أمور تفاصيل الحياة، كل ذلك مذكور له أصل وكليات في كتاب الله عز وجل. وحق لأمة هذا كتابها أن لا تستبدل به شيئاً، وأن لا تطلب في غيره هداية، وقد نبه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى في يد عمر بن الخطاب صحفاً من التوراة يقرأها وينظر فيها فأخذه الرسول عليه الصلاة والسلام - وعمر هو الشديد القوي- فهزه وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).

القرآن وواقعنا المعاصر

القرآن وواقعنا المعاصر لماذا تغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع؟ هذا هو آخر ما أتحدث عنه في هذا الموضوع، وهو ما يتعلق بالواقع المعاصر، أو القرآن وواقعنا المعاصر. ولاشك أنه حديث جدير بأن يفرد مستقلاً، ولكني أوجز فيه المهمات، وأذكر فيه من الأمثلة ما يغني عن غيره، وأقسم الحديث فيه بالنسبة لعموم المسلمين وبالنسبة لأوضاع الحكم والدول. فأول ما يتعلق بالمسلمين نجد أن الانعكاس الأول والأكبر كان عندما نُحي القرآن من منصة الحكم، وأُقصي تشريع الله عز وجل من الهيمنة على حياة الناس، وما زال ذلك التشريع يُطارد ويُطارد ويُختزل حتى ما بقي إلا في أضيق دائرة من الدوائر التي يسمونها الأحوال الشخصية، والأحوال الشخصية نفسها تدخلوا فيها، وشرعوا من عند أنفسهم مالم يأذن به الله عز وجل، فانعكس ذلك على المجتمعات الإسلامية؛ لأنها لم تر حكم الله، ولم تر شرع الله عز وجل مطبقاً. ولكن هناك معالم ثلاثة رُكزت في نفوس الناس، وصُبت عليهم صباً، ووجهت إليهم توجيهاً، وكان لها آثار سلبية كبرى

دور أعداء الإسلام في إبعاد القرآن عن واقع المسلمين

دور أعداء الإسلام في إبعاد القرآن عن واقع المسلمين أولها: ما يتعلق بالمفاهيم أو الغزو الفكري، فأملي على المسلمين أن هذا القرآن للبركة، وأن هذا القرآن إنما هو ليطرد الشياطين، وليس له بالحياة علاقة، فاذهب واعمل واكسب وعاشر الناس وخالط من تحب وافعل ما تشاء، وهذا القرآن بعد ذلك خذه للبركة لتتصور أنه سيغفر لك ما مضى، وأنك عندما تضعه في جيبك أو تعلقه في سيارتك أو تضعه في صحن بيتك أو في صدر بيتك فهذا كافٍ ومغنٍ. وجعلوا فهم القرآن أنه هو الذي يجلب على الحياة فهماً غريباً متشدداً متطرفاً بعيداً عن مراعاة الواقع، فإذا قال القائل: نريد أن نحكم الحياة بشرع الله وبكتاب الله قالوا: لا يمكن هذا؛ لأن هذا لا يتناسب مع الواقع، ولا يمكن أن نطبق هذه الآيات التي نزلت قبل ألف وأربعمائة عام على واقعنا اليوم! هذا ما يتعلق بالمفاهيم، وقد تسلطت هذه المفاهيم على الناس كثيراً، ونرى صورها في واقع الناس، فكثير من الناس اليوم ليس لهم صلة بالقرآن إلا البركة، حتى إذا جاء حافظ القرآن قالوا: بركة. وما عندهم إلا كلمة (البركة)، فإذا وضع المصحف قبله أو وضعه على رأسه قال: هو للبركة. ولا يفهم إلا هذا المعنى، فمسخ الفهم والارتباط الكامل الشامل بكتاب الله من هذا الجانب.

أهمية اللغة العربية في فهم القرآن الكريم

أهمية اللغة العربية في فهم القرآن الكريم الجانب الثاني -وهو خطير جداً- جانب اللغة. جانب اللغة العربية التي أُضعفت، والتي غزتها العامية بكل لهجاتها، حتى أصبح العربي في بلاد الشام لا يعرف العربي الناطق بالعربية في بلاد العراق، والذي في العراق والشام لا يفهم من يتكلمون في مصر، حتى صار العرب يحتاجون إلى مترجم بينهم. ومن لطائف ذلك أن الشيخ الطنطاوي رحمه الله تعالى ذكر قصة عراقي جاء إلى مطعم فيه مصري، وإلى جواره شاب، ودار هناك حوار، وكل واحد لا يفهم الآخر، فقال الأول كلمة طيبة هي في لهجة الثاني سيئة، وإذا به يغضب، وإذا بهما يتشاحنان، وحصل ما لا تحمد عقباه. فهذه اللغة عندما ضعفت وعندما أقصيت إلى حد ما عن خطاب الناس صار الناس بعيدين عن القرآن؛ لأن القرآن هو باللغة، واللغة هي التي جاء بها القرآن، فصار الناس يقرءون كلاماً لا يفهمونه، وكأن العرب صاروا أعاجم، وفي السابق كان الأعاجم عرباً كـ سيبويه، فـ سيبويه أعجمي، وهو الذي أصبح أشهر نحوي، وهكذا ابن درستويه من كبار النحاة، وابن جني، وكثيرون من النحاة أصلهم أعاجم، بل ومن المحدثين البخاري، وهو من بخارى، والترمذي من ترمذ، وغيرهم كثير. والأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما العربية اللسان)، فهم تعلموا العربية ففهموا هذا الدين، وجهلنا العربية فبعدنا عن هذا الدين، وهذا أيضاً مكمن خطر وقع للأمة المسلمة في عصورها المتأخرة.

محاربة أعداء الإسلام وعملائهم لجانب التعليم القرآني

محاربة أعداء الإسلام وعملائهم لجانب التعليم القرآني الجانب الثالث: جانب التعليم القرآني. فتعليم القرآن حُورب في كثير من بلاد الإسلام، سيما في أوائل هذا القرن مع هجمة الاستعمار، فحصة القرآن في آخر الدوام، وحصة واحدة تكفي في الأسبوع، ولماذا حصة واحدة؟! كتب بعضهم: لماذا نرهق عقول الصغار بحفظ السور القصار! وقال: من يقول: إن السور القصار سهلة؟! فالسور القصار سور صعبة، فسورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) يبقى فيها سنة حتى يحفظها مثل ذلك الكاتب الذي ذكر ذلك. وقال: لماذا نعقد الناس؟! ولماذا كذا؟ فنقول: هل أنت تقول كلاماً منطقياً واقعياً أم أنك تتخيل؟! سآتيك بصغار ما تجاوزوا السابعة وهم يحفظون القرآن، فأين التعقيد؟! التعقيد في العقل الذي فسد أو التصور الذي انحرف. فهذا التعليم القرآني أُضعف، حتى إن القرآن لم يعد منهجاً أساسياً، وفي بعض الدول درجة القرآن لا تدخل في التقدير، فمن رسب في القرآن فهو ناجح، وتقدير درجة القرآن بممتاز أو ضعيف ليس له قيمة! ولذلك لم ترتبط الأجيال بالقرآن، وما يزال منهج القرآن يُقص منه ويُقص منه ويُقص منه حتى ما بقي إلا أقل القليل من الآيات البسيطة القليلة، والحفظ غير مهم، حتى إنهم يأتون بمدرسين غير مؤهلين، لذلك انتشر الجهل بالقرآن في تلاوته، وفي فهمه، وفي الالتزام به، وهذا حال سرى في الأمة وقتاً طويلاً، ولا تزال له آثار عظيمة.

أثر إقصاء كتاب الله عز وجل عن الحكم

أثر إقصاء كتاب الله عز وجل عن الحكم وفيما يتعلق بجانب الحكم وبجانب الدول أُقصي القرآن رسمياً، وبإعلان صارخ -بل فاضح بشع- أن القرآن لا يحكم، وجيء بالقوانين الفرنسية والإنجليزية وغيرها، وحكمت بها أمة الإسلام، ولا تزال تحكم بها كثير من الدول التي تُسمى إسلامية. ثم قالوا: نحن لسنا كافرين، ولسنا ننكر القرآن! فما صلتهم بالقرآن؟ يفتتحون به أول البث التلفزيوني والإذاعي ويختتمون به! وما من حفل رسمي إلا وأول شيء القرآن، ولا بأس بأن يكون هناك مسابقات للقرآن وبعض الجوائر، ولا بأس -أيضاً- بأن يُطبع من نسخ القرآن كذا وكذا. هذا الذي أوهموا الناس أنه يكفي فيما يتعلق بالقرآن والحكم والسلطان في بلاد المسلمين، إلا ما رحم الله. ولذلك هذه الصورة لاشك أنها أبعدت الأمة عن القرآن بصورة تظهر فيها أمثلة عجيبة جداً، وعندما يتأمل الإنسان وينظر يرى حملة شهادات الدكتوراة وأصحاب مناصب عالية ورفيعة لا يحسن أحدهم قراءة الفاتحة! ولقد لقيت مرة في ملتقىً عدداً من الشباب من بلاد عربية مختلفة، فرأيت طلبة الطب والهندسة وهم أجسام طويلة وعريضة، وأصحاب ألسنة منطلقة، وأصحاب عقول وأفكار، ولكن والله لقد كان الواحد منهم لا يحسن قراءة غير ثلاث سور: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) و ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) و ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) وأما غير ذلك فلا يحسن، وكانوا كما أشرت على هذه الصورة!

الخير باق في الأمة

الخير باقٍ في الأمة تلك الصورة أرادها أعداء الله عز وجل ومن كان معهم من العملاء، لكن كما قال سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، فإن لهذا القرآن طريقاً إلى القلوب لا يمكن أن توصد أبداً، وإن الآذان لتشتاق إليه، وإن العيون لتتلهف إلى رؤيته، ويكفينا مثال صارخ على ذلك، وأن كل من حرَّف كتاب الله عز وجل لم يفلح، والخاسر هو الذي يحارب كتاب الله عز وجل. فانظر إلى الشيوعية! سبعون عاماً من الحرب الشعواء والتشريد والقتل والتهجير ومنع اللغة العربية ومنع المصاحف إلى آخر ذلك، ثم سقطت الشيوعية، وظهر حفظة للقرآن العظيم لا يعرفون من العربية كلمة واحدة! واسأل من ذهب إلى تلك البلاد، وانظر إلى أشرطة الفيديو، فستجد أنه ظهر في الجمهوريات الإسلامية حفظة لكتاب الله عز وجل كانوا يحفظون في الأقبية وتحت الأرض، واليوم تعم أرجاء العالم الإسلامية أوبة صادقة إلى كتاب الله عز وجل، ونسمع دوي القرآن عاد من جديد في بيوت الله عز وجل، ونسمع أشرطة القرآن تملأ الدنيا شرقاً وغرباً، ونرى كتاب الله عز وجل يغزو الأقطار الكافرة قبل المسلمة، ونرى الأجيال وهي تتربى -بحمد الله عز وجل- على كتاب الله تحفظه وتترنم به قراءة صحيحة فصيحة، وهي في الصغر، ونرى الإقبال على معاني كلمات القرآن، وعلى تفسير كلام الله عز وجل، وعلى الدروس القرآنية، إنها نهضة قرآنية عظيمة بحمد الله عز وجل، والذي يتأملها يدرك أن الأمر كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فلابد من أن ندرك هذا، والحمد لله فهذه ظواهر إيجابية.

أهمية تعلم القرآن الكريم وفهمه

أهمية تعلم القرآن الكريم وفهمه أحب أن أشير إلى أمرين اثنين مما يتعلق بالشباب وبعموم الملتزمين والصالحين، فهناك أمران مهمان: أولهما: إعطاء القرآن حقه من حيث العلم به والفهم لأحكامه قبل أن تتشعب بك الاهتمامات؛ فإن من الشباب من ينصرف عن رغبة صادقة وعن توجه جيد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظها، ويقول: السنة والأحكام بالسنة. وهو لم يهتم بكتاب الله عز وجل، فكيف يفهم السنة وهو لم يفهم القرآن؟ وكيف يعرف دلالاتها وارتباطها بكتاب الله وهو لم يفقه كتاب الله من قبل؟! وانظر إلى حكمة عمر رضي الله عنه، كان ينهى الصحابة عن أن يكثروا من رواية الأحاديث في البلاد التي تفتح حديثاً، فقال: (لا تشغلوهم بالسنن عن القرآن حتى يعرفوا كتاب الله عز وجل). فلابد من أن يُعرف أن القرآن هو الأول، فبعض الناس من حماسهم يندفعون إلى علم من علوم الإسلام، لكن لا يربطونه بالقرآن، ولا ينطلقون إليه بعد القرآن. وهذا الأمر لاشك أنه أساء كثيراً في فهم هؤلاء، وأوجد عندهم خلطاً، وأوجد عندهم سوء ظن بكثير من الأمور وعدم فهم لها، بل نجد اليوم من يتكلم على حفظة القرآن ومن يتفرغون للحفظ ومن يجودونه، بل يتهمون بعض من يهتمون بالقرآن وحفظه وتلاوته بأنهم لا يفقهون الدين، وبأنهم لا يتبعون الرسول الكريم! فعجباً لهؤلاء القوم كيف عكسوا الأمور وكيف قلبوا الآية! ولذلك ينبغي أن نتنبه لهذا الجانب.

ذكر بعض آداب حملة القرآن

ذكر بعض آداب حملة القرآن الجانب الآخر أنقل فيه نصوصاً تبين مهمة أن القرآن وحمله ليس حفظاً وليس تجويداً وليس تنغيماً بالأصوات، وليس معرفة بالتفاسير فحسب، وإنما القرآن سلوك يغير القلب، ويغير نطق اللسان، فلا يتكلم بفاحش القول، ويغير سمت الإنسان كله، ولذلك أهم شيء في حامل القرآن خُلُقُ القرآن الذي قالته عائشة في وصف الرسول عليه الصلاة والسلام: (كان خلقه القرآن). ولذلك ينبغي أن نعيب وأن نشدد النكير على حملة القرآن إذا خالفوا نهج القرآن؛ لأن المطلوب منهم أعظم، والواجب في حقهم أكبر. وأسوق بعض ما ذكره العلماء فيما يتعلق بآداب وأخلاق حملة القرآن، وأكتفي بذكرها، فإن كل جملة منها جديرة -والله- بأن تكون منبهة وفيها ما يهز الإنسان المؤمن المرتبط بكتاب الله أو بحفظه أو بتلاوته؛ لأننا في الحقيقة قد نخطئ ونجرم ونكون قدوات سيئة عندما نقدم للناس من يحفظون القرآن ويجودونه ولكنهم لا يلتزمون أحكامه ولا يتأدبون بآدابه. يقول صاحب كتاب (آداب حملة القرآن): أول ما ينبغي له -أي: حامل القرآن- أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية باستعمال الورع في مطعمه ومشربه، وملبسه ومسكنه، وأن يكون بصيراً بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، فلا ينشغل بعيوب الناس قبل عيب نفسه، حافظاً للسانه، مميزاً لكلامه، إن تكلم تكلم بعلم إذا رأى الكلام صواباً، وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صواباً، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه، يحبس لسانه كحبسه لعدوه؛ ليأمن شره وشر عاقبته، قليل الضحك مما يضحك منه الناس لسوء عاقبة الضحك، إن سُرَّ بشيء مما يوافق الحق تبسم، يكره المزاح خوفاً من اللعب، فإن مزح قال حقاً، باسط الوجه، طيب الكلام، لا يمدح نفسه بما فيه، فكيف بما ليس فيه؟ يحذر نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يسخط مولاه، لا يغتاب أحداً، ولا يحقر أحداً، ولا يسب أحداً، ولا يشمت بمعصية، ولا يبغي على أحد ولا يحسده، ولا يسيء الظن بأحد إلا لمن يستحق. ثم قال: فالمؤمن العاقل إذا تلى القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآه يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذره مولاه حذر منه، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهداً وشافعاً وأنيساً وحرزاً، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه، ونفع أهله وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة. ومن قول عمر: (ولقد أتى علينا حين وما نرى أحداً يتعلم القرآن يريد به إلا الله، فلما كان بأخرة خشيت أن رجالا يتعلمونه يريدون به الناس وما عندهم، فأريدوا الله بقرآنكم وأعمالكم، وإنا كنا نعرفكم من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ينزل الوحي، وإنما أعرفكم اليوم بما أقول: من أعلن خيراً أجبناه عليه وظننا به خيراً، ومن أظهر شراً بغضناه عليه وظننا به شراً، سرائركم فيما بينكم وبين الله عز وجل). ويقول ابن مسعود: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزمه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يصوتون) إنه رجل حمل كلام الله في قلبه، وحوى أعظم كنز في الوجود في صدره، فلا ينبغي له أن يخوض مع الخائضين، ولا أن يلعب مع اللاعبين، ولا أن يتصف بأخلاق الفاسدين، فالله أسأل أن يجعلنا من أهل القرآن.

قصيدة تبين واقع الأمة مع القرآن الكريم

قصيدة تبين واقع الأمة مع القرآن الكريم وأختم بقصيدة أخينا الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي، وقد صور لنا فيها ما بين كتاب الله وواقع الأمة، وهو يخاطب قارئ القرآن في حفل تخريج دفعة من الجماعة الخيرية في جدة، يقول: يا قارئ القرآن داو قلوبنا بتلاوة تزدان بالتجويد اقرأ فأمتنا ترقع ثوبها بالوهم تخفض رأسها ليهود اقرأ فأمتنا تعيش على الربا تنسى عقاب الخالق المعبود اقرأ لينجلي الظلام عن الربَى وليسمع الغاني زواجر هود اقرأ لينجلي القتام عن الذي أمسى أسير تخاذل وصدود اقرأ ليرجع من بني الإسلام من أصغى مسامعه إلى تلمود اقرأ لعل الله يوقظ غافلاً من قومنا ويلين قلب عنيد اقرأ ليرجع ظالم عن ظلمه ويقر بالإيمان كل جحود اقرأ ليسكت مطرب مترنح قتل الحياء على رنين العود ذبحوا مشاعرنا بكل قصيدة مسكونة بخيال كل بليد إبليس باركهم وسار أمامهم متباهياً بلوائه المعقود اقرأ ليهدأ قلب كل مروع من قومنا وفؤاد كل شريد اقرأ ليسمع كل من في سمعه وقر من الأقصى إلى مدريد اقرأ لتفهم أمتي معنى الهدى معنى بلوغ مقامها المحمود اقرأ ليخرج جيلنا الحر الذي يبني جوانب صرحنا المهدود بالدين بالقرآن لا بثقافة غربية ذو مبدأ مردود يا قارئ القرآن إن قلوبنا عطشى إلى حوض الهدى المورود شنف مسامعنا بآيات الهدى وافتح منافذ دربنا المسدود وأقم من الإخلاص قصراً شامخاً يدني إلى عينيك كل بعيد يا قارئ القرآن لا تركن إلى مدح العباد ومنطق التمجيد قل للذين تنكبوا درب الهدى جهداً ولم يستمسكوا بعهود قل للطغاة ومن مشوا في ركبهم من طامع ومنافق ومريد إن الذي منع الحرام هو الذي شرع الحلال لنا وكل مفيد هذا هو القرآن دستور الهدى فيه الصلاح لظارف وتليد وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

تفسير قوله تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))

تفسير قوله تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) Q يقول بعض الشيوخ: إن الناس يفسرون: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] تفسيراً خاطئاً، فالقرآن فيه عمومات، أما التفصيلات فهي جهود عقلانية اجتهادية، فما تعليقكم؟ A قول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] مقصود به الكليات دون التفصيلات، والتفصيلات ليست مطلقة لعنان العقول المفكرة بلا قيد ولا ضابط، بل لابد من أن يُفهم القرآن أولاً بفهم وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في ضوء القواعد الكلية، ثم في ضوء اللغة العربية، ثم في ضوء إجماع الصحابة، فلابد من أن يكون مؤسساً على أسس الاجتهاد الصحيح الذي لابد لصاحبه من أن يكون عالماً بكتاب الله عالماً بسنة رسول الله عالماً بلغة العرب عالماً بأسباب القياس عالماً بإجماع الأمة من قبله؛ فليس الأمر مطلقاً هكذا.

حكم الخوض في الفتن وذكر بعض أخبار أفغانستان

حكم الخوض في الفتن وذكر بعض أخبار أفغانستان Q هناك بعض الشباب يخوضون في الفتن ولا يأبهون بها، فمثلاً: أفغانستان وما حدث فيها إذا سُئل أحدهم أجاب وجرح وانتقد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهل من كلمة لهؤلاء -خاصة حفظة كتاب الله- أن يبتعدوا عن الخوض في الفتن، وأن يدعوا الله أن ينصر المجاهدين؟ وهل هناك أخبار جديدة بشأن اختلاف المجاهدين؟ A لاشك أن الخوض في الفتن من الأمور المطلوب البعد عنها، لكن إن كان للإنسان علم أو بصيرة أو كلمة مسموعة يرى أن لكلامه أثراً ونفعاً فلاشك أنه يتكلم بموجب ما يرضي الله عز وجل، وبموجب ما يتفق مع شرع الله سبحانه وتعالى. وأما الأخبار الجديدة فنرجو الله عز وجل أن تكون الاتفاقات الأخيرة خاتمة لكل خلاف وصراع وشحناء وبغضاء في القلوب وفي العقول وفي التصرفات بين إخواننا المجاهدين، وأن تجتمع -إن شاء الله- كلمتهم، وأن تتفق جهودهم لتعلو كلمة الله عز وجل، ولئلا يفجعوا الأمة بعد هذا الجهاد الطويل بهدم هذه المكتسبات، وقد صُرح بوجود الاتفاق على أن يكون رباني رئيس الحكومة، وأن تُعطى للحزب رئاسة الوزراء، ويوقف إطلاق النار، والاتفاق الآن مجمع عليه، ونسأل الله عز وجل أن يثبت، وأن لا يكون هناك من ينقضه، ولا ننسى كذلك أن هناك منتفعين بهذه الفتنة، وأن هناك من يؤججون نارها. وفي الداخل هناك فئتان: الشيعة والشيوعيون وبقاياهم، ويوجد هناك في الخارج من يدعمون هذه التوجهات بطرف خفي، بالأسلحة وبعض المنشورات، وعلى رأس أولئك الأمم المتحدة ومن يدعمها أو من يوجهها من القوى الغربية، لكن نسأل الله عز وجل أن يكون في هذا الاتفاق ما يمنع وقوع بعض الفتن، ونسأل الله عز وجل أن يحقن الدماء. والحقيقة أن الأسى قد خالط القلوب، وأن الحزن قد عصر القلوب عصراً شديداً، وكاد كثير من الناس أن يفقدوا الأمل، ولكن المؤمن لا يفقد الأمل، كما قال تعالى: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. ولاشك أن هذه الفتن هي دروس وعبر، وأن الأمة لم تكن بالقدر من التربية والمقاصد والنوايا الخالصة التي تستحق بها نصر الله، بل عندها قصور، فجعل الله عز وجل لها من البلاء ما يكفر عنها بعض الذنوب ويلقنها بعض ما أخطأت فيه عن المسيرة الإسلامية.

حكم وصف الصحابي بالفقر

حكم وصف الصحابي بالفقر Q هل يصح أن نقول عن الصحابي بأنه فقير؟ أليس في هذا إساءة أدب مع الصحابة؟ A إذا لم يذكر ذلك على سبيل التنقص، ولم يذكر أصلاً في وصف الصحابي، وإنما ذكر في وصف الحال وكون الصحابي فقيراً من الدنيا، وأنه غني بالإيمان والتوحيد وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام فليس في هذا بأس، وهذا لا يحتاج إلى مزيد تعليق.

حكم وصل الآيات ببعضها أثناء القراءة

حكم وصل الآيات ببعضها أثناء القراءة Q قرأت في كتاب (مخالفات الطهارة) أن من مخالفات الصلاة وصل الآيات أثناء القراءة في الصلاة، فما مدى صحة ذلك؟ A السنة النبوية في القراءة -سيما في الصلاة- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآيات، وأنه كان يفصل القرآن تفصيلاً، وقد قال ابن مسعود -كما في صحيح مسلم - (لا تقرءوا القرآن هذاً كهذ الشعر، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة). فينبغي أن يقرأ وأن يفصل، والسنة الوقوف على رءوس الآيات.

الخروج من الحرم لتكرار العمرة

الخروج من الحرم لتكرار العمرة Q سمعنا من بعض الإخوة أن كثرة أداء العمرة ليس من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا صحيح أم لا؟ A تكرار العمرة بحيث يخرج المرء إلى خارج مكة ثم يدخل إليها مرة أخرى وردت فيه الكراهة عند المالكية، وقد نص على ذلك في نص قوي الإمام ابن القيم في (زاد المعاد)، فالإنسان إذا اعتمر فجاء من خارج الميقات بعد أن كان داخله فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كرر العمرة في مقام واحد أو من غير أن يكون جاء من خارج الحرم. وهذا قول المالكية، وذكره ابن القيم، وهو مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان في تكرارها والخروج للحل والعودة مرة أخرى فضيلة وخير عظيم لكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد فعله وأرشد إليه، فالتزام سنة النبي أولى وأتم وأكمل.

علاج قسوة القلب

علاج قسوة القلب Q أجد في قلبي قسوة حتى عند قراءة القرآن وعند سماعه، فما توجيهكم؟ A كلنا ذاك الرجل، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا لين القلوب والخشية فيها، ولابد من أن الإنسان يستحضر المعاني عند قراءة القرآن وسماعه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لم تبكوا فتباكوا)، فليستحضر الإنسان هذه المعاني حتى يكون في هذا الجانب خاشعاً مع كلام الله عز وجل.

ترتيب سور القرآن وآياته توقيفي

ترتيب سور القرآن وآياته توقيفي Q على أي أساس رتبت سور القرآن؟ A القول الذي فيه إجماع أن القرآن رتب ترتيباً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الترتيب توقيفي لا اجتهاد فيه، ولذلك لم يحصل اختلاف في ترتيب آية ولا سورة ولا موضع كلمة في كتاب الله عز وجل. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

القرآن والحياة [2]

القرآن والحياة [2] هناك مهمات ينبغي على المسلم أن يعلمها وهو يسير إلى الله تعالى، أهمها معرفة عظمة هذا الدين، ومعرفة عظمة النبي المرسل صلى الله عليه وسلم، ومعرفة حسن الصلة بالله جل جلاله، ومعرفة حقارة الدنيا؛ كل هذه الأمور يصل العبد بإدراكها إلى القوة في الدين وبلوغ أعالي التربية الإيمانية الحقة.

أهمية معرفة عظمة الدين

أهمية معرفة عظمة الدين الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعظمت صفاته، بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، من سأله أعطاه، ومن التجأ إليه كفاه، ومن توكل عليه حماه. نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن الوحي والرسالة والدين والإيمان خطب جليل، وحمل ثقيل لابد من أخذه بقوة ومن حمله بأمانة ومن أدائه بكفاءة، ولذلك الخطاب للرسل والأنبياء وأقوامهم وأممهم أن يأخذوا دين الله بقوة، وأن يكون الدين عظيماً في القلوب والنفوس، مقدماً في الواقع والممارسة. وهذا الحديث له أهميته بالنسبة لنا جميعاً، لا يختلف في ذلك رجل عن امرأة، ولا شاب عن شيخ، ولا عالم عن عامي؛ لأننا جميعاً مسلمون، ولأننا جميعاً مكلفون، ولأننا جميعاً من بعد بين يدي الله محاسبون كل بحسبه وكل وفق طاقته وقدرته، كما قال جل وعلا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. إنها الطريق إلى القوة في الدين، فكيف نصل إلى هذه المرتبة؟ وكيف نعالج ضعف اهتمامنا بديننا وقلة غيرتنا عليه وعدم استنفاد طاقتنا في سبيله؟ هذه معالم أحسب أن فيها شيئاً من الذكرى والعظة. أولاً: معرفة عظمة الدين: إن كل أمر يكون اهتمامك به بقدر عظمته، وبقدر كماله، وبقدر ما فيه من النفع والفائدة المعنوية والحسية، فهل هناك ما هو أعظم من دين الإسلام؟! قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فهذه آية عظيمة سبقها إشهاد الله سبحانه وتعالى ملائكته، وإقراره جل وعلا بشهادته سبحانه وتعالى بوحدانيته، ثم بالتثبيت والتوكيد على أن الدين عنده هو الإسلام، والمقصود أن الدين المقبول عند الله عز وجل هو الإسلام، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، هذا الدين أكمله الله سبحانه وتعالى وأتم به النعمة، كما قال عز وجل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهل هناك أعظم مما أكمله الله جل وعلا وأحكمه؟ وهل هناك أفضل وأنفع وأصلح مما اختاره الحق سبحانه وتعالى ورضيه؟ فما بال القلوب والعقول لا تلتفت إلى هذا التعظيم؟ قال عز وجل حاكياً عن يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، فهذا الدين هو اختيار الله لنا، وهو هدايته إلينا، وهو الذي أراد به فلاح دنيانا ونجاة أخرانا، فذلك أعظم نعم الله على الإطلاق، وذلك أجل وأكمل وأبلغ فضل من الله عز وجل علينا؛ لأن هذا الدين هو الدين الخاتم الذي أراد الله عز وجل به لنا كل ما يبحث عنه غيرنا ممن ضل عن هذا الدين أو ممن فرط في التمسك به وتعظيمه وتقديمه، قال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]. ولا تعرف النعم إلا بأضدادها، فانظر إلى الناس من حولك، وانظر إلى الكفرة والفجرة البعيدين عن حياض الإيمان وظلال الإسلام، أليسوا قد ملكوا متع الدنيا وشهواتها؟! أليس بأيديهم أسباب السعادة الدنيوية بكل ألوانها؟! ثم من بعد ألا ترى ضيق صدورهم؟! ألا ترى كدر وجوههم؟! ألا ترى شقاء حياتهم؟! ألا ترى فقدان أمنهم؟! ألا ترى انحلال أخلاقهم؟! ألا ترى ضياع أبنائهم؟! ألا ترى سواد وجوههم وحياتهم؟! قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]. إنها مسألة مهمة؛ لأن الله جل وعلا قد ساقها لنا في سياق المقارنة فقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] فانتبه لهذا المعنى، وتدبر هذه المقارنة، قال سبحانه: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] إن نعمة الإسلام انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وسكينة النفس، ونور البصيرة، ومعرفة الحق، واكتشاف التباس الباطل، إنه كل ما يريده الإنسان من راحة باله، وسعادة نفسه، ولذة روحه، إنه الذي يبحث عنه كل إنسان حي في هذه الحياة الدنيا ليجد ما تسكن به نفسه ويطمئن به قلبه. ثم انظر إلى المقابلة التي جاءت في سياق عطف مباشر في قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] فمن لم يأخذوا هذا الإسلام فهم قساة قلوب غلاظ أكباد، لا يعرفون حقيقة حقوق الإنسان، ولا يقيمون العدل ولا يلتفتون إليه، تتكشف بذلك الحقائق، وتتعرى هذه الحقائق عن بهارجها وزخارفها وأقوالها الباطلة ودعاياتها المضللة، ثم يخبرنا الحق سبحانه وتعالى بأن هذا المصير وهذا المسلك هو الضلال المبين الواضح، فكم نحن في نعمة من الله سبحانه وتعالى، بل قد جاء المثل القرآني بأبلغ تصوير وأجل وأدق تشبيه في قوله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] ذلك هو مثل ما من الله به علينا، ومثل العظمة والمنة التي ساقها الله إلينا، يوم شرح صدورنا بالإسلام، فأصبحنا أحياء قلوب ونفوس، وغيرنا أحياء بالأجساد والأشباح، وقلوبهم مظلمة، ونفوسهم ميتة، ولذلك يسيرون متخبطين في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يرون الحق والهدى، ولا تنكشف لهم أنوار البصر والبصيرة. إذا أدركنا ذلك فإننا نستحضر المزيد والمزيد من عظمة ديننا، ومن عظمة منة الله عز وجل علينا بهدايتنا لهذا الدين. أفلا يستحق هذا الدين العظيم أن نعلق به قلوبنا، وأن نجعله نصب أعيننا، وأن نجعله قائدنا في مسيرتنا، وحاكمنا وضابطنا في تصرفاتنا كما ينبغي أن يكون الدين الحق في حياة أمة الإسلام والمسلمين؟! فالأمر أوسع من أن تحيط به كلمات. ولنقف مع عظمة القرآن، وكلام رب الأرباب وملك الملوك جبار السموات والأرض، قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وقال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82] فالقرآن شفاء حيرة العقول، وشفاء اضطراب القلوب، وشفاء شقاء النفوس، وشفاء أمراض الأبدان، كل ذلك في القرآن الذي هو بين أيدينا مطبوع في أحسن الحلل، مسموع بشتى الأصوات، لكن أين مكانه؟! وأين وجوده في واقع حياتنا؟! وأين تعظيمه إذا تلي علينا وإذا سمعنا أمره ونهيه؟! ألم نستمع لقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا سمعت (يا أيها الذين أمنوا) فأرعها سمعك فإنها إما أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه)؟! ألم نعرف ما قاله الحسن البصري رحمه الله: (إن القرآن رسائل من الله إليكم، فاقرءوا رسالته وعظموها حق قدرها)؟! وهذا باب واسع.

أهمية معرفة عظمة النبي صلى الله عليه وسلم

أهمية معرفة عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لابد من معرفة عظمة خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، النعمة المسداة، والرحمة المهداة، خير خلق الله، وخاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم، أليست هذه منة عظمى من الله علينا أن بعث فينا ولنا محمداً صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه من خلقه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فأنا خيار من خيار من خيار)، والذي قال الله عز وجل في حقه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؟! ألا نقدر جهاد رسولنا قدره؟! ألا نعرف كيف بلغنا دينه وكيف نقل لنا كلام الله عز وجل؟! وكيف كانت شفقته العظيمة، وقلبه الرقيق الرحيم، كما قال عنه عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]؟! أفليست عظمة رسولنا صلى الله عليه وسلم جديرة بأن نعظم أمره ونهيه وسنته ودينه الذي حمله إلينا وقرآن الله جل وعلا الذي بلغه إيانا، أم أننا نريد الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد ذكره أو مدحه، أو بمجرد ذكر بعض مناقبه ومآثره عليه الصلاة والسلام؟! إن الأمر أعظم من ذلك، وإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإن آل بيته الأطهار عندما كانوا معه فعلوا الأعاجيب، ذادوا عنه بصدورهم، وجعلوها دروعاً وتروساً تتلقى الرماح والسهام والسيوف، وأحدهم يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله. كذلك فعلوا، ولقد شرقوا وغربوا وبلغوا دينه وحملوا رسالته وأقاموا سنته وحاربوا كل من نقض دينه، أليس هذا هو الذي فعله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟! فهذا تابعي يخاطب حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين: كيف كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أي: كيف كانت حياتكم معه. قال: (كنا -والله- نجهد) أي: نتعب. فلم تكن المسألة سهلة، ولم يكن غرضهم وفرحهم بمجرد وقوفهم إلى جانبه صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يبحثون عن فخر ظاهري، بل كانوا يعلمون أن صحبته لها ضريبة، وأن الانتساب إلى أمته له شرف لابد من أدائه، قال: (كنا نجهد) فقال ذلك التابعي بغلبة حب وفيض عاطفة: (والله لو كنا معه ما تركناه يمشي على الأرض) أي: لحملناه على أعناقنا. لقد كان يعبر بصدق، فقال له حذيفة: (لو كنت معنا يوم الأحزاب، يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم. فلم يقم أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر، فقال: من يأتيني بخبر القوم وأضمن له الجنة. فلم يقم أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر، حتى قال رسول الله: قم يا حذيفة. فلم أجد بداً من ذلك) إنها مراحل عصيبة وأوقات رهيبة ومحن ممحصة دخل فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا معه، وكان في مقدمتهم. وهذه العظمة كلها في دين الله، وفي كتاب الله، وفي ذات وشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تستحق أن تكون أعظم شيء في حياتنا، وأن تكون هي شغلنا الشاغل ومحور حياتنا الذي تدور فيه كل مجالات حياتنا وخواطر عقولنا ومشاعر نفوسنا وجهدنا في أبداننا وأوقاتنا وغير ذلك؟!

أهمية معرفة حقارة الدنيا وحقيقتها

أهمية معرفة حقارة الدنيا وحقيقتها أنتقل إلى أمر ثانٍ، وهو معرفة حقارة الدنيا وحقيقتها، فما الذي ينافس ديننا؟ وما الذي يشغلنا عن قرآتنا؟ وما الذي يصرفنا عن هدي وسنة وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم؟ أليس الصفق في الأسواق؟! أليس اللهو والبحث عن الشهوات؟! أليس التنافس على فتات الدنيا؟! قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20] ثم ماذا من بعد ذلك كله؟ {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد:20] ثم ما هو الأمر من بعد الدنيا كلها؟ آخرة وحساب وثواب أو عقاب، جنة أو نار، فهل تساوي هذه الدنيا أن تكون هي المقدمة وهي التي سكنت النفوس وتربعت على عروش القلوب؟ وهل يصح عندك -أيها المؤمن! يا من سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) - أن تكون الدنيا أوكد همك وأعظم شغلك؟ ألم تستمع لحديث المستورد بن شداد رضي الله عنه عندما يخبره النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا كلها ومتاعها لو أن الله أعطاها كل من سألها من بر وفاجر لا تنقص من ملك الله إلا كما يغمس أحدكم المخيط في ماء البحر ثم يخرج به)؟ أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قد ضرب المثل لأصحابه من نفسه وضربه في المواقف المتنوعة فقال: (ما لي وللدنيا؟ إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها)؟! أليس هو الذي صلى فتعجل في صلاته صلى الله عليه وسلم، ثم سلم وانفتل وخرج مسرعاً وغاب شيئاً من الوقت، ورجع فرأى السؤال على وجوه أصحابه، فقال: (ذكرت شيئاً من تبر -أي: من ذهب- فخشيت أن يحبسني، فأنفقته في سبيل الله)؟! أليس هو الذي مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي؟! فهل هناك من هو أعظم أو أشرف من محمد صلى الله عليه وسلم. وهو الذي لو أراد أن يدعو الله فيحيل له الصفا والمروة ذهباً لاستجاب الله له؟! أليس هو الذي قد جاء فيما صح في لحظات وفاته قوله: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)؟! ألم يخير بين هذه الدنيا وزينتها واللحاق برفيقه الأعلى سبحانه وتعالى فاختار أن يكون إلى جوار خالقه ومولاه سبحانه وتعالى؟! فما بال الأمور تغيرت؟! وما بال الأحوال تبدلت؟! ألسنا نحتاج إلى مثل هذه المحاكمة النفسية والعقلية والقلبية لنتدبر أمورنا ونلتفت إلى أحوالنا؟! ولو أردنا أن نفيض لوجدنا الكثير، ولرأينا كيف بكى عمر رضي الله عنه في موقف من المواقف المؤثرة المعبرة، يوم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم خير خلق الله قاطبة، فإذا به مضطجع على حصير ليس بينه وبينه شيء، فلما قام إذا الحصير له أثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه -أي: لأن هذا العظيم على هذه الحالة- فقال صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا عمر؟! قال: ملوك فارس والروم في النعيم المقيم والدنيا المزينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير يؤثر في جنبه!)) -لقد رأى ذلك عمر فعز عليه مع عظمة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا حاله- فقال له عليه الصلاة والسلام: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم) فهو المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم يكن شيء عنده عظيماً إلا أمر الله ودين الله ورسالة الله، وما وراء ذلك قيمته متأخرة، وحقيقته كما شبه ونبه وذكر أصحابه عندما مر بجدي ميت أسك -أي: مقطوع الأذن- فقال: (من يشتري هذا بدرهمين؟ فلم يتكلم أحد، فقال: من يشتريه بدرهم؟ فتكلم بعض الصحابة وقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً لكان عيبه مانعاً من شرائه. فقال: والله للدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم) لقد صور النبي ذلك تصويراً بليغاً بلسان الحال ولسان المقال وبضرب المثال، وبعد ذلك كله احسب كم من أوقاتنا لدنيانا؟! وكم من فكرنا وشغلنا لدنيانا؟! وكم من همنا وغمنا وحزننا لدنيانا؟! وكم في مقابل ذلك لديننا وأمتنا ودعوتنا؟! أحسب أنها قسمة ليست عادلة، وأنها مرجوحة إلى ما لا ينبغي أن يكون راجحاً.

أهمية معرفة سنن الله عز وجل الكونية

أهمية معرفة سنن الله عز وجل الكونية ننتقل إلى أمر ثالث، وهو معرفة سنن الله سبحانه وتعالى. فلا ينبغي أن يدب اليأس إلى النفوس بحال من الأحوال إذا تعلقت القلوب بالله وإذا عرفت سنته الماضية، قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فليس هناك لأمة الإسلام هزيمة ماحقة ولا استئصال تام أبداً قطعاً ويقيناً، فقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي دعا به لربه ومولاه أن لا يستأصل أمته بسنة بعامة، ثم كذلك الشرط مربوط بمشروطه، وذلك في قوله عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقوله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، وقوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]. فنحن نستطيع أن نغير وجه الدنيا كلها، ونستطيع أن نقيم أعلام ديننا وننشر راياته في شرق الأرض وغربها، ونستطيع أن نواجه كل الأعداء مهما بلغت قواهم إذا أخذنا بهذه السنن، قال عز وجل: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43] وقال سبحانه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62] إنها مسألة مهمة تجعلنا أقوى ارتباطاً بديننا، وأشد تمسكاً به، وأعظم يقيناً بنصره وعزه وانتشاره، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يكون بيت شجر ولا حجر ولا مدر إلا ودخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل) ذلك هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] وهذه مسألة مهمة في قوة ديننا ويقيننا بديننا بإذن الله سبحانه وتعالى.

أهمية معرفة سير الأنبياء والعلماء والدعاة والصالحين

أهمية معرفة سير الأنبياء والعلماء والدعاة والصالحين الأمر الرابع -وهو مهم جداً- معرفة سير الأنبياء والعلماء والدعاة والصالحين. أولئك الذين جعلوا أرواحهم على أكفهم، أولئك الذين سخروا أموالهم لدينهم، أولئك الذين جعلوا حياتهم كلها نموذجاً مثالياً لأمر الله ولأمر وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى رسل الله وإلى أنبيائه، ألم يقف موسى عليه السلام وأمامه البحر ومن خلفه فرعون وجنوده في لحظة من اللحظات التي سدت فيها الأبواب وأظلمت الدنيا وانقطعت الأسباب؟ فقال قومه وهم ليسوا على مثل إيمانه ويقينه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] وجاءوا بالصيغة المؤكدة، أي أنه لا مجال للنجاة مطلقاً، فجاء جواب اليقين ولسان الإيمان: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] أي: لن تكون هذه هي النهاية؛ لأن وعد الله لم يتم، ولأن سنته لا تكون كذلك، فأي شيء كان بعد؟ قال عز وجل: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] فنجا موسى ومن معه، وغرق وهلك فرعون ومن معه في لحظات؛ لأن القوة الإيمانية واليقينية عند موسى عليه السلام كانت تمثل هذه القوة التي نبحث عنها وندعو إليها ونتواصى بها ليعود البحر من جديد فينفلق؛ لأن سنة الله واحدة، وإن تغيرت الصور والأشكال. وهذه قضية مهمة، وليس ذلك في شأن الرسل والأنبياء فقط، لكننا نأخذ العبرة الأولى منهم، قال عز وجل عن نوح عليه السلام: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] فلمَ كانت الإجابة؟ لأن نوحاً عليه السلام دعا ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولأن نوحاً دعا سراً وجهاراً، ولأن نوحاً لقي العناء وصبر، ولأن نوحاً عليه السلام لم يكن معه إلا قلة قليلة، وثبت على دين الله ونسي دنياه، ومع ذلك جاءته النتيجة الخاتمة لهذا كله كما قضى الله سبحانه وتعالى، وهكذا نمضي فنرى هذا على ما هو عليه. نسأل الله عز وجل أن يعظم الإيمان واليقين في قلوبنا، وأن يجعل ديننا وإسلامنا أوكد همنا، وأعظم شغلنا، وأعظم ما نُعنى به؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية حسن الصلة بالله عز وجل

أهمية حسن الصلة بالله عز وجل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أجل وأبرز صور التقوى أن يكون الدين مقدماً على كل شيء معتنىً به، وهو الذي ينبغي أن يكون كذلك في واقع حياتنا، ولعلي أشير إشارة خاتمة في هذا المقام هي بمثابة ما يذكرنا بما مضى كله، ويعيننا عليه بإذن الله عز وجل كله، إلا وهو حسن الصلة بالله إخلاصاً وتجريداً لتوحيده سبحانه وتعالى، وصدقاً في التوكل عليه، ودواماً في الإنابة إليه، واستحضاراً لمراقبته إيانا، وحياءً من مخالفتنا إياه، كل هذه المعاني هي التي تجعل الدين والقرآن والسنة في قلوبنا حية حاضرة، فإذا جاءت النقمة أو حلت الفتنة فلا صارف لها إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل عن يوسف عليه السلام: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف:34] وكلما عظمت الخطوب أو اشتدت الكروب فلا فارج لها إلا الله، كما قال عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] وقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] كلا والله! فينبغي أن نعظم الإيمان به سبحانه وتعالى، وأن نجرد التوحيد له جل وعلا، فلا تعلق بغيره، ولا دعاء ولا استعانة ولا استغاثة بغيره، ولا تعويل ولا توكل ولا اعتماد ولا ثقة بغيره سبحانه وتعالى، ولا خوف ولا رهبة ولا رجوع إلا من خوفه سبحانه وتعالى، ويوم نجاهد أنفسنا في ذلك ونستعين الله عز وجل فيه يكون لنا أثر عظيم في كل ما سبق، ولا شك أن من حسن الصلة بالله حسن عبادته، فلماذا المساجد قد خوت من المصلين؟! ولماذا المصاحف قد جانبها القارئون والتالون؟! وهكذا لعلنا نراجع أنفسنا ونحن نعلم اشتداد الخطوب وتعاظم الكروب، ولكننا نوقن أن التغيير لا يكون إلا وفق منهج الله عز وجل، ووفق ما جاء وفعله رسوله صلى الله عليه وسلم يوم ربى وغرس الإيمان في القلوب، واصطفت وراءه الصفوف بالصلاة، وصبر وكظم غيظه يوم لم تكن عنده قوة، ثم أنزل الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، فانبرى النبي صلى الله عليه وسلم لإعلاء كلمة الله ونشر دين الله ورفع راية الجهاد في سبيل الله، ففتح الله عز وجل له القلوب، كما فتح له الدور والبلاد. وهكذا تدور الدورة مرة أخرى، وهي تبدأ حقيقة من الأم التي ترضع ابنها وتغذيه وتعلمه وتربيه على معاني الإيمان والإسلام، إنها حينئذ تعد أسلحة أقوى من الأسلحة الذرية التي يخوفوننا بها؛ لأنها تعد أسلحة الإيمان واليقين، وأسلحة الإسلام والخلق، وأسلحة العمل الصالح، وأسلحة الدعاء المستجاب، إنها حينئذٍ تجعل لنا في كل بيت ثكنة إيمانية إسلامية عظيمة لا يمكن بحال من الأحوال أن تهزم في مواجهة أو ميدان. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يعيد اليقين في نفوسنا، وأن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب. اللهم! طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، واهد بصائرنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وخلص نياتنا، واجعلنا من عبادك الصالحين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم! اجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وان تجعلنا هداة مهديين. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب العالمين. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه. اللهم! إنا ندرأ بك في نحور أعدائنا، ونعوذ بك -اللهم- من شرورهم. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم! اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وفرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، ورد كيدهم في نحرهم، واجعل بأسهم بينهم. اللهم! يا رب العالمين! انزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، وانتقم لنا منهم، واشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم! أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين. اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين والمضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، وقو وحدتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم! اجعلنا من عبادك الصالحين، واكتبنا من ورثة جنة النعيم. اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

القرآن والحياة [3]

القرآن والحياة [3] الدين الإسلامي دين عظيم، وأمانته جسيمة ورسالته ثقيلة، ولا يمكن لأحد أن ينال شرف حمل الأمانة ونشر الرسالة وهو نائم ملء عينيه، آكل ملء بطنه، غارق في شهواته، بل لابد من صبر وتحمل للمشاق والمصاعب، وبذل للغالي والنفيس في سبيل هذا الدين.

أهمية القوة في الدين

أهمية القوة في الدين الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه، وأسدل علينا ستره، وأعاننا على ذكره، ووفقنا لشكره، له الحمد سبحانه وتعالى ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبينا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافة أجمعين, وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن القوة في الدين مسألة مهمة نحتاج إلى بيانها والتذكير بها والتواصي على العمل بموجبها؛ لأن واقعنا اليوم يدعونا إلى ذلك بأعظم وأكثر الدعوات إلحاحاً وقوة، فينبغي لنا -أولاً- أن نفهم المراد بالقوة في الدين، وأن نعرج على صور ومجالات هذه القوة في ميادينها المختلفة، ثم نأخذ الوسائل المعينة على ذلك والموصلة إليه بعون الله سبحانه وتعالى. فدين الإسلام هو الدين العظيم، الدين الخاتم الذي أنزله الله على الرسول الكريم العظيم صلى الله عليه وسلم، فختم به الرسالات، وأتم به النعمة، ورضيه للبشرية ديناً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلابد من أن ندرك عظمته، وأن نعرف قيمته، وأن نستشعر أهميته، وأن نوقن بفائدته وبثمرته وبحاجتنا إليه في دنيانا وبنفعه وخيره في أخرانا، ليكون من بعد هو قطب رحى حياتنا، ومحور خفقات قلوبنا ومشاعر نفوسنا وكلمات ألسنتنا وخواطر عقولنا وحركات جوارحنا، وليكون هذا الدين هو الذي يظهر في واقعنا في كل حركة وسكنة في مواقفنا مع إخواننا وأحبابنا، ومع خصومنا وأعدائنا، وليكون الدين -كما أراد الله سبحانه وتعالى- هو جوهر هذه الحياة، وهو المؤهل للنجاة فيما وراء هذه الحياة.

ثقل الدين وعظمته

ثقل الدين وعظمته ليس الدين أمراً سهلاً أو تافهاً والعياذ بالله! فأين مكانه من اهتمامنا؟! وأين وضعه في سلم أولوياتنا؟! وأين هو من همنا وغمنا؟! وأين هو من فكرنا وشغلنا؟! وأين هو من وقتنا وجهدنا؟! وأين هو من بذلنا ومالنا؟! وأين هو من أرواحنا ونفوسنا؟! أما إن الدنيا ومشاغلها والأهواء وجواذبها قد نازعت الدين فأخرته حتى جعلته وراءنا ظهرياً، فنحن اليوم لا نهتم أو نغتم به ولا نفكر أو ننشغل في أموره وأحواله، ذلك أمر أحسب أن الحق فيه واضح جلي، وأن المصارحة لكل أحد فيما بينه وبين نفسه تكشف حقيقة تحتاج إلى مراجعة وتقويم لننطلق إلى تصوير هذه القوة في الخطاب القرآني لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الناس نفساً وأثبتهم قلباً وأقواهم يقيناً وأعظمهم إيماناً، الذي خاطبه الله جل وعلا فقال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] فليس الأمر بالهين، وليس مسألة عارضة ولا مهمة خفيفة. قال ابن عطية في تفسيره عند هذه الآية: قال حذاق العلماء: ثقل المعاني من الأمر بالطاعات والتكاليف الشرعية من الجهاد ونحوه، ومزاولة الأعمال الصالحة دائماً. ثم نقل عن الحسن البصري قوله: الهذ خفيف، ولكن العمل ثقيل. أي أن تهذ بلسانك، وأن تدعي بقولك، وأن تتشدق بكلماتك، وأن تغر الناس بمظهرك، كل ذلك سهل، وللأسف أن كثيراً من أبناء أمتنا اليوم يحسنون القول ولا يجيدون العمل، فالعمل ثقيل. ونقل البغوي عن الفراء في قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] قال: هو ثقيل ليس بالخفيف والسفساف؛ لأنه كلام ربنا. أليس الدين هو كلام الله؟! فهل هناك ما هو أعظم وأثقل وأجل من كلام رب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى؟! لو جاءتنا رسالة من أمير أو مسئول لفرحنا بها، ولعظمنا أمرها، ولرفعنا من شأنها، ولكن كلام ربنا وآياته المنزلة وأحكامه المشرعة لا تنزل من القلوب منزلها، ولا تنال من التشريف والتعظيم حقها! ونقل ابن الجوزي عن الزجاج أنه قال: قول ثقيل أي: له وزن في صحته وبيان نفعه، كقولك: قول رصين. أي: ثقيل له مضمون وله نفع وفائدة وله مغزى وله قيمة. فقوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، أي: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه. وكذلك أراد الله جل وعلا في شأن نبينا صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الأمرين: الثقل المعنوي الذي سنجليه ونوضحه، وكذلك الثقل الحسي، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي علته الرحضاء، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (إن كان لينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقاً) وقد روى زيد بن ثابت: (أنه نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذه، قال: فكادت فخذه أن ترض فخذي)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي وهو على ناقته بركت به الناقة من ثقل الوحي، وكان يرى ثقل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، وعندما نزل جبريل لأول مرة بالوحي هل كان نزوله خفيفاً هيناً؟! وهل كان سهلاً؟! إنه نزل عليه وهو في خلوة وحده، ثم راعه بمفاجأته، ثم قال له: (اقرأ) فلما قال: ما أنا بقارئ قال عليه الصلاة والسلام: (فأخذني فغطني -أي: ضمني- حتى بلغ مني الجهد -أي: التعب والشدة- ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم الثالثة كذلك) لأن أمر الدين عظيم، ولأن رسالته ثقيلة، ولأن أمانته عظيمة، فلا يمكن أن تتلقاه وأنت تريد ركوناً إلى دنياك، واستمتاعاً بشهواتك، ورضوخاً إلى أهوائك، واستسلاماً لضعفك، واستمساكاً بحياتك.

تعريف الأمانة وأقسامها

تعريف الأمانة وأقسامها انظر إلى الصورة القرآنية الأخرى والعظمى في قوله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فأي أمانة أعظم من هذه الأمانة التي تخلت عن حملها السماوات السبع والأرضون السبع والملائكة المسبحة بحمد الله، والجبال الراسخة وحملها الإنسان؟! إنها أمانة التكليف بالأوامر والنواهي، والأخذ بدين الله، والقيام بأمره، وترتب على ذلك الشرط ثواب على الإحسان، وعقاب على الإساءة، ورفعة عند الرحمن لمن قام بذلك وأدى واجبه، أو دنو وسفل وسخط وغضب من الجبار لمن خالف وأخلف، نسأل الله عز وجل السلامة. وابن كثير بعد أن سرد أقوالاً من أقوال السلف في شأن هذه الأمانة قال: أقوالهم متفقة وراجعة إلى أنها التكليف بقبول الأوامر والنواهي بشرطها. وقال السعدي مؤكداً هذا المعنى: الأمانة التي ائتمن الله عليها المكلفين هي امتثال الأوامر واجتناب المحارم في حال السر والخفية كما في العلانية. ثم بين ما يتعلق بالآية التي بعدها فقال: فانقسم الناس بحسب قيامهم بها -أي: بهذه الأمانة- إلى ثلاثة أقسام: منافقون أظهروا أنهم قاموا بها ظاهراً لا باطناً، ومشركون تركوها ظاهراً وباطناً، ومؤمنون قائمون بها ظاهراً وباطناً، ومن هنا جاءت الآية التي بعدها: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:73]؛ لأن الذين قبلوا الأمانة واجتهدوا فيها قد يقصرون، وقد يخطئون، وهذه من طبيعة البشر، فمنَّ الله عليهم بتوبته لما صدقوا في أداء أمانته وأخلصوا دينهم ونيتهم في القيام بواجبهم لربهم سبحانه وتعالى.

أوامر الله عز وجل وخطابه الأمم السابقة

أوامر الله عز وجل وخطابه الأمم السابقة ثم انظر إلى ما يقص علينا القرآن وما يبسطه لنا من شأن الأمم السابقة، وكيف كانت أوامر الله لهم، وكيف كان خطابه للرسل والأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كقوله سبحانه: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] فليس في دين الله هزل ولا لعب، ولا يليق بمسلم تتنزل عليه آيات القرآن التي بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون لاهياً عابثاً غارقاً في شهواته ليس لديه أمانة يحملها ولا مهمة يؤديها ولا رسالة يبلغها ولا دعوة ينشرها ولا إيمان ينافح عنه ولا يقين يستمسك به، فذلك أمر مهم (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) أي: بجد واجتهاد. وذلك بالاجتهاد في حفظ ألفاظه وفهم معانيه والعمل بأوامره ونواهيه، فهذا هو تمام أخذ الكتاب بقوة. وانظر إلى هذه الكلمات: حفظ ألفاظه، وفهم معانيه، والعمل بأوامره. ذلك هو الواجب، وتلك هي الأمانة. قال ابن عطية: العلم به والحفظ له والعمل به والالتزام بلوازمه. فأين نحن من ذلك؟! هل أخذنا الدين بقوة؟! هل حملنا الكتاب بقوة؟! هل أوجدنا في أنفسنا تهيؤاً نفسياً لتحظى آيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأوامر الدين وشرائعه ومهماته وقضاياه بالأولوية في حياتنا والتأثير الأبلغ في نفوسنا وقلوبنا والانشغال الأكبر في عقولنا وأفكارنا؟! ثم انظر كذلك إلى الخطاب الذي كرره الله جل وعلا في غير ما آية في قصة بني إسرائيل، وهم الذين جعلهم الله لنا عبرة نرى مواطن الخلل التي كانوا عليها لنجتنبها، ونرى بعض ما وفق الله عز وجل له المخلصين والصالحين منهم لنكون على أثرهم وعلى أثر الكمال الأعظم الذي جاء به بعد ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم. ألم يخاطب الله جل وعلا بني إسرائيل بقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]؟! وقد خاطب قبل ذلك موسى عليه السلام بقوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} [الأعراف:144] أي: بقوة. وقوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) قال ابن عباس: بجد واجتهاد. وقيل: كثرة درس. وقال ابن زيد: معناه: بتحقيق وتصديق. وقال ابن عطية: بعزم ونشاط وجد. وقال البغوي: بجد واجتهاد ومواظبة. وزاد السعدي: وصبر على أوامر الله.

وجوب الصبر في تحمل الدين

وجوب الصبر في تحمل الدين إنه أمر العمل، وقبله أمر الفهم والعلم، ومعه أمر الاستقامة والمواظبة، ويحدو ذلك كله الصبر والمصابرة والمجاهدة، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]. فلنصبر في حمل دين الله، ولنثبت في المواقف الممحصة، أما أن نختار الذي هو أدنى ونرضى بالركون إلى الأرض والخلود إلى الدنيا فهذا لا ينبغي، قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] فما الذي ترضاه لنفسك؟ وأين أنت من نبيك صلى الله عليه وسلم وأشراف أمتك من علمائها وقوادها وأخيارها ودعاتها وصلحائها؟ فهل نريد أن نكون مع العابثين المغنين الراقصين؟! وهل نريد أن نكون مع اللاعبين المحترفين والمحترقين؟! وهل نريد أن نكون مع السادرين الغافلين النائمين؟! إن أمتنا تذبح كل يوم ألف مرة، وأعراضها تنتهك في كل قطر، وأحوالها تدعو إلى أن تتحرك القلوب وأن تحيا النفوس وأن تستيقظ العقول وأن تتحرك الهمم وأن ترتفع وتشحذ العزائم، فأين أنت من ذلك؟ تأمل أخي المسلم حالنا لو أننا أخذنا ديننا بقوة، ولو أننا حملنا أمانتنا بعزم، ولو أننا تأسينا برسول الله صلى الله عليه وسلم. ألا نعرف ما كان يقوله، بل ما كان يفعله، بل ما تجلى في مواقف سيرته يوم خرج مهاجراً طريداً من مكة، ويوم كسرت رباعيته وسال الدم على وجهه الشريف وهو يقول: (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ويوم ربط حجرين على بطنه من شدة الجوع في يوم الأحزاب؟! أما رأينا كيف مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدائد المعنوية والحسية؟ أما رأينا قوة يقينه وعظمة إيمانه وشدة ثباته وزهده في دنياه وتعلقه بأخراه؟! أما رأينا كيف حمل الصحابة من بعده الأمانة، وكيف استشعروا ثقل المسئولية؟! أما سمعنا في سيرة أبي بكر رضي الله عنه قوله: (كيف ينتقص هذا الدين وأنا حي؟! والله لو منعوني عقال بعير كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم ولو كنت وحدي)؟ أما عرفنا ما كان يقول عمر رضي الله عنه في آخر لحظات حياته: (ليتني أموت كفافاً لا لي ولا علي)؟! فما الذي صنعت يا عمر؟! ألم تكن تهتم وتغتم إذا عثرت بغلة في العراق خشية أن يسألك الله عنها؟! فمن هو المسئول أمام الله عز وجل عن المئات التي تقتل اليوم في العراق؟! ألسنا مسئولين بكثرة أو بقلة؟ ألسنا معنيين بالأمر مباشرة؟! ومع ذلك عمر رضي الله عنه يقول: (ليتني أموت كفافاً لا لي ولا علي). أما سمعنا من التابعين من يقول: (ليتني كنت شجرة تعضد)؟ لأنهم عرفوا ثقل الأمانة وعظمة المسئولية، أما عرفنا ابن تيمية -رحمه الله- وهو الذي فعل ما فعل يوم يقول: ما أنا شيء، ولا مني شيء، ولا بي شيء، وما زلت أجدد إيماني وإسلامي كل يوم! هؤلاء هم الذين قاموا بشرف حمل الرسالة والأمانة، ثم استقلوا أعمالهم ولم يروا أنهم أدوا واجبهم, واليوم تخلى كثير منا عن الأمانة وترك أداء الواجب ثم كلامنا يملأ الدنيا صراخاً وادعاءً وكذباً وزوراً وبهتاناً، نسأل الله عز وجل السلامة.

مثال في أقسام بني إسرائيل في حمل الدين

مثال في أقسام بني إسرائيل في حمل الدين خذ هذا المثل القرآني الذي هو بحد ذاته كافٍ في الموعظة والعبرة، ولا يحتاج إلى مزيد تعليق، ساقه الله لنا من قصص الأمم السابقة قبلنا، ومن حال بني إسرائيل على وجه الخصوص، قال عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:168 - 170] فالقصة كاملة، والصورة واضحة، والتفاوت هو الذي يقع في حال أمتنا اليوم، كما في قوله سبحانه: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف:168]، والناس مراتب في الأخذ بدين الله والاستمساك به والحرص على الفرائض والاستكثار من النوافل والتقصير في جانب آخر. قال سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف:168] أي: الفتن والامتحانات، وقال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] فمنهم من سقط ووقع، ومنهم من امتنع وارتفع، ثم جاءت الصورة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف:169]. قال ابن كثير: من جاء بعدهم لم يكن فيهم صلاح {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف:169]، استبدلوا كتاب الله وشرع الله ودين الله، وأخذوا الدنيا، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وتخلوا عن دينهم وعن أمانتهم وعن كتاب ربهم وعن تكليف ربهم وأوامره ونواهيه، وركنوا إلى دنياهم، وفضلوا هذا على ذاك، وأخذوا واختاروا الذي هو أدنى. ثم ماذا بعد ذلك؟ بين الحق سبحانه وتعالى الأماني والحيل الشيطانية والأوهام النفسية التي يعللون بها أنفسهم: {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] ورحمة الله واسعة، لكن انظر إلى حقيقة العمل: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169]، تدور الدائرة مرة أخرى، ويقدمون غير الدين، ويفضلون الدنيا، ويسيرون مع الأهواء ويتركون دينهم وراءهم ظهرياً، ولذا قال سبحانه: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169] ذلك حالهم، قال سعيد بن جبير: يعملون الذنب ثم يستغفرون الله، وإن عرض لهم ذلك الذنب أخذوه. وقال مجاهد: لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراماً، ويتمنون المغفرة. فخاطبهم الله بقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:169] فأين الميثاق؟ وأين الأمانة؟ وأين القوة؟ وأين الثقل الذي أنزل عليهم؟ {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف:169] وأن يثبتوا عليه وأن ينطقوا به وأن يكونوا معه وأن يجعلوا علائقهم مبتوتة أو موصولة استناداً إليه؟ لكنهم كما قال عز وجل: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] ولم يفعلوا ذلك عن جهل، بل هم عالمون بكتاب الله، عارفون بأحكامه، دارسون لتشريعاته، وهل اليوم العلم في أمة الإسلام منعدم؟ وهل المعرفة بكتاب الله معدومة وتفاسيره بالمئات مطبوعة ومسموعة ومنشورة؟ فهل هناك جهل؟ وهل أحد لا يعرف أن مواجهة الأعداء واجبة وأن نصرة الأولياء لازمة؟ وأن الأمر في الأخذ بدين الله أمانة في عنق كل فرد؟ هل مثل هذا غائب؟! ثم ذكر الوصف للناجين المستثنيين من ذلك كله فقال: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:170] وهي القراءة التي نقرأها، وهذا التشديد كما تقول العلماء: زيادة المبنى دليل على زيادة المعنى. فهم لا يُمسِكُون بالكتاب بل يُمَسِّكُون، أي -كما قال ابن كثير: اعتصموا به واقتدوا بأوامره وتركوا زواجره. ذلك هو الاستمساك القوي في كل حال وفي كل آن، على نفس الإنسان قبل أن يكون على غيره، وتلك هي النجاة وحدها، وبدونها لا نجاة. نسأل الله عز وجل أن يجعل الدين في قلوبنا أعظم شيء، وأوكد هم، وأكبر شغل، وأن يجعلنا مسخرين لنصرة دينه عاملين به، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ إيماننا وديننا. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب الجد في حمل أمانة الدين

وجوب الجد في حمل أمانة الدين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، وإن القوة في الدين أمرها عظيم، وحسبنا في مقامنا هذا أن نصل إلى فائدة واحدة وهدف واحد، هو أن نقرر هذا المعنى، وهو أن الدين عظيم وأن أمانته جسيمة وأن رسالته ثقيلة، وأنه لا يمكن لنا أن ننال شرف حمل الأمانة ونشر الرسالة ونحن نائمون ملء عيوننا آكلون ملء بطوننا غارقون في شهواتنا لاهون بدنيانا منشغلون بأزواجنا وأبنائنا، بل لا بد من أن ننتدب إلى حقيقة القوة في أخذ ديننا، وليس ذلك فيه ترك لدنياك، ولا توقف عن عملك، ولا قطع لكسبك ورزقك، فما ذلك في دين الله عز وجل، ولكنه الهم الذي يستولي على القلب، والفكر الذي يشغل العقل، والعمل الذي يستنفذ الوقت والجهد، والطاقات التي تسخر كلها بنية صادقة خالصة لنشر دين الله, ولو بكلمة تقولها، ولو بموقف تقفه. فما هي هذه القوة التي نريدها؟ إنها قوة اليقين والإيمان، قوة الطاعة والامتثال، قوة الغيرة والدعوة. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! أنطق ألسنتنا بذكرك، واملا قلوبنا بحبك، واستعمل جوارحنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين، واجعل -اللهم- أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدمنا سائرة إلى طاعتك، وجباهنا خاضعة لعظمتك. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم! إنا نسألك أن توفقنا للصالحات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر لنا ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا رب الأرض والسماوات. اللهم! اجعل بلدنا آمناًً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واصرف -اللهم- عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع -اللهم- بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم! إنهم قد انتهكوا الحرمات، واغتصبوا الأراضي، وأذلوا عبادك المؤمنين، ودنسوا مقدسات المسلمين، اللهم! فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين. اقذف -اللهم- الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين. اللهم! استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وفرق كلمتهم، ولا ترفع اللهم لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، ولا تبلغهم غاية. اللهم! ردهم على أعقابهم خاسرين، وسود -اللهم- وجوههم، وأذل أعناقهم، اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، واشف فيهم -اللهم- صدر قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين. اللهم! زد إيمانهم، وعظم يقينهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم! إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جائعون فأطعمهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم. اللهم! أعنهم على أمور دينهم ودنياهم، وردنا وإياهم إلى دينك رداً جميلاً، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. اللهم! صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

المرأة بين الرعاية والجناية [1]

المرأة بين الرعاية والجناية [1] للحجاب أهمية بالغة في حياة المرأة المسلمة، وفي حياة المجتمع بأسره، فهو سد منيع في وجه الفساد، وهو كالحجر يلقم به كل فاسق، وهو دليل على الإيمان الصادق، فرحم الله امرأة أخذت بهذه الشعيرة، فسترت زينتها، وحفظت نفسها.

الحجاب وأهميته في حفظ المرأة والمجتمع

الحجاب وأهميته في حفظ المرأة والمجتمع الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، المنزه عن كل نقص وإخلال، منه المبتدأ وإليه المرجع والمآل، نحمده سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، كثرنا الله به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأرشدنا من بعد غواية، وهدانا من بعد ضلالة. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موضوعنا هو: [المرأة بين الرعاية والجناية]، فنبدي فيه حال وأحكام المرأة بين الرعاية الإلهية والجناية البشرية، وبين رعاية الأحكام الربانية وجناية الأهواء الإنسانية، ذلك أن أمر المرأة في وقتنا هذا كثرت فيه الشبهات، واستعر به أوار الشهوات، وعظمت به فتنة الأهواء والإغواء، وتفاقمت به شبهات الاعتراض والتبديل والتغيير لأحكام وشرائع الإسلام، وقد مر بنا حديث في الصورة الكاملة، والنظرة الشاملة للمرأة في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. واليوم نشرع بذكر بعض التشريعات الإسلامية الخاصة بالمرأة، ونتعرف عليها من مصادرها الأصلية في كتاب الله، وسنة الهادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنقف على دلالاتها من كلام الأئمة الربانيين، والعلماء الفقهاء، لا من أصحاب الصحف وأهل الأهواء، ولا من الأميين الذين لا يعرفون لغة العرب، ثم يرجمون بالغيب، ويقولون في القرآن بغير علم، ثم بعد ذلك نقف مع الحكم والتعليلات التي رمزت إليها الآيات؛ لندرك عظمة التشريعات، ونرى ما فيها من السلامة والوقاية من المنزلقات. فأول وأظهر التشريعات الخاصة بالمرأة: تشريع الحجاب، وهو الأمر الذي يتعرض اليوم لهجوم شديد من قبل أعداء الإسلام، وذلك أمر متوقع وبدهي، ومن قبل بعض أبناء الإسلام، وذلك أمر مؤلم ومحزن، وتشريع الحجاب تنزلت فيه آيات من القرآن تتلى، ووردت فيها أحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم تروى، ونطقت به مسيرة تاريخ الأمة الإسلامية عبر قرون متطاولة في بقاع الإسلام المترامية الأطراف، ومع ذلك كأن الأعين رمداء لا تبصر، وكأن الآذان صماء لا تسمع، وكأن العقول خاوية لا ترشد ولا تدرك.

الحجاب: تعريفه وتشريعه

الحجاب: تعريفه وتشريعه يقول الحق سبحانه وتعالى في آيات الحجاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59]. الحجاب: في لغة العرب معناه: الستر، يقولون في كل ما حال بين شيء وشيء: إنه حجاب. ومن معاني الحجاب أيضاً: المنع، وسمي الحجاب حجاباً لمنعه رؤية ما وراءه، ومنه الحاجب الذي يمنع الناس من الدخول إلا بإذن. فالحجاب أصلاً في لغة العرب: الستر الذي يحول بين شيء وآخر، ويمنع الشيء من البلوغ إلى الشيء، وهذا القرآن العظيم تنزل بلغة العرب كما قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]. وهذه الآية من أظهر الآيات الدالة على تشريع الحجاب، وعمومه على جميع نساء المؤمنين. وهي الآية التي اشتهرت عند أهل العلم عموماً والمفسرين خصوصاً بأنها آية الحجاب، قال القرطبي في تفسيره في بيان معنى الجلابيب: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) قال: والصحيح أنه -أي: الجلباب- الثوب الذي يستر جميع البدن، وقال ابن حزم في المحلى: هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه، وقال ابن كثير في تفسيره: الجلباب: هو الرداء فوق الخمار، ونقل في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، وقال السعدي في تفسيره: أي: يغطين وجوههن وصدورهن. وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) لفت إلى الخطاب الأعظم للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كانت التشريعات توجه بالصيغة المباشرة بالتوجيه والنداء الرباني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ولكنها في آية الحجاب جعلت الأمر بهذا الحكم موكولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ)، فلماذا؟ لأن الله جل وعلا أراد أن يكون مثل هذا الأمر مباشراً وقريباً ومطبقاً ومراعاً؛ لأنه يدخل في صلب الحياة الاجتماعية، وهو وإن كان تشريعاً خاصاً بالمرأة إلا أنه سمة للمجتمع، ولذلك أوكل هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته حاكماً وولياً لأمر المؤمنين، وراعياً لشئونهم، وقائماً على أمور الإسلام والتشريع في حياتهم الاجتماعية، ثم جاء الأمر بالأولى والأعظم؛ ليكون أكثر تأثيراً في القدوة التي أمرنا بها في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ)؛ لتكون القدوة أعظم، وهو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأعظم الأمة التزاماً بشرع الله وحري وبدهي أن يكون إلزامه لأهله ولآل بيته بتشريع الله عز وجل أسبق وأعظم وأظهر. قوله تعالى: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك للتأكيد على هذا العموم، وعلى أن القدوة في هذا تكون للرسول صلى الله عليه وسلم بما يكون في أهله وبيته، وليظهر أيضاً أن أمر الحجاب في نساء المؤمنين دلالة إيمان وتقوى، إذ لما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته -وهن الأسمى والأعلى من نساء المؤمنين- دل ذلك على أن التزام ذلك هو دليل على أنه رتبة أعلى في الأخذ بأمر الله عز وجل، وفي الالتزام بهذا الدين، والاقتداء بالرسول الكريم وأزواجه أمهات المؤمنين. إن هذه الآية واضحة الدلالة، وصريحة الألفاظ، وأهل العلم من المفسرين والفقهاء قد بينوا مثل هذه الدلالة، وجاءت الأحاديث تبين لنا كيف كان الالتزام والعمل بهذه الآية، فروى عبد الرزاق في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان، وعليهن أكسية سود يلبسنها. وذكر السيوطي أن ابن مردويه روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: رحم الله نساء الأنصار! لما نزلت هذه الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رءوسهن الغربان. قولها: (شققن مروطهن) وذلك أنه لم يكن لديهن ألبسة وأكسية كثيرة، فلم يكن هناك لباس للظهيرة ولباس للسهرة كما هو حالنا، لكن لما تنزلت الآيات بالحجاب، وأن يدنين عليهن جلالبيبهن، عمدن إلى المروط فشققنها، واعتجرن بها وأسدلنها؛ امتثالاً لأمر الله، فهكذا تكون المرأة المؤمنة سريعة الاستجابة، وترى ذلك تحقيقاً لإيمانها، وتأكيداً لإسلامها، وإظهاراً لفضيلتها، وإعلاناً لعفتها، وبياناً لشرفها ورفعتها، ولا تراه -كما يرجف به المرجفون- تقييداً لحريتها، وغمطاً لشخصيتها، وكبتاً لحركتها وحريتها. علينا أن نمتثل لهذا الأمر لأننا قوم نرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله، ولا نلتفت لمن يخالف قوله قولهما، مهما كان ذكره أو عظمته؛ لأن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل أحد. ويقول الله جل وعلا في آية أخرى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، والآية في سياق خطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء بعض الجهلة وأهل الأهواء: إما عن غفلة وعدم علم وبصيرة، وإما عن مكر وخبث وكيد، فقالوا: إنما جاء تشريع الحجاب خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لمكانتهن وشرفهن دون بقية وسائر نساء المسلمين! وقبل أن نطيل القول في هذا فقد مرت بنا الآية من قبل: (قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ)، فهل بعد هذا أمر أوضح في العموم والشمول؟!

كلام أهل العلم على الحجاب

كلام أهل العلم على الحجاب انظر إلى ما يقوله العلماء لا الجهلاء: فقد نقل الشنقيطي في تفسيره كلاماً نفيساً في بيان شمول معنى هذه الآية لجميع النساء المؤمنات المسلمات، فقال رحمه الله: وجوب الحجاب حكم عام على جميع النساء، لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان اللفظ خاصاً بهن؛ لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه)، فالله جل وعلا قد ذكر في هذه الآية العلة فقال: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ). إذن فالعلة التي أمر من أجلها بالحجاب وأن يسألن من ورائه هي طلب طهارة قلوب الرجال؛ لئلا يكون فيها فتنة وإغواء في أمر النساء، وطهارة قلوب النساء؛ لئلا يكون فيها ميل أو شهوة في أمر الرجال، فهل هذا خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل هذا لا يوجد إلا في أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أم أن هذه العلة موجودة في كل النساء وفي كل الرجال؟! A أنها كذلك، فالحكم كذلك. ومن كلام أهل العلم: أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ومع ذلك وضح الشنقيطي قوله، فقال في تتمة كلامه: وضابط ذلك: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيباً، فهذه العلة مربوطة بالحكم، فلو لم نلتفت للعلة فكأننا لم نلتفت لذلك الحكم، وإذا كان حكم هذه الآية عاماً بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء. وقال الطبري في تفسيره: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي: من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن. وقال بعض أهل العلم كلاماً نفيساً: إن كان هذا الأمر مخصوصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أنهن أعظم نساء الأمة إيماناً، وأتقاهن قلباً، وأزكاهن نفساً، وأعفهن مسلكاً، فإذا أمرن -وهن على هذا الوصف- بهذا، فكيف بمن دونهن من النساء، ولسن على مرتبتهن في الإيمان والتقى والحياء والعفة؟! أفلا يكون ذلك الأمر أوجب؟! وهذا ما يعرف عند العلماء بالقياس الجلي، وقياس الأولى، فإن كنا نطلب من العفيف الشريف أن يلتزم بهذا الأدب والتشريع فمن باب أولى من دونه، فإن كان الخطاب موجهاً إلى الثلة المباركة والصفوة المختارة من المؤمنين المتقين من مدرسة النبوة التي كان فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضوان الله عليهم، فإن خوطب أولئك لئلا تتعكر طهارة قلوبهم، فكيف بالذين تلم بقلوبهم الأهواء، وتمتلئ نفوسهم بالشهوات، ولا تجول خواطرهم إلا حول المحرمات، أفلا يمنعون من ذلك؟! بلى والله! إن العاقل يدرك هذا ويبصره، إلا أن الأهواء الخبيثة، والمكر الذي يراد به إفساد المرأة المسلمة ومن ورائها مجتمع المسلمين يدعي -عن غباء وجهل أو عن خبث ومكر- أن هذا تشريع خاص بأزواج محمد صلى الله عليه وسلم، وليس عاماً لنساء المسلمين. ويأتينا أيضاً قول الحق جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:32 - 33]، والخطاب مرة أخرى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، والقول فيه ما قلناه من قبل، إلا أن هذه الآية أشمل، وتبين لنا قضية مهمة وهي: إظهار تلك العلل العظيمة، والحكم الجليلة التي لأجلها فرضت هذه التشريعات، لتبقى القلوب سليمة، ولتظل النفوس طاهرة، ولينصرف الناس إلى جوانب العمل في التقوى والعبادة، وميادين العمل في الحياة، بعيداً عن هذه الشهوات التي عندما سلطت على المجتمعات المسلمة وغير المسلمة رأينا الانصراف عن التقوى والعبادة والتدين، ورأينا الانحراف عن العمل والعمران وأسباب الحياة الدنيوية. هذه الآية قال ابن كثير في أول تفسيرها: هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، وهذا من القياس الجلي الذي قال فيه العلماء: ما علم فيه إلغاء الفارق، أي: بين هذه التي وردت فيها نصوص الآيات وغيرها مما لا فرق بينه وبينها. وقال القرطبي: التبرج: التكشف والظهور للعيون، وقال في تفسير هذه الآية في سورة الأحزاب: وحقيقته إظهار ما ستره أحسن. وقال ابن كثير في التبرج: إنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها. وإذا نظرنا إلى مثل هذه المعاني مع النظر إلى الآية التي ذكرناها سابقاً في ذكر الجلباب أدركنا أن الحجاب يقتضي ستر المرأة في لباسها، ويقتضي إدناء الجلباب، وهو: الستر لما تلبسه من لباس محتشم ساتر، وهذا يدلنا عليه ما ذكره أهل العلم من الصور العملية المأثورة المنقولة فيما جاء في وصف حال المجتمع المسلم في عهد النبوة، وفي عهود وعصور كثيرة مختلفة. والآيات كثيرة، ومنها قوله جل وعلا: {وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60]، وهذه الآية وإن كانت دلالتها على أمر الحجاب بالاستنباط وببيان المعنى إلا أنها قوية فيه، فالآية واضحة في أن المقصود بها: القواعد من النساء، والتعليل جاء في نص القرآن دون حاجة إلى اجتهاد بشري في بيان المعنى، وقوله تعالى: (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا) أي: اللائي قد بلغن من السن مبلغاً كبيراً لا يتعلق بهن أحد لأجل النكاح والمتعة والشهوة، فهؤلاء النساء يجوز لهن أن يضعن ثيابهن، أي: يتخففن، فلا يكون لهن ذلك الحجاب الكامل الذي يرتبط بمن يتعلق بها القلب لنكاحها من سائر النساء في كل الأعمار، ومع ذلك قال: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ)، فإن بعض العجائز ربما تتشبب، وربما تكون عجوزاً كما نرى في أيامنا هذه فتعمل العمليات الجراحية والتجميلية حتى تبدو للناس وكأنها صبية في الثلاثين من العمر فلو كانت من هذا الصنف فلها التخفف بشرط عدم التبرج وإظهار الزينة. فلا تجد عاقلاً -بعد وضوح مثل هذه الآية- لا يدرك أن الحجاب والستر والتعفف وعدم إبداء الزينة وإظهارها لغير المحارم، أمر مشروع، فقد دلت عليه الآيات نصاً، ودلت عليه الآيات أمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وبناته، ودلت عليه الآيات حكمة وتعليلاً، ودلت عليه الآيات تخصيصاً ببعض النساء دون بعض، مما يدل على وضوح وشمول هذا التشريع. ومع ذلك كله فإننا نقرأ اليوم، ونسمع ونرى في المقابلات الصحفية والفضائية كلاماً لبعضهن وكأنهن لا يعرفن قرآناً يتلى، ولا سنة تروى، ولا إسلاماً يشرع ويحكم، وكأن أهواء نفوسهن، وآراء عقولهن مقدمة على كل ذلك، فتلك تقول لك: أرى كذا وكذا، وتلك تقول لك: ليس هناك ما يدل على أن الحجاب واجب، وذلك يقول لك: هذا خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم! وحسبنا في هذا كتاب الله، وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولو قال أولئك ما قالوا، فلن تصغي لهم أذن مؤمنة، ولن تلتفت إليهم امرأة مسلمة، وذلك مما يغيض قلوبهم، وذلك مما يطيش عقولهم، فنرى منهم ونسمع ما لا يكاد يقبله عاقل، وهو دليل على نزق وعلى حمق، نسأل الله عز وجل أن يصرفه عنهم، وأن يهدينا وإياهم سواء السبيل، وأن يلزمنا شرعه القويم ودينه العظيم وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحكمة من تشريع الحجاب

الحكمة من تشريع الحجاب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى أخذ أسباب العفة والستر والحجاب حتى لا تفتن القلوب، ولا تنصرف النفوس إلى الشهوات، وحتى نسلم من غوائل الفتن والإغراء والإغواء الذي نزع به الحياء، واغتيلت به العفة، وظهر به ما صار -والعياذ بالله- يرى في البيوت رأي العين ويسمع من خلال هذه القنوات والفضائيات التي أصبحت تمثل قمة -في أكثرها- في الفسق والفجور والدعوة إلى الخنا والزنا، فإنه يؤتى بالمرأة لا يكاد يستر جسمها شيء، ثم تتلوى وتترقص وتتغنى، ثم تأتي بالقول الذي فيه تأنث وتكسر وإغراء وإغواء، ثم يقال لك بعد ذلك: إن هذا فن وثقافة، وتنمية للذوق، وإسهام في رفع مستوى الأمة! ولست أفيض في هذا، فكلنا -سواء من كان ملتزماً بدينه، ومن كان غير ملتزم بدينه- يعلم أن كل ذلك من الحرام، وأنه لا يقصد به إلا الإغواء والإغراء والإلهاء والإبعاد عن دين الله عز وجل، ونزع السمة المحافظة عن المجتمع. ووقفتي الأخيرة مع بعض علل القرآن التي جاءت في هذه الآية: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ)، فعلة الحجاب صيانة المرأة، ومنع الأذى عنها، وحفظها من أعين الذئاب البشرية، وصون أذنها من الكلمات البذيئة الفاحشة، وصون حيائها وعفتها من الاعتداء والاغتصاب وغير ذلك. فهل ترون هذه العلل واقعة في دنيا الناس اليوم؟ كلكم يدرك ويسمع ويعلم ما تلقاه كل امرأة متبرجة، مما يلهب جسمها من نظرات تكاد تلتهمها، ثم ما يخدش حياءها إن كان باقياً في نفسها، ومما يحزن نفسها -إن كان فيها بقية خير- من الأقوال البذيئة، والكلمات التي فيها المعاكسات والإغواء، ثم بعد ذلك قد تجد يداً تمتد لتلمسها أو لتخطفها، ولسنا نحن الذين نقول هذا، بل يقوله الذين عاشوا حياة الحرية المزعومة في الغرب، حتى لم يجدوا بداً من أن تكون لديهم عشرات الجمعيات التي تتخصص في الدفاع عن النساء، أو منع الاغتصاب أو غير ذلك، وبيئات العمل تشهد نسباً عالية تصل إلى نحو من (80%) من النساء العاملات يتعرضن لما يعرف بالتحرش الجنسي لفظياً أو عملياً، حتى أننا نسمع عن كبار القوم من الرؤساء والزعماء وما يحكى من فضائحهم الجنسية، وانحطاطاتهم الأخلاقية التي لا تليق بسفلة الناس فضلاً عن شرفائهم في قومهم، ثم بعد ذلك يأتينا قوله جل وعلا: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيقول: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء). فهل كان محمد صلى الله عليه وسلم مبالغاً؟! وهل كان عليه الصلاة والسلام -معاذ الله- متشدداً كما يقولون؟! وهل كان فكره -كما يدعي المرجفون- منحصراً في الجنس فقط، ولا يرى من المرأة إلا ذلك والعياذ بالله؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، فإنك إذا قلت ذلك الكلام السابق قالوا لك: إنك غير متحضر، ولا تنظر إلى المرأة إلا في الجنس، ولا تحاول أن تستمع إلى علمها وأدبها، وتنظر إلى عقلها وفكرها، فيقال لهم: كل الذي تخاطبوننا به خاطبوا به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إن كنتم صادقين، الصادق المصدوق المعصوم الذي لا {يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فهو الذي قال لنا وأخبرنا بذلك، وهو الذي صدق بذلك قول الحق جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. أخبرونا عن رجل يخلو بامرأة ثم يدعي أنه يفكر في علمها، ورجاحة عقلها، وحسن تفكيرها ونحو ذلك، إنه أحد رجلين إما رجل ليست فيه رجولة ولا فحولة، وإما رجل خبيث ماكر يدعي ذلك ويبطن غيره؛ لأن الله خلق الإنسان: رجلاً وامرأة منجذباً بعضهما إلى الآخر، والشهوة نداؤها طبيعي غريزي، فإذا وجد الإنسان الطعام وهو جائع، فهل تراه يفكر في قيمته الغذائية؟! وهل يفكر في معان أخرى أم أنه سيفكر في التهامه وسد جوعة بطنه؟! وكذلكم ذلك كذلك. وهذه العلل التي جاءت بها الآيات القرآنية إنما كشفت لنا عن المساوئ والمخاطر والمشكلات التي تنشأ عن عدم الالتزام بهذه التشريعات، وانظر إلى قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فما الذي يسمعه الناس اليوم من الغناء الماجن؟! وأي شيء يفعل بقلوبهم عموماً وبقلوب الشباب والفتيات خصوصاً؟! آهات الغرام، وكلمات الحب التي تنطق بها امرأة لعوب، بألفاظ تذوب ميوعة، فهل يشك أحد أن لها فتكاً في القلب والنفس، وأثراً وخيماً في التعلق بالشهوة والانصراف عن الخير والتقى والطهارة والعفاف؟! وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر تلك هي الحقائق، وقد عبر عنها أصحاب العقول، وأصحاب المعرفة الحقة بمآلات الأمور: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء، وذلك الذي نراه، والذي تؤكده الوقائع في بلاد المسلمين، وفي غير بلاد المسلمين. فالله الله! في صون المرأة المسلمة وعفافها، وسلامة المجتمع المسلم من أن تستبد به الأهواء، وأن تستعر فيه نيران الشهوات، وأن يعظم فيه الابتلاء بمثل هذه الملهيات والمغريات. نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يحفظ على نسائنا عفتهن وحيائهن، ونسأل الله أن يجمل نساء المسلمين بالستر والحشمة والحياء والعفة، وأن يحفظ قلوبنا وقلوب نسائنا من الشهوات المحرمة، والإغراءات الآثمة. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، نسألك اللهم أن تعصمنا بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم رد عنا كيد الكائدين، وادفع عنا شرور المفسدين. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وطهر قلوبنا، وأخلص نياتنا، وأحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وارفع مراتبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، يا رب العالمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، خذ اللهم بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل شر وضر وأذىً يا رب العالمين! اللهم احفظ عليها أمنها وأمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها واستقرارها. اللهم رد عنا كيد الكائدين وادفع عنا شرور المعتدين، وسلم ديار المسلمين، واحقن دماءهم، واحفظ أعراضهم وأموالهم، يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم رد كيدهم في نحورهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وأنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل، يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان، يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين! ووفق اللهم ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

المرأة بين الرعاية والجناية [2]

المرأة بين الرعاية والجناية [2] لقد اهتم الشرع الحنيف بالمرأة، فرفعها وكرمها، وجعلها في المكان الذي يناسبها خلقة وفطرة وقوة، فلم يحمّلها ما لا طاقة لها به، ولم يضعها في المكان الذي يجلب لها شراً وفتنة، ولا في الموضع الذي تمتهن فيه، وقد حث الشارع على حسن تربيتها إن كانت بنتاً صغيرة، ورتب على ذلك الأجور الكثيرة، وحث على الإحسان إليها إن كانت زوجة، وحث على طاعتها وبرها إن كانت أماً، وجعل لها ثلاثة أرباع البر، وأمر بالصبر عليها إذا صارت عجوزاً، فنهى عن التأفف والتبرم منها، فما أسعدها من حياة للمرأة في ظل الإسلام.

رعاية الشرع للمرأة واهتمامه بها

رعاية الشرع للمرأة واهتمامه بها الحمد لله الذي أمر الخلق بعبادته، واتباع شريعته، ووعدهم برضوانه وجنته، له الحمد سبحانه وتعالى جعل الأمن أماناً بلا خوف، والإسلام سلامة بلا جناية، شرع لنا الدين، وأوصانا بالاستمساك به، فله الحمد جل وعلا حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، حمداً على آلائه ونعمه التي لا تعد وتحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، بصرنا الله عز وجل به من بعد ضلالة، وهدانا من بعد غواية، وكثرنا من بعد قلة. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! [المرأة بين الرعاية والجناية] موضوع نتمم به حديثاً قد سلف، ونؤصل به ما سبق، ونتوسع فيه بما يكشف لنا حقائق إسلامنا، وعظمة ديننا، وبما يبين لنا من جهة أخرى مدى تفريطنا، ومدى مخالفتنا، وفي الوقت نفسه يكشف لنا هذا الحديث عن أسباب المشكلات الاجتماعية لعصرنا هذا. فنحن اليوم نرى تجاذباً وتنازعاً بين الرجل والمرأة في النظرة والفكرة والمقالة، ونرى بعضاً من النفرة والخصومة والنزاع في واقع المعايشة والمعاشرة والحياة اليومية، ونرى تزايداً في نسب الطلاق، ونرى كذلك تزايداً في نسب العنوسة، وكثيرة هي الأمور التي تطرح وتناقش، غير أنها في كثير من الأحوال لا يرجع بها إلى أصولها الكاملة العظيمة في شرع الله عز وجل، حتى نعرف من هذه الأصول ما نقوم به أخطاء سلوكياتنا، وما ننفي به الصور السلبية التي تلصق بديننا، ومن جهة أخرى: لنتيقن بأعظم يقين وأوثقه وأثبته أنه ليس للمرأة ولا للرجل ولا للمجتمع ولا للحياة الإنسانية كلها من سعادة وهناء إلا في ظلال الإيمان، وعلى قاعدة تشريع الإسلام. إن حضارة الغرب، وأفكار الشرق، ومدنية العصر، وتقنيات التنكولوجيا لا تغني شيئاً ما لم توجد تلك القاعدة الإيمانية، والتشريعات الإسلامية، وذلك يثبته واقع الأمر، وتثبته حقائق التجارب قبل أن ننطق به مستشهدين بآيات القرآن، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. الفصل الأول من حديثنا هو: النظرة إلى المرأة: ما هي شخصيتها، ودورها، ووظيفتها؟ فننظر إلى ذلك في رعاية الإسلام وإكرامه وإجلاله وحسن تكامل تشريعاته في الأدوار بين الرجل والمرأة.

رعاية المساواة

رعاية المساواة المساواة صارت كلمة تصم آذاننا كل يوم صباح مساء، لكنها لا تذكر إلّا ومعها معركة، إلّا ومعها استلاب حقوق، وتجاذب أدوار، ونحن نراها أصلاً ثابتاً، ومنهجاً متكاملاً في دين الله عز وجل، فرعاية المساواة جاء بها الإسلام في جانبها التماثلي على أكمل وأتم الوجوه. فهناك مساواة بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة كما ذكر الله عز وجل، ونذكره دائماً في مقدمة كل خطبة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1]. قال ابن عطية في تفسيره: (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: من جنسها. وقال السعدي في تفسيره: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أي: ليناسبها، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور، وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة، وأنه بثهم في أقطار الأرض مع رجوعهم إلى أصل واحد؛ ليعطف بعضهم على بعض، وليرق بعضهم لبعض. وفيها -أي: في الآية- دلالة على أنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك يجب القيام بحق الخلق والأقرب فالأقرب ممن تربطنا به صلة الرحم. فهذه آية عظيمة في أصل مساواة الخلقة، فالكل من نفس واحدة، والمراد هنا: أن الله جل وعلا خلق حواء من آدم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (إن المرأة خلقت من ضلع آدم) قال بعض أهل العلم: أي: أن أصل خلقة آدم من تراب، وأصل خلقة حواء -من حيث الجسد- من ضلع آدم، وأما من حيث النفس والروح فهما أصل واحد، فلا خالق للروح إلا الله عز وجل، وهو الذي جعل هذه الروح بعد ذلك في ذرية آدم وحواء بقدره وقدرته سبحانه وتعالى، فليس ثمة فرق بين روح رجل وامرأة من حيث الحياة، ومن حيث أصل الخلقة. وذلك ما شهدت به الآيات، وبينته الأحاديث النبوية، فالله جل وعلا يقول: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:45 - 46]، وذلك فيما تناسل به البشر من بعد آدم وحواء وذريتهما إلى قيام الساعة. وهناك أيضاً مساواة في غاية الخلق، فإذا كانت هناك مساواة في أصل الخلق بين الرجل والمرأة، فأظهر منها وأجل المساواة في غاية الخلق: لِمَ خلق الرجل؟ ولِمَ خلقت المرأة؟ فليس هناك للرجل غاية أشرف ولا أعظم ولا مخالفة لغاية المرأة، قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فما خلق الجنس البشري ذكوراً وإناثاً إلّا لتحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، فالغاية من الحياة هي الابتلاء والامتحان والتمحيص؛ ليظهر الأعظم والأجل في عبادة ربه، وإحسان عمله، وإخلاصه لمولاه سبحانه وتعالى، رجلاً كان ذلك أو امرأة. وكذلك خلافة الأرض وعمارتها هي مسئولية وغاية مشتركة بين الرجل والمرأة، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، والمقصود بذلك آدم عليه السلام، لكنه يشمل ما هو أعم من ذلك وهم ذريته رجالاً ونساءً، فهم الذين يقومون بعمارة الأرض وذلك بإقامة شرع الله، وتحقيق مراده من خلقهم في هذه الحياة الدنيا، كما تظهره هذه الآيات العظيمة، وكما تبينه الآيات الأخرى الكثيرة في هذا الشأن، وكما في قوله جل وعلا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] والخطاب يعم البشر جميعاً رجالاً ونساء. فنحن في مبدأ الإسلام ومنهجه لا نعرف للمرأة دوراً يستثنيها من أن تكون عابدة لله عز وجل، وقائمة بعمارة الأرض، ومنتفعة بما ذلله الله عز وجل وسخره من الأسباب مع شريكها الرجل لقيام العمران، ولإقامة الحياة الدنيا على أساس من القيم، وعلى ارتباط بالمبادئ والفضائل التي تكسب الحياة حينئذ جمالين وكمالين: في الناحية المادية الدنيوية الحضارية المدنية، وفي الناحية الإيمانية العقدية المبدئية المعنوية؛ فيحصل حينئذ كمال هذه الحياة في جانب الروح والقلب والفكر، وفي جانب البدن والشهوة واللذة المباحة بإذنه سبحانه وتعالى. ومن أصول المساواة أيضاً تكريم الخلق، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]، والتكريم هنا يشمل جنس بني آدم ذكوراً وإناثاً، ثم إن الله جل وعلا أظهر ذلك وبينه في أن النفس البشرية -وخاصة المؤمنة- معظمة محترمة، ولذا جاء الإسلام بأعظم تشريع في الحفاظ على الحياة الإنسانية، وعلى رعاية حقوق الإنسان ونفسه المعصومة في أصل الخلقة ابتداءً، إلا أن يجنح إلى المخالفة بترك الإيمان ومعارضة أهله وحربهم، فالله جل وعلا يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، وخص الله جل وعلا النظر إلى الأنثى نظرة دونية بمزيد من العناية والرعاية؛ لمنع ما تميل به الفطر المنحرفة، وما تمليه الوقائع الجاهلية في شأن المرأة، فقال سبحانه وتعالى في وصف يشتمل على معنى الذم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59]. وينكر الله جل وعلا ذلك ويذمه ويحرمه ويمنعه؛ ليبقي أصل كرامة الخلقة والفطرة والإنسانية فيما جعله الله عز وجل لها بصفة عامة، وما جعلها لها في مراتب أعلى وأسمى بسمت الإيمان والإسلام الذي تأخذ وتتفق به مع أصل الخلقة في الفطرة السوية. ومساواة أخرى كذلك في المسئولية والتكليف، فليست المرأة دون الرجل في ذلك، قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] وهذه الآية عظيمة، وهي تبين أن المسئولية في التكليف، وأن العمل والقيام بالواجبات والفرائض، أمر يستوي فيه الرجال والنساء معاً، وأن الحساب ثواباً وعقاباً يترتب على عمل الرجل والمرأة على حد سواء، فليس للرجل تكليف خاص به إلا ما سيأتي من تخصيص يتناسب معه، لكنه ليس له تكليف لكونه رجلاً مكرماً، أو مرفوع القدر عن المرأة، وليس العكس كذلك. وهذه مسألة مهمة أوجز النبي صلى الله عليه وسلم -فيما أوتيه من جوامع الكلم- تصويرها في قوله: (النساء شقائق الرجال) فالأمر بينهم شقان معتدلان، وكفتان متساويتان فيما سبق من أصل الخلقة والغاية من الخلق وفي أصل المسئولية والتكليف، فكل مطالب بالإيمان، وأداء الفرائض، والقيام بالواجبات، وذلك بحسبه، والله سبحانه وتعالى قد ذكر في سياق آيات كثيرة الرجال والنساء فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر ما ذكر الله عز وجل من أوصاف وعبادات ذكر فيها الذكور والإناث، ثم ختم الآية بأنه أعد لهم الأجر العظيم على ذلك كله، وقد ورد في سبب نزولها أن بعض النساء كـ أم سلمة رضي الله عنها جاءت تسأل وتقول: (يا رسول الله! ما بال الله جل وعلا يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟)! فنزلت هذه الآية، وإن كان معلوماً في لغة العرب أن الخطاب قد يأتي بصيغة المذكر ويكون للتغليب، وهو يعم الذكر والمرأة معاً، وشاهد ذلك قوله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] فذكر هنا الذكر والأنثى، ثم قال من بعد: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} [آل عمران:195]، وذكر صيغة المذكر بعد أن ذكر المؤنت والمذكر معاً، مما يدل على أن صيغة التذكير تعود عليهما معاً. وأصل آخر في المساواة أيضاً وهو المتعلق بالحدود والعقوبات، وهذا يدل على المساواة في التكليف، قال الله جل وعلا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ} [المائدة:38]، فتظهر هنا في أمر الإخلال بالواجبات وارتكاب المحرمات المسئولية والتكليف على قدم المساواة. وكذلكم فيما يتعلق بالشأن المالي قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21]، فتلك أصول عامة في المساواة.

رعاية المراعاة

رعاية المراعاة ننتقل إلى رعاية أخرى وهي: رعاية المراعاة، ولابد لنا أولاً أن ننتبه إلى أنه إذا كان هناك اختلاف بين صنفين أو نوعين، فإن التسوية بينهما تسوية كاملة يعد ظلماً، ويعد إخلالاً واختلالاً لا يمكن أن تقوم به الأمور على وجه يحسن به الانتظام في الحياة، وخذوا مثالاً على ذلك قبل أن نشرع في مقصودنا: إن كان ثمة رجل قوي في بنيته وعضلاته، وآخر ضعيف متهالك لا يكاد يستقيم في مشيته، فهل يكون من المساواة العادلة أن نقول لهذا وذاك: احملا حملاً واحداً ثقيلاً في وزنه؟! هل نقول لهما: خذا هذا الحمل الذي وزنه خمسين كيلو جرام واحملاه؟! فإذا قال الضعيف: لا أستطيع، نقول له: كلا، هذا من باب المساواة، فأنت رجل وهو رجل، وأنت ذكر وهو ذكر، فلابد أن تكون المساواة في كل شيء، فتحمل مثلما يحمل، سيقول: كلا، إن بيني وبينه اختلافاً: فأنا أضعف منه، ولا أقوى على مثل ذلك، والعاقل حينئذ يقول: احمل أنت كذا، واحمل أنت دونه، فهل يعد ذلك ظلماً أو إخلالاً؟ كلا، فإن مراعاة الاختلاف هي المساواة التكاملية، وهي التي تحصل بها الفوائد والمنافع العظيمة. ونحن جميعاً نعلم أن الله عز وجل خلق الذكر مختلفاً عن الأنثى من حيث الخلقة الفطرية والظاهرية، فالمرأة مهيأة للحمل والولادة والإرضاع، والرجل على غير ذلك، والمساواة المطلقة تعني: أن نغمض العين عن هذا الاختلاف، وإذا أغمضت العين عن ذلك فهل سنغير في الواقع شيئاً؟ وهل سيأتينا يوم يمكن للرجل أن يقوم بالدور الذي نريده في المساواة، فنقول له: احمل وضع وأنجب ثم أرضع؟! وقد ترون ذلك مضحكاً ولكنه يلزم الغلاة في هذه المساواة، فقد جاءوا بعجب عجيب، حتى إنهم قالوا: إنه بالإمكان أن يكون ذلك مع تطور العلم. وما يزعمونه وما يقولونه إنما هو ألفاظ ليس لها أثر عملي. أما ديننا العظيم الذي هو من عند الله عز وجل القائل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فليس الفرق في الخلقة الظاهرية فقط، بل وفي الخلقة الباطنية، فعاطفة المرأة أرق من عاطفة الرجل، وشدة الرجل أقوى من شدة المرأة, وتركيز المرأة في تفكيرها على جوانب معينة يكون أكثر دقة في ملاحظة خفاياها، وتفكير الرجل أعم وأشمل، فلا ينظر إلى الدقائق، لكنه أقدر على معرفة بعض الأمور من المرأة. والأم تعرف أن عند ابنها مشكلة، أو أن عنده شيء قد أحزنه أو نحو ذلك من أقل القليل في تغير وجهه، أو كلمات لسانه، أو حتى طريقة نومه، وأما الرجل فلا يلحظ من ذلك شيئاً، بل ربما يأتيه الابن فيلمح له، أو قد يصرح له، وهو لا ينتبه لشيء؛ لأن دقائق الأمور ليست في طبيعة تفكيره في بعض الجوانب العاطفية والنفسية. وقال سبحانه وتعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: جعل الهداية مناسبة لأصل الخلقة، أي: هدى ووفق وفطر وجعل المسار في الحياة الدنيا يتناسب مع طبيعة الخلقة في هذا الكون. ولو نظرنا بعيداً عن الإنسان لرأينا ذلك في التكامل الفطري البشري الإنساني، أليس الإنسان يتنفس: فيأخذ الأكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون، والنبات على عكسه: يأخذ الكربون ويخرج الأكسجين؛ لتكتمل منظومة الحياة؟ فإذا قلنا بالمساواة، وطلبنا أن يكون النبات كالإنسان فسيموت الاثنان وتنعدم الحياة، فهذا المثل الذي أقوله ينطبق تماماً على الذين يريدون المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فإنهم يجنون بذلك جناية عظيمة على كلا الطرفين: رجلاً أو امرأة، ويجنون جناية كبيرة على الحياة الإنسانية والبشرية في هذه الدنيا قطعاً وجزماً، ونرى ذلك فيما تعلمونه من أحوال الذين ساروا شوطاً بعيداً في مثل هذه الجوانب، فلم تعد المرأة امرأة، ولم يعد الرجل رجلاً، وظهر الشذوذ، وخرجت علينا البدع العجيبة الغريبة التي لا يستطيع بعض الناس أن يصدقها بعقله، حتى إننا رأينا أموراً منكرة وشذوذاً تعف عنه الحيوانات والبهائم -أعزكم الله-، وكان حالهم كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ميسر لما خلق له)، ويدخل في عموم هذا القول البليغ منه عليه الصلاة والسلام: أن المرأة ميسرة لما خلقت له وفطرت عليه، والرجل كذلك، ولو بدلنا الأدوار لم تكن المرأة رجلاً، ولم يكن الرجل امرأة، ولم يعد عندنا لا هذا ولا ذاك، وصار عندنا أنماط وأنواع غريبة، فنحن نرى اليوم امرأة مسترجلة، ونرى رجلاً متأنثاً، فلم نعد نستطيع أن نعتمد على هذا الرجل إذا تأنث، ولا أن نركن ونسكن إلى تلك المرأة إذا استرجلت، فحينئذ تنقلب الحياة إلى شقاء وجحيم؛ لأنها خرجت عن أصل خلقة الله عز وجل، وصدق الله القائل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، وذلك كثيراً ما يظهر لنا. يقول ابن عاشور رحمه الله في شأن هذه الموافقة والمواءمة والمراعاة بحسب ما يكون عليه اختلاف الخلقة: وملاك الأحكام التي ثبت فيها التفرقة بين الرجال والنساء هو الرجوع إلى حكم الفطرة، فإذا كان بين الصنفين فوارق جبلية من شأنها أن تؤثر تفرقة في اكتساب الأعمال أو إتقانها فإنها تؤثر تفرقة في أسباب الخطاب بالأحكام الشرعية بحسب غالب أحوال الصنف، أليست المرأة في طبيعتها رقة وضعفَ بدنٍ لا تتساوى مع الرجل؟ فجعل تكليف الجهاد، وواجب النفقة والكدح والعمل على الرجل؛ مناسبةً لخلقته وفطرته، وأما المرأة فليست مكلفة بالجهاد وجوباً، وإن أسهمت فيه كان لها فيه دور، وأيضاً ليست مسئولة عن النفقة، وإن أسهمت فيها كان لها ذلك وفي إطار معين لا يفسد طبيعة هذا التكامل في خلقة الحياة البشرية بين الرجال والنساء، ومن أخل بذلك جاءه ما لا تحمد عقباه. وتنوع الوظيفة ليس فيه معنى الدونية أو الأفضلية، فليس الرجل -لكونه مكلفاً بالعمل- أفضل من المرأة؛ لأنها من جهة أخرى مكلفة بإنتاج وإنجاب البشر، ورعايتهم وتربيتهم، فإذا فضلناه لذلك فضلناها لهذا، والله عز وجل يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، وهي درجة القوامة، وقد ذكر ابن جرير عن ابن عباس ورجحه أنه قال: إن هذه الدرجة أن الرجل مطالب بأن يغض الطرف عن أخطاء الزوجة، ويحتمل منها من الهفوة والنسيان ما لا يجب أن تحتمله منه على قدم المساواة، فالمطلوب حينئذ أن يكون هو أوسع صدراً، وأكبر عقلاً، وأكثر احتمالاً لما قد تقصر فيه الزوجة أو تغفل عنه، وهي لن تكون كذلك بحكم طبيعتها، ولذلك لم تجعل هذه الدرجة درجة تفضيل لاستعراض العضلات، أو لذكر المناقب والمزايا، بل جُعلت لتحمل المسئولية، والقيام بواجب الرعاية.

رعاية التجانس

رعاية التجانس إنّ رعاية التجانس تكمل ما سبق، ويتضح ذلك من خلال معرفة العلاقة بين الرجل والمرأة، إنها اليوم حقوق وواجبات، وقد صدعت رءوسنا ونحن نستمع إلى هذه الكلمات، فنسمع اليوم أن المرأة أخذت حقوقها، أو وصلت إلى كذا، أو ما زالت تحارب، فجعلنا الحياة كلها ميدان صراع وحرب بين رجل وامرأة، وما معنى ذلك؟! لقد صارت الحياة كلها صراع؛ لأنه ليس فيها إلّا رجال ونساء، ذكور وإناث، إذاً أوجدنا ما يشق هذه الحياة، ويمنع التئامها، ويحول دون تجانسها، ويقف دون تكاملها، ويمنع من أن تكون صورة متكاملة شقها الأول يكتمل مع الثاني ويتجانس معه، لتبدو الحياة كما أرادها الله عز وجل، وكما اقتضتها تشريعاته: حياة متوائمة ومتلائمة ومتجانسة ومتكاملة، ليس فيها شذوذ ولا تباعد ولا تناقض ولا تحارب ولا اختصام، كما صورتها لنا الحضارة الحديثة، وأدخلتها علينا الأفكار الدخيلة، فقد صرنا اليوم نتحدث عن قضية المرأة وللأسف من منطلق المدافع، وكأن تلك القضايا قد أصبحت مقررة ومثبتة في الأذهان، بل وقد مالت إليها نفوس كثيرة من الرجال أكثر من النساء، حتى صار تقرير أصل الخلقة وأصل الدين أمراً يحتاج إلى جهد ومشقة وإثبات وتدليل وبيان وبرهان، وهذه مسألة مهمة أوجبت علينا مثل هذا الحديث. انظروا إلى الصورة النموذجية المشرقة الوضيئة الفياضة بالحب والود والحنان، الراسمة لأجمل صورة يمكن أن تكون عليها هذه الحياة الدنيا وهي قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فهذا هو الرجل، وتلك هي المرأة. إنّ هذه الخلقة المتباينة بين الطرفين تكاملاً وتجانساً من آيات الله عز وجل، ومن عظمة خلقه سبحانه وتعالى، ومن دلائل إعجازه وقدرته جل وعلا: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ)، سبحان الله! كيف يكون الذي خُلق من النفس شيئاً مبايناً ومخالفاً؟! وكيف يكون مصارعاً ومغالباً؟! ولم لا يكون متجانساً ومتوائماً؟! (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، وكلكم يعرف معنى السكن، فقد تكدح في الأرض، وقد تسافر شرقاً وغرباً، لكنك تعود إلى بيتك، وإلى سكنك، وإلى المأوى الذي ترتاح وتسكن فيه من تعب الحياة. وانظروا إلى الرجل في طبيعة التكامل مع المرأة، إنه يسكن رحم المرأة أماً له، ويبقى فيه تسعة أشهر، ويسكن حضن المرأة رضيعاً بين يدي أمه، ويسكن حضن زوجته وصدرها محبة ومودة ومعاشرة وشهوة ولذة، ويسكن حضن ابنته وهي ترعاه في كبره، وهي تحنو عليه مع تقدم سنه، إن هذا المعنى يدلنا على عظمة دور المرأة، ولا يقصر في حق الرجل، لكن الرجل يتعب ويحتاج إلى السكن، ولن يجد سكناً إلا في ذلك. ثم قال: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال: المودة: محبة الرجل لزوجته، والرحمة: الشفقة عليها أن يصيبها منه مكروه، فإذا كان هذا هو الأصل في الخلقة والتجانس والتكامل، فهل ترون مجالاً لشقاق ينشأ من الفكر والتصور، أو تجاذباً واحتراباً ينشأ من واقع الفهم لهذه الخلقة، أم أننا في هذا نرى ذلك النموذج القرآن الذي أخبر الله عز وجل في غير ما آية من كتابه جل وعلا: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا). ثم انظر إلى التصوير القرآن البليغ المعجز في قوله جل وعلا: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، فأي شيء أقرب إلى جسدك؟ إنه لباسك. وأي شيء يحسّن مظهرك؟ إنه لباسك. وأي شيء لا تستطيع أن تستغني عنه وإلا بدت سوءتك؟ إنه لباسك. فهذه المعاني وغيرها تعني: أن تكون المرأة بالنسبة للرجل زينته ولصيقته وجماله وستره، وتعني: أن يكون الرجل للمرأة كذلك، فليس ثمة صورة أقرب وأظهر في الامتزاج والتكامل والتجانس والمحبة والمودة من هذه الصورة. ثم استمعوا لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]، واستمع لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن ساءه منها خلق رضي منها آخر). ذلك هو التوجيه القرآني والنبوي بأن يغض الرجل الطرف عن بعض النقائص، وأن يغلب الأصل، وهو ذلك الامتزاج والتلاحم والمودة والمحبة، وما يجري في الحياة من أسباب الشقاق تظلله تلك المحبة، فيصبح كسحابة صيف عابرة، ويصبح كما هو في طبيعة الحياة اختلاف يمر، وحديث يعرض، وهكذا تعود الأمور إلى أصولها؛ لأن الأصل أثبت من العوارض التي تمر بالإنسان. وإذا نظرنا إلى ذلك وجدنا هذه الصورة المشرقة الوضيئة في إسلامنا وإيماننا تبين لنا أصل رعاية الإسلام بعيداً عن جناية من خالفوه من أبنائه، ومن ناقضوه من أعدائه. نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يبصرنا بكتاب ربنا، وأن يلزمنا نهج نبينا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

رعاية الإكرام

رعاية الإكرام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم ما يلزم فيه تقوى الله عز وجل: الرعاية والعناية وحسن الصلة بالأزواج والأبناء وذوي الأرحام كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. وأختم هذه الصور من الرعاية: برعاية الإكرام، لما كانت المرأة بطبيعة خلقتها فيها ضعف لا تستطيع معه أن تغالب الرجل أو تغلبه: لا في قوة البدن، ولا في قوة الحيلة والدهاء، ولا في قوة القدرة على ملامسة أسباب الحياة، كان الظن أن تجنح بعض النفوس، وتميل بعض الأهواء إلى عدوان على المرأة، أو إجحاف بحقها، أو استلاب لحقها أو نحو ذلك. ومن هنا جاء التشريع الإسلامي برعاية خاصة ومزيد من الإكرام والإجلال للمرأة في جميع جوانب صور حياتها في هذه الحياة البشرية، أما الأم فقد أسلفنا القول فيها، ورأينا كيف جعل لها الشرع من البر ثلاثة أرباع، والرابع للأب؛ لبيان ما لها من أثر في هذا البر بحسب حملها وإنجابها، وما لاقت كرهاً على كره، ووهناً على وهن كما بُيَّن في آيات الله عز وجل، ونحن نعلم كم في بر الأم من أجر وفضل ومثوبة. أما الزوجة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن بعض الرجال يضرب النساء فقال: (ليس أولئك بخياركم، ليس أولئك بخياركم). وعندما نرى معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه إصغاءً لمشورتهن، وإتياناً بما يحببه إليهن، وملاحظة ومراعاة لمشاعرهن؛ ندرك كم كان تقديره وإجلاله ومحبته وإعزازه لهن، ألم يكن صلى الله عليه وسلم إذا شربت عائشة رضي الله عنها أخذ الإناء ووضع فمه موضع فمها؛ إشعاراً بلفتات الحب التي تغزو قلب المرأة ونفسها؟! ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسابق عائشة ليظهر نوعاً من الترفيه والمرح الذي يجعل الحياة بين الزوجين حياة ندية وأخوية، وليست حياة أمر واستجابة، وحياة عسكرية وجندية؟! أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي استمع وأصغى لمشورة أم سلمة رضي الله عنها في أعقاب الحديبية يوم أن قالت: يا رسول الله! قد علمت ما دخل على الناس في نفوسهم من هذا الأمر، فلو خرجت وأمرت حالقك أن يحلق لحلقوا؟! فلم يقل لها عليه الصلاة والسلام: مالك ولهذا الشأن؟ ولم يقل لها: اصمتي فإنك امرأة، ولم يقل لها: اعرضي عني، فإني أحسن تدبير أموري. بل استجاب وخرج وفعل مشورتها، وكانت تلك المشورة صائبة، وغير ذلك من الصور التي تعرفونها. وهكذا البنت التي قد يجار عليها تفضيلاً لأخيها عليها، أو نظراً لما قد يكون في العقول والنفوس من الآثار الجاهلية في غمط حقها، فقد جاء التشريع وجاء الهدي النبوي بمزيد من التخصيص في تربية البنات فقال صلى الله عليه وسلم: (من عال ثلاث بنات فأحسن إليهن، وأحسن تأديبهن، كن له ستراً من النار)، وفي رواية: (قيل: واثنتين؟ قال: واثنتين). فلماذا لم يذكر الأبناء؟ A لأن البنت قد يفرط فيها، وقد لا يلتفت إليها، وقد يكون هناك غمط لحقها، أو انقاص لقدرها، ولأنها أيضاً تحتاج من التربية والرعاية والعناية ما تكون به أعظم وأقدر على أن تنشئ وتربي جيلاً جديداً يستأنف حياة الإيمان والإسلام على أتم وأكمل وجه، وذلك نجده كثيراً في تشريعات الإسلام. هذه بعض صور الرعاية، ومن ورائها أمور واقعية في حياة المسلمين من صور الجناية، ومبادئ وأفكار كلها قائم أو مؤد إلى الجناية على المرأة خارج تشريع الإسلام، وذلك ما قد نكمل به حديثنا. نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا ديننا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، وأن يجعلنا بارين بأمهاتنا، محسنين إلى أزواجنا، قائمين بحقوق أبنائنا وبناتنا. ونسأل سبحانه وتعالى أن يحفظ على مجتمعنا أمنه وأمانه، وسلمه وسلامه، ورغد عيشه ووئامه، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، واشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل، يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بهزيمتهم واندحارهم وردهم على أعقابهم، يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يارب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية. اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، وسلامنا وإسلامنا، يا رب العالمين! واجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. وانصر اللهم عبادك وجندك المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

المرأة بين الرعاية والجناية [3]

المرأة بين الرعاية والجناية [3] تشريع الحجاب فيه حكم عظيمة جداً، فقد حفظ الله تعالى به المرأة من الفتنة والتعدي، وحفظ به جمال المرأة وأنوثتها وحياءها، وبه يحفظ الرجل من فتن كقطع الليل المظلم، وبه يحفظ كثير من المال، ويتحقق الأمن والأمان، فسبحان من شرع الشرائع والأحكام، وجعل الدين عنده الإسلام.

الحجاب: أهميته وفوائده

الحجاب: أهميته وفوائده الحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وشرع الشرائع وأحكم الأحكام، وجعل فيها الخير والمصلحة للأنام، ووعد من التزمها بالجنة دار السلام، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، فهو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، له الحمد حتى يرضى، وله الحمد بعد الرضا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيع عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! ما زلنا نتواصل معكم في موضوع [المرأة بين الرعاية والجناية] كي نستوفي به ما ابتدأناه من الحديث في شأن تشريع الحجاب على وجه الخصوص، وأحب ابتداءً أن أشير إلى أن الخطبة الماضية في هذا الموضوع كانت لهدفين أساسيين مهمين: أولهما: الارتباط بكتاب الله، وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنحن ندرك ونوقن ونؤمن بأنّ ما يلزمنا من الأوامر، وما ينبغي علينا الابتعاد عنه من النواهي، إنما هو من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: بيان ضلال وفساد الأقوال المخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الذين دعوا إلى تحرير المرأة -كما يزعمون-، وإن الذين ضاقوا بتشريع الحجاب للمرأة المسلمة -كما يظهرون-؛ لم يتحدثوا ولم يكن شأنهم أن يتحدثوا عن كشف الوجه والكفين، فتلك مسألة خلافية، وفيها لأهل العلم قديماً وحديثاً أقوال، ولم يكن مقصد حديثي أن أشير إلى ذلك، ولا يصلح في خطبة الجمعة ذكر الأقوال وترجيحها في مسائل دقيقة أو مختلف فيها، ولكن حديثنا كان -كما نعلم من الواقع اليوم- عن كشف النحر، والصدر، والذراعين، والساقين، بل وما هو أكثر من ذلك مما تعلمون وترون وتسمعون وتقرءون. وحديثنا اليوم استكمال لهذا الجانب، ويؤكد مثل هذه المعاني، فنحن نتحدث اليوم عن رعاية الحجاب للمرأة والمجتمع، وأن مخالفة هذا التشريع في الحجاب على الوجه المعروف جناية عظيمة تشقى بها المرأة أولاً، ويشقى بها المجتمع كاملاً ثانياً.

الرعاية التربوية في الحجاب

الرعاية التربوية في الحجاب إن الحجاب رعاية تربوية، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى التربية، وإلى الأخلاق الفاضلة، وإلى السلوك المستقيم، وإلى التصرفات التي تنم عن سمو في القيم والمبادئ، وكم نشكو اليوم من التهتك والتسكع، ورقة الدين، وضعف الأخلاق، وانحلال السلوك. إن الحجاب في حقيقة أمره تشريع من الله سبحانه وتعالى، وعندما نتأمل حكَمه تتجلى لنا وجوه من الرعاية العظيمة، فهناك شئون تربوية كثيرة تكتسبها المرأة المسلمة المتحجبة: أولها: تأكيد وإظهار لإيمانها المطلق وتسليمها التام لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]، فلسان حال المرأة المتحجبة وكأنها من الراسخين في العلم، فتراها تضع الأمر بالقرآن أو الهدي من السنة فوق رأسها، فتلتزمه وتظهره وتبدي أنه ليس لها من توجيه في أمر ولا نهي إلا من هذين المصدرين. وسلوا المرأة المسلمة غير المتحجبة من أين أخذت هذا الأمر؟ ومن أي جهة أخذت هذا اللباس؟ لن تستطيع أن تنسب نفسها إلى كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو أرادت أن تنتسب فسوف تنتسب إلى شذاذ في آفاق الأرض من اليهود أو غيرهم، أو إلى فساق من أهل الإسلام ممن سمعتهم وسيرتهم يعف اللسان عن ذكرها، فهم الذين قالوا لها: انزعي حجابك، واكشفي ذراعيك، وحرري ساقيك، وأبرزي نهديك إلى غير ذلك. وهنا أيضاً أمر آخر في شأن التربية وهو: احتساب الأجر والمثوبة، فإن هذا البعد له أثر في تربية المرأة المسلمة، فهي عندما تتحجب حتى في وقت شدة الحر فإنها تعرف وتوقن أن لها بذلك أجراً وثواباً، وأنها تدخر عند الله جل وعلا حسنات كثيرة، وأنها تفعله -كما هو حال المسلم في كل شيء يفعله- استجابة لأمر الله وتقرباً إليه سبحانه، ولو كان ذلك من أمور الحياة العادية فإنها تؤجر عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة يضعها الرجل في فم زوجته له بها أجر)، بل قد قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة؛ فتعجب الصحابة قائلين: أو يقضي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟! فقال: أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال). إن ذلك التعليم النبوي يدلنا على أن امتثال الأمر أو اجتناب النهي سببه ذلك الارتباط المنهجي بالقرآن والسنة، وهو أمر يؤجر عليه صاحبه، فكم من أجر لهذه المرأة! فإنها كلما خرجت لحاجتها وهي ملتزمة حجابها، مستجيبة لأمر ربها، ومقتفية لهدي رسولها صلى الله عليه وسلم فإنها تؤجر على ذلك. وهذه تربية مهمة؛ لأننا نريد أن نربي المسلم عموماً على أن ينوي في كل عمل نية صالحة في استجابته لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأمر ثالث مهم في التربية وهو: أمر الحياء، فالحياء خلق يبعث على فعل الجميل وترك القبيح كما يقول أهل العلم، والحياء سمة وخلق رفيع سام، من تحلى به عف لسانه، وغض بصره، وكان بعيداً عن فاحش القول وسوء الفعل، وهذا الحجاب يحافظ على حياء المرأة محافظة عظيمة، ونحن نعلم أن الحياء صفة للإنسان رجلاً وامرأة، لكنه عند المرأة أعظم، والحجاب يرعى هذا الخلق وينميه، ولو رأيتم المرأة المتحجبة كيف يكون حالها إذا هبت الريح فرفعت ثوبها أو جاء إنسان فجأة ودخل عليها، فإنها تكون متغيرة ومتأثرة، بل عندما يأتي الشاب إلى الفتاة المتحجبة ليخطبها يحمر وجهها خجلاً، وانظر إلى امرأة ليست متحجبة، واقرأ سطور الحياء فلن تستطيع أن تراها في ذلك الوجه الذي ضج بالمكياج وسبل التجميل، والشعر الذي فرد، والأيدي والأذرع المكشوفة وغير ذلك، فأين ذهب الحياء؟! سترى أن نزع الحجاب هو نزع للحياء، ولقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الحياء وصلته بالإيمان فقال -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بذكر الأعلى والأدنى ولكنه قال: (والحياء شعبة من الإيمان). وعند الحاكم في مستدركه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان والحياء قرنا جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر)، وانظروا إلى النساء اللائي قد نزعن حجابهن كيف ضاع حياؤهن، فإنك تأتي إلى المرأة فترخي بصرك حتى لا تنظر إليها، وهي مسلطة بصرها إليك، وتحدثها حديثاً غير مباشر، وهي تتحدث بكل وضوح وصراحة، وقد تجتنب الجلوس إلى جوارها، وهي تكاد تلتصق بك! إن معنى الحياء مرتبط بالحجاب، وإن نزعه ولا شك سوف يغيض هذا الخلق، وسوف يضعف هذه السمة في المرأة حتى وإن كانت لا تقصد ذلك، فإن طبيعة الإنسان التأثر والتغير، ونحن جميعاً نشهد ذلك ونعلمه من واقع الحال. وفي التربية أمر مهم: وهو الأنوثة في المرأة، ونحن نعرف أن المرأة فيها أنوثة تتمثل في جمالها، ورقتها، وفيض عاطفتها، وتدفق مشاعرها، وإن الحجاب يجعل لها ذلك الصون وتلك السمة في محافظتها على أنوثتها التي هي من نعم الله عز وجل. وانظروا إلى المرأة التي نزعت حجابها وتبرجت: أين أنوثتها؟ لقد عرضتها على قارعة الطريق وامتهنتها، وكأنها تتسول من ينظر إليها، وتدعو من يلتفت إلى جمالها. إن البضاعة العظيمة لدى صاحبها لا يعرضها إلا للفت النظر إليها، ولترغيب الناس فيها، أما إن كانت بضاعة تخصه فإنه لا يعرضها، بل يحفظها؛ لينتفع بها وحده، فإن عرضها فإن الناس كلهم سوف يأتون ليأخذوا حظهم منها أو ليدفعوا ثمنها، وأعجب من رجل مؤمن مسلم يسير ومعه امرأته وقد تبرجت وأظهرت زينتها! ولو سألتها: لم تبرزين مفاتنك؟ ألستِ متزوجة؟ ستقول: بلى. ألست عفيفة؟ ستقول لك بملء فيها: بلى. ولن نكذبها في ذلك، لكننا نقول: لماذا تبرزين هذه الزينة وذلك الجمال؟! ولماذا تمتهنين هذه الأنوثة؟! وما الذي بقي للزوج من امرأته إذا كانت على شاطئ البحر بلباس البحر، وكل عورتها مكشوفة إلا السوءتين؟! أليست عاملاً مشتركاً لكل هؤلاء الرجال؟! فما الذي خُص به زوجها؟! كل الحواجز تنهار إذا تكشفت المرأة، وتصبح حتى تلك الخصوصية بينها وبين زوجها مهددة، واقعاً لا مثالاً، وحقيقة لا خيالاً! إذاً: هذه المرأة تضيع أنوثتها، وذلك أيضاً ماسخ لفطرتها، وكلكم يعلم شأن المرأة المسترجلة، فتراها إذا مشت تمشي وكأنها عسكري، وتبدي كل ما لديها من جسمها، وتخالط الرجال وتتحدث معهم، وتخرج إلى الأسواق، وتذهب إلى الأعمال، وتعيش حياتها خارج بيتها، فما الذي يبقى من أنوثتها؟! وما الذي يبقى من السر الذي ينجذب إليه الرجل منها؟! وذلك أيضاً شأن تربوي خطير.

الحجاب والرعاية النفسية

الحجاب والرعاية النفسية إن كثيراً من الأخطار والأمراض والأحوال النفسية التي تصيب المرأة عموماً، والفتاة المراهقة عند بلوغها خصوصاً مردها إلى شأن الحجاب، وليس ذلك تخرصاً أو كلاماً ساذجاً، بل هو أمر أثبتته الدراسات العلمية، فهناك دراسة أجريت في أمريكا عاصمة بلاد الحرية كما يزعمون، وهذه الدراسة أجريت على الفتيات بعد سن الثانية عشرة في إحدى المناطق، فوجد أن الفتيات بعد هذا السن أكثر كآبة من الفتيان، ووجد أن الفتيات بعد البلوغ والمراهقة أكثر كآبة منهن قبلها، ووجد أن الفتيات الأقل جمالاً أكثر كآبة ممن هن أحسن جمالاً، فلماذا؟! ومن أين جاءت هذه الكآبة؟! يدرك الجميع أن الفتاة في مقتبل عمرها رأس مالها وأكثر ما يشغل بالها هو جمالها، فإذا كانت ستخرج غير متحجبة فستعلم حينئذ أن جمالها موضع النظر، والخلق متفاوتون في ذلك، فما رأيكم بفتاة عندها عيب خلقي في رجلها أو في يدها أو في عينها؟ وما رأيكم في فتاة شعرها مجعد أو في وجهها نمش أو غير ذلك؟ كيف سيكون حالها؟ إنها ستحمل من الهم والغم -لأجل ذلك- ما لا يوصف، وإذا جئنا إلى المقارنة في ميادين الفتيات والنساء، فإن المرأة قليلة الجمال إذا رأت غيرها من الجميلات في معرض من الرجال وحضور منهم فسترى أن الميزان يتأرجح، وأن الكفة تهبط بها، فتفكر في نظر الناس إلى تلك المرأة الجميلة، والتفاتهم إليها، وجلوسهم معها، وحديثهم إليها، وهي على هامش الأحداث، فكل هذه الجوانب ناتجة عن عدم الحجاب. وأما الفتاة والمرأة إذا تحجبت فإن ذلك كله يزول؛ لأن جمالها تحت ستار الحجاب، ولا يبقى ذلك الشأن إلا في دائرة محدودة، وذلك عندما تكون الفتاة مع النساء من مثيلاتها، والأمر هنا أهون وأخف وأقل وأدنى، وقد أثبتت هذه الدراسة العلمية أن ذلك له أثره في الجانب النفسي للنساء عموماً، وللفتيات خصوصاً. ومن هنا ننظر كذلك إلى صفة الحجاب في اللباس، فقد ذكر العلماء أن المرأة يحرم عليها أن تلبس ثياباً رقيقة تشف عن جسمها، أو أن تلبس ثوباً ضيقاً يصف حجم عظامها وهيئة جسمها، وذلك كله إذا التزمت به المرأة لم تظهر تلك العيوب، ولم تظهر تلك الاختلافات، وكانت في راحة نفسية، وكان لديها من الرضا النفسي ما يجعلها لا تتأثر بمثل هذا التأثر الذي يعلم الجميع غوره وعمقه في نفس المرأة والفتاة، وتأثيره في تصرفاتها وأفعالها. وللحجاب تأثيره على المظهر الخارجي أيضاً، فالمرأة غير المتحجبة إذا أرادت أن تخرج فهي تحتاج إلى أنواع من الزينة في الوجه وغير الوجه، وتحتاج إلى حلي وإلى لباس، وإلى أن يكون ذلك اللباس متغيراً في كل يوم، وغير ذلك، وأما إذا تحجبت فهي تنتقل من هنا إلى هناك، ثم تصل إلى البيت الذي تريد، أو إلى المجمع النسائي الذي تريد ولا تحتاج إلى مثل هذا، وإن كانت ذاهبة إلى عمل ليس فيه إلا النساء لم تحتج إلى مثل هذا كله، وذلك كله من الآثار المهمة المفيدة. وهكذا نجد تأثير هذا في أمور كثيرة، وسأنقل لكم هنا شيئاً طريفاً، وخبراً قد يكون في ظاهره مضحكاً، لكنه يعبر عن حقيقة واقعة، هذا الخبر عن امرأة كانت قبل سنوات قليلة تحكم دولة من الدول الأسيوية الكبرى، وقد حصل في بلادها محاولة انقلابية فتقول وهي تخبرنا عن الواقع: إن بوسع الرجل أن يستيقظ من الفراش، ويمشط شعره، ويكون مستعداً لمباشرة عمله في لحظات، غير أن الأمر يختلف بالنسبة للمرأة، فلا يمكنني أن أسمح بالتقاط صور لي حال استيقاظي مباشرة من الفراش، وعندما جاءت حادثة الانقلاب استيقظت على هذا الحادث، وأخبرت به، ومع ذلك انصرف اهتمامي إلى مظهري الذي سأخرج به، ولو كنت رئيساً فما كان عليَّ إلا ارتداء الملابس بسرعة، وأن أكون في الموقع المناسب! فإذا كانت الرئيسة امرأة فإن الأمر يحتاج إلى الاهتمام بالمكياج، وهذا أمر بدهي، فالمرأة إذا كانت ستخرج متبرجة فالزينة شرط لازم لا تستطيع أن تتجاوزه، ولذلك فإن هذا التشريع يحررها من هذه القيود والضغوط.

الحجاب والرعاية الأمنية

الحجاب والرعاية الأمنية ثم ننتقل إلى الحجاب كرعاية أمنية، فنحن نعلم أنه بقدر التهتك وترك الحجاب تكون أسباب إمكانية الاعتداء على المرأة، سواءً كان اعتداءً لفظياً، أو كان اعتداءً يدوياً، أو كان اعتداءً جنسياً، والإحصاءات في هذا في عالم الغرب يشيب لهولها الرأس. ففي إحصائيات لا يتجاوز عمرها البضع سنوات أقيمت في أمريكا تقول: إن هناك ثلاثمائة ألف وسبعة آلاف حالة اغتصاب، وهي تمثل ثلث ما يمكن أن يكون في الواقع، وهذه الإحصائية إذا قسمناها وجدنا أنه في كل ساعة تحدث ست وثلاثون حادثة اغتصاب، وأنه بمعدل هذا التزايد يصبح الأمر في أخطر أحواله. وهذه الشرطة البريطانية قبل بضع سنوات وزعت منشوراً أمنياً يطالب النساء بأن يلبسن لباساً ساتراً، وأن يجتنبن الملابس القصيرة المثيرة، فما دخل هذا في الأمن؟ إن الشرطة قد ملئت مخافرها بالمشكلات الناتجة عن الاعتداءات الناشئة من مثل هذا التبرج والإغراء والإثارة، وليس كما يقول المرجفون: بأن هذا سوف يزيل الكبت، ويطبّع العلاقة بين الرجل والمرأة، ولو كان الأمر كذلك لرأينا القوم الذين لم يعد عندهم شيء اسمه حجاب، وصار العري عندهم في بعض المناطق مطلوباً، وفي بعض السواحل والشواطئ لا يجوز أن يدخلها الإنسان وهو يلبس أي قطعة من الملابس، فهل انتهى ذلك الكبت عندهم أم أنه قد تزايد أوار الشهوة وسعارها حتى أصبحت في أوج مراتب الجريمة؟! ودعوني أنتقل بكم إلى جانب أمني طريف، وهو: أن مسألة الحجاب لها أثر أمني على المجتمع في جانب آخر ألا وهو: جانب الحوادث المرورية! ولا تتعجبوا من ذلك، فهناك من دعا في تلك البلاد إلى طلب رسمي من مدير شرطة مدينة جورج تاون في أمريكا إلى مناشدة النساء بعدم لبس الملابس المثيرة، يقول بالنص: وإلا فإنه سيكون العالم مهدداً تهديداً عظيماً، بل ويجعل ذلك -على سبيل المبالغة- أخطر من تهديد القنبلة الذرية، ويقول في كلمات لطيفة: عندما تكون عين السائق تتركز على تلك المرأة التي يرى محاسنها فإن مقدمة سيارته ستكون متركزة في عمود كهرباء، أو عابر سبيل، أو في سيارة أخرى! وهناك دراسة أقيمت على أحد التقاطعات في عاصمة أوروبية، فوجدوا أن الحوادث تزداد في فترة الصيف، فقامت إدارة المرور بدراسة ذلك فوجدت أن السبب هو: أن بعض الفتيات يبعن الماء البارد للناس عند تقاطع الإشارات وهن يلبسن اللباس المناسب للجو الحار، فكلما جاء إنسان إلى هذا التقاطع نظر إلى تلك الفتاة وصدم في السيارة التي أمامه، فتزداد الحوادث، فقاموا بنقل هؤلاء الفتيات من هذه المنطقة فقل عدد الحوادث! قد يقول بعض الناس خاصة من الذين لا يحبون الالتزام، ولا يحبون أن يدركوا عظمة هذا الإسلام: إن هذه مبالغات، وهذه أقاصيص سمجة، وهذا نوع من الحديث العاطفي تقررونه لتثبتوا مثل هذه الأمور، وما رأينا شيئاً من ذلك. فأقول: ارجعوا واقرءوا وتابعوا، فإن الذي نذكره غيض من فيض. وبعض إدارات الشرطة طلبت أن يفصل النساء عن الرجال في المواصلات العامة، خاصة في الأوقات المتأخرة من الليل. وإذا جئنا إلى القضية الأمنية وجدنا أموراً كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.

الحجاب والرعاية الصحية

الحجاب والرعاية الصحية ثم في الحجاب أيضاً رعاية صحية، وهذه مسألة مهمة، فهناك دراسة أجريت على الفتيات والنساء اللائي يأخذن حمامات الشمس بلباس البحر، فأثبتت الدراسة أنهن أكثر عرضة للإصابة بسرطان الجلد بـ (13) ضعفاً عن غيرهن ممن يلبسن لباس البحر دون أن يكون مكشوف الظهر، فكيف بالمرأة المسلمة المتحجبة؟! وتقول هذه الدراسة: إن هناك سرطانات جلدية معينة كسرطان الخلية القاعدية وبعض أنواع السرطان تزداد بكثرة في النساء اللاتي يتكشفن ويتعرضن للشمس لمدة طويلة، ففي بريطانيا تزداد في كل سنة (2600) حالة من حالات سرطان الجلد بمعدل زيادة سنوي متنام بـ (50%). ثم انظروا إلى الناحية الطبية، فقد درس بعض العلماء في أمريكا أيضاً بعض أنواع اللباس، وهو اللباس الضيق الذي يضيق على الساقين والرجلين، فقيست سيقان بعض الفتيات قبل لباسهن هذا اللبس ثم بعد لباسهن إياه بفترة، فوجد أنه يسبب تضخماً غير طبيعي وغير صحي في حجم الساقين وحجم الأرجل، وذلك بنسبة (5%)، ويغير لون الجلد بنسبة (7%). وأضافت المجلة الطبية البريطانية: أن السرطان الخبيث الذي يصيب الجلد في المناطق المكشوفة من جسد المرأة أصبح في تزايد مستمر حسب الملابس العارية التي تكشف أجزاء من الجسم؛ بسبب التعرض الطويل للشمس في هذه المناطق المشكوفة من الجسم. لذلك عندما يأتي أحد ويقول: نريد أن نمنع شيئاً؛ لأنه ضار صحياً، وعندما يأتي نظام من الدولة ويقول: امتنعوا عن كذا وكذا، أو لا تشربوا كذا وكذا، فماذا سيقول الناس؟ سيقولون: جزى الله هؤلاء خيراً؛ فإنهم يحافظون على الصحة العامة. ونحن نقول للذين لا يفقهون شأن الحجاب في كتاب الله وسنة رسوله: سنصدر لكم تعليمات بشأن هذا الحجاب؛ لغرض المحافظة فحسب، وهذا غيض من فيض، وتشريع الله عز وجل حكمته أعظم، ومنفعته أجل. نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يلزمنا كتاب ربنا وهدي نبينا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحجاب والرعاية الاقتصادية

الحجاب والرعاية الاقتصادية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن تقوى الله عز وجل هي التزام أمره، واجتناب نهيه في كل شأن من شئون الحياة. ومع الحجاب أيضاً نمضي لنعرف أن وراء ذلك أموراً كثيرة، ففي الحجاب رعاية اقتصادية، إذ يقل عند المرأة المحجبة استهلاك الكماليات من أمور التجميل والملابس بقدر ظاهر عن غيرها من اللاتي لم يلتزمن بالحجاب، فترى الواحدة منهن تخرج في كل وقت، فتحتاج إلى لباس جديد، وزينة جديدة وغير ذلك.

الحجاب وشخصية المرأة

الحجاب وشخصية المرأة وهناك صور أخرى ينبغي أن نتنبه لها منها: قضية شخصية المرأة، وهنا يتحدث إلينا كثيرون من الذين يزعمون أنهم متحررون فيقولون: إنكم لا تنظرون إلى المرأة إلا من الجانب الجنسي، وترون أن المرأة عورة؛ وما ذلك إلا لأنكم تنظرون بمنظار الشهوة، فنقول لهم: ما هي نظرتكم أنتم معاشر القوم المتقدمين؟! فيقولون: نحن ننظر إلى المرأة بثقافتها وفكرها وشخصيتها وعلمها، فنقول: كلامكم حسن معسول، لكن في داخله السم، وهو غير واقعي، والأمثلة تشهد بذلك، فعندما تأتي إلى بعض الوظائف وخاصة الوظائف التي في الواجهة كما يقولون، فالمطلوب سكرتيرة تجيد كذا وكذا وكذا، فإذا تساوت -ولا نقول دون ذلك- امرأتان في المهارات اللازمة للوظيفة، وكانت إحداهما أعلى من الأخرى بقليل إلا أن الثانية أجمل وأكثر غنجاً ودلالاً، فأيهما يتم اختيارها من قبل الرجال والمدراء؟ A في الغالب الأعم، والذي تشهد به الإعلانات -كما سأشير الآن- هي تلك، فنقول: فأين شخصية المرأة وعلمها؟! بل قد يقدم من ليس لها تلك المهارات، ولا تلك المؤهلات؛ لأن هناك لفت نظر إلى جانب آخر. وعندما تقرأ إعلانات طلب توظيف المضيفات على الطائرات فإنك تقرأ وقد قرأت ذلك بعيني: أن يكون السن من كذا إلى كذا، فما فائدة هذا السن في المهمة والوظيفة؟! لا شيء، ثم أن تكون جميلة حسنة المظهر، فما فائدة ذلك أيضاً في نفس الخدمة ذاتها؟! ليس هناك شيء مقبول، إلا أن هناك شيئاً آخر يفرض نفسه وهو: أن المرأة ينظر إلى جمالها وإلى أنوثتها، وهذه هي الحقيقة شاء من شاء وأبى من أبى. ثم ننظر كذلك إلى الحضور العقلي والعلمي، والحضور الأنثوي والجمالي، إن المرأة إذا تحدثت إلى الرجال أو اختلطت بهم في أي أمر من الأمور المحمودة، وفي جو نظيف، فهناك حضوران: حضور علمي فكري، وحضور أنثوي جمالي، فإذا تركنا المرأة غير محجبة انصرف الناس عن علمها وعملها، ونظروا إلى دقة ساقيها، وإلى جمال عينيها، وإلى بياض بشرتها، وذلك واضح أيضاً في أجواء العمل كما سنشير إليه، وإن حجبناها بقي علمها، وأما من قال: إننا إذا حجبناها لم تعد عالمة، ولم تستطع أن تكتب، أو أن تتحدث، أو أن تقوم بأي عمل من الأعمال، فنقول: ليس هذا بصحيح، فنحن منعنا الناس أن ينشغلوا بجمالها عن علمها وعملها، وكما يقول أحد الكتاب في غير بلادنا: نحن إذا جئناك -أيتها المرأة- وأنت في وظيفة من الوظائف فإنما نريد الخدمة، ونريد العمل، ونريد إنجاز المهمة، فإذا كشفت شعرك وذراعيك شغلنا عن ذلك بهذا. فالمرأة إذا سُترِتْ أدت دورها، وبقي جمالها، وبقيت أنوثتها لبيتها وزوجها وأسرتها وأبنائها، وهذه هي فلسفة الحجاب من وجه صحيح. إحدى الشركات البريطانية الكبرى أصدرت تعميماً لموظفيها تقول فيه: إنها تطلب من النساء عدم لبس الملابس القصيرة والمثيرة، لماذا؟ لأنهم وجدوا أن هناك انشغالاً عن العمل من قبل الرجال؛ بسبب طريقة لبس بعض زميلاتهم، وهذا بدهي وواضح كما قلنا. وهكذا نرى أن الحجاب تشريع يحفظ شخصية المرأة، ويربي فيها المعاني السامية، ويحفظ نفسيتها مستقرة، ويوفر شيئاً من مالها، ويحمي عرضها ونفسيتها من عدوان المعتدين: بنظرات آثمة أو بكلمات نابية أو باعتداءات جنسية والعياذ بالله! وهنا يبقى المجتمع كله فيه نوع من الأمن والاستقرار. تلك بعض وجوه الرعاية في تشريع واحد من تشريعات المرأة ألا وهو: والحجاب، وما وراء ذلك أكثر. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يصرف عنا ما لا يحب ويرضى. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واهدنا اللهم لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأصلح أعمالنا، وحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وضاعف أجورنا، وارفع درجاتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على البلاد والعباد، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، أنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واصرف اللهم عنا الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ أمن بلاد الحرمين وأمانها، وسلمها وسلامها، ورزقها ورغد عيشها، اللهم اجعل ذلك دائماً مستقراً مستمراً يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تولي علينا خيارنا، وألا تولي علينا شرارنا، وفق اللهم ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

المرأة والدعوة [1]

المرأة والدعوة [1] المرأة نصف المجتمع، ولها دور عظيم في تربية الأجيال وإصلاح المجتمع، وقد بذل أعداء الإسلام كل جهودهم لإفساد المرأة حتى يتسنى لهم بذلك إفساد المجتمعات الإسلامية، وقد نجحوا كثيراً في ذلك، فلذلك يجب على دعاة الإسلام الاهتمام بإصلاح المرأة، وتبيين مكانتها في الإسلام، والاستفادة من خصوصياتها لبنات جنسها، وتربيتها لتكون قدوة في وسط النساء لتسهم في الإصلاح والتربية.

بين يدي الموضوع

بين يدي الموضوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض -اللهم- عنهم وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد: فحديثنا بعنوان: (المرأة والدعوة)، وهذا الموضوع سينقسم إلى قسمين: قسم مختص بالمرأة. وقسم آخر يتعلق بالمرأة وصلتها بالدعوة. وحتى لا يطغى جانب على جانب، وحتى يأخذ هذا الموضوع حقه من الوقت والعرض فإنه سينقسم إلى قسمين في درسين، سيكون الشق الأول هو موضوع درسنا، وأما الشق الثاني المتصل بتفصيلات أمر الدعوة في حياة المرأة المسلمة فهو -بإذن الله عز وجل- موضوع درس قادم. وسينصب الحديث في هذا الموضوع على نقاط قليلة، لكنها مركزة وتهدف إلى ما يتصل بكليات مهمة بالنسبة للنظرة والتعامل والعمل للمرأة المسلمة. فسيكون أول أمر ينصب عليه الحديث: لماذا المرأة والدعوة؟ ثانياً: المرأة في التصور والمنهج والإسلامي. ثالثاً: صور حية للمرأة في عصر النبوة. ثم نختم بما يربط هذه النقاط جميعاً بإذن الله عز وجل.

أسباب الحديث عن المرأة والدعوة

أسباب الحديث عن المرأة والدعوة

المرأة نصف المجتمع

المرأة نصف المجتمع لماذا الحديث عن المرأة والدعوة على وجه الخصوص؟ ولأي أمر وسبب يكون الاهتمام بالمرأة؟ أولاً: لأنها نصف المجتمع حساً ومعنى، وهذه عبارة تتكرر كثيراً، وهي عبارة كل يستخدمها كما يرى، غير أن الأمر من الناحية المادية ظاهر، فالتعداد السكاني غالباً ما يكون عدد النساء فيه أكثر من الرجال، وعلى أقل تقدير يكون مساوياً للرجال، ومن حيث المعنى فإن المرأة سكن للزوج لا يتم استقرار حياته ولا بناء أسرته ولا تكامل آماله وطموحاته وتغذية شهواته وغرائزه إلا من خلال وجود الزوجة معه، ثم كذلك هي نصف المجتمع من حيث الإعداد والتربية والتهيئة للأجيال، فهي تتولى الشطر الأساسي المهم لإعداد الأجيال المسلمة في مرحلة الطفولة حتى تسلمهم إلى الآباء وإلى الرجال عند بدايات البلوغ والتكليف والمراهقة، مع مشاركتها -أيضاً- في هذه المرحلة، وإضافة إلى ذلك فإن الصورة تكاد تكون مطردة في كون المرأة نصف المجتمع على أكثر من صعيد، فحق علينا أن يكون لنا اهتمام يتناسب مع كون المرأة نصف المجتمع.

الاستفادة من خصائص المرأة

الاستفادة من خصائص المرأة الأمر الثاني: للمرأة خصوصيات كثيرة لا يمكن أن يستفاد منها إلا بتوجيهها وإرشادها ودعوتها، ولا يتم ذلك إلا لمن يكون أبصر بها وأعلم بها وأكثر معرفة وخبرة ومعايشة لها، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال المرأة نفسها، فإن للمرأة عواطف وطبيعة فطرية مهما عرف الرجل عنها من خلال قراءة أو اطلاع أو معاشرة عدد محدود من النساء يتمثل في المحارم من أم أو أخت وكذا الزوجة فإنه لا يمكن أن يكون ذلك الخبير العارف بالطبيعة الفطرية والجبلة الغريزية التي طبعت وجبلت عليها المرأة. ومن الخصوصيات أيضاً ما يتعلق ببعض الأحكام الفقهية التي هي من خواص النساء، كأحكام الطهارة من الحيض والنفاس والحمل وما يتعلق بذلك من تفصيلات كثيرة لا يعرفها الرجال إلا من خلال العلم فحسب، ودائرة العلم التي يضبطها الرجال ليست بالكثرة الكافية، إضافة إلى أن في ملابسة المرأة للرجال ومساءلتهم في مثل هذه الأمور وافتقارها الدائم إليهم حرجاً غير قليل، وكذلك لا يلتفت الرجل في الغالب إلى بعض تلك التفصيلات وتفريعاتها، ولا يخطر على باله أنه لابد من أن يطرقها وأن يعرضها حتى تنتفع بها النساء. فالمرأة أبصر ببنات جنسها في طبعهن وفطرتهن، وكذا فيما يتعلق بالأحكام الخاصة بهن في أمور كثيرة، كأمور الطهارة والحجاب وما يلحق بهذا، ولذلك فإن لسان المرأة في هذا أبلغ، وعلمها -إن كانت متعلمة- أكثر قدرة على الوصول والبلوغ والإفهام والتفصيل والتبيين للنساء حتى يكن على بصيرة من أمرهن وعلى علم من دينهن.

استهداف الأعداء للمرأة

استهداف الأعداء للمرأة الأمر الثالث: أن المرأة المسلمة اليوم مستهدفة استهدافاً عظيماً من قبل الأعداء، والمراهنة في الحقيقة إنما هي على المرأة ليتم صرفها عن صلتها بدينها واعتزازها بقيمها وارتباطها بتاريخها، لتكون مستغربة في أفكارها، متحللة في سلوكها، متبرجة في هيئتها، ويقع بذلك إفساد لها عظيم، ثم من خلالها تقوض الأسرة المسلمة، فلا يكون هناك ذلك الرباط الشرعي الوثيق، ولا ذلك التصون العظيم الذي فيه أبلغ صور المحافظة، ولا يعود هناك تلك التربية للجيل الصاعد الناشئ على منهج هذا الدين. ومن هنا فإن إهمال المرأة المسلمة وعدم توجيه الجهود العلمية والتربوية لصياغة المرأة المسلمة على النحو المطلوب يكون هذا التقصير سبباً عظيماً من أسباب تمكن الأعداء، ولا شك أننا نعلم يقيناً أن الفترة التي سلفت -سيما في أوائل هذا القرن- كانت المعركة فيها واضحة في إخراج المرأة من بيتها، ونزع حجابها، وسلخها من حيائها، وتجردها من أنوثتها، وجر ذلك على المجتمعات الإسلامية ويلات كثيرة وشروراً عظيمة، مازال الناس يجأرون منها ويشكون منها، وهذه الآثار لست بصدد التفصيل فيها، لكنها آثار في الإيمان تضعفه وتذهب حيويته وقوته في نفوس الرجال والنساء، وهي كذلك آثار أخلاقية تفسد قيم المجتمع، وتذهب الموازين الصحيحة التي جاء بها شرع الله عز وجل، وهي -كذلك- آثار اقتصادية تضعف من اقتصاد الأمة بما يقع من سرف، وبما يقع من تفويت لكثير من المصالح بحجج كثيرة واهية، وهي -كذلك- آثار بالنسبة للمجتمع من الناحية الأمنية، حيث يكثر الاعتداء على الأعراض، ويرتبط ذلك الإفساد الأخلاقي والتحلل الذي يقع في صفوف المجتمع من خلال إفساد المرأة المسلمة؛ يرتبط بالمسكرات والمخدرات وجرائم القتل، وحسبنا ما سمعنا من الحدود التي أقيمت في أكثر من مدينة عندنا، ورأينا أن المرأة عامل مشترك، لا أقول: إنها مؤاخذة في تلك الحوادث. لكن أقول: إن إفساد نظام المرأة من الناحية الإسلامية وعدم اكتمال التزامها بشرع الله سبحانه وتعالى يؤدي إلى كثير من هذه المفاسد.

النظرة الخاطئة للمرأة من قبل بعض المسلمين

النظرة الخاطئة للمرأة من قبل بعض المسلمين السبب الرابع: أن النظرة عند بعض المسلمين للمرأة نظرة خاطئة من الناحية الإسلامية، فإن كثيرين من الرجال في مجتمعات غير قليلة ينظرون نظرة خاطئة من الناحية الشرعية، فهم ينظرون إليها نظرة دونية فيها احتقار وازدراء، وأنها سبب للعار والشنار، وأنه ينبغي أن لا تكون لها أدنى مشاركة ولا أية صورة إيجابية في هذه الحياة الاجتماعية وحياة الأمة المسلمة. وللأسف أن هذه النظرة موجودة عند بعض الأخيار الصالحين، بل ربما عند بعض المشتغلين بأمر الدعوة والدين، فإن بعضاً منهم ينطلق ليصاحب الناس ويخالطهم، ويعظهم ويذكرهم، ويربيهم ويقيمهم على أمر الله عز وجل وهو مهمل لزوجته وأبنائه، بل ناظر إلى المرأة والزوجة على أنها لا يمكن أن تفهم ولا أن تتعلم، فضلاً عن أن تكون داعية، أو أن تكون ذات أثر إيجابي فعال في المجتمع المسلم. وهذه النظرة في كثير من الأحوال نظرة مرتبطة بالتقاليد وبالعادات، وببعض الرسوم التي بعضها قد يكون قبلياً، وبعضها قد يكون موروثاً تاريخياً، هذه النظرة في حد ذاتها هي التي أوجدت ردة فعل عندما داعب أعداء الإسلام من أهل التغريب والعلمنة خيالات وعواطف المرأة لينتشلوها من هذا الوضع باعتباره وضعاً إسلامياً، يقولون لها: إن هذا الوضع إسلامي لا يمكن أن يكون مقبولاً ولا مناسباً، وينبغي أن تخرجي منه إلى الوضع الذي فيه الحرية الشخصية. وغير ذلك من الأحلام التي يداعبون بها خيالات المرأة، فتظن الأمر صحيحاً، ولا تعلم هي أنها ليست في وضع إسلامي، بل في وضع اجتماعي فيه كثير من المخالفات لمنهج الإسلام. وردة الفعل هذه هي التي جنحت ببعض النساء بعد أن كن مستعبدات مقهورات إلى أن يتمردن تمرداً لم يكن أربابهن وأولياؤهن من الآباء أو الأزواج يتصورونه منهن، ولابد من أن نعلم أن كل فعل له رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه كما يقول أهل الفيزياء.

الحاجة إلى المرأة الداعية

الحاجة إلى المرأة الداعية السبب الخامس: أننا بحاجة إلى المرأة الداعية على وجه الخصوص لتربية بناتنا وأخواتنا وزوجاتنا عندما لا يكون عندنا القدرة على تعليمهن وتربيتهن، أو عندما نحتاج إلى مزيد من هذا الجانب في التعليم والتربية والدعوة للاختلاط ببنات جنسها ممن لهن حظ في العلم وقدم في الدعوة وخبرة في التربية، فلذلك عندما نتحدث عن المرأة لابد من أن نشعر بأن الحديث يمسنا مساساً مباشراً، فأنت تريد لزوجتك أن تتعلم وأن تتفقه في الدين، وأنت تريد لها أن تكون مرتبطة بدين الله عز وجل غيورة عليه، وأنت تريد لابنتك أن تنشأ نشأة إسلامية، وتريد لها أن تعيش في بيئة إسلامية، ونحن نعلم اليوم أن الفتن محيطة من كل جانب، وأن الإغراءات تدعو بكل قوة في كل مجال وعلى كل مستوى حتى غزتنا في عقر دارنا عبر شاشات التلفاز، وعبر أوراق المجلات الملونة، وعبر البث المباشر. فإذا لم نستطع أن نوجد المرأة الداعية التي تساعد على هذه المهمة العظمى فإن كثيرين منا لشغلهم وانشغالهم، أو لجهلهم وعدم علمهم، أو لعدم قدرتهم على التوجيه والتربية، أو لكثرة ما يحتاج إليه من وقت وجهد بالنسبة للزوجة وعدد من البنات فحينئذ سنكون كلنا متضررين إذا لم يوجد في مجتمعاتنا المرأة المسلمة الداعية.

توجيه طاقات المرأة إلى ما هو نافع

توجيه طاقات المرأة إلى ما هو نافع ومن الأسباب أيضاً: أن للمرأة طاقات عندما لا يكون هناك توجه نحو إرشادها وطلب مشاركتها لتنفع نفسها وتنفع غيرها فإن هذه الطاقات توأد وتموت، ولا يمكن أن نقبل التصور الذي يعتبر المرأة ليس عندها قابلية الحفظ ولا الفهم، فإن بعض الناس يفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن ناقصات عقل ودين أنه ضعف عقلي لا يتيح لها أن تتعلم، ولا أن تحفظ، ولا أن تفهم، ولا أن تحسن التصرف والتدبير. أقول: وهناك صور أخرى معاكسة، فإننا نجد في بعض الرجال بلادة في الأذهان وضعفاً في العقول، بينما نجد من النساء من يكن على ذكاء مفرط وعلى حافظة واسعة، وحسبنا ما ذكر في سيرة عائشة رضي الله عنها أعظم راوية من النساء لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحسبنا كثير من المواقف من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وما سأذكر من الوقائع والأحداث التالية. فلذلك هذه الطاقات لابد أن تستثمر، ولا تعجب عندما ترى أن أئمة من شيوخ الإسلام كان من بين شيوخهم نساء، فهذا ابن الجوزي من مشايخه ثلاث من النساء، وذكر الذهبي في مشيخته -وهو كتاب عن شيوخ الذهبي - عدداً من النساء ممن أخذ عنهن العلم، وهناك أعداد هائلة من النساء في تاريخ الإسلام كن راويات للسنة، عالمات بالأخبار، محدثات، أو مؤرخات، أو أديبات، أو مشاركات، مع التزام النهج الإسلامي وتوجيه هذه الطاقات فيما ينفع الأمة المسلمة بوجه عام والمرأة المسلمة بوجه خاص. ومن هنا رأينا عائشة رضي الله عنها راوية للحديث، ورأينا خديجة رضي الله عنها مثبتة للداعية الأول صلى الله عليه وسلم، ورأينا فاطمة رضي الله عنها وهي تنشئ على يديها الحسن والحسين اللذين أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنهما سيدا شباب أهل الجنة، وسأذكر فيما يأتي كثيراً مما يتعلق بهذا الجانب، وهناك أسباب أخرى كثيرة وعديدة فيا يتصل بسبب الحديث عن المرأة والدعوة.

المرأة في التصور الإسلامي

المرأة في التصور الإسلامي أنتقل إلى النقطة الثانية، وهي المتعلقة بالتصور العام للمرأة المسلمة في الإسلام، أو المرأة المسلمة في التصور والمنهج الإسلامي، وذلك لنعالج ما أشرت إليه في أثناء الأسباب من قصور النظرة أو عدم وضوحها، حتى إن بعض الناس قد يكون مبالغاً في أمور هي من العادات، أو هي من الأعراف التي قد يكون بعضها لا حرج فيه من الناحية الشرعية. فنحن نجد -على سبيل المثال- من الناس من يرى ذكر اسم المرأة في حد ذاته عيباً أو أمراً محرجاً مخزياً، أو نحو ذلك، بل قد يرى أن من يذكر اسم امرأة لسبب أو لآخر -أماً كانت له أو زوجة- أنه قد خرج من دائرة الحياء، وأنه ربما يعتبر من المتساهلين المفرطين، ولكن هذا غير صحيح. والنصوص في ذكر أسماء كثير من الصحابيات بين النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كثيرة، أذكر منها انصراف النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءت إليه صفية فخرجها معها ليقلبها -أي: ليعيدها إلى بيتها- فمر رجلان من الأنصار ثم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما؛ إنها صفية بنت حيي). ولما خرجت سودة بنت زمعة رضي الله عنها -وهذا الحديث في البخاري - لقضاء الحاجة وكن لا يخرجن لقضاء الحاجة إلا في الليل، وكان عمر رضي الله عنه شديد الغيرة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرجت قال: قد عرفتك إنك سودة. حتى يبين أنه يود أن لا يعرف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرض عليهن الحجاب. واستأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنها -والحديث متفق عليه عند البخاري ومسلم - فحدث ارتياع من خديجة لهذا، أو لقدومها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! هالة بنت خويلد). وفي حديث أنس المتفق عليه أيضاً أنه قال: (إن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام، وكان بلال يستأذن للناس على رسول عليه الصلاة والسلام، فدخل مرة وقال: يا رسول الله! امرأة من الأنصار وزينب -يعني: تستأذنان- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أي الزيانب؟ فقال بلال: زينب امرأة ابن مسعود) والأحاديث في ذلك كثيرة.

التساوي في أصل الخلقة مع الرجل

التساوي في أصل الخلقة مع الرجل أقول: أول نقطة في التصور الإسلامي العام أن أصل الخلقة واحد، وأن الرجل والمرأة ليس بينهما في أصل الخلقة فرق مطلقاً، أما النظرات السابقة في غير هذا الدين فقد كانت على غير هذا، فبعض كتب أهل الكتاب المحرفة تقول: إن أصل المرأة غير أصل الرجل من حيث الخلقة، وإنها شيطان. وبعضهم يصفها بأوصاف ومراتب مرذولة أو تدل على أنها مجمع الشر كله، وكانت كثير من الديانات والأمم السابقة تنظر نظرة غير هذا. أما دين الله عز وجل فقد جاء واضحاً في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1] وهذا فيه فوائد شتى، منها أن يكون هناك أصل المساواة، فلا تفاوت ولا احتقار ولا ازدراء. ومنها أن هذا من أعظم أسباب الوفاق والمودة، خلق منها زوجها فهي منه وهو منها، وبينهما تكامل في أصل الخلقة وفي طبيعة الحياة الفطرية، ولذلك يكاد يكون إجماعاً بين أهل التفسير أن قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] يتعلق بآدم وحواء، وقد أغرب صاحب تفسير المنار إغراباً عجيباً في هذا الموطن ولم يوافق أكثر أهل التفسير فيما ذهبوا إليه. ومما يدل على هذا -أيضاً- حديث أبي داود بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما النساء شقائق الرجال)، والله سبحانه وتعالى قد ذكر هذا بشكل واضح كما أشرت.

المنزلة الواحدة للرجل والمرأة

المنزلة الواحدة للرجل والمرأة الأمر الثاني: المنزلة الواحدة. فإن الخطاب القرآني في أمر الرجل والمرأة جاء مشيراً إلى تساوي المنزلة والرتبة في الإطار العام، فالله عز وجل يقول: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]. وكذلك يقول الله عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء:32]. ويقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]. ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. فالمسألة أن المرأة والرجل في منزلة واحدة، وفي صحيح البخاري -وأصل الحديث متفق عليه- عن عمر رضي الله عنه قال: والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم. وفي رواية البخاري: كنا في الجاهلية لا نعد للنساء شيئاً، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهن بذلك علينا حقاً.

التكليف الواحد للرجل والمرأة

التكليف الواحد للرجل والمرأة الأمر الثالث: التكليف الواحد. فالمرأة مكلفة مثل الرجل تماماً بكل أمر من الأوامر التي جاءت عامة ليس فيها خصوصية للرجال، فالله سبحانه وتعالى قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:124] وهذا الأمر يدلنا على ضرورة فهم هذا التصور، لنعرف أن على المرأة تكليفاً وواجباً، فكما كلف الرجل بالعلم فالمرأة مكلفة به، وكما كلف الرجل بالدعوة فالمرأة مكلفة بها، وكما كلف الرجل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمرأة مكلفة بهذا، وكل أمر فيه تكليف للرجل فهو على الاشتراك مع المرأة إلا ما ورد الدليل بتخصيص الرجل فيه دون المرأة، أو بتخصيص المرأة فيه دون الرجل.

إكرام المرأة بعد ذل

إكرام المرأة بعد ذل والأمر الرابع: إكرامها بعد ذل. أي أن هذا الدين جاء بإكرام المرأة بعدما كانت في أوضاع كثيرة فيها ذل لها، كما قال عز وجل في وصف ما كان من شأن الجاهلية: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59] أين هذه المرأة بعد أن جاء الإسلام؟ لقد صارت معززة مكرمة، بل ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ: (من عال جاريتين وأحسن تأديبهما وتربيتهما كن وقاية أو ستراً له من النار) وذكر في شأن القيام على أمر البنات وحسن تربيتهن من الفضل ما الله سبحانه وتعالى به عليم في أحاديث كثيرة جداً. وقد كانت المرأة فيما سلف متاعاً موروثاً، لكن الله عز وجل حفظها بهذا الدين، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء:19]. وكانت المرأة متعة مشاعة لكل طالب شهوة ومتعة، فلما جاء هذا الدين لم يجعل المرأة مباحة إلا وفق ضوابط، وبين المحرمات من النساء بتفصيل دقيق كما في سورة النساء: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:22] إلى آخر الآيات، وكذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) مراعاة لمشاعرها وحفظاً لحقها.

التفضيل المقبول بين الرجل والمرأة

التفضيل المقبول بين الرجل والمرأة الأمر الخامس: تفضيل مقبول. فإن التفضيل الذي جُعل للرجال على النساء مقبول ونافع للمرأة نفسها، فإن الله عز وجل قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] فما هي هذه الدرجة؟ هي درجة القوامة للرجل على المرأة، لكنها ليست قوامة التسلط، وليس حقاً بلا مقابل، بل المقابل هو عز وخير ونفع للمرأة، فهي ملكة في بيتها يؤتى لها بنفقتها وتطلب من الرجل حاجتها، وهو يكدح ليوفر لها المسكن والملبس والمأكل، ويحفظها ويحوطها ويحميها مما قد تتعرض له من الأذى، ويكون قيماً على شأنها كله في مقابل أن تكون له القوامة والطاعة وتسيير دفة الحياة في الأسرة المسلمة، فهذا التفضيل ليس فيه احتقار، بل فيه منفعة ومصلحة، ولعل بعض الرجال يود أن يكون في البيت، وأن يكون هناك من يسعى ويعمل ليأتيه في آخر الشهر بمصاريف البيت ليأكل ويشرب وينام وهو مرتاح، وفي الحقيقة هذا إعزاز للمرأة وتكريم لها، أن تُخدَم وأن يكون هناك من يرعى مصالحها ويحفظ حقوقها ويحوطها من ورائها.

حفظ حقوق المرأة

حفظ حقوق المرأة الأمر السادس: حقوق محفوظة. فالمرأة في التصور والمنهج الإسلامي ليس لها حق ضائع أبداً إذا استعرضنا المنهج الإسلامي تفصيلاً، وهذا موضوع طويل جداً يستحق أن يفرد بحديث خاص؛ لأن فيه من التفصيلات ما يدل على عظمة هذا الدين، وعلى عظمة منزلة المرأة في دين الإسلام، لكني أقول على سبيل الإيجاز: للمرأة المشورة والرأي في أمر زواجها، فليست مغلوبة على أمرها، وقد ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الثيب تستأمر وأن البكر تستأذن). وعند زواجها لها الحق في المهر والصداق، وهو أمر واجب بدليل الكتاب والسنة والإجماع، كما قال الله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]. وعندما يكون هناك تعدد وتظن بعض النساء أن في هذا انتقاصاً أقول: كلا، فإن حقوقها مع ذلك محفوظة؛ إذ أمر الرجال بالعدل والإحسان عند التعدد، فليس الأمر متروكاً للهوى، ولا للتصرف الفردي، بل هو مضبوط بشرع الله عز وجل بحيث يحفظ للمرأة حقها في القسم بينها وبين ضرائرها وزوجات زوجها، وكذلك لابد له من العدل الواضح في كل ما يتعلق بالنفقة وأمور الحياة العامة، فليس لها حق مهضوم في هذا، بل حتى عندما يحصل الانفصال بالطلاق فإن لها العدة والمتعة والنفقة والصيانة، فليس الأمر في الطلاق نوعاً من إطلاق رصاصة الإعدام على المرأة، وليس هو إلغاء لوجودها، فهي عندما تتزوج ما تزال فلانة ابنة فلان، وليس كما يقول التقدميون المتأخرون: عندما تتزوج المرأة ينسى نسبها ويلغى ذكر أهلها وأبيها وتصير فلانة الفلانية نسبة إلى زوجها. فهذا هو الحق المهضوم والشخصية الضائعة والتبعية الكاملة، أما المرأة في ظل الإسلام فحقوقها محفوظة، وحتى إذا مات زوجها فإن عليها الوفاء له بهذه العدة التي شرعها الله سبحانه وتعالى عليها، ولها -كذلك- حق الميراث فيما ترك هذا الزوج وخلف من مال ومتاع، فهي على كل الأحوال لها حقوق محفوظة وأحكام ترعى لها مصلحتها.

استقلالها المحمود

استقلالها المحمود الأمر السابع: استقلالها المحمود. فإن الله عز وجل قد ذكر لنا من قصص المؤمنات ما يدل على أن المرأة مستقلة بشخصيتها، وأن هذا الاستقلال في كثير من المواضع يكون محموداً، إذ لو قلنا: إن المرأة لا شخصية لها مطلقاً بل هي تابعة. فإن هذه التبعية قد تؤدي بها إلى ما لا تحمد عقباه، فإن كانت بنتاً لأب وكان الأب كافراً كانت تبعاً له، أو كان فاسقاً كانت تبعاً له، وكذا إن كانت تابعة لزوج. لكن الله عز وجل ضرب لنا الأمثلة بقوله سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فامرأة فرعون وسط الطغيان في بيئة الكفر استقلت بشخصيتها وبرأيها، واهتدت إلى الإيمان والتوحيد والإسلام وسط بيئة الكفر والجحود والنكران. وذكر الله سبحانه وتعالى لنا من شأن النساء في القرآن صوراً كثيرة جداً تتصل بتميز شخصية المرأة، فهناك أمر طاعتها لربها واستجابتها لمولاها يتجسد في قصة أم موسى عليه السلام عندما أمرها الله عز وجل أن تضع وليدها في التابوت وأن تقذفه في اليم فاستجابت لهذا الإلهام الرباني. وتبدي لنا الآيات القرآنية صورة المرأة ذات الفطنة والحيلة والذكاء تتجسد في قصة أخت موسى عليه السلام لما أرادت أن تحتال لتعيد موسى إلى أمه حتى يرضع منها، قالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] فالتمسته بذكائها وفطنتها، وبأسلوب غير مباشر وغير لافت للنظر، في وقت كان التهديد عظيماً، والقتل مستحراً في كل من يولد ذكراً من أبناء بني إسرائيل، لكن هذه المرأة كان عندها من الفطنة ما أوصلها إلى حصول بغيتها كما قضى الله عز وجل وقدر. ويعرض لنا صورة المرأة بشخصيتها المتميزة في الموقف العظيم لـ أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي عليه الصلاة والسلام وأم المؤمنين رضي الله عنها لما جاء أبو سفيان ليوثق العهد ويطيل المدة بعد أن أخلت قريش بصلح الحديبية، فقصد بيت ابنته أم حبيبة لتكون شفيعة له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء ليجلس طوت عنه الفراش، فقال: لا أدري -يا بنية- أرغبت عني بالفراش أم رغبت بالفراش عني؟! فقالت له: إنك امرؤ مشرك نجس، وإن هذا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم! عجيبة هذه الشخصية للمرأة المؤمنة! فمن أين جاءت؟! لقد جاءت من توافر كل ما يؤيد وجودها وتقويتها في منهج هذا الدين. وكذلك نجد هذه الصورة في صورة البذل والفداء التي يعرضها لنا الله عز وجل في القرآن الكريم من خلال قصة امرأة عمران التي نذرت ما في بطنها أن يكون نذراً ووقفاً لله عز وجل كما هو معروف في القصة بطولها. كذلك يبين لنا شخصية المرأة من حيث شكواها بالنسبة للاعتداء على حقها واعتراضها لما قد يقع عليها من أذى، يتجسد ذلك في الآيات القرآنية في أول سورة المجادلة في قصة خولة بنت ثعلبة لما ظاهر منها زوجها، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكت له حالها بعد طول عشرتها، قالت له: نثرت له كنانتي، وربيت له أبناءه، ثم بعد ذلك قال: أنت علي كظهر أمي. وإني أخاف فتية إن تركتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا. فكان لها في شخصيتها وتميزها ما جعلها تبدي هذا الرأي وتشكو هذه الشكوى، والأمر في ذلك -أيضاً- طويل جداً.

المرأة درة مصونة

المرأة درة مصونة الأمر الثامن: أن المرأة في منهج الإسلام درة مصونة. فأحكام الشرع تدفعها إلى الصيانة والحفظ بحيث لا يوصل إليها، فهي كالدرة أو اللؤلؤة المخبوءة في الصدف في قاع البحر لا يصل إليها إلا من يبذل الجهد ويغوص ويبحث ثم يخرج هذه اللؤلؤة أو الجوهرة، فلا يخرجها إلا وقد سعى إليها وأخذها بحقها، ولذلك كان في تشريعات الإسلام الحجاب والستر وعدم الاختلاط بالرجال، كل ذلك يجعلها محفوظة وليست متاعاً رخيصاً يشترى ويباع كما هو حال المرأة في غير منهج الإسلام، وكما هو حال المرأة المستغربة في شرق الأرض وغربها ومن تبعها من بنات الإسلام، تجدها اليوم كأنها بضاعة تعرض، وإذا زاد العرض -كما يقولون- قل الطلب، وللأسف أنها تمتهن كرامتها ويعتدى عليها حساً ومعنى؛ لأنها خرجت عن دائرة هذا الإسلام. فالله عز وجل قد قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] ومنع المرأة من أن تأتي من الأمور ما قد يكون سبباً في الاعتداء عليها، فقال جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] حتى في أدق الأمور، قال عز وجل: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] وجعل للمرأة أن لا تنكح إلا أن تطلب وأن تمهر، فجعلت على هذه الصورة المشرقة الوضيئة التي فيها حفظها وصيانتها وكمالها بإذن الله عز وجل. ومن تصورات المرأة في ظلال الإسلام أن لها مزايا ممنوحة، فليست هي شيئاً عارضاً أو هامشياً في حياة المجتمع المسلم، بل لها كل الحقوق والمزايا الممنوحة، فلها حق التعليم، كما في الحديث المتفق عليه عند البخاري من حديث أبي بردة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) هذا حق لها، وكذلك ما توجه به النبي صلى الله عليه وسلم من وعظ النساء وتذكيرهن.

المشاركة المضبوطة في الحياة الاجتماعية

المشاركة المضبوطة في الحياة الاجتماعية الأمر الأخير: أن للمرأة مشاركة مضبوطة في الحياة الاجتماعية. فليست مشاركة المرأة متسيبة فوضوية، بل هي مشاركة إيجابية مضبوطة على غرار ما قالت عائشة رضي الله عنها: (كن النساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمرطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس) أي: ينصرفن مسرعات. فهذه مشاركة في أمر العبادة، ومشاركة في أمر المناسبات كصلاة العيد، كما في حديث أم عطية رضي الله عنها: (كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج الحيض وذوات الخدور فيكن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم) وهكذا كانت مشاركتها في سائر المجالات مضبوطة. فعندما ننظر إلى هذا التصور بشكل عام نرى كيف تكون المرأة المسلمة في ظلال الإسلام، فليست مغايرة للرجل في خلقة، ولا هي في منزلة أدنى منه، ولا تغايره بتكليف بعيد عنه، ولا بانعدام للمشاركة، ولا بحرمان من المزايا، ولا بأية صورة من الصور التي تؤدي إلى وأد إمكاناتها وقصور شخصيتها وضعف تكوينها، بل على العكس من ذلك.

صور حية للمرأة المسلمة

صور حية للمرأة المسلمة أنتقل إلى النقطة الثالثة، وتتعلق بصور حية للمرأة المسلمة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام. وهذه النماذج هي أمثلة قليلة لصور كثيرة توجه إلى الرجال الذين ينظرون إلى المرأة نظرة دونية لا يرون أن عندها أهلية لتعلم أو لدعوة، أو أن تكون بصيرة بأمر دينها أو عابدة لربها، بل نظرهم لها نظرٌ محدودٌ. وكذلك للنساء ليعلمن كيف كان نساء المسلمين في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا من وجهين: لتعلم الملتزمات الخيرات الصينات كيف كانت النساء على المراتب العالية في وجوه الخير. وأيضاً للنساء المفرطات المقصرات، عل ما يذكر في هذه القصص ينبههن إلى قصورهن وتفريطهن فيرجعن إلى الله عز وجل. فالحديث مقصود به الرجال ليعرفوا كيف كانت المرأة، وللنساء ليعرفن -أيضاً- كيف كانت أختهن من قبلهن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المرأة العابدة

المرأة العابدة الصورة الأولى: المرأة العابدة. لقد كانت المرأة كالرجل في ميدان التنافس على طاعة الله عز وجل، وهذا الحديث الصحيح يبدي لنا صورة مشرقة من هذه الصور، وهو حديث زينب (لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم ورأى حبلاً معلقاً، قال: ما هذا؟ قالوا: حبل لـ زينب تصلي، فإذا فترت أو تعبت تعلقت به. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ليصل أحدكم نشاطه، فإذا تعب فليرقد) وفي بعض الروايات عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يمل حتى تملوا). الصورة هي ذلك الحرص العجيب من زينب رضي الله عنها في عبادتها لله عز وجل، وقيامها الليل، ومبالغتها في أمر العبادة حتى على حساب راحتها، فهذا درس للمرأة التي تقضي ليلها في السهرات والزيارات، وربما مشاهدة الأفلام والتمثيليات، وربما في الغناء والرقصات، وكذلك ذكرى للرجل الذي قد ينظر إلى المرأة أحياناً نظرة احتقار وينام هو وإذا بزوجته قد قامت لتتوضأ وتصلي صلاتها وتؤدي وترها، وهذا يقع كثيراً، فإن كثيراً من الرجال الصالحين يرجع إلى بيته وقد ذهب هنا وهناك في بعض أمور الخير وفي بعض الأمور التي فيها تفريط وضياع للأوقات، فيأتي وينام والمرأة هي التي تقوم وتصلي في كثير من الأحوال، فلا ينظر إليها نظرة احتقار مع تقصيره هذا. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الرجل والمرأة ليكونا شريكين في هذا، كما في سنن أبي داود: (رحم الله امرءاً قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته، فإن لم تستيقظ نضح عليها شيئاً من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها، فإن لم يستيقظ نضحت عليه من الماء). هذه الصورة هي صورة المشاركة ومعرفة منزلة المرأة وسبقها في كثير ممن أبواب الخير وحرصها عليه، والذي يغلب على النساء -إن كن على خير وصلاح- أنهن في شأن العبادة أكثر سبقاً من الرجال، فإن البيئات التي فيها التزام نجد المرأة في غالب الأحوال أكثر قراءة للقرآن، وأكثر حرصاً على النوافل والرواتب، وأكثر توجهاً للبذل والإنفاق، وأكثر حرصاً على الذكر والدعاء.

المرأة المنفقة

المرأة المنفقة الصورة الثانية: المرأة المنفقة. والإنفاق في حد ذاته دليل على طبيعتها وفطرتها الطيبة، وعلى عاطفتها الرقيقة ومشاركتها الإيجابية في مشكلات المجتمع وفي نصرة الإسلام والمسلمين، وفي حديث مسلم لما ذكر في قصة بلال ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء أن يتصدقن قال في آخر الحديث: (وكان أكثر من يتصدق النساء) والحديث -أيضاً- عند البخاري بلفظ آخر، وقد قال ابن حجر رحمة الله عليه قولة جميلة لعلها مما يفرح النساء، ولكنها -أيضاً- توجب عليهن أن يكن مبادرات متأسيات بنساء الصحابة؛ لأنهن في ذلك الوقت بذلن حتى كان شأنهم كما ذكر في الرواية: (فكانت إحداهن تضع الفتخ والقرط) يعني: تضع شيئاً من الذهب والحلي التي تتجمل به المرأة. قال ابن حجر: وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين وحرصهن على امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقول: فيه دليل على ترفع المرأة عن الزينة وكونها ليست أسيرة للزينة والحلية وإن كان من طبعها أنها تحبها، لكنها إذا جد الجد ودعا داعي الخير فإنها تقدم دينها على حليها، وتقدم نصرة دين الله عز وجل على تجملها واستكمال ما يتعلق بحليتها.

المرأة المتوكلة

المرأة المتوكلة والمرأة المسلمة أيضاً متوكلة، وهذه صورة جميلة جداً تبين لنا أن المرأة. وإن كنا نعرف أن لها عاطفة رقيقة وطبيعة لينة لكنها بإيمانها تكون ذات توكل واعتماد على الله عز وجل عظيم. جاء عند البخاري ومسلم قصة جابر في غزوة الخندق، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما على النبي عليه الصلاة والسلام من شدة الجوع والتعب، فذهب إلى بيته فوجد عناقاً وشيئاً من الشعير، فقال لزوجته: لو أعددت طعاماً فأدعو رسول الله عليه الصلاة والسلام. وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: طعيم لنا يا رسول الله. يعني أنه قليل من الطعام، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يدعو المهاجرين والأنصار إلى هذه الوليمة التي لا تكفي إلا لعدد قليل. هذه الرواية جاء فيها أن جابراً جاء إلى زوجته وقال: ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معه. وفي الرواية الأخرى قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق. قال: فدخلت على امرأتي وقلت: افتضحت جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق أجمعين، فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ فقلت: نعم. قالت: الله ورسوله أعلم، ونحن قد أخبرناه بما عندنا. قال الرجل: فكشفت عني غماً شديداً. لما كانت متوكلة مؤمنة فهي تعلم أن الأمر مادام من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام فسيكون على صورة لا تعرفها، ولذلك قال: فكشفت عني غماً شديداً. واليوم نحن نعلم أن طبيعة المرأة أنه يكشف عنها الغم، لكنها إن كانت مؤمنة متوكلة كانت على غير ذلك، قال ابن حجر معلقاً على هذا: ودل ذلك على وفور عقلها وكمال فضلها.

المرأة الصابرة المحتسبة

المرأة الصابرة المحتسبة ونعلم جميعاً أن المرأة كذلك محتسبة تصبر وتتحمل، وحسبنا في ذلك الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: (أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى لترين ما أصنع -وفي رواية: اجتهدت عليه في البكاء- فقال: ويحك! أَوَهبلت؟! أوجنة واحدة هي؟! إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس). والشاهد أنها قالت: ما جزاؤه عند الله؟ فإن عرفت أنه في الجنة صبرت واحتسبت. ولابد من أن تكون المرأة المسلمة متأسية بهذا الجانب، فنحن نرى في كثير من نسائنا هلعاً وفزعاً لا يليق بإيمان المرأة المسلمة، فهي تخاف على ابنها من نسيم الهواء أن يخدش خده، كما قال القائل مبالغاً: أغار عليك من إدراك طرفي وأخشى أن يذيبك لمس كفي فأجتنب اللقاء حذار هذا وأعتمد التلاقي حين أغفي هذا الأمر الذي فيه نوع مبالغة في التحوط لا شك أنه لا يليق بالمرأة المسلمة، نعم قد يقال: طبيعتها محبة ابنها وخوفها على بنيها أو زوجها. لكنه لا يبلغ ذلك المبلغ؛ لأن عندها عصمة من الإيمان. وحسبنا -أيضاً- أم سليم وزوجها أبو طلحة، وقصتها معلومة حين كان ابن أبي طلحة مريضاً، وجاء إليها في الليل يسألها وكان ابنها قد مات، فقال: ما حاله؟ قالت: قد هدأت نفسه. وتعني أنه قد فاضت روحه، ثم تهيأت لزوجها وتصنعت له حتى عاشرها في ليلتها، فلما أصبح قالت له: ما رأيك في بني فلان كان عندهم عارية لقوم فلما جاءوا وطلبوها غضبوا؟ قال: العارية مستردة. فقالت: فإن ابنك كان عارية عندك وإن الله قد استرد عاريته. فغضب وذهب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يشكو صنيع هذه المرأة، فأثنى النبي عليه الصلاة والسلام على صنيعها، ودعا لها وله بالبركة، فرزق ذرية كثيرة صالحة طيبة كثر خيرها وطال عمرها، فهذا نموذج للمرأة المسلمة المحتسبة.

المرأة الداعية

المرأة الداعية وهذا نموذج للمرأة الداعية، وأذكر موقفين عجيبين ذكرا في الأحاديث الصحيحة: أولهما: ما يتعلق بقصة امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان خرج مع بعض أصحابه -كما قال عمران بن حصين - في سفر أو غزو، وأرادوا أن يأخذوا بعض الماء، فإذا هم بامرأة ومعها مزادتان تحملهما فيهما ماء، فسألها بعض الصحابة عن الماء، فقالت: إنه بعيد. أي: مسافته بعيدة. وهي كانت تحمل الماء، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بمائها ثم دعا فيه ففاض الماء حتى سقى القوم، ثم لما رجعت إلى قومها جعل الصحابة إذا أغاروا يغيرون على من حولهم ويتركون رهط هذه المرأة، وفي بعض الروايات أنها قالت لقومها لما رجعت: إني قد أتيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا. وهذه رواية البخاري، فهدى الله ذلك الصرم بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا. وفي رواية أوضح أنها قالت: ما أرى هؤلاء -تعني المسلمين- يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ تعني: يدعون غزوكم وهم يغزون هنا وهنا، ويغيرون على جيرانكم. فأطاعوها فدخلوا في الإسلام بدعوتها هي، ولا شك أن هذا أمر مهم. ونعلم -أيضاً- قصة أم سليم حين جاءها أبو طلحة يطلب الزواج منها وهو مشرك، فعرض عليها مهراً فأبت لأنه مشرك، ثم حضته فقالت: إن أسلمت تزوجتك. فجعل مهرها إسلام زوجها، فجعلت الزواج الذي كان يطلبه لحظ نفسه سبباً لإسلام هذا الرجل ودعوته إلى هذا الإسلام.

المرأة التي تطلب العلم

المرأة التي تطلب العلم والمرأة أيضاً كانت طالبة علم. وهنا مواقف كثيرة، لكني أقتصر منها على القليل، فمن ذلك الحديث الصحيح الذي فيه: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: غلبنا عليك الرجال -أو قالت كما في بعض الروايات: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك- فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله). فانظر إلى حرص طالبة العلم، وهذا للنساء وللرجال، فبعض الرجال لا يرى أن المرأة تطلب العلم أبداً، ولا تحتاج إلى أن تتعلم ولا تعرف أن تتعلم؛ لأن بعض الناس لا يتصور أن تكون هناك امرأة لها فقه وعلم ومعرفة بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن الأمر حكر على الرجال، مع أنني قد ذكرت أن من شيخات كثير من الأئمة نساء فضليات عالمات، فقالت هذه المرأة: (غلبنا عليك رجال -أو: ذهب الرجال بحديثك- فاجعل لنا من نفسك يوماً تأتينا فتعلمنا مما علمك الله. فجعل لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، وقال: اجتمعن في يوم كذا. فأتاهن وعلمهن عليه الصلاة والسلام) قال ابن حجر معلقاً على هذا الحديث: وفيه ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعلم أمور الدين. وصورة أخرى تذكرها عائشة في الحديث الصحيح، قالت: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. وليس الأمر كذلك فحسب، بل عند المرأة -وهي من سمات طالبة العلم- نوع من التمييز الذي يجعلها على أقل تقدير- إن لم تعرف خطأ القول فإنها لا تراه على الصحيح أو على الصواب، فتلتمس له تصويباً وتصحيحاً، وذلك ظاهر في حديث سبيعة بنت الحارث لما كانت تحت سعد بن خولة وتوفي في حجة الوداع وهي حامل، فلما طهرت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابك بن بعكك فقال: مالي أراك تجملت للخطاب، ترجين النكاح؟! والله لا يكون لك ذلك حتى تقضي أربعة أشهر وعشراً عدة المتوفى عنها زوجها. فما قنعت بقوله، وما كانت صاحبة عقل ضعيف، بل أخذت ثيابها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفتاها بأن لها أن تتزوج، قال ابن حجر مشيراً إلى هذه الفائدة: فيه ما كان في سبيعة من الشهامة والفطنة، حيث ترددت فيمن أفتاها حتى حملها ذلك على استيضاح الحكم من الشارع، وهكذا ينبغي لمن ارتأى أنه لا يستيقن بصحة فتوى من استفتاه. قال: وفيه مباشرة المرأة السؤال فيما ينزل بها ولو كان مما يستحيي النساء من مثله.

المرأة والسياسة

المرأة والسياسة وصورة أخيرة: المرأة ومشاركتها السياسية أو في الأمور المهمة العامة. وأذكر هذه الواقعة لـ خولة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لقيها عمر في الطريق فسلم عليها فردت عليه السلام واستوقفته تقول له: هيه يا عمر! عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تروع الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت. فقال الجارود: قد أكثرت على أمير المؤمنين أيتها المرأة. فقال عمر: دعها، هذه خولة امرأة أوس بن الصامت، قد سمع الله قولها من فوق سبع سماوات. وحسبنا موقف أسماء رضي الله عنها من الحجاج وقد دخل عليها بعد قتل ابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فقال لها: ما رأيت فيما فعلت؟ قالت: قد باعك دنياه بآخرتك. فأعجم وأحصر، ثم لم يعد إلى خطابها ولا إلى مواجهتها، ومعنى كلامها أنه قد ذهب ومضى وقتل، ولكن ذلك على حساب آخرة الحجاج، فكانت له واعظة. وفي الصحيح -أيضاً- مشاركة عظمى لـ حفصة، حيث دخل ابن عمر على حفصة وقال لها: أرأيت أمير المؤمنين لا يستخلف! وذلك لما طعن عمر قالت: فإنه سيستخلف. قال: لا أرى ذلك. قالت: فإنه ليستخلف. فهذه أيضاً مشاركة أو صورة من الصور المهمة.

المرأة المجاهدة

المرأة المجاهدة والمرأة كما أنها داعية وطالبة علم وغير ذلك هي -أيضاً- مجاهدة، فإن أحاديث كثيرة قد وردت في مشاركة المرأة المسلمة في الجهاد من خلال كثير من الأعمال التي تقوم بها، كما ورد في حديث أم عطية ومشاركتها في الجهاد، وكذلك حديث الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة. وفي حديث أم عطية: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.

المرأة البليغة القوية في الحجة

المرأة البليغة القوية في الحجة وأخيراً المرأة بليغة قوية الحجة، يظهر ذلك في الحديث الطويل والقصة التي وردت في حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها لما جاءت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو بين أصحابه وقالت: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك) هذه المبعوثة الرسمية من النساء، وهذا يدل على أن للنساء رأياً، فقد اجتمعن وتشاورن ورأين حاجتهن إلى أمر أو افتقارهن إلى إجابة سؤال، فبعثن من تقوم بهذا الأمر. وقد قالت هنا أسماء: أنا وافدة النساء إليك، ثم خاطبت الرسول عليه الصلاة والسلام وهو بين أصحابه، فقالت: (إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، إننا معشر النساء مقصورات محصورات، قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات، وشهود الجنائز والحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن أحدكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مجاهداً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفنشارككم في هذا الأجر والخير؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها؟ فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا أن امرأة تهتدي لمثل هذا -كأنهم رأوا في ذلك تميزاً وعقلاً واعياً ولفظاً جامعاً وحجة قوية وأدباً جماً في الوقت نفسه- فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: افهمي -أيتها المرأة- وأعلمي من ورائك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها يعدل ذلك كله. فانصرفت المرأة وهي تهلل). هذه صور حية هي عظة وقدوة لنساء اليوم، وهي كذلك تذكرة للرجال أن من بين النساء من تكون على قدم سابقة في الدعوة، وعلى قدم راسخة في العلم، وعلى إيمان واحتساب وتوكل وعبادة وخير عظيم ينبغي أن لا ينكر، بل ينبغي أن يذكر وأن يشكر، وكلنا أبناء لأمهات قمن بتربيتنا وبتوجيهنا وبتأديبنا، فلما شببنا عن الطوق وكبرنا نسينا أننا تخرجنا من مدرسة الأمومة، ثم بعد ذلك فئنا إلى ظلال الزوجة نحتاج منها إلى قضاء الوطر، ونحتاج منها إلى تهيؤ المستقر، ونحتاج منها إلى حفظ الأولاد والأموال، وننطلق بعد ذلك ونغفل عنها ولا نذكر لها فضلاً أو لا نعرف لها قدراً. وأيضاً تأتينا بعد ذلك بناتنا وهن من زهرة الحياة الدنيا، وكل ذلك ينبغي أن يكون مذكراً لنا بفضل المرأة ومكانتها. وأختم الحديث بأن أقول: إن الأمر المهم هو أن ندرك وأن نفهم تصور الإسلام ومنهجه للمرأة المسلمة، وأن نعرف أن هذا التصور أخرج لنا هذه الأمثلة، وقد رأيت واطلعت على صور كثيرة من مشاركة المرأة المسلمة مشاركة إيجابية في كثير من مناحي الحياة ونفعها للمجتمع المسلم، ليس من مجرد قصص وأخبار تأريخية، بل من الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما، وهذا ما كان إلا لهذا المنهج الإسلامي الكامل الشامل، وجاءت بعده هذه الصور، فنحن بين أمرين: لابد من أن نفهم المنهج، وأن نحسن التطبيق. وعدم فهم المنهج واختلال التصور فيه اختلالاً كبيراً يؤدي إلى عدم وجود أمثلة صحيحة نافعة، وفي الوقت نفسه فإن ضمور الأمثلة وعدم وجودها بين صفوف النساء إنما هو لعدم التزام المنهج، فإنه قد يفهم ولكنه لا يلتزم، ولذلك لابد من الأمرين. وكما قلت: إن حديثنا عن المرأة والدعوة سيستكمل -إن شاء الله تعالى- بذكر ما يتعلق باحتياجنا للمرأة الداعية، وسنتحدث عن مواصفات المرأة الداعية، وعن مجالات الدعوة النسائية، وعن العوائق التي تعوق المرأة في طريق دعوتها، وما يتعلق بأمور عملية ومشاريع وأفكار ينبغي لنا أن نطبقها وأن نحسن تطبيقها حتى ينتفع النساء وينتفع المجتمع بشكل عام. فإنه -على سبيل المثال- لابد من أن يحرص كل رجل على زوجته وبناته أن يحضرن مجامع الخير، وأن يسمعن الذكر عبر الشريط، وعبر حضور خطبة الجمعة في المسجد، وعبر حضور الدرس أو المحاضرة إن أمكن ذلك ولم يكن هناك مانع شرعي. وكذلك يسعى إلى أن يكون للنساء ارتباط بالأنشطة النسائية ومشاركة فيها، وأن يكون حريصاً على تفقيه أهله وتعليمهم، فإن لم يكن عنده القدرة أو العلم أو الوقت فإنه يسعى إلى أن يكون لهن صلة بنساء لهن حظ من العلم وخبرة وقدم في التربية والدعوة، فيحصل الخير بذلك إن شاء الله، وينفع بذلك نفسه وأهله. والله أسأل أن يوفق ويسدد.

الأسئلة

الأسئلة

صلاح المرأة صلاح للمجتمع

صلاح المرأة صلاح للمجتمع Q إن العلمانيين والذين يهدفون إلى تحرير المرأة وخروجها إلى العمل ومنافسة الرجال يقولون: إذا فسدت المرأة المسلمة فسدت أسرة كاملة، فما هو التفسير؟ وهل عكس العبارة مفيد للإسلام والدعوة الإسلامية؟ A نعم، إذا صلحت المرأة فإننا نكون قد أعددنا لبنة صالحة لإنشاء أسرة صالحة أيضاً.

معاونة المرأة لزوجها في الدعوة

معاونة المرأة لزوجها في الدعوة Q لا يخفى أن جزءاً من قيام المرأة بالدعوة أن تكون عوناً لزوجها الداعي على دعوته، فهذه مساهمة منها في الدعوة بطريق غير مباشر، ولنا في أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أسوة حسنة؟ A أقول: هذا جيد، لكن في التطبيق بعض الخلل، عندما تكون الزوجة داعية فهل يقف الزوج ليكون معيناً لها في دعوتها؟! سؤال يحتاج إلى إجابة عملية، فإن هذا جزء من العوائق. فإن كان عندها إمكانية أن تقوم بالدورين فهي تثبت زوجها وعندها قدرة أن تؤثر في بنات جنسها وأن تقوم بالدعوة بينهن فهذا أمر طيب. فإن الزوج إذا لم يكن ناظراً بالنظرة الصحيحة والتصور الذي أشرت إليه فإنه يقول: يكفيها أن تكون عوناً لي في الدعوة، ويعني بالعون هذا أموراً يتصورها هو، فلابد من أن تتزين له، ولابد من أن تقدم له طعامه، وأمور أخرى كلها من الأمور المادية وقليل من الأمور المعنوية اليسيرة، ولا ينظر إلى ما قد يمكن أن تفيد به نفسها وبنات جنسها من جانب آخر.

معنى حديث: (ناقصات عقل ودين)

معنى حديث: (ناقصات عقل ودين) Q نريد تفسير الحديث: (النساء ناقصات عقل ودين)؟ A ذكر أهل العلم هذا الأمر بشكل واضح، أما نقصان الدين فذلك أنهن يمكثن الأيام والليالي لا يصلين ولا يصمن وذلك في فترة الحيض، وأما نقصان العقل فشهادة اثنتين من النساء بشهادة رجل واحد، وليس في هذا نوع من الاحتقار، وإنما هو نوع مراعاة للفطرة، فإن المرأة بطبيعتها وبما شرع الله لها تقعد عن الصلاة والصيام في وقت الحيض، وتمتنع من قراءة القرآن ومن اللبث في المسجد وغير ذلك من الأمور المعروفة، وبالنسبة للشهادة فذلك لغلبة عاطفتها، وربما غلبة العاطفة يكون لها أثر في بعض الأحوال في ضعف الذاكرة، ومعروف أن المرأة تغلبها عاطفتها في كثير من الصور والأحوال. وصل -اللهم- وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المرأة والدعوة [2]

المرأة والدعوة [2] وجود المرأة الداعية بين بنات جنسها لا يقل أهمية عن وجود الرجل الداعية في المجتمع، وذلك لأن المرأة أعرف بهموم المرأة ومشاكلها واهتماماتها وما يؤثر عليها، وبالتالي تكون أجدر من الرجل في معالجة قضايا النساء ودعوتهن إلى الله، وينبغي للداعية المسلمة أن تعرف أهداف دعوتها، وما قد يعوقها، والصفات التي ينبغي أن تتحلى بها كداعية، وغير ذلك مما يجعل لدعوتها الأثر الأكبير ويزيل ما يعترضها من عوائق وعقبات.

أهداف الدعوة النسائية

أهداف الدعوة النسائية الحمد الله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين من العاملين والدعاة. أما بعد: فحديثنا هو عن الدعوة بالنسبة للمرأة المسلمة، أي: ما يتعلق بالأسس والأهداف، وبالفوائد والعوائد، وبالمواصفات والسمات، وبالعوائق والعقبات، وبالميادين والمجالات، وبما يتعلق أيضاً بذلك من الموضوعات. وأول هذه الأمور: أسس وأهداف، أي: الأسس والأهداف المهمة والرئيسة للدعوة بالنسبة للمرأة المسلمة. وهذا أمر تهم معرفته، سيما للنساء الداعيات على وجه الخصوص؛ لأن تحديد الأسس والركائز والأهداف هو المنطلق الذي يمكن بعد فهمه وإدراكه تعيين الأساليب وتحديد الخطط التي توصل إلى تحقيق هذه الأهداف. ولا شك أن الأهداف كثيرة من حيث التفريع، ولكنني أجملها في أصول تجمعها بإذن الله عز وجل.

إحياء الإيمان وتصحيح العقيدة

إحياء الإيمان وتصحيح العقيدة الأصل الأول: إحياء العقيدة والإيمان وتصحيح ما قد يكون من الانحرافات الشائعة والبدع الذائعة في صفوف المسلمات. ولا نشك أبداً في أن ضعف الإيمان سمة قد غلبت على كثير من المسلمين ذكوراً وإناثاً، وأن ألواناً من الانحراف قد سرت إلى مجتمعات المسلمين، ولذلك يعد هذا التصحيح وهذا التحريك والزيادة للإيمان هو أهم الأهداف والأسس والمنطلقات. ونرى في واقعنا أن هناك أموراً تفشو وتسري بين النساء أكثر من الرجال، سيما فيما يتعلق بالمعتقدات التي تتصل بالضر والنفع، فنجد بعض النساء -سيما الكبار منهن- ربما تعتقد في الحروز أو التمائم، وقد سرى -أيضاً- بين الناس أمر خطير بدأ ينتشر ويفشو، وهو ما يتعلق بالتعلق بالسحرة أو الكهنة ونحو ذلك. وهنا -أيضاً- صور من إفراط وتفريط متعلقة بمسائل الإيمان ينبغي مراعاتها وتصحيحها، وكذلك ما يتعلق بتقوية هذا الإيمان وزيادته وإحيائه وربطه بآثاره، فإن الإيمان ليس مجرد معرفة فحسب، وليس هو العلم المجرد، بل هو مرتبط بالعمل ارتباطاً وثيقاً، وقد جعل العمل جزءاً من الإيمان، كما في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بعض وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى من الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) أي: جزء منه لا يتجزأ. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة نفي الإيمان عمن لم يقم ببعض الأعمال، وذكر أهل العلم أن هذا النفي يعني نفي كمال الإيمان عمن لم يقم بمثل هذه الأعمال. ومن أهم ما يمكن أن يعين على ذلك الترغيب والترهيب بالنسبة للمرأة على وجه الخصوص، فتأثيره فيها أكبر ووقعه على نفسها أعظم، وهذا ميدان رحب واسع وأساس مهم عظيم.

تقوية الصلة بالله

تقوية الصلة بالله الأصل الثاني: تقوية الصلة بالله عز وجل من خلال العبادة مع رعاية تصحيحها وخلوها من الأخطاء، وتعلم أحكامها، وفهم مقاصدها، وكذلك طرائق استغلال الوقت فيما هو عائد على القلب والإيمان بالحياة والزيادة في الخير، وما هو عائد على الأجر بالزيادة عند الله سبحانه وتعالى. فلابد من أن يكون هناك تذكير للنساء المسلمات بأن عندهن من الوقت والفراغ ما ليس عند الرجال بحكم طبيعة أعمال الرجال وانشغالهم وكثرة عوارضهم ومشكلاتهم، فالمرأة في بيتها أقدر -وربما أكثر وقتاً وأكثر فسحة- على أن تقوم بتلاوة القرآن، والمواظبة على الأذكار، والمحافظة على السنن الرواتب وصلاة الضحى وصلاة الليل، فإن لها من فراغها ما يعينها على ذلك بشكل أكبر. ولا شك أن ركيزة العبادة من أهم الركائز، ولها آثارها السلوكية في حياة الفرد وفي حياة المرأة على وجه الخصوص، فالله عز وجل قد ذكر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وقال في شأن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]. وقال في شأن الحج: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]. وقال عز وجل في شأن الأضحية والفدية في الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. وذكر في شأن الصيام أنه مفض إلى التقوى ومحقق لها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. فالعبادة تهذيب للنفس وتطهير لها من أوضارها، وغرس للفضائل فيها، وانعكاس لكثير من الخيرات والفضائل على سائر الجوارح من نظر وسمع ونطق، وممارسة بكل جارحة من الجوارح.

الحث على فضائل الأخلاق

الحث على فضائل الأخلاق الأصل الثالث: الحث والتشجيع على فضائل الأخلاق المتصلة بالمرأة المسلمة على وجه الخصوص. وهذا ميدان مهم وأساس ركين فيما يتعلق بالدعوة في صفوف المسلمات، ولابد من أن يكون هناك جهد لرسم الصورة المشرقة للمرأة في المنهج الإسلامي، وبيان أنها درة مصونة محفوظة لها شخصيتها المستقلة ومشاركتها المنضبطة وحقوقها المحفوظة ورأيها المعتبر، وكل ذلك ينبغي أن يحاط بشأن الأخلاق من الحجاب والبعد عن الاختلاط والترفع عن كل ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه بعداً واجتناباً وحيطة وحذراً، فإن هذا الجانب الأخلاقي يعد من أهم الركائز أيضاً.

تقويم طرائق التفكير وترتيب سلم الأولويات

تقويم طرائق التفكير وترتيب سلم الأولويات الأصل الرابع: تعديل وتقويم طرائق التفكير، وترتيب سلم الأولويات، وتوضيح المهمات وغير المهمات. فإن الفكر والتوجه العقلي هو الذي ينبني عليه كثير من الأعمال، ونحن نعلم أن المرأة بفطرتها وطبيعتها قد تغلب عليها عاطفتها، ثم نعلم كذلك أن هناك غزواً مكثفاً لأفكار المرأة ينشأ عن هذا الغزو تلك الأنماط من الانحرافات السلوكية. فإذا كان هناك تركيز في الدعوة النسائية على تعديل طرائق التفكير وترتيب سلم الأولويات ومعرفة المهم وغير المهم فلا شك أن صياغة هذه العقلية وتشكيلها في ضوء منهج الإسلام ومن خلال ضرب الأمثلة من سير الصحابيات والمسلمات الصالحات في تاريخ الأمة المسلمة، لا شك أن هذا سيكون له أثر كبير في التوجه النفسي، فضلاً عن أثره العظيم فيما يتعلق بالممارسة السلوكية. ولا شك أن هذا أمر مهم جداً لابد فيه من التركيز على ضرورة تميز المرأة المسلمة ولفت نظرها إلى أن ما يشاع حولها من قضايا حرية المرأة أو شخصيتها أنه في الحقيقة مسخ لتفكيرها، فإن ما يشاع اليوم وما يمنح ويقدم للمرأة المسلمة عبر مجلات ثقافية أو نواد أدبية معظمه الأكبر يتعلق بأمور تافهة، فهو يجعل المرأة لا هم لها إلا أدوات التجميل وخطوط الموضة والأزياء، وما يتعلق بالأمور الطبية من عيادات التجميل أو شد الوجه أو غير ذلك. وليس هذا أمراً تتميز به المرأة في عقلها وتفكيرها، بل ينبغي أن يرقى تفكيرها إلى أمور أهم، ولذلك فإن صياغة هذا الجانب من الأمور المهمة أيضاً.

التعريف بالأحكام الشرعية

التعريف بالأحكام الشرعية الأصل الخامس: التعليم والتعريف بالأحكام الشرعية المتعلقة بالنساء على وجه الخصوص، ومعرفة دقائقها ومنافعها، والتوعية بقضايا المرأة التي تنتشر في مجتمعات المسلمين، كقضية تحديد النسل، وتأخير الزواج، وتعارض الدراسة مع الزواج، والتنبيه على موقع الأسرة في بناء المجتمع المسلم وأهميتها. هذا التعليم والتثقيف بهذه الأحكام هو من أعظم أسس الدعوة في مجال المرأة المسلمة؛ لأنه في الوقت نفسه من أعظم أسباب غزوها وتشكيكها في دينها أو ضعف صلتها بمنهج ربها. فلابد من رعاية هذا الجانب والتعليم لهذه الأحكام التفصيلية في نواح شتى ليس هذا مجال ذكرها.

تعرية المنكرات وبيان مفاسدها

تعرية المنكرات وبيان مفاسدها الأصل السادس: تعرية المنكرات وبيان مفاسدها الاجتماعية وآثارها السلبية على المرأة نفسها. فإنه لابد من أن توجه الأضواء لكشف المعايب على المنكرات التي فشت في مجتمعات المسلمين، وإظهار أن لها آثاراً سلبية تنتقص من شخصية المرأة ومن قيمتها ومن كرامتها، إضافة إلى ما يترتب عليها بعد ذلك من آثار مادية وحسية تنال من راحتها وهدوئها، بل تنال من شرفها وعفتها، بل تنال من حياتها وأمنها. ونحن نعلم ما تلقاه المرأة التي أعرضت عن أمر الله عز وجل، سواء في مجتمعات كافرة -غربية كانت أم شرقية- أو في مجتمعات إسلامية أعرضت عن أمر الله عز وجل نرى فيها كيف كثر الاعتداء على النساء، وكيف كثرت الجرائم. فهذه التعرية والتوعية من أهم ركائز وأسس الدعوة في صفوف النساء، ويستعان في ذلك بالإحصاءات وأحوال المجتمعات الغربية، ويركز على قضايا التبرج والاختلاط والسفر إلى الخارج، ونحو ذلك من هذه الموضوعات.

كشف مخططات الأعداء في المكر بالمرأة

كشف مخططات الأعداء في المكر بالمرأة الأصل السابع: كشف مخططات الأعداء واستهدافهم للمرأة المسلمة وتوفير جهودهم وتكثيفها للمكر بها. وهذا جانب مهم، وعندما يثار من خلال دعوة النساء يكون له أثره المحمود، فإن بعض النساء تمارس كثيراً من الأخطاء وهي لا تدرك أنها تحقق مخططات الأعداء. ولذلك -أيضاً- مجال واسع في نصوص كثيرة، وفي تجارب عملية يمكن للمرأة الداعية أن تضرب بها الأمثلة، وأن تذكر الصور الحية التي حلت ووقعت في مجتمعات المسلمين لتنبه المرأة إلى هذه المخططات.

إحياء روح المشاركة والاهتمام بأحوال المسلمين

إحياء روح المشاركة والاهتمام بأحوال المسلمين الأصل الثامن: إحياء روح المشاركة والاهتمام بأحوال المسلمين وأوضاعهم، واستشعار الواجب نحو النصرة لهم والإصلاح لمجتمعاتهم، ومعرفة ضرورة العمل وإيجابيته وعموم متطلباته للرجل والمرأة. فلابد من أن يكون هناك ربط للمرأة بهموم مجتمعها وأمتها المسلمة، وإذا ترسخ هذا الاهتمام فإنه بالمقابل تضمر الاهتمامات التافهة السخيفة التي ليست جديرة بأن تكون مشغلة لوقت المرأة ولا مضيعة لجهدها أو مالها. فإن هذا الجانب عندما يسلط الضوء عليه، وعندما تذكر حقائقه، وعندما تتابع أخباره، وعندما تتجسد من خلاله المأساة المتعلقة بأحوال المسلمين وما يلقون من المعاناة والأذى والإجرام وتسلط الأعداء عليهم، ثم من خلال بيان ما وقع في هذه المجتمعات من مخالفات لشرع الله عز وجل، وتنكب عن الصراط المستقيم، وإعراض عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الصورة تجسد عند المرأة المسلمة توجهاً نحو المشاركة، وأن تدرك أن عليها واجباً، وأنه لا يكتفى في هذه الأمور بدور الرجل وحده، بل لابد للمرأة من أن يكون لها دورها في صفوف بنات جنسها.

التركيز على رسالة المرأة في تربية الأبناء

التركيز على رسالة المرأة في تربية الأبناء الأصل التاسع: التركيز على الرسالة الكبرى للمرأة في بيتها وتربية أبنائها وصيانة أسرتها ورعاية زوجها. وهذا وإن كان قد يندرج في بعض ما مضى إلا أنه مستقل بذاته؛ لأنه يشكل الركيزة المهمة لتلافي كثير من الأخطاء في المجتمع المسلم، والإعداد لتغيير إيجابي جذري مستمر في مستقبل الأمة المسلمة، كما أنه هو الركيزة التي استهدفها الأعداء واستطاعوا من خلال إخراج المرأة ومن خلال قضايا تحديد النسل وغيرها أن يزعزعوا هذا البنيان وهذه اللبنة والوحدة الأساسية، فتزعزعت كثير من أركان المجتمع. ولذلك لابد من أن نعرف أن الأسرة ركن أساسي من أهم أهداف الدعوة في صفوف النساء.

العمل لمواجهة التيار الغربي

العمل لمواجهة التيار الغربي الأصل العاشر: ضرورة مواجهة التيار من خلال العمل والدعوة، وتشكيل رأي عام مواجه. فلابد من أن تدرك المرأة أن عليها واجباً في العمل والدعوة إلى الله، وأن التيار الجارف في شأن المرأة المسلمة على وجه الخصوص هو تيار تغريبي يعارض ويخالف تعاليم هذا الدين. وتدرك المرأة ذلك من خلال ضخامة هذه الموجة، فهي تعلم أن الموجة الإعلامية عبر الإذاعة المسموعة، والصورة المنظورة، والكلمة المكتوبة، والصور المطبوعة في المجلات؛ أنها كلها تشكل تياراً عنيفاً عاصفاً قوياً متعدد الوسائل عظيم الإمكانيات، لمسخ شخصية المرأة المسلمة وإبعادها عن دينها. هذا التيار لابد من أن تستشعر المرأة، وأن تركز أثناء دعوتها على أنه لابد من مواجهة هذا التيار، ولا تمكن مواجهة هذا التيار من خلال جهد الرجال أو دعوتهم فحسب، بل لابد من أن يكون للمرأة الدور الرائد في هذا؛ لأن لها تميزاً خاصاً في هذا الميدان تتفوق فيه من ناحية التأثير على المرأة والتغيير في أعمالها وتصوراتها أكثر من الرجل، فإنها أبصر بطبيعة بنات جنسها، ولسانها أبلغ في التأثير فيهن. فهذه أسس وأهداف الدعوة بين النساء.

الفوائد العائدة من وجود المرأة الداعية عليها وعلى المجتمع

الفوائد العائدة من وجود المرأة الداعية عليها وعلى المجتمع الأمر الثاني: فوائد وعوائد. أي: الفوائد التي تعود على المرأة وعلى المجتمع وعلينا جميعاً من خلال وجود المرأة الداعية وممارستها لدورها. إن كثيراً من الرجال ينظرون إلى مشاركة المرأة في ميدان الدعوة نظرة قاصرة فيها كثير من الخلل، ويمنعونها من قيامها بهذا الدور، أو يكونون سبباً من أسباب إضعاف هذا الدور، ولو كان ذلك من خلال موازنة معتدلة أو تقديم للأولويات لكان مقبولاً، لكنه في كثير من الأحوال يكون إعاقة ليس لها مقابل يفيد وينفع، وليست إعاقة في مجال ليركز الجهد في مجال آخر، بل إعاقة في مجال دون أن يكون هناك استثمار لطاقة المرأة. ونحن نريد بناتنا أن يكن ملتزمات صالحات، ونريد زوجاتنا أو زوجات أبنائنا في المستقبل أن يكن كذلك، ونريد أن يشيع الصلاح في صفوف المجتمع النسائي واللقاءات النسائية والمناسبات النسائية، وأن تكون مناسبات لمجتمعات إسلامية، فكيف يمكن أن يتحقق ذلك إذا لم يكن هناك المرأة المسلمة الداعية. وهذه الفوائد نجملها في عشر نقاط، بعضها متعلق بالمرأة الداعية نفسها وبعضها بالمجتمع.

شعور المرأة بالقيمة والفعالية

شعور المرأة بالقيمة والفعالية أولاً: القيمة والفعالية. تشعر المرأة التي تقوم بواجب الدعوة أن لها قيمة وأن لها فعالية يمكن من خلالها أن تشارك في الإصلاح، وأن تسهم في حل المشكلات وعلاج الأمراض، إن الحركة والدعوة تشعرها بأنها يمكن أن تقدم شيئاً، وعندما تقدم شيئاً وترى آثاره الإيجابية لاشك أن مردود هذا في ثقتها بنفسها وشعورها بقيمتها، وإحساسها بأن لها تأثيراً من أهم العوائد والفوائد التي تعود على المرأة الداعية.

اكتساب المرأة للعلم والثقافة

اكتساب المرأة للعلم والثقافة ثانياً: العلم والثقافة. إن ميدان الدعوة يتطلب من المرأة اطلاعاً دائماً وتزوداً ثقافياً مستمراً، وعندما تريد أن تعد لدرس أو تلقي محاضرة في المجتمع النسائي فإنها تحتاج إلى أن تستحضر الآيات والأحاديث والأحكام وسير النساء الصالحات، وهذا يدفعها إلى مزيد من التحصيل، ولا تبقى منشغلة في كل وقتها بسفاسف الأمور، أو بالقراءة في مجلات، أو بحل الكلمات المتقاطعة، أو غير ذلك مما يشغل كثيراً من النساء اللاتي لا يرتبطن بالدعوة ولا يبذلن شيئاً من جهودهن ووقتهن فيها، فإن ذلك يجعلهن بعيدات عن ذلك التحصيل.

اكتساب المرأة للحيوية والنشاط

اكتساب المرأة للحيوية والنشاط ثالثاً: الحيوية والنشاط. إن الحركة في الدعوة تبعد عن المرأة الكسل والخمول، وبعض النساء بطبيعة المجتمعات -خاصة التي ليس لها ارتباط بعمل في تدريس وغير ذلك- تقضي سحابة نهارها طريحة الفراش كأنما أقعدها المرض، فلا تستيقظ إلا قرب الظهر، ثم لا يكون عندها إلا قليل من العمل، خاصة إذا كانت تعتمد على الخادمة، فتبقى في كسل دائم وضعف مستمر كأنها شلاء عاجزة لا يمكن أن تتحرك ولا أن تنشط، بينما عملها في ميدان الدعوة يكسبها الحيوية والنشاط. كما أنها تدفع الملل عن حياتها الرتيبة التي لا تتجاوز حدود اهتماماتها، فهي عندما تشارك في الدعوة تحضر درساً في وقت، وفي وقت آخر تناقش مشكلة، وفي مرة ثالثة تدرس حالة من الحالات، وفي مرة رابعة تجمع المعلومات عن بعض المشكلات الاجتماعية، فيكون هناك حيوية ونشاط ودفع للملل، لا ذلك الكسل والخمول والرتابة التي تقتل شخصيتها وتطمر إمكانياتها وتهدد طاقاتها.

اكتساب المرأة للجدية والطموح

اكتساب المرأة للجدية والطموح رابعاً: الجدية والطموح. إن العمل الدعوي إذا خاضته المرأة وشاركت في بعض ميادينه ومجالاته يدفعها إلى استثمار الأوقات والجد في الحياة، فليس عندها وقت تضيعه؛ لأن عندها متطلبات، فهناك شيء يحتاج إلى تحضير، وهناك نساء يحتجن إلى أن تزورهن وأن تذكرهن بأمور دينهن، وهناك ما يستدعي منها بذل جهد أو وقت أو تفكير أو كتابة، فهذا يجعلها جادة. ويغلب علينا وعلى كثير من النساء في المجتمع أن النظرة للمرأة أنها ليست جدية في أمر من الأمور مطلقاً، وأنها لا تهتم إلا بالأمور التافهة، وأنها قد تبذل وقتاً طويلاً وفكراً عميقاً لتفكر في ابتكار تسريحة لشعرها أو لتمزج بين موضة وأخرى أو نحو ذلك. لكن عندما يكون هناك عمل دعوي تكون هناك جدية وارتفاع في الطموح، فلا تكون نظرتها في سفاسف الأمور، بل تكون نظرتها في قضايا الأمة وأحوالها وما نخر في مجتمع المسلمين من البلاء والفساد، وما سرى إلى بنات جنسها من الانحراف والتلوث الفكري والممارسة السلوكية البعيدة عن شرع الله عز وجل، ذلك كله يكون عندما تكون مرتبطة بالدعوة. فليس عندها الوقت للمبالغة في الزينة أو متابعة مستجداتها أولاً بأول ولحظة بلحظة، وكذلك ليس عندها حزن على ما يفوتها من هذه الأمور، بل تحزن إذا فاتتها فرصة الإسهام في نصرة هذا الدين والدعوة إليه.

محافظة المرأة على دينها وتنمية حسناتها

محافظة المرأة على دينها وتنمية حسناتها خامساً: المحافظة والنماء. إن محافظة المرأة على إيمانها أمر مهم، ونحن نعلم أن المرأة بحكم طبيعتها لا تشهد كثيراً من الجماعات، ولا تحضر كثيراً من الجمع، وقد لا تستطيع حضور كثير من الدروس، وفترة حيضها تحول بينها وبين الصلاة والصيام، فإذا كانت في ميدان الدعوة منشغلة به فإنها تبقى على ذكر من دينها، وتبقى محافظة على إيمانها وصلتها بربها، بل هي في نماء وزيادة؛ لأن معاناة الدعوة والغيرة على دين الله والحرقة على حرمات الله من أعظم الأسباب التي تغذي الإيمان وتزيده وتحافظ عليه.

تميز المرأة الداعية ومقاومتها للعادات الخاطئة

تميز المرأة الداعية ومقاومتها للعادات الخاطئة سادساً: المقاومة والتميز. عندما ترتبط المرأة بالدعوة يدفعها ذلك إلى مقاومة العادات والتقاليد الاجتماعية الخاطئة، ويجعلها أيضاً متميزة، فلا تكون مرتبطة بكل ما ترتبط به النساء من الأعراف والتقاليد، مثل أن لا تزور فلانة من الناس إلا إذا زارتها. فالمرأة عندما تنشغل بالدعوة وتعرف أن الناس غافلون، وتستحضر حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما ضرب لنفسه المثل وللمعرضين فقال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار) وكما قال الله عز وجل في وصفه عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] أي: أنت مهلك نفسك وأنت تتبع آثار القوم، وتغشى مجالسهم، وتذهب إلى بلادهم وديارهم، كأنك أنت المنتفع دونهم. عندما تستحضر ذلك لا تقيدها العادات والتقاليد عن الحركة والنشاط الدعوي. فالداعية من الرجال أو النساء عندما يتشرب مبدأ الدعوة يعلم حاجة الناس، فلا تنتظر المرأة أن لا تزور فلانة حتى تزورها، أو إذا أخطأت في حقها امرأة تقول: لابد من أن تعتذر. فعندما تتشرب المرأة فهم الدعوة وأهميتها يجعلها تتجاوز عن مثل هذه الأمور وتكون متميزة في شخصيتها. فإننا نعلم من طبائع بعض النساء في الأوضاع الاجتماعية المعاصرة أن عندهن أموراً عارضة تافهة تحول بينهن وبين كثير من الخير لأجل قضية بسيطة، مثل أن فلانة لم تسلم عليها أو لم تبتسم لها، ويمكن أن تقاطعها مقاطعة أبدية، أما الداعية فإنها تتجاوز مثل هذه الأمور.

الإقناع والإشباع

الإقناع والإشباع سابعاً: الإقناع والإشباع. وهذه مسألة مهمة، فوجود المرأة الداعية يقنع اللواتي ينظرن إلى المرأة في ظل الإسلام نظرة خاطئة ويغير هذه النظرة عندهن، ويثبت لهن أن منهج الإسلام يشبع حاجات الإنسان، ويحقق كيان المرأة، ويمكن من خلال منهج الإسلام أن تتعلم المرأة وأن تنشط، وأن تمارس دوراً في المجتمع. فهذا يكون له دوره الأكبر في إقناع هؤلاء النساء؛ لأن بعض النساء يغلب على أذهانهن أن الإسلام جعل المرأة مقيدة تقييداً كاملاً وليس لها أدنى مشاركة، وأنه حجر على عقلها ومنع مشاركتها برأيها ووأد طموحاتها. فعندما تتحرك المرأة في ميدان الدعوة فيراها النسوة امرأة متعلمة متكلمة متحركة إيجابية، تسعى إلى التغيير، وتبذل وتضحي؛ يكون هناك إقناع عملي وإشباع لهؤلاء النساء، فيتبين لهؤلاء النساء أن الإسلام جاء بالمنهج الكامل الذي يخدم جميع جوانب الحياة على جميع المستويات، للرجال والنساء، للصغار والكبار، للمادة والروح، وفقاً لما ذكر الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].

الحجة والإفحام

الحجة والإفحام ثامناً: الحجة والإفحام. هناك مقولة يشيعها من ليسوا راغبين في المنهج الإسلامي وتطبيقه، يقولون: أنتم تتحدثون عن المرأة وعن حقوقها وعن حجابها، فمن الذي جعلكم أوصياء عليها؟ لماذا تتحدثون باسمها؟ نريد أن نسمع كلمتها ورأيها. وقد يتجاوزون الحد فيقولون: إن المرأة التي تريدونها أن تتحجب هي لا تريد ذلك، بل ترغب في التحرر والانفتاح. ولذلك إذا وجدت المرأة الداعية كان هذا إقامة للحجة وإفحاماً لهؤلاء الخصوم، فإن الرجل عندما يدعو المرأة إلى تطبيق الآداب فذلك يختلف عما إذا كانت المرأة نفسها تطلب وتؤكد أنها مقتنعة بهذا الحجاب، وأنها متدينة لله عز وجل بذلك، وأنها ترغب في عدم الاختلاط، وأن ذلك فيه مصلحتها، فعندما تتكلم بلسانها تقطع حجة أولئك القوم وتفحمهم. ولذلك فوجود المرأة الداعية من أبلغ أسباب إقامة الحجة على العلمانيين والمتكلمين بغير منهج الإسلام؛ لأنهم -كما أشرت- يدَّعون أننا نتحدث بلسان المرأة بغير رأيها، وبغير ما تريد وما ترغب، فلنسكت نحن ولتنطق المرأة الداعية، ولتتكلم بلسانها ولسان بنات جنسها، ولتجعل هذا الكلام والمطالبة بتطبيق شرع الله هو الذي يجري على لسان كل امرأة مسلمة، حتى تخرس ألسن أولئك المستغربين والعلمانيين.

القوة والانتشار

القوة والانتشار تاسعاً: القوة والانتشار. إن الفساد الذي سرى في مجتمعات المسلمين فساد عريض كبير، وتراكم عبر سنوات طويلة، فإذا أردنا تغييره فلابد من أن يكون التغيير قوياً، ولابد من أن يكون منتشراً، فاقتصار هذا التغيير على أن يكون من مهمة الرجل وبدعوته فقط يجعل قوة التغيير وانتشاره محدودة، لكن عندما تشترك المرأة ويكون هناك الرجل الداعية والمرأة الداعية يعطي ذلك للتغيير قوة ومدىً في الانتشار أوسع، فإن الرجل لا يستطيع أن يتعامل في كثير من الأوقات مع الطفولة في مراحلها الأولى، بينما المرأة تستطيع، والرجل لا يستطيع أن يشبع الحاجات الدعوية والتعليمية والتوجيهية للمرأة؛ لأن لسانه واختلاطه بها لا يمكن أن يكون مثل لسان المرأة واختلاطها ببنات جنسها، ولأنه توجد صور من الانحراف بين النساء لا يمكن أن يعرفها الرجل، ولا أن يدرك غورها وتأثيرها وانتشارها وتغلغلها بين النساء كما تدرك ذلك المرأة، فإذا أردنا قوة في التغيير وانتشاره ومواجهته لذلك الانحراف العظيم الذي تراكم عبر السنين فلندرك أن من مصلحة المجتمع أن تكون المرأة مشاركة فيه بالدعوة إلى الله عز وجل بين بنات جنسها.

الإبداع والإصلاح

الإبداع والإصلاح عاشراً: الإبداع والإصلاح. فهناك -من خلال الحركات التحررية النسائية التي جاءت في أوائل هذا القرن، والاتحادات النسائية في كثير من البلاد العربية- ظن هناك وتوهم أن القدرات والإبداعات والأقلام السيالة والألسن الفصيحة ليست إلا عند هؤلاء النساء من غير الملتزمات من متبرجات أو متحللات أو منحرفات في فكرهن، ولذلك انظر اليوم لترى يميناً وشمالاً، فربما لا تجد من تكتب في الصحافة أو تنظم الشعر أو تشارك في بعض الميادين إلا من غير الملتزمات بدين الله. فوجود المرأة الداعية وظهور إمكاناتها يدل على أن هناك إبداعاً عند المرأة المسلمة، وإمكانية لتطوير فكرها وإعطائها صورة من القدرة على التخطيط والتنفيذ، والتنظيم، وإقامة المشروعات الإسلامية، وإيجاد الصور الاجتماعية الإيجابية، كل ذلك يمكن أن يوجد، فبدلاً من أن يكون في ظل غير الإسلام يمكن أن يوجد أيضاً في ظل الإسلام! فهذا إبداع يكون هدفه الإصلاح؛ لإن هناك في الطرف المقابل بعض صور الإبداع، لكنه إبداع انحرافي وليس إبداعاً إصلاحياً. فهناك -مثلاً-: نساء أديبات شاعرات عندهن قوة في الكلمة وقوة في البيان، وربما ممن يكتبن القصص، لكنهن يجعلن ذلك موجهاً إلى الانحراف والبعد عن دين الله عز وجل، فعندما توجد المرأة المسلمة وتتبلور شخصيتها من خلال مشاركتها ستوجد الكاتبة المسلمة والشاعرة المسلمة والمخططة المسلمة والإدارية المسلمة، وهذا سيجعل هناك إبداعاً لا يتعارض مع الإسلام، بل يكون في إطاره وضمن حدوده، ويتوجه نحو الإصلاح. وقد رأينا شاعرات مسلمات، فأين الكاتبات المسلمات؟ وأين القاصات المسلمات؟ أين ذلك الخطاب النسائي بلسان المرأة وكتابتها لبنات جنسها؟ غالب هذا الموجود في مجتمعاتنا لا يمثل وجهة الإسلام ولا يدعو إلى أهدافه وأحكامه. فهذه بعض الفوائد والعوائد التي تعود على المرأة والمجتمع من وجود المرأة الداعية، فلا يظنن ظان أننا يمكن أن نستغني عن وجود المرأة الداعية، وإذا استغنينا فإننا سنفقد كثيراً من هذه الصور، ولن نجد من يعلم بناتنا ولا من يكون قدوة لهن، ولا من تحسن التخطيط والتدبير والقدرة على التغيير، إلى غير ذلك مما أشرت إليه سابقاً.

صفات المرأة الداعية

صفات المرأة الداعية الأمر الثالث: مواصفات وسمات. أي مواصفات وسمات تتعلق بالمرأة الداعية، لتحاول المرأة التي تسير في نهج الدعوة أن تلتزم هذه المواصفات، وهذه الأمور فيها تفريعات كثيرة، لكنني أحاول أن أذكر أصولاً تجمع ما يتفرق من هذه الفروع.

الإيمان والالتزام

الإيمان والالتزام أولاً: الإيمان والالتزام. لابد من أن يكون عند المرأة الداعية إيمان صحيح لا تشوبه شوائب الابتداع ولا تنقضه بعض صور الشرك والانحراف، وأن يكون عندها إخلاص صادق ونية خالصة ابتغاء وجه الله عز وجل، وليس هناك رياء ولا سمعة ولا طلب لحظوظ الدنيا، وأن يكون عندها صدق توكل على الله، والتجاء إليه سبحانه وتعالى عندما تمر بها بعض المشكلات أو العوائق، فإن من مستلزمات الإيمان ومن صوره المشرقة صدق التوكل على الله وعظمة الثقة بالله سبحانه وتعالى. وأن يكون لها صورة الالتزام بالأحكام الشرعية وعلى رأسها العبادة من الفرائض والنوافل والصلة الدائمة بالله سبحانه وتعالى، فلا شك في أن هذا الأمر هو الأساس، وفكر بدون هذا الالتزام، أو علم بدون هذا الالتزام، أو تحرك بدون هذا الالتزام لا يمكن أن يكون له قيمة ولا أثر؛ لأن هذا هو الأصل الذي يبنى عليه ما بعده.

التصون والاحتشام

التصون والاحتشام الأمر الثاني: التصون والاحتشام. وقد يندرج فيما سبق، لكن تمييزه مهم جداً، فإن المرأة الداعية منظور إليها من قبل النساء، فكما أن الرجل الذي يدعو هو تحت المجهر فينظر إليه في كلامه وأفعاله كيف يكون، فإن أحسن كان لذلك أثر إيجابي، وإن أخطأ وجد أثر ذلك في انصراف الناس عنه، إذا كان ذلك حال الرجل فإن المرأة كذلك، وأعظم سمة ينبغي أن تتميز بها المرأة في ظل هذه الحملات التغريبية والصورة الانحرافية لبعض نساء المسلمين أن تكون حريصة على حجابها وتصونها واحتشامها، وأن لا تخرجها دعوتها عن حد الاحتشام، ولا تسلبها صفة الحياء، ولا تفقدها سمة الأنوثية، ولا يطغى هذا الجانب الدعوي فيجعلها تترخص في بعض هذه الأمور، بل ينبغي أن يكون هذا الأمر آكد أمر عندها وألزم واجب في حقها.

التفقه والمؤاخاة

التفقه والمؤاخاة الأمر الثالث: التفقه والمؤاخاة. لابد للمرأة الداعية من أن تكون على علم بشرع الله عز وجل، سيما ما يتعلق بشئون المرأة والأسرة، والأحكام المتعلقة بذلك من أحكام الحيض والنفاس والحجاب والطهارة وحقوق الزوجة على زوجها والزوج على زوجته، وأحكام الطلاق والعدة والإحداد. فهذا لابد للمرأة الداعية من أن تحرص قدر استطاعتها على أن تحوز أكبر قدر ممكن من العلم به، لأن سؤال النساء عنه كثير، فإذا كان عندها حظ من العلم فإنها كلما سألتها سائلة وجدت عندها جواباً، فيكون ذلك أدعى إلى ارتباط النساء بها وجعلها قدوة بينهن، وشعورهن بأن عندها من العلم ما يستحق أن يلجأن بسببه إليها إذا تعلمن على يديها. وهذا التفقه أساس يكمله الفهم والبصيرة في مقاصد الدين وكلياته، وكذلك الإدراك للواقع والوعي به، فإن هذا جانب والجانب الثاني يكمله وهو مهم. فلابد للمرأة المسلمة من أن تحيط قدر المستطاع بأخبار المسلمين وما يحل بهم، وكذلك ما يتعلق بالمرأة المسلمة على وجه الخصوص في هذه الأحداث، وليس من المقبول أن تكون المرأة منعزلة عن واقع المجتمع وما يجري في بيئة ودول الإسلام، بل ينبغي أن تكون محيطة بذلك ولو بحده الأدنى، لتحرك النساء وليشعرن أيضاً أن عندها من التميز والمتابعة ما ليس عندهن. ولو ركزت على جانب النساء فهو أفضل أيضاً، فعلى سبيل المثال: في محنة البوسنة والهرسك وفلسطين صور شتى، لكن يمكن أن تركز على صور العناء الذي يقع على النساء، وما وقع لهن من الاغتصاب وما جرى عليهن من الاعتداء، إلى غير ذلك من الأمور. ولابد أيضاً من أن يكون عندها نوع من الإدراك والمعرفة بواقع المرأة في المجتمعات الغربية والأوروبية والأمريكية، حتى يمكن أن تستثمر ذلك وأن توظفه في مجال الدعوة، ولابد من أن تدرك بعض الآثار التي وقعت للمرأة المسلمة من جراء الغزو التغريبي والعلمنة التي سرت في بيئات المسلمين، وتحرص في ذلك على أن يكون عندها متابعة للدراسات والإحصاءات والأخبار التي تنشر في بعض الصحف والمجلات، فإن هذا من أهم الأمور التي إذا حصلتها قد يكون لها تأثير في صفوف النساء كبير. وهذا أمر واسع جداً، ويمكن أن تكتسبه المرأة من خلال مطالعتها لبعض الكتب أو متابعتها لبعض الصحف، والأرقام والإحصاءات كثيراً ما تكون ذات تأثير بالغ، فإن هناك أرقاماً وإحصاءات عن الاعتداء على النساء في المجتمعات الغربية، وعن مناداتهن بالرجوع إلى البيت، وعن بعض الآثار من شيوع الفواحش ومن كثرة الاغتصاب ومن أولاد الزنا، هذا كله له أثره في ثقافتها وتفقهها ومعاصرتها لواقعها، مما يجعل لها شخصية يمكن أن تكون أكثر تأثيراً في النساء.

التميز والاستعلاء

التميز والاستعلاء رابعاً: التميز والاستعلاء. لابد أن تكون المرأة الداعية متميزة على غيرها، مستعلية على سفاسف الأمور التي تشيع بين الناس، وأعني بذلك صورة التميز في الجانب الاجتماعي على وجه الخصوص، فينبغي أن لا تكون مرتبطة بكل العادات والتقاليد التي فيها كثير من ضياع الأوقات، وبعض المخالفات أيضاً، فلا تكون منشغلة بمظهرها وزينتها، وإن كان هذا من حق المرأة، لكن هناك مبالغة بين صفوف النساء. فالمرأة الداعية لابد لها من أن تتميز في هذا الجانب، وأن تأخذ بحد مقبول أو حد أدنى، ولا يشغلها ذلك بصورة كبرى، فتكون عندما تنظر إليها الأخريات يقلن: إن فلانة -في الحقيقة- متميزة بجديتها مستعلية على هذه الأمور زاهدة في دنياها. فهذا بصورة أو بأخرى يعطيها قدراً من التميز. ولابد مع التميز من القدرة على الاستيعاب، لابد من أن تبتعد عن الحساسية المفرطة التي تقع بين النساء، فإذا سمعت كلمة أو رأت موقفاً ينبغي أن يكون عندها من سعة الأفق ورحابة الصدر ما تتعالى به عن هذه الأمور، ويكون عندها قدرة على الاستيعاب، فيكون عندها الابتسامة المشرقة الدائمة، والنفس التي تتلقى المشكلات وتمتصها، فإن هذا مهم جداً، ولا تكون ذات تدقيق في الأمور التي لا داعي لها، فلابد من أن يكون عندها بعد عن حظوظ النفس، وقدوة في الكلام والمظهر، وبعد عن الغضب والانفعال والقضايا العاطفية التي تقع في بعض المواقف النسائية.

البذل والعطاء

البذل والعطاء خامساً: البذل والعطاء. من أهم السمات التي تتميز بها المرأة المسلمة بذلها من جهدها ووقتها ومالها في سبيل الله عز وجل نصرة للمسلمين ودعوة لبنات جنسها، فعندما تنظر النساء إلى امرأة تبرعت بحليها تكون صورتها بينهن صورة القدوة التي تحتذى، وكذلك عندما يجدن أن المرأة قد تركت بعض زينتها لتبذل ذلك الوقت للدعوة إلى الله عز وجل وعندما يجدن أنها تشارك أحياناً مشاركة عملية مع زوجها أو مع محرم لها فتنجد المسلمات وتتفقد أحوالهن في بعض الميادين، ويكون ذلك على سبيل راحتها، وعلى سبيل سعادتها الدنيوية، فإن هذا مهم جداً في شخصيتها لتكوينها النفسي والإيماني والعملي، وكذلك هو مهم في صورتها التي تجعلها قدوة بين النساء.

الموازنة والاعتدال

الموازنة والاعتدال سادساً: الموازنة والاعتدال. من أهم هذه الصفات صفة الموازنة والاعتدال، فإن على المرأة حقوقاً تجاه زوجها، وتجاه أبنائها وتجاه بيتها، وتجاه دعوتها، فينبغي أن لا تفرط في جانب على حساب جانب؛ لأن ذلك سيربك حياتها كلها، وسيعطل جميع مناحي مشاركتها، فإذا اندفعت مع دعوتها وأهملت زوجها، فلاشك أنه سيطالب بحقه وسيكون محقاً في منعها أو في معارضتها في هذا المجال الذي تكون فيه، وإذا اعتنت بشأن بيتها وزوجها، وقصرت وامتنعت ولم تشارك من قريب ولا من بعيد، ولا بقليل ولا بكثير في أمر دعوة النساء وتذكيرهن وتعليمهن، وعندها الإمكانات وعندها العلم وعندها الفهم والإدراك فلا شك أنها تكون قد قصرت في ذلك. لذلك لابد للمرأة الداعية من ترتيب الأولويات، ولابد لها من استغلال الأوقات، ولابد لها من التنظيم والتخطيط، فلا تكون المرأة الداعية عفوية، ولا عاطفية، ولا تجعل نفسها دون ترتيب، فإذا اتصلت بها امرأة لتدعوها إلى دعوة أجابت مباشرة، فينبغي أن تكون عندها أولويات وتخصيص وترتيب للأوقات، وموازنة في هذا الجانب، فهي إذا رتبت أمرها بحيث يكون عندها درس في الأسبوع، ومحاضرة في الشهر، فإذا جاءتها دعوة من غير ترتيب مسبق، ومن غير وقت كاف، فإنها ترفض هذه الدعوة ولو كانت مهمة في بعض الأحيان؛ لأنها ينبغي أن تكون عندها أولويات وتخصيص وترتيب للأوقات، وموازنة في هذا الجانب. فإذا رتبت أمرها ثم جاءتها دعوة من غير ترتيب مسبق، ومن غير وقت كاف فإنها ترفض هذه الدعوة ولو كانت مهمة في بعض الأحيان؛ لأنها سوف تربك أولوياتها، وتخلط أوراقها، بل قد تجعلها تقصر في بعض حقوقها، وهذه مسألة قد يقع فيها تجاوز نظراً للحالة بعينها، لكن في الإطار العام لابد من هذا الترتيب؛ لأن المرأة ليست مثل الرجل يمكن أن تخرج في أي وقت، ويمكن أن تشارك في أي عمل، فلابد من أن ترتب نفسها وأن تعد برنامجها بالموازنة والاعتدال، حتى تستطيع أن تشارك وأن تؤدي الدور من دون حيف ولا تقصير.

المعرفة والمبادرة

المعرفة والمبادرة سابعاً: المعرفة والمبادرة. وأعني بالمعرفة معرفة الأوضاع النسائية على وجه التفصيل والدقة، فلا ينبغي للمرأة الداعية أن تكون بعيدة غير مختلطة ولا عارفة بما يجري في مجتمعات النساء، والمصطلحات اللاتي يتداولنها، والمسميات التي يستخدمنها، والعادات التي تجري بينهن، فإن علمها بهذا من أعظم أسباب قدرتها على التوجيه والإصلاح. ولابد من أن يكون عندها روح المبادرة، فإن الطبيعة التي تغلب على بعض النساء من الحياء أو الإحراج أو غير ذلك، قد تمنعها من أن تؤدي دورها وأن تقوم بواجبها في الدعوة، ولا يعني ذلك أن تكون مندفعة أو متهورة، لكن ينبغي أن لا يكون عندها ذلك التحسس والإحراج الذي يمنع كثيراً من النساء من العمل الدعوي والقيام بواجب الدعوة.

التعقل والاتزان

التعقل والاتزان ثامناً: التعقل والاتزان. أعني به التفكير والتخطيط والبعد عن الاندفاع العاطفي، ومعرفة الاستعدادات والإمكانيات، فينبغي أن تعرف استعدادات النساء وإمكانياتهن، وأن تجعل لكل فئة من النساء أسلوباً معيناً وخطاباً محدداً، فالكبيرات في السن من النساء لهن خطاب وإمكانات غير ما للصغيرات من طالبات المدارس والجامعات، واللواتي سبقن إلى الصلاح لَسْن مثل غيرهن من اللواتي انحرفن أو انجرفن في بعض مجاري ومسالك الفساد. فلذلك لابد من أن يكون عندها تعقل فيما تطرح من أمور الدعوة، ولابد من أن يكون عندها معرفة بأنه لابد من التدرج في بعض أساليب الدعوة، سيما في التنفيذ والتغيير، ولابد من أن يكون عندها تعقل في النظرة المستقبلية ودراسة للسلبيات والإيجابيات المتوقعة أثناء مسيرتها في عمل الدعوة، وهذه أمور تخضع لجوانب كثيرة تحتاج إليها المرأة المسلمة الداعية تستكمل من خلال ما سلف من الأمور. فإذا كانت مؤمنة ملتزمة وعالمة مدركة للواقع، وكانت متميزة متابعة مستوعبة بطبيعتها النفسية والفطرية قادها ذلك إلى أن تكون متعقلة قادرة على ترتيب وتخطيط الأمور.

التجديد والابتكار

التجديد والابتكار تاسعاً: التجديد والابتكار. فإن المرأة عندها قدرة على التجديد والابتكار والتنويع، فلتجعل هذه القدرة في الدعوة، وبدلاً من أن يصرف التجديد والابتكار في الموضة والأزياء وديكور المنزل فحسب، فليصرف في أساليب الدعوة، فمرة عبر بطاقات، ومرة عبر شريط، ومرة عبر حوار، ومرة عبر مشهد، ومرة عبر أسلوب آخر من أساليب الإهداء، فهذا التجديد والابتكار يجعل للدعوة قبولاً عند النساء، ويجعل هناك الحيوية التي لا تجعل الملل يتسرب إلى العمل الدعوي في صفوف النساء.

ميادين ومجالات الدعوة للمرأة

ميادين ومجالات الدعوة للمرأة رابعاً: ميادين ومجالات: وأعني بها ميادين ومجالات الدعوة للمرأة المسلمة. فهناك مجالات كثيرة جداً، وهذه المجالات تجعل حديثنا إلى المرأة المسلمة حديث من يعتب عليها في عدم استغلالها لهذه المجالات، ومن لا يعذرها في أن تقوم بواجبها في هذه الميادين.

المجال التعليمي

المجال التعليمي أولاً: المجال التعليمي. تكتظ المدارس بالطالبات، وتمتلئ الجامعات بهن أيضاً، وهذه الفئة من الشابات هن أمهات المستقبل القريب، وهذا المجال التعليمي من أهم المجالات التي ينبغي أن تطرقها المرأة المسلمة الداعية، فالمُدرِّسةُ التي حباها الله عز وجل علماً وإيماناً والتزاماً لابد من أن تستشعر أن هؤلاء البنات أمانة في عنقها، وأن توجيههن وإرشادهن إلى الخير واجب لازم عليها، وأنها لابد من أن تستغل كل صورة ممكنة وكل وقت متاح للتأثير عليهن، سيما مدرسات التربية الإسلامية اللواتي يدرسن مواد الدين من توحيد وفقه وحديث وثقافة إسلامية، لابد من أن يكون هناك استغلال لهذا المجال، وأنشطة إسلامية توجه الفتيات المسلمات في مجال التعليم. وهناك -بحمد الله عز وجل- قنوات متاحة، فهناك وحدات للتربية الإسلامية، أو مجالات لأنشطة الدعوة الإسلامية، مثلما يكون هناك جمعيات علمية وغيرها، فهناك -أيضاً- نشاط الدعوة الإسلامية في المدارس وفي الجامعات ينبغي بذل الجهد والطاقة بكل وسيلة ممكنة لاستغلاله واستثماره، فنحن نشكوا ويشكو غيرنا من وجود صور من الانحراف وتبادل الصور والرسائل وغير ذلك في مدارس الطالبات، وكذا في الجامعات، فهؤلاء سوف تنتشر هذه الممارسات الخاطئة والسيئة إلى غيرهن إن لم تقم المرأة الداعية من مدرسة أو طالبة بدورها الإيجابي في الدعوة، ويمكن أن نذكر هنا بعض الأمور: أولاً: القدوة، سيما في المُدرِّسة، فالمُدرِّسة وشخصيتها لها أثر كبير في الدعوة في هذا المجال، ونحن نعلم أن الجانب العاطفي في المرأة يجعلها إذا أعجبت تعلقت، فالطالبة التي تعجب بالمدرسة وترى فيها تميزاً في علمها وسمتاً وحرصاً من هذه المعلمة على الإرشاد والتوجيه تتعلق بها، وإذا تعلقت بها فإنها في غالب الأمر تتقبل منها وتجعلها مستودع سرها، وتجعلها المرجع لحل مشكلاتها، وتجعلها المستشار لرأيها عندما تعرض لها أية قضية تحتاج فيها إلى رأي أو إلى قرار، وهذا يجعل المدرسة قادرة على التوجيه والتربية، فلتحرص المدرسة على أن تكون قدوة وأن تكون متحببة متقربة إلى الطالبات مختلطة بهن حتى تكسب قلوبهن، وتستطيع أن تؤثر على عقولهن، وأن تغير من سلوكهن، ولا بأس في هذا الصدد أن يكون للمدرسة علاقة بأم تلك الطالبة، حتى تعرف منها بعض الأخبار، وأن تتعرف على أسرتها إذا استطاعت، ولو من خلال المحادثة الهاتفية، فإن ذلك يعمق القدرة على التأثير في هذا الجانب. الجانب الثاني: استغلال الأنشطة والقيام بها من خلال بعض الدروس والمحاضرات وتوزيع الأشرطة والكتيبات والمشاركات الاجتماعية من خلال أمور أخرى سيأتي ذكرها، فيمكن أن تمارس في المدارس وفي الجامعات، وهذا مهم جداً، ويكفي أن نعلم أن عدد الطالبات في المدارس الثانوية أكثر من عدد الطلاب، وعلى سبيل المثال: يبلغ عدد الطالبات في المرحلة الثانوية -فقط- في مدينة جدة وحدها أكثر من ثماني عشرة ألف وخمسمائة طالبة، فانظر إلى هذا الكم لو أحسنت المدرسات أو الداعيات من غير المدرسات عبر بعض الأنشطة الرسمية من المحاضرات والندوات، لو أحسن وبذلن الجهد في التحضير والإعداد وفي المشاركة والإلقاء وفي المتابعة والتقويم، فلاشك أن هذا التأثير سيؤتي -إن شاء الله عز وجل- ثماراً جيدة وحسنة.

المجال الدعوي

المجال الدعوي ثانياً: الميدان أو المجال الدعوي. وأعني به مؤسسات من طبيعة عملها الدعوة، مثل قسم النساء في الإغاثة، أو قسم النساء في الندوة، أو القسم النسائي في جماعة تحفيظ القرآن، فإن هذه الأقسام من طبيعة عملها أن تقدم المحاضرات والندوات، وأن توزع الأشرطة والكتيبات، وأن تقيم الأنشطة التي تعرف بأوضاع المسلمين وما جرى لهم، والأحداث الواقعة في مواقع ومواطن شتى، هذا كله ينبغي أن تستنفذ الداعيات الجهد فيه، خاصة في مجال تحفيظ القرآن ونشره بين النساء وبذل الجهد لأن يكن مدرسات في هذه المدارس، وأن يقمن بإعداد برامج للمحاضرات والدروس العلمية، والدورات التخصصية من خلال هذه الميادين النسائية وما يلحقها من أنشطة أخرى، مثل بعض المراكز الصيفية، أو المدارس التي تعد بعض الدورات الخاصة بالنساء، والبرامج الثقافية المستمرة مثل المحاضرات الأسبوعية أو الشهرية، فهذا ميدان رحب خصب لابد من أن تبذل النساء الداعيات فيه جهداً مضاعفاً قدر المستطاع.

المجال الاجتماعي

المجال الاجتماعي ثالثاً: المجال الاجتماعي. وأعني به بعض جمعيات النفع العام، وهذا خطاب إلى المرأة المسلمة الداعية على وجه الخصوص، فلابد من أن تشارك في هذا المجال، والجمعيات النسائية يغلب عليها أنها تهتم ببعض الظواهر البسيطة وبعض المعارض الخيرية، مثل ما يسمونه (يوم الطفولة). فينبغي للنساء المسلمات أن يشاركن في هذه الجمعيات، وأن يكون لهن دور في تقديم المنهج الإسلامي عبر الكلمة وعبر المشاركة في بعض هذه البرامج، إضافة إلى مناسبات اجتماعية كثيرة فيها صور شتى لممارسة الدعوة، مثل الأفراح، ونحن نرى اليوم -بحمد الله عز وجل- بعض الصور الإيجابية بدلاً مما كان فيما سلف، فقد كان هناك مغنية أو راقصة أو غير ذلك، وأصبح هناك اليوم كلمة من امرأة داعية وإنشاد إسلامي وبعد عن المحرمات، فهذه المشاركة -أيضاً- من أهم المشاركات؛ لأنها تتصل بقطاع عريض من النساء، وتنبههن إلى خطر تلك المخالفات الشرعية، مع التركيز وانتهاز الفرصة لبيان مزايا الأسرة المسلمة وواجباتها، إلى غير ذلك من الصور التي يمكن استغلالها. أيضاً من المناسبات الاجتماعية العزاء، وقد يجتمع النساء في العزاء أكثر من اجتماع الرجال، وجلوسهن أكثرُ وقتاً من جلوس الرجال، ووقتهن يكون أنسب أحياناً، فاستغلال هذا من الداعيات لتذكير النساء بالموت وبالآخرة وتنبيههن إلى واجباتهن وغير ذلك أمر مهم محمود، وهو -بحمد الله عز وجل- بدأ يشكل ظاهرة في كثير من مجالس أو مجامع النساء في العزاء، فأصبحت الداعيات -بحمد الله- يبذلن جهداً في هذا لمجال. هذا إضافة إلى صور أخرى من صور الدعوة غير المباشرة من خلال أمور اجتماعية، مثل الأسواق الخيرية أو الطبق الخيري أو المعارض الإسلامية، أو استغلال المناسبات الأسرية على مستوى العائلة كلها، فهذا -أيضاً- مجال واسع وخصب.

المجال الإعلامي

المجال الإعلامي رابعاً: المجال الإعلامي. لابد من أن تشارك المرأة في مجال الكتابة، سيما في الصحافة الإسلامية النسائية، فإن كتابة المرأة عن موضوعات المرأة أبلغ، والنساء يقرأن ما تكتبه النساء أكثر مما يقرأن ما يكتبه الرجال، فلماذا لا تشارك المرأة في هذا المجال؟ حتى من خلال تأليف الكتب والرسائل، فإن الكتابة أيضاً وسيلة إعلامية يمكن أن توصل بها المرأة الداعية كثيراً من الأفكار والتوجيهات والإرشادات إلى قطاع عريض من النساء. وهنا تقصير غير قليل في هذا الجانب، فنحن لا نرى الكم الكافي ولا المشاركة الفعالة من النساء الداعيات في هذا الميدان، وتركت الساحة لغيرهن، وربما اشتهر بعضهن ممن كثرت مشاركاتهن وراجت بين كثير من النساء. وهناك ميادين شتى، فكل مجلة إسلامية فيها قسم للمرأة المسلمة، بل بعض المجلات -مثل مجلة النور السعودية- نصفها مخصص للمرأة المسلمة والطفولة وغير ذلك، والمرأة أخبر بهذا، فلماذا لا تشارك ولا تكتب ولا تجعل مشاركتها في الدعوة متنوعة عبر اللسان ومن خلال القلم، وأيضاً من خلال الصورة العملية؟!

المجال الأسري

المجال الأسري خامساً: المجال الأسري. وهو من أهم المجالات، وما أخرته لأنه أقل أهمية، لكن لأنه من الأمور البدهية التي نعتبر أن ممارستها لا تحتاج إلى التنصيص عليها، فالمرأة يمكن أن تكون داعية لزوجها، وكثير من النساء الصالحات ربما كان أزواجهن من المقصرين ومن الذين يضيعون أوقاتهم في السهر واللعب ومن المقصرين في أداء العبادات، ويمكن للمرأة بأسلوبها الحسن وبطريقتها الحكيمة أن تكون داعية لزوجها. ولاشك أن أبناءها هم أهم ميدان لدعوتها من خلال تربيتهم وتحفيظهم لكتاب الله عز وجل، وتحفيظهم للأذكار من صغرهم، وتعليمهم الآداب الإسلامية، وتحذيرهم من المخاطر المترتبة على الانحراف والبعد عن دين الله عز وجل، سيما النساء أو الفتيات أيضاً، فالمرأة عندما يكبر الأطفال ويصيرون شباناً ربما يكون دورها معهم أقل، ويكون دورها مع الفتيات أكبر، فلتعتن بهذا الجانب. حتى المنزل يمكن أن تجعله المرأة صورة من صور الدعوة، فلماذا لا تجعل في مجلس الضيوف حاملاً توضع فيه بعض الكتيبات وبعض النشرات المطوية، فإذا جاء الرجال إلى زوجها وجدوا هذا؟! وأحياناً يكثر الانتظار في بعض المناسبات، أو يمكن أن يكون هناك مجال للمشاركات، فلماذا -أيضاً- لا تعمل في موضع ضيافة النساء بعض الآيات أو بعض اللوحات والتذكيرات؟! ولتستخدم في ذلك بعض الأساليب مثل اللوحات الحائطية، وليست مجلة حائطية، حتى لا يقال: إنها ستحول البيت إلى مدرسة! لكن هناك صور شتى يمكن أن تلفت النظر، كأن تجعل البيت ليس فيه شيء من المحظورات الشرعية مثل التماثيل أو الصور المعلقة أو غير ذلك، فهذا كله له أثر وانطباع في كون بيتها يمثل الدعوة أو يعكس صورة الدعوة على الآخرين.

المجال العملي

المجال العملي أخيراً: المجال العملي الذي تمارس فيه المرأة مع النساء مشروعات عملية تنفيذية، ويمكن أن تشارك في هذا من خلال إعداد بعض البحوث والدراسات والإحصاءات للظواهر المتعلقة بالنساء كظاهرة الطلاق، فهي تنتشر وتزيد، والمرأة هي الأقدر على أن تقوم بعمل ميداني في معرفة هذه الظاهرة واستفتاء النساء فيها وإعداد الدراسات حولها، ويمكن أن تشكل مع بعض أخواتها جمعية أو مشروعاً عملياً لتشجيع الزواج المبكر، أو لمنع أسباب الطلاق، أو لغير ذلك من صور عملية أخرى. ويمكن أن تشكل -أيضاً- أعمالاً اجتماعية خيرية فتدعو أخواتها لمشاركة في كفالة الأيتام، أو لمشاركة في طباعة الكتب ونشر الأشرطة بين النساء، أو غير ذلك من الصور العملية الإيجابية التي تتركز في الجوانب السابقة التي أشرت إليها، ولا بأس بأن نلحق بذلك الموضوعات التي يمكن أن تطرقها المرأة الداعية في أثناء دعوتها، وربما لها تعلق بما سبق، ولذلك لا أذكرها إلا على سبيل السرد فحسب، لأنها من الموضوعات التي لو أحسنت المرأة الداعية تحضيرها فيها لأمكن أن تفيد الأخريات معها إن شاء الله عز وجل. فمن ذلك: قضايا المرأة الشخصية والاجتماعية والنفسية والتربوية، وموضوعات تربية الأبناء، وموضوعات العلاقات الزوجية، وقضية تعليم المرأة، وقضية عمل المرأة، وقصص النساء في القرآن الكريم، وقصص الأبناء في القرآن الكريم، وموضوعات إيمانية، وموضوعات المناسبات كرمضان والحج وغيره، والموضوعات التربوية، والحقائق والأرقام فيما يتعلق بالعفة، ودور المرأة في تكوين الأمة، وما يتعلق بحكم الدعوة بين النساء. فهذه بعض الموضوعات التي يمكن أن تطرقها المرأة.

عوائق وعقبات تعترض الداعية المسلمة

عوائق وعقبات تعترض الداعية المسلمة وآخر نقاط هذا الموضوع الأساسية: عوائق وعقبات تعترض طريق المرأة الداعية. وهذه أيضاً نقطة مهمة لابد من تسليط الضوء عليها؛ لأن هذه العوائق مشتركة بين المرأة والرجال متمثلين في الأزواج والمجتمع -أيضاً- بشكل عام.

عائق الضعف

عائق الضعف هناك عوائق متعددة، منها ما يتعلق بالمرأة نفسها، ومن أهم هذه العوائق الضعف. وأعني بذلك صوراً كثيرة من الضعف سأسردها سرداً دون تفصيل، فهناك ضعف في الإيمان عند بعض النساء اللواتي يرغبن في الدعوة وربما ينبعثن لها، يتمثل هذا الضعف في الركون إلى الدنيا والخوف على المصالح والوظائف، والحرج من الخروج عن المألوف. وهناك جانب آخر وهو ضعف الثقة في النفس. وهذا من أهم المعوقات، فإن بعض النساء عندهن قدرة وعلم، وقد تخرجن من جامعات في كليات شرعية وغير ذلك، لكنها تهضم نفسها حقها وتحتقر نفسها، وترى أنها لا يمكن أن تقوم بواجب، ولا شك أن هذا الشعور وأد لكل طاقة وإيجابية، ونحن لا نريد الاعتداء في مجال الدعوة، لكن لاشك أن البدء يكون صعباً، فلتكن المرأة مبادرة ولتعل همتها وسوف يفتح لها إن شاء الله عز وجل. وكذلك الضعف في الشعور بالمسئولية. فبعض الداعيات تجعل الدعوة أمراً عارضاً ولا تعطيه الأهمية الكبرى، وترى أن غيرها قد كفاها، وأن الرجال لابد من أن يوسعوا الدائرة وأن يقوموا بالواجب بشكل أكبر، وهي معفية في ذلك إلا في صور محدودة ودائرة ضيقة، وهذا أيضاً له أثره في هذا الجانب. ومن الصور المتعلقة بالضعف ضعف الهمة. فبعض النساء تريد أن تقوم بالدعوة، لكن دون أن تتعب ولا أن تجهد ولا أن تبذل وتضحي، وهذا لاشك أنه ضعف في الهمة، فينبغي أن تكون همتها وطموحها أعلى وأوسع. وهناك -أيضاً- ما يتعلق بصور أخرى من الأمور الذاتية المتعلقة بعدم الحرص على التحصيل العلمي المطلوب، إضافة إلى نقطة ثالثة مهمة، وهي قلة وجود الداعيات اللواتي يمكن أن يكن قدوة ومعلمات ومربيات للداعيات، فنحن نعلم أن في صفوف الرجال من يسمون رموز الدعوة، ومن يسمون قادة العمل الإسلامي، وهناك شخصيات من العلماء العاملين والدعاة المصلحين بارزين وجهودهم مذكورة مشكورة تجعل الاقتداء بهم والتأسي بهم بين الشباب والراغبين في خدمة هذا الدين أمراً له إيجابياته وتحققه في الواقع، بينما لا نجد ذلك بين النساء بالكثرة اللازمة والموجودة، وهذا عائق من العوائق؛ لأن المرأة في غالب الأمر تحتاج إلى ممهد للطريق، فإذا وجد بين النساء من انتدبت للدعوة وبذلت جهدها وساعدتها ظروفها فإنها عندما تكون في هذا الميدان سيكون هناك وجود لعدد من النساء الداعيات المتميزات في العلم الشرعي والمعرفة المعاصرة والمخالطة والقدرة على التأثير والعقلية المنظمة، وغيرها من المواصفات التي ذكرناها، عندئذ سيكون أولئك النساء محط أنظار الملتزمات اللواتي عندهن خير في أنفسهن وصلاح في بيوتهن لكنهن لم يبدأن خطوة الانتقال من الصلاح الذاتي إلى الإصلاح للأخريات، فالحرص على وجود هذه القيادات النسائية والقدوات النسائية في ميدان الدعوة لعله يعطي ثماراً مهمة ونافعة في هذا الجانب.

العوائق الأسرية

العوائق الأسرية وقسم آخر من العوائق متعلق بالعوائق الأسرية، ويمكن أن نسلط الضوء عليها من جانبين: الجانب الأول: جانب الوالدين، فكثير من الآباء والأمهات لا ينظرون إلى المرأة النظرة الإسلامية المتكاملة الصحيحة، وبالتالي لا يحرصون على تعليمها وتوعيتها، وتربيتها وتثقفيها بحيث تكون مؤهلة لتؤسس أسرة ولتمارس دعوة، فإن بعض الآباء -إن لم نقل: كثيراً منهم- ينظرون إلى الفتيات نظرة يغلب عليها صورة الامتهان والاحتقار، أو عدم إيجاد أي فرصة لها لتشكل شخصيتها أو لتنتفع بعملها أو شيء من ذلك، وبالتالي تهمل هذه الفتاة فلا تكون حينئذ مؤهلة للالتزام والدعوة. ونحن نرى من الآباء الصالحين من يعنى بأبنائه فيحضهم على حضور المحاضرات والمشاركة في الدروس والانخراط في الأنشطة الإسلامية، ولا نجد عنده مثل هذا الاهتمام ولا قريباً منه ببناته، وهذا يشكل عائقاً أولياً يمنع وجود الخامات التي تصلح لأن أن تكون ميداناً للعمل الدعوي، ومن ثم وجود الداعيات.

العوائق الزوجية

العوائق الزوجية وهناك عائق آخر، وهم الأزواج. فإن الزوج له دور مهم في تيسير أمر الدعوة لزوجته، وتجيئني بعض الأسئلة ممن يشير إلى أن هذه القضية واردة بشكل كبير. وقد سبق أن ذكرت أنه لابد للمرأة من موازنة واعتدال، وأن لا يطغى جانب على جانب، وأن لا يدفعها انشغالها بدعوتها إلى إهمال حق زوجها أو رعاية أسرتها، وفي الوقت نفسه لابد للرجل من أن يدرك دور المرأة الداعية -وقد أسلفنا تفصيلاً واسعاً فيه- وأن يدرك الأثر الإيجابي الذي يدُرُّ عليه أجراً من عند الله عز وجل وإصلاحاً لهذا المجتمع الذي في آخر الأمر تتكامل دوائره، فإن الإصلاح إذا اتسعت دوائره سيصل إلى بيتي وبيتك، وإلى أختي وأختك، وإلى والدتي ووالدتك، وزوجتي وزوجتك، والفساد إذا انتشر فسيصل إلى بيتك حتى ولو كنت من الصالحين؛ فإن بنتي التي تدرس في المدرسة أو التي تذهب إلى الجامعة أو زوجتي التي تختلط بالنساء إذا توسعت دوائر الفساد فإنه سيلحقها لعدم وجود الدعوة بين صفوف النساء، أفلا يكون عند الرجل المسلم توجه إلى أن ينفع أخواته ومجتمعه المسلم من خلال إتاحة الفرصة لزوجته لأن تمارس بعض صور الدعوة ما دامت مؤهلة لذلك؟! ولذلك قد نجد بعض النساء يطالبن بأن يكون هناك دروس للنساء في المساجد، أي: تقوم بها النساء. فالدروس للنساء من الرجال موجودة، ولكن فائدتها قد لا تكون كاملة كما لو كانت المرأة هي التي ستدرس النساء. فنريد أن يكون هناك دروس في تجمعات النساء في العزاء أو في الأفراح، ونريد أن يكون هناك اجتماعات عائلية في البيوت، وأن تلقى فيها بعض الدروس والمحاضرات والمواعظ والتذكير، فمن أين ستأتي هذه المرأة التي ستقوم بهذا الدور؟ إنها ابنة لأب، أو زوجة لزوج، أو أخت لأخ، فإذا لم يكن هذا الرجل مدركاً لمهمتها وأنه يشاركها في هذا الأجر، ويكون عند الناس تقدير لدور هذه المرأة وما حصل من صلاح على يديها وما وجد من خير بجهودها فكيف يمكن أن تمارس هذا الدور؟ إذاً لابد من أن ندرك أن هناك عقبات من خلال الزوج على وجه الخصوص، فمن هذه العقبات: أولاً: قصور فهم الزوج وعدم وضوح رؤيته لشخصية المرأة ودورها، أو عدم إدراكه لأهمية الدعوة بالنسبة للمرأة، وهذا لا شك أنه يحول دون أية ممارسة دعوية، وأكرر: نحن نريد لزوجاتنا طبيبات ولا نريد أن يكشف عليهن الأطباء، ونريد لبناتنا في المدارس وفي الجامعات مدرسات ولا نريد أن يدرسهن الرجال، ولا نريد أن نقدم أو أن نشارك بجزء! فكيف يتم لنا ما نريد؟! فلو شارك هذا بجزء من خلال مشاركة زوجته وهذا بجزء، فستكتمل الدائرة. ولا يستطيع حمل الأعباء عدد محدود من النساء، فإنه إذا منع هذا زوجته ومنع هذا زوجته فلن يكون هناك إلا قلة من النساء، وسيكون العبء عليهن كبيراً، ولو أردن أن يقمن بهذا العبء فسيكون ذلك على حساب بيوتهن وأزواجهن. حتى أنظمة التعليم والطب الآن لو نظرنا فيها لوجدنا أنه يمكن للمرأة أن تدرس في المدارس فترة معينة من الزمن، حتى إذا شغلت بأبنائها تركت هذا المجال وجاءت غيرها، فإذا سمح الرجل في ذلك الوقت فإنه يكون قد بذل وضحى، ثم يأتي غيره ويشارك، وهكذا، أما هذه الصورة فيمكن أن تكون معيقة لهذا الجانب. ثانياً: عدم التعاون مع المرأة. فهو قد يسمح لها لكنه عملياً لا يحقق الصورة التنفيذية، فيقول: لا مانع من أن تعطي درساً. لكنه لا يوصلها بسيارته، أو لا يقوم بمشاركة إيجابية في بعض الأحوال، وهو أن يأخذ الأبناء في ذلك الوقت إلى نزهة -مثلاً- أو يعللهم بأمر ما في تلك الفترة القصيرة، فالنساء ليس عندهن مشاركات دعوية طويلة المدى، إنما هو درس في حدود ساعة أو ساعة ونصف ثم ترجع إلى بيتها، ولذلك فإن المحدودية هنا من قبل المرأة ينبغي أن يقابلها تعاون من قبل الزوج. ونجد أن بعض الأزواج لا يقدر الظروف التي تكون للمرأة، فهي إذا شاركت وسمح لها بالمشاركة لا شك أن ذلك يتعبها، وقد يجعلها تقصر بعض التقصير في أمور يحتملها الزوج إن كان مدركاً، وإن كان راغباً فيما يصلح المجتمع وفيما يعود بالأجر عليه وعلى زوجته، فلو كان هناك تقصير في الأمور العادية قد يقع أحياناً من المرأة غير الداعية -كتقصير في الطبخ أو في الكنس- فينبغي له أن يتجاوز عن مثل هذه الأمور في سبيل ما قد احتملته المرأة في هذا الميدان من ميادين الدعوة والقيام بها. وينبغي أن لا يكون مطالباً بكل الحقوق؛ لأن المرأة لو طالبت بكل الحقوق فكذلك سيكون هناك تقصير، ألسنا نشكوا من أن الرجال أو الشباب الدعاة يخرجون من بزوغ الفجر الأول أو مع أول انبثاق نوره ولا يعودون حتى ينتصف الليل، فأين حق الزوجة؟ وأين حق الأبناء؟ فالمرأة تغتفر ذلك؛ لأنها تعلم أن زوجها يقوم بمهمة ورسالة، فليكن من الزوج -أيضاً- نوع من هذا التعاون، فلا يطلب أن تكون زوجته قائمة بتمام الزينة، ويريدها أن تكون دائماً في أبهى حلة وأن تتابع كل جديد من الأزياء. نعم إنَّ التزين مطلوب منها، لكنه إذا أراد أن تكون داعية فكيف يسوغ له أن يلفت نظرها عن أمر الدعوة إلى أمر الزينة والموضة كما قد يحصل أحياناً؟! أيضاً هناك أمور أخرى بالنسبة للمجتمع، فقد يُنظر أحياناً إلى المرأة التي تقوم بواجب الدعوة وتذهب إلى درس هنا، وإلى محاضرة هناك، وتشارك في برنامج هنا وبرنامج هناك -ينظر إليها أنها امرأة متفلتة متسيبة، وهذه النظرة غير صحيحة، سيما إذا التزمت المرأة بالضوابط التي أشرنا إليها من مراعاة حق زوجها وأبنائها، ومشاركتها المعدة مسبقاً حتى لا تحيف على شيء من واجباتها، أقول: هذه النظرة تعود علينا بالسلبية، فنحن نريد -كما قلنا- أن يكون في صفوف البنات في المدارس دعوة حتى يحفظن من التيار الجارف الذي يفسدهن ويغريهن بكثير من الإثارات، فمن ستقوم بهذه المهمة إلا المرأة الداعية، فإذا نظرنا إلى المرأة التي تكون مدرسة ثم تلقي محاضرة في مدرسة ومحاضرة في مدرسة من خلال برامج التوعية، إذا نظرنا إليها نظرة ازدراء فمن سيقوم بهذه المهمة بين فتياتنا وبناتنا؟! وهناك عوائق مادية تقع بالنسبة للمرأة، والحق أن التفهم والإدراك لطبيعة المرأة وموقعها في التصور والمنهج الإسلامي، والنظر إلى صورتها الحقيقية في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم يجعلنا نعرف أهمية الدعوة النسائية وما تعود به من منفعة للمجتمع وننظر إليها النظرة التي ستشكل صورة التعاون الإيجابي.

واجبات ومحاذير

واجبات ومحاذير تبقى هناك أمور أخرى هي واجبات ينبغي أن ننتبه لها، ومحاذير ينبغي أن نتوقى منها. فمن الواجبات: أن يكون هناك عناية من العلماء والدعاة بشئون النساء، وأن يخصصوا من أوقاتهم دروساً ومحاضرات للنساء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خصص لهن يوماً يسألنه ويعلمهن أمر دينهن، وينبغي أن يوجد اهتمام -أيضاً- بالكتابة والتأليف في شئون المرأة المسلمة، ينبغي أن يكون هناك اهتمام في بإيجاد المحاضن والمؤسسات التي يمكن للمرأة أن تمارس من خلالها أنشطة إسلامية تربوية حتى تتهيأ هذه الجوانب، بدءاً من الصغار والفتيات في أوائل السن، ثم مروراً بالشابات، وبعد ذلك النساء المتزوجات، فإن لكل مرحلة متطلبات. وكذلك هناك واجبات أخرى فيها قصور شديد، بل فيها معارضة أكيدة لهذا التيار، وهي الصور التي تمارسها كثير من وسائل الإعلام، فنحن نرى المجلات وهي تعنى بالموضات وتجعل المشكلات متعلقة بهذا الجانب، وتبرز شخصيات الفنانات اللاتي لهن سمعة سيئة في مجال الانحراف، ولا تمارس دوراً في المحافظة على المجتمع، أو في المحافظة على المرأة وفي المحافظة على عفتها وكرامتها، فهذا جانب -أيضاً- مهمل، بل هو جانب فيه تيار معاكس. ومن المحاذير التي ينبغي للنساء الداعيات أن ينتبهن لها ما يتعلق بقضية مهمة، وهي التعلق العاطفي الزائد عن الحد بين المرأة الداعية ومن تدعوهن، سيما الطالبات في سن الشباب، فإن هناك علاقات قوية وطيدة تجعل الأمر فيه مضيعة للوقت، فلابد في كل يوم من أن تتصل بها، وإذا غابت عنها يوماً كتبت لها تلك الرسالة التي تشكو فيها أنها هجرتها! وغير ذلك من الأمور والعواطف الزائدة عن الحد. فهذه صورة أرى أنها موجودة، وهي سلبية من السلبيات ينبغي للداعيات أن ينتبهن لها. وهناك صورة أخرى من المحاذير التي ينبغي على الداعيات الالتفات إليها، وهي عدم قصر حديثهن على أمور معينة في حياة المرأة مثل الحجاب والصيانة والعفة، بل ينبغي أن يذكرن هذه الأمور ويركزن عليها، وأن يذكرن أموراً أخرى مما سبقت الإشارة إليه، سيما في مجال مشاركة الحياة العامة وقضايا الأسرة والمجتمع. وأمر ثالث أختم به الحديث من هذه المحاذير، وهو التوتر بين النساء الداعيات، عندما يختلف بعضهن مع بعض في أسلوب طرح أو عرض الموضوعات الدعوية، بل ينبغي التعاون والتكامل في هذا الأمر. والله أسأل أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تفاعل دائم لا تعاطف مؤقت

تفاعل دائم لا تعاطف مؤقت ما حدث للمسلمين من مآسٍ وأحداث مؤلمة لا يمكن لمسلم أن ينساه ما دام في صدره قلب ينبض، وبين جوانبه نفس تتحرك، وفي رأسه عقل يدرك، وإن العداء اليهودي للمسلمين والحقد المستمر على الإسلام ما زال قائماً ومتأججاً في صدورهم، وما حصل للمسلمين من مآس فأغلبها بتدبيرهم وكيدهم ومكرهم، وما حصل ويحصل في فلسطين والبقاع المقدسة هناك خير شاهد على عداوتهم وحقدهم الدفين على أبناء الأمة المحمدية، فهل يمكن أن ننسى هذا العداء العقدي على مر العصور؟! تلك إذاً كرة خاسرة.

الصراع مع اليهود على بيت المقدس صراع ديني متأصل

الصراع مع اليهود على بيت المقدس صراع ديني متأصل الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعظم عطاؤه، وعم نواله. له الحمد قدّر الأقدار، وكتب الآجال، لا يخلف وعده، ولا يهزم جنده، ولا يعز أعداؤه، ولا يذل أولياؤه، له الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه. له الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ما دامت السماوات والأرض، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويكافئ فضله وإنعامه، ويقينا سخطه وعذابه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين، المرسل إلى الناس كافة أجمعين. أشهد أنه عليه الصلاة والسلام، قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمّة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإننا سنتحدث عن أرض الإسراء لنبقى على صلة وطيدة مستمرة، فإن القضية ليست أمراً عابراً أو حدثاً طارئاً أو جريمة بشعة يمكن أن نسمع بعدها ما نسمع من الملهيات التي تعود بنا إلى ما كنا عليه، بل إلى ما وراءه، حيث يكون هدوء نسبي، وانسحاب جزئي، وحل سياسي، ودعم مادي، وتطوى الصفحة، وتعود الغفلة، وتنطفئ الجمرة، وكأن شيئاً لم يكن. وهذه صورة قد وقعت لها مثيلات في أمتنا الإسلامية، اللاتي ربما كان كثير من أصداء تحركها رد فعل وقتي، وتحرك شعور عاطفي، ثم ينتهي الأمر إلى قطيعة ونسيان، وبعد أن يحصل ما يحصل مما يقال: إنه تهدئة الأوضاع أو تسوية القضايا، كأن ذلك سوف يزيل كل الآثار الواقعية المادية فضلاً عن الآثار المعنوية الإيمانية. ألسنا نعرف حجم المآسي التي وقعت في هذه الكارثة الأخيرة؟! أليست هي امتداداً لعقود متطاولة من الزمان زادت على الخمسين عاماً؟! إنه حدث يهز عقلاء الناس، ويدمع عيونهم، ويدمي قلوبهم، ثم يأتي بعد ذلك من يلطف بكلمات عابرة، وأمور ليست مما يقدم أو يؤخر، فإذا بنا ننسى الأشلاء الممزقة، والجثث المحترقة، والبيوت المتهدمة، والمدن المدمرة، والأسر المشردة، والطفولة المروعة، والحياة المتوقفة، بل ننسى ما هو أعظم من ذلك، ننسى الحرمات المنتهكة، والمقدسات المدنسة، والدين الذي يهان، والأمة التي تذل، وكل معاني العجز والضعف التي لا يمكن أن يقبل بها حر أبداً. هل يمكن لهذه الجروح الغائرة أن تندمل؟! هل يمكن لتلك الدماء النازفة أن تسكن وأن تتوقف؟! إنه لا يكون ذلك إلا إذا ماتت النفوس وقتلت معاني الحياة في القلوب، وأشبعت العقول ضلالاً وزيغاً وانحرافاً. أما من كان في صدره قلب ينبض، وبين جوانحه نفس تتحرك، وفي رأسه عقل يدرك فإنه لا يمكن بحال أن ينسى أو أن يغير أو أن يعود إلى ما كان؛ لأن قضيتنا مختلفة اختلافاً كاملاً، فهي قضية لا تنتهي بمثل هذه الألاعيب والأكاذيب الصهيونية الصليبية الإجرامية. إننا نعرف أصولاً ثابتة تجعل هذا الصراع دائماً وقوياً وفاجراً وإجرامياً إلى أقصى حد، إنهم اليهود أصحاب الفساد والانحراف العقدي، الذين لم تسلم منهم ذات الإله سبحانه وتعالى، ولم تسلم منهم أرواح ودماء رسل الله صلى الله عليهم وسلم، ولم تسلم منهم البشرية في قرونها وعصورها المتعاقبة، إنهم أصحاب الحقد النفسي الذي رأينا صوره متجسدة في أمور وتصرفات ليس لها ما يفسرها إلا التشوه النفسي والانحراف الإنساني الذي ينشأ في تلك النفوس المنحرفة عن منهج الله عز وجل. وهناك إجرام عسكري وحلم توراتي متأصل في عروقهم وفي قلوبهم وفي أفكارهم، إنه هدم الأقصى وقيام الهيكل، إن إسرائيل الكبرى لا تنتهي بهذه الألاعيب والأكاذيب التي يضحك بها على كثير من المسلمين، فتنطلي عليهم الحيل، وينسون ثوابت القرآن، وينسون قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، وينسون قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33]، وينسون: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة:64]، بل وينسون كل ما جاء في القرآن، وينسون الشريط الأسود الكالح الذي كان لليهود مع خير خلق الله صلى الله عليه وسلم. وعبر تاريخ أمتنا كله لا تنسخ الأحداث، ولا يمكن قطعاً أن تنسخ الآيات، ولا يمكن بحال أن يلغى من السيرة وأحداثها شيء، شاء من شاء وأبى من أبى، غيّر في المناهج من غيّر وأثبت من أثبت، قال في الإعلام من قال وصمت من صمت، فإن حقائق القرآن ثابتة ثبوت الجبال إلى قيام الساعة، وإن حقائق الإيمان التي في قلوب المؤمنين لا تنتزع منهم إلا يوم تنتزع أرواحهم، ويخرج آخر نفس من أنفاسهم، إن كانوا مؤمنين حقاً وإن كانوا مسلمين صدقاً.

ضرورة التفاعل الدائم مع مآسي المسلمين وعدم نسيانها

ضرورة التفاعل الدائم مع مآسي المسلمين وعدم نسيانها وقفتنا هنا نقفها لئلا نكرر المآسي السابقة، فإن لنا فيها عبراً، ولعلي أقف وقفة سريعة لأذكر بها، فهل ما زلنا نذكر البوسنة والهرسك؟! قد نسخت من عقولنا، ومُسحت من واقعنا، وطويت صفحتها وكأن قضيتها انتهت؟! فهل انتهت فعلاً؟! وأين هي كوسوفا؟! وهل ما زلنا نذكر أحداثها ونستعيد فظائعها؟! وهل انتهت آثارها واندملت جراحها؟! ما حال الثكالى اللائي فقدن أزواجهن؟ ما حال الأيتام الذين فقدوا أهلهم؟ ما حال المعاقين؟! ما حال الذين تشوهت أجسادهم؟! ما حال أوضاعهم المادية؟! ما حال المدارس التي دمرت والمساجد التي محيت؟! ما حال أوضاع إخواننا الإسلامية والإيمانية؟! أليس يدمي قلوبنا أن نعرف أن بعض تلك البقاع أصبحت اليوم مرتعاً للغرب المسيحي يصول فيها ويجول ويجعل بعض بلادها الأولى في قائمة تصدير البغايا؟! لقد بكينا لأجلها كثيراً، وأنفقنا في سبيلها مالاً وفيراً، ثم سكنوها فسكنا، وسكتوا عنها فسكتنا، وأزالوا صورها من الإعلام فنسينا. إن ردود الأفعال لا تكفي، إن اليقظة اللازمة في حياة الأمة ينبغي أن تكون يقظة دائمة، وحركة دائبة، وتصوراً واضحاً، ومشاعر مستمرة متأججة، إن قضايا أمتنا أعظم من أن نتكلم عليها جميعاً ثم نجففها ونمسحها، وهي أكبر وأضخم في ميزان الحق والإيمان والإسلام من أن ننفق لأجلها دريهمات ثم نمسك، إن إيماننا وإسلامنا هو المستهدف، إن تاريخنا وأمتنا هما المهاجمان، إن وجودنا هو الذي يراد له أن يمحى إما باجتثاثه وإما بتمييعه ومسخه كما فعل بتلك الديار والبلاد. كم هي الجرائم الفظيعة التي ظن كثيرون أنه لا يمكن أن تبقى! وشراذم اليهود وما وقع لهم أقل بكثير مما وقع للمسلمين في الاتحاد السوفيتي الشيوعي الاشتراكي أول ما بدأ وقام. بضعة يهود -مع أكاذيب وتدليس- يُذكر أنهم قتلوا على يد النازية الألمانية، ولا تزال ذكرى حادثتهم وقضيتهم ومجزرتهم -إن صحت- تملأ سمع الزمان كله، وتقام لها المحافل والمشاهد، وتركع لأجلها الدول، وتدفع الأموال، وتصبح راية مرفوعة يهدد كل من يشكك فيها أو يعترض عليها أو يستهين بها، وهل دماؤهم أعز من دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل هم أشرف وأبر وأطهر من أولئك الأبرار في أرض فلسطين؟ وأولئك الأحرار المجاهدين في الشيشان، وأولئك الأبرياء المجاهدين الذين قُتلوا قتل الخراف وذُبحوا ذبح النعاج في البوسنة والهرسك وكوسوفا؟!

فتح عمر بن الخطاب القدس وحررها صلاح الدين ولابد من السير على دربهم لتحريرها

فتح عمر بن الخطاب القدس وحررها صلاح الدين ولابد من السير على دربهم لتحريرها كم نحن في حاجة إلى أن نكون صادقين مع أنفسنا، كفانا كذبا ً على أنفسنا، كفانا ضحكاً على واقعنا، كفانا تخديراً لأنفسنا وإماتة لقلوبنا وتضليلاً لعقولنا، قد تكون الكلمات قاسية، لكنها هي اللازمة لتوقظنا، لكنها هي اللازمة لنعرف الحقيقة وندرك واقعنا، ولئن كانت تلك القضايا كلها مهمة وعظيمة فإن أكثرها أهمية وأعظمها عظمة وأعمقها تجذراً في صلتها بالدين وكيان الأمة وحضارتها وتاريخها قضية فلسطين (أرض الإسراء مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. الفاتح فيها عمر، والمحرر لها صلاح، وتاريخ أمتنا يمر عبرها وخلالها منذ تلك الرحلة العظيمة التكريمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يكون حالنا مع غيرها -وإن كان مؤسفاً مؤلماً- لا ينبغي بحال أن يكرر معها ولا أن يستعاد فيها. إنه لا بد من أن نعلن لأنفسنا أنه لا وقوف بعد الحركة، ولا فتور بعد النشاط، ولا انقطاع بعد الصلة، ولا غموض ولا ركون بعد الحديث والغضب والانتصار لدين الله عز وجل، فلنبق الجذوة مشتعلة في القلوب، والقضية حية في النفوس، ولا ننس ذكرها على الألسنة، ولا نقطع عنها الإعانة، فإن كل قضية لها جذور تدوم أعواماً وأعواماً وجراحها لا تندمل. فإن فيهم أيتاماً ماذا يصنعون؟ وثكالى ماذا يصنعن؟ وأحوال من التغيير العظيم الذي يدمر بنيان تلك المجتمعات ويريد أن ينال من إيمان وعزة إخواننا، فلئن نسيناهم فيوشك أن يغتال إيمانهم، وأن يصاد صمودهم بالتصدع، وإن كنا نرى أنهم أعظم منا صبراً وأكثر شموخاً وثباتاً وإيماناً وصدقاً، ونحن نحتاج إلى أن نستمد منهم قوة الإيمان وعزة الإسلام وشموخ المسلمين وشجاعة المؤمنين، ولكننا أيضاً نحتاج إلى أن نذكر أنفسنا بذلك. ولكي تبقى القضية حية فلابد من أن نرجعها إلى أصولها، ليس إلى الأحداث العارضة، ولا إلى الأمور التي تأتي وتنتهي وتنقضي، إنها أولاً قضية عقيدة ودين. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، فهل نسخت هذه الآية؟ هل ستنتهي تلاوتها من المحاريب؟! وكلما مرت على مسلم يقرأها ألا يذكر أين مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ألا يتذكر بغي اليهود؟! ألا يعرف أنه وغيره من أمة الإسلام مقصرون -وربما آثمون- ومؤاخذون إن لم يكن لهم جهد دائم وصلة مستمرة بحسب حالهم وإمكانياتهم؟! ألسنا نعرف حديث أبي ذر -وهو صحيح-: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد بني أولاً؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: بيت المقدس. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً)؟ أليس هذا دليلاً على هذه الصلة العظيمة؟! نحن -أمة الإسلام- الذين أنشأنا النور والعدل والخير والبر والإحسان في تلك البقاع، ونحن أولى بها ديناً وعقيدة، وليس حقاً تاريخياً، ولا قانوناً دولياً، وليس تفاوضاً سياسياً، إنه ديننا، إنه قرآننا، إنها سنة نبينا، إنه تاريخ أمتنا، إنها قضية أعظم من أن تختزل في تلك الحركات أو تلك المداولات أو تلك الأوراق التي يوقع عليها هنا أوهناك، إنها أعظم من ذلك كله، ولكي تستمر لا بد من أن نعرف -أيضاً- أنها تاريخ مجدنا وفخارنا وعزنا. يوم جاء عمر رضي الله عنه يعبر عن عزة الإسلام، يوم كان الإيمان حياً في القلوب، يوم حاصرها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبُهت القوم وأسقط في أيديهم أرادوا أن يروا من هو وراء هذه العظمة، فأبوا أن يسلموا مفاتيحها إلا إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجاء عمر، ولم يأت في المواكب الفاخرة، ولم يأت بالجيوش المدجّجة، بل جاء ومعه غلام من غلمانه وهو يسير معه على دابة ليس فيها شيء من الزينة ولا سرج ولا شيء، ويخوض الماء رضي الله عنه وأرضاه، فيخرج ويسير على قدمه، ويلقاه أبو عبيدة والمسلمون وهو بهذه الحالة المتواضعة، لم يكن يحتاج إلى شيء يعظمه؛ لأنه عظيم في نفسه، ولم يحتج إلى جمع يكثره؛ لأنه كثير بنفسه وأصالته وإيمانه، فماذا صنع عمر؟ قال له أبو عبيدة: إن القوم كذا وكذا، فلو لبست واتخذنا لك بردوناً ونحو ذلك. يريد أن يشاكل الأوضاع القائمة، ويواكب تلك المظاهر التي كانت عند القوم. فضرب عمر بيده على صدره ثم قال وهو يبين مظهر العظمة رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. لقد جاء النصارى أذلاء إلى الفاروق عمر، وسلموه المفتاح، فدخل ونشر العدل، وأقام الملة، ثم جاء ما جاء من الأحداث العظام، وكان -ولا يزال- في تلك البقاع قبور عشرات ومئات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل نرضى أن يعيث اليهود بأرض في باطنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهداء الذين ضحوا بدمائهم، ومن الذين عاشوا لينشروا نور الإسلام ويرفعوا رايته. وصلاح الدين، وما أدراك ما صلاح الدين! ونحن نعرف قصته وبؤسه وحزنه الذي لازمه، وغيرته وهمته وغضبه، ونصرته وعزيمته التي ظلت تؤرق ليله وتحرك حياته، فلم تكن حياته معركة حطين، بل كانت حياته كلها جهاداً وإصلاحاً وغيضاً وتحرقاً على بلاد المسلمين الضائعة، حتى كان قبل فتح بيت المقدس يمنع نفسه من الضحك ويقول: كيف أضحك وبيت المقدس في أيدي النصارى الصليبيين؟! فكيف بنا نضحك ونلعب وننام ونلهو وننسى رغم أننا رأينا أعظم مما رأوا؟! ولذلك نقول: لكي تبقى القضية لابد من أن نستعيد تاريخها، ولابد كذلك من أن نعرف الإجرام والبغي لدى اليهود عليهم لعائن الله، فلا ينتظر منهم خير، ولا يرجى منهم نفع أو مراعاة لحقوق دولية أو غير ذلك، كما في الحديث: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، والعاقل لا يتكرر عليه الأمر مرات ومرات، فإذا كسرت هذا القانون مرة، ووطئته مرة أخرى، ودست عليه ثالثة، وألقيته وراء ظهرك رابعة فكيف يمكن أن يقال: إنه سيأتي يوم تعظمه أو تحترمه أو تخافه أو ترهبه؟! وذلك دأبهم وديدنهم. وأخيراً لكي نعرف القضية في حدودها الصحيحة يجب أن نعرف أنها تآمر وكيد، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]. هل رأينا أكبر من هذا التآمر؟ هل رأينا أظهر من هذا التعاضد والتآزر؟ هل رأينا شيئاً يبقي لنا مجالاً لأن نضل في معرفة حقائق المتعاونين والمتآزرين والمتحالفين استراتيجياً كما يقولون؟! إذا عرفنا ذلك عرفنا أنه لابد من أن تبقى هذه القضية حية في قلوبنا، وأن لا ننسى منها شيئاً من الأحداث الجسيمة المؤلمة المحزنة، ولكنها قبل ذلك أساسها ديني عقدي تاريخي إجرامي تآمري يستهدف أمتنا كلها، ويطعن في خاصرتها، ويريد أن يغير كتابها ويبدل سنة نبيها صلى الله عليه وسلم ويمسخ تاريخها، فلابد من يقظة دائمة، وحياة في القلوب مستمرة، ومشاعر متأججة، ودعم متواصل. هذا ما أردت أن أقوله، وهذه ليست مجرد أحداث عبرت، فإن الأمر أكبر من ذلك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلق قلوبنا بمرضاته، وأن يسلك بنا سبيل الصالحين، وأن يكتبنا في جنده المجاهدين، وأن يسخرنا لنصرة هذا الدين، وأن يجعلنا من الباذلين في مواجهة المعتدين. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية التعاون والدعم والنصرة بين المسلمين

أهمية التعاون والدعم والنصرة بين المسلمين

الدعم بالدعاء والمال

الدعم بالدعاء والمال الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن قضية صراعنا مع اليهود قضية ليست مقتصرة على أرض فلسطين العزيزة، ولا على بيت المقدس العزيز على نفوسنا، بل هي أعظم من ذلك وأوسع، وهي أكثر تنوعاً وأعظم مكراً وأخفى كيداً مما يتصوره كثير منا، ولذلك ينبغي لنا أن نعرف أننا في معركة دائمة، وفي مواجهة مستمرة، فلا ينبغي أن تغمض أعيننا، ولا أن تسكن أنفسنا، ولا أن تتوقف حركتنا، ولا أن تخرس ألسنتنا، ولا أن تنكس رايتنا بحال من الأحوال. أين الدعاء المستمر؟! لماذا لا ندعوا إلا إذا عظمت المصيبة؟! أفليست المصيبة بانتهاك الحرمات واستيلاء اليهود على بيت المقدس مصيبة ينبغي أن يكثر لها دعاؤنا وهمنا وغمنا ولو لم يقتل مسلم واحد؟! والعون هو الذي نريد أن يبقى مستمراً؛ لأن المآسي عظيمة، ولأن الجهاد والتثبيت يحتاج إلى مواصلة، ولأن اليهود ليسوا أصحاب موجة واحدة. فقد رأينا وعرفنا كل الجرائم، وهذه ما هي إلا قطرة من بحر، فلابد من أن ندرك ذلك، فإن المجرم يبقى مجرماً لا يتغير ما دام سلاحه في يده، وما دام إمداده معه، وما دام اعتقاده الفاسد يسيطر على عقله وفكره، وعندما يرى الضعيف أمامه يغريه ذلك بمزيد من العدوان، فلا بد من أن يبقى عوننا مستمراً، كالدعم المادي، فاقتطع من مالك، ومن قوت يومك, ومن راتب شهرك شيئاً دائماً لا ينقطع أبداً، واجعل ذلك عزيمة ماضية وجهاداً مستمراً، فكيف نرضى أن نتوقف عن مثل هذا؟! اجعل القضية شعوراً نفسياً لا يفارقك، اجعله حاجزاً نفسياً يجذّر في قلبك بغض اليهود أعداء الله عز وجل وأعداء الرسل والرسالات والحضارة والإنسانية، اجعل ذلك أمراً لا يمكن أن يتغير في نفسك على المجرمين الحاقدين المغتصبين، واجعل في نفسك عزة الإيمان، وأنه وإن فقدنا بعض أسباب القوة المادية وإن كبلتنا بعض الظروف المحيطة فإن في قلوبنا دماء تنبض، وعروقاً تفيض بالعزة لا يمكن أن تسكن ولا أن تسكت. إذا لم تزاحم لنيل الحياة أصبت فناءك في المزدحم ينبغي أن ندرك أنه يوم تفتر نفوسنا ونرضى بذلّنا، ويوم نقول: ما عسى أن نفعل يوم ذاك تكون هزيمتنا قد وصلت إلى مقاتلنا، فلنكبر على أنفسنا أربعاً وإن كنا نمشي على الأرض ونتحدث إلى الناس.

الدعم بتربية الأبناء على نصرة إخوانهم المسلمين

الدعم بتربية الأبناء على نصرة إخوانهم المسلمين ومن الدعم التربية الأسرية لأولادنا، فلنجعل هذه المعاني تربية نغذي بها أبناءنا ونعلمهم بها، ولنجعل بيوتنا معرضاً لهذه القضية، ومحفلاً لتناولها من كل الجهات، ومحراباً نتذكر بها معاني الجهاد، وثكنة نهيء فيها ظروف الاستعداد. فلماذا أصبحنا نجعل بيوتنا للراحة والدعة والغفلة ومشاهدة الملاهي، ولا نشرك أبناءنا في الشعور بمآسي إخوانهم الأطفال في أرض فلسطين وفي الشيشان وفي البوسنة وفي كل مكان؟! إن عبرتهم ودماءهم لن ترقأ بمجرد مرور هذه الأحداث وانقضائها؛ لأن ذلك -كما قلت- هو أكبر، ولنجعل أنفسنا إذاعات متجولة ونشرات أخبار متحركة، نتحدث عن هذا الأمر وهذه الحقائق في كل مكان وفي كل مجلس، فلنكن دعاة توعية، وإذكاء حماسة، وبيان حق، وإعلان رفض للباطل والظلم، فلنكن كذلك، ولو فعل كل منا أقل القليل من هذا الواجب لرأينا له أثراً في واقعنا وفي تغيير أحوالنا.

الدعم بالنظر إلى الأمور على ضوء النصوص الشرعية

الدعم بالنظر إلى الأمور على ضوء النصوص الشرعية وقبل ذلك كله التغيير المنهجي، أن نعطي الأمور حقائقها، وأن نردها إلى مصادرها، وأن لا نقول عن المجاهد الذي يضحي بنفسه في سبيل الله: إنه منتحر يمضي إلى جهنم وساءت مصيراً. وأن لا نغير الحقائق فنجعل من يدافع عن حقه ظالماً ومعتدياً، ومن يغتصب الحق مسالماً وموادعاً. ينبغي أن نجعل القضية راجعة إلى المنهجية التي ليس عندنا فيها أدنى شك، ولا يمكن لأحد أن يغيرها، فإن عندنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن بلغ بنا الأمر أن نرى الحقيقة في القرآن أو الحقيقة في السنة ثم نقبل أن نرضى بغيرها أو أن يدخل إلى عقولنا وفكرنا شيء سواها فقد نقضنا شيئاً من أصل إيماننا بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم. فلا بد من أن نعرف الأسماء وأن نضعها في مواضعها، وأن نسمي الأبطال أبطالاً، وأن نصف الجبناء بالجبن، وأن نبين أن أولئك الإخوة الكرام البررة - نسأل الله عز وجل أن يتقبلهم في الشهداء - هم الذين فعلوا ما لم تفعله كل القوى مجتمعة في شرقها وغربها، مسلمة وغير مسلمة، يوم أذلّوا اليهود وأدخلوا الرعب في صفوفهم وما أوقعوه في مجتمع اليهود أعظم مما أوقعته الحروب السابقة كلها، ويكفي أن نعرف الهجرة المعاكسة عند اليهود، والبنية الاقتصادية المدمرة، والرعب الشائع، والاختلاف المحتدم. إذا استمر هذا العون وبقيت تلك الجذوة فإنها الشرارة التي تحرق هذه الدولة الغاصبة، وما ذلك على الله بعزيز، وما قوتهم بشيء، وإنما هو محض ضعفنا وذلنا وتفرقنا وانسلاخنا من دين ربنا.

الدعم بالسعي في إصلاح أحوال المسلمين وردهم إلى التمسك بالكتاب والسنة

الدعم بالسعي في إصلاح أحوال المسلمين وردهم إلى التمسك بالكتاب والسنة لكي نبقى متصلين بهذه القضية لنصرة أمتنا علينا أن نصلح أحوالنا، ولنغير من سلوكنا، ولنبادر إلى طاعة ربنا، ولنمنع المعاصي والمنكرات في أنفسنا وفي أسرنا وفي مجتمعاتنا وفي بلادنا؛ لان هذا الصلاح هو السلاح الحقيقي الذي نتهيأ به لمواجهة عدونا، وذلك ما نحتاج إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على الثبات على الحق، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يبرئنا من معصيته ومخالفة منهجه. نسألك -اللهم- أن تسلك بنا سبيل الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم سخرنا لنصرة دينك، واستعملنا في نصرة عبادك وأوليائك. اللهم! لا تجعلنا من الذين يتأخرون عن نجدة إخوانهم، ولا عن نصرة دينهم، ولا عن تحقيق إيمانهم، ولا عن الاعتزاز بإسلامهم. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم! عليك باليهود الغاصبين، ومن يعينهم من النصارى الحاقدين، اللهم! عليك بهم أجمعين، زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخُلف في صفوفهم، ودمر قوتهم، واستأصل شأفتهم، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، ولا تبلغهم غاية. اللهم! يا قوي! يا عزيز! يا منتقم! يا جبار! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم. اللهم! ثبت إخواننا في أرض الرباط في فلسطين، اللهم! أمدّهم بالصبر واليقين، اللهم! رضِّهم بالقضاء، وصبرهم على البلاء، وآنس وحشتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وتقبل في الشهداء قتلاهم، وأحفظ أيتامهم يا رب العالمين. اللهم! أمدهم بحولك وقوتك ونصرتك وعزتك وتأييدك يا رب العالمين، اللهم! قل المعين الناصح، وكثر العدو القاهر، اللهم! فأمدهم بحولك وقوتك يا رب العالمين. اللهم! أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، يا قوي يا عزيز يا متين. اللهم! إنا نسألك أن تجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، أصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! إنا نسألك لهذه الأمة وحدة من بعد فرقة، وقوة من بعد ضعف، وعزة من بعد ذل يا رب العالمين. اللهم! ردّنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم! انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم! ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

شهر القلوب

شهر القلوب شهر رمضان هو شهر القرآن، شهر المغفرة والرضوان، شهر النفحات والإيمانيات، شهر المعاني الإيمانية التي لا تدرك ولا تتحقق إلا فيه، ومن هذه المعاني التي نتعلمها من هذا الشهر: الرقة والرحمة التي تحل في القلوب، والطهارة والنقاء من الدنس والأحقاد، والخوف والخشية التي تنتاب النفوس فتخلص إلى بارئها، وتتعلق بحب مولاها.

شهر رمضان وما فيه من المعاني العظيمة المهمة

شهر رمضان وما فيه من المعاني العظيمة المهمة الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان، ذي الفضل والإحسان، اختص رمضان بنزول القرآن، وجعل صيامه من أسباب الغفران، وجعل له اختصاصاً بدخول عباده إلى الجنان، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فها نحن نتفيأ ظلال الإيمان ونسائم الجنان في رحاب رمضان، ولعلنا نشعر بهذه التغيرات التي هبت على قلوبنا فأحيتها، وعلى نفوسنا فطهرتها، ولا شك أننا في حاجة إلى مزيد من التنبيه والتركيز والتذكير الذي يعظم فوائدنا وعوائدنا من هذه الفريضة العظيمة وهذا الموسم الجليل. رمضان شهر القلوب، والإنسان فيه ثلاث قوى: قوة العقل والفكر، وقوة البدن والجسد، وقوة القلب والروح، وكل منها يحتاج إلى غذاء ورعاية وعناية، وكل زيادة في جانب منها تعد حيفاً وظلماً ونقصاً في الجوانب الأخرى، ولا أعتقد أنك تخالفني الرأي في أن حظ أجسادنا وتفكير عقولنا في أمور حياتنا استغرق نصيباً وافراً من الأوقات والجهود، وأن حظ القلوب والأرواح أقل، بل ربما كان أقل من القليل، بل ربما غاض حتى كاد أن ينوي وينتهي، فتهب علينا هذه النسائم، وتمر بنا تلك النفحات، ويكرمنا الله عز وجل بمثل هذه المواسم حتى يتم الاستدراك ويكون التوازن، فحظنا في هذا الشهر أن نجعله شهر القلوب والأرواح لا شهر الأبدان والأشباح، أن نجعله الشهر الذي يؤكد لنا ما جاء به ديننا من أن الأعظم والأكثر أهمية في حياة المؤمن إنما هو قلبه وروحه، إنما هو إخلاصه وتجرده، إنما هو قصده ونيته، ليست الأمور بظواهرها، ولا الأعمال بأشكالها، بل كما قال الحق جل وعلا: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. قال القرطبي رحمه الله: خص القلب بالذكر لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت الجوارح. وكلنا يحفظ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) وكلنا يدرك تماماً هذا المعنى وأن القلب السليم هو الخالص من الأوصاف الذميمة، والمتحلي بالأوصاف الجميلة، وكما بين ذلك الشعبي فقال: الذي يسلم من الشرك والشك، ومحبة الشر، والإصرار على البدعة والذنوب. ويلزم من سلامته مما ذكر اتصافه بأضدادها -وتأمل الأضداد فإنها موضع حديثنا- من الإخلاص والعلم واليقين، ومحبة الخير وتزيينه في قلبه، وأن تكون إرادته ومحبته تبعاً لمحبة الله، وأن يكون هواه تبعاً لما جاء عن الله، وصدق الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. أفلسنا حينئذ ندرك تماماً عظمة أهمية القلب والروح، وما يتعلق بهما من الأعمال من الإخلاص والمحبة والتوكل والإنابة والرضا وغير ذلك؟! تأمل حديث أبي هريرة عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) قلوبكم محل نظر الله عز وجل، ما فيها من خير تضمرونه ونية خالصة تنطوي عليها، قلوبكم تلك التي لها آثارها، وكلنا يعلم ذلك. قال ابن القيم رحمه الله: لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العمل واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض، ذاك قلب ذاكر يصلي وهو معلق القلب بالله، وذاك قلب غافل ساه لاه، ذاك قلب مخلص وذاك قلب مرائي، فالعمل واحد والنتيجة مختلفة، بينها وبين الأخرى كما بين المشرق والمغرب.

الإخلاص والتعلق بالله

الإخلاص والتعلق بالله انظر إلى هذا الشهر كيف يسكب في قلوبنا المعاني العظيمة المهمة التي نحن في أمس الحاجة إليها! أولاً: الإخلاص والتعلق، إخلاص لله، وتعلق به، وحسن صلة دائمة بالارتباط بذكره وطاعته وعبادته، ففي الحديث: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) إنه عمل خالص لله عز وجل، هو أبعد ما يكون عن الرياء؛ إذ ليس له آثار ومظاهر يمكن أن يرائي بها الإنسان، هو عمل لا تجرحه ولا تتركه إلا مخافة من الله عز وجل؛ إذ يمكن أن تفطر ولا يراك أحد، وأن تجرح صومك ولا يشعر بك أحد، لكن الذي يمنعك أنك عالم موقن بأن الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، وأنت موقن بأنه جل وعلا هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ذلك الذي يمنعك، يبث ويزيد وينمي ويغرس هذا الإخلاص في قلبك لله سبحانه وتعالى، وأنت حينئذ معلق القلب بالله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]. في هذا الشهر الجليل وهذه العبادة العظيمة زادك من الإيمان كبير، وحرصك على إحياء قلبك بمعانيه وأعماله عظيم جداً، وحال غيرك في غير هذه العبادة، بل حالك أنت في غير هذه العبادة كان ربما على غير ذلك، أو -على أقل تقدير- دون ذلك، وكل تعلق للقلب بغير الله عز وجل محبة وهوى هو نوع من طمس نور القلب ووأد حقيقة الإيمان فيه، كما أخبر الحق جل وعلا عن بني إسرائيل بقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] أي: أشربوا حبه والتعلق به، فلم تعد قلوبهم محبة لله جل وعلا ولا متعلقة به. فهذا الشهر العظيم شهر للتدرب والتعود والتأكد من تجريد القلب من كل قصد سوى الله، ومن إخلاص النية أن تكون فيها شائبة لغير الله، ومن عظيم التعلق بالله عز وجل، فنحن في هذا الصوم منذ انشقاق الفجر إلى غروب الشمس إلى سواد الليل إلى تكرار اليوم ما نزال مستشعرين هذه المعاني، حياتنا صلة دائمة بالله عز وجل، قلوبنا عامرة بذكره وبالاتصال به سبحانه وتعالى، فنحن نصوم نهارنا ونتسحر ليلنا، ونبقى في سائر شهرنا متصلين بالله عز وجل على هذه العبادة.

الرقة والرحمة

الرقة والرحمة الرقة والرحمة: كم قست القلوب غفلة عن ذكر الله، وإعراضاً عن تلاوة كتابه سبحانه وتعالى، وإيغالاً في كثير من الأعمال المحرمة الآثمة التي تطفئ أنوار القلب وتذهب رقته، والله جل وعلا قد امتدح رسوله صلى الله عليه وسلم بتلك الرحمة القلبية فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، كم هي قاسية تلك القلوب التي لا تتعظ ولا تدكر! تسمع الآيات وكأنها لا تؤمن بها أو لا تعرف معانيها، أو لا تلقي لها بالاً، نسمع الذكرى والموعظة فلا تتهيج النفوس ولا تتحرك القلوب، ثم نرى صور القسوة جفاءً في المعاملة، وشدة مع المسلمين والإخوان، بل نوعاً من الخصومة والمكر والكيد، والحرب والشحناء والبغضاء التي كأنما لم تسمح ولم تفسح في القلوب لرقة ولا رحمة، نسأل الله عز وجل السلامة. إذا تأملنا ذلك ندرك حقيقة الإيمان، وأنه هو جوهر تلك الرحمة والرقة التي تفيض على غير المؤمنين قبل المؤمنين؛ لأننا نرى أن الكافر قد استوجب سخط الله عز وجل، فنرحمه لكي ننقذه من هذا الكفر الذي هو فيه، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار). أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

المحبة والمودة

المحبة والمودة كم رأينا الآيات التي تذكر لنا الوصف القلبي الرحيم الذي يريد الخير للناس في قلب محمد صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] لعلك -يا محمد صلى الله عليه وسلم- مهلك نفسك، تتبع القوم، وتأتي إلى مجالسهم لتخرجهم من الظلمات إلى النور، لتخرجهم من الكفر إلى الإيمان، لتخرجهم من الجحود إلى اليقين. تلك القلوب الرحيمة يصب فيها هذا الصوم الرقة والرحمة فتلين، سواء أكان لينها بلين العبادة والطاعة والذكر، أم كان لينها بلين المحبة والألفة والأخوة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] قال ابن كثير: هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد عن الحق، وقوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي: فلا تلين لذكره، ولا تخشع، ولا تعي، ولا تفهم. فهذا حظنا من شهرنا، رقة ورحمة تفيض بها القلوب، ثم تأتي من بعد ذلك الأخوة والألفة التي تفيض مياه محبتها ومودتها في القلوب، فنرى الأواصر وهي تمتد، ونرى الصلات وهي تزداد، ونرى الرحم وهي توصل، ونرى البِشر ونرى المحبة وهي تفيض، نرى صوراً تمنع تلك الشحناء والبغضاء، لماذا؟ لأن هذه العبادة فيها صلة بالله، وفيها شعور بألم الجوع والحرمان، وفيها رجاء رحمة الله عز وجل، (الراحمون يرحمهم الرحمن)، فمن أراد أن يتعرض لرحمة الله فليعرض نفسه إلى رحمة عباده، فيكون حينئذ مهيأ القلب لذلك، ولعلنا ندرك تماماً المنة العظمى التي امتن بها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم عندما خاطبه في شأن أصحابه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:62 - 63] تلك القلوب والمحبة التي كانت صورة نموذجية في حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم اقتسموا الأموال والديار، يوم اختلطوا كأنما أخوتهم أعظم وأقوى من أخوة الرحم واللحم والدم والنسب، وذلك الذي صاغه الإيمان يتجدد في مثل هذه الفريضة؛ لأننا نشعر تماماً بحقيقة هذه الأخوة والألفة والمحبة من هذا الوجه.

الخوف والخشية

الخوف والخشية ووجه آخر -أيضاً- ينسكب في قلوبنا من أثر هذه العبادة الجليلة، هو الخوف والخشية، خوف الله وخشيته؛ لأننا مع الطاعة والعبادة نتذكر ما سلف من التفريط والتقصير، نتذكر كلما دعونا الله في صلواتنا وفي سجودنا تلك الذنوب والآثام، نخشى من آثارها وأضرارها، نخشى من عدم غفرانها ومحوها، فما تزال قلوبنا متقلبة بين هذا وذاك، روى الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت -أي: في مرض الموت-، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ فقال الشاب: والله -يا رسول الله- إني لأرجو الله وأخاف ذنوبي. فقال صلى الله عليه وسلم: ما يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموقف إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه مما يخافه)، ألسنا نشعر ونحن في هذه الفريضة العظيمة والعبادة الجليلة بشيء من رجاء يعظم كلما تلونا وكلما ذكرنا وكلما دعونا؟ كأنما نستشعر رحمة الله ومغفرته، كأنما نريد أن ننالها بأيدينا، كأن أشواق قلوبنا وآمال نفوسنا معلقة حقيقة بهذه الرحمة والمغفرة، ونحن نستحضر ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إذا بقي الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ وذلك الدهر كله) ألا تتوق نفوسنا؟ ألا تشتاق قلوبنا؟ ألا تتعلق أرواحنا؟ ألا نستشعر بأن قلوبنا تحس هذه المعاني من تعلقها برجاء الله وخوفها من معصية الله أكثر مما نكون عليه في غير هذا الموسم العظيم والعبادة العظيمة؟! إنها نفحات القلوب، يصبها هذا الشهر العظيم فيها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، كم نسمع في هذا الشهر من ذكر الله؟! كم نتلو من آيات الله؟! كم نشعر بأن قلوبنا تخفق خوفاً أو تتحرك رجاءً من هذه المعاني التي نتصل بها؟ وذلك من رحمة الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61] كل يوم ندعو ونقول: اللهم! تقبل صيامنا وقيامنا، نعمل ونحن في خوف أن لا يقبل منا، أليست هذه من مشاعر الإيمان؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة لما قرأت هذه الآية وقالت: (هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر يا رسول الله؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخشى أن لا يقبل منه) ونحن اليوم -بحمد الله- نشعر بذلك، نصلي ونصوم ونتصدق ونقول: اللهم! اقبلنا. اللهم! اقبلنا. نخاف أن لا تقبل أعمالنا، كما قال الحسن رحمه الله: لقد أدركت أقواماً هم أخوف منكم من أن تحاسبوا على سيئاتكم من أن تقبل منهم أعمالهم أي: كان خوفهم من قبول الأعمال أعظم من خوفنا على محاسبتنا على الآثام. وذلك أمر عظيم في شأن القلوب متى وجد فيها، فإنه كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61] ومعنى ذلك أنك تكثر من صيامك، وتزيد من صلاتك، وتعظم من نفقتك، ثم بعد ذلك ترى أنك لم تعمل شيئاً، وترى أنك ما زلت تأمل في قبول الله عز وجل، فما تزال تعمل وتعمل، وما تزال تتحين تعرضك لرحمة الله وكثرة دعائك له ورجائك في قبول عملك عنده، وهذه كلها فيوض إيمانية قلبية لا نشعر بها كما نشعر بها في هذا الشهر العظيم وهذا الصوم الجليل، فلنتنبه لذلك ولنحرص عليه.

الطهارة والنقاء

الطهارة والنقاء طهارة القلوب ونقاؤها أمر عظيم، كم في القلوب من ظلمة سوداء من أثر المعصية! كم في القلوب من مشاعر حسد ومشاعر منافسة بين أهل الإيمان لا تنبغي ولا ينبغي أن يكونوا عليها؟! فهذه صورة كبيرة، فكيف تتطهر قلوبنا؟ طهارتها هي الطريق إلى العفة عن المحارم، والبعد عن المآثم، تلك هي الطريق التي بها تشرق أنوار القلوب، روى حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء. وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصيرا على قلبين: أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) نكتة سوداء من منكر أو معصية، ثم أخرى وليس ثمة استغفار ولا توبة، فلا جلاء ولا نقاء ولا صفاء، فما تزال النقاط السوداء حتى يظلم القلب نسأل الله عز وجل السلامة. وإشراقة القلب تكون باجتناب المعصية، فإنه صقل وتطهير لذلك القلب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] طهارة القلوب عفة الجوارح، غض بصر، وإغضاء سمع، وإمساك لسان، وضبط جوارح، كل ذلك يؤدي إلى تلك الطهارة وذلك النقاء؛ لأن أي انحراف إنما مصبه ومرده إلى القلب، العين تنظر إلى المحرم والقلب يظلم، الأذن تسمع إلى الإثم والقلب يظلم، الأيدي تأخذ ما لا يحل والقلب يظلم، فما يزال يظلم ويظلم حتى تنطمس أنواره، نسأل الله عز وجل السلامة. روى النسائي في سننه من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد) وفي رواية أخرى عند النسائي في سننه وعند أحمد في مسنده: (الشح والإيمان) تلك المشاعر التي نخرج بها اليوم أموالنا، والتي نبذل فيها مشاعرنا من المحبة هي نوع من التعليم والتعويد والتربية والتزكية للقلوب لتخرج منها تلك الأوضار وتلك الأقذار وتلك الأكدار التي هي شح أو حسد، أو هي ظلمة من آثار تلك المعاصي، نسأل الله عز وجل السلامة.

التذكر والتدبر

التذكر والتدبر التذكر والتدبر كم نحن في حاجة إليهما! كم هي شواغل الدنيا التي جعلت قلوبنا غافلة لاهية ساهية لا تكاد تدكر ولا تعتبر! {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فنحن في هذه العبادة خير منا -بحمد الله- فيما قبلها؛ لأننا نقرأ القرآن كثيراً، ونجتهد في تدبره؛ لأن كثرة القراءة ملجئة إلى ذلك، نعتكف فلا يكون لنا وقت إلا وقت العبادة، فما نزال إما نصلي وإما نقرأ، وإما نتذكر أو نعتبر، فكل ذلك يعين على هذا، ونحن نعظم صلتنا بكتاب الله سبحانه وتعالى بوجوه كثيرة، منها الحفظ، والمراجعة والتلاوة وقراءة التفسير، أو سماع دروس العلم أو المواعظ، كلها تتصل بهذا المعنى فتحيي موات القلوب بإذن الله، وصدق الله تعالى حين قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وتأمل قول الله عز وجل في شأن المعرضين الذين لا تنتفع قلوبهم بذكرى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، فكم نحن نلعب! وكم نلهو! وكم نشتغل بأمور لعلي أوجز بعضاً منها فيما يأتي! نحن نجعل قلوبنا في غفلة وسهو ولهو ولغو لا ينبغي أن تكون عليه، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى بحديثه العظيم الذي رواه أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه)، ولذلك نحتاج إلى هذا المعنى العظيم وكل هذه المعاني، ويضاف إليها الطمأنينة والسكينة، فهي من آثار هذه العبادة؛ لأن كثيراً من تلك المعاني التي تحيي القلوب وتبث فيها هذه الخيرات مقرونة بالعبادات والطاعات، والإقبال على الله الذي نشهده في هذا الشهر: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ونحن نذكر الله عز وجل.

الاستقامة والثبات

الاستقامة والثبات في شهر رمضان نستقيم -بحمد الله- ليس يوماً ولا يومين، بل شهراً كاملاً، بل من عقل ووعى وادكر كان لأثر هذه العبادة استمرار في استقامته بإذن الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى جعل من دعائنا في كتابه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] استقامت قلوبنا على الطاعات، شعرنا بتلك الوصية التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) شعرنا بالثبات كما في قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، نشعر أن قلوبنا مثبتة بالإيمان واليقين، فلنحمد الله عز وجل على ذلك، ولنشعر بأن هذه المعاني هي الخلاصة العظيمة التي ينبغي أن نحرص عليها في هذه العبادة. نسأل الله عز وجل أن يعمر قلوبنا بالإيمان، وأن يرسخ فيها اليقين، وأن يجعل قلوبنا متعلقة به سبحانه وتعالى، وأن يملأها بحبه والرضا بقضائه وقدره والإنابة إليه والخوف منه ورجائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وقفات مهمة في شهر رمضان

وقفات مهمة في شهر رمضان أيها الأخ المؤمن! هاقد أظلنا موسم من مواسم التقوى العظيمة، شهر الصوم الذي من مقاصده العظيمة التقوى. ووقفتنا الأخيرة تأكيد على أن يكون حظنا من شهرنا هو حظ قلوبنا وأرواحنا، وأن لا نعكس، وأن لا نغير، وأن لا نبدل كما يحصل -وللأسف- في واقع حياتنا، فإذا بنا نرى هذا الشهر وكأنه شهر الأجساد والأبدان، شهر الشراب والطعام، لم أر بعيني في كل هذه الشوارع التي أجوبها إعلاناً واحداً يشير إلى معنى من المعاني أو ينبه على شيء من التذكير والعظة، بل إما أن نرى شراب العصير، وإما أن نرى أنواع الطعام، وإما أن نرى الجانب الآخر الذي سأشير إليه. قال بعضهم: جعله الله عز وجل شهراً للقلوب والأرواح فجعلوه لغير ذلك من الطعام والشراب. حتى إننا نرى أطعمة كأن من المحرم أن تؤكل قبل رمضان أو بعده، أو كأن الصوم بدونها لا يصح، وهذا كله من استزلال الشيطان، ومن صرف الأذهان عن حقائق الإيمان، ومن الخروج عن حكم العبادات إلى أمور من الصوارف والملهيات والمشغلات، فلا ينبغي لنا أن نكون من أولئك الذين يضيعون عقولهم، ولا ينظرون إلى المواسم والفرص والحكم والمنافع التي ساقها الله إليهم، إن لله في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لنفحات الله، فكيف نتعرض لها ونحن لا نفكر إلا في هذه الطوابير التي نراها قبيل المغرب تصطف لتأخذ هذا النوع من الطعام أو ذاك، ويختصمون ويضيعون الأوقات العظيمة في آخر كل يوم قبيل الغروب، ويغفلون في ذلك الوقت عن الذكر والدعاء والتضرع والاستعداد للإفطار؟! وأمر آخر، وهو الجانب المؤلم المحزن الذي تحدثت عنه من قبل، ونراه أيضاً في الإعلانات، إنها البرامج والتمثيليات وغيرها مما يعرض في القنوات، كل الذي نقول: إنه يصب في القلوب من هذه الأمراض منه، فإن ذكرت جاءتك بالغفلة، وإن خشيت جاءتك بتركها، وإن كان عندك صفاء كدرت قلبك من جديد، وإن كان عندك استقامة أزاغتك من بعدها، نسأل الله عز وجل السلامة. فلماذا مرة أخرى وثانية وثالثة تتخصص وسائل الإعلام لمعاكسة ومعارضة كل حكم عظيمة ومنافع جليلة، تجيء بها هذه الفريضة أو غيرها من الفرائض؟ بل تختص بهذا الشهر، فثمت برامج لا يمكن أن تكون إلا فيه، ولا تذاع أو تبث في غيره، وقد قلنا ذلك من قبل، لكنني أخاطب هنا قلوبكم وعقولكم، لا تكونوا من سفهاء العقول فتضيعوا هذه الخيرات، ولا تكونوا من ضعاف القلوب فتميلوا إلى الشهوات. وأخيراً -وهو الأمر الثالث كذلك- أنه كلما أردنا لهذه الخيرات في قلوبنا أن تزداد فطريقها مجانبة المعاصي بكل شيء، كالكلمة التي تتكلمها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً)، وكما قال لـ معاذ: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم!) لغو القول، وخيانة النظر، وسماع الإثم، والسعي إلى المحرم، كل ذلك يعاكس كل ما ذكرناه، فنحن الذين نستطيع أن نفتح الأبواب ليدلف إليها الخير والنور، أو نكون قد حرمنا أنفسنا. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب. اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، اللهم! وفقنا لحسن الصيام والقيام وصالح الأعمال، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، واجعلها زيادة لإيماننا، وترسيخاً ليقيننا، ونوراً لقلوبنا، وزكاة لنفوسنا، وطهارة لأرواحنا، ومضاعفة لأجورنا، ورفعة لدرجاتنا، وتكفيراً لسيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا -اللهم- فيما يرضيك آمالنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم! املأ قلوبنا بحبك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واجعل أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدامنا ساعية إلى طاعتك، وجباهنا خاضعة لعظمتك، وشفاهنا لهجة بتسبيحك وحمدك، واستخدمنا -اللهم- في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك، واجعلنا -اللهم- ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين، والمبعدين والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين. امسح -اللهم- عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء، اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سمع الدعاء. اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وجاء الصيف

وجاء الصيف موضوع الإجازة الصيفية من المواضيع المهمة التي يجب أن نفهم حقيقتها، والممارسات الخاطئة التي تحدث فيها، وكيفية اجتنابها، ولنعلم أن ميادين الخير كثيرة والمشاريع الخيرة في استغلال الإجازة وفيرة، حتى نفوت على أعداء الإسلام مخططاتهم التي يسعون من ورائها إلى قضاء هذه الإجازة في المحرمات والملهيات والمنكرات.

الإجازة والمفاهيم الخاطئة

الإجازة والمفاهيم الخاطئة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين. أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. هذا الدرس الأسبوعي وعنوانه اليوم: (وجاء الصيف)، وهو الدرس التاسع والعشرون، وكلنا يعلم أن التغيرات الاجتماعية تلقى تجاوباً وتغيراً في أحوال الناس أو ممارساتهم؛ لأن هذه القضايا تعم وتشمل الناس والمجتمع، إذ حينما تنتهي الدراسة أو يبدأ العمل أو تمنح فرص الإجازة تكون هناك من الأعمال والمناسبات ما لا يكون في غيرها، وموسم الصيف أيضاً فيه كثير من القضايا التي تحتاج إلى لفت النظر والتنبيه؛ لعل الفائدة تتم من خلال ذلك بعون الله جل وعلا، وسنذكر جملة من الموضوعات تحت هذه العناوين الرئيسة الخمسة: أولها: مفاهيم خاطئة. الثاني: ممارسات خاطئة. والثالث: ميادين الخير. والرابع: مشاريع مقترحة. والخامس: تتمات مما يتصل بالموضوع.

مفهوم العطلة

مفهوم العطلة ونبدأ بالمفاهيم الخاطئة، إذ إن كثيراً من الأعراف والممارسات تنطلق أصلاً من المفهوم الذي يستقر في أذهان الناس، والمفاهيم تنحرف وتتبدل وتتغير إذا لم يكن هناك ارتباط بالثوابت وأصالة مع المنهج الإسلامي، ووضوح فيما يجب وما لا يجب، وما يجوز وما لا يجوز ونحو ذلك. وتتغير المفاهيم أيضاً بالاختلاط والامتزاج بمجتمعات وثقافات وديانات مغايرة لما نحن عليه، تهب علينا منها بعض الأفكار وبعض التصورات، ويميل إليها بعض الناس وتتبدل حينئذ المقاييس والموازين. ووقفتنا في هذه المفاهيم مع ما يتعلق بالصيف، سيما في قطاع عريض وهو قطاع الطلاب، ويتبعه قطاع الأسرة والمجتمع؛ فهناك مفهوم العطلة أو الإجازة، والحقيقة أن بعض الألفاظ تلقي ظلالاً من المفاهيم الخاطئة، فإن كلمة (العطلة) من حيث الاشتقاق تلقي ظلالاً من المفهوم الخاطئ الذي ينتشر عند بعض الناس، ففي لسان العرب يقول: تعطل الرجل، إذا بقي لا عمل له. والاسم (العطلة) مشتق من الفعل (عطل) الذي هو البقاء بلا عمل، قال: والمعطل: الموات من الأرض، وإذا ترك الثغر من ثغور المسلمين مهملاً بلا حماية من الجند والجيش سمي ثغراً معطلاً، والمواشي إذا أهملت بلا راع عطلت، وكذلك الرعية إذا لم يكن لها وال يسوسها، وقد عطلوا، أي أهملوا. وإبل معطلة، أي لا راعي لها. ثم قال: والتعطيل التفريغ. قال: وقد يستعمل العطل في الخلو من الشيء، وإن كان أصله في اللغة في الحلي. أصل الكلمة يقال: امرأة عطلة أو عطلاء. أي لا حلي لها، يعني: أنها مجردة من الزينة، خالية منها. قال: وقد يستعمل العطل في الخلو من الشيء وإن كان أصله في الحلي، فيقال: عطل الرجل من المال والأدب، فهو عطل ومعطل، يعني: لا مال عنده ولا أدب. فإذا تأملنا هذه الكلمات واشتقاقها، فإننا نرى أن الظاهر في معنى العطلة أنه البطالة والفراغ والخلو من العمل، والركون إلى الكسل وعدم الجد أو النشاط أو الاكتساب أو الزيادة في أي أمر من الأمور التحصيلية التي يعتادها الناس. فرجل عطل أو عنده عطلة، يعني: أنه خال من كل شيء. ومن خلال الواقع نجد أن مفهوم هذه الكلمة ينطبق على هذا المعنى عند كثير من الناس، فتجد أن قطاعاً من الطلاب ومن المجتمع يقولون: العطلة تعني الفراغ، وكأننا نعتبر هذا الوقت الطويل بما فيه من الساعات والأيام والأسابيع والشهور عطالة وبطالة من العمل والجد والإنتاج، ولك أن تستغرب بل أن تستنكر أن يكون هذا المدى من الزمن الذي يبلغ نحو ربع العام، عطلة، ولو مد الإنسان في الحساب فإنه بالنسبة للطالب أو من يرتبط بترك العمل والتفرغ بنفس منهج وزمن الطلاب؛ فإن ربع عمره عطلة. فإذا قال القائل: العطلة شهر شهران شهران ونصف، ولا بأس أن تكون فراغاً وبطالة ما دام أن هناك جداً، لكن المعلوم أن الباقي ليس فيه جد، بل هو مخلوط في أكثره بكسل وخور. أقول من لطائف ما ذكرت بعض الصحف في قراءة قديمة: أنهم حسبوا بعض الأوقات اليسيرة في اليوم، ثم في الأسبوع، ثم بعد ذلك في وقت طويل؛ فإذا بها زمن. ذكرت بعض الصحف عن حلاقة الذقن عند غير المسلمين، وحتى عند المفرطين من المسلمين، فقالت: يستغرق زمن الحلاقة ما بين عشر دقائق إلى ربع ساعة، فإذا بها في أربعة أيام ساعة وإذا بها في الأسبوع تبلغ ساعتين إلا ربع ساعة، ثم حسبها في العام فإذا بها أيام، ثم إذا حسبتها في عدة سنوات إذا بها تبلغ مبلغ الشهور، فيتعجب الإنسان يقول: هل يعقل، لو قلت لإنسان ما: إن رجلاً يصرف شهرين أو ثلاثة من وقته في حلاقة ذقنه لما صدق، لكن في الواقع يقع مثل هذا كثيراً. فالمعنى المفهوم الخاطئ هو أن يتصور الناس أن هناك عطلة.

مفهوم الإجازة

مفهوم الإجازة وآتي أيضاً بالكلمة الأخرى وهي كلمة (الإجازة) التي تستخدم أيضاً في التعبير عن هذه الفترة من الزمن فيقولون: العطلة الصيفية، وكذا الإجازة الصيفية. أيضاً جاء في لسان العرب يقول: جزت الطريق جوزاً وجوازاً، وجاز به وجاوزه وأجازه وأجاز غيره، وجازه أي سار فيه وسلكه. فمعنى: جزت الطريق أو أجزت الطريق: سرت فيه وسلكته، قال: وأجازه خلفه وقطعه، يعني: خلفه وراءه، وقطع الطريق أي: انتهى من مرحلة ويستقبل مرحلة أخرى جديدة، ولذلك قال أيضاً: الاجتياز هو السلوك، فمعنى: اجتاز الشيء سلك فيه حتى يتجاوزه. نحن نقول في الدعاء: اللهم تجاوز عنا، يعني: اغفر لنا، وبمعنى أن يكون هناك انتقال من المؤاخذة على هذا العمل إلى غيره. ثم قال: والجواز صك المسافر، أي: الذي يجوز به المراحل وينتقل به من منطقة إلى منطقة أو من مرحلة إلى مرحلة، ولا أعلم فيما اطلعت أو قرأت من التاريخ أن هناك جوازات كانت فيما مضى، لكن ربما يكون هناك جواز عند الاحتياج، مثل السفير أو مثل الذي يبلغ رسالة، فيفيد أنه يسمح له بالدخول إلى مكان ونحو ذلك. قال: والجواز صك المسافر، وأجاز البيع أي: أمضاه، وفي الحديث: (أجيزوا الوفد) أي: أعطوهم الجائزة، والجائزة: العطية، وتكون العطية والجائزة في مقابل ما قطع من المرحلة، وفي هذا المعنى أيضاً: الإجازة في العلم، يقولون مثلاً: أجازه الشيخ إذا ختم الكتاب وقطع مرحلة، أي: أعطاه الجائزة المعنوية بأنه قد نال هذا العلم وشهد له به، أو الإجازة بمعنى الشهادة كما أشرت، فمعنى الإجازة على هذا المفهوم أنه اجتاز مرحلة وأجيز بها، يعني: قطعها وشهد له بقطعها، والذي ينتهي من مرحلة في غالب الأمر هل انتهى من مراحله كلها؟ إذا كان انتهى من المراحل كلها فله أن يرتاح وأن يركن وأن يسكن، ولكن نعلم أن المسلم ليست عنده مرحلة ينتهي فيها إلى حد حتى يلقى الله جل وعلا، ويلفظ آخر أنفاسه، كما قال الله جل وعلا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. إذاً: هذان المفهومان الخاطئان يمكن أن نصوغهما في معنيين، نحتاج إلى التنبيه عليهما بشيء من التذكير والقصص والحوادث. يتبين من خلال هذه الكلمات والمقدمة: أن هناك فترة نبحث فيها عن الراحة والبطالة، ونصرف كل صورة من صور الجد والعمل، وأن هناك فراغاً يحتاج الإنسان فيه إلى تضييع الوقت. هذان مفهومان عند الناس: أن هذا الوقت ينبغي أن يكون للراحة والسكون والخلود والكسل، أو إذا كان هناك من حركة فإنها حركة في تضييع الوقت ومحاولة الاستمتاع، دون النظر إلى ما سيترتب على هذه الممارسة من فائدة، ولذلك نقف عند هذين المفهومين من خلال هذه التعليقات اليسيرة.

موقف الإسلام من البطالة والوقوف عن العمل

موقف الإسلام من البطالة والوقوف عن العمل بالنسبة للراحة والبطالة والوقوف عن العمل، هو أمر لا يليق بالإنسان المسلم، وليس في تصور المنهج الإسلامي، قيل لبعض السلف: علام تتعب نفسك؟ قال: راحتها أريد. فإنما تكون الراحة في العمل والجد والطاعة، وبذل كل ما من شأنه أن يحصل للإنسان منفعة دنيوية أو أخروية ما دامت في إطار الشرع، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لكل نفس شرة وفترة)، (شرة): جد وعزم في الطاعة، (وفترة) ضعف. قال: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) يعني: لا يخرج في حال الضعف عن السنة وعن أعمال الخير والطاعة إلى أن يكون خلواً من العمل، فضلاً عن أن يمارس المعصية والمخالفة الشرعية. وعندما نتأمل في ضم المفهومين معاً، فإن حياة المسلم ليس فيها فراغ، وتأمل قول الله جل وعلا في خطابه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] قال ابن كثير رحمة الله عليه: إذا فرغت من شأن الدنيا وأحوال العباد فانصب لعبادة ربك. فليس هناك فراغ أصلاً في حياة الإنسان المسلم، بل كل وقت وكل لحظة ينبغي أن يشغلها بعمل وجد يكتسب فيه من أمر الدنيا ويغتنم فيه من أجر الآخرة ما شاء الله له أن يغتنم، ولذلك حس يتجاوب الإنسان المسلم مع المهمة والغاية التي خلق لها، ومع التصور الإسلامي الذي يدور معه: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل وفي صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، أي أن هذا الفراغ سمي فراغاً من حيث إن فيه فرصة للعمل والاكتساب، لكن القعود والنكوص والتخلف يجعل الإنسان في صفقة غبن؛ لأنه لم يأخذ بقدر ما أعطى، فهو قد صرف الوقت لكنه لم يجن من ورائه منفعة دنيوية مشروعة، ولا أجراً أخروياً هو مفتقر إليه؛ لذلك إذا تأمل الإنسان المسلم هذا المعنى وجده مرتبطاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس -وذكر منها-: الحياة قبل الموت، والفراغ قبل الشغل، والشباب قبل الهرم، والصحة قبل السقم). كل هذه المعاني لو تأملناها سنجد أنها تتركز في معنى أن المسلم لا يليق به أن يفرط في الوقت ولا أن يفرط في الجد والعمل، ولذلك لم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام الانبعاث للعمل أمراً هيناً بأن يقول: اعملوا أو استغلوا، بل جاء النداء النبوي الكريم فيه نوع من الحض؛ إذ قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر). إذاً: هذا التصوير منه عليه الصلاة والسلام يدل على أن الأمر لا يحتمل التواني والكسل والخلو من العمل، بل العكس هو الصحيح، والله عز وجل يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] وقال جل وعلا: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم شاهد عظيم على أن مفهوم الراحة والخلود وترك العمل وتبديد الوقت في المتع والأعمال الفارغة السخيفة التافهة، ليس وارداً في حس الإنسان المسلم، ولم يكن في سيرة أسلافنا رضوان الله عليهم.

نماذج من السلف في حفظ الوقت واستغلاله

نماذج من السلف في حفظ الوقت واستغلاله ورد في ترجمة الشافعي رحمة الله عليه كما في سير أعلام النبلاء أنه قسم الليل أثلاثاً: ثلثاً يكتب، وثلثاً يصلي، وثلثاً ينام، قال الذهبي: قلت: أفعاله الثلاثة عبادة بالنية، حتى النوم وحتى الكتابة للعلم تعتبر عبادة لما نوى فيها من الخير، فإذا كان هذا في الليل الذي هو موضع الراحة، فكيف بالنهار الذي هو موضع العمل، والله عز وجل ما خلق الليل والنهار ولا تتابعهما إلا ليكونا محل عمل وجهد في الطاعة، كما قال سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62]، (خلفة): يخلف بعضهما بعضاً، (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)، أي: أن يغتنم هذا الوقت، وقد ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين) أي: قد مد له في العمر وانقطعت حجته وفرط في عمره فلم يكن له حينئذ من عذر له إذا كان مواجهاً بالعقاب من الله سبحانه وتعالى. أبو الوليد الباجي وهو من علماء المالكية يخاطب نفسه في مسألة استغلال الوقت فيقول: إذا كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعه فلم لا أكون ضنيناً بها وأجعلها في صلاح وطاعه العمر مثل غمضة عين يمر كأنه أحلام، وتمر الأيام كأنها لحظات، فلماذا ألا يكون المرء ضنيناً بوقته كما كان شأن السلف الصالح. وهذا أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي يقول عن نفسه: قد عصمني الله في شبابي بنوع من العصمة، وقصر محبتي على العلم، وما خالطت لعباً قط. أي: لم يكن هناك وقت للعب، ولو تجاوزنا وقلنا: إن هناك وقتاً للعب فإنه يكون وقتاً بين عملين ليخفف من الأول وينشط للثاني، أما أن يكون اللعب والتفريط في الأوقات هو الغاية فهذا ما لا ينبغي أن يكون. يقول: وما خالطت لعباً قط ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا في عشر الثمانين -يعني: في العشر الثامنة من عمره- أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين. ويخاطب نفسه ويقول: لا أجد حلاً وجوازاً في أن أفرط في وقتي، ثم يقول: فإن تعبت عيني من نظر وكلت يدي من كتابة، فلا أقل من أن أنطرح وأشغل فكري في أمر أو مسألة من الخير. كان أبو عبيد القاسم بن سلام -كما في وفيات الأعيان- يفكر في المسألة من مسائل العلم، فإذا فتحت عليه قفز من شدة الفرح، وربما مضى ليلة كاملة يفكر في بعض مسائل العلم حتى يفتح عليه فيها. وأبو بكر محمد بن عبد الباقي وهو من سلالة كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وما من علم إلا وقد نظرت فيه وحصلت منه الكل أو البعض إلا هذا النحو فإني قليل البضاعة فيه، ثم قال: وما علمت أني ضيعت ساعة من عمري في لهو أو لعب! وكان ابن عساكر -كما في السير- مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، وقيل في وصفه: وكان يحاسب نفسه على لحظة واحدة تذهب في غير طاعة. قال تلميذه: كان يشتغل منذ أربعين سنة بالجمع والتصنيف والتسميع حتى في نزهته وخلواته فهو حتى النزهة لا يخليها من الفائدة؛ لأنه ليس هناك وقت للفراغ وللبطالة. وهذا الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة. ثم ذكر الذهبي جدوله اليومي، وهو جدول عجيب ليس فيه إلا الصلاة والتحديث والقرآن والمذاكرة في العلم بلا انقطاع وبلا ضياع وقت. ولذلك كانت هذه الصور وغيرها مما سيأتي ذكرها تتنافى مع مثل هذه المفاهيم التي تروج، وربما روجها بيننا أعداؤنا لنخلد إلى الراحة ونترك الجد والعمل، وما من سبب من أسباب البطالة والعطالة يمكن أن تأخذ به الأمة أو أن يسري في صفوفها إلا نجد من يعيننا عليه من أعدائنا، فإذا كان الفراغ يحتاج إلى لعب فعندهم من الألعاب ما يكفي الإنسان ليضيع عمره كله، ولو أضيف إلى عمره عمر آخر لضاع معه. فهناك للفراغ أفلام وتمثيليات، ولماذا يصنعون لنا هذا؟ إنما هو لتمرير هذه المفاهيم وتخليدها وتطبيقها عملياً؛ لتنصرف الأمة عن الجد والعمل، ولا يكون عندها مراجعة ولا وقفة مع الذات يخاطب فيها الإنسان نفسه، ويستحضر قصر عمره وإقباله على ربه كما قال القائل: أيا نفس ويحك جاء المشيب فماذا التصابي وماذا الغزل تولى شبابي كأن لم يكن وجاء مشيبي كأن لم يزل كأني بنفسي على غرة وخطب المنون بها قد نزل فيا ليت شعري ممن أكون وما قدر الله لي في الأزل فلا بد أن نقاوم مثل هذه المفاهيم الضعيفة التي تفت في العضد، وتضعف العزيمة، وتميل بالإنسان إلى الهامشية في الحياة وإلى الانسياق وراء مخططات الأعداء بصورة أو بأخرى. وكان سفيان الثوري رحمة الله عليه كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين فيقول: أطريف إن العيش كدر صفوه ذكر المنية والقبور الهول دنيا تداولها العباد ذميمة شيبت بأكره من نقيع الحنظل وذلك ليذكر نفسه أن الحياة قصيرة. وابن القيم يبين لنا عظمة الوقت وعظمة الجريمة المرتكبة في تبذيره وتضييعه، حينما يقول: إضاعة القلب وإضاعة الوقت: إضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد في اتباع الهوى وطول الأمل. ولذلك يقول رحمة الله عليه: لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، أي: على حسب همة الإنسان وقدره وشرفه يكون اهتمامه واستغلاله للوقت. قال: فأشرف الناس نفساً وأعظمهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إلى ما يحبه ويرضاه. ويقول ابن كثير عن الحافظ أبي الحجاج المزي وكان قد أصهر منه: وقذتني كلمة سمعتها من أبي الحجاج المزي الحافظ، سمعته يقول على هذه الأعواد -يعني: على أعواد المنبر-: إن امرأً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليه حسرته يوم القيامة. خرج شريح يوماً فوجد قوماً من الحاكة يلعبون، فقال لهم: ما لكم تلعبون؟! قالوا: إنا تفرغنا، قال: أوبهذا أُمر الفارغ؟! اقرءوا قول الله جل وعلا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7]. ولذلك لا بد للإنسان المسلم أن يعلم أنه ليس هناك وقت يسمى وقت فراغ، ولا وقت يسمى وقت خلو وبطالة من العمل، ولذلك قال ابن الجوزي: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، وليس فقط لا يضيع بل يقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور، ولربما يعجز عنه البدن من العمل. فإذاً ليس فقط مجرد استغلال الوقت، بل لا بد أن يقدم الأفضل فالأفضل، فلا يقنع بما هو أقل إذا كان يستطيع ما هو أعلى وأشرف. وقال الشاعر: إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده وكما قال أحدهم: الفراغ والصحة والمال ثالوث مدمر، ما لم يوجه التوجيه السليم. وهذه المعاني كما أشرت تصحح ذلك المفهوم الخاطئ الذي يتلازم مع مقدم الصيف.

ممارسات خاطئة في الإجازة الصيفية

ممارسات خاطئة في الإجازة الصيفية

ممارسات خاطئة فيما يتعلق بالسفر إلى ديار الكفار

ممارسات خاطئة فيما يتعلق بالسفر إلى ديار الكفار نذكر الممارسات الخاطئة أمرين اثنين: أولهما: ما يتعلق بالسفر إلى الخارج وإلى ديار الكفر على وجه الخصوص. وثانيهما: ما يقع من العطالة والبطالة للشباب على وجه الخصوص في الداخل. كثيراً ما يتزامن السفر مع هذه الإجازات والعطل كما درج على الألسن، فأريد أن أبين مخاطر السفر إلى الخارج في نقاط محددة. أولاً: الخطر العقائدي: ونعني بهذا السفر -كما أشرت- إلى بلاد الكفر، أو إلى بلاد العلمنة التي هي أقرب في ممارساتها إلى بلاد الكفار، وإن كانت متسمية ببلاد إسلامية. ويتمثل الخطر العقائدي في إلقاءات لا تظهر أو قد ينفيها صاحبها، لكنها في الحقيقة تتراكم شيئاً فشيئاً، منها: حب الكفار والميل نحوهم وتعظيمهم والانبهار بهم، وكم نرى ممن يكثرون السفر من يعظمون أهل الكفر ويميلون إليهم ويخلصون لهم الحب ويكنون لهم التقدير ويشابهونهم في الأفعال، وهذا يسبب ضعف البراء من الكفار، وهي عقيدة أصيلة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وليس المجال مجال إطناب، إذ سيأتي من القول لأهل العلم ما يشمل هذا أيضاً. الخطر الثاني: هو الخطر الأخلاقي، إذ يترتب على ذلك انفراط عقد المروءة، فبالنسبة للرجال ينطبع في نفوسهم وقلوبهم ذهاب الغيرة والحفظ للأعراض، وفي النساء يقل الحياء ويأتي التبرج، إضافة إلى ما يقع من انحلال في ممارسة المحرمات، مثل ممارسة الزنا والفواحش والمخدرات والمسكرات، وغير ذلك مما يقع فيه كثير من الناس. الخطر الثالث: الخطر الاجتماعي الذي ينطبع في كثير من الصور، منها: الميوعة في الشباب، والتبرج والفتنة في البنات والشابات، هذا ينعكس على الأوضاع الاجتماعية، إضافة إلى ما ينعكس أيضاً من العادات والتقاليد، وكما يسمونها: (الإتكيت) والنظم حتى أصبحنا نشابه القوم في كثير من التصرفات التي فيها حرمة ومخالفة شرعية من مثل أعياد الميلاد ورأس السنة والمناسبات الأخرى وغير ذلك. قبل فترة من الزمن لم يكن شيء من ذلك، لكن هذه الخلطة وهذا السفر أدى إلى انعكاس في مثل هذا الأمر، إضافة إلى أن هناك مشكلات اجتماعية واقعية تقع من خلال هذا، فكم يقع نزاع بين الأسر في السفر، المرأة تقول: لا بد أن نسافر، والرجل يقول: ليس هناك مال، تقول له: لا بد أن تدبر المال، والأولاد يقول أحدهم: لا، نسافر إلى الشرق، والآخر يقول: إلى الغرب، بل ويحصل طلاق وتتفكك للأسرة وتحصل نزاعات كثيرة، من خلال هذه القضية، وكأن الاختلاف في أمر واجب أو فرض عيني. حتى إن هناك صوراً ومفارقات عجيبة، بعض النساء يغيرن كل شيء بحسب ما يتغير في الأحوال، وكذلك الرجال، فتجد المرأة متحجبة مثلاً هنا في البلد وإذا ركبت في الطيارة أزالت حجابها، وفي طريق العودة قبل هبوط الطيارة بدقائق ترى اللون الأسود يظهر في الطائرة، بينما كان قبل لحظات كأن لم يكن هناك شيء، وهذا نوع من ضعف الإيمان والاستهانة بأمر الله سبحانه وتعالى. الخطر الرابع: هو الخطر الاقتصادي، وصرف الأموال في غير موضعها، وإنعاش اقتصاد دول الكفر. أضرب مثالاً ربما الإحصائيات فيه ظاهرة ومنشورة بشكل كبير: بريطانيا تعاني من بطالة شنيعة ومن عجز اقتصادي كبير، وتعول كثيراً على النشاط السياحي، إذ يبلغ عدد السياح الذين يردون على العاصمة أكثر من مليون سائح، نسبة كبيرة منهم من دول الخليج العربي والجزيرة العربية وبعض الدول العربية، وينفقون هناك الأموال في تقويم ودعم هذه البلاد؛ لأنها تعتمد في جزء كبير من دخلها على السياحة، ولا شك أن الإنسان في إقامته يأكل ويشرب ويتنقل ويسكن ويشتري، ويصرف الأموال في تلك الديار، وفي المقابل يكون قد اكتسب هذه الأموال من ديار المسلمين ثم سلمها إلى الكفرة، وهذا لا شك أن له أثراً سلبياً. بعض الناس يقول: الأموال التي سأنفقها عشرة آلاف أو عشرين ألفاً، هل هذه الأموال ستقيم هذه الدولة وتقوي ذلك الاقتصاد؟ نقول: نعم: لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى أنت تصرف عشرة آلاف وهذا عشرة آلاف حتى يبلغ عدد السياح عشرات الآلاف، فتبلغ المصروفات ملايين فيكون لها تأثير واضح، ونحن نعلم أن قوة الاقتصاد تستخدم كثيراً من دول الكفر ضد الإسلام والمسلمين، فأنت بهذا تكون عوناً مع أعداء الله على أولياء الله سبحانه وتعالى وعلى المسلمين. الخطر الخامس: ضياع الوقت في غير الطاعات، فلو تنزه الإنسان عن مقارفة المعاصي فإنه في غالب الأحوال يعجز ويضعف عن الطاعة ولا يأتي بها على كمالها، فلن يرد المسجد الذي يشهد فيه الجماعات باستمرار، وقد تفوته الجمع، وبحكم أنه مسافر لا بأس أن يفعل كذا وكذا، ولن يجد هناك في الغالب دروس العلم، ولن يجد المحاضن الإسلامية التربوية؛ لأنه في بلد كفري، لا يقابل سمعه ولا نظره ولا فكره إلا أمور كلها انحراف ومخالفات شرعية، ومن أجل ذلك فإنه لا يستطيع أن يستغل الوقت في الطاعات، إلا إن بقي في حجرته مغلقاً بابه يصلي ويصوم، إذاً لماذا يسافر؟! فليبق في بلده. الخطر السادس: من خلال الممارسات التي يقوم بها بعض الناس يحصل خطر مهم: وهو تشويه صورة الإسلام وتشنيع صورة هذه البلاد وغيرها من بلاد المسلمين. كثيراً ما يصد بعض الراغبين في الإسلام أو الذين يمكن أن تميل قلوبهم ونفوسهم للإسلام عن الإقبال، بسبب ما يرون من ممارسات منحرفة وسلوكيات بشعة انحلالية يقوم بها ويمارسها المسلمون، بل قد استغل الإعلام الغربي والشرقي صورة هؤلاء المنحرفين، ولبسوها على صورة كل مسلم وعربي، وسمعنا كثيراً من الأفلام والمقالات والتحقيقات التي استغلت هذه التصرفات لتضرب الإسلام ولتشوه سمعة وصورة المسلمين، وأنت داخل في هذا الضرر بصورة أو بأخرى. الخطر السابع: وهو التعرض للمخاطر المادية المباشرة، وفي السنوات الماضية زادت عمليات القتل والخطف والسرقة والتهديد والابتزاز، فلماذا يعرض الإنسان نفسه لمثل هذا وهو كريم معزز في بلده آمن على نفسه مطمئن على ماله؟ تسافر لتكون هناك عرضة لأن يسرق مالك، وتبقى منقطعاً في بلد لا يكرم كريماً ولا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة؟! ورأينا وسمعنا عن حوادث كثيرة من مثل هذا النوع، وهي من المخاطر التي تتزايد في الفترات الأخيرة، إذ إن العداء يتوجه نحو الإسلام والمسلمين والعرب كذلك واستهداف أموالهم، وأنهم هم الذين يتمتعون بالأموال، وأن عندهم هذه الثروات، وأنهم أغبياء وحمقى يصرفونها في غير ما ينبغي أن تصرف، فإذاً لا بد أن نسرقها منهم وأن نخطفهم وأن نقتلهم، والقتل عندهم أسهل من شرب الماء، وعندهم السرقة أيسر من تنفس الهواء، ليس عندهم هناك أمان ولا ضوابط ولا شيء من هذا القبيل، ومثل هذا يقع كثيراً، والمسلم ينبغي أن يحصن نفسه عن مثل هذه القضايا. وضمن هذا السفر تقع ممارسات أكثر خطورة بأن يسافر الشاب وحده وهنا كما يقال: خلا لك الجو فبيضي واصفري. يعني: لا يكون عنده على الأقل نوع من الحياء من أب أو أم، إن كان هناك حياء أو توقير أو تقدير، وإذا اجتمع بعض الشباب مع بعض ولم يكونوا على خير وصلاح أعان بعضهم بعضاً على المعصية، وجرأ الجريء منهم من ليس جريئاً، وشجع المبادر منهم الذي عنده تردد، وللأسف نجد أن بعض الشباب يزين لغيره ويدفعه وينقل له تجربته وخبرته في مثل هذه القضايا. والقضية الأخرى أن بعض الرجال يسمحون لعوائلهم أن يسافروا وحدهم، أو يسافر معهم ويتركهم في تلك البلاد ويعود هو، وكأن تلك البلاد فيها أمان وفيها إسلام وفيها دعوة إلى الخير، ما يشعر أنه حينما يترك هؤلاء كأنه ضيعهم ولم يقم بحق الله وبأمر الله سبحانه وتعالى فيهم، وهذه صور واقعة وللأسف وكثيرة في مثل هذا الأمر. ولعل من استشعار هذه المخاطر أن جاءت بعض النظم الجيدة، مثل منع السفر لمن دون سن الحادية والعشرين من العمر إلا بإذن ولي أمره؛ لأنه دون ذلك غالباً ما يكون في مثل مجتمعاتنا وواقعنا لم يبلغ مبلغ العقل والحزم والحكمة، فيضحك عليه ويقع في كثير من القضايا، وإن كان حتى بعد هذا السن قد يقع منه بعض هذا، وكذلك لما رئي كثرة الفساد والإشكالات الكثيرة في جانب السفر إلى بعض البلاد مثل (تايلاند) وغيرها منع السفر إليها؛ لما فيه من الفساد، ولما فيه أيضاً من التعدي على الحرمات بالقتل وغير ذلك، وكذلك سفر المرأة بدون محرم، وإن كان هناك أسلوب وهو أن المحرم إذا وافق يمكن أن تسافر المرأة وحدها، وهذا فيه خطر كثير وكبير، ويقع وللأسف في بعض الأحايين. أذكر ختاماً لهذا الموضوع الذي يقع فيه كثير من الناس فتوى سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا، وبعض الفتاوى الأخرى في غير هذا الموضوع، لكنها تدلنا على أن هذا من باب أولى، قال الشيخ في جوابه على سؤال عن السفر إلى الخارج: أنعم الله عز وجل على هذه الأمة بنعم كثيرة، وخصها بمزايا فريدة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي ارتضاه الله جل وعلا لعباده شريعة ومنهج حياة، وأتم به على عباده النعمة، وأكمل به الدين، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. لنتأمل إلى نظر وكلام الشيخ في معرفة أن هذا الأمر هو نوع من الغزو ونوع من الحسد ونوع من الإضرار للمسلمين، قال: ولكن أعداء الإسلام قد حسدوا المسلمين على هذه النعمة الكبرى، فامتلأت قلوبهم حقداً وغيظاً، وفاضت نفوسهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدين وأهله، وودوا لو يسلبون المسلمين هذه النعمة أو يخرجونهم منها، كما قال تعالى في وصف ما تختلج به نفوسهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:11

ممارسات خاطئة فيما يتعلق بالبطالة والضياع للشباب

ممارسات خاطئة فيما يتعلق بالبطالة والضياع للشباب الصورة الثانية بعد السفر إلى الخارج: ما يقع من أعمال البطالة والضياع من الذين لا يسافرون: بعض الشباب -هدانا الله وإياهم- يقعون في تفاهات وتضييع للأوقات وممارسات خاطئة ومحرمة، فتجد ظواهر مثل: قضاء الوقت في التسكع في الأسواق، المعاكسة في المنتزهات والملاعب، الاجتماع على اللعب بالورق وغير ذلك، وكذا السهر إلى آخر الليل على (الفيديو) والتلفاز وما فيه من المفاسد والفتن والأفلام التي تهيج الغرائز وتدعو إلى الفتنة وتحض على الجريمة في بعض الأحوال، وكذلك قضاء الوقت في النوم والخور والكسل، حتى إن الإنسان يدهش ويعجب من سهرهم وضياع أوقاتهم ثم نومهم الكثير. وتظهر من وراء ذلك صور مثل: التميع والتشبه بالكفار ونحو ذلك، كل هذه صور وممارسات خاطئة تنشأ عن عدم حصول الفهم والتصور، وللأسف أن الذي يساعد على مثل هذا هو ما يرسم من خلال الإعلام صحافة وتلفازاً، وغير ذلك ما هو تكريس لهذه الظاهرة الخطرة: كيف تقضي وقتك؟ كيف تستمتع؟! كيف ترفه؟! كيف كذا؟! ليس هناك أي إشارات إلى القضايا الجادة والمهمة، فترسخ في نفوس الناس هذه المعاني ويميلون إليها.

ميادين الخير

ميادين الخير ميادين الخير التي يمكن أن يكون فيها انتفاع بالوقت وجد وعمل، أذكر منها جانبين اثنين:

المراكز الصيفية

المراكز الصيفية المراكز الصيفية التي تتبناها جهات فطنت لأهميتها ولضم الشباب إليها، وشغلهم بالنافع المفيد، ومن ذلك جامعة الإمام محمد بن سعود ووزارة المعارف، والجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، هذه المؤسسات تقيم مثل هذه المراكز لتكون مجالاً للانتفاع واستثمار الأوقات وحصول كثير من المنافع والفوائد، ومنها: الأولى: حفظ الأوقات من الضياع، أقل ما يمكن أن يعان به الإنسان في مثل هذه المراكز أن يحفظ وقته من الضياع في المحرمات أو في التوافه والسخافات. الثانية: الحفظ من الوقوع في المخالفات؛ لأن الإنسان إن كان في جانب من ميادين الخير، فإنه يغلب على الظن أن تشغله الطاعة عن المعصية بإذن الله جل وعلا. الثالثة: توفير الأجواء الإسلامية التي تعين الشاب على الخير وتربيه على الأخوة، فهي تهذب نفسه، تقوم أخلاقه، تصحح تصوراته؛ لأن الإنسان لا يكفيه الكلام، حتى إذا عاش في جو مناسب تجسدت أمامه صور الأخوة، ورأى أمثلة العلم ورأى قدوات المسابقة إلى الخير، ورأى نماذج الحرص على أمور الطاعات، فإن هذا يكون مانعاً من المفاسد التي تحدث عندما يعيش أو يسافر إلى بيئة غربية أجنبية كفرية، كذلك يعكس الأثر عندما يعيش في بيئة إسلامية طيبة، وفي أجواء تحث على الخير وتعين عليه. الرابعة: الإفادة العلمية، فإن مثل هذه المراكز تشتمل على دروس علمية ومحاضرات ثقافية ومسابقات فيها إعداد لبحوث أو تلخيص لكتب نافعة أو نحو ذلك، إضافة إلى حفظ القرآن الكريم، وحفظ الأحاديث النبوية الشريفة، فإن هذا لا يستطيع في غالب الأحوال أن يقوم به المرء بنفسه؛ لأنه يعجز ويكسل، وأحياناً بعض الأعمال بطبيعتها تحتاج إلى الاشتراك، فإن العلم يحتاج إلى من يعلمه حتى يستمع، وهناك أيضاً بعض الأعمال تحتاج إلى المنافسة والحماس، حتى ينبعث إليها وتقوى همته وعزيمته عليها، وهذا جانب مهم أيضاً. الخامسة: اكتساب الخبرات وتنمية المهارات، فإنه إلى جانب هذا العلم وإلى جانب الفائدة العلمية فهناك ممارسات وفوائد تقدمها كثير من أنشطة هذه المراكز، سواء من التدريب على بعض المهارات والأعمال كمعرفة (الكمبيوتر)، أو الضرب على الآلة الكاتبة، أو تعلم الخطابة، أو تعلم أسلوب الكتابة، أو التربية البدنية أو نحو ذلك من البرامج المختلفة، فإنها تفيد كثيراً في مثل هذا الجانب. السادسة: التعرف على الجديد النافع، من خلال الزيارة لبعض المؤسسات العلمية والثقافية، أو بعض المنشآت الصناعية والحضارية، وهذا يربط الإنسان وينفعه ويفيده، ولذلك فالحديث عما يتصل بمثل هذه المراكز لا يحتاج إلى تطويل؛ لأن واقعها يشهد بكثير من الخير الذي فيها، ولذلك ينبغي أن يتبنى الآباء تشجيع أبنائهم، ولا بد أن يتبنى الأبناء والشباب ترغيب إخوانهم، ولا بد أن تكون قنوات الإعلام مشجعة عليها ودافعة إليها؛ لما تتضمنه من الخير وتدرأ من المفسدة، ولما تحصل من عوائد ومنافع حتى على البلاد وعلى الطلبة، وعلى المؤسسات التي تقوي وضعها ودورها في المجتمع وتزيد من نشر خيرها، فالجمعيات الخيرية للتحفيظ عندما يأتيها الطلاب يرتبطون بعد ذلك بحفظ القرآن، وجامعة الإمام عندما يأتيها الطلاب يرتبطون بعد ذلك بمعاهدها العلمية وكلياتها الشرعية، وغير ذلك من الفوائد، فلا بد أن تتضافر الجهود لدعم مثل هذا العمل.

المشاركة في الأعمال الإسلامية من خلال الهيئات

المشاركة في الأعمال الإسلامية من خلال الهيئات الجانب الثاني: وهو جانب الأعمال والمشاركة في الأعمال الإسلامية من خلال الهيئات الإسلامية: وأعني بذلك المشاركة في أعمال الدعوة وأعمال الإغاثة، فإن هناك برامج تتاح وتعرض وتزيد في فترة الإجازة من قبل هيئات، مثل: هيئة الإغاثة الإسلامية، ومثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي. وهناك برامج دعوية، وبرامج إغاثية يسافر الإنسان من خلالها إلى بلاد الإسلام ويرى أحوال المسلمين ويساهم في العمل، وتجد أن هناك كثيراً من الفوائد والأعمال يجنيها الإنسان من مثل هذا العمل، منها: الأولى: تفقد أحوال المسلمين، وهذا عمل إسلامي مطلوب، فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. الثانية: مساعدة المحتاجين بتقديم العون المباشر، وشعورك بأنك تؤدي واجباً، وأنك تعين مسلماً، وأنك تمسح دمعة يتيم، وأنك تواسي امرأة ثكلى، وأنك تعين شيخاً كبيراً، وهذا أمر كبير ومفيد ونافع. الثالثة: تعليم الجاهلين، فإن الذي يشارك في البرامج الدعوية يرى صوراً من الجهل في بلاد الإسلام، كما تقوم بعض الهيئات ببعث الطلاب من حفظة القرآن إلى بلاد إسلامية، يمكثون فيها الشهر والشهرين، يتفرغون لتعليم المسلمين القرآن وتجويده وتلاوته وحفظه، ولا شك أن في هذا أجراً عظيماً، وكأنك مع أجر هذا العمل تنال أجر الرحلة إليه وما تكبدته من المشقة فيه، فبدلاً من أن تتحمل مشقة وتنال وزراً وإثماً؛ تتحمل مشقة وتنال عليها مثوبة وأجراً. من الفوائد أيضاً: الشعور بنعمة الله سبحانه وتعالى، فإنك عندما ترى الخائفين تشعر بنعمة الأمن، وعندما ترى الجائعين تشعر بنعمة الطعام والشراب والرزق الوفير، وعندما ترى المشردين والمهجرين تشعر بنعمة الله سبحانه وتعالى، فتكون أحرص عليها وعلى استدامتها بشكر الله عز وجل أكثر، بحيث لا تكون مفرطاً في هذه النعم غير عابئ بها ولا مكترث لها. من الفوائد أيضاً: معرفة حقيقة العداء ضد الإسلام والمسلمين، ترى عندما تذهب للبوسنة والهرسك ترى القتلى والجرحى، ترى المساجد المهدمة، وعندما تذهب إلى أفريقيا ترى أعمال التنصير وأصابعه الخبيثة، فتعرف حقيقة المعركة، وتعرف أنك مستهدف، وأنك جزء من أمة. وهذا أمر مهم، بدلاً من أن يضيع الشباب في السخافات والتفاهات، فإنهم لو ذهبوا إلى تلك البلاد لرجعوا بغير العقل والقلب والوجه الذي ذهبوا به، فيرجعون بقلوب وعقول تتناسب مع ما ينبغي أن يكون عليه شباب الإسلام في مثل هذه المرحلة المعاصرة من حياتهم. ومن الفوائد أيضاً: تعميق روح الأخوة والوحدة بين المسلمين، هنا تأكل وتشرب وتنام، وتسمع أن هناك بلداً مثل البوسنة والهرسك، أو أن هناك بلداً يقال له كذا وكذا، لكن إذا ذهبت شعرت أنك جزء من هؤلاء الناس، وأن تلك الديار هي ديارك، وأن الاعتداء عليها اعتداء عليك، هذا الشعور لا يمكن أن يأتي إلا من خلال هذه الأعمال. هناك برامج كثيرة في هذه الإجازات يمكن للإنسان أن يسافر من خلالها وأن يخدم الإسلام والمسلمين وأن يحصل له الأجر والثواب، وأن يحصل له النفع والفائدة، ومن أكثر البرامج اتساعاً برامج الدعوة في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي سابقاً، وهناك نحو عشرين مخيماً تربوياً دعوياً تنظمها الندوة وهيئة الإغاثة العالمية الإسلامية، وهناك أيضاً برامج دعوية وقوافل تسمى قوافل الدعاة، تجوب في أفريقيا تقوم بها الندوة العالمية أيضاً، فإذا كان عندك وقت وعندك جهد وطاقة، فإنك تصرفها في هذا الميدان من ميادين الخير.

المشاريع المقترحة في الإجازة الصيفية

المشاريع المقترحة في الإجازة الصيفية المشاريع المقترحة، قد لا يكون هناك فرصة لهذا ولا لذاك، فهناك أيضاً مشاريع ومقترحات تضاف إلى مثل هذا الخير الذي يمكن أن يحوزه الإنسان وأن يحصله: الأول: القيام من قبل الشباب بجولات دعوية في بعض القرى والمناطق النائية، فإذا لم تستطع السفر إلى أفريقيا، وإذا لم تر الجهل في بعض ديار الإسلام فإنك تجده في بلاد ومناطق قريبة منك، وأعرف بعض الإخوة يذهبون إلى مناطق الساحل مثل: القنفذة وما يتلوها من مناطق ساحل تهامة، فيصفون أموراً عجيبة من الجهل، ومن المخالفات الشرعية، والأقوال والعادات التي تخالف حكم الله سبحانه وتعالى. لو أخذت جمعاً من إخوانك وذهبت أياماً قليلة في زيارة إلى مثل هذه المناطق لنفع الله بك وانتفعت، وعرفت من الأحوال وذكرت الآخرين، وساهمت في لفت النظر إلى مثل هذه الأعمال، ويحصل من ذلك خير وأجر ومثوبة. الثاني: مسألة صلة الأرحام، كثير من الشباب والملتزمين ينشغلون بأعمالهم عن أقرب المقربين إليهم، في هذه الإجازات فرصة أن يتبنى مشروعاً يستقدم فيه بعض أقاربه ليزوروا أهله، ثم يعد لهم برامج جميلة ومرغبة، وفيها بعض الخير من التذكير وتوزيع الشريط أو إهداء الكتاب الصغير، لماذا يريد بعض الشباب أن يجلس الناس أمامه ليلقي عليهم خطبة عصماء أو يقرأ عليهم كتاباً طويلاً؟! يمكن أن ينظم برنامجاً قصيراً لأيام محدودة لمجموعة من الأسر من أقربائه، فينال بذلك منزلة، ويرون أنه يحرص على نفعهم، ويرون أنه متودد إليهم، لا أنه منشغل عنهم، أو كاره لهم أو معارض لهم، فلينتهز الفرصة في مثل هذا الجانب. الثالث: كثيراً ما يقول الشباب: إذا جاءت إجازة سأحفظ أو سأقرأُ أو سأدرس أو نحو ذلك، أقول: ينبغي الحرص على العلم وتحصيله، لو كنت مشاركاً في مركز أو مواظباً على محاضرة أو نحو ذلك في وقت الإجازة، فالوقت فيه اتساع أكبر، وإمكانية العمل فيه أوسع، فلا تكتف بأقل القليل مما يقع لك، بل يمكن أن يكون لك حرص على أن تنتظم في درس أو درسين أو ثلاثة من الدروس النافعة الموجودة والمنتشرة، تزيد ما أنت فيه من الخير. الرابع: التحصيل والتكوين الذاتي الذي ليس فيه مساعدة من الآخرين: لماذا لا يجعل لنفسه برنامجاً في حفظ القرآن، في حفظ بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ولو قليلاً؟ ولتكن الحصة معتدلة أو قليلة حتى يمكن أن ينجح فيها. ويمكن للشاب أن يمارس العمل وأن يكون في وظيفة؛ لأن هذا يحصل به خبرة ويحصل به مالاً، فلماذا لا يمارس أعمال الخير سواء بالاشتراك في مركز أو محاضرة أو كذا، ولا يجعل النهار كله للنوم؟ لا أرى ولا أقبل مثل هذه الصورة مطلقاً، وللأسف أن هذا يقع من كثير من الشباب الذين نحسبهم على خير، فلو ربط نفسه بعمل ولو عملاً تطوعياً في جانب من جوانب الخير، أو عمل بأجر يكتسب فيه خبرة ويكتسب فيه مالاً لحصل له كثير من الخير. ويمكن التحصيل الذاتي الذي قد يقصر الوقت أو يعجز الجسم أو يقل العزم عنه في أوقات الدراسة، ومن ذلك كثير من الأمور العبادية التطوعية مثل قيام الليل، يقول: لا أستطيع أيام الدراسة لأن الدراسة مبكرة، ثم يأتي هذا الموسم الذي ينبغي أن يكتسب فيه تعوداً على هذا الأمر، فليجعل لنفسه برنامجاً يحرص عليه وحده مرة ومع غيره مرة وهكذا؛ والمقصود أنها برامج ذاتية تنفع الإنسان في تحصيله العلمي وفي تكوينه الذاتي وفي تربيته الإيمانية. الخامس: البرنامج الأسري: هذا موجه للآباء؛ وذلك إذا لم يسافر الأبناء ولم يشاركوا في بعض هذه الأعمال، وحتى لو شاركوا فيمكن أن يجعل الأب في أسرته برامج خفيفة، لماذا يتركهم للتلفاز يقضون ليلهم ونهارهم فيه، لو عمل لهم مسابقة في حفظ جزءٍ من القرآن أو سورة أو أحاديث أو قراءة كتاب، أو يعمل لهم درساً، أو يقرأ لأبنائه إن كانوا صغاراً قصصاً، ويكون هذا بداية لأن يستمر مثل هذا العمل بعد ذلك ولو بصورة أقل، فإن ترك الأمر وترك الأبناء والأسرة على ما تحب يحصل فيه أن الصغار ينشغلون بأفلام الكرتون، وينشغل الشباب بالخروج هنا وهنا كما أشرت في أعمال العطالة والبطالة، وتنشغل النساء مثلاً بالهاتف وأحاديث النساء من هنا وهناك كما هو معلوم، وبحضور المناسبات وغير ذلك، لا بد أن يوجد رب الأسرة شيئاً من الجد والعمل والمنافسة الخيرة في مثل هذا الجانب. السادس: البرامج الإعلامية: نرى مسابقات تكون في رمضان، فما دامت هناك إجازة أو عطلة أو وقت، لم لا تكون هناك برامج، مثل المسابقات في الصحف أو حتى برامج إعلامية فيها تعليم، وفيها زيادة من الحصص العلمية والتوجيهية واكتساب الخبرات؟! لماذا لا تكون هناك برامج لتعليم الحرف ونحو ذلك، ما دمنا نقول إن هناك فراغاً، فهناك بعض الدورات كانت تقام مثلاً في المعاهد المهنية لا أرى لها الآن ظهوراً وأحسبها قد انتهت، نريد أن يكون المجتمع فيه تعاون على استغلال الأوقات في أمور جادة ونافعة، فوسيلة الإعلام مع وسيلة التعليم مع وسيلة توجيه الأسرة، مع رعاية المجتمع وتوجيهه، حتى تكون هذه الفترة فترة جد، لا أن تكون فترة الصيف محلاً للفراغ الذي يمحو كل أثر للدراسة التي درسها الطالب، حتى يأتي العام الجديد وهو صافي الذهن خال من المعلومات، ليستقبل معلومات جديدة أخرى. السابع: الاستفادة مما يقع دائماً في الإجازة الصيفية من موسم الزواجات: كثيرة هي الزواجات حتى إنها تملأ أيام الأسبوع، وينشغل الناس فيها، فلا بد أن يكون هناك حرص على أن يحصل بعض النفع، أذكر أن واحداً حدثني قبل فترة يقول: كنا في مناسبة زواج قبل عدة أيام فكنت أقول: لو أن الناس خففوا في هذه المناسبات من المبالغة في الإنفاق، وخصصوا ما كانوا يعتزمون إنفاقه للتبرع للمسلمين، لبلغت هذه الأموال عشرات الملايين، لأن الناس ينفقون أموالاً كثيرة بعضها في غير محلها وبعضها زائدة عن حدها، فأول الأمر: لو كنت صاحب زواج أو كان لك قريب، فاقتصر في المناسبات، وخفف من المصاريف، وجعل بعض هذا المال في وجوه الخير، فلا يخفف من المصاريف ليوفر المال في جيبه، بل من أجل أن ينفق في سبيل الله عز وجل، فهو أصلاً قد قرر أن ينفق هذا المال، فليجعل شطره لله وشطره لإقامة المناسبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة)، فلا يحتاج أن يدعو الأولين والآخرين والمقيمين والمرتحلين الأحياء منهم والأموات ليشهدوا هذا الحفل، فإن هذا يشق على الناس، وأكثر الناس الآن إذا دعي إلى مناسبة زواج كأنه وقعت فوق رأسه طامة؛ لأن عنده مناسبة أخرى وثانية وثالثة وعنده عمل ويريد أن ينجز بعض الأشياء، فأصبحت الأعباء الاجتماعية ثقيلة؛ لأن كل من له صلة بأحد من بعيد أو قريب يدعوه، فيحصل مشقة للناس، فلو خفف مثل هذا لكان خيراً. الأمر الثاني وهو أمر بوادره جيدة: أن تستغل هذه المناسبات وجمع الناس فيها في الموعظة والتذكير اليسير واللطيف، لا يأتي في وقت الفرح ويقص عليهم أخبار الموت والقيامة، فإن لكل مقام مقالاً، وكذلك لا يطيل عليهم. أيضاً القيام بأعمال ومشاريع خيرة، كأن يوزعوا شريطاً أو كتيباً صغيراً أو مقالة لطيفة، هذه أمور فيها كثير من الخير. ويمكن أن ينتفع بأكثر من ذلك، وهذه أمور للتنبيه على أن هناك مجالات كثيرة، لا يعجز الإنسان أن ينتفع من وقته وأن يقوم بالعمل، والمرفوض هو أن يكون الإنسان خالياً من العمل ومضيعاً للوقت. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لاستثمار الأوقات واستغلالها في الخير، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

معنى العطلة من حيث اللغة

معنى العطلة من حيث اللغة Q من الوقفة الأولى علمنا أن التعبير عن العطلة والإجازة خطأ، فما هو التعبير الأصح؟ A لم أقل إنه خطأ، تعبير العطلة أرى أنه في معناه اللغوي لا يصح إلا إن قلنا: إنه خال عن الالتزام بالدراسة، باعتبار أنه ليس مكلفاً بالدراسة في هذا الوقت، فيقال: إن عنده عطلة أي: خلواً من الدراسة، لأن معنى التعطيل كما قلنا: هو الخلو من الشيء، أما الإجازة فصحيح هو أجيز الآن إلى مرحلة أخرى، فينبغي أن يجتاز المرحلة الأولى. وعلى كل حال يسمي ما شاء أن يسمي، المهم هو المضمون.

خطأ محاربة المراكز الصيفية

خطأ محاربة المراكز الصيفية Q إن بعض الناس لا يرون فائدة ولا تأييداً للمراكز الصيفية، وأنهم يمزقون إعلاناتها؟ A هذا في غالب أحواله أنه مخطئ، قد يكون مجتهداً في فعله لكنه خاطئ، إذ الأمور بمضامينها، فهل في مثل هذه الاجتماعات أو اللقاءات في المراكز محرمات أو دعوة إلى الباطل، أو أصلها مبني على تزيين الشر والدعوة إليه، كل الوقائع والشواهد والحقائق تدل على غير ذلك كما أشرت إيجازاً في هذا الدرس، وكثير من المشايخ وأهل العلم يرتادونها ويحاضرون فيها ويدرسون فيها ويثنون عليها؛ لأن فيها فائدة عظمى يشهد بها القاصي والداني، وربما قصر نظر هذا عن مثل هذا الأمر، أو يرى أن غيره أفضل منه، فإن رأى ذلك فليس له أن يمنع ما هو أدنى إن كان يراه أدنى من هذا.

التوفيق بين العمل في المراكز الصيفية وكسب المال

التوفيق بين العمل في المراكز الصيفية وكسب المال Q أحدهم ينصحه بالاشتراك في المراكز، والآخر ينصحه بالعمل لكسب المال وغير ذلك، فهو واقع في حيرة؟ A ليس هناك حيرة، إن كان صاحب همة استطاع أن يجمع بينها كلها، يعمل في الصباح ويحضر المراكز في العصر، ويقوم بالصلاة في الليل، والوقت أوسع مما يتصوره إن كانت همته كبيرة.

طلب بالتذكير لزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في العطلة

طلب بالتذكير لزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في العطلة Q لو ذكرتم للإخوة المصلين والأسر إذا كان هناك وقت أن يغتنموا الوقت في الاعتمار وزيارة المدينة المنورة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ A لا شك أن هذا من الأمور النافعة والمفيدة، وكثير من الناس يستغلون بعض الوقت في مثل هذا وهو خير، والتذكير به حسن وجيد.

عدم صحة تأثير المراكز الصيفية على التحفيظ

عدم صحة تأثير المراكز الصيفية على التحفيظ Q كثير من الشباب يقول: إن المراكز تؤثر على التحفيظ؟ A ليس هناك تأثير إلا من ضعف الإنسان نفسه، وإلا فبالإمكان أن تقول: إن الدراسة تؤثر على التحفيظ، وإن الارتباط بالأهل يؤثر على حفظك للقرآن، لكن لو أعطى الإنسان كل شيء وقتاً كافياً وجهداً مناسباً وكان عنده الاهتمام والاعتناء بكل أمر بحسبه لاستطاع أن يحصل مثل هذا، والذي يدل على نقض هذا القول أن بعض الأمثلة تنقضه واقعاً عملياً، لماذا أنت الذي يؤثر على تحفيظك بينما زميلك يحفظ ويقرأ ويستمع للدرس ويكتب ويلخص؟! من أين جاءه الوقت؟! وهل عنده وقت غير وقتك؟ وهل عنده عضلات وقوة غير قوتك وعضلاتك؟! لا، عنده شيء واحد وهو أن همته وعزيمته وانبعاثه للخير أقوى وأفضل.

حكم تأليف الروايات والقصص وتمثيلها

حكم تأليف الروايات والقصص وتمثيلها Q ما حكم تأليف الروايات والقصص، ربما أيضاً جاء هنا سؤال بما يتعلق بتمثيل هذه الروايات خاصة فيما يقع في بعض الأنشطة الصيفية؟ A وقفة مناسبة هنا حول هذا الموضوع، بعض أهل العلم ذكر الإباحة، وبعضهم ذكر المنع، وفي هذا بعض التفصيل. أقول بإيجاز: الذين ذكروا الإباحة استدلوا بعمومات أدلة كثيرة، منها قاعدة أن الأصل في الأشياء البراءة من الحرمة حتى يثبت التحريم بدليل مخصوص، ومنها عمومات أدلة ليست أدلة في نفس القضية، مثلما استدلوا ببعض ما جاء في القرآن من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام لما كسر الأصنام وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وقال: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89] أي: أنه ماشاهم وأظهر لهم شيئاً غير الذي هو على الواقع والحقيقة. وذكروا أيضاً من عمومات الأدلة: قصة يوسف عليه السلام {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58] ثم جاراهم على أنه لا يعرفهم ووقع ما وقع من قصته مع أخيه، ثم أيضاً بعض الأحاديث، مثل حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه لما توضأ وضوءه للصلاة وقال: (إنما أردت أن أعلمكم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم) أي: أنه مثل لهم وضوء النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوى وأظهر منه حديث مالك بن الحويرث، قال: (إني لأصلي الصلاة ولا أريدها، إنما أريد أن أعلمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم). وقد استشكل هذا وذكر ابن حجر تعليقاً عليه، وكان من ضمن قوله أنه قال: في هذا الحديث أن التعليم بالفعل أوضح من التعليم بالقول، وقال: إنه لا يقصد فيه أنه لم يرد العبادة أصلاً، وإنما أنه ليس هناك سبب باعث، يعني: أنه لم تكن هناك فريضة ولم تكن سنة وإنما كان الباعث هو باعث التعليم، هذه عمومات أدلة. في الجانب الآخر: هناك من منع لعمومات لا تنطبق بالضرورة على هذا، من ذلك حرمة الكذب. الثاني: الخوف والبراءة من التشبه بالكفار. الثالث: ما قد يقع من المحظورات. ولكن في الجملة هناك فتوى للشيخ محمد بن صالح العثيمين ذكر أنه ليس فيه كذباً، إذ الكذب هو أن يكون السامع مصدقاً لك بهذا الأمر وهو غير صحيح، لكن إن كان يعرف أنه غير صحيح فلم يعد في ذلك كذب، بمعنى: هذا الذي يقول إنه زيد، وذاك الذي يقول إنه عبيد، يعرف الناس أنه ليس زيداً ولا عبيداً، وأن ليس هذا أباً لهذا ولا هذا ابناً لذاك، فما دام أن العلم حاصل بأن هذا هو تصوير وتمثيل فلم يقع الكذب. ويقول الشيخ ابن جبرين: التمثيليات إذا كانت هادفة ومفيدة فهي أكثر فائدة من الكلمات التي تلقى على الحاضرين، وتأثيرها أكثر من تأثير الكلمات؛ وذلك لأنهم يشاهدونها بالنظر ثم يطبقونها ويحرصون عليها، ويتذكرونها تذكراً زائداً، فالحاضرون يعلمون أنها ليست حقيقة إنما هي تمثيل، فلا ينطبق عليهم حديث: (ويل للذي يحدث ويكذب ليضحك القوم، ثم ويل له ثم ويل له) فهؤلاء ما كذبوا، وإن كانوا كاذبين فالحاضرون يعلمون أن هذا ليس هو فلان، لأجل ما فيها من التأثير والأهداف الطيبة، أنا أقول: لا بأس بها -يعني الشيخ يقول-، وقد كان مشايخنا يحضرونها في الأندية وفي قاعات المحاضرات في كلية الشريعة والمعاهد العلمية، فهذه إن شاء الله نافعة ومؤثرة، حتى وإن تسمى باسم شيخ الإسلام أو باسم أبي جهل؛ لأن الحاضرين يعلمون أن هذا تنزيل لقصة واقعة حتى ينتبهوا لها أكثر مما لو خطب الخطيب. فمقال حصل لـ شيخ الإسلام كذا وكذا، يقول: فقد لا ينتبهون لما قال ولا يتمثلونه كما يتمثلونه إذا صور أمامهم. ثم سئل عن الضوابط فقال: إذا كان الحاضرون يعلمون أنها ليس فيها شيءٍ من الإيهام، أو كذلك إذا كان فيها استهانة بشخصيات محترمة وتمثيل بأشياء غير واقعية فهو محظور، بمعنى: إن كان فيها تنقص لصاحب فضل كأن يمثل عالماً لكن يحتقره، أو يمثل صورة العالم الإسلامي أو الفقيه في صورة محتقرة أو نحو ذلك مما هو مقصود، كما يقع في التمثيليات الفاسدة والإعلام الذي يمارس من خلاله تشويه صورة الدين، فهذا من أحد المحاذير. وسئل الشيخ لو مثل أحدهم ابن حنبل والآخر مثل ابن أبي دؤاد وما وقع من الفتنة؟ قال: لا بأس وأرى أنه مفيد، فقيل له: ولكنه تمثيل دور مبتدع، قال: نعم لا بأس به؛ لأن تأثيرها أكثر من تأثير الكلمات، وفيها مصلحة، والحكم يدور مع المصلحة، وقيل له: فيه تقليد للكفار كعيد الشعانين وكذا ونحو ذلك، فقال ليس كذلك، بل ورد ما يدل على أنه ليس المقصود بها هذه المتابعة، وليس كل ما يفعله الكفار نحن ممنوعون منه، إذا لم يكن التمثيل مشابهة للكفار يقول: ليس التمثيل من خصائصهم حتى تكون المشابهة مطابقة، وهذا ليس من خصائصهم فما يضر المسلمين. وأيضاً في فتوى للشيخ عبد الله بن حميد رحمة الله عليه سئل عن حديث: (لا تمارضوا فتمرضوا) قال: هذا الحديث ليس صحيحاً، ثم قال: إن كان هذا التمارض احتاج إليه من باب التأويل المباح فلا حرج في ذلك؛ لأنه يقصد بذلك غرضاً صحيحاً، وليس في هذا العمل ما يتنافى مع الشرع، فأرجو أن لا حرج في ذلك. وذكر بعضهم هنا ضوابط: الأول: ألا يكون كما أشرنا فيها محرم، وتدعو إلى محرم أو إلى شيء من الفساد، فهذا لا شك أنه ممنوع. الثاني: ألا يكون فيها تمثيل للنبي عليه الصلاة والسلام أو الصحابة؛ لأن هذا قد أفتى العلماء بحرمته. الثالث: ألا يكون فيه إيهام للناس.

قراءة دعوية في السيرة النبوية

قراءة دعوية في السيرة النبوية إن المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه مر أثناء دعوته بمراحل مختلفة، وتعامل مع الأحداث التي كانت تواجهه بحسب ما يحقق المصلحة للإسلام، ولذلك ينبغي للدعاة أن يقرءوا سيرته قراءة واعية؛ كي يستفيدوا منها في دعوتهم إلى الله تعالى.

أهمية قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

أهمية قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في كل حال وفي كل آن، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحبة! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وأن يوفقنا للهدى، وأن يرزقنا التقوى، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الاستقامة، وأن يمن علينا بالثبات حتى الممات، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. هذا موعدنا مع الدرس الثامن والثمانين، في اليوم العاشر من شهر شعبان عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، وعنوان هذا الدرس: (قراءة دعوية في السيرة النبوية). أيها الأحبة! نحن نعلم أننا ما تُعبِّدنا باتباع أحد إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قدوتنا وأسوتنا كما قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] وإذا عرفنا ذلك ظهرت لنا أهمية سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وأهمية تعلمها، والاقتباس منها، والاقتداء بها، سيما في مثل هذه الأعصر التي كثر فيها التخليط، وازدادت فيها الشبهات، وتكاثرت الفتن، وأصبح كلُّ يقول بقول، ويدعو إلى دعوة، ويبقى المسلم لا يربطه شيء إلا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين، وبهذه الأمة على وجه الخصوص، وبالناس أجمعين عامة: أن هذه السيرة واضحة مفصلة كأنما ولد عليه الصلاة والسلام على ضوء الشمس كما يقول بعض المؤرخين، فليس هناك شيء خفيٌ من سيرته، فنحن نعلم عن مولده، وعن طفولته، وعن قبيلته وأسرته، وعن نسبه، وعن حسبه، كما نعلم أيضاً عن حياته في بيته، ونعلم أقواله وأفعاله حتى في أدق الأمور وأبسطها، وذلك من النعمة الكبرى، حتى يجتني المسلم من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام كل ما يحتاج إليه. ومن هنا فإن السيرة النبوية يمكن أن تقرأ قراءات عديدة: فيمكن أن نقرأها قراءة عسكرية، وذلك في حنكته عليه الصلاة والسلام في الغزوات التي قادها، والسرايا التي أنفذها، وما يلحق بذلك من الأمور، ويمكن أن نقرأها قراءة اجتماعية، وذلك في سيرتة عليه الصلاة والسلام زوجاً وأباً ومربياً ومعلماً، كما يمكن أن نقرأ السيرة قراءة فكرية، وذلك فيما كان يبينه النبي عليه الصلاة والسلام من دحض الشبه، وإبطال الباطل، وإقامة الحجة، إلى غير ذلك من الأساليب والمقتبسات التي يمكن أن تؤخذ من سيرته عليه الصلاة والسلام. أما قراءتنا: فهي قراءة دعوية في السيرة النبوية، وهي صفحات متنوعة من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أنها متدرجة ومرتبة بحسب التاريخ الذي وقعت فيه هذه الأحداث، وقرئت فيه هذه الصفحات، إضافة إلى أن هذه القراءة تأتي بصورة منهجية مرتبط بعضها ببعض، فهي تعبر عن البداية والخطوة التي بعدها وما يلحق بذلك، مع بيان الأولويات وترتيبها؛ ولذلك فهذا الدرس محاولة لاختصار السيرة من خلال عرض الدعوة فيها، فنحن نريد أن نرى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، والملامح والمعالم التي ينبغي أن يستقيها الدعاة والمربون من هذه السيرة العطرة؛ ليكون تأسيسهم وبناؤهم ودعوتهم على طريقة قويمة، ولكي تؤتي -بإذن الله عز وجل- الثمار المرجوة المنشودة.

تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف

تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف نبدأ أولاً بما كان من حياته عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه، وهذه هي الصفحة الأولى: روى ابن إسحاق في (السيرة) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان -أي: في سن الصبا- وكلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته، يعني: أنهم عند نقل الحجارة رفعوا الأزر على العواتق؛ ليحملوا عليها الحجارة، فكان يبدو منهم جزء من العورة. قال: فإني لأُقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم -وفي بعض الروايات: ما أراها شديدة، أي: اللكمة، وفي بعضها: إذ لكمني لكمة شديدة ثم قال: شد عليك إزارك، فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي). وروى البخاري من حديث جابر في المغازي والسير مثل هذه الرواية، إلا أن هذه الرواية التي عند البخاري تذكر أن ذلك في سن شباب النبي صلى الله عليه وسلم أثناء نقل الحجارة للمشاركة في بناء الكعبة، وأنه كان قد شد عليه إزاره فرآه عمه العباس فقال: ارفع إزارك -يعني: حتى تقوى على حمل الأحجار- قال: فلما فعلت ذلك غشي علي، فلم أعد إلى ذلك أبداً، أو كما جاء في الرواية. وروى الحاكم عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، وما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته، فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعالي مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت أريد ذلك، حتى إذا جئت أول دور من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان بن فلان تزوج فلانة بنت فلان، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، فجئت إلى صاحبي فقال: ما خبرك؟ فقصصت عليه الخبر، قال: ثم كان ذلك ثانية، فلما جلست لأستمع ضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، قال: فلم يقع منه عليه الصلاة والسلام إلا مثل هذا) قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وضعف بعضهم هذا الحديث بعلل معتبرة عند بعض أهل العلم، فقال ابن كثير رحمة الله عليه في تاريخه: هذا غريب جداً. ولكن هذه الروايات تتقوى بمجموعها خصوصاً مع وجود رواية صحيحة في البخاري، وهي التي نريد أن نقف فيها الوقفة الأولى؛ إذ إن هذه الصفحة من سيرته عليه الصلاة والسلام تبين لنا معلماً مهماً من معالم الدعوة، وهو تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام عاش في هذه الجاهلية التي كانت منحرفة في أفكارها وعقائدها، وكانت منحرفة في سلوكها وأخلاقياتها، وكانت منحرفة في قوانينها وعاداتها، إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يشرك أولئك القوم في شيء من هذا، ولم يخالطهم فيه، ولم يقبل منهم ذلك، بل كان -بما وفقه الله عز وجل إليه، وما عصمه به- مجتنباً هذه الصور الانحرافية كلها. وهذا أمر مهم في شأن الدعوة، وهو سياج الوقاية والحماية، ولا بد لنا أن ندرك أن الوقاية أهم وأولى في التقديم من العلاج، خصوصاً في مجال الدعوة، سيما في الأعصر التي تختلط فيها المفاهيم الإسلامية، ولا تتمثل معالم المجتمع الإسلامي تمثلاً كاملاً، وإذا بمبادئ ومذاهب فكرية تخالف دين الله عز وجل، وإذا بشرائع وأحكام وقوانين لا تتفق مع شريعة الله سبحانه وتعالى، وإذا بأوضاع وعادات وتقاليد لا تتطابق مع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا بالمسلم في وسط هذه البيئة إن خالطها، أو أخذ شيئاً منها، أو قبلها، أو فتن بها، أو اعتقدها، أو دعا إليها، فلا شك أنه سيكون متأثراً غاية التأثر، وسيضع هذا الاشتراك بصماته على فكره، وعلى قلبه، وعلى سلوكه وتصوراته. ولذلك لا بد أن نؤكد على هذا المعنى، وهو أن يعتزل المسلم كل انحراف في الجاهلية التي يعيش فيها، وألا يكون موافقاً لها من ناحية المبدأ، وألا يكون مائلاً لها من ناحية الشعور، وألا يكون متطابقاً معها من ناحية السلوك، وألا يكون مساعداً لها من ناحية الغض عنها، أو عدم السعي لإنكارها وتضييق سبل ترويجها وقوتها وانتشارها؛ ولذلك ذم النبي صلى الله عليه وسلم بني إسرائيل، وتلا عليه الصلاة والسلام قول الله جل وعلا: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض). فهذا معلم مهم ينبغي أن يرسِّخه أهل الدعوة وأهل العلم والإيمان في قلوب المسلمين، وأن ينشئوا في قلوب المؤمنين تلك العزلة الشعورية، والمفاصلة القلبية، والمفارقة من حيث الاعتقاد والمبدأ لكل صورة انحرافية يعيشها المسلم في وسط أي مجتمع من المجتمعات؛ وذلك حتى يبرأ من الآثار؛ لأن السمع والبصر جهازا استقبال، فإذا سمع المرء الخنى، وإذا رأى الفحش والفجور، وإذا سمع مقالات الباطل، فإنه يوشك أن ينطبع بعضها في قلبه، وأن يغير في فكره، وأن يؤثر في سلوكه، وهذا معلم مهم يعد أول الخطوات، ألا وهو الوقاية استعداداً لما بعدها.

خلوة الإنسان بنفسه كي يتدبر أموره ويحاسب نفسه، ويخلو من الناس ومشاغلهم

خلوة الإنسان بنفسه كي يتدبر أموره ويحاسب نفسه، ويخلو من الناس ومشاغلهم الصفحة الثانية من سيرته عليه الصلاة والسلام: أنه كان يتحنث الليالي ذوات العدد في حراء، وفي رواية خديجة رضي الله عنها قالت: فكنت أزوده لذلك، فيختلي في غار حراء الشهر والشهرين أو أكثر من ذلك، وورد في بعض الروايات في سيرة ابن هشام: أنه كان يمكث شهراً من كل سنة، وفي بعض الروايات: أنه كان يمكث ستة أشهر. وهذا المعلم معلم مهم أيضاً في حياة المرء المسلم في البيئة الجاهلية، فكما أنه فارقها بقلبه، فإنه يحتاج إلى خلوة يخرج بها من صخب الدنيا إلى الهدوء الذي يتأمل فيه في ملكوت الله عز وجل، ويخرج من فتنة إغراء ومدح المادحين وذكر محاسنه ومناقبه، إلى خلوة يتذكر فيها أمره، ويحاسب نفسه. كما أنه يخرج من هذه المشكلات والمعضلات التي قد تؤثر على نفسه وعلى إيمانه، فيصفو قلبه في لحظات من المناجاة لله عز وجل، والدعاء له، والسكينة إليه سبحانه وتعالى، ولذلك يحتاج المسلم بين الفينة والأخرى إلى أوقات قليلة من يومه، وإلى أوقات أطول قليلاً في أسبوعه وشهره؛ حتى يجعل لنفسه هذه المحطات التي يراجع فيها نفسه، ويخلصها من أدرانها وأوضارها، وأن يكون أيضاً مستقلاً فيها عن كل ما يؤثر على فكره ورأيه وموقفه؛ ليكون ذلك أدعى له إلى تجديد نشاطه، وإلى تقويم مسيرته. وقد كانت هذه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فكانت معينة له ومهيئة له لاستقبال الوحي بعد ذلك، وما تلقاه من الرسالة.

بدء الوحي

بدء الوحي في الصحيح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أول اتصال بين الأرض والسماء، وأول نزول للوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما كان في بعض أيامه ولياليه في غار حراء؛ إذ نزل عليه جبريل فقال له: اقرأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال عليه الصلاة والسلام: فأخذني فغتني، وفي رواية: فغطني -أي: ضمني- حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني -أي: أطلقني- فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، ثم غطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ؛ قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4]) فكان هذا أول نزول للوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الصفحة معلمان مهمان في حياة الإنسان المسلم، وفي سيرة الدعوة التي ينبغي أن ننتبه لها:

الصلة بالله تعالى والالتجاء إليه

الصلة بالله تعالى والالتجاء إليه أولهما: الصلة بالله عز وجل، فإنه لا يمكن للإنسان المسلم أن يواجه الباطل، ولا أن يقف في وجوه الأعداء، ولا أن يتغلب على شهوات النفس، ولا أن يستعلي على فتن الدنيا، إلا أن يكون موصول الحبل بالله عز وجل. فهذا النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن أكرمه الله تعالى بهذه النبوة وهذه الرسالة بقي مشدوداً بهذا الحبل المتين في الصلة بالله عز وجل، تلك الصلة التي تجعل المرء كلما احلولكت في وجهه الظلمات، وسدت في وجهه الأبواب، وجد أن النور والشعاع والضياء فيما عند الله عز وجل، ووجد أن الفرج والتنفيس والنصر من عند الله عز وجل، كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. وهذه الصلة بالله عز وجل هي الأساس المكين، والركن الركين الذي يقوي الإنسان المسلم، فيجعله في صورة يستطيع بها أن يطبق هذا الدين، وأن يسعى فيه، وأن يثبت عليه بإذن الله عز وجل، أضف إلى ذلك أن هذه الصلة هي التي تفرغ في قلبه السكينة، وتنشئ في نفسه الطمأنينة، وتجعله مُطمئن البال، مجتمع الفكر، فليس عنده حيرة ولا اضطراب ولا قلق، ولا نوازع نفسية، ولا أمراض قلبية، ولا غير ذلك مما يعتري الناس عندما لا يركنون إلى الله عز وجل، وعندما يركنون إلى هذه الدنيا، أو يخافون من البشر، فإذا بهم قد تفرقت بهم الأهواء، وقد انخلعت قلوبهم خوفاً، وقد تفرقت نفوسهم في شعاب الأرض تطلب كل جهة، أما المؤمن فينطبق فيه قول الله عز وجل {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فهو راسخ إلى هذا الوعد الرباني، وإلى هذا الزاد الإيماني الذي تمثل في هذه الصورة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وأمر الصلة بالله أمر طويل، وقد سلف لنا فيه حديث عندما تحدثنا عن التربية الإيمانية، ونحن نعلم الزاد الإيماني الناشئ عن العبادة والصلة والخضوع والذلة والابتهال والدعاء والمناجاة لله سبحانه وتعالى.

القوة والشدة في أخذ هذا الدين والتمسك به

القوة والشدة في أخذ هذا الدين والتمسك به المعلم الثاني في هذه الصفحة: القوة والشدة: فليس أمر هذا الدين هيناً ليناً، فهو لا يؤخذ بالنوم والكسل، ولا يمكن أن يلتزمه المرء دونما جهد وعمل، ولذلك فإنه في اللحظة الأولى التي كان الوحي فيها غريباً عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان المتصور والمتوقع أن يأتيه في صورة هينة لينة، وبأسلوب تدريجي تقليدي، ولكن الأمر فيه دلالة على عظمة هذه الرسالة، وعلى شدتها، وعلى أنها تحتاج إلى ذلك الجَهد الذي حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما غطه جبريل أول مرة وثاني مرة وثالث مرة؛ حتى يكون هناك استعداد وتأهل وإدراك لعظمة هذه الرسالة كما قال الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، وكما قال الله عز وجل في شأن يحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]. ولا بد لنا أن ندرك أن من أهم المعالم الدعوية: أن نبين للناس عظمة هذه الرسالة، وعظمة حملها، وعظمة الأمانة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فلا بد من الإعداد منذ البدايات؛ حتى يمكن -بعد ذلك- أن يسير المرء ليبلغ النهايات، أما أن تكون البداية ضعيفة، وأن تكون البداية نوعاً من الترف، أو التأمين في هذه الدنيا، أو التيسير الذي يتعدى حده ليوهم الإنسان أن هذا الدين يمكن أن يكون محققاً لبعض المكاسب الدنيوية، ليأكل، أو ليشرب، أو لينعم، أو ليعيش بعيداً عن أي مهمة ورسالة، أو جهد وعمل، فإن ذلك لا يتفق مع هذه الصورة من صور سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يظهر فيها القوة التي ينبغي أن يؤخذ بها أمر الله عز وجل؛ لأنه أمر مهم عظيم في حياة الإنسان.

الدعوة إلى الله تعالى في كل زمان ومكان

الدعوة إلى الله تعالى في كل زمان ومكان الصفحة الرابعة من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي من أعظم الصفحات، وقد أشرتُ إلى أمر التدرج، فإننا نحتاج أولاً إلى تلك المفارقة في الجاهلية؛ لئلا تنعكس علينا آثارها، وكذلك نحتاج إلى تلك المراجعة والخلوص من هذه الدنيا وأهلها؛ حتى نقوم المسيرة، ونحتاج إلى هذين المعلمين صلة بالله عز وجل لا تضعف؛ كي تُهيئنا هذه الصلة لحمل هذه الرسالة بكل قوة وعزم ومضاء، ثم نأتي إلى الصفحة الرابعة فإذا فيها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]. وهذه الآيات يعلق عليها صاحب (الرحيق المختوم) تعليقاً جيداً فيقول: فغاية الإنذار (قُمْ فَأَنذِرْ) أن يبلغ به العالم كله، فلم يحدد في هذه الآية أي نوع من الناس الذين يُنذَرون، بل هو إنذار للعالم كله، وللبشرية جمعاء، وغاية التكبير ألا يكون لأحد في الأرض كبرياء إلا وتكسر شوكته؛ حتى لا يبقى كبرياء إلا لله عز وجل، وغاية التطهير للثياب، وهجران الرجز، أن يتطهر الباطن، وتتزكى النفس من الشوائب، وغاية عدم الاستكثار بالمنة ألا يرى لنفسه ولجهده ولبذله في سبيل الله عز وجل أي شيء يذكر، بل ما يزال يبذل في سبيل الله عز وجل. قوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] إشعار بأن هذا الطريق فيه ابتلاء، وفيه عناء، وفيه معضلات ومشكلات تحتاج إلى هذا الصبر الذي يعين على هذا الطريق، ولذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رجع من غار حراء، وجاء إلى زوجه خديجة وهو يقول: (دثروني زملوني)، فتنزلت عليه هذه الآيات، وكذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]؛ وهنا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] هذا الذي تدثر بالأغطية؛ ليهدئ من روعه، وليجلب الدفء إلى جسمه، جاءه هذا الأمر؛ ليبين أن معلم الدعوة المهم هو ألا يكون المرء مسلماً في نفسه، ولا صالحاً في سلوكه فحسب، ولا يكفيه ما في قلبه من المشاعر، حتى ينطق لسانه، ويحرك جوارحه، ويمضي بهذه الدعوة مشرقاً ومغرباً بكل صورة؛ حتى يبلغ الغاية والمنتهى في الإنذار، وفي التكبير لله عز وجل، وفي هجران الرجز، وفي التطهير للنفس، وفي عدم الاستكثار فيما يطلبه في هذا الطريق، مما يدل على أن هذا المعلم مهم جداً. فلا بد أن نربي الناس، وأن نعلمهم أن من تعلم شيئاً وجب عليه تبليغه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)، وأن كل امرئ في عنقه مسئولية وأمانة أن يبلغ من دين الله عز وجل ما عرفه من حكم، أو من حكمة، أو من إصلاح يحتاج الناس إليه في هذه الحياة؛ حتى يشع نور هذا الدين في كل مكان، وحتى تغزو هدايته كل قلب، وحتى تطرق حلاوته كل أذن ومسمع. ولذلك نجد في هذا المعلم: الدعوة وتبليغها، ونجد الدعوة وطريقها، ونجد الدعوة وأسلوبها الذي توافق في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، فهذه الآية نزلت في سورة الشعراء، وقد كان في أولها قصة موسى عليه السلام منذ بعثته إلى خروجه من أرض مصر، ثم رجوعه ومواجهته لفرعون، ثم خروجه مع بني إسرائيل، وجاءت بعد ذلك قصص الرسل والأنبياء مع أقوامهم، وجاء بعد ذلك هذا الأمر الرباني، وكل ذلك التلخيص -سيما لسيرة موسى عليه السلام- بيان لطريقة الدعوة، وأنها -كما أمر الله عز وجل- تبدأ بالأقربين، وبالصورة التي ستأتي انتقاء وتجميعاً لأهل الإيمان، ثم مفارقة لأهل الباطل ومواجهة لهم. فإذاً: بعد أن ندرك عظمة هذه الرسالة، فإن ذلك ينبغي ألا يكون أمراً فكرياً؛ لأن هذه الرسالة عظيمة، ولأن هذه المهمة خطيرة، ولأن هذا العمل جليل، بل ينبغي أن يتحول ذلك كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر واجب التنفيذ، وهو أن ينطلق المرء بالدعوة إلى الله عز وجل، وكما أمر سبحانه وتعالى.

الحكمة في الدعوة والتدرج فيها

الحكمة في الدعوة والتدرج فيها الصفحة الخامسة، وهي صفحة مندرجة أيضاً في هذا الباب، وهي: الحكمة والتهيئة منه صلى الله عليه وسلم في تنفيذ هذا الأمر، والدعوة إلى الله عز وجل. لقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأقربين، وليس كل الأقربين، وإنما كان يختار اختياراً، وينتقي انتقاءً، ويتوسم توسماً، ويتفرس فراسة، فيختار الأدنى والأقرب من هذا الدين في خلقه وسمته، ورجاحة عقله، وطهارة سلوكه، فكان أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، وقد ورد في كثير من الآثار: أنه ما شرب خمراً، ولا سجد لصنم قط، وكان أنسب قريش لقريش، وكان أشهر رجالها في تجارتهم، وكانت هذه الملامح هي ملامح الانتقاء التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر. وكان أول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب، وكان لصيق النبي صلى الله عليه وسلم، ورفيقه، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وكان مولىً للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن النساء زوجه خديجة رضي الله عنها، وكانت قريبة منه، فكان صلى الله عليه وسلم يبذر الدعوة في الأقربين المقربين، لقربهم من هذه الدعوة، ولوجود الملامح التي يؤمل فيهم من خلالها أن يكونوا أسرع في القبول، وأسرع في التأثر، وأسرع في أن يعضدوا هذه الدعوة، وأن يسيروا في ركابها، وأن يدعموها، إضافة إلى القرب الحسي، سواء كان قرباً في النسب أو كان قرباً في البيئة. وهذا لا شك أنه مهم؛ لأن بعض من يحبون الدعوة، ويرغبون في نشرها، يشرقون ويغربون، ويدعون هنا وهناك، فينفع الله بهم، إلا أن النفع الأكثر والأظهر في تأثيره، والأسرع فيما يعود على الدعوة والمجتمع الإسلامي من أثر، هو هذا الأسلوب الدعوي الذي يختص بهذه الدوائر القريبة حساً ومعنىً، فإذا أردت أن تدعو اليوم فإنك تدعو من يصلي ولو في بيته، فهذا أدنى إلى القبول ممن قد ترك الصلاة، أو ترك بعضها، أو أخرها عن أوقاتها، وتدعو من يصلي في المسجد، فتكون استجابته أدعى وأقوى ممن يصلي في بيته، وتدعو من لا يقارف المعاصي والمنكرات، ولا يتوغل في الشهوات، فيكون أقرب استجابة ممن هو واقع فيها. فالأقرب إلى هذه الدعوة هو الأقرب استجابة إليها، ولا يعني ذلك بحال من الأحوال ألا يُدعى غير هؤلاء، ولكن هذه أولويات وانتقاءات، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أنذر عشيرته أجمعين، لكنه خص أولئك ابتداءً كما رأينا، حتى كان اختياره عليه الصلاة والسلام في موضعه ومكانه، فإذا بهذه الكوكبة: امرأة وغلام ومولىً وشريف من الأشراف، تنطلق بهذه الدعوة، فإذا أبو بكر يسجل في صحيفته عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين، ويدخلون في هذا الدين بدعوة أبي بكر رضي الله عنه، بسبب ما كان عنده من إيمان وحصافة ورجاحة عقل إضافة إلى شرفه وكلمته المسموعة. إذاً: من هذه الصفحة نقرأ حكمة الدعوة، والأسلوب الذي تطبق به هذه الدعوة، فإنها ليست مجرد اندفاع، وإنما هي دراسة وفراسة، وتحليل وتقويم، ثم تأتي بعد ذلك خطوات مبنية على دراسة وعلى تهيؤ وتدرج؛ حتى يكون لها أثرها، ويكون لها رصيدها وثمارها المرجوة.

عالمية هذه الدعوة وشمولها لكل الناس

عالمية هذه الدعوة وشمولها لكل الناس ننتقل إلى صفحة أخرى ملامسة ومقاربة لما قبلها، وهي عموم هذه الدعوة للناس أجمعين. فلا يظن ظان أن الدعوة خاصة بفئة معينة، بل هي عامة لجميع الناس؛ ولذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم -عندما نزل قول الله جل وعلا: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]- بإنذار قومه، فصعد إلى الصفا، ودعا قريشاً بطناً بطناً، وقال لهم: (ما تقولون لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، فقال أبو لهب عليه لعنة الله!: تباً لك ألهذا جمعتنا؟!). ثم كان النبي عليه الصلاة والسلام يأخذ بمبدأ التوسع في الدعوة، فلما جاءت المواسم التي كان يجتمع فيها العرب ويفدون فيها إلى مكة كان عليه الصلاة والسلام يطوف على القبائل قبيلة قبيلة، ويمر بمجالس القوم مجلساً مجلساً، ويدعو الناس هنا وهناك، إلا أن تلك الصفوة التي ذكرنا سابقاً هي التي أولاها عليه الصلاة والسلام جهده وتربيته؛ لأنها كانت قريبة منه، وكانت مستجيبة له، وكانت متلقية عنه، فكان تأثيره فيها واهتمامه بها عظيماً، وكان نتاج ذلك فيما بعد أعظم وأعظم في مسيرة الدعوة. وفي الوقت نفسه وسع عليه الصلاة والسلام دائرة الدعوة، فبلغها لكل أحد، وأسمعها لكل أذن، وهكذا ينبغي أن يكون دعاة الإسلام اليوم: يدعون كل أحد، ويرفعون راية الإسلام، ويظهرون محاسنه، ويؤلفون الكتب، وينشرون القول الحسن، إلا أن ذلك رغم فائدته ونفعه يحتاج إلى أن يكون هناك ذلك التخصيص الذي نبه عليه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، سيما في المرحلة الأولى من دعوته عليه الصلاة والسلام، وسيأتي ما يؤكد هذا المعنى أيضاً في بقية الصفحات التي نقرأ فيها معالم دعوته صلى الله عليه وسلم، فإنه رغم هذا التوسع والانتشار في هذه الدعوة إلا أن ذلك التركيز كان يختص بتلك الفئة، فهذان معلمان مهمان: الحكمة والانتقاء، والدعوة والاتساع، وينبغي أن يسيرا معاً جنباً إلى جنب، فليست الدعوة مجرد كلمات تُذر هنا وهناك، ولا مؤلفات تكتب هنا وهناك، وإنما هي صياغة وتربية وتوجيه وتكثيف، وسيأتي ذكرها فيما يلي:

الدروس الدعوية من اتخاذ دار الأرقم بن أبي الأرقم

الدروس الدعوية من اتخاذ دار الأرقم بن أبي الأرقم صفحة دار الأرقم بن أبي الأرقم: فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد أخذ بالدعوة سراً حتى أُمر بالجهر بالدعوة، وجهر بها وهي لا تزال سرية، أي: جهر بها هو عليه الصلاة والسلام، وأما أصحابه فكانوا يستخفون بدينهم، ويسرون إسلامهم، ويستترون بعباداتهم، فيصلون في الشعاب والمناطق البعيدة عن أهل مكة، ويختفون بدينهم، ولذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام ما بدأ به أهل الكفر من قريش من الإيذاء والاضطهاد، ولما رأى تكاثر هؤلاء الذين استجابوا لدعوته، عزم عليه الصلاة والسلام أن يجمع القوم، فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم ملتقى الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت هذه الدار في أدنى الصفا بمكة، فكان الصحابة يأتونها سراً، حتى إن بعضهم كان يلقى بعضاً ولا يعرف أنه من المسلمين، فيقول له: أين تذهب؟ فيقول: أقضي حاجتي؛ ويقول الثاني: أين تذهب؟ يقول: أذهب إلى كذا وكذا، ثم إذا بهما يلتقيان في دار الأرقم بن أبي الأرقم. وفي هذه الصفحة معلمان مهمان من معالم الدعوة: الأول: هو المعرفة والتعليم، والثاني: هو التربية والتكوين.

المعرفة والتعليم

المعرفة والتعليم أما الجانب الأول: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدار يعلم الصحابة رضوان الله عليهم، فيتلو عليهم آيات القرآن، ويبين لهم أحكام الإسلام، ويعرفهم أيضاً بما يجري في واقعهم ومجتمعهم، وما يحاك حولهم، فلا بد للفئة المؤمنة أن تنشر العلم الشرعي، والمعرفة الإيمانية، والأخبار الواقعية، والأحداث القديمة التاريخية، في المساجد وبيوت الله، وفي المنتديات والمحاضرات، وفي اللقاءات والمؤتمرات، وتكون كذلك في كل آن وفي كل حال، في الحل والترحال، وفي السفر والحضر، وفي بيوت الناس ومجامعهم؛ لأن المعرفة والعلم أساس مهم كما قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]. وليس المقصود بالمعرفة والعلم الناحية الشرعية فحسب، بل كذلك الناحية المعرفية التي فيها استقراء التاريخ، واستنطاق العبر، ومعرفة الواقع، وإدراك ما يدور حول الدعوة والمسلمين من أمور، فينبغي أن يعرفوها، وأن يحتاطوا لها، وأن يعدوا لها العدة، ولذلك كانت هذه الدار تمثل هذه المرحلة المهمة، فإنه ينبغي لنا ألا نرضى من الناس بالعواطف، وألا نكتفي منهم بأن يؤدوا عباداتهم، بل لا بد أن نزيدهم ونعطيهم من العلم الذي جاء في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نوسع دائرة معرفتهم، وأن نعمق الوعي في عقولهم؛ لأننا نحتاج ونفتقر إلى شخصية المسلم العالم الواعي، فإذا ذكرت شبهات وطعون في الإسلام كان عنده من العلم ما يمنعه من التأثر بها، بل عنده من العلم ما يفندها ويرد عليها، ويثبت بطلانها، فيكون ذلك انتصاراً لهذا الدين، وإقناعاً للآخرين، ويكون عنده أيضاً من العلم والمعرفة حتى لا ينخدع، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لست بالخب، ولا الخب يخدعني، فإذا ما تستر الباطل في ستور مختلفة، وإذا ما جاء الأعداء في لبوس الأصدقاء؛ لم يخدعه ذلك، بل كان عنده الوعي والمعرفة والإدراك الذي يميز به بين الحق والباطل، ويدرك به ما وراء السطور، ويعرف ما يحاك للأمة الإسلامية، وما يمكر به الماكرون، وما يدبره المنافقون، فإن الأمة اليوم مستهدفة من أعدائها، ومغزوة من داخلها ببعض أبنائها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث عنهم: (من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).

التربية والتكوين

التربية والتكوين الجانب الثاني: وهو جانب التربية والتكوين: فإن العلم وحده لا يكفي، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الدار يربي الصحابة، ويبين لهم ما يواجهون من الأخطار، ويركز فيهم المعاني الإيمانية التي تقوي عزيمتهم، ويؤكد لهم أن بعد العسر يسراً، ويبين لهم أن الاستمساك بالمنهج هو الذي يؤدي إلى النصر والتمكين، ويبين لهم عليه الصلاة والسلام من واقع سير الرسل والأنبياء قبله، ومن واقع حياة المؤمنين في كل وقت وأوان، أنه لا بد لهم أن يثبتوا، وأن يسعوا إلى تكامل شخصياتهم، وذلك كله يؤذن بأن يوسع دائرة الدعوة، وأن يضعضع ويضعف جهود الأعداء، وينخر في صفوفهم، وأنه ينبغي لهم ألا يغيروا وألا يبدلوا، ولذلك لا بد من معرفة العلم، مع التطبيق العملي، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، هذا هو الزاد الذي يقوي في الإنسان المسلم التزاماً صادقاً، ووعياً وإدراكاً، إضافة إلى أمل وثقة بالله عز وجل لا تنقطع، ولا تنفصل. إن هذه الدار كانت هي المدرسة العظيمة التي تخرج منها كبار الصحابة من المهاجرين، والسابقين الأولين إلى الإسلام، من أمثال أبي بكر وعمر، والعشرة المبشرين، ومن جاء بعدهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ونعلم جميعاً أن هذه الفترة المكية الأولى لم يكن عدد المسلمين فيها كثيراً؛ وذلك لظروف هذا الإيذاء والاضطهاد، ولظروف سرية الدعوة، إلا إن نوعية المسلمين الذين رباهم النبي عليه الصلاة والسلام في مثل هذه الدار كانت نوعية فريدة، فكان الواحد بألف، بل بآلاف، ولذلك فإن هذا المعلم يبين لنا أهمية صياغة الشخصية المسلمة، والتربية والتكوين الإسلامي الصادق الخالص القوي، فإننا نريد مسلماً صادقاً خالصاً كاملاً، وربما يكون أجدى وأنفع لهذه الأمة، وأقوى في نصرة هذا الدين من كثرة كاثرة أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنهم غثاء كغثاء السيل، وأنهم يقذف في قلوبهم الوهن، فلما سئل عنه عليه الصلاة والسلام قال: (حب الدنيا، وكراهية الموت). فقد تكون هناك صفوف متراصة، لكن فيهم جبان، وفيهم خائف، وفيهم متردد، وفيهم متشكك، فما أسرع ما تُخترق هذه الصفوف، بينما إذا كان هناك صف واحد، ولبناته قوية متماسكة مترابطة، فإن كل هجوم على هذا الصف يبوء بالفشل، ويرجع خائباً، وهذه القوة والمكانة هي التي تحتاجها الأمة الإسلامية اليوم، ونحن في غنى عن ذكر الأمثلة التي كانت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام من قبل صحابته رضوان الله عليهم، فإنهم قد ثبتوا في المحن، وثبتوا أمام الإغراءات، إضافة إلى أنهم لم يتأثروا بالشبهات، وكل ذلك كان يبين أهمية تلك التربية التي رباهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فـ بلال تحت الصخر يقول: أحد أحد، وما تغير ولا تردد، بل تغير من كان يجلده، فأسلم بعضهم، وهذا كعب بن مالك جاءه الإغراء من قبل الدولة العظمى في ذلك الوقت الذي كان الصحابة قد نهوا عن كلامه، وأمروا بمقاطعته، ومع ذلك لم يستجب لهذا النداء، ولم يضعف، ولم يستوحش من المسلمين، ولم يقطع رابطته بهم؛ لأن التربية والتكوين كانت في أعلى المستويات المطلوبة، وهذه الدار هي التي أخرجت تلك الكوكبة من صحب النبي صلى الله عليه وسلم.

الانتشار في الأرض عند الأذى والتسلط

الانتشار في الأرض عند الأذى والتسلط ثم صفحة سابعة وهي الهجرة الأولى إلى الحبشة: وذلك عندما اشتد إيذاء كفار قريش للمسلمين من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وكثر تتبعهم لهم، واستقصاؤهم وتفتيشهم عن هؤلاء المسلمين المستخفين بدينهم، ثم إنهم صبوا عليهم العذاب صباً، وكان هذا العذاب متنوع الأساليب: فمن عذاب حسي، ومن عذاب معنوي، ومن سخرية وتحقير وصور كثيرة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الهجرة أمراً مهماً، ومعلماً أساسياً من معالم الدعوة وهو مبدأ الحماية والانتشار. فقد كان المسلمون في ذلك الوقت قلة، وكانوا مستضعفين؛ نعم كان إيمانهم في قلوبهم عظيماً، وكان يقينهم في نفوسهم راسخاً، وكانت ثقتهم بالله كبيرة، وكان معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يعلمنا من خلال سيرته السنة الإلهية التي ينبغي أن تراعى وأن تتبع، فلم تدفعهم حماستهم للحق الذي آمنوا به، والدين الذي اعتصموا به أن يواجهوا الباطل مواجهة سافرة، وفي معركة هي بالمقياس المادي خاسرة، ولم تكن الحماسة هي التي تقودهم ليواجهوا الباطل كيفما اتفق، لماذا؟ لأنهم يريدون أن يعملوا ما يعود على هذا الدين بالنفع والفائدة، وما يعود على الدعوة بالقوة والانتشار، ولذلك كما يقول محمد الصادق عرجون في كتابه (محمد رسول الله): أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزع فتيل التوتر، فقد كانت قريش في شدة حميتها، وقوة توجهها نحو ضرب المسلمين والأمة الإسلامية ضربة إبادة، وكان المسلمون كثير منهم من العبيد والموالي والضعفة الذين هم في طبيعة ذلك المجتمع ليس لهم حول ولا طول، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يهدئ الأوضاع، وأن يحمي هذه الكوكبة القليلة من الفئة المؤمنة، ليكون ذلك أدعى لانتشار الدعوة في وقت آخر. فليست المسألة مسألة تسلط، أو تشدد، وإنما هي مصلحة الدعوة حيثما كانت، ولذلك ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مَثَل المؤمن أنه كالخامة من الزرع تميلها الريح ولا تكسرها، فإذا جاءت الظروف العصيبة فإنه يمكن أن يجعلها بهدوئه وسكينته، وثباته على مبدئه، تمر دون أن تقصم ظهره، أو أن تعيق انطلاقته، وهكذا كان هدف النبي عليه الصلاة والسلام. إضافة إلى ما كان منه عليه الصلاة والسلام من حكمة ودراية ومعرفة بالواقع، فقد اختار أرض الحبشة، وهي أرض قريبة من مكة، فليس بينها وبين مكة إلا مسافات قصيرة من ناحية البحر، ثم إنها كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن فيها ملكاً عادلاً لا يُظلَم عنده أحد)، ولم يطلب المسلمون في هذه الهجرة سلامتهم، ولم يختاروا العيش الرغيد، والأمن الوافر، وإنما أرادوا أن يقوّوا الصفوف، وأن يبذروا الدعوة في مكان آخر، وأن ينطلقوا بها مشرقين ومغربين. ولذلك لا بد أن ندرك في مسيرة الدعوة أنها ليست ملكاً لفرد أو لفئة من الناس، وإنما هي ملك للأمة كلها، فلا ينبغي أن يتهور متهور فيورد الدعوة وأهلها والعلماء والمصلحين موارد الهلكة، دون أن يكون هناك أي أثر إيجابي، وأما ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى حاكم ظالم فأمره ونهاه فقتله) فقد ذكر أهل العلم أن ذلك إذا كان مختصاً بنفسه، وذكر بعضهم أن ذلك فيما لا يؤثر على من وراءه؛ إذ قد يكون الإنسان مضحياً بنفسه، لكن ينبغي أن يحرص على نفع الأمة ومصلحتها، فلما كانت هذه المرحلة هي المرحلة التي اشتد فيها الأذى من كفار قريش أراد النبي أن يلتمس للمسلمين مخرجاً، وأن يخفف من غلواء ذلك العداء، وأن يبعد أسباب النقمة الشديدة من أولئك الكفار، وأن يهيئ أسباب الانتشار في ظل ما قد يكون من سكينة أو هدوء، أو ضعف في مواجهة الاعتداء على المسلمين من أبناء هذه الأمة.

الجد والاجتهاد في البحث عن طرق لنشر هذه الدعوة

الجد والاجتهاد في البحث عن طرق لنشر هذه الدعوة نلمح أيضاً معلماً عظيماً في الصفحة الثامنة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المعلم الذي تمثل في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عندما لم تكن هناك استجابة من قريش وأهل مكة، فخرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف يدعو أهلها، ونعلم ما قام به الكفار من أهل الطائف في ذلك الوقت من الإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، والإعراض والصد عنه، وإغراء السفهاء به، فقذفوه بالحجارة حتى دميت أقدامه عليه الصلاة والسلام. في هذه الصفحة معالم أخرى، وأسس مهمة في الدعوة التي رسمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تمثل لنا صورة مهمة من صور الحماسة والانطلاق، فليس الأمر دائماً هو نوع من السكون أو الهدوء، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام في قلبه من الغيرة لهذا الدين والحماسة له، ما جعله يلتمس طُرُقاً إلى أي قوم، أو إلى أي بلد يمكن أن يلقى فيه قبولاً لهذه الدعوة. والأمر الثاني هو: أن هذه الدعوة عالمية وليست إقليمية، فليست مختصة بعرب دون عجم، ولا ببلاد دون بلاد، بل ينبغي أن يسير بها المسلمون إلى البشر أجمعين، وإلى كل الأقطار بلا استثناء، فإذا أعرض عنها قوم فإن قوماً آخرين سيَقْبلون ويُقبِلون بإذن الله عز وجل، وهذا أيضاً يدلنا على صورة ثالثة وهي: عدم اليأس، وعدم الركون أو القعود عن الدعوة؛ لأجل إعراض المعرضين، أو صد الذين يصدون عن دين الله عز وجل، فإن قريشاً عندما صدّت وامتنعت التمس النبي عليه الصلاة والسلام الطريق إلى الطائف، وعندما صد أهل الطائف وامتنعوا، عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وظل يدعو حتى شرح الله صدور الكوكبة الأولى من الأنصار في بيعة العقبة إلى الإسلام، وكانوا بذرة من البذور التي أثرت في الدعوة الإسلامية.

الهجرة النبوية

الهجرة النبوية الصفحة التاسعة هي: الهجرة النبوية إلى المدينة: وهي أيضاً مهمة غاية الأهمية في حياة الدعوة الإسلامية؛ ذلك أنها تمثل مرحلة التخطيط والتمكين، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد هيأ لهذه الهجرة تهيئة عظيمة، فإنه قد يسّر أولاً من خلال البيعة الأولى للأنصار كوكبة آمنت به وبرسالته عليه الصلاة والسلام، ثم بعث معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ليوسع دائرة الدعوة في هذه الأرض الجديدة؛ لتكون أرضاً لهذه الدعوة، ولإقامة دولة الإسلام فيها، ثم جعل أصحابه بعد ذلك يهاجرون إليها زرافات ووحداناً، فلما شاع الإسلام في المدينة، أحكم النبي عليه الصلاة والسلام خطته، وهيأ أمره كما نعلم في هجرته من الأسباب الكثيرة التي اتخذها، وليس هذا موضع سردها، فإنه أخذ جنوباً إلى غار ثور بدلاً من أن يأخذ شمالاً إلى طريق المدينة، ونعلم أنه اختبأ في الغار ثلاثة أيام، وأنه اتخذ طريقاً غير الطرق المسلوكة إلى غير ذلك، فهذه الصورة تبيّن لنا: أن الدعوة الإسلامية ينبغي أن تسعى إلى أن تمكن في الأرض، وإلى أن تهيأ لها الأسباب لإقامة المجتمع الإسلامي الذي يحكّم شرع الله عز وجل، ويصبغ الحياة كلها صبغة إسلامية ليس فيها قبول لحكم ولا لشرع ولا لأمر ولا لعادة ولا لتقليد إلا وفق شرع الله سبحانه وتعالى. فلا يُكتفى أن يكون المسلم مسلماً في نفسه، ولا يُكتفى أن يكون جمع من المسلمين في بيئة جاهلية، أو في أوضاع كفرية، بل ينبغي أن يسعى المسلمون إلى أن يوجدوا مجتمعاً كاملاً برجاله ونسائه وأطفاله وبيوته، مجتمعاً كاملاً باقتصاده واجتماعه وسياسته، مجتمعاً كاملاً في أفراده وفي جماعاته، مجتمعاً كاملاً في سلمه وفي حربه كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام. فكل تلك المراحل التي مرت بها الدعوة في حياته عليه الصلاة والسلام كانت مراحل ممهدة ومهيأة، وكان عليه الصلاة والسلام يرنو إلى هذه المرحلة، وإلى هذا المعلم المهم من معالم الدعوة، وقد أخذ له أهبته بصور كثيرة شتى مما مضى: فتلك التربية والتكوين لهذه الفئة القوية الراسخة، وذلك الانطلاق الذي شرق فيه وغرب حتى وجد القلوب المؤمنة من الأنصار، وتلك التهيئة الدعوية ببعثة مصعب بن عمير رضي الله عنه الداعية الذي فتح بيوت الأنصار في المدينة المنورة، ونورها بهذا الإسلام، إضافة إلى إحكامه عليه الصلاة والسلام لخطة هجرته حتى قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة؛ فقد كانت هذه المرحلة من المراحل المهمة في حياة الدعوة، وهي مرحلة التخطيط الذي له بُعد في المدى، وبعد في الزمن، وعمق في النظرة، وشمول فيما يحيط بالدعوة من المتغيرات والمستجدات، واختيار وانتقاء، ثم كان بعد ذلك التمكين وإقامة دولة الإسلام. فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إذا بها تستقبله، وهي قد أعطته بيعتها في بيعة العقبة الأولى والثانية، وقد أعطته قيادها فهو القائد المسود فيها، وقد أعطته حكمها فهو الذي يبلغ شرع الله لها، فكان ذلك هو الفتح الأعظم، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت بقرية تأكل القرى، وإني أراها ذات نخل، بين لابتين) يعني أنه أمر بالهجرة إلى قرية هذا وصفها، تأكل القرى: أي تكون منطلقاً وقاعدة للدعوة الإسلامية، وهكذا كان فعله عليه الصلاة والسلام، فلابد أن توجد أرض، ويوجد مجتمع وحكم وشرع إسلامي يكون منطلقاً لهذه الدعوة.

الاستمرار في الدعوة وتصفية الطريق أمامها بالجهاد وغيره

الاستمرار في الدعوة وتصفية الطريق أمامها بالجهاد وغيره الصفحة التي تليها، وهي صفحة مهمة، فقد بلّغ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر مبلغاً، وحقق غاية عظمى، ولعل قائلاً أن يقول: يكفي النبي عليه الصلاة والسلام ما حققه من إيجاد دولة الإسلام في المدينة! وهذه نظرة خاطئة قاصرة لا تفقه هذا الدين، ولا تعرف رسالته، ولا تعرف أنه خاتم الأديان، وقد ارتضاه الله عز وجل لهذه البشرية جمعاء، فعندما استقر الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام بدأت صفحة جديدة أخرى، وهي الاستمرار في الدعوة، وهذا يبين لنا معلماً مهماً وهو: أن هذه الدعوة لا منتهى لها، لا في الزمان، ولا في المكان، ولا في الأشخاص، كما قال صاحب (الرحيق المختوم) في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]؛ ولذلك لا توقف في الدعوة، فإن هذه المرحلة السابقة في إيجاد المجتمع المسلم إنما هي مرحلة قوية، ونقلة نوعية لمزيد من العمل لأجل الدعوة ولهذا الدين. أما أنها مرحلة نوعية: فلأن الناس يرون مجتمعاً إسلامياً كاملاً تتمثل فيه الأحكام والآداب والأخلاق والأعراف الإسلامية، فهذه دعوة ناطقة من خلال المشاهد الحية، والممارسة الحياتية اليومية في مجتمع المدينة المنورة، ثم هي أيضاً نوع من التكامل والقوة التي تساعد على تأسيس الدعوة نفسها، وتأخذ كل أسباب قوتها؛ لتنطلق انطلاقة أكثر وأقوى مما إذا كانت الدعوة عند فئات مسلمة قليلة، وفي مجتمعات منحرفة، أو تكون كثرة في ظل حكم كافر أو نحو ذلك من الصور، فإن الصورة المثلى والأقوى في التأثير هي ما يكون بعد وجود هذا المجتمع المسلم، والأرض الإسلامية. ولذلك فإن الصفحة العظمى، والصفحة الأساسية الظاهرة البينة في هذه المرحلة هي صفحة الجهاد الإسلامي، وهذا يبين لنا -كما قلت- استمرارية الدعوة وشمولها وانطلاقها الذي لا يحده حد من زمان ولا من مكان، وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في (زاد المعاد) المراحل التي مر بها الجهاد أو القتال في الإسلام: من كف الأيدي، ثم الانتصار فقط ممن اعتدى، إلى المرحلة التي فيها الجهاد والانطلاق إلى أهل الكفر في كل مكان: فإما أن يسلموا، وإما أن يعطوا الجزية، ويفتحوا الطريق للمسلمين ليعيشوا في هذه البلاد، ويدعوا فيها، ويعلوا كلمة الله عز وجل، دون إكراه في الدين، وإما أن يقاتلوا حتى تزاح هذه العوائق التي تحول بين الناس وبين هذا الدين. ولذلك فإن الجهاد هو نوع من إزالة العوائق عن طريق الدعوة، والجهاد العسكري هو صورة من صور الدعوة؛ فكما أن هناك جهاداً قولياً، وهناك جهاداً تربوياً، وهناك جهاداً نفسياً؛ فهناك جهاد عسكري، وكلها مرتبطة بغاية الدعوة، فليس الجهاد في الإسلام إراقة دماء، ولا إزهاق أرواح، ولا تدمير بيوت، ولا إحراق زروع وثمار، بل الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: (لا تسألني قريش خطة يعظمون بها البيت، ويحقنون بها الدماء إلا أعطيتهم إياها) وكما فعل عليه الصلاة والسلام في يوم فتح مكة عندما عفا عمن كانوا ناوءوه؛ ليبين استعلاء هذا الدين عن الانتقام والثأر النفسي، وليبين رسالة هذا الدين في أنها تهدف إلى إيجاد الغايات، وإلى تحقيق الرسالة، وإلى نشر الدعوة لا أقل ولا أكثر. فكانت هذه الصفحة في المدينة المنورة صفحة الجهاد الإسلامي، وهذه الصفحة المهمة ليس هذا موضع الحديث فيها، فإنها قد استغرقت مثل ما استغرقت الفترة المكية وأكثر من ناحية الزمن، ولئن كان المسلمون قد خسروا أو أرهقوا بالمقياس المادي في الفترة المكية، فإنهم في الفترة المدنية قد جاهدوا، وبذلوا أرواحاً وأموالاً، وأجروا دماءً في سبيل الله عز وجل، وهذا يبين أن الدعوة متلازمة مع التضحية والبذل في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111]. ويبين لنا أيضاً من وجه آخر: أن هذه الدعوة بانطلاقتها الجهادية يتلازم فيها وجود المسلمين مع دعوتهم لدين الله عز وجل؛ فلا ينبغي أن يكون هناك مسلمون ولا تكون هناك دعوة، أو لا يكون هناك جهاد، بل حيثما وجد مسلمون صادقون عارفون بهذا الدين وجدت الدعوة، ووجد الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) وهذا الحديث في سنن أبي داود بسند صحيح، وفي بعض الروايات: (لا يبطله بر ولا فاجر)، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (الجهاد ماض مع كل بر وفاجر) أي: وإن كان القائد فيه فجور أو فسق إلا أنه يرفع راية الإسلام، ويجاهد في سبيل الله عز وجل، فإنه يجاهد معه؛ إعلاءً ونصرة لدين الله عز وجل.

استكمال البناء الإسلامي بإرساء قواعد الأحكام

استكمال البناء الإسلامي بإرساء قواعد الأحكام الصفحة الأخيرة في الفترة المدنية هي: استكمال جوانب البناء الإسلامي في شتى صور الحياة: فقد جاءت الأحكام والتشريعات في هذه الفترة؛ لتكمل بناء المجتمع الإسلامي في الناحية الاقتصادية، فجاءت الأحكام في البيوع، وتحريم الربا، وتنظيم صور التعامل كلها استقصاءً وتفصيلاً، وجاءت أحكام الحياة الاجتماعية، فجاءت أحكام الزواج والطلاق والمحارم من النساء وغير ذلك تفصيلاً وتفريعاً، وجاءت كذلك الأحكام السياسية مما يتعلق بالحرب والسلم، والعقود والمواثيق تفصيلاً وتفريعاً. وقد جاءت كل هذه المعالم لتبين تكامل هذا الدين في الناحية العملية، وتجسده في الصورة الواقعية للناس، ولذلك ينبغي للمسلمين في ظل غياب المجتمع الإسلامي المتكامل في بلاد كثيرة أن يوجدوا صوراً للمعالم الإسلامية في جوانب الحياة: أن يوجدوا صوراً للإسلام في الاقتصاد، وفي الحياة الاجتماعية، وفي الحياة السياسية؛ حتى يرى الناس بأم أعينهم هذه النماذج في الاقتصاد الإسلامي، وفي السياسية الإسلامية، وفي الاجتماع الإسلامي، وفي الأخلاق الإسلامية، من خلال تجمعات ومجموعات إسلامية، ومن خلال مشاريع وأعمال إسلامية تمثل هذه الجوانب؛ لتكون نماذج مصغرة تبين للناس هذا الواقع، فإذا فقد الناس واقعاً متكاملاً في صورة مجتمع وأمة ودولة، فلا يفقدوا ذلك في صورة تجمعات وأفراد من المسلمين يظهرون هذه المعالم، ويرفعون هذه المعاني في حياة الأمة؛ حتى لا يبقى الناس في شك، وحتى لا يكون عند بعض الناس ضعف في يقينهم بتكامل تشريع هذا الإسلام، وظهور الآثار الإيجابية لهذه التشريعات، ومع ذلك يبقى هناك نوع من النقص؛ لعدم التكامل في هذه المجتمعات من الناحية الإسلامية. هذه -كما قلت- قراءة سريعة دعوية في المراحل التي مرت بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أن كل واحد من هذه المعالم، أو كل صفحة من هذه الصفحات فيها تفريعات تستحق أن يتأملها المسلم، وأن يستنبط منها الداعية منهجه وطريقه، وأن تستلهم منها الأمة المخرج الذي تخرج به من أزماتها، ولذلك ينبغي لنا أن نفقه في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام هذه المراحل الدعوية، وأن نفقه من ناحية الأحداث التفصيلية أو الكثيرة فروع هذه المعالم كلها؛ لتتجسد لنا صورة واضحة لمنهج الدعوة على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، بدلاً من أن يكون هناك الاجتهاد الذي لا يسترشد بهذه السيرة، ولا يرجع إليها، لأنه عليه الصلاة والسلام كما أسلفت في بداية الحديث: ولد على ضوء الشمس، وجاءت سيرته شاملة لجميع الجوانب، ومثل لنا في سيرته وحياته ما ينبغي على الدعاة أن يأخذوا به، وأن يمتثلوه.

أهم المراجع التي سلطت الضوء على الجوانب الدعوية من السيرة النبوية

أهم المراجع التي سلطت الضوء على الجوانب الدعوية من السيرة النبوية في هذا المقام لا بأس من إشارة سريعة إلى ما يمكن أن تستقى منه بعض هذه الملامح والمعاني التربوية، والدعوية. وأختم هذا الحديث بذكر بعض الدراسات التي تسلط الضوء على مثل هذه الجوانب في الدعوة من خلال سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، فمنها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب (الدعوة في المرحلة المكية) للدكتور علي جابر الحربي، وكتاب (أسباب نجاح الدعوة في الفترة المكية)، وكتاب (أسباب نجاح الدعوة الإسلامية) وهو كتاب مركز في هذا الجانب، وكتاب (المنهج الحركي في السيرة النبوية) للغضبان، وكتاب (محمد رسول الله) لـ محمد الصادق عرجون، وقد ناقش الروايات من حيث صحتها، وهو متخصص في هذا الجانب، وقد تميز أيضاً بذكر كثير من الأمور والفوائد المتعلقة بالدعوة، وبما يتعلق بحكم أوضاع معينة في حياة الأمة الإسلامية، ويلحق بذلك أيضاً كتب السيرة المتأخرة التي يحرص أصحابها على ذكر الفوائد والدروس والعبر من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لما في ذلك من الفائدة، فإنه لا ينبغي أن يكون انتفاعنا بالسيرة النبوية، أو صلتنا بها مجرد قراءتها، أو سرد أحداثها، بل استنباط ما ينفع ويفيد من هذه الأحداث التي كلها عبر ودروس وفوائد ومصالح؛ ولذلك كانت هذه السيرة هي موضع القدوة والأسوة في كل الجوانب، ومنها هذا الجانب المهم والخطير في حياة الأمة اليوم، وهو جانب الدعوة إلى الله عز وجل، وهذه المحاضرة -كما أشرت- قراءة دعوية في السيرة النبوية.

الأسئلة

الأسئلة

حكم كذب المرء ليخفي أعماله الصالحة

حكم كذب المرء ليخفي أعماله الصالحة Q هل يجوز الكذب عندما يسألني صديق: إلى أين أنت ذاهب؟ فأقول: إني ذاهب إلى مكان كذا وكذا، وليس الأمر كذلك، ولكن لأخفي بعض الخير الذي قد أقوم به من أمر العلم، أو الدعوة، أو نحو ذلك؟ A جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) والمعاريض: أن تقول قولاً وهو في حقيقته صحيح وليس بكذب، لكنه يحتمل عدة معان، ويكون المعنى الأقرب إلى فهم السامع هو المعنى الذي لا تريده، فهذا فيه نوع من الفائدة التي قد تتحقق للمسلم عندما يحتاج إليها، فينبغي للإنسان أن يكون صادقاً، ولا يلجأ إلى الكذب الصريح مطلقاً؛ لأنه قد ورد النهي والذم له بما هو معلوم، ولا يلجأ إلى المعاريض إلا عند وجود الحاجة والمصلحة، وينبغي ألا يتوسع المرء في هذا، فإنك ترى بعض الناس يتوسعون توسعاً يوقعهم في الكذب، ويظنون أنهم ما زالوا يقولون المعاريض!

معنى التصفية والتربية في الدعوة إلى هذا الدين

معنى التصفية والتربية في الدعوة إلى هذا الدين Q هل نوافق على أن الدعوة تكون إلى تصفية الدين من كل ما ليس منه، ثم التربية على هذا الدين المصفى؟ A معنى هذا أن التصفية قبل التربية، بغض النظر عن المسميات، والمعنى في حد ذاته صحيح، فينبغي أن يخرج الإنسان من نفسه ومن قلبه كل حكم، وكل مبدأ، وكل شهوة لا تتوافق مع شرع الله عز وجل وسنضرب مثالاً لتوضيح هذا الأمر: إذا أردت أن تجلس في مكان ما، فأول أمر هو أن تنظف هذا المكان، ولا تضع الفرش الذي تريد أن تجلس عليه إلا على مكان نظيف؛ لأن عدم فعلك لهذا لا يجعلك تحقق الفائدة من هذا الفرش، إذ قد تأتي هذه القاذورات مرة أخرى وتفسد عليك مرادك، وإذا أردت مثلاً أن تخرج من مكان ما بعض القاذورات في وقت ريح، فلا بد أن تجعل هناك حاجزاً ثم تخرج هذه الأشياء؛ حتى لا تعيدها الريح مرة أخرى. ونحن أيضاً نحتاج في هذه العصور التي غلبت فيها الكثير من الأفكار والشهوات والسلوكيات على بعض المسلمين أن يخرجوها من قلوبهم، ومن عقولهم، وأن يبطلوها من سلوكهم وواقعهم، وأن يتحلوا بعد ذلك بهذا الدين، وهذا ما يسمى بالتصفية ثم التربية، أو ما يسمونه أحياناً التخلية ثم التحلية، أي: قبل أن تحلّي لا بد أن تخلي الشوائب، ثم تحليه حتى تنتفع به، ولا شك أن هذه الازدواجية الموجودة في بيئات المسلمين تجعل الأمرين متلازمين معاً، فنحن ننكر الباطل، ونعارض المنكر، ونبين خطأه وحرمته للناس، وفي الوقت نفسه نبين لهم الحل الإسلامي، والشرع الإسلامي، فنحن نقول للناس: إن التبرج وإن الزنا من المحرمات، وإن الله عز وجل قد شرع الزواج والتعدد بدلاً عن هذا، ونقول لهم على سبيل المثال: إن الربا حرام، وإن البيع حلال. فلابد أن نبين لهم الأمر وما يكافئه، فعندما ننقض الباطل فإننا نظهر الحق، فيكون بياننا لعوارِ الباطل مهيئاً لقبول الحق، ومحاسن هذا الحق ستجعل الناس متشبثين به بعد أن رأوا معالم بطلان الباطل، وقد كان هذا الأمر نظرياً في وقت من الأوقات، إلا أنه بحمد الله قد صار في كثير من الأحوال عملياً، فكان الناس في الأول يحدثهم الدعاة والعلماء عن خطر الشيوعية والاشتراكية، وبطلانها وفسادها، ويطيلون القول في ذلك لمن اقتنعوا بها وتأثروا بها؛ حتى يثبتوا لهم أن الإسلام هو الصحيح، فكانت هناك قناعات إلا أن هذه القناعات قد تكون ضعيفة، ولكن عندما يؤكد الواقع العملي بطلان هذه المذاهب فإن المسألة تكون سهلة، فاليوم لو كان هناك عاقل لا يزال في عقله بعض أفكار الشيوعية والاشتراكية فإنك عندما تناقشه، والواقع الذي في الحياة قد سقط وهوى، فإنه لا شك سيكون اقتناعه أقوى وأكبر. وإذا قلنا للناس: إن العري والتفسخ والاختلاط مضر، وسيؤدي إلى نكبات، فهذا أمر حسن، ولكن عندما يرون اليوم واقع البلاد الكفرية، ويرون ما فيها من البلاء والأمراض والجرائم وغيرها من آثار ذلك، فإن هذا أبلغ وأقوى في الإقناع، فلا بد من الأمرين معاً.

قيام العلماء والدعاء بالدعوة إلى الله وخطأ التفرقة بين العلماء والدعاة

قيام العلماء والدعاء بالدعوة إلى الله وخطأ التفرقة بين العلماء والدعاة Q من يقوم بالدعوة: العلماء أم شباب الصحوة؛ لأن العلماء تفرقوا واختلفوا؟ A هذه قسمة غير صحيحة، ويريد الأعداء أن يعمقوها في بيئات المجتمع الإسلامي، وخاصة صفوف الملتزمين من أبناء هذا الدين، فيقولون: هناك علماء، وهناك دعاة، ونحن نقول: لا دعوة ولا دعاة إلا بالعلم، ولا يكون العالم عالماً إلا أن يعلم ويدعو، فالعالم الحق هو الذي يبلغ علمه، وينشر الدعوة، والداعية الصادق هو الذي يتزود بالعلم، ويتحصن به. ولا بد أن نعرف أن تاريخ الأمة كان دائماً فيه هذا التلازم، بل كان فيه أكثر من هذا التلازم، ففي كثير من النماذج التي في تاريخ الأمة الإسلامية كان الفرد المسلم يمثل العالم والداعية والمجاهد والمنفق وغير ذلك من الصور، ونعرف ذلك مثلاً في سيرة ابن تيمية رحمة الله عليه، فقد كان عالماً، وكان داعيةً، وكان مجاهداً، كلها في شخص واحد، فليس عندنا عالم لا يعلم إلا الفقه أو المواريث أو نحو ذلك، وليس عندنا داعية لا يتكلم إلا في الفكر. وفي الواقع المعاصر، كلا، فليس عندنا هذا الانفصال ولا نعرفه، وإنما يعرفه أهل العلمانية، وأهل المذاهب الذين عندهم هذه التقسيمات، أما أمة الإسلام فعلماؤها دعاتها، ودعاتها طلبة العلم فيها، والدعاة يطلبون الإرشاد من العلماء، ويستفيدون من العلم، والعلماء يوجهون الدعاة، ويشجعونهم على الانطلاق في الدعوة، وهذا التكامل هو الذي يغيظ أعداء الله عز وجل، ولذلك فإنهم يسعون لشق هذا الصف المسلم الذي تحرك فيه العلماء فاختلطوا بالناس، وظهر علمهم، وأفتوا السائلين، ووجهوا المسترشدين، وتحرك الدعاة والشباب الذين تحركت الغيرة في قلوبهم، فصاروا يدعون، وإلى العلماء يرجعون، فيسألون ثم ينطلقون، فأراد أعداء الله أن يقطعوا هذا الحبل، فيجعلوا للعلماء مسلكاً، وللدعاة مسلكاً، ويجعلوا للكبار مسلكاً، وللشباب مسلكاً، وهذا ليس من دين الله عز وجل. فينبغي أن نقوي اللحمة والرابطة بين علمائنا ودعاتنا في سائر بلاد الإسلام والمسلمين، مع علمنا بأن هناك من العلماء من لا يمثل صورة العالم المسلم الحقيقي؛ لأنه قد أعطى الدنية في دينه، أو لأنه باع دينه بدنياه، وهذه صور يعرفها العامي المسلم فضلاً عن العالم أو الداعية أو الشاب، وهؤلاء قطعاً ليس لهم في نفوس الناس ذلك التعظيم ولا التوقير، وليس لهم عند الناس قبول ولا اجتماع، ونحن نعرف أن من يكون هذا مسلكه بصورة واضحة بينة فيفتي بحل أمور معلوم حرمتها في دين الله عز وجل، كحل الربا، أو حل الاختلاط أو غير ذلك، فإن بسطاء الناس يسمعون هذا ولا يصدقونه، بل يعرفون أن الحق في هذا الدين، ومع من يبين حكمه، وأن الباطل مع من قال هذا القول، وإن كان قد تزيا بزي العلماء، أو ظهر أنه من كبار العلماء.

شاهد من حياته صلى الله عليه وسلم بعد البعثة يشابه تحنثه قبل البعثة

شاهد من حياته صلى الله عليه وسلم بعد البعثة يشابه تحنثه قبل البعثة Q هل لتحنث النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء شاهد من حياته بعد البعثة؟ A إن كان من شاهد يقاربه فهو خروجه عليه الصلاة والسلام -كما ورد عن عائشة رضي الله عنها- في الليل إلى البقيع، يزور الموتى، ويتذكر الآخرة، فهذه وقفات للمحاسبة، وللتذكر، ولتقويم المسيرة، وليس المقصود بها -حتى لا يفهم الأمر فهماً غير صحيح- أن يكون لها منهج معين، وأوقات معينة، وطريقة معينة، وكتابات، فهذه ليست مطلوبة، وليست واردة، وإن فعل الإنسان منها شيئاً فلا يلتزمه ويواظب عليه، ولا يلزم به، وإنما هي مجرد أن يخلو المرء بنفسه؛ ليقوم مسيرته، وليصفي قلبه، وليناجي ربه، وليستعين بهذه الخلوة على اختلاطه بالناس رغم ما عندهم من لغو وباطل وغير ذلك، فهذه فائدتها لا تنكر، ولكن -كما قلت- ليست لها هيئة، ولا زمن بعينه، ولا طريقة معينة.

الاستفادة من الفترة المكية للدعاة

الاستفادة من الفترة المكية للدعاة Q هل يمكن أن يستفاد من الاستخفاء في الدعوة، والهجرة إلى الحبشة، والفترة المكية، في تطبيق ذلك في واقع المسلمين اليوم بعد انتشار الإسلام؟ A كثير من المراحل في عالم المسلمين اليوم في -غالب الأحوال- تتطابق مع تلك البيئة وذلك المجتمع والبلد المسئول عنه، فلا يقال: قد انتهت مرحلة السيرة بمعنى: أنها ليس لها أي تشابه مع واقعنا، وليس لنا أي استنباط منها، ولا أي فائدة، وإلا لكان في ذلك نوع من القصور أو النقض الذي لا يتصور، فكل ما في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام له فائدته، سواءً كان للفرد أو للأمة، وسواء كان في وقت معاصر أو في وقت لاحق؛ ولذلك كل يأخذ من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ما يحتاج إليه، فمن كان يحتاج إلى التربية، أو الموضوعات الاجتماعية والأسرية، فليأخذ من النبي عليه الصلاة والسلام جانب الأبوة، وجانب الزوجية، وغيرها من الجوانب، وكذلك بالنسبة لهذه الأمور المسئول عنها، فمن كان في بلاد كفر فإن له من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام صوراً للتعامل، ومن كان في بلاد يضطهد فيها الدعاة فله من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ما يمكن أن يستنبطه، وأن يستفيده، ومن كان في بلد فيها راية الإسلام خفاقة، وشريعة الله تعالى مصدقة معلنة فهو يستفيد من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ما يناسب أمره، وكل السيرة بمراحلها لا ينقضي الانتفاع منها.

كيفية التعامل مع من صد عن سبيل الله

كيفية التعامل مع من صد عن سبيل الله Q هل يقوم الجهاد ضد من يصد عن تبليغ الدعوة، أو يقف ضد دعاة الإسلام؟ وأي نوع من أنواع الجهاد يكون؟ A لا شك أن كل صاد عن سبيل الله ينبغي أن توجه له الدعوة هو نفسه؛ لأنه إن كان من المسلمين فينبغي أن يكون من المدعوين، وينبغي أن ندرك أمراً مهماً، وهو أن أصل توجه المسلمين لجهاد أعدائهم أنهم يقومون بدعوتهم إلى الله عز وجل، فأصل الإسلام وواجب المسلمين أن يدعو غير المسلمين، فنحن نريد للكافر أن يسلم، فكيف بالمسلم إذا كان مخالفاً؟! فنريده أن يزيل مخالفته. فالصاد عن دعوة الله عز وجل، أو الواقف في طريق الدعاة ينبغي أن توجه له الدعوة، وأن يبصر بخطورة ومغبة هذا الأمر، وبالخير الذي يرتجى له وللناس إذا نصر هذا الدين، ونصر حملته ورافعي رايته، وبعد ذلك لا شك أن إنكار المنكر، وإبطال الباطل أمر مطلوب، لكنه يخضع لضوابط شرعية تتعلق بتحقيق المصلحة، فإن كان الأمر يترتب عليه ما هو أكثر ضرراً منه فتركه واجب، وفعله محرم، وإن كان الفعل الذي تقوم به من إنكار المنكر سيترتب عليه صلاح وإصلاح، ويزول المنكر والفساد فالفعل واجب والترك محرم، وإن كان الأمر مستوياً فإنه -كما ذكر ابن القيم وغيره- يكون راجعاً إلى اجتهاد المحتسب بحسبه، فإن غلب هذا على هذا فله أن ينكر الباطل، وله أن يتركه، وتركه ليس إقراراً له، وإنما تركه رعاية للمصلحة، وخوفاً مما هو شر منه.

آخر أخبار إخواننا في البوسنة والهرسك

آخر أخبار إخواننا في البوسنة والهرسك Q ما هي آخر أخبار إخواننا في البوسنة والهرسك؟ A قد ذكرنا في الدرس الماضي خلاصة جيدة ونافعة في ذلك إن شاء الله، وأما الأخبار الأخيرة فهي أيضاً جيدة والحمد لله، ففي أخبار اليوم أن هناك هدوءاً نسبياً في القتال، وأن هناك قتالاً مستمراً في الشمال بين الصرب والكروات، نسأل الله عز وجل أن يزيده، وأن يمد في أمده ومداه؛ حتى يكون ذلك إبطالاً لقوتهم، وإفناءً لها فيما بينهم، وأما المسلمون فقد أعلن رئيسهم في الوقت الأخير: لسنا في وضع مضى أفضل منا في هذه الأوضاع، فنسأل الله عز وجل أن يعينهم، وأن يثبتهم، وأن ينصرهم، إضافة إلى أن الوقائع تكشف كل يوم مزيداً من تآمر المتآمرين. وفي الأخبار الأخيرة: أن الدول الأوروبية تريد أن تعزل مبعوثها السابق؛ لأنه فشل في التوصل إلى اتفاق، وفي الحقيقة أنه كان عاملاً من عوامل الفتنة، وعاملاً من عوامل العداء والمصائب التي حلت بالمسلمين، وهذا يثبت فشلهم، ويثبت أن هذه الصور إنما هي نوع من تغطية العورة، فالإنسان إذا كشفت عورته، فإنه يريد أن يغطيها بأي شيء، ولكن في حقيقة الأمر قد بان الحق والنور لذي عينين، وعرف المسلمون حقيقة أعدائهم، والمسلمون من إخواننا هناك قد أدركوا طبيعة الصراع والمعركة، وتشبثوا بهويتهم، ووحدوا صفوفهم، وقووا أخوتهم، وعملوا على أن يظهروا في حياتهم التجاءهم إلى الله عز وجل، واستمساكهم بدينه سبحانه وتعالى، وهذه مبشرات يكون فيها الأمل والخير إن شاء الله. نسأل الله عز وجل أن يثبتهم، وأن يعينهم، وأن يوفقهم، كما نسأله عز وجل أن يحقن دماء المسلمين في أفغانستان، وأن يبطل هذه الحرب الدائرة، وأن يحقق أسباب الوئام والقوة للإسلام والمسلمين، وأن يجعل الدائرة على الكافرين، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الصوم طريق إلى الجنة

الصوم طريق إلى الجنة كثيرة هي الطرق الموصلة إلى الجنة، والصوم هو إحدى تلك الطرق الواسعة السريعة؛ وذلك لما يحمل في طياته من عبادات عظيمة، ولما جعل الله فيه من الفضل العظيم من رفع للدرجات، وتكفير للسيئات، وعتق من النيران، واستجابة للدعوات وغير ذلك. ومن طرق الجنة العظيمة أيضاً الجهاد في سبيل الله، والإنفاق لوجه الله، وعلى كل فأبواب الجنة كثيرة، والموفق من وفقه الله.

وصف الجنة من القرآن والسنة

وصف الجنة من القرآن والسنة الحمد لله، الحمد لله يسمع من حمده، ويطمئن من ذكره، ويزيد من شكره، ويعطي من سأله، له الحمد سبحانه وتعالى؛ شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، نحمده سبحانه وتعالى على فضله وجوده وكرمه في شهر رمضان، وعلى ما يسر فيه من البر والمعروف والإحسان، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه؛ فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين؛ فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أمنية الأمنيات، وغاية الغايات التي تتعلق بها قلوب المؤمنين، وتتشوق إليها نفوسهم وتنشغل بها أفكارهم، وتقضى في سبيل تحصيلها أوقاتهم، وتبذل لأجل بلوغها كل طاقتهم وإمكاناتهم، هي الجنة. وما أدراك ما الجنة؟! تلك التي جعلها الله سبحانه وتعالى داراً للمؤمنين، ومثوىً للمتقين، والصوم طريق إلى الجنة؛ ذلكم أمر ينبغي الانتباه له ليتم الاغتنام على وجهه الصحيح، وليحيي في القلب والنفس من معاني التعلق بالجنة والجد في السعي إليها ما ينبغي أن يكون شعاراً ومناراً في هذه الفريضة الجليلة وهذا الشهر الكريم. الجنة التي هي غاية الغايات وأمنية الأمنيات ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه حتى كاد أن يكون القرآن كله ترغيباً في الجنة وترهيباً من النار، والفوز العظيم هو مجرد النجاة من النار ودخول الجنة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، ويقول الحق سبحانه وتعالى في مثل هذه المعاني الجليلة العظيمة: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72]، ليس هناك فوز حقيقي، ولا كسب عظيم، ولا أمر يستحق أن يبذل له كل شيء مثل هذا الفوز بالنجاة الكبرى والغنيمة العظمى بدخول جنة الله سبحانه وتعالى. الجنة وما أدراك ما الجنة، وما أدراك ما فيها من النعيم المقيم؟ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، عن رب العزة والجلال تقدست أسماؤه وجل جلاله أنه قال: (أعددت في الجنة لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])، فهل هناك أعجب بل أعجز من هذا الوصف الذي مهما عظمت الأمنيات، واتسعت الخيالات، وتنوعت اللذات تقصر عن أن تحيط بشيء منه أو أن تقترب من ظلال حقيقته؟ (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فليخطر بقلبك من النعيم أوسعه، ولتفهم ولتتعلق بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة؛ فإن ما عند الله من النعيم أعظم من كل ما تجول به الخواطر، وتتعلق به النفوس والقلوب من تلك اللذات وذلك النعيم، وذلك لا شك أنه يهيج الشوق في قلب كل مؤمن إلى الجنة، ويبعث إلى التعلق بها، ويحث على السعي إليها. والأمر أوسع من ذلك؛ ففي الصحيح من حديث سهل بن سعد ما هو من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)، هذه الدنيا التي تتعلق بها قلوبنا، وتخطف أبصارنا، وتسبى نفوسنا، ونصطرع في ميادين المنافسة على أخذها ونيلها، موضع سوط واحد في الجنة خير من الدنيا وما فيها. ويح الملوك، وويح الذين لا يكون لهم هم إلا دنياهم، وويح الذين تعلقت قلوبهم بهذه الدنيا يريدون أن يستكثروا منها ليكونوا أثرى الأثرياء وأغنى الأغنياء، فسوط واحد في الجنة خير من الدنيا وما فيها أعظم مما يملكه الملوك، ومما يحوزه الأثرياء، ومما يتسلط به أهل الدنيا كلهم من أولهم إلى آخرهم، فهل ثمة أعجب أو أعظم من ذلك؟ وامض كذلك لتستمع إلى ما هو أعظم وأجل في تلك الأوصاف العظيمة، بما ورد من حديث ابن مسعود عند البخاري ومسلم، وهو حديث عظيم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، رجل بعد أن قضى ما عليه من عذاب الله أدركته رحمة الله بتوحيده لله فأدخل الجنة، فلما دخلها رآها ملأى فرجع يخاطب ربه: يا رب! إني رأيتها ملأى -ليس فيها موطن له ولا مكان يضمه- فقال الله جل وعلا له: ادخلها ولك الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول العبد: أتهزأ بي يا رب؟ فيضحك الرب سبحانه وتعالى)، ويضحك الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يروي هذا الحديث. أفلا يكون ذلك صارفاً للقلوب عن تلك الشهوات والملذات التي لا يمكن بحال من الأحوال لمؤمن عاقل أن يقيسها أو يزنها أو يقارنها بشيء ولو يسيراً من مثل هذا الذي وعد الله به عباده؟! وتأمل في هذه المعاني والنصوص وامض معها. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وصف أختم به بعض هذه النصوص، وهو يصف جنة الله سبحانه وتعالى: (لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ملاطها مسك الإذفر -والملاط هو ما يوضع بين اللبنات لتتماسك- وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم)، وصدق الحق سبحانه وتعالى وهو يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20]. رمضان موسم الخير الأعظم، والصوم طريق إلى جنة الخلد بإذن الله، فلندرك هذه الخصائص في هذه العبادة حتى ندرك عظيم منة الله علينا، وحتى نعرف فضله سبحانه وتعالى علينا، وحتى نلتفت إلى تقصيرنا وتفريطنا، وحتى لا نظن أننا قد قمنا بعمل كثير، وأننا سعينا السعي الكافي، واجتهدنا الجهد اللازم لنحصل هذه السلعة الغالية، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.

طرق الصوم الموصلة إلى الجنة

طرق الصوم الموصلة إلى الجنة

الوقاية والمباعدة من النار

الوقاية والمباعدة من النار الصوم أيها الأحبة طريق للجنة، ووجوه ذلك كثيرة: وحسبنا تلك الآية التي صدرنا بها حديثنا: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] و (زحزح) أي: كأنما كان يخرج من النار بشيء من الثقل لا يتحرك إلا قليلاً قليلاً، فكيف بك والصوم يدفعك دفعاً، ويبعدك مسافات هائلة عن النار؟ نسأل الله عز وجل أن يقينا وإياكم عذابها وحرها. هذا حديث أبي سعيد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)، سبعين عاماً، وذلك أمد عظيم ليوم واحد يصام في سبيل الله، وسياق هذا النص لا ينبئ أن المراد هو صوم الفريضة بل صوم النفل، فما ظنك بصيام أيام رمضان -شهر كامل- تخلص فيها لله وتصومها في سبيل الله، كم يباعدك ذلك من النار؟ أما الوقاية فقد روي عن جابر بسند حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصيام جنة يستجن بها من النار) رواه الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان. قوله: (جنة يستجن بها من النار) أي: درع وحصن ووقاية تسلمك وتؤمنك بإذن الله عز وجل من عذاب النار. وفي حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة من عذاب الله) رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، وابن خزيمة في صحيحه. تأمل هذا المعنى؛ أفتكتفي من بعد أن يكون حظك من الصوم شهر رمضان، وأن يكون صومك في رمضان فيه تفريط وتقصير، فتفوتك تلك الوقاية والحماية، وتفوتك تلك المفاوز التي تبتعد بها عن سخط الله وعذابه في جهنم؟ نسأل الله عز وجل أن يقينا عذابها وحرها.

التهيئة والمقاربة للجنة

التهيئة والمقاربة للجنة ومن جهة أخرى: التهيئة والمقاربة إلى الجنة، فكما أن هناك مباعدة عن النار فثمة مقاربة للجنة تختص بهذا الشهر الكريم وهذه الفريضة العظيمة، فما أحرانا أن نجد ونجتهد. تأمل كذلك ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجة، وهذا لفظ الترمذي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار؛ وذلك في كل ليلة)، أفليس واضحاً أن للصوم صلة عظيمة بدخول الجنة والقرب منها، والتعرض لأسباب دخولها، والتقرب إلى الله عز وجل بما يمن به على عبده بدخول جنته، وحصول رضوانه، والعتق من نيرانه؟ أبواب الجنة مشرعة مفتوحة، ومعنى ذلك أن نسمات الخير، وبرد الجنة، ولذة ما فيها من النعيم يكاد أن يلامس وجوهنا، ويخالط نفوسنا، ويداعب خواطرها، ويجعلنا كأنما نريد أن لا يختم هذا الشهر إلا وقد صرنا من أهل الجنة ومن العتقاء من النار؛ نسأل الله عز وجل من فضله. أفليس هذا ينبغي أن يكون حاضراً في قلوبنا وأذهاننا؟ أفليس حرياً بنا أن نعيده ونكرره في مجالسنا وبيوتنا بدلاً من لغو القول وسفساف الحديث وأعمال أخرى نسأل الله عز وجل أن يبرئنا منها، وأن يبعدنا عنها؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.

الاختصاص بباب الريان للصائمين

الاختصاص بباب الريان للصائمين كلنا يحفظ حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل فيه غيرهم). لماذا؟ أجاب أهل العلم عن ذلك: لما كان الصوم عبادة سر بين العبد ومولاه ليس فيها مدخل لرياء، وفيها تخلٍ عن الشهوات والملذات ابتغاء وجه الله، وفيها تحمل وصبر ومشقة ابتغاء التحقق بطاعة الله، ولما كان فيها مجاهدة للنفس، وكبح لجماحها، وإسلام لقيادها، وقوة في سيرها نحو طاعة ربها؛ كان ذلك الجزاء من جنس العمل، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].

الصوم موسم لتكثير الحسنات وتكفير السيئات

الصوم موسم لتكثير الحسنات وتكفير السيئات نمضي عن طريق الصوم إلى الغفران والتكفير، ورمضان وفريضة الصوم وموسمه أطول مدة وأعظم موسم فيه تكثير للحسنات، وتكفير للسيئات: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). (ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن من الخطايا ما اجتنبت الكبائر). وفي حديث حذيفة أن الفتن يكفرها الصوم والصلاة والصدقة. فما أعظمه من موسم، وما أجلها من عبادة يمحو الله بها ما سلف من كثير الخطايا، وعظيم الذنوب التي أثقلت كواهلنا وسودت صحائفنا، نسأل الله عز وجل أن يبيضها، وأن يمحو ما سلف من تلك الآثام، وأن يعيننا على الاستقامة على الطاعات والصالحات.

الصيام والقيام والقرآن

الصيام والقيام والقرآن وإذا مضينا وجدنا سبباً آخر، وهو عظيم جليل يحتاجه المؤمن؛ {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، يوم يطلب الإنسان ويبحث يمنة ويسرة في يوم القيامة، يوم الحشر، يوم المشهد الأعظم والهول الأكبر؛ هنا نتذكر الصيام، عندما نتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص عند الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في معجمه بسند صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب! منعته النوم بالليل فشفعني فيه؛ فيشفعان فيه). والصيام والقيام بالقرآن كلاهما في رمضان، وهما من أسباب الشفاعة المنجية بإذن الله عز وجل من عذاب الله والمفضية بإذن الله إلى نعيم الله، أفلا نستكثر من ذلك؟ أفلا نجتهد في الطاعة؟ أفلا نخلص في النية؟ أفلا نتحرى التشوق والتطلع إلى كل ما فيه مرضاة لله عز وجل وطاعة له، وإقبال عليه وتعلق به، وخوف منه، وتوكل عليه، وتقوى له، وإنابة إليه؟ أفهذا كله مما نعلمه ونقرؤه ونسمعه ونحفظه، ثم يكون حال كثير منا في رمضان غفلة ونوم بالنهار وسهر ولهو بالليل، وشاشات عاهرة داعرة، وأغان فاضحة ماجنة، وأحوال من الصفق بالأسواق لا تسر مؤمناً، نسأل الله عز وجل السلامة. أفبعد أن يفيض الله علينا كل هذا الخير، ويبشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكل هذا الفضل؛ تكون القلوب عنه معرضة بسفساف الدنيا وشهواتها منشغلة ملتهية؟ أفليس ذلك مما يعظم حزن المؤمن على نفسه وحاله مع فضل الله الذي يسوقه ويبسط به يديه جل وعلا وهو الغني عن عباده، ثم لا يكون هناك إقبال مناسب ولا اجتهاد مكافئ، ولا حرص يدل على تغلغل معاني هذه النصوص في القلوب والنفوس؟

الدعوة المستجابة للصائم

الدعوة المستجابة للصائم وفوق ذلك كله أيضاً باب عظيم من أبواب الجنة مرتبط بالصوم وخاص به، وذلك في الدعوة المستجابة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يفتح الله لها أبواب السماء ويقول: لأنصرنك ولو بعد حين)، رواه الإمام أحمد والترمذي بسند حسن، وفي حديث عبد الله بن عمرو: (إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد). فهذه دعوة مقبولة مجابة بنص حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ونحن أهل إيمان ويقين بأن ما أخبر به عليه الصلاة والسلام هو كما أخبر به. وخذ ما يبشرك ويجعلك لا تنسى حظك من الدعاء والفوز بالجنة في شهر الصوم، وإدراك هذه الفضيلة، تأمل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من رواية أنس عنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما سأل الله أحد الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ولا استجار رجل مسلم من النار ثلاثاً إلا قالت النار: اللهم أجره مني)، رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه. أفلا نكثر من الدعاء بدخول الجنة والنجاة من النار؟ وفوق ذلك أيضاً خذوا من هذا الباب مزيداً من الفضل، وهي دعوات خاصة بك أيها الصائم في بعض أحوالك، تدعو بها الملائكة المقربون الذين: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، والذين: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]. هذا حديث أم عمارة الأنصارية: (جاء إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقدمت له طعاماً، فقال لها: كلي، فقالت: إني صائمة، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، أو ربما قال: حتى يشبعوا). وفي رواية: (الصائم إذا أكل عنده المفاطير صلت عليه الملائكة)، رواه الترمذي بسند صحيح. ملائكة الله تدعو لك وتستغفر، ودعاء الملائكة وما أدراك ما دعاء الملائكة؟ هذه كلها بشريات خير تدلنا على أن هذه الشعيرة عظيمة، وأن هذا الزمان أعظم مواسم الجنة التي تقربنا إليها وتدنينا منها، وتيسر لنا سلوك الطريق المفضية إليها، وتجعلنا بإذن الله عز وجل في أحسن الأحوال التي نكون فيها أقرب من ربنا، وأكثر ما نكون استحقاقاً لرحمته وفضله وجوده وكرمه بالعتق والنجاة من النيران، والدخول إلى الجنة والنعيم المقيم فيها.

طرق أخرى للجنة

طرق أخرى للجنة لعلي أختم هذا المقام بالحديث عن غير ما يدخل الجنة سوى الصوم، حتى لا يظن ظان أن الجنة عربونها هو الصوم فقط؛ فإن الأمر أوسع من ذلك وإن كان يسيراً بإذن الله عز وجل، فالفرائض هي العمد كلها، فلا ينبغي أن يكون صوم بلا صلاة، ولا صوم وصلاة ثم تشح النفس فلا تخرج الزكاة. ومثل ذلك الحج كما نعلم من حديث جابر رضي الله عنه، عن الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت شهر رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، أأدخل الجنة؟ قال: نعم، فقال الرجل: والله لا أزيد على ذلك شيئاً). وأوسع من هذا وأشمل وأجمل: حديث معاذ لما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغل تلك الرفقة العظيمة، والتفت سائلاً عن أعظم ما يسأل عنه المؤمن، وعن أهم ما يشغله، فقال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: كف عليك هذا، وأمسك بلسان نفسه عليه الصلاة والسلام، قلت: يا رسول الله! أو محاسبون بما نتكلم به بألسنتنا؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟). فما أحرانا أن نعرف هذا الفضل في هذا الشهر، وأن نستكمل الفرائض حتى يأذن الله عز وجل برحمتنا، ويمن علينا بفضله وجوده وكرمه فيعتق الرقاب من النار، ويمن علينا بدخول الجنان، نسأل الله عز وجل من فضله، ونسأله سبحانه وتعالى من رحمته ولطفه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الجهاد طريق إلى الجنة

الجهاد طريق إلى الجنة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وهذه فريضة التقوى، وهذا شهر التقوى، وما لم نذكره من تعلق الصوم برمضان كثير وجدير بالعناية والاهتمام؛ فشهر رمضان شهر القرآن، والقرآن هو الطريق إلى الجنان، وشهر رمضان فيه من الخصائص الأخرى ما له تعلق بهذا الأمر، غير أني أقف الوقفة الأخيرة في هذا المقام حول طريق آخر للجنة. فإن من أعظم ما ينال به العبد المؤمن المراتب العليا في الجنان هو الجهاد في سبيل الله، والاستشهاد في سبيل الله، ولعلي هنا إنما أريد أن أذكر نفسي وإخواني بأن من إخواننا المسلمين المؤمنين من يجمعون من الخير أكثر مما نجمع، ومن لهم رغم ما في أحوالهم من الشدة والكرب العظيم ما قد يكونون به في خير أكثر وأعظم منا؛ ما قولكم فيمن يجمع بين صيام وشهادة؟ أفلسنا في كل يوم نسمع عن إخواننا في أرض فلسطين ذاك يقتل، وذاك يهدم بيته فوق رأسه؟ يمضون إلى الله عز وجل إن شاء الله شهداء صائمين فيكون فطرهم عند الله في الجنة، أفليس هذا أمراً جديراً بعنايتنا ورعايتنا؟ أفلسنا نتذكر أحوال غيرنا من إخواننا ونحن في أمن عظيم، وفي نعمة كبيرة، وأحوال كثيرة تجعلنا قادرين على أن نفعل وأن نبذل ما قد لا يتاح لغيرنا؟ أذكر فقط بعض ما هو منشور من الأحوال والأخبار عن بعض الأسر المسلمة في فلسطين، وهي تصوم هذا الشهر بعد أن فقدت قبله بأيام أو أشهر قليلة عائلها وربها والقائم على شئونها، هل فكرنا ما هي أحوال الصغار من الأبناء والبنات؟ ما هي أحوال الزوجات المكلومات؟ والأمهات الثكالى؟ هل نفكر في ذلك؟ لنستمع لقصة واحدة: عبد الله السبع سبع من السباع الفلسطينية القوية الفتية، حاصره اليهود عليهم لعائن الله وهم يريدون منه أن يخرج حتى يهدموا بيته، لكن أبت عزة إيمانه، وحمية إسلامه، ونخوة نفسه، وقوة بدنه إلا أن يجابههم حتى خر شهيداً بإذن الله عز وجل، دفاعاً عن عرضه وماله وداره، وقبله بأحد عشر يوماً فقط كان ابنه الأكبر مصعب قد مضى شهيداً على أيدي اليهود الخونة المجرمين عليهم لعائن الله، واستقبلت الزوجة الفاقدة لزوجها وابنها الأكبر هذا الشهر وهي تروي قصتها وتقول: في أول ليلة من الليالي التي أعلن فيها عن قدوم رمضان، وقبل أن نتناول السحور قدم إلي الأبناء وعانقوني وهم يبكون يتذكرون رمضان الذي مضى بوجود أبيهم وأخيهم الأكبر، ثم لها ابنة صغيرة في السابعة من عمرها عندما جاءوا إلى الإفطار في أول يوم جعلت تنظر إلى بقية إخوانها وينظرون إليها، ثم يبكي الجميع تذكراً لأولئك الراحلين المفقودين. هل نفكر أيها الإخوة ونحن نجتمع مع أسرنا على ما لذ وطاب من الطعام مع كثير من الإسراف والتبذير، أحوال إخواننا هناك أو في العراق أو الشيشان أو غيرها من البلاد التي يلقى فيها إخواننا الضر والأذى، ويواجهون فيها الظلم والبغي والعدوان على أيدي أعداء الله وأعداء دينه من اليهود وأحلافهم وغيرهم ممن يتعاون معهم؟ أليس ذلك كله جديراً بأن نعلم أن من الطرق الموصلة إلى الجنة الإنفاق في سبيل الله، وبذل المعروف، وإغاثة الملهوف، وأن هذه الأحوال ينبغي أن لا تنسينا أننا جزء من هذه الأمة، وأننا فرع منها، وأن كل فرد منا إنما هو بهذا الكيان العظيم وتلك الأمة العظيمة. أيها الإخوة! حقيق بنا أن نعرف هذه الفضائل، وأن نعرف تلك المناقب لأولئك الذين يرفعون رءوسهم، ويقدمون صدورهم فداءاً لدينهم، ودفاعاً عن أمتهم، وحفظاً لأعراضهم، وإعزازاً لدينهم، ورفعاً لراية الله عز وجل لئلا تنكس. هذه معان لابد أن نذكرها ونحن نذكر الجنة وطريقها، وطريق الجهاد والاستشهاد من أعظم هذه الطرق شاء من شاء وأبى من أبى، وللجهاد ميادينه المعروفة في أعداء الله عز وجل وفي الكافرين المحاربين لدين الله ولعباد الله، وليس من ذلك في شيء ما يعلن عنه اليوم والأمس من هذه الممارسات التي أسلفنا القول بأنها لا تتفق مع شرع الله عز وجل، ولا تترتب عليها إلا المصائب والرزايا والبلايا، ولا تكون بحال من الأحوال قريبة ولا ملامسة ولا مشابهة للجهاد في سبيل الله عز وجل، وذلك أمر قد أفضنا القول فيه، ولكنها تذكرة. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الشهر الكريم شهر عبادة وإخلاص وتقرب إلى الله عز وجل وتقوى له، يعظم فيه إيماننا، ويزداد به يقيننا، وتكثر به خيراتنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالمغفرة والقبول والرضوان والعتق من النيران، ونسأله جل وعلا أن يوفقنا لما يحب ويرضى. ونسأله سبحانه وتعالى أن يرفع الظلم والضيم والأذى عن إخواننا المسلمين في أرض فلسطين والعراق والشيشان وكشمير وكل مكان، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الشهر غياثاً لهم ورحمة لقلوبهم، وطمأنينة وسكينة لنفوسهم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعله تثبيتاً لهم في مواجهة أعدائهم، ونسأله عز وجل أن يجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، نسألك اللهم العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم سخر جوارحنا في طاعتك، واستعلمنا في نصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين. اللهم ثبت إخواننا المسلمين المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، وحد اللهم كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، وقرب اللهم نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل نصرهم عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم عليك بسائر أعداء الإسلام والمسلمين من الظلمة والمعتدين، نسألك اللهم أن تقذف الرعب في قلوبهم، وأن تجعل الخوف في صفوفهم، وأن تزلزل الأرض تحت أقدامهم، وأن تأخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنهم قد روعوا الآمنين، وهدموا البيوت على المسالمين، واغتصبوا الأرض، واعتدوا على العرض وانتهكوا المقدسات، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، وأرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجليل: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي؛ وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

صرخة إسلامية وغضبة نسائية

صرخة إسلامية وغضبة نسائية عندما ينطق الرويبضة في أمر الدين والعامة فإنه يحصل جراء ذلك الفساد العظيم، والخطب الجليل، وإننا نرى أبواب وسائل الإعلام مفتوحة لكل فاسد ومنحرف وطاعن في ديننا، بينما توصد أمام دعاة الحق والفضيلة، فما من يوم إلا وتطالعنا هذه الوسائل بفاسد أو فاسدة يتكلم في أمور الدين بما لا يعرف، ويلوي أعناق النصوص أو يلغيها ليقرر انحرافه وفساده الذي أملاه عليه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم.

استنجاد المرأة المسلمة من دعاة التبرج والسفور

استنجاد المرأة المسلمة من دعاة التبرج والسفور الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإنني أسطر هذه الكلمات بحزن وبألم، وأشعر بعجز وأحس بتقصير، ولا أبالغ إن قلت: إنه ينبغي لنا أن نطأطئ الرءوس على فقدان أمر مهم، ألا وهو غيرتنا الإسلامية وحميتنا الإيمانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغضب لنفسه، لكن إذا انتهكت محارم الله غضب غضباً لم يغضب كغضبه أحد من الناس. إنها صرخة إسلامية وغضبة نسائية، تحدثت بها امرأة يوم سكت كثير من الرجال، وصدعت بها امرأة يوم تأخر كثير من الرجال، ولقد حذرت من قضية اختلال الأمر في بلادنا، واختلال التطبيع الإسلامي، حتى يصبح ما هو إيماني إسلامي في بلاد الحرمين ومنبع الإسلام ومهبط الرسالة أمراً شاذاً مخالفاً، ويصبح هذا الشاذ المخالف لديننا بعد فترة من الزمن مألوفاً مقبولاً. وأتركك -أيها القارئ- قليلاً لنستمع إلى كلمات هذه الصرخة الإسلامية والغضبة النسائية، التي جاءت بعد توالي أحداث تنتظم في سلك واحد، يوجه إلى نسائنا المؤمنات في بلاد الحرمين خاصة، ويزعزع البنيان الإيماني والكيان الإسلامي من خلال التماسك والترابط الاجتماعي الأسري. سأمضي مع هذه الصرخة وأعود من بعد إلى واقعها، واعذرني ابتداء إن خرج الحديث عن سياقه المعتاد وانضباطه المألوف، فإن في المسألة والحقيقة ما قد يؤدي إلى ذلك. تقول هذه الصرخة النسائية: كل يوم تفجعنا صحافتنا حتى بتنا لا نثق بها ولا نحترمها، كل يوم يطالعنا مقال يسيء للنساء في بلاد الحرمين، فهذه صحيفة تصف عباءاتنا بأنها أكياس فحم، وتلك تصفنا بالنعاج، تركنا الصحف لهم وتركنا قراءة مقالاتهم، فبدءوا يطلون علينا في الشاشات، يخرج نساء ويتحدثن باسمنا وعلى ألسنتنا، تأتي امرأة متبرجة معترضة على الأحكام الشرعية، وتقدم على أنها امرأة سعودية ونموذج لنساء الحرمين، حتى طفح كيل النساء المسلمات العفيفات فصرخن مثل هذه الصرخات.

أثر الإعلام في تشويه المرأة المسلمة وقلب الحقائق

أثر الإعلام في تشويه المرأة المسلمة وقلب الحقائق تقول الصارخة المؤمنة: المتحدثات بألسنتنا قلة من البنات، بل إنهن في حكم الشاذات، إنهن يسعين لهدم الدين والتقاليد والعادات، والسبب أن الإعلام معهن وفي صفوفهن، ثم تبكي وتقول: ما أقسى كلمة التخلف والرجعية والتقليد إذا قالوها وهم يقصدون المرأة المسلمة المتحجبة العفيفة المصونة! وكل يوم يكتبونها ويقولونها دونما رادع أو مانع، ويحق لهم؛ لأن من أمن العقوبة أساء الأدب. تأتي واحدة -كما تقول الكاتبة- فتحرض بناتنا على اختراق المجتمع وسياسة الدولة، وتأتي أخرى فتتهمنا بأننا نريد الفساد والتخلف، وكلامها يوحي بأننا ضعيفات وجاهلات ومتخلفات وأن لدينا ازدواجية. كيف نسكت على من تقول: بأن الجنة والنار والآخرة أشياء لا وجود لها؟! ولقد أضنيت نفسي في البحث عن صحة هذه المقالة، فوجدتها بنصها على قناة للدولة، ومثل هذه المقالة تستهدف ديار الإسلام على وجه العموم، وديار الإسلام في بلاد الحرمين على وجه الخصوص. تقول هذه المرأة المنحرفة على هذه القناة: إن (المطاوعة) -أي: الدعاة والعلماء- يخوفوننا ويربطون الحجاب بالجنة والنار والآخرة، وهذه أشياء لا وجود لها أصلاً. تمضي هذه المرأة المسلمة الغيورة متسائلة: متى ستحاسب مثل هؤلاء النساء المنحرفات؟! ثم تقول من بعد مخاطبة المسئول الأول في بلادنا: أنت تحبنا وتعبر عن هذا الحب لنا، ولا نشك في ذلك أبداً، لكننا نريد البرهان اليوم، فإذا كنت تحبنا فهل ترضى أن يؤذينا أحد؟! أسألك بالله هل سترضى لنا بالأذى؟

دور الإعلام في إبراز الفاسدات في صورة القدوات

دور الإعلام في إبراز الفاسدات في صورة القدوات تنقلنا إلى الحقيقة المهمة، إلى التطبيع الإسلامي الذي ذكرته، حيث تقول: إن امرأة أو عشراً من النساء أو مائة أو ألفاً لا يعبرن عن ملايين من النساء هن نصف مجتمعنا صينات عفيفات مخدرات، قائمات بإيمانهن عاملات بإسلامهن، منشغلات بدعوتهن، مربيات لأبنائهن، عالمات متخصصات في مجالاتهن. أقول: إنه الإعلام يجعل الواحد بألف وآلاف، إنها الكلمة التي تكتبها الكاتبات فتطير في شرق الأرض وغربها، وأمثالنا صامتون ساكتون، وربما لا يجيدون هذا الفن، أو إذا أرادوا الظهور في تلك الشاشات أو الكتابة على تلك الصفحات حيل بينهم وبين ما يشتهون.

الحقيقة الغائبة

الحقيقة الغائبة هذه امرأة تعبر عن حقيقة تلمسها، وعن واقع تعيشه، عن أمثلة حية نراها بأعيننا، تقول لنا عن نساء هذه البلاد الطاهرات: ما رأيت امرأة اشتكت من السعادة والاستقرار وراحة البال؛ لأن المرأة المسلمة فرحة بدينها، راضية بإيمانها، مستقرة ومحبة لزوجها، حنونة على أبنائها، ملكة في بيتها، قائمة بواجبها. والمفسدون يقولون: إنها مغلوبة على أمرها، إنها مقيدة تريد التحرر، إنها مكبلة تريد الانطلاق. لكن نساءنا يقلن غير ذلك، تقول: كلا، فهم يريدوننا بالقوة أن نشتكي من الفضيلة والشرف الذي يمنحنا إياه الحجاب الذي فرضه الله علينا. وتخبر عن نسائنا فتقول: العاقلات منهن في ازدياد، ولا يغرنكم البنات في الأسواق، فإن الماكثات في البيوت آلاف الأضعاف، ما رأيت مثل إقبالهن على الله، لو رأيتم صفوفهن في المساجد في رمضان، والبنات في المدارس ينتظرن الندوات ويخشعن أمام المحاضرات، ويقبلن على القرآن بشغف وشوق، وهن في أوج المراهقة، وكان عدد المعتكفات في هذه السنة في مسجد الملك خالد في الرياض في حدود ثمانين معتكفة اعتكافاً كاملاً، نصفهن شابات في ربيع العمر. لقد أظهرت غيظها وحنقها على أولئك الإعلاميين الذين يقلبون الحقائق، وأظهرت حقيقة الأمر حيث تقول: أغلبيتنا الساحقة داعية مثقفة محترمة، تعرف المؤامرة، وتدرك خطورة الانسياق وراء الغرب من بعض شعوب العرب. إنهن يدركن المآل الذي نراه اليوم في بلاد مسلمة لديها تصريحات لممارسة البغاء والزنا، وبلاد عربية مسلمة فيها ملاهي الليل التي تحتسي فيها الخمور، والتي تدار فيها الكئوس وتتعرى الأجساد، ليست هذه المظاهر في بلاد غربية أو غير مسلمة، بل هي في بلاد المسلمين، ترونها كلما سافرتم، وتسمعون عنها وتعلمونها يقيناً، وبعض الناس يقارننا ببلاد تقرب منا بمسافات قصيرة، وكأن الجغرافيا هي التي تفرض العقائد وتفرض الشرائع والدساتير والأخلاق والقيم، وكأننا نقتبس من أي أحد، وكأننا في أعماق الجب نريد من يخرجنا، وكأننا في غياهب الظلمات ننتظر من ينير لنا الطريق، وكأنه ليس بين أيدينا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك تاريخ عظيم لنساء مؤمنات مسلمات عالمات على مر التاريخ الإسلامي. ثم أعود مرة أخرى لندائها وهي تخاطب المسئولين في بلادنا فتقول: لابد للدولة من أن تتدخل لإلجام ألسنة الكاذبات من النساء اللاتي يقمن بتشويه سمعة هذه الدولة المباركة أمام العالم. تأتي هذه الصرخات الكلمات والمواقف لتصور لنا الحقيقة، وتبين لنا الخروقات التي يوشك أن تتسع على الراقع، وأول الغيث قطر ثم ينهمر، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وإن الجبال من الحصى.

شبه المفسدين والمنحرفين حول الحجاب وغيره والرد عليهم

شبه المفسدين والمنحرفين حول الحجاب وغيره والرد عليهم مسألة خطيرة في بنائنا الاجتماعي، بل في معتقدنا الإيماني وفي التزامنا الإسلامي، تلك المتحدثة المنحرفة تقول: ما العيب في أن تكون العباءة ملاصقة للجسم؟ ثم تخاطبنا في مقالة وليست في مقابلة تلفزيونية بحديث خطير يمرر ويقر ويقرأ، ويجوس خلال الديار، تقول: في الآونة الراهنة تشتد حاجتنا إلى إجراءات سريعة وحلول فاعلة، تقلل من احتمال تفاقم الميل إلى العنف عند الأجيال الجديدة. إنها تريد أن تقدم لنا علاجاً لمشكلة العنف والإرهاب التي ركب موجتها كل أحد في قلبه غيظ على الإسلام والدين والعفة والحشمة، وفي فكره خلل. ثم تعطينا بعض هذه الخطوات اللازمة حيث تقول: لابد منها وبسرعة شديدة، منها -على سبيل المثال لا الحصر- ضبط مرجعيات الإفتاء. ولست أدري هل تريد أن تكون إحدى المفتيات، وهي تخبرنا عما هو موجود وما هو غير موجود! ثم تقول: وتغيير الخطب الدينية التي تلقى هنا وهناك في عرض البلاد وطولها. أي خطب هذه التي تغير؟! هل سنتكلم بلسان غير لساننا؟ هل سنقرأ في المنابر نصوصاً من التوراة بدلاً من القرآن؟! وهل سنذكر سيرة غير سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وأحاديثه؟! تريد تغيير الخطب الدينية في كل المساجد المؤسسة على التقوى في الحرمين الشريفين التي تنطق باسم المسلمين في كل مكان. وتضيف قائلة: والبعد عن الاكتفاء بشجب التفجيرات واتخاذ الإجراءات الحاسمة. وانظر إلى هذا القول: اتخاذ الإجراءات الحاسمة! وأقول: هل المراد اتخاذ الإجراءات الحاسمة تجاه المخدرات، وتجاه المسكرات، وتجاه العصابات، وتجاه الإجرام، أم تجاه أي تجمع ديني سواء كان لشباب أو على مستوى الندوات غير الرسمية التي تقيمها سيدات المجتمع في بيوتهن؟! تريد أن تقول: أيها النساء! لا تتحدثن في بيوتكن بآيات الله، ولا تقرأن أحاديث رسول الله، ولا تعظن أخواتكن؛ لأن ذلك فيه تغذية للإرهاب وزرع لبذور العنف! ثم تقول: إنها تريد الحسم ضد تجمعات النساء في بيوتهن. وهذا من أعجب العجب، فكيف يسكت عنه؟! وكيف يمر دون حساب؟! وأحسب أن الأمر صار احتساباً تقدم فيه الدعارة في المحاكم؛ لأنه يتناولنا جميعاً بلا استثناء، ويتناول أخواتنا وزوجاتنا وبناتنا ونساء مجتمعنا وأحوالنا الطبعية، تلك هي بلاد الإسلام، الإسلام فيها في كل مكان وفي كل زمان وفي كل تجمع وفي كل بيت وفي كل مدرسة وفي كل جامعة، من أعجبه ذلك فليعجبه، ومن لم يعجبه فبلاد الدنيا كلها فيها من الفسق والعهر والفجور والكفر ما يكفيه ويكفي غيره من الآلاف. فلماذا لا يريدون بلداً واحداً يبقى على طهارته وعفته وشرفه؟! لماذا يريدون أن يصلوا إلى معقل الإسلام وموئل الإيمان ومنبع الرسالة وبلاد الحرمين الشريفين؟! الأمر في هذا يطول والحديث فيه عظيم. ثم تواصل أيضاً في قضية خطيرة، إنها ترى أن عندنا من الخطب والمحاضرات والمواعظ ما نحن في كفاية منه، فأوقفوه وأسكتوه ولا تزيدوا منه أبداً. تقول: ليس الوقت بالملائم لتوعية أكثر في مجتمع متمسك بالإسلام وبتعاليم دينه؛ لأننا مسلمون متمسكون، فلماذا مرة أخرى تخطبون فينا؟ ولماذا تقولون المحاضرات؟ ولماذا تعدون برامج التوعية في المدارس والجامعات؟ وهذه المرأة تظهر متبرجة على الشاشات وتقول: يكفي فإن في مجتمعنا كفاية. ثم ماذا تريد بدلاً عن ذلك؟ تقول: والتركيز عوضاً عن ذلك على إقامة مراكز للحوارات الدينية التي تتاح بها فرصة التحدث لكل الرؤى والمعتقدات. فلنعقد في مساجدنا حواراً يكون المتحدث فيه يهودياً وإلى جواره نصراني وبينهما بوذي ليحدثونا عن أمورنا وعن شأننا، أليس هذا فحشاً من القول وشططاً؟ أليس حرياً بأن تكون هناك صرخات وغضبات عظيمة من معاشر الرجال قبل النساء؟!

صور من تجاوزات المنحرفين المخالفة للدين والأخلاق

صور من تجاوزات المنحرفين المخالفة للدين والأخلاق أيها الإخ الكريم! دعني أسرد لك جملة من الحوادث قريبة العهد، لتجمع بينها ولترى أن القضية ليست هينة، ولنعلم جميعاً أن الصفحة الأولى في كل جريدة الأصل أن يوضع في الركن الأيمن منها أو في صدرها الخبر الأساسي المهم، الذي غالباً ما يرتبط بحدث سياسي أو أمني خطير، لكننا نطالع في أكبر صحيفة عربية خبراً بصورته، ماذا يقول لنا؟ يقول: أول امرأة سعودية تشترك في سباق الراليات للسيارات. إنه خبر مهم جداً حتى تصدر الصفحة الأولى بهذا العنوان! إنها امرأة سعودية لا تقود السيارة بل تشارك في سباق للسيارات، وتجرى معها مقابلة تقول فيها: إنها تعبر عن المرأة السعودية، وتفتخر بجسارتها وشجاعتها وأن أهلها لم يعارضوها، وأنها تأمل في المستقبل أن تشارك في السباقات العالمية لترفع اسم بلادها. وغير ذلك مما تعلم. وبعد ذلك بنحو أسبوع أو أسبوعين خبر آخر لامرأة سعودية تشارك في سباق آخر، وقبل ذلك بفترة أول امرأة سعودية تقود الطائرة، ولو بحثنا عن أول امرأة لوجدنا الكثير مما يبحثون فيه عن واحدة هنا أو هناك ثم يكون التسليط الإعلامي. ووجه آخر، وهو إظهار هؤلاء النساء على أنهن يمثلن نساء بلادنا، وجلهن لم يعشن في هذه البلاد. ولقد أتوا إلينا بامرأة عاشت ثلاثين عاماً في أمريكا، وهي تعيش حياتها متحررة من تعاليم دين الإسلام وضوابط الأخلاق، وجيء بها لتقدم محاضرة وهي سافرة متبرجة وتقول: إنها تعتز بانتسابها لهذه البلاد وتمثل المرأة المسلمة السعودية فيها. ومثل هؤلاء النساء كذلك كلهن أقمن عشرات السنين خارج بلادنا، ثم يقدمن على أنهن النموذج الأمثل الذي يضرب للمرأة في بلادنا!!

صور من حياة المرأة الغربية

صور من حياة المرأة الغربية أنتقل إلى ومضات أخرى ليست لنا، ولكنها لأولئك المفتونين والمأجورين الذين يتكلمون بلسان غيرهم، ويمررون مخططات غيرهم، ويأخذون ما يأخذون لأغراض لم تعد تخفى على كل صاحب عقل. وفي صحيفة شهيرة أهدي لك هذه الإحصاءات لتهديها إلى أولئك المغرورين والمغرر بهم، فقد أجري استفتاء ودراسة على النساء في بريطانيا، ولا أحسب أحداً يمكن أن يتهم هذه الدولة بأنها منغلقة فكرياً، وأن نساءها معقدات، وأن رجالها على النساء متسلطون، لا أحد يتهمهم بذلك، ففي دراسة أجريت على ألف وخمسمائة امرأة، وظهرت النتائج أن (68%) من الشابات البريطانيات لا يشعرن بالرضا عن الحياة التي يعشنها. نقول لهؤلاء المغرورين والمفتونين: فهل تريدون أن نصل إلى ذلك بنسائنا وأخواتنا وبناتنا؟! المرأة المسلمة تقول: إنها مطمئنة مستقرة، يفيض بريق الفرح من عينيها عندما ترى أبناءها حولها، وتشع ابتسامة الرضا على ثغرها عندما تستقبل زوجها. وهناك إحصاءات أخرى تقول: إن (63%) من النساء في الغرب يردن تغيير ظروف حياتهن، (67%) يشعرن بأنه ليس لهن أهمية تذكر في مقابل المشاهير. وانظر إلى الإحصاءات العجيبة، فهناك ما هو أعجب، فواحدة من أصل عشر نساء في الغرب قالت: إنها لا تريد العمل بدوام كامل وترك أولادها في الحضانة. و (25%) يقلن: إنهن يرغبن في البقاء في المنزل للاهتمام بالأطفال. ولو قالت امرأة من نسائنا اليوم ذلك لقيل لها: ما زلت متخلفة رجعية تريدين أن تحبسي نفسك في بيتك. وهذه إحصائية في بلد غربي تقول: إن (70%) من النساء يقلن: إنهن لا يردن العمل مثل جيل أمهاتهن. و (1%) فقط منهن قلن: إن مسيرتهن المهنية ستبقى تتصدر أولوياتهن بعد إنجاب الأطفال. وفي دراسة أخرى أيضاً في ذات البلد على الفتيات المراهقات في سن الخامسة عشرة على عينة قدرها ألفا فتاة، منهن (35%) لا يشعرن بسعادة، فإن كانت في هذا السن لا تشعر بسعادة فما مصيرها؟! فبعد أعوام ستنتهك فيها عفتها، وتسلب حريتها، وتشتغل وتكد وتعمل، وتكون لقمة سائغة للذئاب البشرية من الرجال. ثم تقول الإحصائية: إن (10%) منهن يقلن: إن الحياة لا تستحق مثل هذا المجهود، و (50%) يقلن: إن الضغوط التي يواجهنها أكبر من قدرتهن على الاحتمال. والثلثان يقلن: إن حياة آبائهن وأمهاتهن كانت أسهل بكثير في وجهة نظرهن، و (37%) منهن لآباء وأمهات مطلقات منفصلات، أسر ضائعة مشتتة، و (32%) يشعرن بحب كبير من آبائهن، وخذ الباقي من هذه النسبة، وهي (68%) لا يشعرن بحب آبائهن لهن، و (94%) يشعرن بضغوط لكي يظهرن بصورة جميلة، أي: لابد للفتاة الغربية أن تظهر فتنتها وجمالها، فهي تحتاج إلى أن تشتري الملابس وليس لديها المال، وتحتاج إلى أدوات الزينة وليس عندها، فهي تشعر بالضغط النفسي الرهيب، بينما فتاتنا تلقي على نفسها حجابها وجلبابها وتخرج إلى أي مكان ونفسها مستقرة، وليس عندها مثل هذه الحروب النفسية والضغوط النفسية التي ابتلي بها نساء الغرب وصرن يجأرن من مرها وحرها وقرها. وهناك كلية عريقة في بريطانيا خاصة بالبنات جاءتها ضغوط؛ لأنها كلية خاصة بالبنات، فأصرت على أنها ستبقى كلية خاصة للبنات، ولها قرن من الزمان وهي تمنع الاختلاط في هذه الكلية. واليوم يقال: إن هذا ضرب من التخلف والرجعية. وأحد الأجهزة في الاتحاد الأوروبي قام بدراسة اجتماعية إحصائية ميدانية عام (1999م) وتشمل هذه الدراسة ستاً وأربعين دولة، يبلغ إجمالي أعداد سكانها ثمانمائة وأحد عشر مليوناً من البشر، تقول هذه الإحصائية وهذه الدراسة: هناك انخفاض عدد الزواج في كل الأسر في هذه الدول إلا أربع دول شهدت ارتفاعاً طفيفاً من ست وأربعين دولة. وتقول أيضاً: إن نصف النساء في سن الزواج لا يعقدن عقود زواج رسمية، بينما كان هذا العدد قبل ذلك (90%)، وأما الولادات خارج الزواج ففي ازدياد مستمر، وترصد في بعض الدول بـ (66%) من الولادات خارج نطاق الأسرة في أسكتلندا، و (50%) في النرويج، و (40%) في فرنسا، هل هذه قدوات نسعى إليها؟! هل هذه مجتمعات نريد أن ندخل في أتونها وحريقها ولهيبها؟! عجباً لأمر القوم، ولكنهم في كثير من أحوالهم مسيرون لا مخيرون. وأقول أمراً أختم به في هذا المقام: إن هؤلاء حالهم كحال مثل ضربه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل رأيت النار إذا اشتعلت كيف تأتي إليها الفراش وتدخل فيها وتحترق؟ ذلكم هو الحال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام ضرب المثل من نفسه فقال -كما صح في حديثه-: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار). فيا أيها المسلمون! ذبوا عن نسائنا، وذبوا عن مجتمعاتنا، وذبوا عن ديننا، فلنحم أنفسنا من هذه النار المهلكة في الدنيا لننجوا من النار المحرقة والمهلكة في الآخرة. أسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا، وعفتنا وأخلاقنا، وشرف وحياء نسائنا. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

دعوة إلى مواجهة دعاة السفور والمجون

دعوة إلى مواجهة دعاة السفور والمجون الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، والتقوى هي الاستمساك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن يقيننا بكتاب ربنا وسنة نبينا أعظم وأقوى وأثبت من أن تنال منه هذه الهرطقات وتلك الاعتداءات التي تهذي بما لا تعرف، والتي تناقض الواقع وتنقض الحقائق، ولكننا في الوقت نفسه ينبغي لنا أن ننتبه لهذه المخاطر الداهمة. وإنني أشكر الصارخة المسلمة والغاضبة المؤمنة، ونحن معها جميعاً نرفع لولاة الأمر الرجاء بأن يضربوا بيد من حديد على أيدي المفسدين؛ لأن هذا هو الفساد بعينه، وهو الذي يسبب اضطراباً وفرقة في المجتمع، وهو الذي يوجد جذوراً لما قد يسمى بالعنف، ولنعلم جميعاً أن أحداً لا يمكن أن يسكت إذا رأى أن عرضه ينتهك، أو أن عفة نسائه تهاجم، أو أن خدر بيته يراد أن ينقض وأن يزعزع. فالأمور أعظم؛ لأنها دين ندين الله عز وجل به، إن الحجاب ليس من عندنا ولا من بنات أفكارنا، إنه تنزلت فيه آيات القرآن الكريم: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]. إنه قرآن يتلى وأحاديث تروى: (ما تركت بعدي فتنة أضر على النساء من الرجال)، ثم تأتينا تلك وهذه وذاك وأولئك ليقولوا لنا أمراً يناقض ما قاله الله عز وجل وما قاله رسول الهدى صلى الله عليه وسلم. وهناك أمر آخر، وهو من الأمور المؤلمة المحزنة، ولعلي أختم به لأبقي الحزن والألم في القلوب، حتى لا نركن ولا نسكن، بل نتحرك ونغير لديننا ونناصح ونناشد وننبه ونحذر. فهذا مركز يحمل اسم أم المؤمنين خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كان فيه محاضرة سمع الناس الصدى العظيم الذي تركته اعتراضاً واحتجاجاً لما تضمنته من اعتداء على صحابي جليل، هو أعظم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثرة رواية الحديث عنه. ويتجدد الأمر في ذات المركز وبلسان محاضرة من بلادنا ومن محافظتنا تقول في بعض تنبيهاتها للنساء: احذرن أن يذهب أبناؤكن إلى المساجد وتحفيظ القرآن لئلا يقعوا في اللواط! وانظر إلى العجب العجاب في الربط بين بيوت الله وكتاب الله وهذه الفاحشة الكبرى، فأي أمر هذا؟! وأي قول ورجم وقذف هذا؟! والأمر في هذا الشأن فيه خروقات، لكن هي قليلة وشاذة، ولا تعبر إلا عن قلة من الناس، لكن هذه القلة تكلمت وصمتنا، وظهرت واختفينا، وقالت وشاع قولها، ونحن إذا قلنا قيل: لماذا تتحدثون بهذا؟ وإذا غضبنا قيل: لماذا هذا التهييج؟ وأقول: عجباً! أينتهك ديننا ويعتدى على أعراضنا ويراد منا أن نضحك ملء أشداقنا، وأن ننام ملء أعيننا؟! إنها المفارقات العجيبة. أسأل الله عز وجل أن يحفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وأمنها ورغد عيشها، ونسأل الله عز وجل أن يصرف عنا كيد الفجار وشر الأشرار، وشر فتن ومحن طوارق الليل والنهار. اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! احفظ نساءنا وأزواجنا وبناتنا، اللهم! جملهن بالحياء والعفة، واحفظهن بالحياء والحشمة، اللهم! من أرادهن بسوء فرد كيده في نحره، واشغله بنفسه، ولا تبلغه -اللهم- غاية، واجعله -اللهم- لمن خلفه آية. اللهم! إنا نسألك أن تحفظ مجتمعنا من شرور الفساد والانحلال في الأخلاق، اللهم! يا أرحم الراحمين! يا رب العالمين! احفظ علينا إيماننا في قلوبنا، وإسلامنا في سلوكنا وأخلاقنا ومعاملاتنا، واحفظ عفتنا وحياءنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً. اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك -اللهم- من شرورهم. اللهم! لطفك ورحمتك بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين. اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم واحفظ أعراضهم واحقن دماءهم، وبلغهم -اللهم- فيما يرضيك آمالهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية. اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واحفظ -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وانصر -اللهم- عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً ذوي القدر الجلي والمقام العلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

صور حزينة ومخاطر جسيمة

صور حزينة ومخاطر جسيمة من أعظم المصائب التي حلت بالمسلمين سقوط بغداد بأيدي الأمريكان ومن تعاون معهم من الخونة والعملاء، وإن سقوط بغداد لهو بداية مسلسل أعدت حلقاته لينتهي بسيطرة اليهود على بلاد المسلمين دولة دولة، والقضاء على الإسلام في عقر داره، ولذا يجب على المسلمين حكاماً ومحكومين العودة إلى الله، وأخذ العبرة، والتنبه والحذر، والتعاون والتآزر ضد الأعداء.

مأساة سقوط بغداد

مأساة سقوط بغداد الحمد لله، الحمد لله له الحكمة البالغة والرحمة الواسعة والنعمة السابغة، له الحمد جل وعلا سنته ماضية، ومشيئته نافذة، فله الحمد على ما قدر وأمضى، وله الحمد على ما أخذ وأعطى، وله الحمد على ما أزال وأبقى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائد وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأرشدنا من بعد غواية، وبصرنا من بعد عماية، فأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].

دعوة للمسلمين إلى الاتعاظ بسقوط بغداد

دعوة للمسلمين إلى الاتعاظ بسقوط بغداد ألسنا نسمع اليوم بشكل مفصل وواضح عن ظلم نظام بغداد وما صنعه، وأن الأسباب التي أدت إلى ذلك هي كيت وكيت وكيت؟ ويعجب المرء! أليست هذه الأسباب موجودة هنا أو هناك بصورة قد تقل أو تكثر؟! أفلا ينطق لسان ليقول: بيدي لا بيد عمرو، ليكن تغييرنا بأيدينا، وليكن إصلاحنا من ذواتنا، ولتكن مراجعتنا قبل أن تأتينا الدواهي مرة أخرى، ونحن نعرف ونوقن أنها حرب لم تنته، وأنها مرحلة في بدايتها، وأن وراءها من الأهداف والخطط والأعمال ما وراءها مما يستهدف كل واحد منا في عقر بيته وفي فراشه الذي ينام عليه. إنها ليست قضية هينة، ولا حادثة عابرة، ولا أسابيع ثلاثة، ولا قليل من هدم أو قتل أو تدمير، وإن كان المرء يعجب كيف يفرح أولئك الذين فرحوا وبجوارهم دماء إخوانهم وأقربائهم، وبجوارهم وعلى مرأى أعينهم دمار بلادهم؟! ولكنها المشاعر المتناقضة والأحوال المحيرة أحاطت بأولئك. ولعلي هنا أيضاً أستحضر ما أسلفت القول فيه مراراً وتكراراً: الذين كانوا يقرءون أحاديث وأخبار الفتن، والذين كانوا يخدرون الناس بذلك الذي سيبطش بجيوش الروم، وسينهيها، وسيكون كذا، ويقع كذا، ويحصل كذا، ويرسمون صورة من خيال مريض وفهم سقيم ونفس منهزمة، ويضيفون إليها من أضغاث الأحلام وأخلاط الأقاويل ما يضيفون؛ ليكشفوا عن صورة من صور ضعفنا؛ لأننا تركنا ما بأيدينا من كتاب ربنا وسنة نبينا، وأردنا أن نبحث وننسق ذلك مع بعض الروايات الصحيحة وكثيراً من الروايات الضعيفة بل والموضوعة، بل ويضاف إلى ذلك أخبار من التوراة ومن الإنجيل والعهد القديم والجديد؛ لنقول: إن هذا هو الذي سيحدث؛ رجماً بالغيب، وتوهيناً للنفوس، ولعلها ليست المرة الأولى، بل قد سبقتها مرات! فهل ستعي الأمة وتعود من بعد لترسم صوراً أخرى، وتحدد تواريخ أخرى، وتعيد مرة أخرى غياب العقل وغياب القلب وغياب المنهج وغياب العمل الصحيح نحو ما ينبغي أن نواجهه تجاه أعدائنا، بدلاً من الكلام والتشقيق؟! ولعلي أذكر أيضاً القضية الكبرى التي تثار الآن، وهي: قضية الشعوب وآرائها وحرياتها وقدرتها على فعل ما ينفعها، وقدرتها على المشاركة في مصيرها، وكل الناس يتحدثون عن غياب دام نحو ثلاثة عقود في العراق، وأدى إلى مثل هذه المأساة أو كان سبباً فيها. فأين هذا أيضاً من أمر أساسي في ديننا؛ ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمر الإصلاح للحاكم والمحكوم، أمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! أمر الإسلام والإيمان الذي يوجد عزة لا تقبل ذلاً وقوة لا تقبل ضعفاً، وغير ذلك مما أسلفناه وذكرناه. ولا أود أن أستطرد في هذا؛ فإن فيه بعض الأحزان والجراح، لكنها يقظة إن لم تكن كاملة تامة، فيوشك أن يقول كل أحد وكل مجتمع وكل بلد: أُكلت يوم أكل الثور الأبيض، وما ذلك عنا ولا عن غيرنا ببعيد.

تشابه الخونة في كل زمان ومكان

تشابه الخونة في كل زمان ومكان ولعلي هنا أنقل صفحة مكتوبة منذ قرون طويلة، أنقلها بنصها؛ لعلنا نرى بعض صور التشابه، تلك الصفحات من البداية والنهاية لـ ابن كثير في الوقائع التي وقعت في سقوط بغداد سنة ست وخمسين وستمائة من الهجرة. يقول ابن كثير: استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة؛ وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله، وقد سترت بغداد، ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله شيئاً، كما ورد في الأثر: لن ينجي حذر من قدر، وكما قال تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح:4]، وكما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11]. قال: وكانوا مائتي ألف مقاتل وصلوا بغداد في الثاني عشر من شهر الله المحرم، وصل التتار بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأقاموا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة. ولا أريد أن أعلق على هذه الصورة والصفحة؛ فهي غنية عن ذلك التعليق، ونود أن ننتبه وأن نلتفت إلى كثير مما ينبغي أن نتنبه له: إن هذه الصور الحزينة ينبغي ألا تمر فقط لتكون شيئاً من ألم يمكن أن يُخفف بعد قليل من الوقت، ولا شيئاً من حزن يمكن أن يُسرى عنه بشيء من اللهو، إنها لابد أن تغوص وأن تتعمق في أصول الفكر والنفس على قاعدة المنهج الواضح البين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

مأساة اعتزاز الخونة بالكفار

مأساة اعتزاز الخونة بالكفار أليس حزيناً ما رأيناه مما فعله بعض أهل العراق؟ وربما يكون لهم عذر في كثير مما جرى لهم وجرى منهم، لكنه مشهد مؤلم أن يهتف المسلم العربي بحياة الكافر الأمريكي، وأن يتمنى عزه ورخاءه، وأن يطلب نجدته ومروءته، وأن يقبله، وأن وأن وأن إلى آخر ما رأينا من تلك الصور. وغير ذلك أيضاً: كيف ذهبت تلك الجعجعة وتلك الأصوات التي صمت آذان الناس، حتى ظنوا أن وراء الجعجعة طحناً، فإذا بهم يسمعون جعجعة ولا يرون طحناً؟! وأين اختفى القادة والزعماء والأبطال والشرفاء؟! أتراهم قد ماتوا مثل الضعفاء تحت الأنقاض؟! أتراهم قد ذهبت أموالهم وأهدرت ثرواتهم وضاع مستقبلهم مثل الملايين المضيعة؟! أحسب -وليس عندي ولا عندكم- علم يقين أن مثل هذا لم يحدث، وأن غيره بعد سكون دام اثنتي عشرة ساعة في ليلة واحدة ثم أصبح الصباح وكأنه يوم من غير أيام الدنيا، كيف تم ذلك ووقع؟! إن كل ذي لب لا يكاد يفهم هذا إلا أن يدخله في دائرة من دوائر الاتفاقات والخيانات من كل الأطراف التي مصلحتها على حساب كل شيء بعد ذلك.

ذلة وبلاء

ذلة وبلاء أيها الإخوة المؤمنون! صور حزينة وأحداث أليمة ربما حيرت العقول، وربما بثت في النفوس وهناً ويأساً مشوباً بالحزن والألم، وما من شك أن كل ذي قلب مؤمن وكل ذي نفس حية وكل ذي عقل بصير يؤلمه ما جرى من هذه الأحداث، وما انتهت إليه من صورة أدخلت إلى النفوس صورة الذل بالقهر والتسلط، وصورة الضعف بالخيانة والاستسلام، وصورة الانخداع بالأوهام والشعارات. ولكن الأمر المهم الذي كنا وما زلنا وسنظل نُعنى به: أصولنا الثابتة التي لا تتغير قرآننا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم المعصوم من كل خطأ سيرة أمتنا التي تضمنت من سنن الله عز وجل عزها ونصرها وقوتها إذا ارتبطت بدينها، وذلها وضعفها وشتاتها إذا أعرضت عن نهج ربها. فالسنن القرآنية الإلهية الماضية ينبغي ألا يفقدنا تذكرها هول ما يجري، ولا عظمة ما قد يداخل النفوس من حزن تلك الحقائق. ولأن الأمور قد تؤدي إلى مؤداها التي انتهت إليه لابد أن نعلم أن مواجهتنا مع الكفر وأهله، وأن استهداف أعداء الإسلام للإسلام وأهله، ليس في جولة واحدة، وليس في دولة واحدة، وليس في ميدان واحد. وما جرى في بغداد، وقبلها في أفغانستان، وما جرى قبل ذلك من أمور وأحداث، وما جرى ويجري ولا زال يجري في أرض فلسطين الحبيبة من تسلط للأعداء وتمكن لهم، لا يعني أن الأمر قد انتهى، وأن نرى ما نرى من تلك الصور الحزينة التي داخلت كثيراً من النفوس. وأنا أعلم أن كلاً منا قد مرت به الأيام الماضية وهو كسيف البال، وهو عظيم الحزن، وهو شديد الاستغراب، وهو متحير اللب، وهو يضرب أخماساً بأسداس، لكننا - بحمد الله- ما زلنا نصلي في المحاريب، وما زلنا نسجد بين يدي الله، وما زلنا نتلو القرآن، وما زلنا نعرف أن خير البشرية هو محمد صلى الله عليه وسلم، فما زلنا كذلك، وينبغي أن نظل على ذلك، فإنه ليس نصر الأعداء -وهم يعرفون ذلك- بزوال نظام، أو بانتهاء طاغية، أو بالتآمر معه والاتفاق على الخيانة، ولا بتسلطهم على الثروات التي يريدونها ويريدون من خلالها التحكم في بلاد الإسلام وشعوبه.

هدف أعداء الإسلام من حربهم على الإسلام

هدف أعداء الإسلام من حربهم على الإسلام ولكن هدفهم الأعظم هو كما أخبرنا عنه الحق سبحانه وتعالى بقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وكما قال الحق جل وعلا: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]، وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. فالعق أحذيتهم، ووافق سياستهم، وأعطهم ملذاتهم، ومكنهم من الثروات، ولا يعني ذلك أنهم قد بلغوا منتهى أملهم ولا غاية مقصدهم، حتى يدخلوا إلى أفكار العقول فيغيروها، وإلى مشاعر النفوس فيبدلوها، وإلى ما يُقرأ في المحاريب والمساجد لتقرأ من بعده أو معه أو في أثنائه التوراة والإنجيل، لا أقول ذلك مبالغة، بل إنه حق واقع نطقت به الألسنة، وأعُدت له الخطط، ونُشرت على أعين الناس.

ظلم ومكر أعداء الإسلام في حربهم على الإسلام

ظلم ومكر أعداء الإسلام في حربهم على الإسلام ولعلي أشير إلى ومضات من هذه الصور الحزينة، ولابد أن نخرج منها بدروس ثمينة، ولابد أن ترشد العقول، وأن تنتبه وتلتفت الأنظار لجميع أمة الإسلام من أصغر صغير إلى أكبر كبير، ومن الفرد العادي إلى الحاكم الذي يسوس الأمور، ويدبر الأحوال في أمته أو دولته. هذه الصور التي رأيناها رأينا معها عجباً، فكيف وقعت هذه الواقعة؟! ولاشك أن بعض النفوس بعواطفها الجانحة ما زالت لا تصدق ما جرى، وأن بعض العقول التي أصابتها لوثة العظمة الفارغة دون أن تدرك حقيقة المخالفة الصريحة للقرآن وللسنة ولمنهج الإسلام ما زالت تقول أقوالاً عجيبة وغريبة، ولا تكاد تبصر الأمر وهو واضح. إنه الطغيان والظلم الذي مكن له الأعداء والأولياء، وكان على رءوس الضعفاء والبؤساء، فمن الذي مكن لهذا النظام ابتداءً؟ ومن الذي أعانه بالأسلحة؟ ومن الذي أمده بالقوة، ومن الذي غض الطرف عن جرائمه ليس في يوم ولا يومين ولا عام ولا عامين ولا عقد ولا عقدين بل أكثر من ذلك، أليسوا هم المحررين اليوم؟! ومن يطالع ويقرأ هذا يراه رأي العين في صور واضحة تمثل في علاقات قديمة، وفي عقود مبرمة قد أظهرتها اليوم الأخبار والأحوال. ثم أين الدول العربية والإسلامية التي لا زالت إلى اليوم تظن أنها في قولها هذا محقة؟ إنه قد كان ظلم وبغي وعدوان، وقد وقعت إزاحته، لكن من الذي أزاحه؟ وأين العرب والمسلمون؟ ولماذا خرست ألسنتهم، وعميت أبصارهم، وصمت آذانهم، وشلت أيديهم، وتعطلت مسيرتهم؟! بل كانوا مساهمين في مثل هذا الظلم بصورة أو بأخرى: إما بمشاركة له، أو سكوت عنه، أو تغطية عليه، أو أية صورة من الصور الأخرى.

حقائق أهداف الحرب على العراق

حقائق أهداف الحرب على العراق

تغيير مناهج التعليم الإسلامية

تغيير مناهج التعليم الإسلامية أظننا نفقه اللغة العربية، ونعرف أن هذا الكلام واضح، بل فاضح، ولا يحتاج إلى إثبات وأدلة، ومن أراد فسأخبره بما نشر بالأمس وليس قبل الحرب، واستمعوا إلى هذا الخبر الذي يقول: إن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية قد طلبت قبل شهرين عروضاً لتجديد نظام التعليم العراقي بمبلغ قدره خمسة وستون مليون دولار، يشمل تأهيل الأساتذة، وإصدار كتب مدرسية جديدة، ويضع الأساس لممارسات ومواقف ديمقراطية، سواء لدى الأطفال أو لدى الأساتذة، آخذاً بعين الاعتبار توزيع اللوازم المدرسية، ويقولون: مثلما حصل في أفغانستان، حيث قدمت العروض وفازت شركة بها بمبلغ ستة عشر مليون ونصف، وقد قامت بإعداد ذلك، وتوزع في هذا العام عشرة ملايين كتاب مدرسي بتصميم منهجي أمريكي!! وفي هذه الفترة أيضاً نشر: أن اللجنة اليهودية الأمريكية قامت بدراسة شاملة للمناهج في المملكة العربية السعودية، وقدمت تقريراً مفصلاً في مائة صفحة، ومما جاء فيه: أن هذه المناهج تدرس أن القرآن كتاب الله، وأنه هو المحفوظ، وأن التوارة والإنجيل فيها تحريف وتغيير، وتدرس أن القرآن يقول: إن النصارى واليهود كفار. وتدرس أيضاً: أن المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج من كافر أو كتابي، والمسلم يجوز له أن يتزوج من كتابية، وتدرس كذلك: أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وأن الجهاد له غايتان: إما النصر على الأعداء، أو الاستشهاد في سبيل الله، وتدرس وتدرس واقرءوا هذا التقرير منشوراً في بعض الصحف والمجلات؛ لتعرفوا أن القضية لم تعد أقوالاً، بل لقد درست وبحثت، وهي في العراق وفي أفغانستان قد قدمت عروضاً، وهي في أفغانستان قد طبقت تطبيقاً عملياً. وهذه هي القضية الخطيرة.

إنشاء نظام جديد متآمر مع اليهود

إنشاء نظام جديد متآمر مع اليهود ولعلنا أيضاً نقف وقفة مهمة، كنت ولا زلت أكرر القول فيها، ولا زلت أريد أن نفقهها، وأن تكون أساساً ثابتاًً: الصراع الأكبر مع اليهود عليهم لعائن الله، وهم الذين يحركون هذه الحرب وغيرها من الحروب التي جرت قبلها، وعندما نطق بذلك سياسي منتخب في مجلس الشعب الأمريكي لمدة نحو ربع قرن سبع مرات متتالية بهذه الحقيقة وقال: إن الذين يؤزون نحو الحرب هم اليهود في أمريكا، كان مصيره أن يستقيل من منصبه، وأن يقدم اعتذاراً، ثم جُرد من كل المشاركات في جميع اللجان. وهذا بعض ما جاء في صحافة اليهود مرتبطاً بهذه الأحداث، يقولون: إن نجاح هذه الحرب في فرض نظام جديد في العراق يتمتع بالاستقرار، سيعني توجيه ضربة قوية للقوى الراديكالية الإسلامية في المنطقة، ولن ترسل هذه القوة مرة أخرى قواتها العسكرية إلى دول أخرى، ولكن إذا انتهت هذه الحملة بنجاح فإن الضغوط التي تمارسها على الدول ستؤتي ثمارها، وستفعل فعلها، وهي معركة أيضاً ضد التنظيمات الإرهابية في إسرائيل. ما هو الجوهر المهم في هذا؛ فإن هذا الإنشاء للنظام الجديد إنما هو ليجعل هذا النظام متفقاً مع إسرائيل وعاقداً للسلام معها ومتحالفاً معها ضد غيرها، ومعروف هذا الغير الذي سيكون بين فكي كماشة العراق والدولة اليهودية الغاصبة. ونحن عندما نقول هذا معاشر الأخوة الأحبة! لا نقوله لنفت في العضد، ولا لنحدث اليأس؛ ولكن لنوجد اليقظة، ولنشحذ الهمة، ولنوقد نار الحماسة، ولنؤسس انطلاقة العزم والجزم والحزم، والحيطة والحذر، والمقاومة الحقيقية، والوقاية الشاملة، والإصلاح الجذري الذي ينبغي أن نسعى إليه في أعماق نفوسنا، وفي حلس بيوتنا، وفي واقع مجتمعاتنا، وفي أنظمة تعاملنا، وفي سائر أحوال أمتنا ودولنا. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يلزمنا كتابه، وأن يلزمنا هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يدرأ عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الاستيلاء على ثروات العراق والحركات الإسلامية

الاستيلاء على ثروات العراق والحركات الإسلامية ولعلي أذكر الآن بالحقائق التي قيلت قبل هذه الأحداث وبعدها وأثناءها: ما هي الأهداف؟ وهل هي هذه الأسلحة التي لم يرها أحد؟ وهل هي هذه الأنظمة التي لم يقبض عليها أحد، ولم يقدمها للمحاكمة أحد، ولم يثبت أحد قتلها وإنهاءها؟ وهل كل الذي جرى لأجل هذا؟ هذا كاتب أمريكي قبل هذه الحرب بنحو شهرين -كما هو منشور في صحفنا العربية- يقول: تعلن قيادتنا أن هذه الحرب لأجل تدمير أسلحة الدمار الشامل، ولكننا نقول: إلا أن ذلك ليس كل ما نسعى لتحقيقه؛ إذ إننا نريد نفط العراق بكل ما يتأتى إلينا منه من فوائد كبيرة، كما أننا نعمل على إحداث تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية في دول عربية كثيرة. ثم يقول ويكشف عن التهديد الأكبر: ليس هذا النظام وليس جعجعته الكاذبة وليس أسلحته التي لا وجود لها، وإن ما يهدد المجتمعات الغربية الحرة فعلاً ليس الرئيس العراقي الذي يمكن تجنبه وردعه فهو يحب الحياة أكثر من كرهه لنا. إذاً: ما هو الخطر؟ يقول: إن الخطر الحقيقي الذي يواجهنا والذي لا يمكننا تجنبه وردعه هم أولئك الشباب العرب الذين يكرهوننا أكثر مما يحبون الحياة، ويشكلون فعلاً صواريخ بشرية تعتبر جزءاً من أسلحة الدمار الشامل، والقادرون على تدمير مجتمعاتنا الغربية المفتوحة. ثم يقول: كيف يمكن تنشئة هؤلاء الشباب؟! وما هي الآلية التي تنتهجها هذه الدول لتنشئتهم؟! ثم يضيف: الحرب ضد العراق بمثابة رسالة قوية إلى هذه المنطقة، مفادها: إننا لن نترككم وحدكم بأي حال من الأحوال لتلعبوا بالكبريت؛ لأنكم حين قمتم بذلك في المرة الأخيرة احترقنا!

أهمية أخذ الدروس والعبر من الحرب القائمة على الإسلام

أهمية أخذ الدروس والعبر من الحرب القائمة على الإسلام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه. وإننا ونحن نذكر هذه الأحداث ينبغي لنا أن نعي الدروس والعبر، فالحرب على الإسلام لم تكن بنت اليوم ولا بنت الأسابيع الثلاثة الماضية، ولا بنت ما بعد أحداث سبتمبر الشهيرة كما يقولون، إنها حرب كانت منذ زمن طويل، وهي اليوم في أشد أوقاتها، ولكن ما بعد هذه الحرب العسكرية هو الأخطر والأشد.

التعاون والتآزر بين المسلمين

التعاون والتآزر بين المسلمين وكذلك لابد أن يعظم تآزرنا، وأن تقوى روابطنا، وأن تترسخ أخوتنا على مستوى الأفراد والمجتمعات، وعلى مستوى الدول؛ فإن الدول العربية والإسلامية التي ما زالت نائمة وغير مدركة في حقيقة الأمر وفي حقيقة الفعل لمثل هذه الوقائع معنية اليوم لأن تمد أيديها إلى بعضها، وأن تتناسى خلافاتها، وأن تلتقي على أساس الوحدة الإسلامية والمنهج الرباني. فإن هي فعلت أنقذت أممها وشعوبها من هذه الأخطار المحدقة، وإن هي غفلت عن ذلك فيوشك أن يكون ما لا تحمد عقباه. نسأل الله عز وجل أن يرد كيد الكائدين، وأن يدفع شرور المعتدين، وأن يسلم ديار المسلمين، وأن يحفظ أعراضهم وأموالهم، وأن يحقن دماءهم. اللهم أمن الخائفين، وأطعم الجائعين، واكس العارين، واسق العطشى، وعاف المرضى، واشف الجرحى، وفك الأسرى من عبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. اللهم لا تفتنا ولا تفتن بنا، ولا تجعلنا فاتنين ولا مفتونين، اللهم ثبتنا بتثبيتك، وأيدنا بتأييدك، اللهم اجعل بصيرتنا من كتاب الله، وهدينا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نبرأ إليك مما فعل السفهاء منا، ونعوذ اللهم بك من شرورنا، ونسألك اللهم اللطف فيما تجري به المقادير يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين! اللهم لطفك ورحمتك بأمة الإسلام والمسلمين، اللهم اكشف الضراء، وارفع البلاء، والطف فيما يجري به القضاء، اللهم اكشف الغمة، وارفع البلاء عن الأمة. اللهم يا حي يا قيوم نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبتهم بتثبيتك، وأيدهم بتأييدك، اللهم أنزل في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، اللهم رضهم بالقضاء، وصبرهم على البلاء يا رب الأرض والسماء! اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص بهم منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

مواجهة الأعداء في جميع الميادين

مواجهة الأعداء في جميع الميادين وقد ذكرت من قبل أن مواجهة الأعداء ليست في ميدان واحد، وذكرت أن كلاً منا على ثغرة، فأنت على ثغرة في تربية أبنائك، وأستحضر هنا أن سبعين عاماً من الشيوعية المهلكة الكافرة الملحدة انقشعت، ووجدنا بعض المسلمين كانوا يعلمون أبنائهم القرآن تحت الأرض في منتصف الليل على أضواء الشموع! فهل نستطيع أن نواجه لنكون متشبثين حتى آخر رمق من حياتنا؛ لا بتراب ولا ببناء ولا بحضارة حتى وإن زعموها حضارة معرقة في التاريخ، وإنما لنحافظ على دين الله، على الإسلام العظيم، على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى تاريخ أمة أرادها الله عز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس، وأن نعرف أننا مستهدفون؛ لأننا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأن بين أيدينا كتاباً محفوظاً، وعندهم كتباً محرفة يعرفون تحريفها، وعندنا نبياً معصوم صلى الله عليه وسلم، وعندهم أنبياء أدخلوا على سيرهم وألحقوا بهم، بل وفعلوا بهم ما لا يليق أن يُفعل بسقط الناس وأراذلهم، ولدينا شريعة صالحة لكل زمان ومكان، وعندهم قوانين وضعية تلعب بها الأهواء وتغيرها الآراء! وعندنا تماسكاً أسرياً وترابطاً أخلاقياً يكاد بنيانه أن يتصدع بعد أن ولجت فيه كثير من الآثار السلبية، لكن ذلك لم يكفهم، بل رأوا أن هناك بقية باقية وسنة ماضية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). فقد رأوا كيف كان الأبناء وكيف كان الشرفاء والأبطال والمجاهدون في فلسطين بعد أكثر من خمسين عاماً من التهويد، ومن البطش، ومن التهديد والتعذيب والتشريد، رأوهم وهم يعودون من المساجد بأيدٍ متوضئة، وبألسنة مكبرة، وبجباه ساجدة، وبنفوس عزيزة، يقف أحدهم أمام دبابة لا يأبه بها، ولا يكترث لها! ورأوا من بعد ذلك مثلكم وكثيرون غيركم وهم يسيرون إلى رحاب الله، وهم يستمعون إلى كلام الله، وهم يستحضرون تاريخ أمتهم، وهم يعودون إلى مصادر قوتهم وعزتهم، وأما هم فهم في أفول نجمهم؛ فأعدادهم تتناقص، ومواليدهم أقل من موتاهم، وقد ألف أحدهم كتاباً حديثاً منذ نحو عام سماه (موت الغرب)، وأشار فيه إلى أن سبع عشرة دولة غربية أعداد الجنائز فيها أكثر من أعداد المهود! ثم ذكر بعد ذلك صوراً من الموت في الأخلاق والأنظمة والعرقية والعنصرية، وكيف يرضون ذلك وبأيديهم قوة عسكرية واقتصادية وسياسية؟! وذلك مؤذن ببداية مواجهة عظيمة، ينبغي أن يوطن الناس أنفسهم لها، وأعظم توطين أن نربط القلوب بخالقها، وأن نعلق النفوس ببارئها، وأن نرشّد العقول بمنهج الله سبحانه وتعالى.

التعرف على مكمن الخلل وتلافيه

التعرف على مكمن الخلل وتلافيه ولذلك لا ينبغي أن نقول: قد وضعت الحرب أوزارها لا عسكرياً ولا غير عسكري، بل ينبغي أن نشحذ هممنا وعزائمنا، وأن نعرف خللنا وقصورنا، وكنت قد تحدثت من قبل ووعدت أن يكون حديثنا اليوم عن الخطوات العملية التي ينبغي أن نأخذ بها بعد أن أسسنا القول في الخطوات الفكرية والخطوات النفسية، غير أن تجدد الأحداث أوجب أن يكون لنا حديث لعله يجمع بين ما نشعر به من حزن وما ينبغي أن نشحذ به النفس من عزم. وكذلك قلت مراراً: ليس مقامنا في مثل هذه المنابر أن نصرخ، ولا أن نعيد ما يكرره الإعلام، مما يلعب بالعواطف أو يضلل العقول أو يسير بالناس وفق ما تقتضيه الصنعة الإعلامية والسبق الصحفي، وليس بمهمتنا كذلك أن نؤثر تأثيراً عاطفياً مؤقتاً فتذرف دموعنا ظاهراً، وإنما نقول: ليذرف كل واحد دمعه بينه وبين نفسه، وليذرف على حاله وعلى حال أمة الإسلام، وما أشك أن كثيراً من الدموع قد جرت وهي ترى ذلك في صور ما عرضته الشاشات من هذه الأحداث، لكن هل البكاء هو حلنا؟ وهل مثل هذا المقام نأتي فيه لنبكي؟ فليبك كل منا حقيقة لا صورة.

صور متناقضة

صور متناقضة إن الأمة الإسلامية تعيش أحوالاً عجيبة؛ فهي متأخرة عن ركب الأمم، ومع ذلك تجدها غارقة في اللهو واللعب، وفي تضييع الأوقات والطاقات والثروات وإهدارها! والأمة الإسلامية اليوم يحيط بها الأعداء من كل جانب، ومع ذلك تجدها مختلفة فيما بينها متنازعة متناحرة، فالزوج مع زوجته في نزاع وخصام، والقريب مع قريبه في شحناء وبغضاء، والجار مع جاره في منازعة ومشادة، وكل ذلك على الدنيا التي حذر الله منها، ودعا إلى نبذ الشقاق وإلى التسامح والإخاء فيها.

الوقت بين العمل والكسل

الوقت بين العمل والكسل الحمد لله، الحمد لله ذي الفضل والمن والإحسان، فضل ديننا على سائر الأديان، وحبب إلينا الطاعة والإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وندبنا إلى السماحة والإحسان، وحذرنا من الخصومة والعدوان، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً ملء الأرض وملء السماوات وملء ما شاء من شيء بعده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].

مفهوم العطلة والإجازة

مفهوم العطلة والإجازة أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! صور متناقضة جالت بخاطري من واقع الزمن الذي نحن فيه في وقت الصيف، ومن خلال ملامسة لواقع ومشكلات الناس واختلافاتهم، ولعلنا ونحن نشير إلى هذه الصور ونبين تناقضها، نهيج النفوس إلى الترفع عما لا يليق، ولا يرضي الله جل وعلا، ولا يشرف في الانتساب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي الوقت نفسه يشد ويجذب ويرغب ويحث على أن نأخذ الصور الإيجابية، ونتحلى بها؛ لنرقى في مدارج الكمال، ولنغير سيء الأقوال والأفعال والأحوال، ولست بمكثر، حتى يكون التركيز على ما يكون به النفع والفائدة: الوقت بين العمل والكسل: تناقض واختلاف بين من يحرصون على اغتنام الأوقات وملئها بالأعمال الصالحة المثمرة وبين من يضيعون هذه الأوقات فيما يعود عليهم بالضرر، أو فيما لا يجنون به النفع والفائدة، وكم هي المفارقات العجيبة التي نراها بدءاً من الكلمات والمصطلحات والمفاهيم والدلالات، وانتهاءً إلى الأعمال والممارسات! فماذا نسمي هذا الوقت؟! نسميه عطلة، والعطلة والعطالة والعطل في اللغة هو: ترك الشيء والتخلي عنه. فامرأة عطل، أي: متخلية عن الزينة، والعطالة: ترك العمل وترك الجد، فكأننا بمثل هذه التسمية نوحي هذا الإيحاء. والإجازة هي الانتهاء من الشيء والحصول على المراد، فكأن طلابنا قد انتهوا من أمر علمهم وتعلمهم ولم يعد لهم بذلك شأن، ونجد ذلك المفهوم يسري في دوائر المجتمع. فالأسر في هذه الفترة لا تكلف أبناءها شيئاً، ولا تحثهم على أمر؛ لأنهم قد انتهوا من دراستهم، أو نجحوا في اختباراتهم، والإعلام كذلك يبث مثل ذلك، فهو يقول لنا في هذه الأوقات: اسهروا إلى آخر الليل، وتأتينا السهرات المطولة؛ لأنه ليس عندنا في الصباح عمل، بل نوم وكسل!

تضييع الوقت في حياة المسلمين

تضييع الوقت في حياة المسلمين ضياع الأوقات له أثر سيئ في السلوك، وللأسف الشديد فإن حال الكثير اليوم سهر وعبث حتى انشقاق الفجر، ونوم وكسل حتى انتصاف النهار. إنها صورة مقيتة تتكرر في كل وقت في مثل هذه الأيام، صور نراها في زحام السيارات، وامتلاء الأسواق، واستمرار الأفراح والأعراس إلى آخر الليل، صور نراها في كثير من الجوانب السلبية التي تقتل الوقت قتلاً، وتبدد الثروة تبديداً، وتبين أن في عقول كثير منا ونفوسهم زللاً أو خللاً في الفكر، وهبوطاً وضعفاً في الهمة، وهذا هو السبب الذي يجعلنا نهدر هذه الثروة في أمة تحتاج إلى كل ثانية؛ لتعوض النقص، وتتدارك الخلل، وتحاول اللحاق بركب الأمم التي تقدمت. نحن اليوم نأكل مما يزرعون، ونلبس مما يصنعون، ونحاول أن ندافع عن أنفسنا بما يعطونه لنا، فكيف نعوض هذا ونحن أمة تريد أن تنام ملء عيونها، وأن تأكل ملء بطونها، وأن تضحك ملء أشداقها، وأن تسترخي عقولها فلا تفكر في أمر يهمها، ولا في خطب جلل فيه مصيرها، ولا في قمة ترتقي إليها، ولا في مكانة تطمح إلى الوصول إليها. تأملوا أنه إذا وقع حادث كانقطاع كهرباء أو تعطل قطارات أو نحو ذلك خرجت علينا الأخبار تخبرنا أن الخسائر تقدر بكذا وكذا مليون من الدولارات أو غيرها، فكيف حسبوها؟! قالوا: هذا الوقت -نصف ساعة مثلاً- من محسوب أوقات العمال والمدراء والموظفين، ومن أوقات المصانع، وتوقف الإنتاج فيها، ثم يقولون لنا: إن هناك خسارة كبرى، أما نحن فلا نحسن هذه الحسابات! إن أحدنا يقول: وماذا يحصل لو تأخرنا نصف ساعة أو ساعة؟ وماذا يحصل لو تأخرنا ونحن في وقت عطلة وإجازة؟ وكأننا نقول: إن هذه الثروة ليست لها عندنا قيمة، وليس لها وزن، وليس لها في حياتنا أثر، مع أن ديننا على عكس هذه المفاهيم في كل دلالة وإيحاء من آيات كتابنا وأحاديث رسولنا صلى الله عليه وسلم.

أهمية الوقت في القرآن ومحاسبة الإنسان عليه

أهمية الوقت في القرآن ومحاسبة الإنسان عليه قال عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62]. لم يأت الليل ويعقبه النهار ويتلو الليل نهاراً وتتوالى الأيام والأعوام عبثاً، بل لتُملأ بالذكر والشكر وعمران الحياة، وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، وكلنا يعلم ذلك الحث القرآني: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] و {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]. وكلنا يعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أبلاه، وعن شبابه فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل فيه)، وكلنا يعلم قوله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، كل ذلك معلوم، ولكن أين أثره في واقع الحياة؟!

صور من حياة السلف والعلماء في استثمار الوقت

صور من حياة السلف والعلماء في استثمار الوقت ولنأخذ الصور المقابلة، ولنأخذ الفهم الصائب، ولنأخذ الروح الإيمانية الجدية العملية القوية التي نقتبس بعض صورها من كلام أئمتنا وعلمائنا ومواقفهم ومآثرهم في مثل هذا الشأن: قال عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، وهذه آيات نقرؤها كثيراً. قال ابن كثير: إذا فرغت من شأن الدنيا وأحوال العباد فانصب لعبادة ربك، فإذا فرغت فاعمل؛ فليس هناك فراغ، وليس هناك وقت لإضاعته أو قتله، أو البقاء ساعات طوالاً في لعب الورق، أو مشاهدة المسلسلات، أو قضاء الأوقات بالأحاديث اللاغية الباطلة. وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7]، يدل على أنه يُوجد بعد الفراغ نصب وجد وتعب، فأين إذاً تلك الراحة؟! إن الراحة لا تكون إلا بعد الجد والعمل، وحديث (ساعة وساعة) فهمناه في كثير من صور حياتنا فهماً خاطئاً، وقصته في السيرة وعند أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على غير ذلك الفهم؛ فقد جاء عنهم أنهم قالوا: (يا رسول الله! إنا إذا كنا معك كأنا نرى الجنة والنار، فإذا انصرفنا إلى أهلنا وعافسنا الأزواج والأبناء أنكرنا نفوسنا). إنه شعور إيماني دقيق شفاف حساس، يجعلهم يرون الفرق بين ما هم عليه عند صحبة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم من إيمان قوي، وروح محلقة، وهمة عالية، ونفس أبية، وقوة فتية، وما قد ينحدرون إليه عندما ينشغلون بحياتهم وأهلهم وأزواجهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو تدومون على حالكم التي تكونون فيها معي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة)، فتلك هي الساعتان، ليستا ساعة لهو وعبث ومعصية ومنكر، وساعة استغفار وقليل من صالح الأعمال هنا أو هناك. ثم انظر إلى تأكيد هذه المعاني في كلام كثير انتخبت قليلاً منه بعد أن وجدت أن كلماته كأنما هي إيقاظ لكل واحد منا، لننظر كيف فهم وكيف ترجم علماؤنا هذه المعاني القرآنية؟ يقول القرطبي ناقلاً عن مجاهد في هذه الآية: إذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك. وعن الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق فاجتهد في عبادة الحق. والشنقيطي رحمه الله من العلماء المتأخرين في عصرنا يقول: الآية حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم؛ حيث لم تترك للمسلم فراغاً في وقته؛ لأنه إما في عمل للدنيا، وإما في عمل للآخرة. وقد روي عن ابن عباس: أنه مر على رجلين يتصارعان فقال: (ما بهذا أمرنا بعد فراغنا). وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إني لأكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً، ليس في عمل دنيا ولا دين).

ومضات من أفعال السلف وحرصهم على الوقت

ومضات من أفعال السلف وحرصهم على الوقت ولو أردنا أن ننقل من الأقوال لرأينا كثيراً وسمعنا كثيراً من هذه المعاني المشرقة التي تبين الفهم الصحيح لقيمة هذه الحياة، ولكني أنتقل من الأقوال إلى الأفعال من الصور الأخرى: ذكر الذهبي في ترجمة الإمام الشافعي رحمه الله: أنه كان يقسم ليله ثلاثة أقسام: قسم يكتب فيه، وقسم يصلي فيه، وقسم ينام فيه. قال الذهبي رحمه الله معلقاً على ذلك: أفعاله الثلاثة عبادة بالنية. أي: حتى نومه صار عبادة؛ لأنه يأتي في سياق راحة تستأنف بها الأعمال، وتتجدد بها الهمة، ويتقد النشاط. ويقول أبو الوليد الباجي من علماء المالكية: إذا كنت أعلم علماً يقيناً أن جميع ساعات حياتي كساعة، فلمَ لا أكون ضنيناً بها، وأجعلها في صلاح وطاعة؟! والعمر كساعة؛ تنقضي منها الثواني، وتتولى بعد ذلك الدقائق، ثم الأرباع والأنصاف، ثم تنتهي. ففي قوله: (إذا كنت أعلم يقيناً أن حياتي كلها كساعة، فلمَ لا أجعلها في عمل وطاعة؟) فقه الحياة، وفقه الوقت، وفقه الدقائق والثواني. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانِ وبعضهم لو قلنا له: هذه ثانية، لقال: وما هذه الثانية؟ ولو قلنا: دقيقة، لقال: لا تدقق، ولو قلنا: ساعة، لقال: أمرها سهل، وإن كان يوماً فلا بأس، وإن كان أسبوعاً فكذا وكذا. إذاً: فما قيمة العمر كله؟ وما قيمة هذا الوقت؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين)، رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. وتأمل معي كذلك حال ابن عقيل الحنبلي، وهو من العلماء الأفذاذ الذين ضربوا مثلاً عظيماً في اغتنام الأوقات، يقول: قد عصمني الله في شبابي بنوع من العصمة، وقصر همتي على العلم، وما خالطت في شبابي لعاباً قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وهأنا في عشر الثمانين - أي: في الثمانين من العمر- أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين! فهو يقول: ما خالطت لعاباً قط، ونحن اليوم نأتي باللعابين ليضيعوا لنا الأوقات، ونجد أن كثيراً مما يكون في هذه العطل أو الإجازات مخصص لتبديد الأوقات وتضييعها، مع أن الآمال قبلها تقول وخاصة عند الطلاب: إذا جاء الصيف سأفعل وأفعل، وإذا جاء الصيف سأحفظ وأحفظ، وإذا جاء الصيف سأقرأ وأقرأ، ثم نراه لاهياً عابثاً نائماً كسولاً إلى غير ذلك مما نراه. وهكذا نرى مواقف عظيمة وكلمات جليلة: هذا أبو بكر محمد بن عبد الباقي من سلالة كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وما من علم إلا وقد نظرت فيه إلا النحو؛ فإن حظي فيه قليل، قال: وما علمت أني ضيعت ساعة من عمري في لهو أو لعب! وهذه الصور الكثيرة أختمها بصورة للإمام ابن كثير رحمه الله مع الإمام أبي الحجاج المزي، وكان شيخه في الحديث، ثم تزوج ابن كثير ابنته، فـ ابن كثير يحدث عن هذا الإمام العظيم فيقول: وقذتني كلمة سمعتها من أبي الحجاج - الوقذ هو: الحصاة تصيبك، أي: آلمتني وأيقظتني- قيل: ما هي؟ قال: سمعته يقول على أعواد المنبر: إن امرأً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له حري أن تطول عليها حسرته يوم القيامة! فكانت هذه الكلمة ترن في أذن ابن كثير وتجيش في نفسه، وكأنها سياط تضربه وتوقظه، وكلما فتر تذكر، وكلما كسل نشط، وحسبنا في هذا المقام مثل هذه التذكرة؛ فلا سهر ولا عبث، ولا نوم ولا كسل، ولا فوضى ولا أذى. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى هذه الخلال، وأن يحلينا بهذه الخصال، وأن يجعلنا مغتنمين للأوقات، وغير مضيعين للثواني والدقائق والساعات.

علاقات الناس بين الالتزام والخصام

علاقات الناس بين الالتزام والخصام وأنتقل إلى صورة أخرى، هي كذلك من صور التناقض التي بين السيئ والحسن، وهي: علاقات الناس بين الالتزام والخصام. أظنكم تشاركونني الرأي بلا خلاف أنه كثر النزاع، وعظم الخصام، وزاد الشقاق، فكم من مشكلات نعرفها ويعرفها كل أحد منا بين الأزواج والزوجات في دائرة قرابته أو معارفه، وكم من المشكلات والخصومات نعلم عنها بين أبناء العمومة أو الإخوة أو الأقارب، وكم نسمع ونقرأ عن الشركات والخصومات الواقعة فيها، فأين السماحة؟! وأين حسن الظن؟! وأين التزام الشرع بتوثيق الأمور؟! وأين حسن العشرة؟! وأين مثل هذه المعاني؟!

الخصومات الزوجية

الخصومات الزوجية إنها صور عجيبة أصبحت اليوم كأنما هي الأصل وغيرها هو الفرع، وكأنما صورة العلاقة بين الزوج والزوجة هي الخصام الدائم والنكد المستمر والمعارك حامية الوطيس؛ لأن الصورة الاجتماعية والإعلامية تقول للمرأة: حقوقك لا يغلبنك الزوج عليها، كوني قوية حتى لا يستضعفك. وتقول للرجل: كن عسكرياً في سكنك، وكن قائداً أمام الجند، اضرب بيد من حديد، أقطم رقبة القط في ليلة العرس، وكأننا في ميدان معارك ولسنا في بيت مودة وسكن! قال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فهل هذه الصور التي نسمعها وهذه الرسائل الإعلامية التي تبثها المسلسلات وتبثها الأفلام هي بيت مودة؟! وهل تمثل أمر الله عز وجل في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]؟! وهل تمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن ساءه منها خلق رضي منها آخر)؟! أم أنها تجعلنا كما قلت: نتلمس النقائص، ونبحث عن المعائب، ونمسك الأخطاء ونسجلها في القوائم؟! وإذا بالحياة ضرب من الجحيم، وصورة من العناء والمشقة التي لا هدوء معها ولا سكينة فيها.

خصومات الأقارب والجيران على الأراضي وغيرها

خصومات الأقارب والجيران على الأراضي وغيرها وانظروا إلى صلة الأقارب، بل أبناء العمومة، بل الإخوة الأشقاء، وقد افترقوا على لعاعة من الدنيا، أو على إرث يقتسمونه، وكم هي المشكلات في هذا! ولئن كان كل أحد منا يعلم شيئاً من ذلك فإن بعضاً منا ممن يكون في موضع يقصده الناس لمشكلاتهم أو للإصلاح بينهم يطلع على كثير وكثير من المحزن المؤلم الذي نرى فيه بعداً عن الالتزام، فلمَ لا يوثق الناس ما بينهم من عقود، كما أمرهم الله عز وجل بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] فلمَ لا يكتب الناس ولا يوثقون؟! ولمَ لا يُشهدُون ولا يتعاملون بالسماحة؟!. قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان إن صدقا وبينا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتما وغشا لم يبارك لهما في بيعهما)، أو كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأين السماحة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى)؟! وأين المودة والمحبة؟! وأين معاني الإيمان والأخوة؟! وأين صدق الوفاء والالتزام؟! وأين قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)؟! كل هذه المعاني تبين أننا عندما نترك الالتزام تأتي أسباب الشقاق والخلاف والخصام، وتتفرق الصفوف، ويحصل بيننا ما نراه ونلمسه في واقع الحياة.

أخوة الإيمان وسماحة الإسلام

أخوة الإيمان وسماحة الإسلام هذه -وللأسف- صور كثيرة، ولو أننا تلمسنا الكلام فيها لوجدنا أن ديننا مرة أخرى وثانية وثالثة هو في جهة، وبعض سلوكياتنا من هذا النوع في جهة أخرى. قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فأنتم معاشر المؤمنين وإن تفرقت بكم الأنساب، وإن تباعدت بكم الديار، فأنتم إخوة كإخوة الدم والنسب، بل وأكثر. فالإسلام آوى بلالاً، وآخى صهيباً، ونادى بـ سلمان في العالمين، فكيف مزج الإسلام بين صهيب الرومي وبلال الحبشي وأبو بكر التيمي وعمر العدوي وعثمان الأموي وعلي الهاشمي، وبعد ذلك الفرس والروم وكل الخلق؛ ليكونوا سلسلة واحدة قلوبها متآخية، نفوسها متصافية، صفوفها متراصة! تلك هي الصورة التي ضربها لنا مثلاً سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في قوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فكيف واليوم الجسد يقطع بعضه بعضاً، واليمنى تقطع اليسرى! فإذا أسأت إلى أخيك المسلم، وإذا أخذت ماله بغير حق، إذا جرحته بكلمة، وإذا اعتديت عليه في أمر، فإنما يعود ذلك على نفسك. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فما بال الشحناء والبغضاء تسري؟! ألم نستمع لحديث أبي الدرداء عند الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟، قالوا: بلى، يا رسول الله!) فأي شيء أخبرهم به عليه الصلاة والسلام؟ قال: (إصلاح ذات البين؛ فإن إفساد ذات البين هي الحالقة)؟! فمن الذي يسعى بين الناس بالإصلاح، ومن يبذل وقته، ومن يبذل جاهه، ومن يحاول دائماً أن يؤلف بين القلوب، ويقارب بين الصفوف، ويجمع بين الأزواج، ويذلل العقبات بين الأقارب والمعارف؟!

التحذير من فساد ذات البين

التحذير من فساد ذات البين في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صيغة في ذات المعنى، لكنها صيغة تحذير: (إياكم! وسوء ذات البين؛ فإنها الحالقة)، رواه الترمذي وقال: حديث صحيح. فكم يسعى كثير من الناس اليوم في أن يفسدوا بين هذا وذاك، وأن ينقلوا الكلام على سبيل النميمة وإذكاء نار البغضاء والشحناء! وكم نرى صوراً من ذلك وننسى التحذير الخطير الذي رواه عبد الله بن الزبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحذير استقرأ واقع البشرية وتاريخ الأمم في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم وداء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). وعقد البخاري باباً في صحيحه فقال: باب في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وقول الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، ثم قال: وخروج الإمام إلى المواضع ليصلح بين الناس لأصحابه، وذلك من فعله عليه الصلاة والسلام عندما أمر أبا بكر أن يبقى ويصلي بالناس، وذهب عليه الصلاة والسلام إلى بني عوف مع بعض أصحابه ليصلح ما بينهم من خصومة. وفي حديث أبي هريرة الشهير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أنواع الصدقات قال: (وتعدل بين الناس صدقة). وقال ابن حجر رحمه الله: أنواع الصلح كثيرة: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأموال أو المشتركات. وكلنا يعلم الحديث الذي ترويه أسماء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحديث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس)، فعظيم هذا الدين الذي يجعل تأليف القلوب وجمع الصفوف يستثني الكذب للوصول إلى هذه الغاية، فأصلح بين الناس ولو قلت لأحد الخصمين: إنه يحسن الظن بك، وهو ليس كذلك، ولو قلت: أنه يذكرك بخير، وإن لم يذكره إلا بخير قليل؛ لأن في هذا القول هدفاً هو أسمى وأعلى، إنه هدف ألفة المسلمين وأخوتهم ووحدتهم وقوة رابطتهم واستمرار صلتهم وعلاقتهم. وفي حديث أم كلثوم بنت عقبة عند البخاري في الصحيح وغيره: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً). كل هذه المعاني هي في ديننا، فما بال القلوب قد استبدت بها البغضاء، والنفوس قد ملئت بكثير من الشحناء، وصار بين الناس ما نراه ونلمسه؟!

سماحة النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه

سماحة النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه بينما لو رأينا لوجدنا صوراً أخرى، أذكر منها اليسير في هذا المقام: كيف كانت معاملة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لأزواجه في الظروف والأمور الصعبة، وفي التحبب والتقرب؟ أهدي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من إحدى زوجاته طعام وهو عند عائشة في يومها، ففتحت عائشة الباب وإذا بالخادم يأتي بالطعام هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجة أخرى، ولنا أن نتصور كيف يكون الموقف! وبصورة تلقائية ضربت عائشة على يده، فسقط ذلك الصحن وانكسر وتناثر الطعام، ألا تهديه إلا في يومي؟ ألا تتقرب إليه إلا وهو عندي؟ وماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف؟ تبسم عليه الصلاة والسلام ولم يزد على أن قال: (غارت أمكم، غارت أمكم)، ولو أحد فعل زوجه مثل ذلك لأقام الغارة عليها، ولو رأينا صوراً أخرى لوجدنا الكثير.

حرص الصحابة على الألفة والأخوة

حرص الصحابة على الألفة والأخوة أنتقل إلى صورة أختم بها بين أبي بكر رضي الله عنه وربيعة بن كعب رضي الله عنه: كان ربيعة شاباً صغير السن، وهو الذي كان يصب للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه في الليل، وينام عند بيوته، وهو الذي قال له عليه الصلاة والسلام: (سلني ما شئت؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة؟ قال: أعني على نفسك بكثرة السجود). فتزوج وكان له مال، يقول: فاختلفت أنا وأبو بكر على نخلة في حائط، قال: فاختصمنا وعلت أصواتنا، قال: فانصرف أبو بكر رضي الله عنه، وتوجه إلى المسجد، فانطلقت في أثره أجري، فلقيني بعض قومي، قالوا: ما لك؟ قلت: كذا وكذا، قالوا: فإن الحق لك، فما لك تركض وراءه؟ قلت: ويحكم! يغضب أبو بكر، فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فأهلك. كان يريد أن يدرك أبا بكر قبل أن يصل إلى الشكوى فيستسمح منه ويعتذر، ويرأب الصدع، وكذلكم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السماحة والتنازل والوفاء بمثل هذه الأحوال، وحسن العشرة، والقصد الأعظم بقاء الألفة والأخوة والمحبة. نسأل الله عز وجل أن يملأ قلوبنا بالحب لإخواننا، والمودة لهم، وصدق الوفاء بوعودهم وعهودهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية استغلال الوقت في الخير

أهمية استغلال الوقت في الخير الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه. وإن من التقوى اغتنام الأوقات، وإن منها حسن الصلات، والإصلاح بين أهل الخصومات. واعذروني فقد أطلت في هذا قليلاً؛ لأن ما يمر بي وما يأتيني من هذه المشكلات يجعلني أشعر بمزيد من الخطر على أحوال مجتمعنا؛ لتفاقم هذه الصور. وحري بنا أن نقول عكس ذلك، أن نقول: لمَ لا يكون في صيفنا هذا تحصيل علم، وصلة رحم، واستزادة من خير، وعمل في دعوة، وغير ذلك مما يمكن أن يحصِّل كثيراً من المصالح والخيرات؟ ومن جهة أخرى: لمَ لا نجعل هذه الأوقات -وفيها شيء من السعة واليسر- في الارتباطات؟ ولمَ لا نجعلها سبباً من أسباب صلة الرحم والقرب بين الناس والتآلف بين المجتمع؟ فنحن نلهث في الحياة الدنيا كأنه لم يعد عندنا وقت لكلمة طيبة، ولا لابتسامة مشرقة، ولا لزيارة مخلصة، ولا لأنس يربط القلوب، ويقرب النفوس! ذلك ما أحب أن أشير إليه. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم إنا نسألك أن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن تلهمنا الرشد والصواب. اللهم اهدنا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم اجعل في قلوبنا المحبة لإخواننا، وفي نفوسنا السماحة في معاملتهم، اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد بين صفوفنا، واجمع كلمتنا على الحق والعدل والتقى والهدى يا رب العالمين. اللهم أزل من قلوبنا الشحناء والبغضاء لإخواننا جميعاً في كل أحوالنا وأوضاعنا وأوقاتنا يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا وأذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين من الكافرين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم ارحم ضعف إخواننا المسلمين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الأجر واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم سهل خطواتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ عليها أمنها وإيمانها وسلمها وإسلامها ورغد عيشها وسعة رزقها برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحب وترضى، وفق اللهم ولي أمرنا لرضاك، واجعل عمله في رضاك، اللهم ارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وترضوا على سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأكرم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

الصياد الماهر

الصياد الماهر إن الداعية المسلم كالصياد الماهر، وذلك أن الداعية يصيد الناس من بحار الشهوات والمعاصي، ومن غابات الدنيا، بشباك الحكمة والموعظة الحسنة، فيجب عليه إذن أن يعد عدته، وأن يهيئ نفسه، وأن يستفرغ جهده في مهمته، وأن يستفيد من صيده.

الدعاة صيادو الخلق بشباك الحق

الدعاة صيادو الخلق بشباك الحق الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، نحمدك اللهم حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائك ونعمك التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما تحب يا ربنا وترضى، نحمدك اللهم على نعمك المتواليات، وعلى أفضالك الغامرات، نحمدك اللهم على كل حال وفي كل آن، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اقتفى أثرهم وسار على دربهم، ونهج نهجهم، إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك ومن التوكل إلا عليك، ومن الخوف إلا منك ومن الرجاء إلا فيك، أنت ولينا في الدنيا والآخرة، برحمتك يا أرحم الراحمين! وبعد:

صفات الصياد الماهر

صفات الصياد الماهر أيها الإخوة الأحبة! فمع الدرس الرابع من الدروس العامة نقضي هذا الوقت بعون الله جل وعلا، ودرس اليوم عنوانه (الصياد الماهر). وأول ما نبدأ به من الحديث: ما يتعلق بالصياد ووصفه، وكيف يكون ماهراً؟ ثم ما شأننا وهذا الصياد؟ ثم بعد ذلك حينما نربط بين الأمرين، نمضي قدماً لننتفع بما نحتاج إليه في مهمة عظيمة من مهمات حياتنا، ينبغي لنا أن نعرفها وأن نتبصر بها، فنقول: أولاً: ما عرف الناس صياداً يصيد وهو قابع في قعر داره، أو جالس على حلس في بيته، بل لابد له أن يخرج إلى مكان الصيد حتى يصطاد. والثانية: أنه لا يمكن أن يخرج خلواً من عدته ليس معه إلا يدين خاويتين، بل لابد له من عدة يأخذها معه حتى يصطاد بها، ونحن نعرف أيضاً أنه يحتاج إلى تفقد عدته؛ ليطمئن إلى صلاحيتها للصيد، ولينتبه إلى فعاليتها التي يحتاج إليها، ومن بعد ذلك فإننا نعرف أنه يختار لكل نوع من الصيد عدته التي تخصه، فهو يعد الشباك لصيد البحر، ويعد السهام لصيد البر، ويعد البندقية لصيد الطير، وكل عدة لا تنفع إلا لصيد معين، فهو إذن لابد أن يحدد العدة على حسب الصيد الذي ينطلق إليه ويرغب في صيده. وكذلك نعلم أنه كلما هيأ عدته وكثر أسبابها فإن ذلك يعود عليه بغنيمة أوفر في الصيد، فالذي عنده شبكة صغيرة لا يصيد مثل الذي عنده شبكة كبيرة، والذي عنده ذخيرة قليلة لا يصيد مثل الذي عنده ذخيرة كثيرة، فلاشك أن للعدة وتهيئتها أثراً بالغاً في عظم الصيد وكثرته. ثم نمضي مع هذا الصياد بعد أن هيأ عدته وكثرها وجعلها مناسبة لصيده، وخرج من داره، فإنه قطعاً ولا شك سينطلق إلى مكان مناسب يتحرك فيه، ويرجع منه بصيد وافر، فلن يذهب مثلاً إلى مياه ضحلة ليس فيها سمك، أو يذهب إلى أرض فضاء ليس فيها صيد؛ لأنه حينئذ لن يكون صياداً فضلاً عن أن يكون صياداً ماهراً، فإذاً: لابد أن يختار المكان المناسب، وهذا المكان هو الذي تتوفر فيه أعداد كثيرة، وأسباب من النجاح وفيرة. ثم إذا وصل إلى ذلك المكان لاشك أنه يحتاج أولاً إلى أن يفحص المنطقة، وأن يدرس الموقع دراسة جيدة، حتى يحدد لنفسه المكان المناسب الذي يتهيأ فيه لصيده، فإذا كان الأمر يحتاج إلى تخف تخفى عن الوحوش أو عن الغزلان التي بمجرد رؤيته تفر منه، وإذا كان الأمر يحتاج إلى رحب من المكان لينطلق ويعدو فلا شك أنه سيختار ذلك الموقع. فإذاً مجرد وصوله إلى المكان المناسب لا يكفي، بل يحتاج إلى أن يدرسه وأن يفحصه، ومن بعد ذلك أن يتفاعل معه، فيقدر الموقع ويقرر المكمن الذي يستعد فيه لصيده، ثم نرى الصياد من بعد ذلك متربصاً كامناً متحلياً بالصبر، موصوفاً بطول النفس، لا يمكث فقط خمس دقائق فإن وجد صيداً وإلا رجع! هذا إن كان هاوياً، أما إذا كان ذلك الصيد مصدر رزقه فإنه لاشك سيمكث مهما طال الزمن، ومهما امتد الوقت. ومن بعد ذلك نجده إذا بصر بصيده يجتهد اجتهاداً كبيراً في إصابة الصيد، فلا يتعجل ويرمي بذخيرته كيفما اتفق، بل يتأنى، وكما يقال: ينشن تنشيناً دقيقاً، لماذا؟ لأنه إذا أخطأ في تلك الإصابة فلا شك أن ذلك سيفوت عليه الصيد، ويحتاج من بعد ذلك إلى كرة أخرى، وإلى زمن آخر أطول؛ فلذلك لابد له من أن يستفرغ جهده في أن تكون الضربة الأولى هي الصائبة، فحينئذ يوفر على نفسه وقته ويوفر عدته، ويوفر جهده. ونمضي معه أيضاً فإذا به يحرص كل الحرص على عدم تنفير الصيد، وهذه صفة مهمة في الصياد، فتراه يسير على أطراف قدميه، ويتوقى إحداث الصوت؛ لئلا ينفر الصيد، بل هو يبالغ في إحكام الطعم الذي يقدمه حتى لا ينفر منه الصيد، وهذه سمة أساسية في الصياد، أما إن كان غير ذلك فتراه بحركة طائشة ينفر صيده أو بطعم فاسد يقتل صيده، وهذا لا يمكن أن يكون بحال ماهراً ولا صياداً. ثم إننا نجده من بعد ذلك لا يدب إلى نفسه اليأس، بل إذا فاته الصيد في المرة الأولى عاود الكرة مرة أخرى في زمن آخر، وإذا كانت الأرض أو الموقع غير مناسب انتقل إلى غيره، لماذا؟ لأنه لابد له من الصيد؛ فهو لا يستغني عنه لأنه مصدر رزقه، ثم أيضاً نجده لا ينصرف عن مهمته بعوارض أخرى، فلا يصرفه مثلاً جمال المنظر في البحر وزرقته، والشمس ولون غروبها، فيتأمل في ذلك المنظر الجميل، أو يضع بندقيته جانباً، وينظر في رواء الأشجار، وطيب الثمار، وخرير المياه! فإنه بذلك قد توجه وجهة أخرى، ونسي المهمة التي خرج لأجلها، وبالتالي سيضيع الثمرة التي خرج ليقطفها. وآخر الأمر: فإننا نجد ذلك الصياد إذا وصل بصيده انتفع به من وكل وجه من الوجوه، فإذا بلحمه يؤكل، وإذا بجلده يدبغ، وإذا بقرنه يباع، فلا يترك منه شيئاً إلا وينتفع به انتفاعاً كاملاً.

المسلم الكامل وعلاقته بالخلق

المسلم الكامل وعلاقته بالخلق هذه صورة لهذا الصياد، فما صلتنا به؟ وهل سنتحدث عن صيد اللؤلؤ أو عن صيد السمك، أو عن صيد الطيور، أو عن أي شيء من هذه الأمور؟ ليس ذلك هو مقصدنا وغايتنا، وإنما هي تقدمة وتوطئة لما نريد أن ننبه عليه، وأن نتأمل فيه، ونربط الربط الذي ينقلنا إلى جوهر الموضوع ولبه، فنمضي مع بعض أقوال عبد القادر الجيلاني وهو يبين لنا صفات المسلم الكامل، والزاهد البصير، فيقول لنا في وصفه: (الزاهد الكامل في زهده لا يبالي من الخلق، لا يهرب منهم بل يطلبهم)، ثم يقول: (المبتدي يهرب من الفساق والعصاة، والمنتهي يطلبهم)، يعني يخرج إليهم، قال: (وكيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟!). ثم يأتي الموضع الذي سينقلنا إلى الربط بين القضيتين فيقول: (من كملت معرفته بالله عز وجل صار دالاً عليه، يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا) فإذاً: حديثنا عنك أيها المسلم! عنك أيها العالم! عنك أيها الداعية! عنك أيها الواعظ! وكما قال بعضهم: العلماء يصطادون الخلق بشباك الحق، فأنت صياد لكنك تصيد الناس، من الفسق إلى الطاعة، من الكفر إلى الإيمان، من الغفلة إلى التذكر، فمهمتك في هذه الحياة أن تكون صياداً ماهراً، وكما أشرنا سابقاً أن للصياد صفات، ورأينا كيف تتحقق له صفة المهارة، وكيف يحظى في آخر الأمر بالثمرة التي يرجوها، فكذلك نمضي معك وأنت صياد داعية، لنرى معاً كيف ينبغي أن تصيب، وكيف ينبغي أن تأخذ ذات المنهج، وأن تسير على ذات الخطى التي أخذ بها ذلك الصياد الذي أسلفنا ذكره.

فضل الدعوة إلى الله

فضل الدعوة إلى الله غني عن القول أننا لا نحتاج إلى الإفاضة في فضل ذلك الصيد، أعني: فضل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر يطول الحديث فيه. وحسبنا منه تذكرة أن الله جل وعلا أثنى على هؤلاء الدعاة الذين يتهيئون لصيد الخلق إلى حياض الحق، فيقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]. فتلك مرتبة عليا يبينها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي بن أبي طالب عند الإمام البخاري: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وكذلك يبينها لنا من حديث أبي مسعود عند الإمام مسلم: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)، فيدفعك ذلك إلى أن تعرف هذا الأمر، وأن تعرف كذلك عظمة الثواب الذي يتصل فلا ينقطع، ويدوم دواماً في الحياة وبعد الممات، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، وذكر منها: علمٌ ينتفع به، وهذا العلم هو ذلك التوريث للدعوة والسيرة الحسنة والقدوة الكاملة.

من آداب الداعية

من آداب الداعية

حرص الداعية على الدعوة

حرص الداعية على الدعوة بعد بيان الفضل للدعوة يأتي الحرص عليها، فالذي تكون المسألة بالنسبة له هواية عارضة، أو قضية ثانوية، أو عملاً يشغل به فضول أوقاته، ليس هو الذي نركز عليه في حديثنا، وليس هو الذي يعبر عنه قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وليس هو الذي مضى طول عمره وهو في هذا الشأن، وهذا الطريق، امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. فلابد أن نعرف -كما مر بنا في وصف الصياد- أننا قصدنا به الذي يعتبر الصيد مهمته وطلبته ومصدر رزقه، فكذلك نقصد هنا: المسلم الذي يرى الدعوة مهمته، ويرى الدعوة فريضته، ويرى الدعوة واجبه، كما جاء في نصوص كثيرة متضافرة ليس في الوقت مجال لذكرها. وتأمل في سياق سريع ذلك الحرص الفريد العجيب الذي مثله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما جعل مهمته وغايته في الحياة هي هداية الناس، ودعوتهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى، حتى خاطبه القرآن في شدة حرصه، فقال الله جل وعلا: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل:37]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]. وذكر من حاله عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أي: لعلك قاتل نفسك، ومتلف جسدك، ومضيع وقتك وأنت تتبع القوم، وتمضي في إثرهم، وهم يعرضون عنك، أنت تريد لهم الخير وهم يبتعدون عنك! ومع ذلك كان هذا الحرص من منطلق الفهم الصحيح لعظمة الرسالة، ولخيريتها، فالذي يعرف الخير ينبغي أن تكون نفسه -بتأثرها بذلك الخير- تحب الخير للآخرين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، والنفس التي ترى النور تأسى وتحزن على الذين يعيشون في الظلام، يتخبطون فيه، وينزلقون مرة بعد مرة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الهوام والفراش يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار). لابد لك أن تكون حريصاً غاية الحرص على هداية الخلق، وأن تعرف أن هذه المهمة واجبة، وأن هذه الرسالة عظيمة، وأنها ينبغي أن يستفرغ لها كل الوقت، ومعظم الجهد، وكل الفكر؛ حتى تؤتي ثمارها، كما كان على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خروج الداعية لدعوة الناس

خروج الداعية لدعوة الناس وقد ذكرنا أن الصياد لا يقبع في بيته بل يخرج، وتأمل هذه المقالات وهذه الأمثلة التي تنعي عليك جلوسك في بيتك، وقعودك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأخرك عن إرشاد الخلق، وعدم خروجك إليهم لتبصرهم بما هم فيه من الخطأ، وما يقعون فيه من الزلل: فهذا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه أحد المبشرين بالجنة، يقول: إن أقل العيب على المرء أن يجلس في داره! وما أقواها من كلمة! فكيف بما هو أكثر من ذلك؟ ثم استمع إلى عطاء بن أبي رباح، من جلة التابعين، ومن أئمة علمائهم في مكة المكرمة، وهو يقول: لأن أرى في بيتي شيطاناً خير من أن أرى في بيتي الوسادة؛ لأنها تدعو إلى النوم! فانظر إلى فقه القوم كيف دفعوا الجسد للنهوض، وكيف أرادوا ألا تركن أنفسهم إلى الدنيا، وألا يظلوا منكمشين عن الناس، يحبسون العلم بصدورهم، ويحبسون الحكمة بأفواههم، فهذا التابعي الجليل كان يرى أن مخدة النوم التي تدعو إلى الكسل وإلى التثاقل وعدم الخروج، كان يراها أشد عليه من الشيطان الذي يخطر بينه وبين نفسه. ثم تأمل أيضاً تلك المقالة من الغزالي القدير -رحمة الله عليه- وهو يقول: (اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر)، عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم وحملهم على المعروف، فما دمت قاعداً في بيتك فلابد أن يلحقك نوع قصور وبعض إثم؛ لأنك ما خرجت لتعرف الناس وتصحح نهجهم. ونمضي من بعد ذلك مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن بزغ نور الإسلام في أول صلة بين الأرض والسماء، من قول (اقرأ) الأولى، التي نزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءته: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، وجاء من قبلها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]. ولما نزل قول الله جل وعلا {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] خرج عليه الصلاة والسلام من بيته، ورقى الصفا وجعل ينادي: يا بني فهر! يا بني عدي! وجعل ينادي قريشاً بطناً بطناً، ثم يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أفكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، فقال أبو لهب -عليه لعنة الله-: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟!). واسمع لهذا الحديث عند البخاري من رواية ابن عباس وعند أحمد بسند رجاله رجال الصحيح عن رجل من بني مالك بن كنانة -وهو صحابي، وجهالة الصحابي لا تضر- قال: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها، فيقول: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وأبو جهل في إثره يحثو عليه التراب، ويقول: لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، وتتركوا اللات والعزى)، فتأمل هذا النص وهو يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها)، يعني: ينطلق إلى المواسم، إلى الأسواق، يخرج إلى الناس، يلقاهم في مجامعهم، يغشاهم في مجالسهم، وتلك أول خطوة في السير، وأول خطوة في طريق الدعوة، وروى البخاري أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه: (أن الصحابة من الأنصار جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: لو أتيت عبد الله بن أبي رأس المنافقين -يعني: لو أتيته لتدعوه، ولعلهم كانوا يقصدون أنه قد يصد عن الدعوة إن لم يؤت إليه؛ لشرفه ومقدراه، فما استعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك- فقال: انطلقوا بنا إليه، وانطلق عليه الصلاة والسلام يركب حماره، وانطلق المسلمون معه يمشون، فقال ذلك المنافق عليه لعنة الله للنبي: إليك عني! والله لقد آذاني نتن حمارك، فرد عليه بعض الصحابة رداً غليظاً يكافئ قوله). وشاهد الحال أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أهل النفاق لدعوتهم. ثم انظر إلى النص الآخر، وهو عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً في المسجد، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقوا إلى يهود، انطلقوا إلى يهود). يستنهض الناس معه انطلاقاً وخروجاً إلى الناس في مجامعهم، فلما جاءهم ودخل عليهم، وهم في بيت المدراس أي: الذي يتعلمون فيه قال: (يا معشر اليهود! أسلموا تسلموا أسلموا تسلموا قالوا: بلغت يا أبا القاسم! قال: ذاك أريد. ثم أعاد عليهم مرة أخرى فقال: أسلموا تسلموا قالوا: قد بلغت يا أبا القاسم!). ثم قال: (اعلموا أن الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله). فهكذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحرك، ولاقى القوم من كفار قريش في أسواقهم، ولاقى القوم من اليهود في مدارسهم، ولاقى القوم من المنافقين في تجمعاتهم، وخرج في كل حدب وصوب، وخرج إلى الطائف لما وجد البيئة المكانية غير ملائمة، فأراد أن يشق للدعوة طريقاً في موضع آخر، ثم لقي ما لقي من السخط والإعراض، وجاءه ملك الجبال -كما في البخاري في الصحيح- وقال: (لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت، فقال: لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ورسوله). فانظر عظيم الحرص على هداية الخلق، وانظر عظيم التعلق بالدعوة وعدم اليأس، وانظر إلى سعة الصدر، وطول النفس، وعظيم الصبر عنده صلى الله عليه وسلم. ثم نرى ذلك نهج الصحابة رضوان الله عليهم، نهج أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، والأمثلة في ذلك تطول، فـ عمر رضي الله عنه ما فتحت بلد من بلاد الإسلام إلا وأخرج إليها علماً من أعلام الصحابة رضوان الله عليهم، فبعث إلى الشام معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء، بعثهم لأهل الشام، وبعث لأهل الكوفة ابن مسعود رضي الله عنه معلماً ووزيراً. ولم يكن ذلك شأن الصحابة فحسب، بل هو شأن من جاء بعدهم وسار على نهجهم، فإذا نحن مع سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث رحمة الله عليه وهو يقول: والله لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم، يعني: أصحاب الحديث. (لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم) فلا ينتظر الناس حتى يأتون إليه يطلبون العلم منه، وذلك شاهد حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أخبر أن مثله كمثل الغيث الذي أصاب أرضاً، فتنوعت هذه الأراضي التي جاءها ذلك الماء، فمنها ما هي قيعان سبخة لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، ومنها ما تمسك الماء ولكنها لا تظهره، ومنها ما تمسك الماء وتنبت الكلأ، فتلك التي تعلي راية الحق وتصدع بقول الحق، وتوصل كلمة الحق إلى كل أحد، فذلك كان دأب القوم. وتأمل في قصة مالك بن دينار التي يذكرها ابن الجوزي، وهو يبين لنا عظيم الفطنة والحركة في مسألة اصطياد الناس: يذكر أنه جاء لص إلى بيت مالك ليسرق منه، فدخل -ومالك من الزهاد ليس عنده من الدنيا قليل ولا كثير- فجعل يقلب، فإذا بالبيت ليس فيه ما يستدعي السرقة، وبصر به مالك فقال: يا هذا! أفاتك حظك من الدنيا؟ قال: نعم. قال: فهل لك في شيء من الآخرة؟ قال: فماذا؟ قال: توضأ وصل ركعتين، ثم ما لبث أن أخذه لصلاة الفجر، فقال له بعض الناس: من هذا؟ قال: جاء ليسرقنا فسرقناه! فهذه هي الروح التي بها ينطلق الداعية، وينطلق بها الصياد الذي يصيد الخلق إلى طريق الحق، وكما قال الشاعر: إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب الذي يبقى في مكانه لا يحصل له شيء، وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). إذاً: لابد من الحركة، ولا يمكن للإنسان أن يكسب رزقه في الدنيا وهو جالس في بيته، فكذلك لا يمكن أن يكسب أجره في الآخرة بإرشاده للناس وتبصيرهم وهو جالس في بيته لا يتحرك ولا يتقدم، ولذلك كان فقه القوم من أهل البصيرة يعتمد على أن الإنسان لابد له أن يغشى مجامع الناس، وأن يخالطهم، أما العزلة والانحسار وعدم الاحتكاك فهذا ذم ليس بعده ذم، ولذلك حتى المتأخرون ينبهون على ذلك، فهذا الرافعي الأديب -وهو قريب العهد بنا- يقول عن الذي انعزل عن الناس: يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله، ثم يتابع فيقول: وماذا تكون قيمة العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان، إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟! أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟! مع من يصدق؟! وكيف نعرف صدقه وهو لم يدخل مع الناس ليخبرهم أو يعاشرهم فيعرفون حاله؟! ثم قال: وايم الله؛ إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعاً لهو الخالي من الفضائل جميعاً! فلذلك لابد من فهم المبدأ الأول والأساس الأول: وهو أنه لابد أن تخرج، ولابد أن تخالط، ولابد أن تعاشر، ويكون غرضك في ذلك أن تصلح وأن توجه، وأن ترشد، ولذلك يذكر ابن القيم عن بعض السلف أنه كان يقول: يا له من دين لو أن له رجالاً! الدين موجود في القرآن وفي السنة، لكن من ينقله؟ ومن يطبقه؟ ومن يمثله في واقع الحياة؟ ومن يبشر به الناس؟ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] أي: ذوي الرجولة الكاملة.

عدة الداعية

عدة الداعية عدة الداعية كثيرة، ولكن أسسها يمكن أن تذكر في إيجاز، ويندرج تحتها كثير من الفروع، ومن أساسها:

إيمان الداعية بما يدعو إليه

إيمان الداعية بما يدعو إليه الإيمان الصادق العميق، ذلك الإيمان الذي يظهر جلياً في ثلاثة أمور: إيمان بأن الأجل بيد الله. وإيمان بأن الرزق بيد الله. وإيمان بمراقبة الله سبحانه وتعالى. هذا هو الإيمان المؤثر، وليس فقط الإيمان النظري أو الجدلي: يحفظ من الكتب، ويحفظ من المقالات، ويعرف من المعضلات والمشكلات الشيء الكثير ثم لا تجد له رقة في قلب، ولا قوة في حق، ولا ثباتاً على إيذاء، فذلك كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77]، ولا شك أن الذي يخرج من قلبه هذه الخشية لله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكون ذلك النموذج الذي يتهيأ بعدته للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولاشك أننا نعرف في ذلك أمثلة كثيرة سواء من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو من سيرة أصحابه رضوان الله عليهم.

تقوى الله تعالى

تقوى الله تعالى العدة الثانية: وهي جامعة شاملة، تبين كل ما يلحق بذلك، وهي قول الله سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]. زاد التقوى أعظم عدة الداعية، لأن فيها حياة للقلوب، ونور للبصيرة، فلا تتأثر بالشبهات، وهذه التقوى تحتاج إلى عهد وإلى ميثاق {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91]، وتحتاج إلى مراقبة لله سبحانه وتعالى دائمة {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219]، وتحتاج إلى محاسبة كاشفة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]، وتحتاج إلى مجاهدة دائمة موصولة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].

حرص الداعية على التفقه في الدين

حرص الداعية على التفقه في الدين العدة الثالثة: العلم والفقه في الدين: والفقه أوسع دائرة من مجرد العلم الذي ينصرف الذهن فيه إلى ما يحفظ من كتاب الله، أو ما يعرف من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما يعرف من أحكام الفقه، فإن الفقه في الدين هو نوع من العلم والبصيرة، وهذه مسألة مهمة وعدة من العدد اللازمة للداعية، وليس العلم بكثرة المحفوظ، وإنما بحسن الفهم، ولذلك لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس قال: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل). الفقه في الدين: بصر بالمقاصد، معرفة بالأولويات، ترتيب للأهميات، إدراك لواقع الحال، معرفة لأثر المتغيرات، تنبه لاختلاف الأشخاص والنفوس، كل ذلك نوع من الفقه في الدين، ولذلك أحاط الله سبحانه وتعالى بكل شيء علماً، ثم منَّ على رسوله صلى الله عليه وسلم بمنة العلم، فقال جل وعلا: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، وقال قائل السلف: ليت شعري ماذا أدرك من فاته العلم، وماذا فاته من أدرك العلم. من فاته العلم فلا حياة لقلبه، ولا صحة لعمله؛ لأنه فاقد للعلم الذي يبصر بذلك كله، ومن أدرك العلم فقد بصر بأمر الله سبحانه وتعالى، وبهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وحصل خير الدنيا، ويرجى له خير الآخرة، فماذا فاته؟! هل فاته شيء من رزق أو قوت أو مال؟ كل ذلك عند المسلم هين يسير. وجاء عن لقمان الحكيم عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] أنه قال لابنه: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السماء. والعلم مقدم على العمل، بل هو مفتاح العمل {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، كيف تستغفر الله إن لم تكن على علم ومعرفة بالله سبحانه وتعالى وعظمته والإيمان به؟! كيف يمكن أن تسير في التزامك أولاً فضلاً عن دعوتك من غير ذلك الزاد المهم في هذا الباب؟! وينبغي أن ننبه إلى أن هذا العلم وهذا الفقه يشمل مسائل كثيرة، نوجزها في أمور، أولها: تعلم ما لا يسع المسلم جهله مما يحتاج إليه من أمور الإيمان وأحكام العبادات والمعاملات، وكما قال أهل العلم: إن العلم فرضان: الأول فرض عين، وهو إجمالاً: معرفة الله جل وعلا، ومعرفة أسمائه وصفاته، وتعظيمه سبحانه وتعالى، وخشيته ومحبته، ويلحق بذلك أيضاً تعلم المفروض عليك من أحكام الصلاة التي لابد لك منها، ومن أحكام الزكاة إن كنت صاحب مال، ومن أحكام الحج إن استطعت إليه، ومن أحكام البيع والشراء إن كنت ممن يدخلون في بابه، هذا أمر لا مناص منه. والثاني: فرض كفاية، وهو: الاستزادة من العلم فوق هذا القدر، فلا تحرم نفسك أنوار القرآن والوقوف على معانيه، ولا تحرم نفسك هدي النبي صلى الله عليه وسلم والوقوف على سيرته، ولا تحرم نفسك مما نقل أو مما خلد التاريخ من آثار المتقدمين في أنواع العلوم فقهاً وأصولاً وحديثاً، وكل علم من علوم الدين والشريعة، فإن ذلك كلما زاد كانت العدة والذخيرة كثيرة، والشبكة كبيرة، وكلما أحسنت الصيد، فالعالم له أثر في الناس غير طالب العلم، والعامي غير طالب العلم، فبحسب ما تزيد من عدتك وتزيد من علمك وبصيرتك يكون لك في هذا الشأن قدم سابقة، ونتيجة أكبر. ويلحق بذلك أيضاً مما يتعلق بالعلم: البصر بالواقع والعلم به، وهذه مسألة مهمة، فقد جد في حياة الأمة كثير من الفتن، وكثير من المذاهب الردية، وكثير من المفاسد، والحكمة تدعو أن يكون الداعية ملماً بها، لا أن يعيش في هذا العصر يقرأ كتبه فقط، بل يستنزل ذلك المكتوب ليطبقه أو لينفعل ويتفاعل به مع الواقع، حتى يمكن أن ينتفع به.

تمثل القدوة في الداعية والتزامه بما يدعو إليه

تمثل القدوة في الداعية والتزامه بما يدعو إليه العدة الرابعة: الالتزام والقدوة: لابد أن يكون من أعظم العدة التزامك بما تدعو إليه، وكونك قدوة للناس، فيما تحثهم وتحضهم عليه، ويشهد له قول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أصحابه أن يحلقوا رءوسهم، وأن يحلوا إحرامهم؛ لأنه قد عقد الصلح، وعزم على الرجوع، شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة مغضباً، فقال: (هلك الناس! قالت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أمرتهم فلم يأتمروا، قالت: يا رسول الله! فإن الناس قد دخل عليهم من ذلك الأمر شيء عظيم، لو أنك بادرت فحلقت لفعلوا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وحلق رأسه، فابتدر القوم يحلقون، حتى اختلفت أمواسهم وسالت دماؤهم)، فكان ذلك التقدم بالفعل والتطبيق أقوى في التأثير من مجرد القول، وهذا هو شأن الإنسان الذي ينبغي أن يكون على هذا الأمر، ولذلك قال الشافعي: من وعظ أخاه بفعله كان هادياً، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال، وهذا أمر مهم جداً.

الربانية

الربانية العدة الخامسة: الربانية: فإن الداعية ما لم يكن موصولاً بالله، متميزاً في هذا الشأن، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينجح في مهمته، ما لم يمرغ جبهته بالسجود، ما لم يعود عينه دمعة الخشوع، ما لم يستحضر قلبه في تلاوة القرآن، ما لم يدم رفع كفه دعاءً لله سبحانه وتعالى، ما لم يعود نفسه الإنفاق في سبيل الله، ما لم يكن لسانه رطباً بذكر الله، ما لم يكن متميزاً بهذه الصلة، فلا شك أنه مهما كان في ظاهر سلوكه الذي يظهر به أمام الناس قدوة، لكنه يحتاج إلى الصلة التي تخفى على الناس، وفيها تثبيته وقوته، وفيها يبقى على دعوته إلى أن يلقى الله سبحانه. هذه كانت عبارات موجزة فيما يتصل بعدة ذلك الداعية وآدابه.

معرفة الداعية مقامات المدعوين وفهم نفسياتهم

معرفة الداعية مقامات المدعوين وفهم نفسياتهم وقد قلنا: إن هذه العدة لا بد أن تكون مناسبة للصيد، فالشبك للبحر، والسهم للبر، والبندقية للطير، ونحو ذلك، فليس من الفطنة ولا من الحكمة أن تأتي للعامي فتحدثه في أصول الفقه، وتأتي للذي عنده بصر في العلوم الطبيعية فتحدثه عما ليس له به صلة. هذا نوع من عدم الإتقان، كأنك جئت إلى البحر لتصطاد سمكة ببندقية! فإنها لن تصيب، وإن أصبت فهي إصابة طائشة، ولذلك فإن على الداعية معرفة مقامات المدعوين، وفهم نفسياتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع مقالة العباس له: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فلو جعلت له شيئاً! تلطف الرسول صلى الله عليه وسلم في المدخل إلى أبي سفيان، وصاده من هذا المكمن، فقال: (من جلس في داره فهو آمن، ومن دخل في البيت الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، ولماذا أبو سفيان على وجه الخصوص؟ لأجل هذه السمة التي كانت فيه، رضي الله عنه وأرضاه. ويبين لنا صفوان بن أمية منطقاً آخر، يجعله أيضاً منهجاً في هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني، -أي: من المال- حتى كان أحب الخلق إليّ. وكذلك فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع مسلمة الفتح يوم حنين، حيث أعطاهم وأعطاهم تأليفاً لقلوبهم، فكل إنسان له مدخل، وله مناسبة معينة، والمناسبة تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف أحوال الأشخاص، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فهذا سائل يقول له: (أوصني، فيقول النبي: لا تغضب)، والآخر يسأله: (أوصني، فيقول: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وثالث يسأله فيجيبه بإجابة أخرى، وما تنوعت الإجابات إلا لمناسبة أحوال هؤلاء الناس، فلابد أن تعرف ذلك الصيد، وما هي العدة التي تناسبه: إن كان من أهل العلم فمدخله العلم، وإن كان من أهل العلاقات الاجتماعية، فمدخله كيف راعى الإسلام تلك العلاقة وضبطها، وإن كان من أهل التجارة والاقتصاد، فمدخله كيف حث الإسلام على العمل والسعي في كسبه، وكيف يتعامل معه، ولابد أن يصدم الإنسان حينما لا يدرك هذه الغاية وهذه الحقيقة، فيتعثر في النجاح، فيأتي وليس عنده إلا نفس العدة، يريد أن يصيد بها كل خلق الله وبنفس الأسلوب، وهذا لا يحصل به الصيد، بل هو نوع من أنواع تنفير الصيد الذي سيأتي حديثنا عنه لاحقاً. ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم نجابة ابن عباس قال: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) ولما رأى في ابن عمر مزية العبادة قال: (نعم الرجل عبد الله! لو كان يقوم من الليل) ولما رأى في أبي بصير شكيمة الحرب قال: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال). فبحسب الحال الذي تقتضيه الدعوة، وبحسب الحال الذي في هذا الشخص كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه، ولذلك كان الصحابة مختلفين في التخصص، ولم يكونوا كلهم على شكل وتخصص واحد، بل كان كل منهم يتميز بميزة: فـ أبي أقرؤهم، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وزيد أفرضهم، وهكذا، ومن راعى ذلك كانت له النفوس صيداً سهلاً لا يحتاج إلى مزيد عناء، والذي يأتي بمفتاح ويدخله في موضعه فإن بابه يفتح سريعاً، أما إن كان فيه نوع من عدم المناسبة فإنه يحاول ويحاول، وقد يفتح وقد لا يفتح، وقد يكسر مفتاحه بالكلية، وقد يكسر القفل أيضاً، ولذلك ينبغي أن تكون صاحب بصيرة، فإذا جئت إلى قفل تفتحه، وما دخل المفتاح، أو علمت أنه ليس مفتاحه، فلا تكن غبياً فتصر على أن تفتحه بهذا المفتاح، فإنك بذلك تعطل المفتاح وتعطل القفل، ولن تظفر بنتيجة، بل غير مفتاحك، وغير أسلوبك، وغير عدتك، فإن هذا هو الذي ينبغي أن يكون.

انتهاز الداعية للفرص والمواقف

انتهاز الداعية للفرص والمواقف وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً ينتهز الفرص، فذات مرة مر عليه الصلاة والسلام بجدي أسك ميت، أي: جدي ميت مقطوع الأذن فقال: (من يشتري هذا بدرهمين؟ فسكت القوم، فقال: من يشتري هذا بدرهم؟ فقالوا لما قال ذلك: والله يا رسول الله! لو كان حياً لما كان لأحدنا فيه حاجة! فقال: لهوان الدنيا على الله أهون من هذا عليكم) فالنبي صلى الله عليه وسلم انتهز هذه الفرصة وهذه المناسبة فرمى رميته؛ لأنه ليس في كل مرة تتاح الفرص، فلا ينبغي أن يكون الصيد في موضع مناسب وفي ظرف مهيأ وأنت تغفل عنه، فإذا هرب الصيد احتجت إلى أن تلاحقه، وأن تنصب له الشراك، فما دام قد تهيأ بين يديك، وجاء في الظروف المناسبة، فدونك فارم سهمك حتى تصيب. وكذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام المرأة وهي تبحث عن ابنها، فلما رأته ضمته إلى صدرها وألقمته ثديها قال: (أترون هذه ملقية بولدها في النار؟ قالوا: هي أرحم به من ذلك، فقال: والله إن الله لأرحم بكم من هذه بولدها). ونبه النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى طبيعة القوم الذين سيأتيهم عندما أرسله إلى اليمن، فقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) فهم ليسوا مثل غيرهم من أهل الشرك (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم استجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات، ثم أعلمهم إن استجابوا لذلك أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم). ثم حذره بعد ذلك من الأساليب التي تنفر الصيد، فقال: (وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). إذاً: أعطاه كل العدة التي يحتاجها باعتبار اختلاف الحال، ثم أعطاه التدرج الذي يحتاج إليه، ثم حذره من الأمور التي ينفر بها صيده، وتتعطل بها مهمته. وقلنا من بعد ذلك إنه ينبغي على الصياد أن يتفقد عدته ويجهزها، كذلك الداعية إذا أراد أن يذهب لدرس أو لعظة أو لقوم في مجلسهم لابد أن يتهيأ له بمراجعة معلوماته، ويتهيأ بما يحتاج إليه المقام، وقلنا إنه كلما زادت عدته وذخيرته كلما كان صيده أكثر كما أشرنا، وقلنا لابد أن يفحص المنطقة ويحدد الموقع، وهذا المقصود به أن يعرف أحوال الناس: هل هم قوم قد غلب عليهم الانحراف في الاعتقاد، أو قوم غلب عليهم انحراف في سلوك، أو قوم غلبت عليهم الغفلة، فلا يمكن أن تأتي إلى قوم وإلى مجتمع وأنت لا تعرف طبيعة الإعلام الذي يوجههم، ولا طبيعة العلم الذي يدرسونه، ولا طبيعة الأعراف الاجتماعية المتحكمة فيهم، فالمجتمع القبلي غير المجتمع الحضري. فلابد أن تدرس ذلك كله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرس هذا الأمر، ويعرف التفاوت بين الناس، والاختلاف في شأن القبائل وفي شأن أعيان الناس، وفي شأن العادات التي كانت مترسخة فيهم، ولذلك حتى سياسة التدرج في التشريع كانت موافقة لذلك؛ فقد قالت عائشة: لم يكن أول ما نزل (لا تشربوا الخمر)، وإنما نزل أول الأمر آيات الإيمان والاعتقاد، فلما تاب الناس وفاء الناس إلى الإسلام نزل (لا تشربوا الخمر) وحرم الله سبحانه وتعالى بعد ذلك الخمر.

صفات أساسية يجب على المسلم التحلي بها

صفات أساسية يجب على المسلم التحلي بها

صبر الداعية وعدم استعجاله للنتائج

صبر الداعية وعدم استعجاله للنتائج ثم بعد أن يتربص ويكمن الصياد يحتاج إلى الصبر، وكذلك هذا الداعية، لابد أن يتربص وأن يتأنى، ولذلك تأمل في نصيحة عائشة رضي الله عنها لقاص أهل المدينة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح، قالت له: ثلاثاً لتبايعني عليها أو لأناجزنك، فقال: ما هن؟ قالت له: اجتنب السجع من الدعاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يفعلونه، ولا تمل الناس، ولا تحدثهم إلا في الجمعة مرة واحدة، فإن زدت فاثنتين، فإن زدت فثلاثاً، ثم قالت له: ولا ألقينك تأتي القوم وهم في حديثهم فتقطع عليهم، ولكن إذا فرغوا وأقبلوا عليك فحدثهم. إذاً: انظر إلى مسألة الصبر، فلا ينبغي للإنسان إذا تعلم كلاماً أو أخذ مبدأ أن يقذف به على أول عابر، وأن يتخلص منه في أول مناسبة، كأن يأتي إلى ناس في مناسبة زواج فيحدثهم عن الموت، أو يعكس الأمور ويخلط بينها، عليه أن يكون كالصياد عندما يضع شبكته من الليل ويتأنى حتى يتجمع السمك فيها، ثم يأتي ويأخذها برفق، وقد كان لذلك الوقت ولذلك التأني حظه. فلذلك قلنا: لا بد أن يتربص وأن يتحلى بالصبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضرب المثل في ذلك، فقد كانوا يعرضون عنه هنا فيأتيهم من هنا، وتفوت الفرصة الأولى فيلاحق الفرصة الثانية، وهذه مسألة مهمة جداً نلمحها كثيراً في المواقف العمرية، أعني مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورحمه الله؛ فقد كان يستعجل في بعض الأحيان ويريد أن يحسم القضية، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام ببصيرته النافذة وحكمته الكاملة يرجئ الأمر مرة بعد مرة، وبعد ذلك تظهر حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام هي الصائبة، ويظهر قوله وتصرفه هو الذي أتى بالثمرة. ومن ذلك ما جاء عن المقداد بن عمرو أنه قال: أسرت الحكم بن كيسان في معركة، فأراد أميرنا ضرب عنقه، فقلنا دعه حتى نقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام فأطال، فقال عمر: علام تكلم هذا يا رسول الله! والله لا يسلم هذا آخر الأبد، دعني أضرب عنقه، ويقدم إلى أمه الهاوية، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل على عمر، يعني: يتركه ولا يرد عليه ولا يقبل عليه، حتى أسلم الحكم، فقال عمر: فما هو إلا إن رأيته قد أسلم حتى أخذني ما تقدم وما تأخر، وقلت: كيف أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً هو أعلم به مني، ثم أقول: إنما أردت بذلك النصيحة لله ورسوله، فقال عمر: فأسلم وحسن إسلامه، وجاهد في الله حتى قتل شهيداً ببئر معونة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض عنه ودخل الجنان، فهذا مثل نحتاج أن نتدبره ونتملاه.

عدم اليأس من المدعوين والحذر من تنفيرهم

عدم اليأس من المدعوين والحذر من تنفيرهم إذاً لابد للداعية أن يتحلى بالصبر وطول الأناة، وهذا يقتضي منا أن نقول: إنه ينبغي ألا يكون لليأس إلى نفس الداعية سبيل؛ لأنه يحتاج إلى أمور: يحتاج إلى أن يدقق التصويب، وأن يستفرغ الجهد في الإصابة، لئلا ينتج عن الخطأ نوع من تنفير الصيد. وهذا أمر مهم، فتنفير الصيد قضية خطيرة تقع في أسلوب التعامل في الدعوة، فلا بد أولاً أن يحسن اختيار الطعم المناسب مهما كان غالي الثمن، فلا بد أيضاً أن يستخدم الداعية الطريقة التي يستميل بها القلوب، والتي يرغب فيها المدعو ترغيباً حسناً، فإن كان ممن يتألف بالمال فليكن طعمه المال، وإن كان ممن يتألف بحسن الكلام وفصيح البلاغة فليكن كذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم -على ما مضى أيضاً من استغلال الاختلاف في النوعيات- كان يشجع حسان رضي الله عنه ويقول: (اهجهم وروح القدس معك)، ويقول عنه وعن غيره من الشعراء الذين نافحوا عن الإسلام: (والله لكأنكم تنضحونهم بالنبل)، فلا بد أن يقدم الأمر الذي يحتاج إليه، والذي يناسب ذلك الإنسان، فالذي يحب الأدب وهو مغرم بالبلاغة فليكن اجتهادك أن تقدم له هذه المادة، إن كنت بارعاً فيها، أو التمس له من يكون بها بصيراً وهكذا. ثم الأمر الثاني: هو الخطأ الفادح الذي يقع به تنفير الصيد بسبب حركة معينة، أو صوت معين، ومن ثم قد يعود الصيد وقد لا يعود، فلذلك لا بد أن يكون الإنسان صاحب بصر وفطنة في ألا يفرط فيما يقع تحت يده قيد صيودك بالحبال الواثقة فمن الجهالة أن تصيد غزالة وتفكها بين الخلائق طالقة ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام وقعت له من الوقائع ما بين لنا بها كيف كان تصرفه مؤلفاً ومرغباً ومحصلاً للصيد، وكان بعض أصحابه يتعجل فينفر الصيد، ومن ذلك قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فابتدره الصحابة ليزجروه، فقال النبي لهم: (دعوه لا تزرموه) وفي رواية: (لا تقطعوا على الأعرابي بولته)، فلما قضى الأعرابي لم يأمره عليه الصلاة والسلام أن يغسل بولته، وإنما أمر الذين أرادوا أن يمنعوه، وقال: (صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء، ثم قال له: هذه بيوت الله لا يصح فيها شيء من الأذى)، وفي بعض الروايات -كما في رواية الترمذي - أن هذا الرجل قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. وقصة معاوية بن الحكم السلمي معروفة، وذلك لما جاء ودخل في الصلاة، ثم عطس رجل فشمته، وكان لا يعلم منع الكلام في الصلاة، قال: (فجعلوا يحدون النظر إليّ -يعني: يرى الناس ينظرون إليه- فقال وهو في الصلاة: واثكل أمياه، مالكم تنظرون إليّ؟! قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فعلمت أنهم يسكتونني فسكت، فلما قضيت الصلاة دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كهرني ولا نهرني، ولكن قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه) أو كما قال. ومثل النبي صلى الله عليه وسلم تمثيلاً واضحاً في ذلك الرجل الأعرابي لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل أحسنت؟ قال: ولا أجملت، فابتدره الصحابة، ثم أعطاه مرة أخرى وقال: هل أحسنت؟ قال: ولا أجملت، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأعطاه، وقال له: هل أحسنت؟ قال: نعم، وأجملت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن في نفوس أصحابي شيئاً، فلو أعلمتهم أنك رضيت، فأعلن ذلك، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحادثة أو في غيرها كما في بعض الروايات: (مثلي ومثل هذا كمثل رجل نفرت منه دابته، فجعل الناس يسوقونها فتنفر منهم، فقال: خلوا بيني وبينها، وتوصل إليها بشيء من خشاش الأرض، فتألفها وجاءت) فبعض الناس ينفر الصيد إما بتجهم وغلظة في تعامله، أو بشدة ونبوة في لفظه، أو بجهل وخلط في علمه، وهذه كلها تسيء ولا تنفع.

عدم انصراف الداعية عن مهمته الأساسية بصوارف الدنيا

عدم انصراف الداعية عن مهمته الأساسية بصوارف الدنيا وقلنا أيضاً في الصياد إنه لا يصرفه عن الصيد شيء من الصوارف كمنظر جميل أو نحو ذلك، وكذلك ينبغي ألا ينصرف الداعية إلى غير مهمته الأساسية، فتتعلق عيونه بأموال الناس ممن يدعوهم، أو يتعلق بحسن صورهم، أو بحسن ما يقع منهم من أمور فيها بعض الإيجابيات، أو حتى يفتن بما يسميه الناس لذة الاستتباع، فيرى الناس من حوله فيفرح بذلك، فينشغل بعد ذلك عن مهمته الأساسية بالبهرجة التي تحيط به، والناس الذين يمشون خلفه، وينصرف بذلك عن جوهر القضية. وهذا مكمن خطر ومزلق وخيم، لأن الإنسان أحياناً يكون هذا أول قصده، ثم من بعد ذلك تحيط به ظروف فإذا به ينشغل عن مهمته بأمر آخر، وينسى أنه إنما أراد من الناس دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يبتغي الأجر إلا من الله، وكل الرسل والأنبياء جاء القرآن يذكر على ألسنتهم {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس:72]. ذلك التجرد الذي لا يصرفه عن هدفه بأي أمر آخر حتى بلذة الاستبباع فقد ذكر ابن القيم في فوائده أن ابن مسعود كان يسير فسار في إثره ناس قال: هل لكم من حاجة؟ قالوا: لا. ولكنا نحب أن نمشي معك، فقال: لا تفعلوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. لماذا تذل نفسك لإنسان مثلك، ولو كان صاحب خير وصاحب حق، إن كانت لك به حاجة لتستفيد من علمه أو تنصره أو تسأله أو ترافقه في أمر فلا بأس، وفيه فتنة للمتبوع فإذا به ينشغل بعد ذلك فإذا لم يأته الناس ولم يحتفوا به امتنع عن أن يدعوهم فانحرف بذلك عن النهج، ولذلك كان من فضائل الإمام البخاري رحمة الله عليه أنه كان يقول: قد استوى عندي المادح والذام. فلا يشغله المدح بأن يفرح وينصرف إليه، فإذا أطنب الناس في حسن بلاغته صار يحفظ الأشعار وينمق العبارات ويبعد عن المضمون وهو روح القول وحياة القلب وصدق اللهجة. وإذا استحسنوا منه شيئاً آخر كحكمته أو حسن تصرفه في الأمور صار يبتكر أموراً حتى يبدي فيها تصرفاً حسناً وهكذا، فينبغي للإنسان أن ينتبه ألا ينصرف عن المهمة الأساسية بأي عارض من العوارض مهما كان هذا العارض مغرياً أو جميلاً أو ملفتاً للنظر فإن ذلك مكمن خطر ينبغي أن ينتبه منه.

حسن رعاية الداعية للمدعوين والحرص على توجيههم

حسن رعاية الداعية للمدعوين والحرص على توجيههم وقلنا في آخر الأمر: إن على الصياد أن ينتفع بصيده، فلا يتركه هملاً وإنما ينتفع به بكل وجه من الوجوه. وهذا الذي بذرت في قلبه بذرة الخير، ووضعت في نفسه حب الالتزام لابد أن ترعى البذرة حتى تستوي على سوقها، وحتى تؤتي ثمارها، وحتى يكون هذا الذي تأثر صياداً آخر فيكثر الصيد، ويعظم الأثر، ولذلك لابد أن تنفذه في كل شأن من الشئون، وإن كان يتقن أمراً فلابد أن تشغله به، وأن تعهد به إليه، وأن ترعاه في مهمته الجديدة التي ينتقل بها من دور الأخذ إلى دور العطاء، ومن دور الطلب إلى دور التعليم والإرشاد، وهذا أمر مهم. بعض الناس يذكر الناس ويعظهم، وربما يرشدهم ويربيهم، ثم لا يوجههم لأن يكونوا دعاة خير، وأن ينقلوا ما فطنوا إليه من العلم وما بصروا به من الحق، ولا يأخذ بيدهم في هذا الطريق، فإذا انقطع عنهم انقطعوا ورجعوا إلى حالتهم الأولى، وكان كالذي بذر بذراً وكان معه ماء، فهو يسقي الماء ثم يترك ولا يقف عند بذرته حتى تنمو وحتى يزيل عنها الآفات ويخرج عنها العوالق. فلابد من الانتفاع بمن يستجيب للدعوة متأثراً بها، وهكذا كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما دخل أحد في الإسلام ولا استجاب لدعوة الله إلا عهد به إلى من يعلمه ويرشده، وإلا أعطاه من المهمات ما ينشغل به، ويكون مجاهداً في سبيل الله، وداعية إلى دين الله سبحانه وتعالى، لما أسلم عمير بن وهب رضي الله عنه دفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى بعض أصحابه وقال: (خذوا أخاكم فعلموه أمر دينه) وكذلك كان الصحابة كلهم؛ فـ ربيعة بن كعب كان صغيراً فانشغل بالعبادة، وأسامة بن زيد تولى قيادة الجيش، والآخر ذهب سفيراً للإسلام من مكة إلى المدينة، وهو مصعب بن عمير، ما كان أحد منهم يبقى بلا استنفاذ لطاقته، ولا توجيه لإمكانياته لتصب الجهود كلها مع بعضها البعض.

تسخير الداعية لكل الطاقات والجهود في سبيل الدعوة

تسخير الداعية لكل الطاقات والجهود في سبيل الدعوة وآخر الأمر الذي نلفت النظر إليه أن الداعية مثل الصياد في أمر مهم، وهو أن الصياد لا يستغني بقوته، ولا يكتفي فقط بفطنته، ولا يستخدم حاسة واحدة من الحواس، بل هو يستخدم حاسة النظر، ويستخدم حاسة الشم، ويستخدم العقل والتفكير، ويحتاج إلى القوة القلبية في الشجاعة لمواجهة المخاطر، ويحتاج إلى القوة الجسدية لمصارعة الصيد أو غير ذلك. وكذلك الأمر في حال الداعية، فلا تتصور أنك يمكن أن تكون ناجحاً إلا إذا أخذت من كل جانب بحظ ونصيب، فأنت تحتاج إلى قوة الإيمان والقوة النفسية، لتقوى على المجابهة، وتحتاج إلى القوة البدنية لتجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وتحتاج إلى القوة العقلية لتكون صاحب بصر وحكمة في سياسة الأمور، وفي التخلص في المواقف المحرجة، وتحتاج أيضاً إلى النظر، وتحتاج إلى السمع وكل شيء، فكذلك ينبغي أن تسخر الجهود كلها في هذا الشأن وفي هذا الصدد. وجملة القول الذي نحب أن نشير إليه وأن نختم به، أنه لابد أن نعرف أن الأمر ليس على سبيل التهاون أو سبيل الاختيار، وليس على سبيل الهامشية في حياة الإنسان المسلم، بل هو كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن تحمل الرسالة وتحمل المهمة: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]. وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]. وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر في قوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] وفي قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ووصف المؤمنين بأنهم بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فليس الأمر شيئاً عارضاً، وإنما هي مهمة لابد أن تكون ثابتة وأصيلة ودائمة ومستمرة، ويستفرغ لها الجهد كله، والطاقات كلها ليكون هذا الإنسان الداعية صياداً ماهراً، وكلنا ينبغي أن يكون ذلك الرجل، فلا تقعد في بيتك لأنك ستخلد إلى النوم، وتتعلم فن التثائب كما قال بعض الدعاة، ولن يكون لعلمك حينئذ -إن كنت صاحب علم- تأثر وتأثير، ولن يكون له أثر في الحكمة والبصيرة، وهذا أمر لابد أن يتعاون الجميع عليه، لأنه من أعظم البر والتقوى، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] والله سبحانه وتعالى نسأل أن يوفق الدعاة إلى دينه، وأن يسدد خطاهم، وأن يوحد كلمتهم، وأن يلهمهم الرشد والصواب، وأن يوفقهم لما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

وصف الجيلاني للمسلم الكامل في كتابه الفتح الرباني

وصف الجيلاني للمسلم الكامل في كتابه الفتح الرباني Q ما اسم الكتاب الذي ذكر فيه الشيخ عبد القادر الجيلاني تلك الكلمات في أول الدرس؟ A هي من كتاب الفتح الرباني، وهي من نقل صاحب المنطلق في الدعوة نقلها عن الفتح الرباني للجيلاني.

توجيهات لطالب العلم

توجيهات لطالب العلم Q لا أستطيع أن أعبر عن مدى المشكلة، فأنا أحاول القراءة، ولكن لا أجد لها وقتاً، وإذا قرأت لا أستفيد، وإذا استفدت في بعض الأحيان فإنه يداخلني الرياء بذلك. A هذا ربما يكون قد مر الحديث عنه في الدرس الماضي، ونوجزه للأخ فنقول: إن أهم قضية هي صدق النية والإخلاص لله سبحانه وتعالى، ثم يأتي الشعور بالأهمية للعلم، والحاجة إلى البصر بالدين، وأن يكون متصوراً لمدى فائدة الاطلاع والقراءة -الفائدة العلمية، والفائدة العملية- في حياة قلبه وحماسه حينما يقرأ أقوال أهل العلم، وحينما يعرف سيرتهم ونحو ذلك من الأمور. فلابد أولاً من توفر الأسس النفسية التي هي أساس الانطلاق في هذا الأمر، ثم من احتاج شيئاً استطاعه، من احتاج إلى المال وافتقر إليه وجد السبيل إليه، أما الذي يشعر بأنه مستغنٍ عن المال فلا يهمه ولو فاته المال ما التفت إلى ذلك، لكن إذا علم شدة الحاجة التمس الطريق، وإن كانت القراءة تشق عليه فعليه أن يخصص لها وقتاً يتوفر فيه فراغ الذهن، والصفاء الفهم، ثم يبدأ بالقليل ولا يكثر على نفسه، ثم كذلك يبدأ بالأقرب إلى نفسه، فإن كان يحب قصصاً بدأ بها، وإن كان يحب أدباً بدأ به، ليتعود الكتاب ويتعود النظر إليه، فحينئذ يمكن بعد ذلك أن تصبح المسألة دربة له وعادة عنده يستفيد منها. وأما أنه لا يستفيد فلا يعجل على نفسه، فإن الإنسان في أول الطلب، وفي بداية الاطلاع لا يشعر بالفائدة المباشرة، ولا يرسخ في ذهنه كثير مما يقرأ وما يطلع عليه، فلا يستعجل في ذلك، فإن المسألة تحتاج إلى دوام، وإلى الكثير من الاطلاع، وحينما نسمع بعض أهل العلم، وبعض طلبة العلم وعندهم زاد من النصوص، وزاد من الأقوال، وزاد من الوقائع، فما جاء ذلك من قراءة أولى ولا من قراءة قليلة، ولكن نقول: إذا قرأت أول مرة فإنه يثبت عشرة بالمائة على سبيل المثال، ثم حينما تواصل القراءة يثبت في ذهنك من بعد عشرون بالمائة، ويمر بك مثلاً النص في كتاب، ثم يمر بك في كتاب آخر، ثم يمر بك شرحه في موضع آخر، ثم يمر بك إشارة إليه فيرسخ في ذهنك حينئذ، وكما أشرت من قبل فإن من أهم الأمور زكاة العلم، وإنفاق العلم زكاته، فلابد أن يخرج ما عنده، فإذا حفظ شيئاً فليحدث به، حتى يذاكره، فإن حياة العلم مذاكرته كما قال أهل العلم، فيذاكر العلم بينه وبين أصحابه وأقرانه، ثم يعلم من هو دونه، فإن التعليم هو الذي يثبت العلوم؛ لأنك حينما تعلم ترجع إلى الكتاب، وترجع إلى المسألة، ثم تحاول أن تحفظ، ثم تلقي فيكون من ذلك تضافر الحواس، وتضافر الحواس مهم، فإذا استخدمت في القراءة حاسة البصر، ثم استخدمت حاسة اليد في أن تضع خطوطاً، ثم استخدمت حاسة الكلام فتكلمت، أو كتبت بيدك لتدرس وتشرح، كلما زادت الحواس التي تتعامل مع المعلومة الواحدة كلما زاد ثبوتها ورسوخها، وليستعن بالله سبحانه وتعالى قبل ذلك وبعده، فإن الله سبحانه وتعالى هو المعين.

توجيه الدعاة إلى ضرورة الخروج إلى الناس ومخالطتهم

توجيه الدعاة إلى ضرورة الخروج إلى الناس ومخالطتهم Q هناك الكثير من الصيادين الكسالى الذين يريدون أن يأتي الصيد إلى عتبة بابهم، فهلا أعطيتهم نصيحة موجزة بالغة؟ A أظن فيما ذكرناه من كلام طلحة بن عبيد الله ومن كلام عطاء بن أبي رباح ما يعبر عن هذا، وكما يقول الرافعي الأديب: إن لم تزد على الدنيا كنت أنت معنىً زائداً عليها. إذا لم تكن لك إضافة من قول أو عمل أو جهد فأنت أصلاً زيادة لا قيمة لك ولا أثر لك، فإذاً أنت إنسان زائد في هذه الدنيا، وكما قال من علق على هذه المقالة: هذه صفعة وليست قولة، هذه صفعة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لكن ميت القلب ضعيف الهمة يحتاج إلى إحياء، إذ هو بمثابة الميت الذي يحتاج إلى إنعاش، مثل الذي يكون في غرفة الإنعاش عنده ألف خط وخط، خط للتنفس وخط للتغذية، وأمور كثيرة يحتاج إليها، أما الذي فيه حياة القلب ولو بنسبة معينة فإن التذكرة والكلمة توجهه، ولذلك قال الحسن البصري: لا تكن أقل من شاة الراعي، قيل: وما شاة الراعي؟ قال: تحركها الإشارة وتفزعها الكلمة. شاة الراعي إذا هشها من جهة تحركت، وإذا صاح بها أو أشار إليها تحركت، وأما أنت فتسمع القول وتسمع القرآن الذي تندك له الجبال، وتصدع به الأرض، وتسمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتقرأ القصص والسير ثم لا تتحرك، فهذا كما قال ابن القيم: اطلب قلبك في ثلاثة مواضع: عند تلاوة القرآن، وعند الدعاء لله سبحانه وتعالى، إلى أن قال: فإن لم تجد قلبك فكبر على نفسك، فإنه لا قلب لك. فلابد للإنسان أن يتنبه، وهذا الذي يريد أن يبقى في بيته من قال له أن يخرج ليكسب رزقه، أو ليذهب إلى وظيفته، أو ليبرز عند الناس حتى يأخذ منزلته الاجتماعية؟ لماذا لا يقعد في بيته؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يهدى إليه) أفلا يقعد هذا أيضاً فيأتيه رزقه إلى بيته، ويأتيه الناس يعطونه الجاه والتقدير. فنحن نراه في أمر الدنيا يسعى إليها، فيتفرغ بجهده وعمله ليكسب الرزق، ويهتم بهندامه وقوله حتى يلقى المنزلة والحظوة عند الناس، ولا يكون شيء إلا بالجهد والعمل، والكسالى وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم من أهل النفاق؛ لأنهم كسالى حتى في العبادة، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]. ولا نريد أن نكون كمثل القائل الذي يريد أن يأتي إليه كل شيء: سألت الله يجمعني بسلمى أليس الله يفعل ما يشاء حتى في الأمور المهمة في حياة الإنسان يريد أن تأتي إليه من غير تعب، فهذه قضية مذمومة، وثمة كلمات كثيرة عظة في هذا الأمر، لكن حسبنا ما ذكرنا، فإن كانت له حياة قلب فإنه إن شاء الله متعظ، وإن كان غير ذلك فيحتاج إلى أن ينتبه أولاً إلى الأسس التي يحيي بها نفسه وقلبه.

حاجة الدعاة إلى العمل الجماعي حتى تؤتي الدعوة ثمارها

حاجة الدعاة إلى العمل الجماعي حتى تؤتي الدعوة ثمارها Q هل يستطيع الصياد أن يصيد منفرداً بهذه المهارة؟ A المهارة في أصلها فردية، لكن النتيجة لا تكون إلا جماعية، ونحن الآن تكلمنا عن الصياد، والصيادين يعملون معاً، ولهم سوق واحد يبيعون فيها، وربما يستعين بعضهم ببعض فيأخذ هذا شبكة ذاك أو يستعين به، وكما يقال: الناس بعضهم لبعض -وإن لم يفطنوا- خدم. فلا يمكن للإنسان أن يستغني عن الآخرين في شئون الحياة، ولا في شئون المهنة، فالصياد لا يستغني عن الصيادين، والمهندس لا يستغني عن المهندسين، والطبيب لا يستغني عن الأطباء، والداعية لا يستغني عن الدعاة، وطالب العلم لا يستغني عن العلماء وطلبة العلم، فلابد أن تتضافر الجهود لتكون المسألة متكاملة، لأننا حينما نتكلم عن الصيد هنا فإننا نتكلم عن صيد قلوب وصيد عقول وصيد أرواح، لابد له أن يبقى حياً متنامياً، ونحن نريد أن نبعث أمة دب فيها الضعف، ووهنت قواها، وتسلط عليها أعداؤها فما يمكن لإنسان أن يملك سيفه وأن يفل الصفوف وهو واحد منفرد: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا وأعداؤنا تجمعوا أشتاتاً علينا فلابد أن يكون دأب المؤمن هذا الأمر، وليلتفت في ذلك إلى صيغة الأمر الجماعي في كل أقوال الله سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا {تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، ما خوطب الفرد المسلم منفرداً، حتى في الأمور العامة في العبادات هو يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ويدعو له ولأمة الإسلام {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وشعائر الإسلام كلها مبنية على الجماعية؛ فالصلاة في جماعة، والصوم في وقت واحد للأمة كلها، والحج يجمع أشتات الناس وأخلاطهم من أهل الإيمان في موضع واحد، وما من أمر إلا والانتداب إليه في هذه الصورة الجماعية، مما يؤكد أنه لابد لمثل هذا الأمر أن يكون على هذا النهج، وكان بعض السلف يدعو في رجال معه، وكان سهل بن سلامة -كما ذكر الطبري في أحداث عام مائتين وعشرة في تاريخه- يأخذ البيعة على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان بعض السلف يخرجون ولا يستصحبون معهم إلا رجالاً لا يأكلون إلا من عمل يدهم، حتى يكون ذلك أدعى إلى الإخلاص، وإلى القبول وإلى التوفيق في حصول المقصود، فلا شك أن الإنسان الذي يكون منفرداً وحيداً لا يستطيع فعل الأمر على وجهه، بل حتى في المهمة الواحدة يحتاج المرء إلى من يعينه، فالصياد الذي يريد أن يصيد سمكاً بشبكة يحتاج إلى من يعينه، فيكون هناك غالباً اثنان أو ثلاثة أو أربعة يقومون بعمل مشترك، ويركبون زورقاً واحداً، وينصبون الشبكة ويفردونها، ويقتسمون العمل فيما بينهم فهذا تكون مهمته رمي الشبكة، وذاك تكون مهمته الأخذ، وذاك تكون مهمته توجيه الزورق، وهكذا. والإنسان في طبيعة خلقته كل شيء فيه متكامل، وجسمه هذا يعلمه الجماعية، إذ لا يستغني عقله عن يديه، ولا يده عن قدمه، فلا يمكن أن يمشي على يده؛ لأن رجله جعلت لهذا الأمر، ولا يمكن أن يأخذ برجله؛ لأن يده جعلت لهذا الأمر.

التطبيع الإسلامي

التطبيع الإسلامي للتطبيع اتجاهان: الأول: التطبيع مع الخصم والعدو، فيتحول معه الأعداء إلى أصدقاء، وتنسى الجرائم التاريخية، والعدوان الغاشم، ولأجل هذا التطبيع ينبغي أن تغير المناهج، وأن يهجن الإعلام، وأن يجوس العدو خلال الديار في اختراق ثقافي، واغتيال عقائدي، وإضعاف اقتصادي! وهذا الاتجاه مرفوض جملة وتفصيلاً، لا يرضاه الله، ولا ترضاه الشعوب المسلمة. والثاني: التطبيع مع الدول المسلمة، لتعيش تحت مظلة الإسلام، وتتخذه منهاجاً للحياة، وتعزز من قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهذا الاتجاه مطلوب، بل يجب تطبيقه.

التطبيع الإسلامي والتطبيع الآخر

التطبيع الإسلامي والتطبيع الآخر الحمد لله الذي أكمل ديننا، وطمأن قلوبنا، وشرح صدورنا، ونور بصائرنا، وثبت أقدامنا، له الحمد سبحانه وتعالى ما أعظم حلمه بعد علمه، وما أوسع عفوه بعد قدرته! نحمده سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

معنى التطبيع وخطورته

معنى التطبيع وخطورته أيها الإخوة المؤمنون! التطبيع الإسلامي موضوع حديثنا، وله أهمية أحسب أنها لن تظهر إلا بعد بيان معناه ودلالته، وبيان مرادنا من نسبته الإسلامية. فالتطبيع في دلالته اللغوية يرجع إلى الطبع: وهو منتهى الشيء وغايته وختامه، ومن ذلك قول الحق جل وعلا: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [التوبة:87]، أي: بلغت النهاية والخاتمة. ومن معناه كذلك: الأمر الذي ينتهي إليه الإنسان في خلقه ودله وسمته، فنقول: طبع فلان كذا، أي: سجيته وخلقه الذي انتهى إليه واستقر عليه. ومن هنا فإن قولنا عن شيء إنه طبعي، أي إنه وصل إلى أمر مستقر مألوف، مقبول معروف، مرتضىً عند صاحبه أو عند الناس. وإذا جئنا إلى هذا المصطلح اليوم، فإننا نعرف اقترانه بالاصطلاح السياسي، فالتطبيع إذا أطلق فالمراد به التطبيع مع العدو والخصم، أي: تحويل العداوة إلى أمر طبعي مقبول مألوف، يتحول معه الأعداء إلى أصدقاء، وتنسى الحوادث والجرائم التاريخية، ويغض الطرف عن العدوان والحقائق الواقعية، ولأجل هذا التطبيع ينبغي أن تغير المناهج، وأن يهجن الإعلام، وأن يطوع الاقتصاد، وأن يصبح الطريق ممهداً ليجوس الأعداء خلال الديار في اختراق ثقافي، واغتيال اعتقادي، وإضعاف اقتصادي، وتسلط سياسي. إنه باختصار شديد: أن تفقد الأمة مناعتها، وأن تزول عنها خصوصيتها، وأن تمسخ فيها هويتها، وأن يصبح جلدها غير جلدها، ولسانها غير لسانها، وتاريخها غير تاريخها. فهل يعقل مثل ذلك؟! وهل يتصور مثله ويقبل؟! وكيف يمكن أن تغير العقول في الرءوس، وأن تغير العواطف في النفوس، وأن تبدل صفحات القلوب وتصورات الأفكار؟! وكيف ينسخ التاريخ بدهوره المتعاقبة؟! وكيف تغير العرف الاجتماعي المستقر في معاملاته الشائعة؟! إنه أمر عجيب، إن القضية في التطبيع تقتضي أن يكون الأمر طبعياً إذا كان متوافقاً مع الأصول الثابتة، والحقائق الراسخة، ومنسجماً مع الجذور التاريخية، والبيئة الواقعية، والحياة الاجتماعية، أما أن يكون شيئاً يخالف ذلك كله فلا يمت إلى معتقدك بصلة، ولا ينسجم مع واقعك في حقيقته، ولا يرتبط في تاريخك بجذوره؛ فأنى يكون كذلك؟! إنها قضية مهمة، وليست هي بالمناسبة موضوع حديثنا، فإن مثل هذا الأمر لا أحسب أن مؤمناً حقاً ومسلماً مدركاً لا يعرف أن مثل هذا فيه أمور كثيرة تخالف دين الله عز وجل من جهة، وتعارض مصالح الأمة الإسلامية من جهة أخرى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال هذه الحقيقة عن الأعداء الذين عداوتهم صريحة باحتلال الأرض وإزهاق النفوس وسلب الأموال، فضلاً عن العدوان على العقائد والدين والأخلاق-: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة:9]، فأولئك القوم أعداء لا يمكن أن يتحولوا إلى أصدقاء وعدوانهم مستمر.

صورتان متناقضتان

صورتان متناقضتان ليس هذا موضوع حديثي، غير أني أنقل لكم صورتين متناقضتين في هذا الشأن من صحيفة يومية من صحف هذا اليوم: الأولى: كلمات موجزة بلسان رئيس وزراء الكيان الصهيوني الغاصب المعتدي، مجرم الحرب الشهير، الذي تلطخت أيديه بالدماء، من صحيفة اليوم وليس قبل دهر ولا أمس، يقول في هذا اليوم: بفضل الاستيطان سنحافظ إلى الأبد على مواقع مهمة وأساسية لوجودنا في القدس عاصمتنا الموحدة إلى الأبد، وفي الأماكن الأكثر قداسةً في تاريخنا، وفي المناطق الأمنية الأساسية لدفاعنا. وهي كلمات أحسب أنها لا تحتاج إلى ترجمة، ولا تفتقر إلى تعليق وشرح، ويفهمها كل أحد، إلا إن كان غبياً أحمق أو كان مداجياً مداهناً، أو كان متآمراً مدنساً. وأنتقل إلى الصورة الثانية منشورة في صحيفة اليوم وفي ذات الصحيفة: وهي قصة أحد الأسرى الذين أطلق سراحهم قبل أيام قلائل، ظل في سجنه خمس سنوات، خرج وإذا أبوه قد فارق الحياة على حادث من الحوادث على إثرها منع أن ينتقل إلى المستشفى للعلاج من نوبة ربو قضى نحبه فيها، وقبل خروجه بعشرين يوماً كان أخوه الأكبر قد قضى شهيداً برصاص العدو، خرج وإذا البيت مدمر! والبناء مهدم! وإذا بنته -بنت التاسعة- لا تعرفه وتراه غريباً؛ لأنه قد غاب عنها نحو خمسة أعوام، ثم يقول بعد هذا كله- وهذا بيت القصيد والشاهد-: بعد كل هذا، بعد فقدان الأب والأخ ومشهد الدمار كل ذلك لا يغير من معتقدات الإنسان شيئاً، فمهما حدث يظل الاحتلال احتلالاً، ولا نستطيع أن نعطيه وصفاً آخر.

التطبيع الإسلامي

التطبيع الإسلامي وأكتفي بذلك؛ لأنه ليس موضوع حديثي، فأنا أتحدث عن تطبيع آخر هو التطبيع الإسلامي، وقد يكون هذا من دواعي الاستغراب؛ لأننا اليوم نسمع كل شيء يلصق به (إسلامي) حتى يجوز أو يروج عند المسلمين، لكنني هنا أقول: هذا معنىً مهم، وهي قضية خطيرة، إذ إن عندنا أموراً:

صورة متقابلة في الموقف من الإسلام في السعودية

صورة متقابلة في الموقف من الإسلام في السعودية لعلي أذكر لكم صوراً هنا كثيرة، أحب أن أراها متقابلة: في صحافة هذا اليوم قول منسوب إلى أسماء من نساء هذه البلاد، تشكو إحداهن أن دوامها في العمل تسع ساعات، وأنها تتعرض لبعض الأذى في أثناء طريقها للعمل، ثم تقول بعد ذلك: إن طموح المرأة السعودية ليس له حد، ومنافستها للرجل مستمرة! ولست أدري هل نحن في معركة أو حلبة مصارعة أو ملاكمة ليكون هناك منافسة بين الرجل والمرأة، وإذا كانت هناك منافسة بين الرجل والمرأة فما مصير الأسرة؟ وما مصير الأنس الاجتماعي؟ وما مصير العلاقات التي كنا ولا زلنا نحرص عليها في داخل بيوتنا وفي علاقاتنا الاجتماعية؟! وتقول كذلك: على الرغم من وجود معوقات إلا أن المرأة استطاعت أن تجتاز شوطاً في مجالات عدة، فقد كانت محصورةً في إطار التعليم والطب، وتجاوزتها إلى الهندسة والصحافة والمحاماة. ولست أدري هل تريد المرأة أن تصبح حمالةً تحمل الأثقال، أو بناءةً تبني في شمس الظهيرة، وقد أعزها الإسلام بأن تكون معززةً مكرمة مخدومةً، منفقاً عليها، وهناك من يتولى أمرها ويحرص عليها، وعملها في ميادين تحتاجها أخواتها وبغير اختلاط، وبغير إسفاف، وبغير تضييع المهمة الأولى؟!! عجباً أن يقال مثل هذه الأمور! وتقول أخرى: نحن اليوم نرى في بعض الشركات الكبرى المهندسات السعوديات وهن مسئولات عن رجال. ولست أدري كذلك لم يقال مثل هذا؟! لكنني أنقلكم إلى صور أخرى كثيرة، هي الأصل. لا تسمعوا إلى صوت واحد، وتنسوا آلاف وعشرات من الآلاف ومئات من آلاف الأصوات، فخلال الفترات الماضية كان هناك اكتتاب لبنك جديد، وأعلم أنكم تعلمون أن عشرات الآلاف كل يوم يتصلون ويسألون العلماء وطلبة العلم والدعاة: هل يجوز الاكتتاب؟ هل هذا البنك يعمل وفق الشريعة الإسلامية؟ و Q لماذا يسأل أولئك الآلاف، والأموال في جيوبهم، والأرباح معروفة عندهم؟! إنهم وقافون عند دين الله وشرع الله، إنهم يمثلون الحقيقة العظمى، وهي أن الإسلام طبع في نفوسهم وقلوبهم، فإذا جاءت بنوك إسلامية فهي الأصل وغيرها الشاذ، وإذا جاءت أعمال تفصل بين الرجال والنساء فهذا هو الأصل وغيره الشاذ، دعوا الشذوذ في البلاد الأخرى يعتدل إلى الأصل، ولا تطلبوا من الأصل أن يعود إلى الشذوذ؛ فذلك لا يفعله إلا الحمقى والمغفلون. ونعود مرة أخرى إلى صور مختلفة ومغايرة ومتنوعة: ففي هذه الانتخابات البلدية، قال المسئول الأول عن الأمن: كلنا تيار إسلامي ونحن مسلمون في هذه البلاد. عجباً من سيتقدم؟ إنهم مواطنو هذه البلاد، والأصل أنهم مسلمون، فإن شذ شاذ، أو رأى نفسه على غير ذلك، فهو وشأنه، لكن التيار العام الأصيل الغالب هو هذا الإسلام، والمسلمون هم الذين عاشوا وما زالوا يعيشون بروح الإسلام، وإن وجد تقصير أو تفريط أو تجاوز فهو الشذوذ الذي يرد بالدعوة والحكمة والموعظة الحسنة، والاستعانة بعد الله بأهل المسئولية، وقيام هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك كله ظاهر واضح، وهذا أمر يطول الحديث فيه. خلاصة القول: بلد الإسلام دستورها الإسلام، وتاريخها الإسلام، وواقع أبنائها يدين بذلك، وكثير من المقيمين فيها ما جاء أكثرهم لدرهم ودينار فحسب، بل جاءوا يريدون أن يفيئوا إلى ظلال يتنفسون فيها أنفاساً طاهرةً نقية، ليس فيها عهر ولا فجور ولا اختلاط ولا تبرج ولا مجاهرة بنقد الإسلام والتجرؤ عليه، وذلك هو الحق الذي نحتاج أن نتعاون على إظهاره وإبقائه، وتطبيعه، فنعم هذا التطبيع! نسأل الله عز وجل أن يشيع الإسلام في قلوبنا ونفوسنا، وعلى ألسنتنا وأقوالنا، وفي أعمالنا وأحوالنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يختم لنا بالصالحات. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

لماذا ينكرون علينا تطبيع إسلامنا في مجتمعاتنا

لماذا ينكرون علينا تطبيع إسلامنا في مجتمعاتنا إذا أردنا تطبيع إسلامنا أنكره علينا من ينكر، مع أن لنا الحق في ذلك، فنحن بلد دينه الإسلام، وهذه هي بلاد الإسلام، والمجتمع الذي يعيش في هذه البلاد مجتمع مسلم، ليس بين أفراده من يدين بغير الإسلام، ثم مع هذا كله نجد من يقول: لم يكون الإسلام حاضراً؟ ولم يكون حاكماً؟ ولم يكون هو في حياة الناس واقعاً وظاهراً؟ أمر عجيب، ولكنه يرى مع كل ذلك. تعميم من ولي الأمر ورأس الدولة نصه يقول: إن السماح للمرأة بالعمل الذي يؤدي إلى اختلاط بالرجال، سواء في الإدارة الحكومية أو غيرها من المؤسسات العامة والخاصة أو الشركات والمهن أمر غير ممكن، سواء كانت سعوديةً أو غير سعودية؛ لأن ذلك محرم شرعاً، ويتنافى مع تقاليد هذه البلاد، وإن كان هناك دائرة تقوم بتشغيل المرأة في غير الأعمال التي تتناسب مع طبيعتها، أو في أعمال تؤدي إلى اختلاطها بالرجال فهذا خطأ يجب تلافيه، وعلى الجهات الرقابية الرفع عنه. فلماذا نحن نرى أن هذا هو الأصل في ديننا، وفي نظام بلادنا، وفي توجيهات وتعليمات المسئولين عندنا، ثم بعد ذلك لا نزال نرى أن بعضاً منا قد يتحسس من أمر من أمور الشريعة أو يتوجس منه! إن الشاذ هو أن نرى امرأة غير متحجبة، إن الغلط والخطأ هو أن نرى صوراً من الاختلاط، والأصل أن يرد إلى أصله من دين الله ومن نظام البلاد؛ ولذلك ينبغي علينا أن نطبع الإسلام في واقعنا؛ لأنه ديننا، ولأنه نظام دولتنا، ولأنه واقع حياتنا الاجتماعية، ولأنه لم يكن غيره. وانظروا إلى البلاد الأخرى، يكون فيها ما يسمى بالمعارك الطويلة العريضة؛ لأجل أن يضيفوا كلمة واحدة، مثل: دستور الدولة الإسلام، والأحكام أساسها الإسلام، ونحن ليس عندنا شيء من ذلك، كله في السياسة التعليمية والإعلامية يتطابق مع الإسلام، لكن نحن الذين نقصر في التشرف بديننا، وفي إعلان هذه الأنظمة وإشاعتها، والتشبث بها، وبيان أن مخالفها مخالف للدين أولاً، ولنظام البلاد ثانياً.

دستور الدولة السعودية إسلامي بحت

دستور الدولة السعودية إسلامي بحت نحن في بلد الإسلام، فمن الطبعي أن يكون الدين الإسلامي حاكمنا، وأن تكون شرائعه هي فصل ما بيننا، وأن تكون آدابه هي الأمر الذي يشيع في واقعنا، وأن تكون أحكامه وكل ما يتصل به هو الذي تخفق به قلوبنا وتتكلم به ألسنتنا، وغيره هو الشاذ المرفوض، وكل أحد يتعامل معنا ينبغي أن يعرف ذلك وأن يراعيه، فدستور هذه البلاد في أول مادة من مواده: المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولغتها العربية. وفي مادة أخرى وهي المادة الحادية والأربعون تنص على أنه: يلتزم المقيمون في المملكة بأنظمتها، وعليهم مراعاة قيم المجتمع السعودي، واحترام تقاليده ومشاعره. هو الذي جاء إلى بلدي فعليه أن يتطبع مع واقعي، وأن يستجيب لحكمي والسائد في نظامي، هل رأيت بلداً ذهبت إليها غير نظامه لأجلك أنت أيها الزائر؟! فما بالنا نرى ملتقيات أو منتديات تكرس عكس ذلك، وتريد أن تقنعنا بأنه من لوازم ما نحتاج إليه لتحسين صورتنا في العالم! أي صورة هذه التي نريد أن نحسنها بتشويه انتمائنا إلى ديننا وعقيدتنا وتاريخنا وحضارتنا؟! وانظر كذلك إلى أمور كثيرة، نحن عندما نقول نريد الإسلام في كل شأن من الشئون، لاسيما في الناحية الاجتماعية، في حجاب المرأة المسلمة -مثلاً- وحشمتها وعفتها، ليس ذلك قولاً نقوله من عند أنفسنا، إنه كتاب الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59]. ثم يأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ويخبرنا بحقائق الاختلاط ومثالبه، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء، قلنا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) أي: أقارب الزوج، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما). ولقد عجبت أيما عجب، عندما شاهدت وسمعت بأذني حواراً عجيباً على قناة إعلامية، شاب وفتاة متبرجة يتحدثون بهذا الأمر، وبأن هناك حديثاً يقول كذا وكذا، فتنطق الفتاة في مقام الإفتاء، أو الإصدار عن قول لهيئة كبار العلماء أو نحو ذلك تقول: نعم، إن الرسول قال: (إن الشيطان ثالثهما)، لكنه لم يقل إنه سيغلبهما، فقد يكون ثالثهما، ولكنهما ينتصران عليه ويغلبانه، فلا يتأثران بشيء من هذه الشهوات الآثمة، ويمضي الفتى وبيده الفتاة، والآخرون يرون ذلك ضرباً من سهم سليم، وسلوك حضاري راق. هذا الذي يراد أن يروج ويراد أن يطبع.

محاربة الدين والترويج للمنكر

محاربة الدين والترويج للمنكر أمور شاذة مرفوضة، يراد لها أن تصبح في واقع الأمة طبعيةً مقبولة، وهذا مثل الذي ذكرته. لكن هناك أمر أخطر، وهو تحويل ما هو مألوف وصحيح ومقبول من أسس ديننا، ومن أعراف مجتمعنا، ومن صفحات تاريخنا، ومن عراقة حضارتنا، إلى مرفوض وغريب وشاذ، فيأتينا من يرى أن امتلاء المساجد بالناس ظاهرة إرهابية، أو أن كثرة طلاب التحفيظ مظنة مخاطر إجرامية، أو أن انتشار الدعوة وشيوعها سيطرة فكرية إرهابية أو غير ذلك من الأمور، حتى إن المرء عندما يلحظ هذه الهجمة الإعلامية ينظر إلى نفسه، هل لا زال يقف على قدميه، أم أنه قد أصبح الأمر على غير ذلك؟! كيف يقال هذا في هذا المجتمع المسلم وفي هذه البلاد بلاد الحرمين، ومهبط الوحي، التي قامت في أساسها على التعاون بين الدولة والدعوة! تلك هي القضية الخطيرة، والأخطر منها أن يحصل الأثر بذلك، وتجد الناس قد أصبحوا يبتعدون عن مثل هذه الأمور ويخشون منها، ويرون فيها شبهةً أو غير ذلك، تلك هي القضية الخطيرة، سيما في هذه البلاد، بلاد الحرمين، يقول الله جل وعلا مخاطباً أمة الإسلام بخطاب رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]. تحكيم الشريعة اليوم في عالم القرية الواحدة، وعصر العولمة النافذة، والإعلام الغازي، أصبح أمراً غير مقبول، إنه يناقش اليوم في دوائر السياسة العالمية، والمؤتمرات الدولية، وكأنه ليس لأمتنا حق في دينها وتاريخها وحضارتها وإرثها الاجتماعي وسموها الأخلاقي. ولعلنا ننتبه كذلك إلى أمر مهم -ونحن نرى تعاظم الحملات على هذه البلاد- وهو ما سمعناه قريباً من تقارير عديدة تأتي من أقاصي الدنيا، مما وراء المحيطات، تقرير عن اختلال الحريات الدينية في بلاد الحرمين، وتقرير آخر عن الإرهاب الفكري المسوق إلى المساجد والمراكز الإسلامية في البلاد الغربية، عبر جهود مخلصة دعوية أو دبلوماسية، وتجد كذلك مناقشات عظيمة وتقارير عجيبة في مثل هذا الشأن، وذلك أحسب أنه لا يخيفنا من جهة، ولا يربكنا من جهة أخرى، فماذا نتصور؟ وهل نتوقع ممن لا ينطق بلغتنا أن يتكلم بلسان عربي مبين؟! ذلك أمر واضح، لكن الخطر أن نسمع مثل هذا القول أو قريباً منه بألسنتنا، ومن بعض أبناء جلدتنا، وفي بعض واقعنا، ذلكم هو الأمر الخطير الذي ينبغي أن ننتبه له، فباسم الانفتاح، وباسم إظهار الصورة المشرقة، قد يأتينا من يريد أن يغير الصحيح المألوف المعروف ويجعله شاذاً غريباً، ويريد في مقابل ذلك أن يجعل الغريب الشاذ هو الطبعي؛ ولذلك نحن لا نريد ذلك التطبيع، وإنما نريد التطبيع الإسلامي.

ثلاث لفتات على الطريق

ثلاث لفتات على الطريق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله سبحانه وتعالى الحفاظ على هذا الدين مستقراً في القلوب، مستكناً في النفوس، حاكماً في الواقع، ظاهراً في المعاملات، فلا يشذ عن هذا الدين شيء من اقتصاد ولا سياسة ولا قضاء ولا غيره. وهناك لفتات ثلاث أختم بها، وأنبه عليها، وأحسب أنه بعد حديثنا الموجز هذا ينبغي أن نلفت أنظارنا إلى هذا المعنى، وهو أن نحرص على بقاء الأصل كما هو؛ لئلا يدور الزمن فنعود كغيرنا من البلدان، فنجد الشذوذ -لا قدر الله- قد صار أصلاً، والمنكر قد صار معروفاً، ونعود نطالب بأمور كانت هي الواقع الذي نعيشه، وهذه لفتات وكلمات ورسائل ثلاث: الأولى: ليعلم الذين يتكلمون ويجترئون على بعض الأمور، أنهم لا يجترئون على الأفراد والآحاد، ولا يجترئون على الأعراف الاجتماعية، إنما اجتراؤهم في الحقيقة اجتراء على نصوص قرآنية، وأحاديث نبوية، وعلى سيرة عطرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم. إن الذين يعارضون مثل هذه المسائل المحكمة في ديننا، من فرضية الحجاب، ومنع الاختلاط وغيرها، إنما هم في حقيقة الأمر يعارضون هدي رسولهم صلى الله عليه وسلم، والأحاديث والقصص في سيرته في هذا الباب كثيرة، منها الحديث المشهور عند الإمام أحمد من رواية أنس رضي الله عنه وهو غلام النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه، لما نزلت آية الحجاب وقد كان أنس كبر قليلاً، قال: (فجئت أدخل، قال: على رسلك يا بني!)! فقد أصبح الأمر مختلفاً، وجاء التشريع بفرضية الحجاب. ولما خرجت سودة رضي الله عنها تريد قضاء حاجتها، فرآها الفاروق عمر وكان غيوراً على حرمات المسلمين عموماً وعلى أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصاً، فقال: قد عرفناك يا سودة! ونزلت آيات الحجاب، واحتجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال عمر: (يا رسول الله! احجب نساءك). وغير ذلك كثير، والقصص والروايات الصحيحة فيه وافرة. الأمر الثاني وهو في نظري كذلك خطير: كل من يسعى إلى كسر المألوف الاجتماعي المعتمد على الأصل الشرعي، كأن يقوم بنشاط فيحدث فيه اختلاطاً بضم النساء إلى رجال، أو غير ذلك من صور الاختلاط، أو يحاول تغيير اللسان إلى لغة أخرى، والعملة إلى عملة أخرى في وسط بلادنا وفي عقر دارنا. أقول: إنكم إذا اجترأتم على ذلك فإنكم إنما تضرون أنفسكم، وستعضون أصابع الندم، فإن غيرنا ممن ابتلاهم الله عز وجل في بلاد إسلامية وغير إسلامية قد جنوا الحنظل، وخرجوا بالشوك من مسيرة الاختلاط والفسق والفجور، وأول الغيث قطر ثم ينهمر. وثالثة -أحبتي الكرام- لي ولكم: نحن أصحاب الحق، فينبغي أن ننطق به، نحن الأصل، والشذوذ ينبغي أن يقال إنه شذوذ، نحن أصحاب الدين القائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن خالفهما فنحن نقول له: أنت مخالف ولا كرامة، فكيف وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). وكذلكم نقول ذلك مستندين إلى نظم الدولة، وإلى تعليماتها وتصريحات المسئولين فيها، وقد كان أحد كبار المسئولين يقول: أمران لا مساومة فيهما: العقيدة الإسلامية، وأمن الوطن. إذاً: نحن ندافع عن ديننا ونظام بلدنا، وتصريحات وتوجيهات وتعليمات القيادات العليا، وولاة الأمور فينا، فنحن كل شيء في صفنا، ونحن باقون على الأصل الذي ينبغي أن نحافظ عليه. أسأل الله عز وجل أن يحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها، ومحافظتها وحسن أخلاقها، وانتظام وائتلاف مجتمعاتها. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تولى أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسأل العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الرحمين. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، يا قوي يا عزيز؛ يا منتقم يا جبار؛ اللهم أنزل بأعداء الإسلام والمسلمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين، والمبعدين والأسرى، والمأسورين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين. اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واحفظ اللهم أئمتنا وولاة أمرونا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

تأملات في صيام عاشوراء

تأملات في صيام عاشوراء يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجا الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنده، فصامه موسى عليه السلام شكراً لله، ولما كانت دعوة الرسل واحدة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامه محبة لموسى، واعترافاً بالشكر لله وحده، وقد احتسب أن يكفر الله به ذنوب عام كامل.

وقفات في صيام عاشوراء

وقفات في صيام عاشوراء الحمد لله أكرمنا بالإيمان، وهدانا بالقرآن، وأعزنا بالإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، له الحمد سبحانه وتعالى جعلنا من بين الأمم أمة وسطاً، وجعل لنا الشهادة على الأمم وإن كنا في آخرها زمناً، له الحمد جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، وله الحمد في الأولى والآخرة حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! تأملات في صيام عاشوراء، ونحن في هذا اليوم من شهر الله المحرم، ولهذه التأملات فوائد ومنافع أجلها وأعظمها استشعار نعمة الله جل وعلا بهذا الإسلام، وباتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم، إنه بقدر ما نعمق هذا المعنى في نفوسنا يكون اطمئنان قلوبنا، ورضا نفوسنا، وحبها لإسلامنا وإيماننا من جهة، وبقدر ذلك يكون التشبث والتعلق والثبات على هذا الدين من جهة أخرى، وبقدر ما يكون البذل والفداء والتضحية لأجل الإسلام والدين من جهة ثالثة، إن كثيراً من الأمور في حياتنا وفي تشريعات إسلامنا تمر بنا من غير أن نقف معها لنتلمس حكم التشريع، ولنتأمل في جليل نعم الحق جل وعلا، ولنبصر عظمة هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، نعم قد نؤدي العبادة، وقد نطبق السنة، وقد نسارع إلى الفضيلة، غير أننا لا نستشعر الإطار العام الذي يربطنا بهذه الشعائر، ويجذبنا إلى تلك السنن، ويبصرنا بحقائق الفضل والإنعام في شريعة الإسلام. روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموا)، وفي رواية مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فلما سأل قالوا: إن موسى صامه، وإنه اليوم الذي نجا فيه من فرعون، وغرق فيه فرعون، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، وقال: نحن أحق بموسى منهم). وفي رواية عند البخاري قال: (فصامه موسى شكراً لله تعالى) وفي رواية ثالثة: (أنه لما قدم المدينة فرأى اليهود يصومونه قال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه).

إيمان هذه الأمة بجميع الرسل السابقين

إيمان هذه الأمة بجميع الرسل السابقين ثم انتبه إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منهم)، كل فضل فيما مضى، وكل خير وتشريع فيما سبق أقره الإسلام، ونحن أخذنا منه بالحظ الوافر. ثم (نحن أحق بموسى منهم)؛ لأنا نؤمن بموسى عليه السلام، ونؤمن بمن جاء بعده وهو عيسى عليه السلام، ونؤمن برسل الله وأنبيائه لا نفرق بين أحد منهم، واليهود في جملتهم لم يؤمنوا بعيسى عليه السلام، وكفروا برسالته، وسعوا إلى قتله، ولم يؤمن جلهم كذلك بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا بها وسعوا إلى قتله، ونحن نؤمن بالرسل والأنبياء، ونعظمهم ونوقرهم، ولا نفرق بين أحد منهم. ثم ماذا كان شأن بني إسرائيل مع موسى عليه السلام؟ والقرآن قد قص علينا من ذلك قصصاً فيما جحدوا، وفيما أتعبوا فيه موسى، وفيما خالفوه فيه، وفيما استبدلوه من نعمة الله عز وجل، واتخذوا العجل إلهاً معبوداً لهم وغير ذلك كثير، فينبغي لنا أن ندرك نعمة الله عز وجل علينا، ورحمته بنا، وتفضيله لنا، وتمييزه لنا عن غيرنا قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ينبغي أن يكون ذلك إيماناً ويقيناً راسخاً بفضل أمة الإسلام وأهل الإسلام، لا كبراً ولا استعلاء، ولكن علماً وتمييزاً وتعريفاً في هذا المجال.

مخالفة أهل الكتاب

مخالفة أهل الكتاب ثم تأمل كذلك مسألة مهمة في شأن المخالفة أشار إليها علماء السنة وشراح الحديث، فيما ساقه ابن حجر في شرحه على البخاري قال: ورد في مسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)، فمات قبل ذلك، ثم أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر يحب أن يوافق أهل الكتاب ويخالف أهل الأوثان، فلما فتح الله مكة وانتشر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب، أي: تمييزاً لأمة الإسلام عنهم. وهنا دروس كثيرة من فطنة، وحكمة، ومراعاة للواقع، والتفات إلى تحصيل المصالح، إن قارنا إيماناً ورسالات سماوية وكتباً ربانية، وإن وقع فيها تحريف وتغيير وتبديل، لا نستطيع أن نجعلها في مرتبة كفر وشرك وعبادة أوثان، فتلك أقرب، والموافقة لها أنفع، وكان ذلك من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس أن آثار النبوة واحدة، وأن أصلها من الله جل وعلا، وأن الوحي في أصله وفي الدين الذي جاء به إنما هو توحيد الله والإسلام. ثم لما اقتضت الحكمة من بعد قوة الإسلام وانتشاره، وهزيمة الشرك واندحاره، وبطلان الجاهلية وانطفاء أنوارها، وذهاب هيبتها، أراد أن يعلم المسلمين وغير المسلمين بتميز الإسلام وفضله، فكانت له توجيهات وإرشادات إلى المخالفة المقصودة لذاتها تمييزاً وتفضيلاً كما قال أهل العلم، قال: (لأصومن التاسع) أي: وحده، وهذا قول وإن كان ليس هو الأقوى، أو لأضيفن إلى العاشر التاسع مخالفة لليهود والنصارى من جهة، وزيادة في الفضل والعمل من جهة أخرى، ومن هنا قال العلماء: إن صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: أن يصام وحده، فهذه مرتبة، وأفضل منها أن يصام معه التاسع، وأفضل منها أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده فيجمع فضل الصوم، وإدراك إصابة السنة، وتحقيق مخالفة اليهود، وزيادة العمل. نسأل الله عز وجل أن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب، وأن يوفقنا لمتابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يعيننا على شكر الله عز وجل على نعمه، والقيام بحقها، والحمد لله رب العالمين. وأقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

شرف الأمة المحمدية وسبقها على الأمم الأخرى

شرف الأمة المحمدية وسبقها على الأمم الأخرى هنا تأملات، أولها: شرف الأمة المحمدية، وسبقها وفضلها على غيرها، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، إلا أنا أوتينا الكتاب من بعدهم)، (نحن الآخرون) أي: زماناً، (السابقون) أي: فضلاً يوم القيامة، (غير أنا أوتينا الكتاب من بعدهم) أي: من الناحية التاريخية والزمانية. وأخبر صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: أن اليهود ضلت فاتخذت السبت، وأن النصارى ضلت فاتخذت الأحد، وأن المسلمين هدوا إلى الصواب والحق؛ فجعلوا الجمعة عيدهم، وسبقوا بها غيرهم.

فضل الشكر

فضل الشكر الشكر فضله كبير قال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، ومن رحمته جل وعلا ما بينه في قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147] فالشكر من أسباب دفع النقم، وحماية المؤمن، ووجود الأمن النفسي والواقعي، قال ابن كثير في هذا السياق: ثم قال جل وعلا مخبراً عن غناه عما سواه، وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ)، وقال السعدي: إن الله لا يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم، وإنما العاصي لا يضر إلا نفسه، كما أن عمل المطيع لنفسه. وذلك ما ينبغي أن تتأمله أخي المسلم، فكل أمر من الأمور التي تحل بك إن خيراًَ أو شراً معقده ومربطه عملك ونيتك، إن شكرت وآمنت وعملت صالحاً وجدت طمأنينة قلب، وسكينة نفس، وهدوء بال، وسلامة جوارح، وبركة وقت ومال وغير ذلك، وإن كانت الأخرى فاعلم أن ما يصيبك من هم أو غم أو عثرة أو غير ذلك فإنما سببه جحد النعم، أو استعمالها في غير محلها، والله جل وعلا قد بين ذلك قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]. ومن هنا ينبغي لنا أن نتأمل في هذا الموقف العظيم، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قدم المدينة فوجدهم يصومون عاشوراء -أي: وجد اليهود- فسأل، وهنا مسائل: قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يكن في شهر الله المحرم، والمقصود أنه لم يعرف ذلك إلا بعد قدومه للمدينة، ولم يعرفه في مقامه بمكة، وليس المقصود وقت قدومه، بل أقام في المدينة، فلما جاء هذا اليوم وجد اليهود يصومونه فسأل عنه، وصح الحديث عند مسلم من رواية عائشة: أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه، وأن النبي صامه قبل قدومه للمدينة، وأنه لذلك لم يفعل أو لم ينشأ الصوم، ولا حكمه، ولا سنته، لما كان من شأن اليهود كما ذكر الأئمة من شراح الحديث كـ المازري وعياض والنووي وغيرهم، قالوا: لم يحدث ذلك استناداً إلى خبر اليهود، وإنما كان أمر اليهود وصف حال، وإجابة سؤال؛ لأنه كما قال المازري: خبر اليهود غير مقبول، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بصدق ما قالوه، أو تواتر عنده النقل حتى حصل له بذلك العلم، وكذلك قال غيره: أخبره بذلك بعض من أسلم من اليهود وهو مصدق مقبول القول، ثم حديث عائشة يشير إلى ذلك كما قاله عياض: روى مسلم أن قريشاً كانت تصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هي صفة حال وجواب سؤال. ثم لننظر إلى أمر آخر جدير بالعناية والتأمل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منهم)، ثم يأتينا التأمل في الروايات الأخرى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهي عند مسلم: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، وفي رواية عند الإمام أحمد في مسنده بسند فيه مقال عن ابن عباس قال: (خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده).

معنى الشكر

معنى الشكر شكر النعم أول درس نلمحه في ذلك، ويلفت إلينا فيه النظر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ويبين أن هذا نهج أهل الإيمان، فموسى النبي المرسل كليم الله عز وجل فعل ذلك، ورسول الله فعله، وأمر أمته بفعله، فصامه موسى شكراً فقال: (نحن أحق بموسى منهم). ثم تأمل الشكر؛ فإن دلالته عظيمة: قال السعدي في معناه: هو خضوع القلب واعترافه بالمنعم، وثناء اللسان عليه بالقول، وعمل الجوارح بمقتضى طاعته، وعدم استخدام نعمته في معصيته. فما أعظم هذا المعنى وأوسعه وأشمله! إنه يتناول القلب في سويدائه، والنفس في أعماقها؛ شعوراً بالامتنان والاعتراف، والإقرار بالمنعم الواهب الرازق المعطي سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] وكم هي النعم التي لا يقدر أحد شكرها، ولا يستطيع بشر أن يؤدي حقها! وكلكم يعرف الأثر الذي فيه أن عابداً قضى عمره في عبادة الله، ثم بعثه الله جل وعلا، وأمر أن يدخل الجنة برحمته، فقال العبد: بل بعملي يا رب! فقال الله جل وعلا لملائكته: زنوا عمله بنعمة بصره، فرجحت نعمة البصر بعمله كله، ولم تستطع أن توفيها حقها، فقال: بل برحمتك يا رب! ومن هنا نعرف قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). ومن الشكر الثناء باللسان قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] كم من الناس من تسأله عن حاله فيدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويأتي بالهم والغم، ويذكر المآسي والشرور، ولا يحمد الله عز وجل أن رد إليه روحه بعد أن أنامه، ولا يحمد ربه أن حفظ عليه إسلامه وإيمانه، ولا ينظر إلى ما سلب من غيره من نعم وهو ما زال متسربلاً بنعمة صحته وعافيته! ومن الشكر عمل الجوارح بمقتضى النعم، أين البصر وأين يرسل؟ أين السمع وإلام ما يصغي؟ أين اللسان وبم ينطق؟ أين الأقدام وإلى أين تسير؟ أين الأيدي وماذا تخط وماذا تعمل؟ {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13]. ومن الشكر بالعمل ألا يستخدم نعمته في معصيته، كم نحن في حاجة إلى أن نتأمل في حكمة الشريعة نحن نصوم ونصوم ونتابع السنة غير أنا لا نلتفت إلى المعاني الدقيقة، وتجد اللفتات الإيمانية والتربوية في نصوص قليلة، وكلمات معدودة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أهمية شكر الله عز وجل

أهمية شكر الله عز وجل ثمة وقفات كثيرة في صيام عاشوراء، منها أهمية شكر الله عز وجل على النعم، وأن النعم تكون بفضل الله عز وجل ثواباً وجزاءً لفعل الخير، وللتشبث بالإيمان واليقين، والثقة بوعد الله عز وجل، وصدق التوكل عليه، فإن نجاة موسى عليه السلام كانت أمراً خارقاً للعادة، ومعجزة لنبي الله عز وجل موسى. وكانت أعظم دليل على عظيم يقينه، وقوة إيمانه، وصدق توكله على ربه، وعظيم ثقته بالمخرج الذي يسوقه الله عز وجل لكل مؤمن به وصادق معه: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لم يروا للنجاة بصيص أمل، فقد كان فرعون من ورائهم، والبحر من أمامهم، مع قلة عددهم وعتادهم، وضعف إيمانهم، وعدم قوة يقينهم قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، واللفظ القرآني معجز في بيان بلاغة معناه (إنا) إما على سبيل التوكيد، وقد تقع جواباً لقسم، أي: والله إنا لمدركون، والإدراك: هو الإحاطة من كل جانب، فليس ثمة منجى ولا مهرب، غير أن لسان الإيمان، ودليل التوكل تجلى في قول موسى عليه السلام في جانبين اثنين: (كَلاَّ) أي: ذلك قول غير مقبول في منهج الإيمان، وغير مرضي عند أهل اليقين. ثم قرر الحقيقة الأخرى بتقرير أشد في التوكيد، وأعظم في التصديق من قول أصحابه في التوهين والضعف فقال: (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) والتوكيد في (إن)، وتقديم المعية؛ استشعار إيماني عظيم صادق كأنما هو رأي عين، كما حصل من المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم كان في الغار فقال أبو بكر: (لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا! فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وذلك من عظيم الإيمان واليقين. {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] لم يكن موسى عليه السلام يعرف كيف سيكون المخرج، ولم يكن يرى سبيلاً واضحاً للنجاة، غير أنه يملك إيماناً في قلبه، ويقيناً في نفسه، وثقة بربه، سوف يأتي الفرج لكن لا يعلم بأي وسيلة سيكون! ثم جاءت الوسيلة على خلاف كل معهودات البشر؛ لتبين أن الإنسان الضعيف ينصر بقوة القوي القادر سبحانه وتعالى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] وما عسى أن تغني العصا؟! وما عسى أن يغني الضرب بها في البحر؟! وأي شيء ينتج من ذلك؟!! حصلت النتيجة الهائلة العجيبة الغريبة التي ليس لها نظير: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] البحر ينشق طرقاً لا طريقاً واحداً، وهي طرق ليست كالطرق الإلكترونية البشرية، بل هي طرق إلهية ربانية، بعد أن نجى الله موسى ومن معه أطبق البحر على فرعون ومن معه، وهنا استشعر موسى عليه السلام أن نعمة إيمانه ويقينه وتوكله أفاضت عليه من ربه نعمة نجاته وسلامته، ودحر عدوه، فجدد هذه النعمة بنعمة أخرى، فصام ذلك اليوم شكراً لله جل وعلا على ما من به من النجاة. وقد ساق الله جل وعلا لنا آيات الشكر في سياق قصة موسى عليه السلام، وفي معرض مخاطبته لقومه، قال جل وعلا: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، ثم جاء القول على لسان موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8].

فضل صيام يوم عاشوراء

فضل صيام يوم عاشوراء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا شك أن هذه معالم مهمة، معلم تذكر نعم الله والعمل على شكرها، ومعلم تميز أمة الإسلام والعلم بفضلها، ومعلم التميز بالمخالفة والمفارقة لغير أهل الإسلام فيما ورد به الشرع، ومعلم التجرد ومراعاة الواقع، وتحقيق المصالح فيما يكون من أمر المسلمين مع غيرهم بحسب تغير الأحوال وتبدل الأزمان، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعد ذلك نرى الفضل والأجر والثواب، فقد صح عند مسلم من حديث أبي قتادة في حديث طويل عن الصيام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحتسب في صيام عاشوراء أن يكفر السنة الماضية)، فيوم أو يومان يكفران عاماً كاملاً من الذنوب والخطايا، نعمة الله جل وعلا عظيمة، وفضله عميم، وعفوه ومغفرته ورحمته وسعت كل شيء. فلا يتعاظمن أحد تلك المغفرة، فإنها عند الله عز وجل كما أخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فنحن نتبع السنة، ونبتغي الأجر والفضل من الله عز وجل، ويجدر بنا مع ذلك أن نتدبر المعاني، وأن نلتفت إلى هذه الدلالات والتوجيهات والإرشادات، سيما وأن هذا الشهر هو من أفضل الشهور التي يكثر فيها العبد من الصوم، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم)، أي: الصيام منه والإكثار فيه من الصوم، وهو مفتتح العام، فكلما زدت فيه عملاً صالحاً رأيت لذلك أجراً وفضلاً. وفيه كذلك فضيلة الصوم، وأنه من أجل العبادات التي يتقرب بها إلى الله، والتي تشكر بها نعم الله لما فيه من الإخلاص والسر بين العبد ومولاه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يمن علينا برحمته ومغفرته، وأن ينيلنا رضاه ورضوانه إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة، اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وهذب أخلاقنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وامح أوزارنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم توفنا على الإيمان والتوحيد، وابعثنا على الشهادة، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويوم يقوم الأشهاد يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في زمرة المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن تحبهم وترضى عنهم، وتأخذ بأيديهم ونواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وتلهمهم الرشد والصواب، أعذنا اللهم من مضلات الفتن، ومن وساوس الشيطان، ومن قرناء السوء، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال يا رب العالمين! اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنهم طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا، وأذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا ندرأ في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، ولا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، واشف اللهم فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بهزيمتهم ودحرهم، وردهم على أعقابهم صاغرين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، ثبت اللهم خطواتهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم لطفك ورحمتك بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

تقديس وتدنيس

تقديس وتدنيس لقد عظم الله تعالى في الشرع أشياء وجعلها مقدسة مميزة على غيرها، فتعظيمها واجب، ولا يحل لمسلم أن يتناولها بالانتقاص أو الإهانة، وحرص المسلم على تعظيمها دليل على تقواه لله تعالى؛ لأن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، وينبغي أن يعلم المسلم أنها ما عظمت إلا بتعظيم الله تعالى لها، إذ هو سبحانه يصطفي من خلقه ما يشاء ويختار، فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.

مقدمة عن التقديس

مقدمة عن التقديس الحمد لله لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، له الحمد سبحانه وتعالى جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وعظمت صفاته، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه. فله الحمد كما يحب ويرضى، وله الحمد كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وله الحمد ملء السموات والأرض، وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن التقديس والتدنيس في أمور عظيمة جليلة لها في قلب كل مؤمن مخلص ومسلم غيور أعظم موقع وأسمى مكان، وإن المسلم اليوم يرى أموراً ويسمع أخباراً ما كان يخطر ببالنا -ولو على سبيل التخيل والرجم بالغيب- أن يكون مثلها. وقد يعجب بعض الناس ويتساءلون عن السبب الذي أوصل الأمة إلى هذا الموقف، وكلنا يعلم كم مر في الآونة الأخيرة من جرائم على مقدساتنا، بدءاً بتسفيه آيات القرآن العظيم، ومروراً بالعدوان والانتقاص للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتعريجاً على صور من التدنيس والإهانة لكتاب الله جل وعلا، وكذا العدوان على المقدسات الإسلامية كرّة بعد كرّة، ومرة بعد مرة، كما في بيت المقدس مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحسب أن بإمكاننا في مثل هذا الموضوع أن نرفع الصوت عالياً، وأن نستجيش العواطف لتختنق الحلوق بالعبرات، وتذرف العيون بالدمعات، وتهتز الرءوس بشيء من الاعتراف، وتلهج الألسن بحوقلة واسترجاع، ثم نمضي دون أن يكون لنا من وراء ذلك ما هو أعظم من هذه الصور الظاهرة، ومن هنا آثرت أن لا يكون حديثي على ذلك النحو الذي قد وصفته، فنحن لسنا في حاجة إلى الصراخ، فإنه يملأ الأجواء؛ ولسنا في حاجة إلى الاستنكار؛ فإنه قد ملئت به القنوات والإذاعات والمؤتمرات. ولكننا نحتاج إلى اكتشاف العلة ومعرفة الداء والنظر إلى المقدمات، ومعرفة الخلل الذي نشارك فيه جميعاً ولا يكاد يسلم فيه منا أحد إلا من رحم الله.

معنى التقديس وأهميته في الدين الإسلامي

معنى التقديس وأهميته في الدين الإسلامي التقديس معناه في أصل اللغة التطهير والطهارة، ويدخل فيه ويرتبط به في هذا المعنى شرف الصفات والخلال، ويتبع ذلك التعظيم والإجلال، وفيه كذلك الخير والبركة وحسن الحال والمآل. فكل أمر عظيم مقدس طاهر، منزه عن العيوب والنقائص، مشتمل على عظيم الصفات والخصال، ومن ثم فإن فيه الخير والبركة، ويجب له التعظيم والإجلال. فمن الذي يقدس؟ ومن الذي يجعل الشيء عظيماً محترماً وله أحكام تخصه في معاملته وفي توقيره وتعظيمه؟ إنها مسألة في أصل ديننا ليست مبنية على اجتهاد علماء، ولا اتفاق فقهاء، وإنما هي أحكام ربانية من الله جل وعلا. وهذا الاختيار من الله يدل على كمال الألوهية لله عز وجل {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]. هو الذي يختار جل وعلا، فيجعل من البشر رسلاً هم صفوة الخلق، ولهم مقام من التقديس والتعظيم يليق بنبوتهم ورسالتهم. وهو الذي يصطفي من البقاع بقاعاً فيجعلها مقدسة لها أحكام خاصة، ولها فضائل جليلة، وكل من يسيء إليها أو ينتقص من تعظيمها فله وعيد شديد وعذاب عظيم، بل وحد مشروع في الدنيا قبل الآخرة. فالله تعالى هو الذي جعل هذه الخصيصة لنفسه، ففضل من الأزمان أزماناً وجعل لها خصائص، وفضل من البشر خلقاً وجعلهم رسلاً وأنبياء، وفضل من البقاع بقاعاً وجعلها مواطن لبيته المقدس ومسرى رسوله الكري، ومسجده العظيم صلى الله عليه وسلم. هو الذي جعل ذلك حقاً له جل وعلا {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] وذلك من خصائص الحق سبحانه وتعالى، لا يحق لأحد أن يكون له من ذلك شيء مطلقاً، كما لا يحق لأحد أن يعترض أو يجترئ على ما خصه الله جل وعلا بالتقديس والتعظيم. والتدنيس في مقابل ذلك مرتبط بالنجاسة والإذلال والإهانة لما هو مقدس، فإنه يدخل على الشرف ما لا يناسبه، ويضيف أو يعترض على العظمة بما يناقضها، وذلك لا يجوز بحال من الأحوال، ولست هنا مفيضاً في هذا المعنى، لكني أقول: إن أعظم تقديس هو تقديس الله سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا الملك القدوس المنزه عن كل النقائص التي تلحق بغيره من الخلق جل وعلا. وتنزيه الله سبحانه وتعالى وتقديسه مقصود به تنزيهه عن كل ما لا يليق، كما قالت الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، ومقام ذات الله عز وجل أعظم مقام عند المسلمين المؤمنين، وكذلك كلام الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم له أحكام كثيرة ودقيقة، حتى إن الفقهاء فصلوا في كثير منها بحسب ما ورد من الاستفتاءات، ولعلي أشير إلى بعضها لنرى كيف يكون هذا التعظيم سارياً في كل أمر، حتى وإن كان في نظر بعض الناس صغيراً أو هيناً. إن الفقهاء يسألون عن مد القدم إذا كان في تجاهها أو في مقابلها المصحف (كتاب الله عز وجل)، فيفتون بالحرمة إذا كان في ذلك شيء من الاستهانة وعدم التعظيم، وفي فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم -مفتي المملكة السابق- ورد قوله: أما وضع المصاحف في أكياس خلقة من الخيش ونحوه وتعليقها فهذا لا يجوز؛ لأن فيه إهانة للقرآن، ولو لم تكن متعمدة. وسئل الشيخ يوسف الددوي -من علماء الأزهر الشريف- عن شرب الدخان في مجالس القرآن فقال: أما شربه في مجالس القرآن فهو حرام. وأفاض في بيان ذلك بأن فيه إعراضاً عن التدبر بالتلهي، وأن فيه إشعاراً بالاستهانة، وأن فيه إيذاءً لمن يصغون ويستمعون لكلام الله جل وعلا. وأمضي -أيضاً- إلى فتوى للعز بن عبد السلام إمام المجاهدين وعلم المفتين، فقد سئل: هل يجوز تسليم المصحف لذمي ليجلّده؟ وهل يجوز ترك كتب التفسير والحديث عند غير المسلمين؟ فأجاب رحمه الله: لا يجوز ترك كتب التفسير والحديث عندهم، ولا تدفع المصاحف ولا التفاسير ولا كتب الحديث إلى كافر لا يرجى إسلامه، وينكر على فاعله. أي: على فاعل ذلك. ولعل مثل هذه الصور عندما نسمعها نرى أن كثيراً منها يقع اليوم وليس في النفوس منه حرج، وأن غير ذلك -بل ربما أكثر منه- نراه في واقع أمة الإسلام. ألست تسمع الإقسام بالله عز وجل يسرد ضمن الغناء مع الألحان، يقول مغنٍ وضيع أو راقصة داعرة؟! ألم تسمع أن مغنياً عربياً أدخل بعض آيات من القرآن في سورة يوسف عليه السلام في أغنية لحنها وغناها؟! ألست تسمع صوراً كثيرة في واقع المسلمين اليوم كلها عند من يدقق في معنى التقديس والتعظيم تجرحه وتخدشه، وقد تصل إلى صور عظيمة من الإهانة يأتي الحديث عن خطورتها وعن عظمتها وعما حكم به بعض أهل العلم بكفر فاعلها؟! إن مثل هذه الأحوال لا تجوز الاستهانة بها، ولا التهوين من شأنها، فإن كل صورة من صور الاستهزاء المناقض للتعظيم فيها أحكام صارمة {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. قالها قوم من المنافقين في غزوة تبوك أثناء مسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، قال بعضهم لبعض: ما رأينا مثل أصحابنا هؤلاء أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء -يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفوة المختارة من أصحابه رضوان الله عليهم- وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزل عليه الوحي بهذه الآيات، وعلم المنافقون بهذا، فابتدر أحدهم إلى ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يستعطفه والقرآن ينزل: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]. ويأتينا مثل هذا كذلك فيما أجمع عليه علماء الأمة في شأن سب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والانتقاص من قدره ومقامه ولو بصورة من الصور التي قد يراها بعض الناس تحتمل تأويلاً، فقد نقل أهل العلم الإجماع على ذلك. قال القاضي عياض رحمه الله: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابّه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر. ليست هذه المسائل هينة، إنها عند علماء الأمة في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم المسائل وأجلها؛ لأنها تتعلق بالمقدسات. وتأمل قول الحق جل وعلا: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، وتأمل قول الله عز وجل في حرمة البيت الحرام ودخول المشركين إليه، وتأمل كل الأحكام المتعلقة بكل ما قدس الله سبحانه وتعالى ونزه من هذه المقدسات التي جعلت لها أحكام خاصة تعظيماً وإجلالاً وتوقيراً. ألا نعرف أحكاماً كانت لمناجاة النبي صلى الله عليه وسلم؟! ألا نعرف أحكاماً خاصة في خفض الصوت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؟! ألا نعرف أحكاماً خاصة في طريقة نداء وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ألا نعرف أحكاماً خاصة بالقرآن كيف يتطهر له، وكيف يحترم عند قراءته، وكيف يجل في تدبره، وكيف يعظم في العمل به؟! ألا نعرف كل ذلك؟! ولكننا نرى صوراً منه في واقع حياة أمتنا تتسرب قليلاً قليلاً، ويألفها الناس شيئاً فشيئاً، ثم نأتي إلى صور أعظم هي التي تكاد اليوم تلفت أنظار الناس، أصبح اليوم هناك من يسمع أو يرى المنكر الذي ليس بعده منكر فلا يتغير ولا ينكر، يسمع الكفر البواح وكأنه لا يعنيه شيء. وما بعد ذلك من أمور عظيمة ومقدمات لما بعدها نجدها اليوم في واقعنا، حتى إننا نجد ذلك متفاوتاً في الأجيال، حيث تجد الكبير منا اليوم عنده من توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقير القرآن الكريم وتوقير بيوت الله عز وجل ما لا نجده بالقدر نفسه عند كثير من الجيل الناشئ؛ لأنهم لم يعودوا على التوقير والتعظيم المناسب الملائم الذي ينبغي أن يربى عليه الأبناء منذ نعومة أظفارهم. لقد قال الحسن: كانوا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعلم الآية من القرآن. وكان كذلك تعظيم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، حتى إن ابن عمر رضي الله عنه أراد أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن شجرة مثلها بالمسلم هي النخلة، فاستحيا ابن عمر أن يجيب لأن في القوم أبا بكر وعمر! كل هذه المعاني كانت جلائل وعظائم في النفوس مبنية على تعظيم الإيمان وتثبيت وترسيخ اليقين في القلوب، فلما ضعف الإيمان وتزعزع اليقين وهانت وضعفت الهمم وذلت النفوس أصبحت لا تنتفض إلا في النادر. عندما نستمع اليوم إلى تصريحات اليهود -عليهم لعائن الله- مرة بعد مرة وهم يزمعون على أن يدخلوا إلى بيت المقدس ويدنسوا المسجد الأقصى نسمع الناس يتحدثون، ونسمع الأخبار تتناقل، وكأن شيئاً في هذه الحادثة لا يحدث، وكأن الأيام والليالي والأعوام والأشهر والأحداث المتتالية والأفعال الإجرامية المتوالية والخطط الداعية إلى الحفر تحت بيت المقدس وغيرها لا تسمع ولا تُعلم ولا يلتفت إليها.

وقفة مع الواقع المعتدى فيه على الشريعة

وقفة مع الواقع المعتدى فيه على الشريعة كأن الأمة تحتاج إلى ضربات قاتلة لتستفيق وتستيقظ، وكأنها أدمنت كثيراً على ما يحل بها في كل يوم وليلة، وقد سمعنا خبراً جلياً عن تدنيس بعض الجنود الأمريكيين للمصحف الشريف في معتقل غوانتنامو، وقد ورد ذلك في صحفهم وأخبارهم، وسمعنا أن بعض المحققين كانوا يضعون المصاحف في دورات المياه إهانة للمعتقلين، وأنه في بعض الوقائع وضعوا المصاحف داخل المراحيض نفسها، وأن سبعة من إخواننا في أفغانستان قتلوا في يومين في مظاهرات انتصاراً لكتاب الله عز وجل واحتجاجاً على هذه الأفعال الشنيعة. وأحسب أننا بإمكاننا أن نثير الأشجان والأحزان، ولكنني أقول: هل نحن نعظم كتاب الله كما ينبغي؟! وهل نحن نعظم رسولنا صلى الله عليه وسلم كما ينبغي؟! وهل نحن نغار على حرمات الله عز وجل كما ينبغي؟! وهل دافعنا عن كل حدث قد مضى قبل ذلك؟! وقد مضت أحداث مشابهة ومماثلة، إلا أن صورة مهمة ينبغي لنا أن نتفقدها، أن نتفقد المقدسات المعظمة في دين الله عز وجل وفي نفوسنا هل نقص قدرها وهل نقص تعظيمها، وهل أصبحنا لا نلتفت إليها بالقدر الكافي ولا نعلمها أبناءنا، ولا نشيعها في مجتمعاتنا، أم أننا نرى التأويل كما رأينا من قبل في امرأة تكلمت على أبي هريرة رضي الله عنه وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأينا من الكُتّاب غير قليل يقولون: لم تهولون الأمر؟! ولم تحاسبون النيات؟! إن الحديث لم يكن المقصود به كذا، وإنما المراد به كذا، ولماذا نتقعر ونتشدد عند الوقوف مع الألفاظ؟! وغير ذلك. يساء إلى كتابنا، ويعتدى على رسولنا، ويتهجم على قرآننا، ويساء كل يوم إلى تشريعاتنا، ويقال لنا من بعد: ينبغي أن تكونوا منفتحين على الآخرين، وأن يكون لديكم سماحة، وأن لا تتشددوا وتعيدوا لنا مرة أخرى اسطوانة الولاء والبراء، والعداء وغير ذلك! إنها خطة لقتل مشاعر الغيرة الدينية والحمية الإسلامية في النفوس، إنها كالمخدرات، تكون في أول الأمر قليلة ثم يدمنها الناس، ثم يوشك بعضهم أن يألفوها فلا تشمئز منها نفوسهم، ولا يحصل لهم على تجاهها إنكار، كما في حديث حذيفة رضي الله عنه الذي يروى مرفوعاً ويروى موقوفاً: (تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة سوداء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً -أي: كالكأس المقلوب- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه). وأحسب أن درسنا الأعظم في هذا الحديث ليس هو في نقد أولئك الأعداء وأولئك الذين يمعنون اليوم في ظهور وكشف حقائقهم. فبعد ظهور زيف حقوق الإنسان في أحداث سجن أبي غريب يظهر اليوم كذلك ظهور زيف حقوق الأديان في مثل هذه الأحداث، والعيب والنقد إنما هو موجه إلينا معاشر المسلمين لا لغيرنا، فإنه لا يهون دين أمة إلا إذا هانت في أوساطها، أين تحكيم شريعتنا في ديار الإسلام؟! أليست الخمور المحرمة قطعاً بنص صريح واضح في الكتاب والسنة تصنع أو تباع في كثير من ديار المسلمين؟! أليس في كثير من ديار المسلمين تعلن المحرمات وتشاع بين الناس حتى تألفها العيون وتقبلها النفوس وترضاها القلوب، ولا يكاد لسان ينكرها أو يقوى على ذلك؟! إن كثيراً من مقدساتنا هانت في مجتمعاتنا وضعفت مكانتها وقدرها وقيمتها، إن إقامة منكر محرم في القرآن وإقراره وتثبيته وإعلانه إنما هو إهانة المنزل ولآياته المحكمة ولأحكامه القاطعة، بل ولله جل وعلا الذي أنزله ليحكم به وليعمل به، فلنتأمل فإن الداء منا، وإن العلة فينا، وإن أعداءنا لم ينتصروا لقوتهم، وإنما لضعف بنياننا، كما تضع اليد على الجدار فيتهدم، وليس ذلك من قوتها ولكنه من تصدعه، فلنرجع إلى أنفسنا، ولنحاسبها فإنا سنجد من التقصير شيئاً عظيماً. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يعظم الإيمان والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم في قلوبنا، وأن يجعل غيرتنا الإيمانية وحميتنا الإسلامية على ما يحب ويرضى، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

تعظيم المقدسات

تعظيم المقدسات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله سبحانه وتعالى تعظيم حرماته، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. وإن تعظيم المقدسات ينبغي أن يكون في حس كل مؤمن، وإن تكون أعظم شيء عنده، وأن نحرص على تفقد نفوسنا وقلوبنا لئلا يدخل إليها ضعف في هذا التعظيم والتقديس، ولا يسري فيها وهن تجاه كل ما يعارض ذلك ويناقضه. وإني لأدعو نفسي وإياكم لنراجع سلوكياتنا الشخصية، فإن أموراً منكرة نفعلها نحن داخل بيوتنا، ولا أقول: في عموم المجتمع ليقال: إنها ليست بأيدينا وليست تحت سلطتنا. إن في البيوت اليوم منكرات هي صور من الاستهانة بالمعظمات، والمقدسات، فإن ما يذاع ويبث في القنوات الفضائية من المحرمات وتجتمع عليه الأسرة أو يرى ويشاهد وهو يعارض عين ما جاءت به الآيات ونص ما وردت به الأحاديث إنه نوع من إضعاف التعظيم والتقديس لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في النفوس. إنه نوع من إلف المنكرات والرضا بها والتقبل لها، وإضعاف الغيرة وإبعادها. إن كثيراً من الأمور العملية التي نقوم بها والكسب المحرم الذي قد نتجاوز عنه وهو منتشر بين الناس في أخذ الرشاوى وفي أخذ ما يسمى (أموال الوساطة) وغيرها إنه -أيضاً- ضرب من ضروب التهوين لأحكام الله وشريعة الله، وما يتعلق بذلك من ورائه. ولو خرجنا إلى مجتمعنا لرأينا الطرائف وهي تشتمل على الآيات والأحاديث وغيرها دون أن يكون هناك منع ولفت نظر إلى عظمة وخطورة ذلك، وأن الخطأ فيه خطره عظيم. ولقد قال بعض أهل العلم: إن ساب النبي صلى الله عليه وسلم ومنتقصه لا تقبل توبته، بل يقتل حتى وإن ادعى توبة. كثيرة هي الأمور التي نحتاج إلى مراجعتها في أنفسنا قبل أن نسب أعداءنا -وهم جديرون بذلك-، وقبل أن نكشف عوارهم وزيف ادعاءاتهم ودنو نفوسهم وحقارة سلوكياتهم، وكل ذلك فيهم، لكنه لا يغنينا ذلك قبل أن نعالج أنفسنا، فكم من قائل منهم: لم تعترضون علينا وفيكم من يقول: إن في القرآن أموراً خرافية ليست واقعية؟! وفيكم من يقول: إن في القرآن أحكاماً غير صالحة لهذا الزمان؟! وفيكم من يقول غير ذلك. إذاً فنحن أولاً جديرون بأن نغير ما بأنفسنا ليغير الله أحوالنا، وليجعلنا قادرين على أن نوقف هذه الموجات المتكاثرة التي لا يكاد اليوم يحصيها العاد من كثرتها. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يعظم الحمية والغيرة في قلوبنا. اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى وأن تجعلنا هداة مهديين. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم -اللهم- عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! إنَّا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم! زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر. اللهم! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين، اللهم! اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين. اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، واحفظ -اللهم- لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، ثبت -اللهم- خطوتهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وأعلِ رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. اللهم! صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

ثلاثيات

ثلاثيات كثيراً ما يرد العدد في الكتاب والسنة، وذلك للتشويق إلى مضامين هذه الأعداد، وليسهل حفظها للناس، فمن هذه الأعداد الثلاثة، فقد ذكرت في القرآن في مواطن منها: آية الاستئذان في سورة النور، فذكر فيها أوقاتاً ثلاثة يجب الاستئذان فيها حتى على الأطفال والإماء والعبيد، أما ذكر هذا العدد في السنة والآثار والحكم والتجارب فكثير جداً، وفي هذه المادة ثلاثيات متفرقة ونافعة.

ثلاثيات من الكتاب والسنة

ثلاثيات من الكتاب والسنة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى. فله الحمد سبحانه وتعالى كما نقول وكما يقول، وخيراً مما نقول، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، نحمده حمداً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه سبحانه وتعالى. والصلاة والسلام الأتمان الدائمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام! أحمد الله جل وعلا أن جدد لنا العهد بهذا اللقاء المبارك في هذا اليوم المبارك في هذه الساعة المباركة في هذا المكان المبارك، ولقد كانت لنا من فضله جل وعلا ومنه وتوفيقه دروس عديدة في مثل هذا اليوم من كل أسبوع، وقد طال العهد بها قليلاً، وها نحن نصل الحاضر بما مضى، ونجعله بإذن الله عز وجل أساساً وبداية وصلة مستمرة فيما نستقبل من الأيام بمشيئة الله تعالى. ولا شك أن مثل هذه المجالس يعم نفعها، وأول المنتفعين بها المتحدث الذي يفكر في الموضوع اختياراً، ثم يسعى لجمع مادته والبحث عن مضمونه في مظان مختلفة، ثم يجاهد نفسه في إخلاص النية وفي تحرير القصد لوجه الله عز وجل، وينتفع السامعون بما يمر بهم من آيات الله عز وجل وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف، وتجارب الحياة، وكثير من الفوائد التي لا يستغني عنها مسلم وإن كان يعلمها؛ لقول الحق جل وعلا: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. وينتفع بها الجميع؛ لكونها في بيوت الله، ولكونها المجالس التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من رياض الجنة، وأن الملائكة تتنزل عليها، وأن الرحمة تغشاها، ونحن نحسن الظن بالله، ونعظم الرجاء فيه أن تكون مجالسنا من هذا النوع، فعسى الله عز وجل أن يتغمدنا بواسع رحمته، وأن ينزل علينا ملائكته، وأن ينزل في قلوبنا سكينته سبحانه وتعالى، وهذا لقاؤنا مع الدرس الثلاثين بعد المائة الأولى في يوم الجمعة السابع عشر من شهر ذي القعدة، عام (1416هـ) وعنوانه (ثلاثيات). وقد رأيت في أول استئناف لهذا الدرس أن يكون موضوعه متنوعاً، وكما يقولون: فيه من كل بستان وردة، ومن كل بحر قطرة، حتى يكون أرغب للنفوس، وأقرب إلى القلوب، وحتى يتجدد النشاط الذي كان لنا، فإذا شرعنا في الموضوعات العميقة أو الدقيقة ربما عرضت بعض الاعتراضات كما مر في بعض الدروس السالفة. وهذه الثلاثيات متنوعة في مضامينها وموضوعاتها، وفي نسبتها وإسنادها، وفي عمقها ودقتها، والذي يجمعها أمر واحد فحسب، وهو أن في كل قول منها وفي كل مسألة منها ثلاثة أفرع، أو ثلاثة جوانب، وقد قسمت هذا الموضوع أيضاً إلى ثلاثة أقسام حتى لا نخل بالثلاثيات التي فيه: ثلاثيات من الكتاب والسنة، وثلاثيات من الآثار والأخبار والحكم، وثلاثيات من تجارب الحياة. نبدأ بثلاثيات من الكتاب والسنة، نقف مع بعضها وقفات مختصرة موجزة؛ لأن الغرض هو ما فيها من التنبيه والتوجيه، وما يقع فيه بعض منا من الأخطاء، وعدم مراعاة مثل هذه الجوانب.

الاستئذان في ثلاثة أوقات

الاستئذان في ثلاثة أوقات يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58]. فهذه الآية تذكر حكماً من أحكام الاستئذان الفرعية، جعله الله عز وجل مخصوصاً بالعبيد وبالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، لكنهم مع ذلك صاروا مميزين يعرفون العيب من غيره، ويعرفون بعض الحق من الباطل، ويعرفون ما يستحيا منه وما لا يستحيا منه. ولذلك ذكر بعض أهل العلم استنباطاً من هذه الآية أن ثبوت الاستئذان وتكراره ثلاثاً مأخوذ من هذه الآية وهي قوله تعالى: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ). قال بعض أولئك: أي ثلاث دفعات، أي يستأذن ثلاث مرات، وهذا استنباط غير صحيح، بل الغالب الذي قاله أهل العلم كما نقله القرطبي عن ابن عبد البر: أن قوله: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي: في ثلاثة أوقات متفرقة، أما الاستئذان ثلاثاً فإنه وارد ثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من استأذن ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع). وليست هذه الآية موضع هذا الاستنباط بتكرار الاستئذان في الوقفة الواحدة. ثم قال القرطبي في تفسيره في علة التخصيص بالإماء والصغار، وعلة التخصيص بهذه الأوقات أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها. أي: الأدب مخصوص بالعبيد؛ لأنهم لا يؤبه لهم؛ لكثرة ترددهم في بيوت الناس وخدمتهم لهم، قد لا يتحفظون منهم. ونعلم أن هناك أحكاماً فقهية تختص بالعبيد والإماء، منها: أحكام تتعلق بجواز كشف العورات إلى حدود معينة، ومع ذلك جاء هذا الاستئذان؛ لأن هذه الأوقات كما سيأتي لها خصوصية معينة، والأطفال بطبيعة صغر سنهم قد لا يكترثون ولا يعبئون بالدخول والخروج، ولا يتنبهون إلى ما قد يقع من أثر ذلك من انكشاف العورات؛ لأن الناس يستصغرونهم، وهذا من بلايا ورزايا عصرنا الحاضر، أن كثيراً من الناس ينظر إلى الغلام، فيقول: إنه صغير وهو ابن خمس، ثم يقول: إنه صغير وهو ابن سبع، ثم ما زال يستصغره وهو ابن عشر، ثم تجد بعض الناس قد يكون الابن قد بلغ الخامسة عشرة وهو ما زال ينظر إليه على أنه صغير، وترى بعض النساء قد لا تتحرج منه ولا تحتجب منه، وهذا من التفريط. وكذلك في أمر الفتيات والبنات؛ فإن كثيراً من الناس سهل عليهم الأمر ولم يراعوا مثل هذه الآداب، وتجد أنهم يستصغرون الفتاة وهي ابنة تسع وابنة عشر، وربما تكون أكثر من ذلك، وما يزالون يرونها صغيرة، لا يؤدبونها بالآداب الشرعية، ولا يلزمونها الحجاب ونحو ذلك. ثم يقول القرطبي: علمهم هذا الأدب أن يستأذنوا على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنها الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها، وملازمة التعري. أي: من عادة الإنسان أن يخلع ثيابه في تلك الأوقات، وقد يكون في وضع النوم أو نحو ذلك، فلا يتحرج من انكشاف عورته، فقبل الفجر وقت انتهاء النوم، وهو خروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار، ووقت ما بعد الظهيرة هو الوقت الذي يخلع فيه المرء ثياب النهار ويلبس ثياب البيت للراحة والقيلولة، وكذلك وقت ما بعد العشاء، فإنه وقت الاستعداد للنوم وتغيير الثياب، ولبس الخفيف منها مما لا يستثقله الإنسان، ولا يتحفظ منه في داخل بيته وبين أهله، فمن ثم جاء الاستئذان وتأكيده على هؤلاء الذين قد لا يكون الاستئذان عليهم واجباً في كل وقت، وإنما خص بهذه الأوقات لهذه المعاني. وهذه وقفة أولى، وكما قلت: وقفاتنا متنوعة ولا يجمعها إلا هذه الثلاثيات، وفي الآيات غير هذا وإن كان غير مصرح به، لكني اكتفيت بهذه الآية.

ثلاث دعوات مستجابات

ثلاث دعوات مستجابات أما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث في هذا الشأن أيضاً كثيرة، نذكر بعضاً منها مما يحصل التنبيه عليه والتذكير به، فهذا حديث أبي هريرة يرويه البيهقي في شعب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر). وفي رواية عند البزار من حديث أبي هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة حق على الله ألا يرد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع). قال الهيثمي عن بعض رجاله: لا أعرفه، وبقية رجاله ثقات. هذا الحديث يخبرنا عن القطع بإجابة دعوة ثلاثة أصناف من الناس متلبسين بثلاثة أحوال، والغرض الذي نريد التنبيه عليه هو: لم جعل هذا الوعد والقطع بإجابة الدعاء لأولئك النفر الثلاثة أو الأنواع الثلاثة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع؟! لو سألنا سؤالاً: ما هو الأمر المشترك بين هؤلاء الثلاثة، الذي هو سر وعد الله عز وجل بإجابة الدعاء؟ نقول: السر في هذا هو كمال التجرد لله سبحانه وتعالى، والانقطاع عن الأسباب والخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى واحد فرد صمد، ويحب وحدانيته من عباده، ويحب إخلاص العبد له في عبوديته، وكلما كان القلب أكثر انقطاعاً عن الدنيا وعن الناس وعن الأسباب، وأكثر وثوقاً وتعلقاً بالله سبحانه وتعالى، وأعظم تجرداً له جل وعلا، كان ذلك دليلاً على عظمة الإيمان وصدق التوكل وكمال الثقة بالله عز وجل وشدة الافتقار له سبحانه وتعالى. والعبودية إنما هي بمزيد التذلل والخضوع والانكسار والافتقار، والبراءة من الحول والطول، والاستناد إلى حول الله وقوته. وهذا ابن القيم في فوائده يبين أن كل وجه من وجوه النقص في الإنسان يقابله وجه من وجوه الكمال، فكلما شعر المرء بنقص فيه، طلب ما عند الله سبحانه وتعالى بما له من صفات الكمال حيث يقول: ركبت من العجز لتنظر إلى عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى عظيم غنى الله سبحانه وتعالى، وركبت من الضعف لتنظر إلى عظيم قوة الله سبحانه وتعالى. وهكذا كل ضعف فيك فهو مقابل للكمال المطلق عند الله سبحانه وتعالى، وهنا الصائم أساس عبادته كما نعلم لله؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به). فهو مخلص لله عز وجل حيث تجرد وتنزه عن شهوته وعن طعامه وشرابه إخلاصاً لله عز وجل، ومحص النية له سبحانه وتعالى، وعلق الأسباب به، وترك حاجة فرجه وحاجة بطنه وحاجة أنسه وراحته لله جل وعلا، وتعلق به أوثق تعلق. والمظلوم لو كان بيده أن ينتصر من ظالمه لفعل، لكنه غالباً ما يكون مغلوباً على أمره عاجزاً أن يرد هذا الظلم ممن بغى عليه وبطش به وتكبر وتجبر عليه؛ لضعفه، فحينئذ هذا الضعيف لم يجد في قوته ولا في قوة غيره من ينصره ويرد عنه الظلم، وقد سدت في وجهه الأبواب، وأظلمت في وجهه الدنيا، وربما انتهك شيء من عرضه، وربما أهين في شرفه، وربما استلب ماله، فلم يجد أمامه طريقاً ولا باباً إلا باب السماء يطرقه، وإلا باب الدعاء يلهج به لله سبحانه وتعالى، ولسان حاله يقول: لئن عدمت قوة الأرض ولئن عدمت أسباب البشر، فإن قوة الله عز وجل وأسبابه لا تعدم، فيصل حباله بالسماء، ويمد يديه بالدعاء، ويكون قد انكسر في نفسه من أثر ما وقع عليه من الظلم، وشعر بشدة فقره وعظيم احتياجه وشدة لجئه لله سبحانه وتعالى. ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله في المجلد الأول من فتاويه فيما قد يقع على الإنسان من البلاء فيدعو الله عز وجل بكشف البلاء، قال: وربما أخر الله عز وجل إجابة دعائه، فما يزال يدعو ويلح ويناجي وينادي حتى يجد من أثر لذة المناجاة وحلاوة الدعاء ما هو أعظم مما كان يسأله من تفريج البلاء، وهذه من ألوان العبودية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء مخ العبادة)، وقال: (الدعاء هو العبادة) كما في حديث آخر. وهذا يدلنا على عظمة هذا الأمر. قوله: (والمسافر حتى يرجع) أيضاً المسافر كما قال المناوي في فيض القدير: لأنه مستوفز مضطرب، قلما يسكن إلا إلى الرحل والترحال، وهو على وجل من الحوادث، فهو كثير الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، فسره منفصل عن الأغيار، ومتعلق بالجبار. أي: عن غير الله عز وجل، فالمسافر في جزع؛ لأنه ليس مستقراً مطمئناً، ويشعر أيضاً بالخوف من الطريق حتى مع وسائل النقل الحديثة، لو تأمل الإنسان وتدبر لوجد أن الذي يركب الطائرة معلق بين السماء والأرض، ما بين غمضة عين وانتباهتها لا يدري ما يحدث الله عز وجل في هذه الوسائل، ونحن نسمع عن سقوط الطائرات، وعن تحطم القطارات ونحو ذلك، لكن غفلت القلوب وسهت العقول، نسأل الله السلامة والعافية. إذاً: السفر ليس فيه طمأنينة، وإنما فيه نوع من الخوف والوجل، يجعل القلب دائماً يحتاج إلى الركون والسكون، فلا ركون ولا سكون إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فترى المسافر يدعو الله عز وجل بالسلامة، ويدعو الله عز وجل ببلوغ المنزل ووصول مبتغاه. وهكذا الإنسان في هذه الدنيا مسافر، فلو حقق ما يكون في سفره المعتاد في دنياه من التعلق بالله والخوف والوجل وعدم الاستقرار والطمأنينة والركون إلى هذه الدنيا، لكان حقاً مسافراً إلى الله وإلى رضوانه سبحانه وتعالى وطلب مبتغاه؛ لأن المسافر ينبغي ألا يكون ساكناً بل مضطرباً، وألا يكون على طمأنينة بل خائفاً، وكذلك لو كنت في هذه الدنيا على هذا المعنى لكان لك إجابة دعاء مستمرة. فإذا كان هو في أثناء السفر القصير وعد بالإجابة، فإذا جعلت دنياك كلها دار سفر، وكنت فيها على هيئة المسافر، فإنه يرجى بإذن الله عز وجل أن تكون مجاب الدعوة دائماً.

ثلاث مهلكات

ثلاث مهلكات ننتقل إلى حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عمر، وهو حديث يشمل عدداً من الثلاثيات، قال فيه عليه الصلاة والسلام: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات: فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية. وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات. وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام) حديث حسن رواه الطبراني في معجمه الأوسط. وهو حديث عظيم النفع غزير المعاني، فقوله: (فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) أما الهوى فإنه يهوي بصاحبه، والهوى: هو ميل الطبع والنفس إلى مشتهاها ولذتها ومرادها، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، وفي النفوس فطرة وميل لبعض المحبوبات من الأمور المذمومة أو المحرمة، والهوى لا يختص بالمأخوذات والمتناولات من الملذات والشهوات، بل يدخل في أمور العلم، وفي أمور الآراء، وفي أمور الأفكار، فإن صاحب الهوى لجوج متبع لمقتضى مراده وإن خالف الحق والعياذ بالله سبحانه وتعالى. إن الذي يتفكر في هذه المعاني الكثيرة يجد أن أمرها جد خطير، فالنبي عليه الصلاة والسلام بدأ بالتحذير من المهلكات والتخويف من شرها وضررها، فقال: (وهوى متبع) أي: هذا الهوى يتبعه صاحبه وإن خالف الحق. قوله: (وشح مطاع) والشح: هو البخل، والنفس في طبعها بعض الحرص، وفي طبعها شيء من الطمع، وفي طبعها حب التملك، قال الله عز وجل: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120]. هذا في أصله ليس بمذموم، لكن المذموم هو الشح المطاع بأن يطيع نفسه فيما يتعلق بهذا الشح، كأن يمنع حق الله سبحانه وتعالى من الزكاة، أو من الصدقة، أو من أداء الدين أو نحو ذلك، فهذا الشح المطاع هو الذي يطيعه صاحبه في منع الحقوق التي أوجبها الله عز وجل في ماله. إذاً: الشح المذموم هو الذي يقع في الممارسة العملية به منع للحقوق، والشح إذا أطاعه صاحبه وقع في هذه المهلكة، وأنت ترى كل من غلبته نفسه في شأن البخل وفي شأن الشح أنه مذموم عند الناس، وكيف أن الهم والغم قد أثرا في نفسه، ولا يهنأ بنعمة الله عز وجل له، ولا بماله، فترى البخيل عنده الأموال، لكنه لا ينفق منها على نفسه، بل يقتر على نفسه وعلى أهله، فتكون النعمة عليه نقمة والعياذ بالله، هذا في الدنيا، أما ما وراء ذلك في الآخرة فالأمر أعظم وأشد. والأمر أيضاً على التدرج؛ لأن في آخره يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإعجاب المرء بنفسه) وهذه داهية دهياء ومصيبة عمياء. الغرور والإعجاب بالنفس فيه مآخذ عدة منها: أن المغتر متكبر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر). ومنها: غمط الناس وانتقاص أقدارهم، وهذا ظلم آخر وتعد آخر وجرم ومعصية أخرى. ومنها: غمط الحق كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر، أي: التعالي عن الحق وإن ظهر دليله وإن سطع برهانه. ومنها: أن الإعجاب بالنفس يقود والعياذ بالله إلى اللجاج، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] هل جحدوا لنقص في الأدلة، أو لعدم وجود المعجزة، أو لعدم شيء مما يحتاجون إليه من برهان نفسي أو مادي؟! لم يكن من ذلك شيء؛ لأنهم قد وجدوا الأدلة والبراهين متنوعة في كل وقت وآن، ومع ذلك ما صدهم عن اتباع أمر الله والدخول في الإيمان بالله إلا كبر النفوس والإعجاب والغرور، كما روي عن أبي جهل عليه لعنة الله أنه قال: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، كان لهم كذا فلنا كذا، ولهم كذا فلنا كذا، أي من الشرف، قال: حتى إذا تجاثينا على الركب وتساوينا قالوا منا نبي؛ فمن أين لنا بنبي، فوالله لا نصدقه الدهر كله. فالمسألة مسألة عناد ولجاج، ومسألة إعجاب وغرور، وكذا قال أصحاب مسيلمة الكذاب: والله لكاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. هكذا قالوا اتباعاً للأهواء، وإعجاباً بالآراء، قال القرطبي في معنى قوله: (وإعجاب المرء بنفسه): هو ملاحظة لها بعين الكمال والاستحسان، أي: ينظر إلى نفسه بعين العجب والغرور. ثم يقول: أما الكلام فليس أعلى منها في البلاغة، وأما الأفعال فليس أعلى منها في الحكمة، وأما الأحوال فليس أعلى منها في الرتبة، فلا يفعل شيئاً، ولا يقول شيئاً، ولا يحجم عن شيء إلا وهو يرى أنه قد أتى وفعل ما هو في غاية الكمال والاستحسان، مع نسيان منة الله عز وجل. فإذا وقع نظره على غير احتقره، وهو الكبر. وقال الغزالي رحمه الله: أحذرك ثلاثاً من خبائث القلب هي الغالبة على متفقهة العصر: وهي الحسد، والرياء، والعجب، فاجتهد في تطهير قلبك منها، فإن عجزت عن ذلك فأنت عن غيره أعجز، ولا تظن أنه يسلم لك نية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعجب، أما الحسد فهو الذي يشق عليه إنعام الله على عبد من عباده بمال أو علم أو محبة أو حظ حتى يحب زوالها عنه، وإن لم يحصل له شيء، فهو المعذب الذي لا يرحم أبداً. وسمعت مرة للشيخ القطان حفظه الله كلاماً جميلاً يقول فيه: الحسود لا يمكن أن يرتاح؛ لأن نعم الله عز وجل دائماً في نزول على الناس، فإذا نزلت نعمة على هذا حسده، واهتم لها قلبه، وانشغل بها فكره، وأظلمت لها نفسه، فإذا زالت جاءت نعمة أخرى، فلا يزال هو في شقاء وفي عذاب مستمر لا ينقطع من أجل هذا الأمر والعياذ بالله، ولذلك ينبغي أن يتنبه الإنسان إلى هذه المآخذ والمسالك. ثم هذا الإعجاب كما قلنا يئول بالمرء إلى الاعتزاز برأيه، وعدم الانصياع للحق، وهذا أمر ينبغي التنبه له.

ثلاث منجيات

ثلاث منجيات وأما المنجيات فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العدل في الغضب والرضا) ومن كان عادلاً في الغضب والرضا، فمعنى ذلك أن حكمه كان للحق وليس للهوى، وأن حكمه كان للعدل وليس لذات النفس؛ لأن من كان يحكم لنفسه أو لهواه، فإن حكمه سيتغير بين هذه الحالة وبين تلك، ولذا يقول المناوي: فإذا عدل فيهما صار القلب ميزاناً بالحق، لا يستفزه الغضب، ولا يميل به الرضا، فكلامه للحق لا للنفس، وهذا عجيب جداً. أي: وهذا عجيب جداً في الواقع، كم من الناس من ينصفك من نفسه إذا كان الحق عليه؟! وكم من الناس يعدل إذا كان في العدل فوات بعض مصلحته؟! ولذلك كان من كلام عمر بن عبد العزيز في وصف الرجل الحق: أنه إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل. وهذا لا يكون إلا بإيمان صادق، والتزام دقيق، ومراقبة لله عز وجل شديدة، والنفوس ميالة إلى ملذاتها وشهواتها، بل حتى أحياناً قد يظلم الظالم في حكمه، ويجنح عن العدل، لا لمصلحة نفسه، ولكن لمصلحة قريب أو حبيب أو صاحب، وهكذا يضيع العدل، وإذا ضاع العدل وجد الظلم، وإذا وجد الظلم وجدت الشحناء والبغضاء، وإذا وجدت الشحناء والبغضاء، كان الاختلاف والاختصام، وإذا وجد هذا كان التنازع والاقتتال، وضاعت سمة أهل الإسلام، سمة الأخوة والإنصاف. ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: (والقصد في الغنى والفقر) القصد هو التوسط في الإنفاق، سواءً كان غنياً أو فقيراً، ودائماً التقديم للأولى، فإذا عدل في الغضب فمن باب أولى أنه سيعدل في الرضا، وإذا اقتصد في الغنى فمن باب أولى أنه سيقتصد في الفقر، والاقتصاد لب المعيشة كما يقولون، وبعض الناس ابن يومه، فإذا جاءته نعمة أو جاءه بعض المال ذهب مباشرة واشترى به كذا وكذا وبدد المال، فإذا جاء اليوم الثاني لم يكن عنده ما ينفقه، لأنه ما ادخره في أمسه حتى يكون نافعاً له في يومه، وكذلك أمر الإسراف. والإسراف: هو وضع الشيء في غير موضعه، أو السفه الذي فيه تجاوز للحد الذي يتعارف عليه الناس مما يكون فيه تبديد للنعمة ووضع لها في غير موضعها، ولذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27]. وقال الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ولذلك جاء الحجر على السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في الأموال، ونحن نرى اليوم صوراً من ذلك عجيبة في دنيا المسلمين، قرأت في جريدة المدينة في الأسبوع الماضي مقالاً للدكتور عبد القادر طاش أسماه (عبث المليونيرات) والعهدة على كلامه، وهو يقول إنه نقل من بعض المصادر، ذكر فيه أن رجلاً من المسلمين تبرع بأربعة آلاف مليون جنيه لأحد نوادي الكرة في بريطانيا، ولو كان هذا المبلغ كله غير صحيح، ولكن عشره صحيح، ولو حتى واحد بالمائة منه صحيح، أليس هذا من السفه؟ أليس هذا من العبث؟ فهكذا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم إذا أراد النجاة في الدنيا فليحسن التصرف على هذا النهج الاقتصادي البديع، وذلك بأن يأخذ المال من حقه وأن يضعه وينفقه في حقه، حينئذ ينال النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، بهذا النهج الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وخشية الله بالسر والعلانية) معلوم أنه إذا خشي الله في السر فسيخشاه في العلن. قال بعض أهل العلم: وفيه ذم لإظهار الخشية مع خلو الباطن منها، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها لما رأت فتية يمشون متماوتين متمسكنين قالت: (من هؤلاء؟ قالوا: عباد نساك، قالت: كان عمر إذا قال أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وكان والله هو الناسك حقاً). ورأى ابن مسعود رجلاً مُطأطئاً رقبته، أي: متخشعاً كما قد نرى في صور بعض منا أحياناً، فقال له: (يا صاحب الرقبة! ارفع رقبتك إنما الخشوع خشوع القلب) أي: الخشية الحقيقية هي مراقبة الله في السر، وبعد ذلك يظهر أثرها تلقائياً في العلن، فهذه المنجيات.

ثلاث كفارات

ثلاث كفارات وأما الكفارات فهي ما يكفر بها الذنوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام في شأنها: (انتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكاره) وفي بعض الروايات: (على السبرات). أي: في شدة البرد. سبرات على وزن سجدات. قوله: (ونقل الأقدام إلى الجماعات). ولو تأملنا أيها الإخوة الأحبة في هذه الكفارات لوجدنا أنها كلها تتصل بالصلاة، من انتظار لها واستعداد لها بالوضوء، وانتقال إليها إلى المسجد، وهذا يدل على تعظيم شأن الصلاة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أن نهراً غمراً يجري في باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).

ثلاث درجات

ثلاث درجات قوله: (وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام). إذاً: هذه فيها حكمة أيضاً؛ لأن جزءاً كبيراً منها يتعلق بالعبادات المتعدية التي تنتقل إلى الآخرين، مثل إطعام الطعام للفقراء وللمحتاجين وللضيوف، فهذا من رفع الدرجات عند الله عز وجل. قوله: (وإفشاء السلام) أي: على من عرفت ومن لم تعرف، فهذا حق من حقوق المسلم على المسلم. قوله: (والصلاة بالليل والناس نيام) هذا غالباً لا يكون إلا عن إيمان وقصد في الطاعة، وقصد في رضا الله عز وجل؛ لأن الناس نائمون، أي: قد قضوا حاجاتهم فسكنوا إلى بيوتهم، أو تعبوا فركنوا إلى راحتهم وهكذا.

ثلاثة حق على الله عونهم

ثلاثة حق على الله عونهم ننتقل إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو هريرة، وهو في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي والنسائي وهو عند الحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه أيضاً عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف). أركز في هذا الحديث على معنيين؛ لأن المكاتبة ليست موجودة في عصرنا كثيراً، ومعناها أن العبد يكاتب سيده على مال حتى يشتري نفسه ويعتقها. المعنى الأول: أن الله عز وجل تكفل بعون المجاهد الذي يقصد إعلاء كلمة الله عز وجل، فإن تخلينا عنه فنحن الذين نخسر؛ لأن الله سبحانه وتعالى معينه وإن عارضه الآخرون وضيقوا عليه سبل الجهاد، ولأنهم في آخر الأمر سيتحقق فيهم وعد الله جل وعلا: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. إذاً: إذا أراد المجاهد أن يجاهد في سبيل الله، فالله عز وجل سيسهل له ويعينه وييسر عليه بإذنه سبحانه وتعالى، فإن نازعته نفسه أو ركنت به إلى الدنيا أعانه الله، وإن نازعته الزوجة والأبناء أعانه الله، وإن شق عليه أمر الجهاد أعانه الله، وإن وجد من معاداة الأعداء شدة وبلاءً أعانه الله، وإن وجد من بعض إخوانه أو بعض المسلمين أو المتمسلمين خذلاناً ونكوصاً أعانه الله، ففي كل مرحلة عون الله عز وجل متحقق. المعنى الثاني: قوله: (والناكح يريد العفاف) أي: يعف نفسه عن الحرام الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، وقد أفاض العلماء في هذه الخصلة على وجه الخصوص؛ لأنها من الأمور الجبلية الفطرية المتكررة، والجهاد لا يكون مستمراً متكرراً، والمكاتبة تكون مرة واحدة ويعتق بعدها العبد، أما هذا فغالباً ما يكون الأمر مستمراً معه حتى يتحقق له الحلال الذي يعف به نفسه.

ثلاثة لا يدخلون الجنة

ثلاثة لا يدخلون الجنة نختم أيضاً ثلاثيات الكتاب والسنة بحديثه عليه الصلاة والسلام، الذي يرويه الطبراني في معجمه، من حديث عمار بن ياسر، ويرويه البيهقي في الشعب والحاكم في المستدرك، لكن من حديث ابن عمر، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً: الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر). أما رواية ابن عمر في المستدرك فقال: (العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء). نعرف حرمة الخمر فلا نحتاج إلى التوسع في ذلك، أما عقوق الوالدين فأمره عظيم، لكن ما ابتلينا به أكثر أو ما ظهر التساهل والترخص فيه أكثر هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الديوث) وهو الذي يرى السوء في أهله فيتغافل عنه أو يرضى به. ولذلك قال ابن القيم: هذا الحديث يدل على أن أصل الدين الغيرة، فمن لا غيرة له لا دين له. الذي لا يغار لحرمات المسلمين التي تنتهك، ولا لأرضهم التي تستلب، ولا لشعائر الدين التي تحارب، هذا الذي ليس في قلبه غيرة ولا حمية ليس في قلبه دين، ولذلك تجد مثل هذا يرى السوء في أهله ثم لا ينكره أو يتغافل عنه أو يرضى به. وهذا وللأسف متحقق في بعض بيئات المسلمين، فترى الرجل قد يرى زوجته وهي حاسرة الرأس، عارية الذراعين، مكشوفة الساقين، قد تلطخت بما جملت به نفسها، ثم إذا به يقدمها لأصدقائه ويعرفهم عليها، أو يفعل ما لا يمكن أن يقال في مثل هذا المقام، وهؤلاء ولا شك أنهم معنيون بهذا الحديث ومقصودون به، ويشملهم شمولاً أولياً ظاهراً بيناً لا شك فيه؛ لأن هذا هو التعريف الذي ذكره العلماء، وأصله من ديوثة الإبل أو الجمل إذا روضته وذللته بحيث يكون ذليلاً يقبل ما تريد منه، وكذا هذا الديوث الذي يرى السوء في أهله، أو يرى مخالفة أهله لأمر الله فيتهاون، ويروض نفسه حتى يتعايش مع هذه المنكرات والعياذ بالله! قال العلماء في هذا: من كان يظن بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبتها، فيصدق فيه هذا الوصف، ولذلك يقول ابن القيم: أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له، والغيرة تحمي القلب وتحمي الجوارح، وترفع السوء والفواحش، وعدمها يميت القلب، فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفع -أي: للمنكرات- والغيرة في القلب كالقوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة كان الهلاك. قوله: (والرجلة من النساء)، أي: المسترجلة من النساء، أو المتشبهة بالرجال، قال المناوي في فيض القدير: المتشبهة بالرجل في الزي والمهنة، لا في الرأي والحكمة؛ فإن مشابهة المرأة للرجل في الرأي والحكمة والعلم أمر محمود مطلوب. ولذلك تجد بعض النساء تريد أن تتشبه بالرجال لا في العلم ولا في الحكمة، ولا في مواضع الخير التي يشترك فيها الرجال والنساء، وإنما تتشبه بالرجال في اللباس، وفي الاختلاط، وفي المهنة. ونحن نعرف أيضاً أن هذا الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم صار منتشراً في كثير من بيئات المسلمين، وخاصة البيئات الإعلامية، فتراهم يفتخرون ويقولون: أول امرأة عربية أو مسلمة تفعل كذا وكذا، أو تعمل في مجال كذا وكذا من المجالات التي لا تصلح إلا للرجال، ولا يمكن أن تتحقق إلا بالاختلاط ونحو ذلك، ثم يجرون معها المقابلات، ويسألونها عن تجربتها وريادتها، والصعوبات التي واجهتها، إلى آخر ذلك مما نعرفه أيضاً.

ثلاثيات من الآثار والأخبار والحكم

ثلاثيات من الآثار والأخبار والحكم ننتقل إلى ثلاثيات من الآثار والحكم، وأذكر منها مجموعات بعضها مع بعض حتى نضم القرين إلى القرين.

ثلاثيات تتعلق بالأخوة والصحبة

ثلاثيات تتعلق بالأخوة والصحبة وهذه بعض الثلاثيات في شأن العلاقات والأخوة بين الناس، قال ميمون بن ميمون: أول المروءة: طلاقة الوجه، والثاني: التودد، والثالث: قضاء الحوائج. قال بعض الحكماء: الإخوان ثلاث طبقات، وتأملوا هذه الكلمة فإنها جميلة، قال: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنها، وطبقة كالدواء لا يحتاج إليها إلا أحياناً، وطبقة كالداء لا يحتاج إليها أبداً. وأيضاً عن مجاهد أنه قال: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه، وثلاث من العي -أي: الجهل-: أن تعيب على الناس، وأن ترى من الناس ما يخفى عليك من نفسك، وأن تؤذي جليسك فيما لا يعنيك. فهذه كلها في شأن علاقات الإخوان فيما بينهم. إذاً: من المروءة كما قال ميمون هنا: طلاقة الوجه، ثم التودد، ثم قضاء الحوائج، وطلاقة الوجه نعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى بعض أصحابه تتهلل أسارير وجهه فرحاً، فهذا كأنه العنوان، إذا أطلقت وجهك بالسماحة والرضا والابتسامة، فكأنك تشجع هذا على أن يقبل عليك أو يسألك أو يسلم عليك، لكن إذا قدمت عليه ورأى جبينك مقطباً، ونظرك إليه شزراً وكأنه قد دهمك من الهم والغم لرؤيته شيء كثير، فلا شك أنه ستنقبض نفسه منك، ولا يكون بعد ذلك سلام ولا كلام، ولو صار كلاماً فإنه لا قيمة له، بل مجاملة باردة جافة ليس فيها صدق المودة، ولا حقيقة الأخوة والتودد والتلطف بالكلام الطيب، بالإحسان، بالإكرام، بالتقديم والإجلال، فإن هذا من الأمور التي يحسن من الناس مراعاتها. وبعض الملتزمين أحياناً يرى أن الشدة أمر مطلوب، فإذا تكلم لا يتكلم إلا جزلاً، وإذا صافح لا يصافح إلا بشدة، وإذا عامل لا يعامل إلا بنوع من الاحتراز والتحفظ الشديد، وهذه يبوسة ليست مطلوبة، وجفاف غير مرغوب فيه، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً سمحاً بشوشاً ودوداً، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم، يقول عز وجل: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. أخي! إذا لقيت بعض المقصرين فلن له، فلعل لينك يكون سبباً إلى وداده لك وتقديره لك، ومما يجعله يستمع لدعوتك ونصحك. وبعد ذلك تأتي الظواهر من قضاء الحوائج، فإذا أصابت أخاك المسلم مصيبة، أو احتاج إلى مساعدة، فتقضي له حاجته، وهذه الأمور لها فضائل وأجور عظيمة، ففي حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه). وقد طبق النبي عليه الصلاة والسلام هذا في مواقف كثيرة، ومنها حينما جاءه قوم من مضر وقدموا عليه عليه الصلاة والسلام فحث الناس على الإنفاق، ولا نريد أن نطيل في هذا الحديث. وأما طبقات الإخوان: فنوع كالغذاء لا يستغنى عنه، فأنت كل يوم تحتاج إلى الطعام والشراب، فكذلك أنت تحتاج إلى الإخوان الذين يذكرونك بالله، ويسرون عنك إذا أصابك هم وغم، ويكونون معك على ما يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء كالغذاء لا يمكن أن تستغني عنهم، لا بد أن يكون لك من أصحابك وخلانك أهل صدق وأهل إيمان وأهل دعوة، إذا نسيت ذكروك، وإذا ذكرت أعانوك، ويكون أحدهم بالنسبة لك كالمرآة كما قال عليه الصلاة والسلام، ترى فيه قصور نفسك، وترى فيه خلل كلامك، وترى فيه قصور تصرفاتك، ولا يكون منك ومنه إلا كما قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى) فمثل هذا الأخ زينة في الرخاء وعدة في البلاء، إذا لقيته فعض عليه بالنواجذ. الثاني: كالدواء تحتاج إليه في وقت معين، وهذا ممن قد تستفيد منه لكن لا تتمكن من مخالطته ودوام صحبته، فمثلاً العلماء لا يكون من السهل دائماً أن تكون مخالطاً لهم، لكن العالم تحتاجه، فإذا عن لك سؤال فقهي أو مسألة ذهبت إليه فسألته، أو إذا احتجت من شخص معين إلى حاجة هو فيها مختص وهو بها عالم فإنك تذهب إليه وهكذا. الصنف الثالث: كالداء، أي: المرض، لابد أن تأخذ تطعيماً عند المرض؛ لأن الاحتراز من المرض أمر مطلوب، كذلك الحجر الصحي، ومنع الاختلاط، وعدم استخدام الأدوات حتى لا تنتقل العدوى، فهؤلاء الذين عندهم القيل والقال، وغيبة الناس وذمهم، وإيغار الصدور، وتأجيج نيران الحقد بين الناس، والسعي بين الناس بالنميمة. أو صنف آخر: وهم الذين لا تسمع منهم خيراً، ولا تسمع منهم إلا التهييج على الشهوات والمحرمات، والترغيب في ارتكاب المعاصي والمنكرات، فهؤلاء داء ومرض، إذا اقتربت منهم لا تسلم أن تصيبك عدوى، فتقع فيما هم واقعون فيه. كذلك من صفاء الود البدء بالسلام، والتوسيع في المجلس، والدعاء للإخوة بأحب الأسماء إليهم. أما العي فهو نوع من الداء الذي ذكرناه: أن تعيب على الناس، وأن ترى من الناس ما يخفى عليك من نفسك، وأن تؤذي جليسك فيما لا يعنيك، وهذه جملة وافرة في هذا المعنى، والأقوال فيها أيضاً كثيرة.

ثلاثيات تتعلق بالزهد في الدنيا

ثلاثيات تتعلق بالزهد في الدنيا ثلاثيات أخرى نأخذها في باب آخر، وهو: باب الصلة بالدنيا والزهد فيها أو التعلق بها: عن يحيى بن معاذ الرازي وكان من الصالحين ومن العباد، قال: طوبى لمن ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يلقاه. وفي هذا المعنى مقالة أخرى قريبة منها لـ إبراهيم بن أدهم وكان من الزهاد العباد أيضاً، وسئل: كيف أخذت بهذا الزهد وسلكت هذا المسلك؟ فقال: بثلاثة أشياء: رأيت القبر موحشاً وليس معي مؤنس، ورأيت الطريق طويلاً وليس معي زاد، ورأيت الجبار قاضياً وليس معي حجة. وقال بعضهم في هذا المعنى أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، وزهده في الدنيا، وبصره بعيوب نفسه. فهذه المعاني أيها الإخوة الأحبة! هي تذكير لنا فيما يتعلق بنظرنا إلى الدنيا وصلتنا بها وعملنا فيها، فإن الذي يتفكر في هذه الحياة الدنيا وحقيقتها وسرعة زوالها وانقضائها، وكثرة شقائها وعنائها، وذهاب وفناء لذاتها وشهواتها، وأن وراءها قبراً، وأن وراءها حياة برزخية، وأن وراء ذلك حساباً ووقوفاً بين يدي الجبار؛ من أدرك ذلك عرف أن السعادة له فيما قاله يحيى بن معاذ: طوبى لمن ترك الدنيا قبل أن تتركه، والمقصود بالترك هنا ليس ترك المباحات وليس ترك أسباب المعاش، وإنما ترك التعلق والانشغال والانغماس والدوران في هذه الدنيا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش). هذا الذي لم يعد له هم إلا دنياه، ولم يعد له تفكير إلا فيها، ولم يعد له سعي ولا جهد إلا في تحصيلها، ولم تعد له خصومة ولا نزاع إلا في الحصول على حطامها، وكم من الناس اليوم في هذا الميدان، نسأل الله عز وجل أن يسلمنا. أما قوله: وبنى قبره قبل أن يدخله، أي: بالعمل الصالح، وبالاستغفار، والاستعاذة من عذاب القبر، وبالصلوات والدعوات. وقوله: وأرضى ربه قبل أن يلقاه، أي: بما يعمل من الخير، وما يخلص فيه من الطاعات والأعمال الصالحة، وبمعنى ذلك أيضاً: وحشة القبر فلا أنيس إلا العمل الصالح، وطول الطريق فلا زاد إلا العمل الصالح، والوقوف بين يدي الجبار ولا حجة إلا العمل الصالح. فهذا الذي ينبغي أن نتذكره. وقوله: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، أي: فقاده الفقه في الدين إلى الزهد في الدنيا، وقاده هذا الفقه في الدين أيضاً إلى أن بصره بعيوب نفسه.

ثلاثيات من تجارب الحياة

ثلاثيات من تجارب الحياة ننتقل إلى النوع الثالث، وكما قلت: اتفق أن جعلنا هذه الثلاثيات ثلاثيات في أقسامها، وثلاثيات في مجاميعها، وثلاثيات في نصوصها ومضامينها، وكلها متفرقة. ثلاثيات من تجارب الحياة، وهي عبارة عن بعض الرأي أو التجربة التي قد يستفيدها الإنسان في حياته، وهذا بعض ما أحببت أن أذكر به نفسي وإخواني مما قد يلمسه الإنسان من واقع الحياة.

ثلاثية الإنجاز والعمل

ثلاثية الإنجاز والعمل الأولى: ثلاثية الإنجاز، بعض الناس يريد أن يعمل، ويريد أن يحقق الآمال، ويريد أن ينجب، ويريد أن يرتقي في بعض المراكز، وفي بعض الميادين، ولكنه يريد ذلك وهو نائم ملء عينيه، وضاحك ملء شدقيه، وهذا لا يمكن أن يكون: لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا الحياة لابد لها من كفاح، ولابد لها من جد، ولابد لها من عمل، كيف سيكون حاله وهو جالس في مكانه لم يعمل؟ يعني: مثل ما يقولون: مكانك سر، فهذا كما قال بعض الأدباء: الأماني بضاعة الموتى، أي: الحمقى، والأحمق هو الذي يقول: لو كان كذا، لو كان عندي كذا. ويذكرون عن بعض الحمقى أنهم قد يذكرون الأماني وكأنها قد تحققت فيختلفون عليها فيتضاربون عليها، وهم ما زالوا في كلام وفي فراغ. فالعمل والإنجاز لابد له من أمور، ولابد له من متطلبات، وهذه بعضها: وهي الإصرار والاستمرار والإخلاص إذا أردت أن تنجز عملاً، فلابد أن تكون قد حددت هدفك، وعرفت مقصدك، وتحريت الإخلاص، وحددت الغاية والثمرة المرجوة من هذا، وعلمت أن في هذا مصلحة شرعية ومصلحة دنيوية، حينئذ تصر على أن تحقق هذا العمل وأن تنجزه، وأما بعض الناس يريد أن يعمل، ولكن يقول: ولماذا هذا؟ يكفيني أقل منه، ويرضى بالدون، وكما قال المتنبي: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام فينبغي للإنسان أن يصر على معالي الأمور، إذا رأى أمراً حسناً جيداً وهو من المعالي ومن الأمور العظيمة والكبيرة والجسيمة، فلابد له أن يصر على إنفاذه وتحقيقه ولا يرضى بالدون؛ لأن الدون يظهر أن همته ضعيفة، وأن عزمه كليل، وأنه ليس من أصحاب الجلد والقوة، فلابد من الإصرار، فإن فشلت تجربة لا يكتفي ويغلق الباب، ولو فشلت تجربة ثانية، وربما ثالثة، أو وجدت عوائق، لابد أن يكون مصراً، وكما ذكروا أن النملة الصغيرة مثل في الإصرار والدأب بشكل عجيب، فتراها إذا أرادت بلوغ الشيء وبلغت بعضاً منه أو أوله فإنها لا تركن ولا تخلد إلى الراحة، بل تستمر حتى تصل إلى النتيجة. إذاً: على المرء ألا يرضى بالمنزلة التي هو فيها، وإذا أراد الاستمرار، فلابد له أيضاً من الحرص على الاسترواح حتى يتجدد نشاطه، وحتى تستجد له في كل يوم فكرة جديدة، وفي كل وقت تفريع جديد يقوده إلى تشغيل ذهنه، وإلى قوة رغبته في تحقيق هذه الأمور والمنجزات. وهذه أمور لو نظرنا إليها في واقع الحياة لوجدناها، ولو نظرنا إليها في واقع التجارب القديمة والحديثة لوجدناها، فقل أن تجد إنساناً عصامياً أو قد نال مراتب عالية، أو قد بدأ من الصفر إلا وهو عنده إصرار عجيب، واستمرارية دائبة، وابتكار وتجديد مستمر لا يتوقف، وهذا هو الذي ينبغي أن يحرص عليه المسلم، لا أن يكون محباً للعجز والعمل اليسير؛ لأن كثيراً من الناس إذا كان العمل فيه دوام، فإنك تراه يبحث عن عمل أقل منه، ولو بأقل عوائد أو بأقل فوائد، فينبغي للإنسان أن يتنبه لهذا.

ثلاثية التعامل

ثلاثية التعامل ثلاثية التعامل أعني بها: كيف تتعامل مع الناس في أمور الحياة المعتادة، وذكرت فيها ثلاثة أمور: البساطة، والصراحة، والسماحة. أما البساطة: فهي البعد عن التكلف، وقد ورد في حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه عن أبي أمامة (البذاذة من الإيمان). والبذاذة معناها رثاثة الهيئة، وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس، والمقصود بها ترك المبالغة في الأناقة والمظاهر. نجد اليوم عند الناس مبالغة في العناية بالمظاهر عموماً، سواء مظاهر المركب، أو مظاهر الملبس، أو مظاهر المسكن، وضاع في ذلك كثير من الأموال. فالإنسان اليوم هو مع نفسه شيء، وهو مع الناس شيء آخر، يلبس لهم لباساً، ويبني لهم مسكناً، وكأنه شيء آخر، وتعقدت الحياة بسبب ذلك، فلذلك تجد بعض الناس أصبح أسيراً للمظاهر، وإذا أنكرت عليه شيئاً أو وجهته إلى شيء يقول: كيف أصنع، لا أستطيع أن أترك هذا، أو لا أستطيع أن أفعل هذا! لماذا؟ يقول لك: سيقول الناس كذا، أقول: يا أخي! كن مع الناس على البساطة، فإذا جاءك الضيف فأعطه الجود من الموجود، والإكرام ليس في الطعام، وإنما الإكرام بالاستقبال والتقدير والاحترام، فهذه المبالغات التي شاعت بين الناس أعطوها من القدر والحجم ما هو زائد عن الحد، ولا أعني بذلك ترك الأمور المشروعة، فالمداراة والمجاملة في الأمور المعقولة المحدودة مطلوبة شرعاً، وإكرام الضيف، وحسن الهيئة، كل ذلك مطلوب، لكن المقصود به ألا يتجاوز الحدود؛ لأن عدم البساطة يؤدي إلى العجب والفخر والتكبر. فإذا قصد بعدم مبالغته وتكلفه ألا يبخل في هذا الجانب، وأن يؤثر القصد والتوسط ونحو ذلك؛ فإن هذا أمر مطلوب ومحمود. أما الصراحة فهي مهمة، وكما يقولون: الصراحة راحة، بعض الناس يتعود في معاملته للناس ألا يصارحهم، فيحرجونه بطلب شيء فلا يستطيع أن يقول: لا أستطيع، سبحان الله! يا أخي كن مع الناس بصراحة ووضوح مع الأدب ومع حسن العرض، ومع كمال الإجلال، ومع توافر الاحترام. ولا تعني الصراحة البذاءة بحال من الأحوال؛ لأن الصراحة نوع من الصدق مع حسن المعاملة، لكن بعض الناس على حياء زائد عن الحد، فلا يملك أن يقول: لا، إذا كان لا يستطيع، ولا يملك أن يقول: نعم لشيء يريده أحياناً، فينبغي أن نتذكر حديث أسماء بنت يزيد لما قالت: (يا رسول الله! إحدانا تقول للشيء تشتهيه: لا أشتهيه، أيعد هذا كذباً؟ قال: إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة). فلماذا يا أخي تكلف نفسك ما لا تطيق، ولماذا تقول بلسانك ما ليس في قلبك، ولماذا تظهر من حالك ما ليس في الحقيقة؟! أضف إلى ذلك أن المجاملة التي تعارض هذه الصراحة تذهب أمراً مهماً، وهو واجب النصيحة، فالذي لا يتعود على الصراحة لا يستطيع أن ينصح؛ لأن الصراحة فيها إقامة للحق وبذل للنصح، فإذا كان لك صديق حبيب بينك وبينه مودة ومحبة، تجد أنك أحياناً تحرج منه، فيخطئ فلا تقول له إنك أخطأت، ويقع في أمور مشينة فلا تنصحه وتنبهه؛ لأنك لم تتعود على الصراحة، وكثيرون هم الذين يتعاشرون فترة طويلة من الزمن وليس بينهم صراحة، فلا يستفيد هذا من هذا، ولا هذا من هذا. أما السماحة فمعلوم أن الأمور والحياة بطبيعتها فيها أخطاء، وفيها هفوات، فينبغي للإنسان أن يكون متجاوزاً عن الهفوات، مبادراً إلى مغفرة الزلات، وإلى العفو عما قد يكون من عبارات أو كلمات، ويكون سمحاً ودوداً يستوعب الآخرين، ويسعهم بأخلاقه، ورحابة صدره، وسعة حلمه، ووافر عقله؛ لأن بعض الناس قد تقوده الصراحة إلى نوع من الاحتكاك والشدة، نحن لا نريد ذلك، نريد أن تستقيم ثلاثية التعاون حتى تكون بسيطاً فلا تتكلف، صريحاً فلا تنافق وتداهن، وسمحاًَ فلا تتشدد، وهذه أيضاً أمور فيها من واقع الحياة شواهده كثيرة، وفوائده إن شاء الله أيضاً كثيرة. نقف عند هذا الحد؛ حتى نستطيع أن نمر على بعض الأسئلة أو التعليقات، خاصة وأن بعضها يتعلق بالدرس من حيث هو، ومن حيث بدء استئنافه، ولعلي أن أنتهز الفرصة في تعليقي على بعض هذه الأسئلة، فيما يتعلق بالدرس في أوقاته القادمة إن شاء الله.

الأسئلة

الأسئلة

طلب إلقاء دروس عن البدعة وغيرها

طلب إلقاء دروس عن البدعة وغيرها Q كنت قد وعدت في دروس سابقة بدرس عن البدعة، ودرس عن كلام ابن القيم في الصواعق المرسلة، وهذا الوعد كان في رمضان في أثناء درس شرح لمعة الاعتقاد؟ A لا بأس أن يكون هناك إن شاء الله تعريج على الموضوع الأول؛ لأن موضوع البدعة موضوع كامل شامل هام، وكنت قد تعرضت له جزئياً في درس المنهج في حماية العقيدة، ذكرت فيه أربعة أبواب، منها: باب الردة، ومنها: باب الولاء والبراء، ومنها: باب الغلو، ومنها: باب خاص بالبدعة، ولكن لعلنا أن نأخذ هذه الاقتراحات.

ذكر أسباب انقطاع الشيخ عن الدروس

ذكر أسباب انقطاع الشيخ عن الدروس Q هذا أخ يقول إنه يتشوق للدروس، لكن يفاجأ بالانقطاع ويسأل عن السبب؟ A السبب كما يقولون باللهجة الدارجة: العين بصيرة واليد قصيرة، كانت هناك مشاغل وعوارض، أضف إلى ذلك سعينا إلى أن نجدد لكم اللقاء مع مشايخ متعددين، وكانت لنا في الأسابيع الماضية ثلاثة لقاءات كلها لم تتحقق، وثلاث محاضرات كلها لم تقع، طرأت ظروف لضيوفنا ومن دعوناهم، ولم يتحقق ذلك فكنا في انتظار، وكلما انتظرنا طال الأمد حتى بدأ الدرس بداية اضطرارية لا اختيارية.

عدم منافاة الأخطاء التي تحصل أثناء الغضب للعدل إذا تيب منها

عدم منافاة الأخطاء التي تحصل أثناء الغضب للعدل إذا تيب منها Q الإنسان أحياناً يغضب، ويقول بعض الكلمات، ولكنه يتذكر ويستغفر، فهل هذا ينافي العدل في الغضب؟ A هذا لا ينافيه؛ لأن العدل المقصود به الحكم الذي تحكمه وتمضي عليه، أما كلمة ندت منك من غير قصد، أو خرجت عند انفعال ثم رجعت عنها فاستغفرت، فهذا هو سمت المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، وأيضاً: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135].

الأضرار التي تصيب المحسود من الحاسد

الأضرار التي تصيب المحسود من الحاسد Q ما هي الأضرار التي قد تصيب المحسود؟ A النبي عليه الصلاة والسلام قال: (العين حق) وقال في حديث آخر: (إن يكن شيء يسبق القدر فالعين) فالعين لها حقيقة ملموسة، وهذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام يؤكدها، واستعاذته عليه الصلاة والسلام في دعائه: (وأعوذ بك من كل عين لامة) يدل على هذا أيضاً، والأمر الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام العائن حين جيء به إليه أمره أن يتوضأ، فأخذ فضل وضوئه ومائه وأمر المعيون أن يغتسل به، فبرئ من أثر تلك العين. فهذا كله يدلنا على أن العين حق، ولذلك إذا رأيت نعمة أو رأيت شيئاً مما يعجب فقل دائماً: ما شاء الله تبارك الله، وادع لصاحبه بالخير، وادع الله عز وجل أن يرزقك ما ينفعك، فإنك لا تدري إن رزقت الغنى هل تكون صالحاً وتبقى على طاعتك وخيرك وحرصك على رضوان الله عز وجل، أم تبطر وتطغى؟! فلذلك ينبغي للإنسان أن يدرك هذا، وذلك بأن يتجنب الحسد ويعود نفسه على السماحة والكرم في النفس وحب الخير للآخرين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

حقيقة الاقتصاد في المعاش

حقيقة الاقتصاد في المعاش Q بعض الناس إذا اقتصد قال عنه الناس إنه بخيل، فماذا يصنع؟ A لا تلتفت إلى أقوال الناس، لكن انظر إلى ميزان الشرع، فهل بلغ بك الاقتصاد إلى البخل؟ فأنت أعرف بنفسك، يقول عز وجل: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] وهناك واجبات، وهناك ضروريات، وهناك تحسينيات، وهناك حاجيات، كل شيء له قدره، فينبغي للإنسان ألا تختلط عليه الأمور.

واجب الحاسد تجاه المحسود بعد وقوع الحسد منه

واجب الحاسد تجاه المحسود بعد وقوع الحسد منه Q من وقع منه حسد، فماذا يصنع؟ A يكفي الاستغفار والتوبة إن شاء الله تعالى إن صدق وأخلص، وإن علم أو غلب على ظنه أن من أصابته هذه العين، وقد تضرر، فليكن سمحاً وليذهب إليه ويقول له: إني رأيت منك كذا وكذا، فوقع في نفسي، فربما كان ذلك مني، ويتوضأ كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام، ويأخذ فضل ماء وضوئه ويعطيه للمعيون حتى يغتسل به، فيبرأ بإذن الله عز وجل، وهذا كان من فعل النبي عليه الصلاة والسلام.

كثرة مواطن إجابة الدعاء

كثرة مواطن إجابة الدعاء Q هناك دعوة مستجابة لخاتم القرآن وغيره، لماذا لم تذكر ذلك؟ A نعم، نحن ذكرنا حديثاً واحداً، ولا يمنع أن هناك أحاديث أخرى فيها أصناف وأنواع وأعمال فيها يجاب الدعاء، فليس المقام مقام الحصر، وإنما هو مقام الذكر، فما ذكر لا يعني أن غيره خارج عنه.

وجه تعلق مشاهدة الجنس عبر القنوات بالدياثة

وجه تعلق مشاهدة الجنس عبر القنوات بالدياثة Q هل رؤية المشاهد المخزية من المشاهد الجنسية في القنوات الفضائية، وهذه الرؤية من الرجل وزوجته وبناته وأبنائه، هل الرضا بهذه المناظر من الدياثة، ويدخل في هذا الوعيد؟ A أقول والله أعلم: إن هذا من مثله ويدخل فيه؛ لأنه إذا لم يكن عنده غيرة أن ترى بناته هذه المناظر، أو يرى أبناؤه هذه الأمور المحرمة، فلا شك أن هذا ضعف في قلبه وغيرته، نسأل الله عز وجل السلامة! ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم، ونريد إن شاء الله أن نستفيد جميعاً، فإن كان لأحدكم ملاحظة أو تعليق، أو وجد فائدة في درس قد مضى، أو في درس يقترحه، فلا شك أن المسألة منكم وإليكم، ونحن يستفيد بعضنا من بعض، ونحمد الله جل وعلا، ونصلي ونسلم على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام.

طلاب الدنيا

طلاب الدنيا لقد قص الله عز وجل في القرآن أخبار أرباب الدنيا وطلابها، وبين مسالكهم وطرقهم في تحصيل لذاتها والتشبث بها، من المال والزينة، والسلطان والطغيان، وفتنة النساء والمسكرات والمخدرات، وقد حذر الله تعالى المؤمنين من الوقوع في فتن الدنيا؛ لأن ذلك انحراف عن منهج الله الذي يدعو إليه من العمل للآخرة، أما طلاب الدنيا فغايتهم الحصول عليها بأي وسيلة من الوسائل من حلال أو حرام، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل.

مسالك وطرق طلاب الدنيا

مسالك وطرق طلاب الدنيا الحمد لله القوي القادر، العزيز القاهر، الأول والآخر، الباطن والظاهر، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، تفرد بالعزة والجلال، واتصف بالكمال سبحانه وتعالى، نحمده كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجرًا، ويمحو الله به عنا وزرًا، ويجعله لنا نصراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وبعثه كافة للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! طلاب الدنيا بها متعلقون، وإليها مشتاقون، ولها محبون ومريدون، ومشترون ومؤثرون، فهم في فلكها يدورون، وفي إثرها يجرون ويلهثون، وطريقهم هو المسار الثاني الذي يفصل بين الناس في هذه الحياة الدنيا: بين طلاب للآخرة وطلاب للدنيا. وطلاب الدنيا قال الله عز وجل في وصفهم: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [إبراهيم:3]، فهم لها محبون، وهي غاية ومقصد عندهم كما أخبر الحق جل وعلا بقوله: {وقَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا} [القصص:79]. فطلاب الدنيا يريدونها، بل إنهم يشترونها بأغلى وأعز ما يملكون، كما أخبر جل وعلا عن أولئك الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، فهم لا يستقلون لها ثمناً، وهي جنتهم وآخرتهم وأولاهم بلا شيء يربطهم بما وراءها، ولذا قال الحق جل وعلا في وصف حالهم: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]، والحقيقة الغائبة عنهم يقولها الله عز وجل في قوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]. لننظر إلى المسالك التي سلكها طلاب الدنيا إلى أبوابها التي فتنت القلوب فكفرت، والتي صرفت النفوس عن معالي الأمور فذلت، والتي صرفت العقول عن منافع الحياة الدنيا ومرامي ما يرجوه العبد في الأخرى فكلَّت، وهذه كلها أبواب ومسارات جعلت أرباب الدنيا في صورهم المرذولة، التي قص الله عز وجل علينا أطرافاً من أخبار أربابها في القرآن، وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من ذلك ما يبين لنا الطريق القويم الذي ينبغي أن ننهجه ونسلكه.

المسلك الأول: الزينة والمال

المسلك الأول: الزينة والمال الزينة والمال: الذهب الذي يذهب بالأبصار، والفضة التي تفضض ما في القلوب فلا يبقى فيها إلا محبتها والرغبة فيها، الأموال التي يلهث وراءها الناس. الدنيا بهذه القوة المالية التي حرفت مسار كثير من أربابها الذين يدبون على أرضها، وصار ليس لهم هم ولا غاية إلا أن يستكثروا من الأموال، وإلا أن يستزيدوا منها، فإذا زادوا منها رغبوا في المزيد على الزيادة، ولا يزالون كذلك كما هي أصل فطرة الإنسان إذا لم يهذبها الإيمان. وقد نصب لنا القرآن الكريم مثلاً هو المضرب في هذا الباب؛ ليعطينا صورة من صور طلاب الدنيا، الذين انتهوا في هذا الطريق إلى الكفر والجحود، وإلى جهنم وساءت مصيرًا. فهذا قارون الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، ووصف أمواله وثروته بقوله جل وعلا: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، مفاتيح الخزائن لا يستطيع رفعها إلا الرجال الأشداء الأقوياء، فما ظنكم بالخزائن؟! وما ظنكم بالذي فيها من الأموال من الذهب والفضة والجواهر واللآلئ؟! ماذا كان حال قارون؟ وأي شيء أدت به هذه الدنيا بفتنتها؟ قال الله عز وجل حاكياً عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] لقد نسي المنعم، وجحد الخالق المتفضل سبحانه وتعالى، وأعلن بكبريائه كفره، ثم لننظر إلى أثر هذا المسار والمسلك في الناس من حوله. فالذين فتنتهم الدنيا بالتفكير فيما أوتي أربابها من الأموال، فهم منشغلون ومهمومون ومغمومون، قال الحق جل وعلا: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]. وكم نسمع اليوم في بيئاتنا ومجتمعاتنا وديار المسلمين من لا أمنية له إلا أن ينال مثلما نال فلان من الثراء، وأن يكون عنده الأموال والدور والقصور، كأنه ليس وراء هذه الدنيا من متاع، ولا من عطاء، ولا من جنة، ولا من خير يسوقه الله عز وجل لمن أخذ من هذه الدنيا نصيبه المقسوم، مع بقاء قلبه معلقاً بالآخرة وبرضوان الله ونعيمه الموعود في جنة الخلد عند مليك مقتدر. هذا كان قول أولئك القوم. وذكر الله قول أهل العلم والإيمان حيث قال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]. ثم جاءت الصورة التي تختم لنا هذه القوة الدنيوية والثراء والمال الذي هو -كما يقولون اليوم- عصب الحياة، ماذا كان شأنه؟! وأي شيء أغنى عنه هذا المال وهذه القوة؟! قال عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]. ذكر الله فاء التعقيب التي تقتضي السرعة في هذه الأحداث التي وقعت: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) وانتهى قارون، وتناثرت أمواله، وتبعثرت دنانيره ودراهمه، وما أغنت عنه شيئاً من هذا المصير المحتوم؛ لأنه كان من طلاب الدنيا ومن أربابها، وجحد بالآخرة، وجحد بالمنعم سبحانه وتعالى. وكم نرى اليوم من يجمع القرش إلى القرش، والريال إلى الريال، وهو لا يحب أن يسمع ذكر الفقراء، ولا يرغب أن يعرف حاجات المحتاجين، وإذا اضطر أو أحرج أن ينفق شيئاً من ماله فكأنما يقطر بعضاً من دمه، يخرج مع كل ريال يخرجه نفساً من أنفاسه، وكأن عروقه تتقطع؛ لأنه لا يحب أن يخرج شيئاً من هذا المال، فهو يكنزه ويحب أن يراه صباح مساء، فلا ينظر إلا إليه، ويمسي فلا يفكر إلا فيه، وينسى قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35]. وكم نرى اليوم من يتنافسون ويسعون لمضاعفة أموالهم من طرق الكسب الحرام، وأعظمها وأكثرها جرماً وأفدحها خطراً الربا الذي قال الحق سبحانه وتعالى في شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، ثم توعد الوالغين فيه والمصرين عليه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]. وكم نرى فتنة المال في حياتنا المعاصرة وفي كثير من مجتمعات المسلمين، وهي تحدد للناس مسارهم، وتملك عليهم مشاعرهم، وتحدد منهجية تفكيرهم وتدبيرهم، لا يألون جهداً في جمع هذا المال.

المسلك الثاني: السلطان والطغيان

المسلك الثاني: السلطان والطغيان هذا مسلك ودرب وطريق آخر من طرق طلاب الدنيا: طريق السلطان والطغيان: عندما يملك المرء القوة التي يبطش بها بمن يخالفه، أو بمن هو عدوه، ويملك من الأعوان ومن البهرج ومن زخرف السلطان ما يملك، فإذا به يطغى ويبغي ويجحد قوة الله سبحانه وتعالى وينساها، والمثل القرآني في ذلك هو فرعون الذي ذكره الله عز وجل في ثنايا القرآن في آيات كثيرة ومواقف وأحداث عديدة، كما في قصة موسى عليه السلام مع فرعون عليه لعنة الله، ووصفه الله جل وعلا بقوله: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:83]. ثم نجد القرآن يعطينا صورة من صور هذا الطاغي في الدنيا الغارق فيها، الذي لم يعرف ولا يريد شيئاً سواها، كيف أن الدنيا تملكت قلبه من باب السلطان والجاه والقوة والقدرة البشرية الإنسانية؛ حتى قال مقالته الشنيعة: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] فلا قول إلا قوله، ولا رأي إلا رأيه، وقال سبحانه وتعالى على لسانه لما آمن السحرة لموسى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71]، فكانت هذه جريمة عظمى عنده، والله سبحانه وتعالى يخبرنا عن مدى غطرسته وجبروته وطغيانه حيث يقول: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]. هذه صورة السلطان والطغيان ختمت بأعظم جريمة في الإنسانية كلها وهي ما قصه الله عز وجل بقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] أكفر كلمة قالها إنسان هي كلمة فرعون: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، ثم أردفها بقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص:38 - 39]، وانظر إلى الخاتمة: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40]. فرعون الذي كان يأمر وينهى، الذي لم يكن أحد يدخل عليه إلا ساجداً، ولم يكن أحد يتلفظ إلا به حالفاً، كان هذا هو مصيره أن أغرق في ماء البحر، وقال الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]. وكم في حياة الناس اليوم وفي مجتمعات المسلمين من يغتر بالسلطان، ومن يغتر بالجاه، ومن يغتر بكثرة الأعوان، ومن يغتر بقوته على من هو أضعف منه، حتى بدت بعض المجتمعات كأنها مجتمعات الغاب، يفترس فيها القوي الضعيف، ويبطش فيها القادر بالعاجز، وغابت عن الناس معاني الآخرة، والعقوبات التي توعد الله عز وجل بها من ظلم ومن بغى ومن اعتدى.

المسلك الثالث: فتنة النساء

المسلك الثالث: فتنة النساء هذا مسلك ثالث وطريق ثالث من الطرق التي تفتن وتصرف عن منهج الله عز وجل: فتنة النساء: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) وأخبر كما صح عنه: وأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، وننظر في ذلك فنرى هذه الفتنة اليوم قد عمت، وإذا بطيف وطوفان يجرف ويذكي فتنة النساء في مجتمعات المسلمين، وإذا بك ترى هذه الفتنة عند كثير من المسلمين، تظهر في شعرهم ونثرهم وغنائهم وتمثيلهم ورقصهم، وعلى صفحهم ومجلاتهم، لقد جعلوا هذه الفتنة محور حياة يومية يصرفون بها القلوب، ويخطفون بها الأبصار، ويفتنون بها النفوس، حتى تسرب إليها هذا داء الشهوة المحرمة الآثمة. فلا يكاد يسلم امرؤ من سماع أو رؤية وإن تحرج واحتاط إلا من رحم الله، فنسأل الله السلامة لقلوبنا من هذه الفتن. وهذه الفتنة أمثلتها كثيرة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من قصص بني إسرائيل على وجه الخصوص ما يبين لنا عظمة هذه الفتنة. فهذا ابن حبان يروي في صحيحه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصة لعابد من عباد بني إسرائيل، عبد الله عز وجل في صومعته ستين سنة، فأمطرت الدنيا واخضرت الأرض، فقال: لو خرجت من صومعتي وذكرت ربي، فخرج فلقي امرأة فكلمها وكلمته حتى غشيها -أي: حتى فعل بها الفاحشة- فأغمي عليه، ثم خرج يغتسل في ماء هناك، فقبض ومات على حاله تلك. قال بعض السلف رضوان الله عليهم: لو استؤمنت على بيت مال المسلمين لأمنت نفسي، ولو استؤمنت على جارية سوداء أخلو بها ما أمنت نفسي! وهذا يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وتحذيرات النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كثيرة، والله عز وجل قد حذر من ذلك وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]. ونجد أن العقوبة التي جعلها الله عز وجل لمرتكب هذه الفاحشة شديدة قاسية؛ حتى تكون رادعاً ومانعاً لهذا الباب العظيم من أبواب الفتنة؛ لأنه إذا انفتح على الأمة أوقع فيها من الفساد واختلال الأمن وشيوع الانحلال وكثرة الاضطراب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وشاهده الحديث الذي يرويه الإمام أحمد بسند حسن عن ميمونة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم الله بالعذاب)، وفي رواية في مسند أبي يعلى: (لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها ما لم يظهر فيهم ولد الزنا). والأمر في ذلك يطول، والحديث عنه يكثر، وهذه الفتنة من أعظم الفتن، ولها طلاب كثر، ليس لهم هم إلا نيل هذه الفتنة وقصد هذه الشهوة الآثمة.

المسلك الرابع: اللذة والنشوة في الخمور وتعاطي المخدرات

المسلك الرابع: اللذة والنشوة في الخمور وتعاطي المخدرات هذا مسلك وطريق رابع ابتليت به كثير من مجتمعات المسلمين: اللذة والنشوة في شرب الخمور وتعاطي المخدرات: والله جل وعلا قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]، والنبي عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر عشرة: (لعن شاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) كما روى ذلك أبو داود وزاد ابن ماجة: (والذي يأخذ ثمنها). وفي حديث أبي موسى الأشعري عند ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه: (ثلاثة لا ينظر لله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وأما مدمن الخمر فيغمس يوم القيامة في نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة يا رسول الله؟! قال: نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريحه). هكذا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، ونجد هذه النشوة واللذة يسعى بها أعداء المسلمين لينشروها في مجتمعات المسلمين، وليبثوها بين شبابهم وشاباتهم؛ حتى تبطل العقول عن العمل، وحتى تنهك الأجساد بالعلل، وحتى يقع التعيير الكامل والإجرام التام في واقع مجتمعات المسلمين. فنسأل الله عز وجل أن يسلمنا وإياكم من الفتن، وأن يصرف عنا ما ظهر منها وما بطن، وأن يعصمنا بالإيمان، وأن يحرسنا بالقرآن، وأن يجعلنا من المتبعين للمصطفى صلى الله عليه وسلم. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

المسلك الخامس: حب الدنيا وطلب السلامة

المسلك الخامس: حب الدنيا وطلب السلامة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه. إن خامس هذه الأبواب والطرق والمسالك التي يسلكها طلاب الدنيا، وهو باب ومسلك قل من يسلم منه: حب الدنيا وطلب السلامة: أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معروف متداول محفوظ عند كثير من الناس بقوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا! إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليجعلن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). مما يغلب على أهل الدنيا تشبثهم وتمسكهم بها، وخوفهم من أي طريق يظنون من قريب أو من بعيد أنه يخرجهم عنها وينقلهم عنها، فهم يخافون الموت في صبحهم ومسائهم، فهم فيما يسمعون: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمُ، وفيما ينظرون مما يتعلق بحياتهم: تراهم تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت من شدة الخوف والرهبة، فهم قوم قد آثروا السلامة: حب السلامة يثني هم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل وهي صفة ذميمة مرذولة، وصم الله عز وجل بها اليهود عليهم لعائن الله، فقال جل وعلا: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] يحرصون على أية حياة، ولو كانت حياة ذل، ولو كانت حياة يبيعون فيها مبادئهم، وينافقون فيظهرون خلاف ما يبطنون، ويتراجعون فلا يثبتون، كما أخبر الحق جل وعلا عن وصف بعض أولئك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. هؤلاء قوم إذا رأوا أن حظهم من الدنيا سيذهب، أو أن طريقهم إليها سينتهي، طلبوا الخلاص والحياة ولو ببيع دينهم، ولو بالتفريط في أعراضهم، ولو بذلة نفوسهم، ولو بأي شيء يفعلون: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب والقرآن قد أفشى خبر أولئك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205]، أولئك المنافقون الذين يبطنون خلاف ما يظهرون، وكم في بيئات ومجتمعات المسلمين من هذه العينات التي تشدها الأرض شداً وتجذبها الحياة جذباً، كما أخبر الحق جل وعلا: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176]. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أثر الحياة وملذاتها والتعلق بها، فقال: (الولد مجبنة مبخلة) أي: باعث على الجبن وباعث على البخل، ولذا يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]. فينبغي للمرء ألا يجعل حب الحياة وتغلغلها في قلبه مانعاً من الثبات على الحق، أو المضي في الواجب، أو القيام بالأمر، وينبغي ألا يكون في حال من الأحوال معطياً للدنية في دينه، أو بائعاً دنياه بأخراه، فذلك هو الخسران المبين.

وصايا قرآنية تحذر من الانجرار وراء الدنيا

وصايا قرآنية تحذر من الانجرار وراء الدنيا نقف وقفة أخيرة مع الوصايا القرآنية التي ينبغي أن نتنبه لها وأن نجعلها نبراساً؛ لئلا نكون في الفريق الشقي فريق طلاب الدنيا بهذا المعنى، وليس بالمعنى الإسلامي الذي أباح أن تمتلك المال من أبواب الحلال، وأباح أن تعاشر النساء بالعقد المحلل بالنكاح، وأباح كل هذه الأمور الدنيوية بالأبواب التي فيها حل، وبالقدر الذي لا يطغي ولا يصرف عن الإيمان بالله عز وجل، والإقرار بنعمته والسعي لنيل رضوانه ورحمته. والله سبحانه وتعالى قد ذكر لنا من الآيات ما ينبغي أن نجعلها نبراساً وشعاراً في حياتنا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] سلوا الله من خير الدنيا حلالاً، وسلوا الله من خير الآخرة ليلاً ونهاراً. والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] فلنكن ممن يؤثرون الآخرة على الدنيا، ويشترون نعيمها بما في هذه الدنيا. والله سبحانه وتعالى يخبر عن أولئك القوم وثوابهم فيقول: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران:148] فيجمع لك الله ما تبغي في هذه الدنيا من نعيم ومن خير وطمأنينة واستقرار، ويعطيك فوق ذلك من نعيم الآخرة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، كن مع أهل الآخرة يذكِّروك إذا نسيت، ويعلموك إذا جهلت، ويحمسوك إذا فترت، فإنك حينئذ تكون منهم، ولا تكن مع طلاب الدنيا الذين لا هم لهم إلا الكلام عنها، فإنهم يوشكون أن يصرفوا قلبك إليها، وأن يوجهوا مشاعرك نحوها. والله سبحانه وتعالى يخبرنا عن هذا فيقول: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29]. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من طلاب الآخرة، وأن يجعلنا نأخذ نصيبنا من الحلال في الدنيا، ونستعين به على طاعة الله وعلى نصرة دين الله، وعلى إغاثة عباد الله المسلمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم إن كان رزقنا في السماء فأنزله، وإن كان في الأرض فأخرجه، وإن كان قليلاً فكثره، وإن كان كثيراً فبارك لنا فيه يا رب العالمين. اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تجعل لنا إلى سواك حاجة يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من الفقراء إليك، المتذللين بين يديك، الخاضعين لك الراجين ما عندك، الخائفين من عذابك وعقابك يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تغفر ذنوبنا، وأن ترفع درجاتنا، وأن تكفر سيئاتنا وأن تتقبل حسناتنا، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واستر عيبنا، وأقل عثراتنا، وامح زلاتنا، وكفر سيئاتنا، وأعل درجاتنا، وضاعف حسناتنا يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن ترفع بفضلك كلمة الحق والدين، وأن تنكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك. اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم وخذهم أخذ عزيز مقتدر. اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية. اللهم استأصل شأفتهم ودمر قوتهم، وخالف كلمتهم واجعل بأسهم بينهم. اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم سكن لوعتهم وأقل عثرتهم، وعجل فرجهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم ارزقهم بطانة صالحة تدلهم على الخير وتحثهم عليه، وتحذرهم من الشر وتنهاهم عنه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً، ذوي القدر الجلي والمقام العلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

رسائل تنديد وصواعق تهديد

رسائل تنديد وصواعق تهديد لقد أوجب الله عز وجل علينا طاعته ومحبته، ومن لوازم محبته: حب عباده المؤمنين وموالاتهم، ووجوب نصرتهم، وعدم التخاذل تجاه قضاياهم، وبغض أعدائه المجرمين، ومعاداتهم، فإن لم نفعل ذلك فسيستبدل الله قوماً غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا.

مصيبة تكالب المجرمين وتخاذل المؤمنين

مصيبة تكالب المجرمين وتخاذل المؤمنين الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، لا يعز من عاداه، ولا يذل من والاه، أحمده سبحانه وتعالى وهو الذي بيده كل شيء، وتنفذ مشيئته في كل شيء، ولا يعجزه في الأرض ولا في السماء شيء، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده سبحانه وتعالى، وأشهد أن نبينا وسيدنا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! رسائل تنديد، وصواعق تهديد، عزمت أن أرسلها منذ الجمعة الماضية إلى كل من يصد عن دين الله، ويحارب دين الله، ويؤذي عباد الله، وينتهك حرمات الله، ويعتدي على محارم الله؛ فإنه لا شك معرض نفسه في دنياه قبل أخراه لأوخم النتائج، وأعظم المصائب، وشر ما ينتظر المرء في دنيا أو في أخرى؛ ذلك أن أوضاع أمتنا اليوم قد صار فيها كثير من أبناء جلدتنا، وممن لهم الأمر في أمتنا، يقومون تحت حجة محاربة الإرهاب بمحاربة الإسلام، وزاد الطين بلة تلك الجرائم المتزايدة، والفظائع المتعاظمة، والإرهاب المتواصل الذي تجددت أحداثه في أرض العراق على أيدي المحتلين الأمريكيين المجرمين، حتى أصبح المرء لا يدري عن أي شيء يتحدث! هل سمعتم غضبة عمرية أو صيحة مضرية؟! إنني لم أسمع من الدول الإسلامية والعربية حتى التنديد الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، والأمم المتحدة، والعصب المفترقة، لم يكن لها حتى مجرد وقفة لتقول: إن هذا لا يتفق مع ما تقول به من حقوق الإنسان أو الحيوان. وإن الإنسان ليعجب وهو يرى هذه الأحوال في ظل هذا الإجرام المتعاظم، والقصف المتواصل للناس في بيوتهم وفي أرضهم وديارهم، النساء تقتل، وأرواح الأطفال تزهق، والأمم المتحدة غضبى لما يجري على أرض السودان من تطهير عرقي كما تزعم. حول في البصر أو عمى في البصيرة أو هو كما قال القائل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود إن الأحوال التي تمر بأمتنا اليوم هي في أوضح صور شدتها وقسوتها وفظاعتها، وهي في الوقت نفسه تعري كل متستر بستار يستر به نفسه زوراً وبهتاناً، فلم يعد اليوم أحد يشك فيمن يحارب دين الله عز وجل، ولم تعد تنطلي على أحد -حتى الحمقى والأغبياء- حيل من تلك الأقاويل والأراجيف التي نسمعها صباح مساء، تروجها وسائل الإعلام، وتصم بها آذاننا أقوال الساسة والمسئولين في شرق الأرض وغربها، من أبناء ملتنا ومن غيرهم. ومن ذا الذي يستطيع أن يندد بهذا؟! وماذا نملك حتى نهدد تلك القوى العظمى، والأمم المجتمعة على الباطل، الراضية بشريعة الغاب: البقاء للأقوى؟! هل أملك أنا أو أنتم أن نندد بذلك؟ وماذا في أيدينا حتى نهدد؟ وبأي شيء نستطيع أن نواجه مرة أخرى وثانية وثالثة؟

حتمية المواجهة لأعداء الله

حتمية المواجهة لأعداء الله ينبغي أن نوقن أننا على أرض صلبة قوية، وأننا على يقين وإيمان راسخ ثابت، وأننا على وعد وأمل صادق لا يتخلف متى كنا مؤمنين بالله، مسلمين حقاً، ملتزمين أمر الله، متبعين لسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. سنندد ونهدد بآيات الله، وبأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن على يقين من أمرنا، وعلى بينة من نهجنا، وعلى ثقة من وعد ربنا، نرى حقائق الأمور ببصيرة الإيمان، ونبصر في ظلمات الشبهات أنوار القرآن، ينبغي أن نرجع إلى تلك المنهجية التي لا زلنا نكرر أهميتها. فنقول: إن هذا التهديد والوعيد وإن كنا نخص به أعداء الله أولاً، والمرجفين والظالمين والطغاة والبغاة من أبناء ملتنا ثانياً، فإننا لا نستثني منه أنفسنا، فقد جاءنا من آيات الله، ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يواجه تقصيرنا وتفريطنا، وغض أبصارنا عن الظلم، ورضا قلوبنا ونفوسنا بالانحراف ووقوع المنكرات، فكل ذاك المفرط والمختلف عن أمر الله، والذي لا يقوم بالواجب في حقه إزاء دين الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:32 - 35]. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى) وإن حشدوا القوات والطائرات والجيوش المتحالفة، والقوى المتعاظمة (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) ستدور الدائرة عليهم يقيناً لا شك فيه، وسيحيق المكر السيئ بأهله صدقاً لا كذباً ولا مراء فيه، وسيحبط الله أعمالهم، ونحن نؤمن بما يقول الله جل وعلا، ولا نؤمن بما يقوله الكذبة من الساسة والمنافقين من غير المسلمين ومن المتمسلمين. ثم يلتفت النداء القرآني إليكم معاشر المؤمنين، كيف تواجهون ذلك؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) لا قدرة لكم على المواجهة، ولا أمل لكم في القدرة على المغالبة إلا بالاستمداد من الله إلا باتباع هدي رسول الله إلا بالعمل على سنة الله إلا بالتحقق والتحقيق لوعد الله؛ وإلا فإن أعمالكم هباء، وإن جهودكم ليس فيها غناء، وإن أقوالكم حجج عليكم وليست لكم، كم سمعنا من الأقوال! كم سمعنا من البيانات! كم رأينا من المؤتمرات تأتلف أو لا تأتلف، تجتمع أو لا تجتمع! كلها لا قيمة لها؛ لأنها ليست على منهج الله. ثم يخبرنا الحق جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ). ومرة أخرى يقول الحق جل وعلا في آياته: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، استمعوا إلى هذه النداءات القرآنية، والتوجيهات الربانية! (وسيحبط أعمالهم) قال السعدي: أي: مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل، بألا تثمر لهم إلا الخيبة والخسران. ألم يقولوا في كثير من مواجهاتهم: إنها أوقات قصيرة، وإنها معارك هزيلة؟ ما زال الحر من نارها، والشرر من رجالها يحرقهم، يقذف الرعب في قلوبهم، ويفرق صفوفهم، وسيحبط الله جل وعلا أعمالهم. (فَلا تَهِنُوا) قال ابن كثير: لا تضعفوا عن الأعداء. (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي: المهادنة والمسالمة. قال السعدي: لا تضعفوا عن قتال عدوكم، ويستولي عليكم الخوف؛ بل اصبروا واثبتوا، ووطنوا أنفسكم على القتال والجلاد؛ طلباً لمرضاة ربكم، ونصحاً للإسلام، وإغضاباً للشيطان، ولا تدعوا إلى المسالمة بينكم وبين أعدائكم طلباً للراحة، والحال أنكم أنتم الأعلون. ثم ذكر الله عز وجل أموراً ثلاثة من تمسك بها لا يخشى قوى الأرض مجتمعة، ولا يتراجع قيد أنملة إلى الوراء، ولا يستطيع أحد أن يوصل إلى قلبه خوفاً أو إلى نفسه يأساً: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، أنتم الأعلون بالاستعلاء بالإيمان ومنهج الإسلام، وأنتم الأعلون بما توفرون من أسباب القوة والقدرة على مواجهة أعدائكم، (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، ألم يقع ذلك في بدر؟ ألم يحصل مثله في الأحزاب؟ ألم نره عبر تاريخ أمة الإسلام في كل المواقع والمعارك والمواجهات؟ هل صار المسلمون اليوم في شك من دينهم، وفي ضعف إيمان بآيات ربهم الكثيرة في كل من يصد عن دين الله، ويحارب دين الله؟ (وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، لن ينقص أجوركم وثوابكم حتى ولو لم تتحقق النتائج على أيديكم، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي: لن يجعلها حابطة كغيرها، بل ستثمر اليوم أو غداً أو بعد غد؛ لأن الله عز وجل وعد كل عامل بالخير ومحقق لوعده أن ينجز له سبحانه وتعالى ما وعد.

حقيقة ما يجمعه الكفار لحرب المسلمين

حقيقة ما يجمعه الكفار لحرب المسلمين قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [هود:19 - 22]. ما كان لأولئك من قوة إلا بسبب ضعفنا، (أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ) لا يعجزون الله وقدرته وقوته سبحانه وتعالى، وهو الذي أمره بين الكاف والنون، إذا قال للشيء: كن؛ فيكون. ونحن نعلم كذلك أن هذه الوعود الربانية لا تتخلف أبداً، (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) مهما جاءوا بقوى من هنا أو من هناك، وحلفاء من شرق أو غرب فلن يثبت ولن يقف شيء أمام قوة الله، ولا أمام قوة المؤمنين بوعد الله، مهما عظمت قوتهم، فثقوا بدين الله، واعلموا أن كل ما يواجهوننا به إنما يتحقق فينا أثره لما أخللنا به من منهج الله عز وجل، وتخلينا به من الاستمساك بدينه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36] ما هي النتيجة؟ {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] آيات قاطعة! كلمات بالحق ناطقة! ولكنها لا تضرنا إلا بأسبابنا، وبتخلينا عن نهج ربنا. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5]، والآيات تخبرنا بصيغة المضارع المتحقق الوقوع، قال ابن عطية في معنى الكبت والمكبوت: يكون حزيناً؛ لأنه يرى ما يكره ولا يقدر على رده. سيأتيهم اليوم الذي يذوقون مثل ما يفعلون من هذه الجرائم، وهم لا يملكون دفعاً ولا نصراً بإذنه سبحانه وتعالى: {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5]، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20] تلك هي الوعود الربانية، والتهديدات الإلهية.

ولاة الأمور وما عليهم من الحقوق

ولاة الأمور وما عليهم من الحقوق نحن -عندما نوقن بآيات الله- لا نحتاج إلى تنديد أهل الأرض، وإلى تهديد القوى الفارضة التي لا تقوم ولا تنطلق من قاعدة الإيمان بالله، ولا ترتبط بمنهج الإسلام، ولئن كان ذلك غيض من فيض آيات كثيرة، ومواقف وقصص عظيمة ذكرت في كتاب الله؛ فإن لنا كفاية من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنديده وتهديده، توجد صور كثيرة لنا وليست لأعداء الله، بل هي فينا معاشر المسلمين، من الذين لهم الصدارة في أمتنا ولاة وحكاماً وقادة، وإلى من دونهم من كل من له ولاية، ومن في يده سلطة، وغير ذلك من وجوه لا يكاد يخرج عنها أحد منا بحال من الأحوال. وحينئذ نقولها ونحن بقلوب ثابتة وبصوت عال؛ لأن الناطق بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وهل يستطيع أحد مهما علا وعظم أن يرد قوله عليه الصلاة والسلام، أو أن يستهين بتهديده ووعيده، وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]؟! عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش) فله عليه الصلاة والسلام حق، وللأئمة حق كذلك، ثم يقول عليه الصلاة والسلام في شأن الأئمة: (ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) رواه أحمد في مسنده بسند جيد، ورجاله ثقات، ورواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه. وعن أبي هريرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور) رواه البزار في مسنده، ورجاله رجال الصحيح. (ما من أمير عشرة) فكيف بأمير الملايين المتولي أمرهم باسم الله، وبادعاء القيام بأمر الله، والذب عن شريعة الله، والحفظ لحقوق عباد الله؟ أفلا يرعوي كل من يسمع ذلك؟ أليس في هذا أعظم تهديد تنخلع قلوب من في قلوبهم ذرة إيمان، أو بقية أثر من إسلام؟ إن الأمر أعظم مما نتخيله ونتصوره، وهذا دعاء من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ودعاؤه مجاب، تروي هذا الدعاء عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم! من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) رواه مسلم في صحيحه. إلى الذين يشقون على عباد الله، ويتعنتون معهم، ويسرفون في تعذيبهم وإيذائهم، وإلحاق الضرر والشر بهم على كل مستوياتهم المختلفة، وفي كل مسئولياتهم المتنوعة؛ فليعلموا أن الله عز وجل يجازيهم من جنس عملهم، وأنه يلحق بهم عاجلاً أو آجلاً مثلما فعلوا بغيرهم، ومن لم يجد شيئاً في الدنيا من مثل هذا فإنما ذلك -والعياذ بالله- دليل على عظمة سخط الله عليه، وأنه ادخر له العذاب فلم يعجله له في الدنيا، فأجله له، وسيجعله له مضاعفاً في الآخرة. ومعقل بن يسار رضي الله عنه يروي الحديث الذي يحفظه كثير من الناس: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)، وفي الرواية الأخرى: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يرح رائحة الجنة) متفق عليه. أفلا يستمع إلى ذلك قادة الأمة وحكامها؟ أحوال أمتنا في أكثر بلادها تستحق أن ينطبق عليها مثل هذه الأحاديث التي قالها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، أفيخشون من أمريكا أو غير أمريكا، ولا يخشون من الله عز وجل؟! أفيرضون أن يعملوا قوتهم وقدرتهم في سخط الله عز وجل، ويخشون أن يفعلوا أقل القليل مما يُظن أنه يسخط أعداء الله؟! أفلم يسمع الناس جميعاً حديث أم المؤمنين عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ابتغى رضا الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى سخط الله برضا الناس؛ سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)؟! إن الأحوال لا تقتصر على من بيده الأمر أو الحكم أو السلطان، بل تعم كل أحد في مسئوليته، حتى تعم الفرد الذي ليس له مسئولية عن غيره؛ لأن له مسئولية عن نفسه. ولذلك استمعوا إلى هذا الحديث أيضاً، وما فيه من التهديد والوعيد: (صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غاشم، وكل ضال مارق) رواه الطبراني في المعجم الكبير ورجاله ثقات. (كل ضال مارق) كم فينا نحن معاشر المسلمين من يصدق فيه ذلك؟! وهكذا كلنا يعلم أن الظلم منه ما هو يسير، ومنه ما هو عظيم، ومنه ما هو محدود الدائرة، ومنه ما هو واسع، والنصوص كلها تتناول ذلك قليلاً كان أو كثيراً، عن أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102])، من يستطيع أن يفلت من قبضة وغضبة الله جل وعلا إذا ظلم وقد حرم الله الظلم، وإذا بغى وقد وعد الله عز وجل أن ينتقم لمن بُغي عليه؟ كل من يظلم على خطر، حتى من يظلم زوجته، أو يظلم الموظف الذي تحته، فضلاً عمن يظلم رعيته. وهكذا نرى الصور المختلفة التي تمضي بنا إلى تفصيل وتحديد، وتصور لنا الواقع كأنما هذه الأحاديث -وهي التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم- تخترق حجب الغيب، وتتجاوز آفاق الزمان؛ لتكون في كل وقت وآن، تكشف للناس عموماً، وللمسلمين خصوصاً كيف يعرفون واقعهم، وكيف يعرفون أين يضعون مواطئ أقدامهم قبل أن تزل الأقدام، وقبل أن يحصل لهم ما لا يرجونه من السخط والغضب الرباني. عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه)، وهذا واقع حال كثير من ولاة أمتنا. وهذا هشام بن حكيم مر في بلاد الشام، ورأى بعض الأنباط من غير المسلمين في حر الشمس، ويوضع عليهم شيء من الزيت عقاباً لهم؛ لأنهم لم يؤدوا الجزية، وربما كان ذلك عن غير إمكان، فقال: أشهد الله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) رواه مسلم في صحيحه. فليخش الذين يعذبون عباد الله، والدعاة إلى دين الله، والعلماء الناطقين بالحق، المبينين لشرع الله، وليخش كل من يظلم أحداً دونه في القوة، فإنه ما من شيء إلا وله عقوبته دنيا وأخرى، نسأل الله عز وجل السلامة من ذلك! عن أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ضرب سوطاً ظلماً فإنه يقتص منه يوم القيامة)، يقتص ولو في سوط واحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟! أيها الإخوة المؤمنون! إن الأحوال التي تجري ينبغي أن تزيدنا يقيناً بوعد الله عز وجل، وبصيرة بسنن الله سبحانه وتعالى، وينبغي أن تردنا بقوة أكثر إلى دين الله وشرعه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن تدعونا إلى التشبث والاعتزاز والاستعلاء بدين الله، وينبغي في آخر الأمر أن تكشف لنا حقائق أعداء الله، وأن نعلم أن قوتهم الدنيوية لا يعبأ بها، ولا يخشى منها من كان الله معه: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. أسال الله عز وجل أن يكشف الغمة، وأن يرفع البلاء عن الأمة، وأن يعيدنا ويردنا إلى دينه رداً جميلاً. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وجوب نصرة المؤمنين وبغض الكافرين

وجوب نصرة المؤمنين وبغض الكافرين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فهي أعظم زاد يقبل به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله بغض أعداء الله، وعدم الذلة لهم، وفي الوقت نفسه الانتصار لعباد الله، والموالاة لهم، وبذل ما في الوسع لنصرتهم، بقدر ما يستطاع ولو بأقل القليل، فإن التهديد والوعيد قد تناول الساكت أيضاً كما جاء في حديث جابر وأبي طلحة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يخذل مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه؛ إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته؛ إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته) رواه أبو داود في سننه والطبراني بإسناد حسن. (ما من مسلم يخذل مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه) وقد رأينا الأحداث كثيرة مستمرة في أرض فلسطين، وفي العراق، ورأينا الأحداث الأخيرة التي فيها أعظم بغي وظلم، فأين الذين عندهم الأموال والقوات والجيوش؟! أين هم من نصرة هؤلاء ولو بكلمة، ولو بإعانة، ولو بإبانة؟ وأين بقية المسلمين من حزن يعتصر قلوبهم؟ كثير منهم يضحك ملء شدقيه، ويأكل ملء ماضغيه، وينام ملء جفنيه، وكأن شيئاً لم يكن، وكأن حزناً لم يخالط قلبه، وكأن كرباً لم يقع له! إنها نصوص عظيمة، وتهديدات خطيرة: (ما من مسلم يخذل مسلماً) في مثل هذه الظروف العصيبة، ليس لأولئك إلا الله، نسأل الله عز وجل أن يثبتهم، وأن يفرج عنهم، وأن يعينهم، ونسأل الله عز وجل أن يدحر عدوهم، وأن يرد كيدهم في نحرهم، ونسأل الله عز وجل أن يسخرنا لنصرتهم حزناً عليهم، ووحدة معهم، ودعاء لهم، وبذلاً للأموال والأرواح في سبيل نصرتهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، إلى من تكلنا؟ إلى عدو يتجهمنا أم إلى عدو ملكته أمرنا؟ إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي، ولكن رحمتك وعافيتك أوسع لنا. نسألك اللهم ألا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن تيسر لنا، وأن تهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن تجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن توفقنا لطاعتك ومرضاتك، وأن تسخرنا في نصرة دينك وولاية عبادك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم عليك بالطغاة المتجبرين، اللهم عليك بهم أجمعين، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين، واشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، واجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك، واجعلنا اللهم أفقر الفقراء إليك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة. اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الرجاء إلا فيك، ومن الإنابة إلا إليك. اللهم علق قلوبنا بك وبطاعتك يا رب العالمين! اللهم إنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك؛ فأمدنا اللهم وإخواننا المسلمين بحولك وقوتك ونصرك وعزك وتأييدك يا رب العالمين! اللهم ثبت أقدامنا، واربط على قلوبنا، وانصرنا على عدونا. اللهم أفض على قلوبنا السكينة والطمأنينة، واجعلنا يا ربنا أوثق بما عندك من كل قوى الأرض كلها يا رب العالمين! اللهم انصرنا فإنك أنت المعين الناصر، ولا تخذلنا فإنك أنت الملهم القاهر يا رب العالمين! نسألك اللهم لأبناء أمتنا أن تردهم إلى دينك رداً جميلاً. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذه خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين. وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين. اللهم إنه لا حول ولا قوة لهم إلا بك؛ فأمدهم بحولك وقوتك يا رب العالمين، اللهم إنهم عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، ضعفاء فقوهم، اللهم أنزل عليهم نصرك وعزك وتأييدك يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

التوبة آثار وآفاق

التوبة آثار وآفاق جعل الله للعبودية مراتب وصوراً، ومن أعظم تلك الصور التي يترقى فيها العبد في العبودية: التوبة؛ إذ هي تحمل أعظم معاني العبودية للمولى عز وجل، ففيها إخلاص الدين لله، والعودة والرجوع إليه، والخضوع والتذلل بين يديه، وقد وعد الله كل مخلص تائب بالمغفرة والمحبة. ومما يلزم العبد معرفته في باب التوبة معرفة العوائق التي تحول بينه وبين طريقها؛ كي يحذر منها، ويبتعد عنها.

التوبة وما تحققه من معاني العبودية

التوبة وما تحققه من معاني العبودية الحمد لله، الحمد لله فتح أبواب رحمته للمؤمنين، وبسط يده للتائبين، وأعد عفوه للمستغفرين النادمين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده دخراً، فله الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله؛ ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، واحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موسم عظيم من مواسم المغفرة، وأيام مباركة من أيام الله، ونفحات عظيمة من نفحاته جل وعلا، هبت علينا أنسامها في هذه الأيام المباركة من خلال الفريضة المعظمة، وما يزال العبد يتقلب في رحمة الله، وما يزال المؤمن ينظر إلى جود الله وعطائه، وما يزال المؤمن متعلق قلبه بما عند الله، كل ذلك مما اقتضته حكمة الله جل وعلا لتنشيط النفوس وإقبالها على التوبة والاستغفار، ولشحذ الهمم والعزائم على دوام الاتصال والمواظبة على العبادة والأذكار؛ فإن الله جل وعلا قد جعل لهذا الوجود كله غاية أوجزها في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فعبودية العباد هي غاية هذا الوجود، ومن أجل تحقيقها أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، ونصب الموازين، وخلق الجنة والنار؛ فهي غاية عظيمة، ولأجل تحقيق هذه الغاية رسم الله جل وعلا ووضع المنهج الذي تتحقق به عبودية العبد ويتصل من خلاله بخالقه ومولاه سبحانه وتعالى، فكلما وهت حبال العبودية أو تقطعت أسبابها جاءت الفرائض والمواسم والعادات العظيمة من الله عز وجل لتعيد العبد إلى عبوديته وانكساره بين يدي الله وذلته، وإلى رجوعه وندمه، ومن ثم استغفار ربه وتوبته إليه، وهذا الذي نلحظه كلما فترت هممنا، أو ضعف إيماننا، أو غلبت دنيانا على قلوبنا، أو غرقنا في شهواتنا ولذاتنا، تجيء هذه العبادات وهذه المواسم المذكرات لتردنا إلى طريق الله لتعيد إلينا حقيقة عبوديتنا لله، وضرورة صلتنا به سبحانه وتعالى. وليس من المشاهد والمواسم موسم أعظم من هذا الموسم الكبير؛ موسم الحج الأكبر، والأيام المباركة والمغفرة العظيمة، وقبول التوبة الذي وعد به الحق سبحانه وتعالى بعد أن بينه وبين تحققه بكمال عبوديته لله؛ فلا بد أن يحمل معوله ليهدم كل حجاب وكل مانع وحائل بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإنما معول هدم الذنوب هو التوبة لله جل وعلا، ودوام الاستغفار له سبحانه وتعالى، ليس بمستنكر أن يقع الإنسان في المعصية، وإنما الشقاء الأعظم في أن يلهو الإنسان، ويغفل القلب، ويسرح العقل؛ فلا يدرك أنه وقع في المصيبة العظمى والداهية الكبرى عندما عصى ربه وخالقه والمنعم عليه، وكان ذلك كله مانعاً من أن يفزع إلى التوبة إلى الله سبحانه وتعالى. وما أعظم ما يتحقق في التوبة من معاني العبودية، فإن معظم معاني العبودية تتحقق في هذه التوبة التي ينطرح فيها العبد بين يدي ربه سبحانه وتعالى يعرف خطأه فيستغفر، ويعرف قدرة ربه وعظمته وجبروته فيخاف منه، ويميل إلى عفوه ومغفرته فيرجوه، ويطلب عونه وقوته وقدرته من الله سبحانه وتعالى فيسأل ويطلب، فإذا به ينصبغ بصبغة العبودية تضرعاً وخشوعاً ورهبة ورغبة ودعاء وتوسلاً واستعانة وتوكلاً، وليس مثل هذا الأمر عظمة في أثره في القلب، وفي سلوك العبد من بعد ذلك.

شروط التوبة

شروط التوبة ذكر أهل العلم للتوبة شروطاً، إلا أن التفكر فيها يزيد من عظمة هذه التوبة وأثرها في الأوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وزيادة الإيمان، ورفع الدرجات عند الرحمن سبحانه وتعالى. أولاها: الإقلاع عن الذنب وعلامته: المفارقة الفورية، والإقلاع النهائي، والعزم السريع على هذا الفعل في تخلص العبد مما يحجبه عن ربه، وتقع به ظلمة قلبه. ثانيها: الندم: وعلامته: طول الحزن على ما فات وسلف من التفريط. سئل سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: أي الأعمال أكثر عبودية لله؟ وأي العباد أشد قرباً من الله؟ فما قال: المصلي ولا الذاكر ولا التالي، وإنما قال: (رجل اجترح ذنباً؛ فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه)، ما يزال أثر الندم يقود إلى دوام الحزن والألم، وإلى مزيد من الذكر والاستغفار، وإلى مزيد من طلب التوبة من الله سبحانه وتعالى؛ فيتجدد للعبد حينئذ عبودية ترقى به إلى أسمى مراتب العباد، ولذا فقه السلف الصالح رضوان الله عليهم هذا فعلموا صدقه وعلموا عظمته فقال قائلهم كما قال سعيد بن جبير: إن أعلى المراتب: رجل اجترح ذنباً؛ فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه. ثالثها: على الطاعة، وعلى عدم العود إلى المعصية: وعلامته: التدارك لما فات، تحقيقاً لقوله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]. ولقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها). وعلى الإنسان أن يتحلل من مظالم الناس، وأن يؤدي حقوق الناس، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)، رواه البخاري في صحيحه. فهذه المعاني كل واحد منها هو معنى من معاني العبودية يتحقق في القلب، وتعمر به النفس؛ سواء كان سبب الإقلاع الخوف من الله، أو الحياء منه، أو الندم؛ فما وقر في قلبك إلا من أثر الخشية من الله عز وجل، أو العزم والعمل؛ فما وقع إلا رغبة منك في إثبات العبودية لله، أو البراءة من الحقوق، فلم يقع منك إلا لأثر هذا الذنب الذي تخشاه في أخراك. والله سبحانه وتعالى قد دعانا وأمرنا، وهو الغني عنا الذي لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، لكنه جل وعلا من رحمته ومن محبته لعباده المؤمنين ناداهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم:8]، أي عظمة أعظم من هذا النداء الذي فيه تلطف وتحبب وتقرب للعباد بوصفهم بهذا الوصف؟ إنه وصف الإيمان الذي يحبونه ويرون فيه شرفهم وعزتهم، وكذلك يستدعي الله عز وجل بهذا النداء عزم أهل الإيمان؛ لأن للإيمان متطلبات ومقتضيات، أولها: سرعة ودوام واستمرار الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8].

محفزات التوبة

محفزات التوبة قال ابن القيم وغيره من العلماء: التوبة النصوح تتضمن ثلاثة أمور: الأول: أن تكون توبة عامة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، قديمها وحديثها، ما يتعلق بالعبد ونفسه والعبد والآخرين، وإننا نعلم أن العمل الذي نقدم عليه ويكون علينا فيه مؤاخذة كثير، ربما ندرك بعضه ولا ندرك بعضه الآخر، ومن ثم جاء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استغفاره وفي دعواته يعلمنا هذا: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه)، وعندما كان يستغفر ذنبه كان يستغفره كله سره وجهره، علانيته وباطنه، ما علمت منه وما لم أعلم، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام. الثاني: إجماع العزم: فلا تردد ولا توانٍ، أما من ترك المعصية وأقبل على التوبة حفاظاً على صحته، أو حفاظاً على سمعته، وهو متعلق بتلك المعصية ولو كان يأمن على سمعته أو صحته أو منزلته أو نحو ذلك لقارفها، فمثل هذا ما صدقت توبته، ولا نصح لله عز وجل في أوبته، ولذلك ينبغي أن نتأمل أن التوبة معانيها القلبية هي التي ينبغي مراعاتها، وهي التي ينبغي الحرص عليها، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم مائة مرة). وإذا أراد الإنسان أن يتشجع على هذه التوبة فعليه أن يعلم أن الله سيغفر له ذنبه، ويستر عيبه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا سألنا الله ودعوناه أن نوقن بالإجابة، وقد نهانا عن تعليق الدعاء بالمشيئة؛ لأن الله عز وجل لا يتعاظمه شيء، ولا يرد أمره شيء سبحانه وتعالى، ألم تستمع لقول الحق جل وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ} [آل عمران:135 - 136]، أليس هذا وعد من الله؟ ووعد الله عز وجل -قطعاً- لا يتخلف. إن تذكرت الله، وإن حل في قلبك الندم على معصية الله، وإن وجد في نفسك العزم على طاعة الله فهذه المعاني الإيمانية التعبدية كفيلة بأن يمحو الله عز وجل لأجلها ذنبك، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المغفرة من الله واقعة لا محالة. هذا أولاً، ومن الأمور التي تشد العبد إلى التوبة وتربطه بها؛ ذلكم أن الله عز وجل يحب التائبين المستغفرين، وقد قال في كتابه بالتوكيد: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]؛ فالتواب الذي يئوب ويرجع ويعترف بين يدي الله عز وجل بذنبه محبوب عند الله عز وجل. وقد ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم حمل على دابته متاعه في أرض فلاة، فضلت عنه، فبحث عنها فلم يجدها، فاستظل تحت ظل شجرة ينتظر الموت وقد أيس من دابته، فلما استيقظ وجدها وعليها متاعه، ففرح وأخطأ من شد الفرح، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فالله عز وجل أشد فرحاً من فرحة هذا العبد الذي انقطعت عنه أسباب النجاة. يفرح الله بتوبة التائبين؛ لأنها عربون وشهادة على عبودية أولئك التأبين؛ ولأن فيها خاتم الذل لله رب العالمين؛ وبصمة السجود والبكاء والتضرع والخضوع لرب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى. ثالثاً: استمرارية فتح باب القبول من الله عز وجل، فإنه (يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها)، فأي باب أوسع من هذا؟ وأي رحمة أعظم من هذا؟ وأي توبة أوسع من هذا؟ إن هذا مما يجعل العبد يتهيج لطاعة الله، ويداوم على التوبة والاستغفار لله سبحانه وتعالى. وقد ورد في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فالذي ينتبه لهذا يدرك أهمية التوبة. رابعاً: من الأمور التي تحفز المرء على التوبة معرفته لخطر الذنوب وآثارها، فإنه إذا تفطن لهذا علم أن أعظم البلاء، وأكبر المصائب إنما تحل عليه من أثر الذنوب والمعاصي. إن الفقه الإيماني الذي كان عليه أسلافنا يربط كل شيء من فلاح ونجاح وتوفيق بالطاعات، ويربط كل شيء من إخفاق وفشل وعناء وبلاء بالمعاصي؛ حتى قال قائلهم: (إني لأجد أثر الذنب في خلق دابتي وزوجتي)، فإذا فقهنا ذلك علمنا لم عندنا الأموال، لكنها ممحوقة البركة؟ ولم عندنا الأبناء، لكننا فقدنا برهم وفقدنا كثيراً من خيرهم؟ ولم عندنا كذا وكذا ولكننا لا نجد أثر التوفيق فيه؟ لو فقهنا ذلك لعلمنا أنه من آثار تراكم المعاصي والذنوب التي نقترفها سواء أكنا مدركين لذلك أو غير مدركين، والطبع على القلب أسوأ آثار هذه الذنوب: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين:14]، قال بعض السلف من المفسرين: (هو الذنب بعد الذنب)، وقال آخر: (هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب) والعياذ بالله. وإفساد العقل أيضاً من الآثار، فإن العقل نور وضياء، والمعصية ظلمة تطفئ نور العقل فيضل -والعياذ بالله- والتهاون بالمعصية من أثر هذه الذنوب، والتكاثر لها بتواردها واستمرارها من أثر هذه الذنوب، وذهاب الحياء من الله قاصمة الظهور في هذا الباب، وينتج عن أثر ذلك نسيان الله عز وجل للعبد وتركه، فلا يدافع عنه كما وعد: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، ولا يتولاه برعايته كما قال عز وجل: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} [الأعراف:196]، هذه كلها يفقدها العبد عندما لا يدرك خطر الذنوب والمعاصي ويفيء إلى التوبة. ألا أيها المستطرف الذنب جاهداً هو الله لا تخفى عليه السرائر فإن كنت لم تعرفه حين عصيته فإن الذي لا يعرف الله كافر وإن كنت عن علم ومعرفة به عصيت فأنت المستهين المجاهر فأية حاليك اعتقدت فإنه عليم بما تطوى عليه الضمائر فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التائبين المستغفرين، وأن يجعلنا من المقرين بذنوبنا المعترفين بتقصيرنا، المبادرين إلى الاستغفار والتوبة، والعازمين على الاستمرار على الاستقامة والطاعة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

عوائق التوبة

عوائق التوبة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن نعم الله عز وجل على العباد لا تعد ولا تحصى، ومن هذه النعم العظيمة: فتح أبواب التوبة، وهذه مواسمها العظيمة التي يبسطها الله عز وجل ويعيدها علينا مرة بعد مرة، وعبادة إثر عبادة؛ حتى تفيء القلوب إلى الله، وتلهج الألسن بالاستغفار لله، وتعاود الجباه السجود لله سبحانه وتعالى. واعلم أخي المؤمن أن ثمة عوائق قد تصدك عن التوبة، ولابد أن تدركها وتعرفها، ولابد أن تتجاوزها وتقفز من فوقها؛ لئلا تجعل حاجباً وحاجزاً بينك وبين الله، فلا تتحقق حينئذ بكمال العبودية لله، ومن أعظم هذه العوائق.

التسويف

التسويف العائق الأول: التسويف الذي يستخدم سوف والسين، وغداً وبعد غد، وإذا تفرغت لكذا وكذا، أو قضيت نهمتي من شبابي أو نحو ذلك. وما يدريك أن أجلك يمتد إلى أن تبلغ هذا المبلغ فتتوب وتستغفر؟ وما يدريك أنه إذا امتد أجلك سيكون في قلبك إخبات وخضوع وخشوع لله فتتوب وتستغفر؟ ألم تسمع قول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]؛ فأي ضمان لك أن يضرب على قلبك ويسود بتكاثر الذنوب فيموت ويعمى فلا يعود فيه أثر لإشراقة إيمان، ولا أمل لبارقة توبة؛ ويختم على قلبك كما يختم على قلوب أهل النفاق؛ فتظلم نفسك وروحك فلا يكون عندك انبعاث إلى توبة ولا طاعة؟ نسأل الله عز وجل السلامة. قال ابن القيم رحمه الله: مثل المسوف كمثل رجل أراد أن يقتلع شجرة من الأرض، فلما جاء وجدها قوية راسخة في الأرض فتركها، وقال: أرجع إليها بعد عام، فإذا رجع إليها بعد عام كانت قد امتدت جذورها، وعظم رسوخها، وصعب قلعها، وكان هو قد امتد به العمر ووهنت قواه، وكلَّ عن ممارسة هذه العملية المهمة، فليس هناك أحمق من هذا الذي يترك الأمر حتى يعظم، فلئن عجز عنه وهو في مبتدئه فهو عنه في منتهاه أعجز، فلا تجعل التسويف قنطرة يقودك بها الشيطان من ذنب إلى ذنب، ومن واد للشهوات والملذات المحرمة إلى واد آخر، فما تزال تتردى من حفرة إلى حفرة إلى واد سحيق، إلا أن يتداركك الله برحمته.

التهوين

التهوين العائق الثاني: التهوين، أي: تهوين بعض المعاصي، وبعض الناس إن قلت له: استغفر الله أو تب إلى الله، قال: ما عملت شيئاً، يظن أنه لا يستغفر إلا إذا ارتكب أكبر الكبائر وأفظع الفظائع، وما يدري أنه ينبغي له أن يستغفر ويتوب من تقصيره في ذكر ربه وتعظيمه لمولاه سبحانه وتعالى، أليس قد غفر الله جل وعلا لرسوله عليه الصلاة والسلام ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ وأليس هو القائل عليه الصلاة والسلام: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة)، وفي روايات أخرى: (مائة مرة)؟ أليس هو عليه الصلاة والسلام القائل: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟ وأي ذنب هذا الذي نستهين به ونستصغره ونحن قد وقعنا فيما هو من العظائم والفظائع التي لم ندركها؟ أليس قد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)؟ كلمة من سخط الله تقولها -وما أكثر ما نقول- لا تلقي لها بالاً، لا تظنها من الأمور التي ينبغي أن يطول ندمك عليها، وأن يعظم استغفارك عنها، تهوي بها في النار سبعين خريفاً. ألم تستمع لفقه أهل الإيمان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان؟ ألم تسمع لما صح عن ابن مسعود: (إن المؤمن يرى الذنب كأصل جبل يوشك أن يقع عليه، وإن المنافق يرى الذنب كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا؟) فمن استهان بالذنوب فإنه يشبه المنافقين في عدم تعظيمه وتوقيره لرب العالمين. ألم تستمع لقول أنس في الصحيح: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر -أي: تستهيون بها، وترونها هينة سهلة- كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) لحياة قلوبهم، ولتعظيم ربهم، ولاستعظامهم لما يقع من مخالفة العبد لربه، وارتكابه ما حرمه عليه، وهم من هم ممن كانوا على قدم وساق في الطاعات، وعلى شدة ورع واحتياط من ترك الشبهات فضلاً عن التخلي والبعد عن المحرمات. أليس قد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: (إني قد أدركت أقواماً هم أخوف ألا تقبل منهم حسناتهم منكم من أن تحاسبوا على سيئاتكم؟) فمن سلف كانوا يخافون رغم طاعاتهم أن يحرموا القبول، فما يزال خوفهم يملأ قلوبهم، ويجري بالدموع عيونهم، ويذل لله عز وجل جباههم، ويديم على مدى الزمان ندمهم وكثرة طاعتهم وعبادتهم، وما يزال في قلوبهم الخوف، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته عائشة عن قوله عز وجل: ({وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت: هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخشى ألا يقبل منه). وهذا بلال بن سعد يقول: (لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت). فهذا هو الذي ينبغي أن تستحضره، وإياك وتهوين الذنوب.

تعظيم الذنب

تعظيم الذنب العائق الثالث: التعظيم: وهو تعظيم الذنب الذي يوقعه الشيطان في نفسك، فيقول: وأنى لك التوبة؟ وكيف تحصل لك المغفرة وأنت قد فعلت؟ كيف وكيف وكيف؟ وقد اقترفت كذا وكذا، وقد تقحمت من المعاصي والذنوب الكبار ما لا يعلمه إلا الله؟ فقل له: اخسأ يا عدو الله! فإن أبواب التوبة مفتوحة، وإن الله عز وجل لا يتعاظمه ذنب. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية أنس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام عن رب العزة والجلال قال: (يا بن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لقيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي)، لا تستعظمن الذنب فإن استعظام غفران الذنب من الله عز وجل دليل على عدم معرفة الله، وعلى عدم الصلة الحقيقية الإيمانية بالله، ولذلك ينبغي ألا يصدك الذنب عن التوبة بل ينبغي أن يقودك الذنب إلى التوبة وما حيلة إبليس إلا بث اليأس في نفوس أهل الإيمان، ولا ييئس من رحمة الله إلا القوم الكافرون. فينبغي أن نتذكر قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، ومن الذي يمنع رحمة الله أن تصيبك يا أخي المؤمن؟ ومن الذي يمنع قدرة الله عز وجل الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أن يغفر ذنوبك وإن كانت مثل زبد البحر؟ أليس قد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام فيما صح من رواية أنس عمن صلى ثم قال دبر صلاته: (سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، وختم تمام المائة بقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قال: إلا غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، فالله عز وجل لا يتعاظمه ذنب؛ فثق بعظمة مغفرة الله عز وجل، ولا يصدنك التعظيم إلا الشرك؛ فإن الله عز وجل قد قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فتعرض لمشيئة الله، وانطرح بين يدي الله، ولا يغوينك التاريخ السابق والأعمال السابقة فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن التوبة تجب ما قبلها، وإن الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، وإن الحج يغفر الذنوب جميعاً ويرجعك بإذن الله عز وجل من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فلا تكن هذه الفرية وهذه الشبهة صادة لك عن التوبة.

التردد في التوبة

التردد في التوبة العائق الرابع: التردد الذي يجعل الإنسان يحجم عن التوبة؛ لأنه يقول: ومن يضمن لي ألا أضعف فأعاود المعصية مرة أخرى؟ ونقول: هذه حيلة إبليسية شيطانية، اعزم على ألا تعود، فإن ابتلاك الله وعدت للذنب فجدد له توبة أخرى كما كان للذنب الأول، وبهذا تكون لك عبادة أخرى إن أخلصت لله عز وجل. وورد في صحيح مسلم: (أن عبداً أذنب ذنباً فاستغفر ربه، فقال الله عز وجل لملائكته: أعلم عبدي أن له رباً يؤاخذ بالذنب ويغفر الذنب، أشهدكم أني قد غفرت له. ثم أذنب الثانية فاستغفر ربه، فقال الله عز وجل: أعلم عبدي أن له رباً يؤاخذ بالذنب ويغفر الذنب، أشهدكم أني قد غفرت له. ثم فعل الثالثة) فتكرر القول والله عز وجل لا يعجزه شيء لكن لا يكون ذلك على سبيل الاستهتار والتهاون، وإنما يعزم ويصدق، فإذا غلبته غفلة أو استذله شيطان تذكر مرة أخرى وعاد {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].

التأثر بالبيئة

التأثر بالبيئة العائق الخامس: التأثر بالبيئة: فالناس ربما يفعلون أفعالاً لا يتوبون منها ولا يستغفرون؛ لأنهم يرون الآخرين يفعلون فعلهم فيظنون أن الأمر فيه سعة، وهذا مقياس عجيب وافتراء غريب من أهل الإيمان، فمتى كان فعل الناس حجة؟ ومتى كانت أقوال الناس حكماً؟ إن العبد ينظر في فعله وله في ذلك عدة أنظار: الأول: ينظر في فعله؛ فينظر إلى الأمر والنهي، فإذا نظر إلى الأمر والنهي الوارد عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام علم إن كان وقع في مخالفة أو لا، وليس إلى أعراف الناس أو أقوالهم. الثاني: له نظر آخر بعد تيقنه من وقوعه في الخطأ؛ ينظر إلى الوعد والوعيد فيخاف من الوعيد ويرجو في الوعد أن يوصله إلى التوبة ولا يتأثر بذلك. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالتوبة وبدوام الاستغفار، وأن يجعلنا من التائبين المستغفرين، وأن يجعلنا من النادمين على ما سلف منا من التقصير والتجاوز لحدود الله عز وجل. اللهم مُنَّ علينا بالعفو والعافية، ومغفرة الذنوب يا رب العالمين، اللهم إنا نتوب إليك توبة نصوحاً فتقبل توبتنا يا رب العالمين، اللهم إنا نستغفرك من جميع ذنوبنا فاغفر لنا يا غفور يا رحيم، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين، اللهم تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وطرفاً دامعاً، ونفساً مطمئنة، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك، وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة، واغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم زد إيمانهم، وعظم يقينهم، وثبت أقدامهم، ونفس كربهم، وفرج همهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم اصرف عن بلدنا هذا خاصة الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وارزقهم بطانة صالحة تدلهم على الخير وتحثهم عليه، وتنهاهم عن الشر وتمنعهم منه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم بالذكر والقدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ترحيب وتذكير

ترحيب وتذكير الترحيب والفرح بشهر رمضان دليل على حب العبد لعبادة ربه سبحانه وتعالى؛ لأن رمضان شهر عبادة وطاعة؛ وصيامه أحد أركان الإسلام الخمسة، فعلى العبد المسلم أن يفرح بقدوم هذا الشهر الكريم، وأن يشمر عن ساعد الجد والاجتهاد في عبادة ربه وطاعة مولاه في هذا الشهر.

الترحيب بشهر الصيام

الترحيب بشهر الصيام الحمد لله خالق البريات، رب الأرض والسماوات، جعل لنا في أيام دهره نفحات، يفيض فيها الخيرات، وينزل فيها البركات، ويضاعف فيها الحسنات، ويمحو فيها السيئات، ويرفع فيها الدرجات، فله الحمد جل وعلا ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبيناً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعه واقتفى أثره ونهج نهجه إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! ترحيب وتذكير بهذه المناسبة العظيمة التي يكون فيها غرة شهر رمضان يوم الجمعة، وفي أوله جمعة، وفي آخره جمعة، وفيه زيادة جمعة، فهي خيرات بعضها مع بعض، وبركات بعضها فوق بعض، فجدير بنا أن نرحب بشهرنا، وحري بنا أن نفرح بفريضتنا، وحري بنا أن نفرح بالرحمة التي أظلتنا، والمغفرة التي أحاطتنا، والبركات التي تنزلت علينا، ولا شك أنه -ونحن نبتدئ شهرنا مثل هذا اليوم الأغر الذي نستمع فيه إلى الذكرى والعظة- ينبغي أن يكون أمرنا وحالنا أوجب في أن تكون انطلاقتنا أقوى، ومسيرتنا أقوم، وأخذنا للخير أعظم، وصلتنا بالطاعة أدوم، وذلك ما لعلنا نذكر به أنفسنا في مطلع شهرنا. فمرحباً بشهر القرآن، ومرحباً بشهر الصيام، ومرحباً بشهر الإنفاق، ومرحباً بشهر الصلة والتراحم، ومرحباً بشهر الذكر والدعاء، ومرحباً بكل الخير الذي يسوقه الله عز وجل لنا في هذه الأيام المباركة، والليالي المنورة، والموسم العظيم، فمرحباً رمضان مقرباً إلى الجنان، ومباعداً عن النيران. وهل عندنا معاشر المسلمين! من غاية أعظم من أن نتعرض لنفحات الله، ونستوجب دخول جنته برحمته؟! وهل هناك هاجس أكبر عند كل مؤمن من أمله في النجاة من النار وبعده عن سخط الجبار، قال عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]؟!

بعض فضائل شهر رمضان

بعض فضائل شهر رمضان رمضان شهر له بدخول الجنة تعلق عظيم، كما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)، وفي رواية أخرى أطول، قال عليه الصلاة والسلام: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم) رواه الإمام أحمد والبيهقي والنسائي. وإذا تأملنا هذا الحديث نجد أنه إعلان عظيم ظاهر بين فيه أن هذا الشهر موسم من مواسم الجنة، تهفو النفوس والأرواح شوقاً إليها، وتخف الأبدان سعياً وعملاً وطاعة وتقرباً وتعرضاً لنفحاتها، ويعظم في القلوب أخذ أسباب النجاة من النار في ألوان وصور مختلفة من العبادات والطاعات، قال الحليمي في مثل هذا الحديث وشرح معناه: إن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره -أي: في غير رمضان- لانشغالهم -أي: لانشغال المسلمين- بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن والذكر. وفي رواية لهذا الحديث: (غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر) وهذا من فضل الله عز وجل. وقال الطيبي في شرح الحديث: فيه فائدة توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ما يزيد نشاطه ويتلقاه بأريحية، هذا خبر الصادق المصدوق يخبرنا فيه بهذه الأخبار، وكأن الله جل وعلا يعلن في الملأ الأعلى وبين ملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون: أن هذا موسم عظيم، وأن أهل الإيمان والإسلام فيه يكونون على حال عظيمة تفتح أبواب السماء وأبواب الجنان، ويشعر بذلك ملائكة الرحمن، ويخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فيكون حينئذٍ انبعاث النفوس، واشتياق القلوب، وشحذ العزائم، وقوة الهمم في الطاعة لله سبحانه وتعالى. ونحن في مفتتح الشهر وفي بدايته وأوله نستمع لهذا القول، ونردد هذه الآيات، ونكرر تلك الأحاديث؛ حتى يكون ذلك عوناً لنا على طاعته سبحانه وتعالى، ومن جهة أخرى تذكير بالتفريط، وتحذير من التقصير، قال غير الطيبي في شرح هذا الحديث: فيه رفع عذر المكلف، فكأن الله جل وعلا يقول: كفت الشياطين فلا تعتذروا بهم. وكم نسمع من القول: إبليس والشيطان، فالله جل وعلا جعل هذا الموسم بعيدة فيه قدرة الشياطين على تسلطها على المؤمنين، وقد قال أهل العلم: إنه تغل فيه مردة الشياطين كما ورد في الحديث، أو أنهم لا يصلون إلى ما يصلون إليه في غيره، والحال في جملته أن ذلك الأثر الذي يزل الإنسان ويغويه ويغريه ويصرفه عن طاعة الله، ويقعده عن الخيرات أنه منقمع منحسر ذليل، وذلك يفسح المجال واسعاً لكل من يريد الاستزادة من الخير، فإن الطريق ممهدة، وإن العقبات قد أزيحت وأزيلت وخففت، فما على المرء إلا أن يشحذ همته وعزمه، وأن يخلص نيته وقصده، وأن يبدأ عمله وجده في طاعة الله سبحانه وتعالى. ونحن نقول ذلك ونحن ندرك صلة الصيام الكبرى والعظمى بالتقريب من الجنان والمباعدة من النيران، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً). وقوله (يوماً) في الحديث مطلق لا يدل على أنه فرض، بل يكون تطوعاً، فكيف بثلاثين يوماً تصومها في سبيل الله، وإخلاصاً لوجه الله، وتنفيذاً لفريضة الله، وابتغاءً لرحمة الله عز وجل؟! لاشك أن مباعدتها عن النار عظيمة، فأخلص النية ينلك ثواب الله عز وجل، وتدركك رحمته، وينجز لك وعده بإذنه سبحانه وتعالى. وكلنا يعلم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند البخاري في قوله: (الصوم جنة)، وفي رواية النسائي: (الصوم جنة من النار كجنة أحدكم من القتال)، إنه درع حصين يقيك ويصرفك بإذن الله عز وجل عن العذاب، فإن عذاب جهنم كان غراماً. وكلنا من أعظم أهدافنا وأكثر دعائنا سؤالنا الله جل وعلا أن يباعد بيننا وبين النار، وأن يجعلنا من أهل الجنان، وهذا هو الموسم الأعظم، وتلك هي الفرصة الكبرى، وتلك هي الأبواب المتنوعة التي كلها لها صلة مفردة بأمر الطاعة والتقرب إلى الله عز وجل، والتعرض لدخول الجنان. ثم كذلك نعلم جميعاً الاختصاص الرمضاني بالجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، خاص بأهل الصيام، ينادى يوم القيامة: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل معهم غيرهم) فأي فضيلة أعظم من هذا؟! وأي تعرض لدخول الجنة في موسم أكبر وأوسع من هذا؟! فما على أحد إلا أن يشد الحزم ويبدأ العمل. وفي رواية النسائي: (للصائمين في الجنة باب يقال له: الريان، لا يدخل فيه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً).

أهمية استغلال شهر رمضان وترك الكسل والتخاذل

أهمية استغلال شهر رمضان وترك الكسل والتخاذل لا شك أننا نعجب من حالنا وغفلتنا وتقصيرنا في موسم عظيم ونحن كسالى، وفي موسم فيه من تنوع الأجر والثواب وتنوع الأعمال ما فيه ونحن ما زلنا في كسل وتراخٍ، عجبت للجنة نام طالبها! وللنار نام هاربها! كيف نريد أن نبلغ الجنان، وأن نبلغ فردوسها الأعلى، وأن نتعرض لرحمة الله ونحن في الليل ساهرون في عبث، وفي النهار نائمون عن طاعة؟! أليس ذلك حال كثير منا أو بعض منا في مثل هذا الشهر من كل عام؟! وقد نسمع هذا الكلام في منتصف الشهر أو في ثلثه الأول أو نحو ذلك، لكن فرصتنا الكبيرة أننا نسمعه ونذكر به في أول يوم، ومع افتتاح أول أيام هذا الشهر الكريم والفريضة العظيمة، فهل من سبيل إلى تغيير حقيقي، وتدارك للتقصير والتفريط، في موسم لا يقبل مثل ذلك، ولا يتصور من عاقل وقوع ذلك؟ ولابد لنا أن نكون متواصين بالحق ومتواصين بالصبر في موسم الخير، ولابد لنا كذلك من مصارحة بل ومقارعة، فإن حالنا هذا متكرر في كل عام، والقول يُعاد، والمواعظ تتكرر، والأحاديث تُروى، والآيات تُتلى، والمحاريب يُتلى فيها القرآن، ومع ذلك نجد كثيراً من تلك السلبيات، وكثيراً من ذلك التقصير والتفريط، وكأنه لا أمل في التغيير، وكأنه لا سماع لهذا القول، ولا تغير له في العزائم، وذلك ما ينبغي أن نبرأ منه، فنحن مؤمنون ومسلمون، ونحن عقلاء وذوو ألباب، فكيف نصنع ما يصنع المفرطون والمقصرون، وما يصنع الحمقى والمغفلون؟! نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك. مرحباً برمضان منقذاً من الغفلة والنسيان، ومفعماً بالذكر وتلاوة القرآن، فكم نحن في حاجة إلى أن نروي ظمأ القلوب بذكر الله وتلاوة آياته، وكم نحن في حاجة إلى أن تخضر نفوسنا التي تصحرت من كثرة غفلتنا ولهونا وعبثنا، ولغو قولنا، وسوء فعلنا، وغرقنا في شهواتنا، فرمضان شهر ينتشلنا من هذه الغفلة، ويستنقذنا من ذلك النسيان، ويغمرنا بذكر الله عز وجل، ودعائه وتلاوة آياته، حتى تكاد ألسنتنا لا تفتر من ذكر حتى تبدأ في تلاوة، ولا تنتهي من تلاوة حتى تشرع في دعاء، ولا تنتهي من دعاء حتى تبدأ في قراءة كتاب علم أو نحو ذلك، فما أعظم هذه الذكرى!

الصلة بين القرآن والصيام في شهر رمضان

الصلة بين القرآن والصيام في شهر رمضان ما أجل هذا الموسم! تحيا به القلوب، وتزكو به النفوس، وترشد به العقول، وتستقيم به الجوارح على طاعة الله سبحانه وتعالى، وكلنا يدرك ذلك، فكم لهذا الشهر من خصيصة تربطه بالقرآن، كما قال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. وكلنا يعلم كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيقول: (كان جبريل يدارسني القرآن في كل رمضان)، إنه موسم هذا الكتاب العظيم، إنه موسم الآيات القرآنية التي فيها تقويم كل معوج، وسداد كل نقص، وصواب كل رأي، وهداية كل أمر، فكم نحن غافلون عن كتاب ربنا، مبتعدون عن نور آياته، مبتعدون عن أضواء هدايته، غافلون عن الخير الذي ساقه الله عز وجل لنا فيه! لقد جاءت مرة أخرى فرصة عظيمة ينبغي لكل مؤمن عاقل أن يستثمرها، وأن يستغلها، وأن يدرك عظمة الاختصاص في وجوه كثيرة قد ذكرنا بعضاً منها، وبعضها تحكيه روايات وأحاديث أخرى، ومنها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوات في النهار، ويقول القرآن: أي رب! منعته النوم في الليل، فيشفعان فيه)، فما أعظم هذان الشفيعان الملتقيان في شهر رمضان، فنحن في شهر رمضان صائمون، ونحن في شهر رمضان للقرآن تالون، فنحن نجمع الشفاعتين معاً، ونزجيهما بين يدي الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فإذا تعرضنا للرحمة نفحنا منها، وإذا تعرضنا لمغفرته أصابنا بها، وإذا تعرضنا لرضوانه أكرمنا الله جل وعلا به، فما بالنا مرة أخرى نقصر ونفرط؟ وفي حديث الترمذي من رواية النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابي: يا رسول الله! لمن هي؟)، أي: لمن هذه الغرف التي يصفها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وصفاً تشرئب إليه الأعناق، وتتوق إليه القلوب، وتتعلق به النفوس المؤمنة؟ (فقال صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام)، وكلها في شهر الصيام، كلها في تفطير الصائمين، كلها في هذه الكلمات الطيبة التي نتحدث بها ونمسك فيها عن قول الباطل، قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فإن سابه امرؤ أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)، وكل هذه تتحقق في هذا الشهر، فكأنها أيضاً بشارة نبوية مصطفوية لمن يريد بلوغ تلك الغرف العالية التي وصفها المصطفى صلى الله عليه وسلم. والأمر أوسع من ذلك، والأبواب مفضية إلى صلة الصيام بالقرآن، وإلى صلته بالجنان أكثر تنوعاً، وأعظم من أن يحيط بها حديث قصير في مثل هذا المقام، ولكننا أيضاً مرة أخرى نقول مذكرين: هل القرآن هو الآيات التي تتلى هذاً كهذ الشعر من غير تدبر ولا تذكر، ولا تأمل في المعاني، ومن غير التزام وامتثال وتطبيق للأوامر، ومن غير اجتناب ومباعدة ومفارقة للنواهي؟ وكيف يكون حالنا؟ وهل نريد أن يكون القرآن حجة علينا أم لنا؟ وما بالنا ونحن نقرأ آيات القرآن ونجد كثيراً من المفارقات بين ما يأمرنا به وبينما نفعله، وبينما ينهانا عنه وبينا نقترفه؟ إنها فرصة كذلك لنجعل المطابقة بينما جاء في الآيات التي تُتلى وبين الواقع الذي نعيشه، والعمل الذي نمارسه، والقول الذي نتلفظ به. ولذلك فإن القرآن العظيم اليوم في واقع أمتنا يحتاج منا إلى قراءة بالقلوب، وتدبر بالعقول، يصطحبان معاً مع تلاوة الألسنة، وكم نحتاج أن نتلو الآيات وأن نختم الأجزاء! ولكن ينبغي أن نجعل لنا حظاً من التلاوة مخصوصاً بالتدبر والتأمل فيما هو حالنا وفيما عليه وما أمرتنا به آيات ربنا، فإنها فرصة تدبر عظيمة، فنحن نقرأ قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ثم لا تتحقق أخوتنا، وتتنافر قلوبنا، وتتقاطع صفوفنا، ونجد من أحوالنا نفرة وفرقة عجيبة لا يصح ولا يقبل أن تكون بين أهل إيمان وإسلام، وأهل صلاة وصيام، وأهل حج وعمرة، وأهل وحدة جامعة، ونحن نرى ما يحل اليوم في هذه الساعات وفي هذه الأوقات، وفي مفتتح هذا الشهر بإخواننا في أرض فلسطين، وإخواننا في أرض العراق! فأين نحن من الآيات التي تذكرنا بالوحدة؟! وأين نحن من الآيات التي توجب علينا النصرة؟! وأين نحن من الآيات التي تذكرنا بأننا أمة واحدة؟! وأين نحن من واجباتنا ليس في دائرة صغيرة ضيقة، بل في الدائرة الرحبة الواسعة مع بداية هذا الشهر، ومع بداية تلاوة القرآن، ومع بداية ختمة وافتتاح ختمة ينبغي أن نشعر وأن نتذكر وأن نتواصى بأن نجعل القرآن منهج حياة في كل صغيرة وكبيرة، فيما هو محيط بنا، وفيما هو بعيد عنا، فيما هو يخصنا كأفراد، وفيما يخصنا كأمة مسلمة كاملة.

فرصة التخلص من الشهوات والمعاصي في شهر رمضان

فرصة التخلص من الشهوات والمعاصي في شهر رمضان مرحباً بشهر رمضان صارفاً عن الشهوات، وسائقاً إلى الطاعات، وتلك فرصة عظيمة أيضاً، فإن الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم تضيق مجاريه بهذا الصوم، ولقد أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، كما جاء عند الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شباب لا نقدر على شيء -أي: لا نملك ما نستطيع به أن نتزوج- فقال: يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). إن الصوم علاج للشهوات المستعرة، وللنزوات الآثمة، إنه يقمع تلك الشهوات ويعالجها بعلاج مزدوج نافع، فإنه أولاً بهذا الصوم وترك الطعام والشراب يضعف انبعاث النفس إلى شهواتها، وميلها إلى رغباتها، ومن جهة أخرى فإن الطاعات ذكراً وتلاوة وإنفاقاً تفيض على القلب والنفس زكاة وطهارة تحول بينها وبين تلك المعاصي وحبها، وبين تلك الشهوات والشغف بها، وذلك أيضاً فضل عظيم، وموسم كريم ينبغي أن يُغتنم في ذلك، وأن يُحرص عليه، وألا يكون حالنا كحال كثير من المفرطين والمقصرين، فإنهم يعجزون عن الطاعات، ويتعلقون بالمعاصي والشهوات. ولعلي وأنا أتحدث إليكم الآن يخطر لي خاطر في معركة كل عام يدخلها لا أقول: الآلاف بل مئات الآلاف والملايين من المسلمين ويهزمون فيها، بعضهم يهزم من اليوم الأول، وبعضهم قد يدوم إلى ثلث الشهر أو ثلثيه، ثم يصرع كثير منهم مع نهاية الشهر، والماثل منهم والأمثل من ينتصر في شهره ثم يهزم بعد ذلك، إنها معركة الدخان! فالذين يدخنون في كل شهر يعزمون أن يجعلوا من الصوم فرصة للتخلص من هذه الآفة المدمرة، ومع ذلك يعجب المرء عندما يترك بعض الناس السنة، فلا يفطر على تمرة، وإنما يفطر على سيجارة! كيف نفهم أن هذا الصائم عنده إرادة وصبر؟ وكيف ندرك أن شهواته تنقمع، وأن نزواته تُفطم؟ إننا لا نرى فيه إلا صورة من الضعف، كالمريض الهزيل تضربه ضربة فيسقط، ليس من قوة ضربتك، ولكن من ضعف بنيته، وكم هم الضعفاء المنهزمون المتخاذلون، الصرعى لشهواتهم، الأسرى لعاداتهم، الذين لا يستطيعون في هذا الشهر العظيم أن ينجحوا في مثل هذا الاختبار البسيط! فإنهم قطعاً سيكونون في غيره أكثر فشلاً، وأعظم إخفاقاً، وأكبر هزيمة، فمن يرضى لنفسه ذلك فهو وشأنه، والله عز وجل مطلع علينا، وعالم بما نحن عليه، فأي عزيمة كانت صادقة، وأي نية كانت خالصة، وأي عزيمة كانت ماضية، فإن وعد الله نافذ، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فمن فشل فليتهم نيته، وليعرف أنه يوجد بعض الخلل في قصده، وليدرك الخور الموجود في همته وعزيمته، وليعالج نفسه، فإن مرضه بذلك أعظم من مرض بدنه مهما كان شديداً أو قاسياً.

أهمية الحذر من الإعلام الهابط في رمضان

أهمية الحذر من الإعلام الهابط في رمضان فلنتدارك أنفسنا ونحن في أول شهرنا، وليكن ترحيبنا بهذا الموسم العظيم والفريضة الجليلة ترحيباً من أعماق القلوب والنفوس، يكون فيه من الجد والعزم والقوة ما لا يكون في غيره من صور الضعف والتراخي والانحلال، والكسل والنوم، واللغو واللهو، والسهر والعبث. ونحن نعلم جميعاً أن القنوات والإعلام يكثر من سمومه وفتنه وشروره ولهوه وغيه وصرفه للناس عن الطاعات في هذا الشهر، سواء بالمسلسلات أو الرقاصات أو الأغنيات أو المسابقات، وكأنهم يقولون: دعوا الآيات، واتركوا المحاريب، واجتنبوا الصلوات، وانشغلوا في رمضان بغير ما أراد الله سبحانه وتعالى، وكل منا له عقل يدرك، ويعلم أنه سوف يحاسب بين يدي الله، فاختر لنفسك أخي المؤمن! الطريق الصائب، والنهج القويم، والمسلك الأحمد مع بداية هذا الشهر. أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا في هذا الشهر الكريم لصيامه وقيامه، وصالح الأعمال فيه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصائمين القائمين المخلصين المنفقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

ذكر بعض مواسم الخير في رمضان

ذكر بعض مواسم الخير في رمضان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أظلنا موسم التقوى، فاتقوا الله عباد الله! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، هذا الموسم العظيم ليس فيما ذكرت من الأمور فحسب، بل فيما هو أكثر منها، فنحن نرحب برمضان؛ فإنه شهر ترك القطيعة والخصومات، والبدء في الوصل وحسن الصلات. ورمضان شهر ترك البخل والشح، والإقبال على الجود والكرم، وشهر ترك السرف والترف والإقبال على الاقتصاد والعمل الجاد. ورمضان شهر فيه تنوع بين ترك القبائح وأخذ المحامد، وذلك في أبواب وصور شتىً ينبغي أن نحرص عليها. ومرة أخرى أشعر بأننا ونحن في هذا الشهر شهر الدعاء والتضرع لله عز وجل، وشهر الإنفاق وتفقد المحرومين، والإحسان إلى الفقراء، وتلمس أحوال المحتاجين، أشعر أننا بحاجة ملحة ونحن في أمن وأمان، وسلامة وإسلام، وسعة رزق ورغد عيش ألا ننسى من أول شهرنا إخواننا الذين يسامون سوء العذاب على يد اليهود عليهم لعائن الله في فلسطين، وعلى يد الأعداء المغتصبين في العراق، وفي كل قطر من أقطار الإسلام. ينبغي ألا نجعل هذه الشهور وهذه المواسم مقتصرة على العبادات القاصرة من صلاتنا وكثرة تسبيحنا ودوام تلاوتنا وختمنا دون أن نشعر بأنها تحقق أخوتنا، وتجسد روح وحدتنا، وتذكرنا بالانتماء إلى أمتنا، وتعلق في رقبتنا واجب نصرة إخواننا، إنها مسائل مهمة، وإنها قضايا كثيرة، ولابد لنا من أن نعلم أن الاستكثار من الخير لا يحده حد، وأن الأخذ بالواجب لا يمكن قضاؤه وبلوغه، وأنه مهما عملنا فإن حق الله عز وجل أعظم علينا، وأنه مهما عملنا فإن الواجب تجاه أمتنا أكبر، وأنه مهما عملنا فإن رسالة ديننا ودعوتنا أبلغ وأشمل، ونحن في كل أحوالنا وعلى أحسن أحوالنا عندنا تقصير، فكيف ونحن نركن إلى دنيانا، ونكثر من نومنا، ويكون حالنا كحالنا في رمضان الذي قبله؟! إنها فرصة لعزيمة بدء قوية، ونحن في مفتتح هذا الشهر، ونحن في موسم تتضاعف فيه الخيرات وتتنزل الرحمات، فاسألوا الله عز وجل أن يقوي عزمنا جميعاً لحسن طاعته ومرضاته، والأخذ بما يحبه ويرضاه، ونحن من بعد ومن قبل معكم نفتح الأبواب؛ لكي يكون لنا جميعاً تعاون وأيدٍ ممتدة بالخير، فنحن في هذا الموسم العظيم وفي هذا المسجد المبارك نقدم فرصاً عظيمة؛ لكي ننتهزها جميعاً من أمور الخير والإنفاق في إفطار الصائمين وغيرهم، ومن أمور القرآن في حلقات خاصة للكبار من الرجال والنساء، ومن أمور المسابقات التي تزيدنا طاعة لله عز وجل، وهذه أبواب إن قصرت عن فعلها منفرداً فلمَ تقصر في فعلها مع بقية إخوانك؟! وإن لم تستطعها وحدك ولا تعرف كيف تبتدئها فما بالك تحجم عنها، وقد فتحت أبوابها ويسرت أسبابها؟! نسأل الله عز وجل لأمتنا في هذا الشهر نصراً وعزاً وتمكيناً، ونسأله جل وعلا أن يبدلها من بعد فرقتها وحدة، ومن بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلها عزة، ونسألك اللهم أن تجعل هذا الشهر الكريم شهر أمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وخير وبركة، وبر وإحسان. اللهم املأ قلوبنا فيه بالإيمان، واملأ نفوسنا بعزائم الخير يا رب العالمين! اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسير أقدامنا إلى طاعتك، وأخضع جباهنا لعظمتك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واجعلنا اللهم في هذا الشهر الكريم من المغفورة ذنوبهم المرحومين، واجعلنا اللهم فيه من عتقائك من النار يا رب العالمين! اللهم وفقنا فيه للطاعات، واصرف فيه عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا فيه ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم أحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم فرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم في أنفسهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، برحمتك وقوتك وعزتك يا رب العالمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا الشهر الكريم عليهم شهر عز ونصر وتمكين، واجعله على أعدائهم شهر ذل وخذلان وهزيمة يا رب العالمين! اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في أرض فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وابسط أمنهم، ووفر رزقهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتك فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

تربية الأبناء

تربية الأبناء مسئولية تربية الأبناء والاعتناء بهم مسئولية عظيمة جداً، وقد بين الله أهميتها في القرآن العظيم، وحذر من التفريط فيها، كما راعاها النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، فعلى المسلم أن يهتم بتربية النشء الذين هم عماد الأمة ومستقبلها الواعد، وتربيتهم التربية الصالحة سبب عظيم لرفعة الأمة وعزتها وقوتها.

أهمية مسئولية تربية الأبناء ومكانتها وعظمتها

أهمية مسئولية تربية الأبناء ومكانتها وعظمتها الحمد لله جلت قدرته، وظهرت حكمته، واتسعت رحمته، واشتدت نقمته، له الحمد سبحانه وتعالى، ما أوسع علمه! وما أعظم حلمه! وما أجل فضله! وما أكثر كرمه! نحمده سبحانه وتعالى على آلائه الجسيمة، ومننه العظيمة حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وهدى به البصائر والأبصار، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأمانة المضيعة، والثروة المهدرة، تحتاج منا إلى مراجعة ومذاكرة، ومعاتبة ومحاسبة، وإلى إصلاح الخلل وتقويم الاعوجاج. أبناؤنا فلذات أكبادنا، أطفالنا رجال مستقبلنا، شبابنا أمل أمتنا، سلف حديث لنا في الجمعة الماضية عن الوقت الممتد في هذه الإجازة، والإهدار لهذه الأوقات في كثير مما لا يجدي نفعاً، وقد يجلب ضرراً، ولقد وجدت بذلك صدى عند كثير من الإخوة، وقالوا: حدثنا عن مشكلاتنا، وخاطبنا في القضايا التي تحيط بنا، ومن أهمها وأجلها: مسئولية تربية الأبناء، ثروة أجيالنا القادمة، علّنا نستشعر هذه المسئولية، وندرك عظمتها، ونعرف ثقلها، ونعي أثرها ودورها في واقع حياتنا ومستقبل أمتنا. هذا حديث أعلم أنه جليل واسع وعظيم لا يكفيه مثل هذا المقام، وحسبي اليوم أن أجتهد في الوصول إلى هدفين اثنين مهمين، أولهما: توضيح هذه المسئولية وعظمتها ومكانتها وأهميتها. وثانيهما: البيان الإجمالي العام لآثارهما التي نعيشها ونلمسها ونراها بأعيننا.

مكانة مسئولية تربية الأبناء في القرآن الكريم

مكانة مسئولية تربية الأبناء في القرآن الكريم هذه المسئولية مسئولية عظيمة جليلة، وهي في كتاب الله وفي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وحسبنا هذه الومضات التي نريد أن نبين فيها اقتران الفرائض والواجبات التي يعرفها كل المسلمين مع هذه المهمة العظيمة في التربية، يقول عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] هذه الآية في هذا الأمر العظيم والمهمة الجليلة، قال السيوطي في الإكليل تعليقاً على هذه الآية: إنه يجب على الإنسان أن يأمر أهله من زوجة وعبد وأمة وسائر عياله بتقوى الله والطاعة، وخصوصاً الصلاة. وقال ابن علان الدمشقي في هذه الآية: أي: يأمر زوجته وأبناءه المميزين الذكور والإناث. إن الأمر الرباني الذي حملنا أمانته كالإيمان والتوحيد وأداء الفرائض والعبادات، حملنا كذلك معه هذه المسئولية الجسيمة والأمانة العظيمة فيمن ولانا الله عز وجل أمرهم، وجعلنا سبباً لوجودهم، وسخرنا لكي نكون رعاة لهم، نغذوهم ونقوتهم، ونعينهم ونحدب عليهم ونحميهم، ويجب كذلك أن نعلمهم ونؤدبهم ونربيهم، فإن فرطنا فقد أخللنا بهذه الأمانة، وضيعنا هذه المسئولية، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]. وهذا النداء الإيماني له عظمة كبيرة قال ابن مسعود: (إذا سمعت قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك؛ فإنها إما أمر تؤمر به أو نهي تزجر عنه). ومما قاله أهل التفسير في هذا النداء: إنه تلطف من الله سبحانه وتعالى بعباده، وتحبب إليهم بندائهم بأحسن أوصافهم وأجل خلالهم وهو إيمانهم به، وفي النداء كذلك أيضاً أمر مهم وهو استدعاء متطلب الإيمان وتبعته، فإن للإيمان أمانة ومسئولية، فكأن النداء يقول: إن مقتضى إيمانكم وحقيقته يترتب عليه التزام أمر الله وشرعه، واقتفاء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام بالمهمة والأمانة التي كلفك الله عز وجل بها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ} [التحريم:6]، وليست هذه وحدها مسئوليتكم، بل {وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهلكم بذكر الله، ينجيكم الله من النار). وقال مجاهد رحمه الله: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله. وتوسع قتادة في بيان المعنى فقال رحمه الله: يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، وأن يقوم عليهم بأمر الله ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها وزجرتهم عنها. وأوجز البغوي ذلك مع ربطه بالعاقبة المهمة في الآخرة فقال: مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدبوهم، والنتيجة والثمرة المهمة تقونهم بذلك النار. من يريد أن يكون أبناؤه حطباً لجهنم؟! إذا فرط في تربيتهم وقصر في تعليمهم ولم يجتهد في تأديبهم، كان سبباً مباشراً في انحرافهم والعياذ بالله! وامض مع الآيات فإنك واجد فيها كثيراً من ذلك في الآداب والتربية قبل التكليف، وهي الأساس المهم والقاعدة الرئيسة والركن الركين الذي لا بد من العناية به، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] الذين لم يبلغوا الحلم ليس عليهم تكليف، ما زال القلم مرفوعاً عنهم، ومع ذلك يعلمهم آباؤهم وأمهاتهم تلك الآداب، عند سن التمييز ومنذ نعومة الأظفار؛ لأن الآية بعد ذلك جاءت: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] عند ذلك صاروا أهل تكليف، وصارت المهمة في أعناقهم، والأمانة في رقابهم، أما قبل ذلك فما زالت الأمانة في رقابكم، والواجب منوطاً بكم، والمهمة معقودة عليكم، والله عز وجل قد ذكر من ذلك الكثير.

مكانة مسئولية تربية الأبناء في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرته

مكانة مسئولية تربية الأبناء في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرته نقف وقفات مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأعظم المربين في تاريخ البشرية كلها، ففي سنته الكثير والكثير مما يلفت أنظارنا إلى هذه المهمة الجسيمة، وحسبنا ذلك النداء الشامل الذي فصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعض التفصيل: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، -ثم ختم عليه الصلاة والسلام بالتأكيد مرة أخرى- ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ألست تنفق على أبنائك وتأتيهم بالطعام والشراب والكساء؟ هل ترى أن أحداً مسئول عن ذلك غيرك؟ لكنك بعد ذلك تهبهم للشوارع أو للقنوات لتعلمهم وتربيهم، أو لأصحاب الشر والسوء ليفسدوا فطرهم ويسودوا قلوبهم ويحرفوا سلوكهم، هل تخليت عن هذه الأمانة وبقيت للطعام والشراب؟ هل جاء أبناؤك ليكونوا بالنسبة لك كالبهائم تعطيها علفها حتى تمضي وتتحرك دون أن تشعر بالأمانة العظمى وهي التربية على الإيمان، وتقويم السلوك، وتحسين الأخلاق وغير ذلك مما هو معلوم من أسس التربية؟! ورد في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) والسبع والعشر ليستا سن تكليف ووجوب، ولكنهما سن تمييز وتربية، من الذي يقوم بها؟ أنتم. (مروا) أنتم، ينبغي ألا تنسوا ذلك وألا تغفلوا عنه، ما بالك تخرج إلى المسجد في الغلس لصلاة الفجر، وحولك من الأبناء والبنات من لم يستيقظوا لأداء عبادة الله والقيام بفريضة الله؟! تمضي مسبحاً وترجع محوقلاً وبينهما تكون ذاكراً وقارئاً ومصلياً، والأمانة التي فوق ظهرك قذفت بها وألقيتها، كأن لم يكن عليك من الله فيها أمر ولا تكليف ولا واجب، كأن لم يكن لك فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم هدي ولا توجيه ولا تعليم!! وهكذا نمضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لنرى كيف يراعي الأمور الدقيقة؟! وكيف اعتنى بها ووجه إليها وربى عليها، حتى فيما هو دقيق خفي لا يكاد يعرفه أولئك الصغار من الأطفال؛ لأن صفحات قلوبهم بيضاء، كل كلمة تكتب فيها، كل سلوك ينطبع أثره فيها، فإن كان خيراً أورث الخير، وإن لم يكن في ذلك السن مدركاً وواعياً، لكنها آثار وبصمات ما تزال تترسخ في أعماق نفسه وسويداء قلبه، ما تزال تصبح من أسس فكره ورشد عقله، ثم إذا بها تنعكس على سلوكه وحسن أدبه. فهذا الحسن بن علي رضي الله عنه ريحانة من ريحانات الجنة، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صغير في سن دون التكليف بل ربما حتى لم يكن مميزاً، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تمر من تمر الصدقة، فإذا بالصغير يمد يده ليأكل، فينهاه نبي الله صلى الله عليه وسلم نهياً رفيقاً خفيفاً: (كخ كخ، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟) أي: أنت من آل البيت والصدقة تحرم عليك، والصغير لا يعرف ذلك، ولا يعرف تلك الأحكام، لكن الكبير المربي صلى الله عليه وسلم يريد من البدء في أول الأمر ألا يدخل إلى جوف ذلك الطفل الصغير إلا ما حل، وأن يكون هناك تقويم يرشد إلى التمييز من أول الأمر بين الخير والشر والحلال والحرام، يريد أن يغذي الفطرة النقية بنور التقى والهدى، وأساس الخلق القويم والأدب الجم. وهكذا نراه عندما كان ابن أبي سلمة ربيباً في بيته وهو ابن أم سلمة أم المؤمنين، كان يأكل فتطيش يده في الصحفة، فيقول المربي العظيم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) حتى هذه الآداب يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليبين أن المهمة ليست مقتصرة على المهم العظيم من الفرائض كالتوحيد وسائر العبادات، بل للآداب والأخلاق وما هو من المكملات مكانة عظيمة في حديثه صلى الله عليه وسلم وسيرته، فقد بين أن الأمانة مربوطة بأعناق الآباء والأمهات حيث قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: أو يمسلمانه؛ لأن الإسلام مغروس في فطرته، لكن كيف نغذيه؟! كيف ننميه؟! كيف نسقيه؛ لتنبت شجرته يانعة، وتكون ثماره ناضجة بإذن الله عز وجل؟! هذه ومضات، ونحن عندنا ما يكفينا لكي نؤسس تربية عظيمة كاملة منهجية قويمة؛ لأن عندنا النهج القويم، والهدى المستقيم في كتاب الله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15 - 16] عندنا هذا ولا نبذله لأبنائنا، ولا نربيهم عليه، وعندنا من بعد ذلك الصورة المثالية الحية المتحركة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وعندنا بعد ذلك أجيال عظيمة وقمم شامخة وقدوات سامية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين والأئمة والعلماء، لنا رصيد عظيم، فما بالنا نتنكر له وننساه، ونبقى مع سقط المتاع وأراذل القوم من شرق وغرب؟! يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).

نعمة الأبناء وفضل تربيتهم

نعمة الأبناء وفضل تربيتهم إذا أردنا أن نجد الصورة العظيمة في كتاب الله التي تعرفنا بهؤلاء الأبناء من هم؟ فقد ذكر الله عز وجل في مجمل الآيات صفات عظيمة نوردها إجمالاً، وفي التفصيل في ذلك ما يكون له أثر أكبر وأعظم، هؤلاء هم زينة الحياة، يقول عز وجل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]. وهم نعمة الله سبحانه وتعالى حتى كان من دعاء عباده المقربين قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]. وهم كذلك القوة التي منّ الله عز وجل بها علينا بقوله سبحانه: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء:6]. وهم من بعد ذلك المثوبة والأجر الممتد كما أخبر الحق عز وجل في دعاء الرسل والأنبياء، وفي كثير مما جاء في قصص القرآن يقول عز وجل حاكياً عنهم: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128]، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]. من يستشعر المسئولية ويرغب في المثوبة والأجر والذكر الممتد بعد وفاته فالطريق إليه هو تربية الأبناء وحسن تأديبهم؛ ليكونوا الأنموذج الذي يذكر بآبائهم وأمهاتهم، وليكونوا العمل الصالح المستمر من بعدهم، والدعاء الخاشع المتواصل لآبائهم وأمهاتهم، والأمر في ذلك يطول كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في آياته الكثيرة، ولعلنا ندرك بهذا أهمية الأمر وجسامة المسئولية فننتدب لها، ونهيئ أنفسنا لأدائها، كما نحرص على إيماننا وتوحيدنا، وكما نجتهد على أداء فرائضنا من صلاتنا وزكاتنا وحجنا وصومنا، كما نكون كذلك ينبغي أن نستشعر أن المهمة والأمر والواجب والمسئولية تجاه أولئك الأبناء والبنات، الذين نشكو اليوم من صور انحراف ما بين تفريط وإفراط، ومرد ذلك في كثير من الأحوال والأسباب إلينا نحن معاشر الآباء والأمهات. اللهم إنا نسألك أن تصلح أزواجنا وذرياتنا، وأن تجعلهم صالحين، وأن تجعلنا وإياهم من الطائعين، وأن تحسن ختامنا أجمعين. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الصور المنحرفة في تربية الأبناء وآثارها السيئة

الصور المنحرفة في تربية الأبناء وآثارها السيئة

الصورة الأولى: الإضاعة والإهمال للأبناء

الصورة الأولى: الإضاعة والإهمال للأبناء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه. إن من حق أبنائنا علينا حسن تربيتهم وتأديبهم، فإن هذه المهمة يقع فيها ثلاث صور من الانحراف: أولها وأعظمها خطراً: الإضاعة والإهمال، فبعض الآباء والأمهات تجد أن مهمة تربية الأبناء والاهتمام بهم، ليست ورادة في قائمة المهمات ولا مدرجة في سلسلة الواجبات لديهما، فالأب مشرق والأم مغربة، والأبناء يهيمون على وجوههم تتلقفهم شياطين الإنس قبل شياطين الجن، وإذا به بعد دهر طويل يشكو عقوق الأبناء، يقول فلا يسمع له، ويأمر فلا يستجاب له، ويزجر فلا يخشى منه، كما ذكر لي بعض الإخوة، يقول: ماذا أصنع؟ إنهم قد تمردوا عليّ، ولم يعد لي قدرة على توجيههم. أقول: قد فرطت في البداية، وها أنت تجني الثمرة المرة في النهاية. جاء رجل إلى الفاروق عمر رضي الله عنه يشكو عقوق ابنه فجاء به عمر وقرع الابن وذكره بحق أبيه ووجوب بره، فأصغى الفتى حتى انتهى عمر رضي الله عنه، فقال الابن له: يا أمير المؤمنين! أليس للابن حق على أبيه؟ فقال الفاروق: بلى، عليه أن ينتقي أمه، وأن يحسن اسمه، وأن يعلمه القرآن، قال: فإن أبي لم يفعل من ذلك شيئاً، فإن أمي زنجية ابنة مجوسي، وقد سماني جعلاً -أي: خنفساء-، ولم يعلمني من القرآن حرفاً، فالتفت الفاروق إلى الأب وقال: يا هذا! قد عققت ابنك قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك. انظر أخي إلى الثمرة المرة تجد أن بذرتها كانت كذلك، فلا تفرط حتى لا تشكو وتندم حين لا ينفع الندم.

الصورة الثانية: القدوة السيئة

الصورة الثانية: القدوة السيئة يقول ابن القيم رحمه الله في الصورة الثانية من التربية التي يكون فيها الآباء والأمهات قدوات في ارتكاب المحرمات، ونماذج في التفريط بالواجبات: أكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوهم كباراً. وقال في سياق هذه المعاني: يا أبتي! إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً. وهذه قضية مهمة؛ ولذلك نجد نوعاً من تربية الدلال والإغراق في موافقة ومسايرة الأبناء على ما يرغبون ويشتهون وهم في سن المراهقة أو الطفولة، وحولهم من البيئة ما يصرفهم عن الخير إلى الشر، وهذا يمد له في الغي مداً، هذا يعطيه ما يشاء في هذه الأبواب دون أن يلتفت إلى المخاطر والعواقب، فإذا به بعد ذلك يجني ابناً مدمناً للمخدرات، أو مقيماً على شرب المسكرات، أو والغاً في ارتكاب الجرائم والمحرمات؛ لأن هذه المقدمات أوصلت إلى تلك النهايات. أما الأم فتجدها لا تلتزم الحجاب ولا تراعي الحياء ولا تعتني بالحشمة، ربما تشكو من بعد ذلك أن ابنتها قد وقعت في فاحشة، أو ألمت بجريمة من تلك الجرائم العظيمة، فتبكي وتصيح على الشرف المثلوم، والعرض المكلوم، والسمعة الضائعة، وما عرفت أنها كانت القائدة، وأنها كانت المرشدة الهادية إلى طريق الزيغ والانحراف، نسأل الله عز وجل السلامة. وهذه المشكلات التي نراها في أسواقنا، أو نراها في شبابنا وفتياتنا في هذه الجوانب إنما هو غرس أولئك الآباء والأمهات، أو إضاعتهم لهم، فلا تحملوا مسئولية، ولا أدوا أمانة.

الصورة الثالثة: التربية الغليظة عند تقويم الأبناء وتوجيههم

الصورة الثالثة: التربية الغليظة عند تقويم الأبناء وتوجيههم هذه صورة أخرى وهي: التربية العسكرية الغليظة الخشنة، لا يعرف أولئك الآباء أو تلك الأمهات إلا أساليب القهر والعنف والمنع والمصادرة، لا يظهرون من قلوبهم رحمة، ولا يبدون في أسلوبهم حكمة، فحينئذ يمكن أن نرى من الأبناء صوراً من صور الانحراف كالكذب والمخادعة والحيل والألاعيب، وربما نجد كذلك صوراً عظيمة أفظع من هذه وذلك عندما ينحرف الآباء والأمهات ويستقيم الأبناء بفضل من الله، فإذا بالأب يزجر ابنه عن الذهاب إلى المسجد، ويحذره ويتوعده إن التحق بحلق القرآن، وقد يضربه ويحاسبه أشد الحساب إذا انتقى الأخيار من الأصحاب، فأي شيء ينتج عن ذلك؟! إنها ردود الأفعال في غالب الأحوال، وإليكم قول مرب عظيم ورجل من رجالات التاريخ في العلوم الاجتماعية والإنسانية، إنه الإمام ابن خلدون في كلمات وجيزة يقول: من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين والخدم، غلب عليه القهر، وضاقت نفسه وذهب بنشاطها، وحملها على الكذب والخبث؛ خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليها، وعلم المكر والخديعة لذلك. وبعض صور ما يطلق عليه اليوم بتجاوزات كثيرة وتفريطات عديدة تطرفاً أو غلواً، ربما كان منشؤه استقامة الأبناء واعوجاج الآباء، فرأوا من آبائهم ما ظنوا أنه مخالفة صريحة لكتاب الله وسنة رسول الله، وما يكون في هذه الأسرة قد يكون هو النموذج الموسع في المجتمع، فعندما نعنفهم، وعندما نحاربهم، وعندما نوبخهم، وعندما يكون مسلك الخير معيباً، وعندما يكون نهج الصلاح خطيراً، فأي شيء نرجو من بعد ذلك؟! التربية ينبغي أن يكون أساسها الرحمة، وأساسها التوجيه الحسن القيم، كما قال الحكيم الذي هو مضرب مثل في سياسة الأمم والشعوب فضلاً عن سياسة الأبناء والصغار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يصف الأبناء فيقول: هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، فإنهم يمنحونك ودهم، ويحبونك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك، ويتمنوا مماتك. وليس كلامه على إطلاقه، لكنه كان في معرض الرد على من كان لا يعرف رحمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل القاسي الشديد الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل ذلك الطفل الصغير ويقبله في رحمة غامرة، والأعرابي الغليظ ينظر متعجباً فقال: (أتقبلون أبناءكم؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها رحمة، فقال الرجل: إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت منهم واحداً قط- وربما نجد بعض الآباء وهم يفتخرون بذلك، ويرونه من أسباب قوتهم وهيبتهم- فقال عليه الصلاة والسلام: من لا يرحم لا يرحم) وفي حديث هذا الرجل أيضاً قال عليه الصلاة والسلام: (أو أملك إن نزع الله الرحمة من قلبك). نسأل الله عز وجل أن يصلح أزواجنا وذرياتنا، وأن يجعلنا ممن يقومون ويعلمون ويؤدبون أبناءهم على منهج كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد. اللهم إنا نسألك أن ترفع كلمة الحق والدين، وأن تنكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمبعدين والمشردين والمعذبين، والجرحى والمرضى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم عجل فرجهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً، ذوي المقام العلي والقدر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

التربية والتعليم

التربية والتعليم للتربية في الإسلام منزلة عظيمة ومكانة رفيعة، فهي تعني سلوك الإنسان وأخلاقه وتعامله مع غيره، وأهم مرحلة تغرس التربية في نفس المتربي هي مرحلة الطفولة، فمن الواجب الاعتناء بتربية الأولاد وتعليمهم، والحرص على متابعة تعديل سلوكهم وأخلاقهم، ولا يلقى الحمل على المدرسة وحدها، بل لابد من تعاون بين البيت والمدرسة؛ حتى يحصل المطلوب.

أهمية التربية قبل التعليم

أهمية التربية قبل التعليم الحمد لله الكبير المتعال ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، له الحمد في الأولى والآخرة، وإليه المرجع والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله للناس كافة، فأرشد به من بعد غواية، وكثّر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! عند بداية العام الدراسي نتحدث عن العلم والتعليم، وحديثنا حقيقةً هو عن التربية والتعليم، وقد أشرت فيما مضى إلى أهمية العلم، واقترانه في منهج القرآن الكريم ودعوة صفوة الخلق أجمعين بالتزكية، وطهارة القلوب، وزكاة النفوس، واستقامة السلوك، ولعلنا هنا نؤكد هذه المعاني، ونوضحها ونجليها، ونحن نوجه حديثنا إلى المعلمين والمعلمات والمسئولين والمسئولات في وزارة التربية والتعليم؛ لأننا ندفع إليهم فلذات أكبادنا، ويقضون في أروقة المدارس والمعاهد في وقت قد يكون أكثر من الوقت الذي يقضونه معنا. ونحن نريد أن يعلموهم العلوم المختلفة، وأن يسلحوهم بسلاح العلم في هذا العصر، لكنني أوقن أننا جميعاً نعنى كذلك بالقدر نفسه بتربيتهم، وبتزكيتهم، وبتقويم سلوكهم، وبحسن أخلاقهم. ونحن نعول على تلك المدارس وعلى أولئك المعلمين والمعلمات أن يساعدونا معاشر الآباء والأمهات في صياغة شخصية أبنائنا، وإخراجهم إلى هذا المجتمع أسوياء، أتقياء، أنقياء، بعيدين عن طرفي التشدد والتسيب، بعيدين عن سلوك منحرف وخلق معوج. ولا شك أننا عندما نجد في المعلم أو في المدرسة عناية بهذا الجانب نفرح به ونسعد، ونهش به ونستعد لأن نكمل دورنا ونقوم به، وإن وجدنا غير ذلك وجدنا المعاناة إذا نحن نقوم ونوجه، وربما لا نجد تعضيداً وتكاملاً من جهة المدرسة أو المعلم والمعلمة. هذا الاسم: التربية والتعليم فيه تقديم التربية لبيان أهميتها، ومكانتها، ومنزلتها، بل وعظمتها وخطورتها، وإن عدم العناية بذلك الجانب لا يؤدي إلى المقاصد العظيمة التي ننشدها جميعاً لأبنائنا الذين هم أبناء اليوم وشباب الغد، ورجال المستقبل، وكلنا يدرك أن ذلك أيضاً لا يحقق الأهداف المنصوص عليها في سياسة التعليم، والتي تؤكد على صياغة الشخصية المؤمنة المسلمة، والتي تبرز أهمية السلوك والأخلاق في حياة الطلاب، ونحن ندرك ذلك، فنحن نعرف أن العلم معلومات ومهارات ووسائل واختبارات، لكن التربية هي نضج الفكر، واستقرار النفس، وحسن السلوك، فلا شك أن هذا له من العظمة ما لا يخفى.

الترابط بين التربية والتعليم

الترابط بين التربية والتعليم لابد أن ندرك الترابط الوثيق بين التربية والتعليم، والتعليم والتربية، فإن التربية هي غاية التعليم، وإن التعليم هو وسيلة التربية؛ فلن يتربى من لم يتعلم، فكيف يستقيم سلوكه إذا لم يعرف فضل هذا السلوك الحسن، وذم ذلك السلوك السيئ، ونحو ذلك؟! وانتبهوا وتأملوا فيما جاء في كتاب الله عز وجل في الحظ والحث على العلم، إنه توجيه إلى العلم والمعرفة في الأمور الأساسية الكلية العقدية التصورية التي تغرس في القلب والنفس من المفاهيم والتوجهات ما هو كفيل باستقامة السلوك، وانتظام الأحوال، وربط الإنسان بين دنياه وأخراه، بين ما يعمله على هذه الحياة الدنيا، وما يعمله في تلك الحياة الأخرى، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] أي: اعلموا علم معرفة بمعية الله وتأييده وتسديده لمن يستقيم ويخشاه ويعمل بأوامره ويجتنب نواهيه، وهذا علم مؤثر في القلب، ومحرك للنفس، وصائغ للسلوك، ومقوم للفكر، إنها معلومات ذات ترجمة عملية، قال عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. وانتبه إلى كثرة الآيات العاضدة لهذا المعنى كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] أي: اعلموا حقيقة علمية معرفية أن من صفات الله عز وجل شدة عقابه، لكنها ليس مرادة لتكون معلومة تحفظ ولا معرفةً تعرف، وإنما لتكون تأثيراً في كل شيء في الإنسان قلباً وروحاً ونفساً وفكراً وسلوكاً ومعاملة، وتلك هي الثمرة الحقيقية. قال عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] تأمل هذا الربط الدائم بين التقوى والعلم! وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] إنها حقيقة كل أهل الإيمان والإسلام يعرفونها، لكن التفاوت بينهم هو في مدى استقرارها في قلوبهم، وفي مدى تأثيرها في سلوكهم، وفي مدى توجيهها لأفكارهم. قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] أي: حتى يكون ذلك حافزاً لعملهم وإقبالهم على ربهم، وانتهاجهم للسبيل والطريق الموصل إلى رضاه، وذلكم هو ما ينبغي أن نتنبه له. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:233]، وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231]، يجب أن نعلم ذلك؛ ليستقر في قلوبنا اطلاعه علينا، ومراقبتنا له، وحياؤنا منه، وصدق توكلنا عليه، وعظمة إنابتنا إليه، إنها معرفة محركة، إنه علم مربٍ، إنه تغيير حقيقي يتناول الإنسان في أعماق نفسه وقلبه، وفكره وعقله، وسلوكه وعمله، ولو مضينا لوجدنا من ذلك كثيراً، ولقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم ترجمةًَ مهمة فقال: باب العلم قبل العمل؛ ترجم بهذا ليدل على أهمية العلم قبل العمل، وليدل على أن غاية العلم إنما هو العمل، واستشهد بقوله سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]، فقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، هذا العلم وتلك المعرفة هي بداية الطريق، ثم ينتج عنها السلوك، وينتج عنها العمل: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وتستقر حقائق الإيمان مؤثرة مغيرة في الواقع: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ). وإذا نظرنا وجدنا ما يقابل ذلك، وجدنا كيف يكون حال العلم إن لم يورث سلوكاً مستقيماً وخلقاً قويماً، فأي شيء ينفع؟ إنه حينئذ يكون حجة على المرء وليس له، ويكون إثماً وليس أجراً؛ لأن العلم حجة على من علم؛ ولأن العلم إذا لم يخلص إلى النفس والقلب ويؤثر فيهما فإنه يكون عوناً لصاحبه -والعياذ بالله- على تسويغ المنكرات، وتحليل المحرمات، وتضليل الناس، والتلبيس عليهم بالشبهات؛ ولذا كانت فتنة العالم غير العامل عظيمةً في واقع الناس، ومن هنا حذر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين حين قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). وتنبه إلى هذا الجانب في النداءات والآيات القرآنية! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] أي: كيف تقع منكم هذه الخيانة، مع علمكم بوحدانية الله، وحسن أسمائه، وكمال صفاته، وعظمته جل وعلا؟! وكيف يكون ذلك منكم وأنتم تؤمنون وتصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتعرفون فضائله وشمائله عليه الصلاة والسلام، وتعلمون أوامره ونواهيه وهديه صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى: (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، أي: تعلمون ما كلفكم الله به، وتدركون وتوقنون ما هو الواجب المناط بكم، والأمانة المربوطة في أعناقكم، فكيف تكون حينئذ خيانتكم؟ وكيف يكون انحرافكم بعد علمكم؟ وأي شيء أقبح من هذا؟ وأي أمر تكون فيه الحجة أعظم من مثل هذا الصنيع؟ فهل نريد نحن لأنفسنا فضلاً عن أبنائنا في المعاهد والمدارس أن يعلموا علماً، ويكون سلوكهم مخالفاً له؟ أتدركون ما معنى هذا وما أثره؟ إن معناه: ألا يكون في قلوبهم توقير ولا تعظيم للأوامر والنواهي الربانية والنبوية، ومن باب أولى ألا يكون هناك تعظيم ولا توقير للأوامر والنواهي والتوجيهات الأبوية في البيوت.

أثر مخالفة السلوك للعلم

أثر مخالفة السلوك للعلم إن أثر مخالفة السلوك للعلم أن القلوب -والعياذ بالله- قد تصاب بالعمى، ولا يؤثر فيها بعد ذلك وعظ ولا أمر ولا نهي، إن معنى ذلك أن النفس تتطبع على أن تعلم الحق وتجحده، وتعرف الخير وتخالفه، وذلك فيه فساد للفطرة، وزيغ في العقل، ونموذج سيء للسلوك، وكم نعاني نحن من ذلك في واقعنا الشخصي! وفي حال أبنائنا وشبابنا! وهل نريد بعد ذلك أن نقصر دور المدارس على المعارف والعلوم دون الأخلاق والسلوك، ودون التربية والتزكية؟! قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] أي: أن العلم هو الذي يحثكم ويحرككم، والعلم بالأجر والثواب هو الذي يرغبكم ويقبل بكم، والعلم بأثر المخالفة وما يترتب عليها من الإثم والعقاب هو الذي يحجزكم ويمنعكم، والعلم بعظمة الله والحياء ومنه والمراقبة له سبحانه وتعالى هو الذي يقوّم سلوككم، إنها قضايا مترابطة؛ ولذلك كان هذا هو هدي وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم. وكلنا يحفظ ذلك الحديث المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان رديف المصطفى صلى الله عليه وسلم فالتفت إليه في كلمات حانية وتوجيهات مربية قائلاً: (يا غلام! إني أعلمك كلمات) إنه لم يرد عليه الصلاة والسلام ذلك التعليم الذي ينتهي أمره إلى الحفظ، ومآله إلى الكتابة في الاختبار، ومصيره إلى الكتب التي تلقى في صناديق النفايات، ولكنه أراد أن يحفظها في قلبه، وفي نفسه، وفي سلوكه، وفي كل جوانب حياته وتعاملاته. ونحن نعلم تلك الوصية العظيمة، وذلك التوجيه والتعليم النبوي الإيماني التربوي الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) وذكر الوصايا العظيمة المعروفة.

أثر العلم في السلوك والتربية

أثر العلم في السلوك والتربية تأملوا هذا الحديث الذي يبين لنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم أثر العلم في السلوك والتربية، وأنها غايته، وأنه وسيلتها في الوقت نفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الطرقات تجأرون إلى الله بالشكوى)، فلو علمنا ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدنيا والآخرة، ومن أمر عظمة الله عز وجل، وما أنعم به على الخلق، وما وعدهم به من الثواب والنعيم وغير ذلك، لكان الحال غير الحال. إذاً: العلم أثره في السلوك عظيم، فكيف نجد من يضحك ملء شدقيه، ويأكل ملء ماضغيه، وينام ملء جفنيه، ويلهو ويلعب، ثم نقول: إنه عالم؟! فأين أثر علمه بأنه إنما يعيش في دار ممر لا مقر؟! وأين أثر علمه بأنه غريب عن هذه الحياة يوشك أن يرتحل؟! وأين أثر علمه بأن مآله إلى موت وقبر وظلمة ووحشة؟! وأين أثر علمه بأن بعد ذلك بعثاً وحشراً ونشوراً وحساباً وثواباً وعقاباً؟! إن العلم الحق هو الذي يستقر في القلب ويوجه الإنسان في كل جوانب حياته، وفي كل مكوناته من عقله وفكره وكلامه وجوارحه، وذلكم هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلكم هو ما كان يحذر منه ويدعو بالبعد عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) رواه مسلم في صحيحه. فعلينا أن نتأمل هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل الله عز وجل الوقاية من كل ما لا يثمر ثمرةً محمودة، ولا يؤدي إلى أثر إيجابي. وقد ضرب الله مثلاً لمن لم يعمل فقال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، وقال: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]، فمن هو الذي يريد أن يكون في موضع هذا المثل؟ نسأل الله عز وجل السلامة من ذلك، ونسأل الله لأبنائنا وبناتنا ومعلمينا ومعلماتنا ومسئولينا ومسئولاتنا أن يراعوا ذلك، وأن يتقوا الله في الأمانة التي في أعناقهم، إنها أمانة التربية قبل التعليم، فالتعليم يؤدي إلى تربية، والتربية مصدرها ومبناها هو جزء من أساسياتها في ذلك التعليم، وليس في التعليم الذي هو متعلق بكتاب الله أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كل العلوم قائدة إلى تعميق الإيمان وترسيخ اليقين، وكل العلوم فيها لفتات وتوجيهات وإرشادات ودلالات على عظمة الخالق وعلى عظمة ما جاء به منهجه وتشريعه، ألسنا اليوم نعلم ما هو معلوم من الإعجاز العلمي في كتاب الله وسنة رسوله؟! ألسنا ندرك أن عظمة الخلق التي ندرسها في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء إنما هي شواهد على عظمة الخالق وعلى دقة خلقه جل وعلا، وعظمة ذلك؟ أليس جديراً بنا أن نلفت نظر أبنائنا وبناتنا إلى ذلك؟ أليس من المطلوب أن نستل من ذلك ما فيه ومضات إيمان وإشراقات أخلاق وإرشادات سريعة عظيمة مؤثرة بليغة؟

أمور ينبغي توافرها في المعلمين

أمور ينبغي توافرها في المعلمين إن التربية في أصل معناها: الملك والسيادة، كقولك: رب الدار، أي: مالكها، ومن معانيها التنمية والزيادة كقولك: ربى المال، إذا نماه وزاده. ومن هنا فإن مهمة معلمينا ومعلماتنا لأبنائنا وبناتنا أن يدركوا ذلك، ولابد لهم من أمور: الأمر الأول: أن يكونوا متفوقين على طلابهم ليس في العلم فحسب، بل في العلم والسلوك والأخلاق؛ لأنه لا يمكن أن يعطوا علماً ما لم يكونوا عالمين، ولا سلوكاً ولا خلقاً ما لم يكونوا مستقيمين. الأمر الثاني: العناية بالزيادة والتنمية للعلم والمهارة والمعرفة. الأمر الثالث: الحماية والوقاية من كل ما يناقض ذلك ويعارضه، فذلكم هو جوهر التربية، وذلكم هو جوهر المنهج القرآني والرباني.

صعوبة مهمة التربية

صعوبة مهمة التربية مهمة التربية ليست سهلة، فمهمة التعليم أو التعريف قد يكون فيها سهولة، فجدول الضرب قد يُحفظ، ومعادلة الفيزياء قد تُشرح، لكن تهذيب النفس وتقويم السلوك وتوجيه الفكر ليس أمراً سهلاً، إنها مهمة صعبة، لا نقول ذلك لنصد عنها، بل لندعو إلى الاستعداد التام لها، والتأهل اللازم لها، فكما نؤهل المعلمين والمعلمات في تخصصاتهم الدقيقة، ومعارفهم وعلومهم، فنحن نعلم جميعاً أن كليات المعلمين وكليات التربية تدرِّس إلى جانب الفيزيا والكيمياء التربية، وتدرِّس نفسية الطفل، وتدرِّس أساليب التقويم؛ لأن هذا جزء مهم. فلماذا ندرسهم ذلك ثم نقول لهم: لا تتكلموا إلا في الفيزياء، ولا تتحدثوا إلا عن الكيمياء؟ فهم لا يدرسون في جامعاتهم هذه المواد إلا ليكون لها انعكاس وأثر في حسن معاملتهم لطلابهم.

صفة النفس البشرية

صفة النفس البشرية إن النفس أمرها عجيب! فالنفس البشرية من أعظم المخلوقات التي جعلها الله عز وجل في كفة، والمخلوقات كلها في كفة أخرى؛ لبيان عظمتها، وعظمة خلق الله عز وجل لها، قال عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53]، ففي كل الآفاق آيات، وفي النفس البشرية وحدها آيات كأنما تعدل تلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقال عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، فبعد أن ذكر الله عز وجل السماوات والأرض ذكر النفس البشرية العجيبة في تقلباتها وتغيراتها العجيبة عندما تتهذب وتتطهر كيف تقود إلى السمو الأخلاقي والمعاني الإنسانية، وإذا كانت على غير ذلك كيف تقود إلى كل سوء من الشحناء والبغضاء والظلم والاعتداء وغير ذلك. وهنا صورة يرسمها بعض العلماء في مقالة طويلة أذكر بعض ومضات منها، يقول ابن القيم في صفة هذه النفس، واحتمالها لما أشارت إليه دلالات الآيات القرآنية للخير والشر، قال في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]: (في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وحيل أصحاب السبت) ثم يذكر صوراً كثيرة يضيق المقام عن ذكرها، ثم شبه النفس ببعض صفات موجودة في البهائم، فقال: (وفيها من البهائم: حرص الغراب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وحقد الجمل، ومكر الثعلب) إلى غير ذلك مما أورده، ثم قال: (فمن استرسل مع طبعه فإنه من هذا الجند، ولا تصلح سلعته لعقد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]. فما اشترى الله إلا نفساً هذبها الإيمان، وخرجت إلى بلد العابدين والتائبين، وذلك أمر مهم، كما ذكر ذلك ابن القيم أيضاً فقال: كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه؟ وولد لا يعذره؟ وصاحب لا ينصحه؟ وعدو لا ينصفه؟ وجار لا يأمنه؟ وشريك لا ينصفه؟ وعدو لا ينام عن عداوته؟ ونفس أمارة بالسوء؟ ودنيا متزينة؟ وهوىً مرد؟ وشهوة غالبة له؟ وغضب قاهر؟ وضعف مستول عليه؟). وكل هذا موجود: النفس والهوى والشيطان، ثم نحن اليوم قد ابتلينا ببلايا عظيمة جاءتنا من هذه القنوات الفضائية والمقالات الإباحية والسلوكيات الانحرافية والضلالات العالمية التي أصبحت تغزو الناس في عقر بيوتهم، وبعد ذلك كله نقول: إن أمر التربية هين! وإن أمر العناية بها ليس في الدرجة الأولى! أو يقول بعض الناس: إنه ينبغي ألا نخوض فيها وألا نتعرض لها! إن الأمر جد خطير، نسأل عز وجل أن يزكي نفوسنا، وأن يطهر قلوبنا، وأن يرشد عقولنا، وأن يهذب سلوكنا، وأن يصلح أعمالنا. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية التواصل بين البيت والمدرسة

أهمية التواصل بين البيت والمدرسة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن أمر التربية والتعليم لأمر مهم يخصنا جميعاً، ويعنينا جميعاً؛ ولذا لابد أن نعتني به، ولابد أن نذهب إلى مدارس أبنائنا؛ لنحدث المعلمين والمدراء، ونطلب منهم أن يُعنوا بهذا الجانب تأكيداً وتعاوناً واشتراكاً بين المدرسة والبيت، فإن ثمرة ذلك استقامة الشباب والتضييق على الانحراف والشذوذ والخلل الذي قد يتسرب إلى عقولهم وأفكارهم، ثم يظهر في سلوكهم وأحوالهم، فلا بد أن نُعنى بذلك، وأن نخاطب به من يباشر هذه المهام، وأن نكتب عن ذلك، وأن نتحدث عنه؛ لأنه يمثل محوراً أساسياً جوهرياً.

أثر التعليم في الأمم والمجتمعات

أثر التعليم في الأمم والمجتمعات كلنا يعلم أن التعليم له الأثر البالغ في كل أمة ومجتمع؛ ولذلك كان فيما مضى وإلى اليوم والناس كلهم كل معتدل وعادٍ يعلمون أن التغيير يبدأ بالتعليم، الشيوعية الهالكة كان أول عنايتها إذا دخلت بلاد محتلة مغتصبة، أو جاءت عبر أتباع لها ممن يتبنون أفكارها، فإن أول ما يعملونه هو تغيير مناهج التعليم؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا الجيل الجديد على ما لديهم من الفكر والسلوك والتصور؛ لأن هذا هو الذي يغرس في الصغار ابتداءً، وفي الكبار ترسيخاً، وفي واقع الحياة ممارسة؛ ولذلك شنت الحملة على هذه المملكة في الزمن القريب وفيما يأتي وإلى يوم الناس هذا؛ لأن سياستها التعليمية سياسة مبنية على إيمان وإسلام وخلق وتقويم؛ ولأنها تدرك أن إخراج الإنسان المؤمن المسلم الذي يمثل إسلامه في فكره توسطاً واعتدلاً، وفي سلوكه خلقاً وسمواً، وفي معاملته حسناً وإحساناً هو الهدف الأسمى لذلك التعليم؛ ولأن مناهج العلوم الإسلامية، بل وحتى العلوم العصرية ليست خالية من اللمسات الإيمانية، والتذكير بعظمة الخالق سبحانه وتعالى، ولذا فإن الهجوم عليها إنما هو لذلك، فما أحرانا أن نواجه هذا الهجوم على أقل تقدير بأن نحافظ على ذلك، وأن نحرص عليه؛ لأنه ما هاجمه أعداؤنا إلا لأنه من أسرار قوتنا، وإلا لأنه من أسباب تماسكنا؛ ولذلك نحن ندرك أن عدونا إنما يريد مضرتنا، فعلينا أن ندرك هذا، وأما ما نحتاج إليه مما يزيد في علم أبنائنا، ويطور في طرائق تعليمنا، ويحسن في وسائل أدائنا فذلك من البدهي الذي لا يحتاج إلى تذكير ولا إلى تطويل في القول. ومن هنا فإننا نأمل من كل أحد من خلال وسائل الإعلام، ومن خلال مناهج التعليم، ومن خلال أدوار المدراء والمعلمين، ومن خلال دور معاشر أولياء الأمور من الآباء والأمهات، ومن خلال كل هذا المجتمع أن نؤكد على أهمية التعليم، وأهمية التزود به واتخاذه سلاحاً من أسلحة القوة ومن أسلحة العصر، وقبل ذلك ومعه وبعده التركيز على أهمية التربية والتزكية والتقويم السلوكي والفكري والنفسي الذي له ثماره الحميدة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والهداية والاستقامة. اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وارفع درجاتنا، وضاعف أجورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وارفع درجاتنا برحمتك يا أرحم الرحمين! اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وألهمنا رشدنا، وأعذنا من شرور أنفسنا، ووفقنا لطاعتك ومرضاتك يا رب العالمين! اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، وأحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم -يا رب- عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وزلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وخالف كلمتهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي! يا عزيز! يا متين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل الدائرة على البغاة الظلمة المعتدين يا قوي! يا عزيز! يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم سكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم، اللهم منّ علينا وعليهم بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! وانصر اللهم عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا عن الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

طوائف ومواقف

طوائف ومواقف المواجهات والتحديات والهجمات على هذه الأمة كثيرة جداً، وبأشكال مختلفة، ولذلك فقد أصبحت الأمة لقمة سائغة لأعداء الإسلام، فأرضها تغتصب، وأموالها تنتهب، وأعراضها تنتهك، ومقدساتها تدنس، وعقولها وأفكارها تغرب، فيجب على كل مسلم أن يبذل ما بوسعه لصد هذا الغزو، ودحر أعداء هذه الأمة.

وجوب معرفة الحق واتباعه

وجوب معرفة الحق واتباعه الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد جل وعلا، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له الخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، أسمع الله به آذاناً غلفاً، وأحيا به قلوباً ميتة، وزادنا فيه وبه وببعثته هدى من بعد ضلالة، ورشداً من بعد غي، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! طوائف ومواقف شتى نراها من أهل الإسلام في مختلف البقاع، وكذلكم مواقف وطوائف من أهل الكفر والعدوان ومن أهل النفاق والممالأة، والله جل وعلا بين الحق من الباطل والخير من الشر، كما قال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)، ثم بين عليه الصلاة والسلام المسلك الذي يختاره كل أحد لنفسه، فمن منتهك للحرمات ومرتكب للمحرمات، ومن ملابس للشبهات وواقع في دوائرها، ومن مستبرئ لدينه متقٍ لربه. وفي هذه الأزمان التي تختلط فيها الأمور حيرة في العقول واضطراباً في الأفكار وميلاً في الأهواء وزيغاً في المواقف ينبغي للمؤمن أن يمحص الأمر، فيعرف الحق ليتبعه ويستمسك به ولو كان مراً، ويعرف الباطل ليعتزله وينأى عنه ولو كان حلواً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه)، ومن نعمة الله علينا أن جعل لنا من كتاب ربنا وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم ما نكشف به كل زيف، وما ندحض به كل شبهة، وما ننير به كل ظلمة، وما نعرف به كل ملتبس من الأمور، ولكنها أهواء النفوس، ولكنه ضعف الهمم والعزائم، ولكنه الركون إلى الدنيا وزينتها، ولكنه الخوف من قوى الأرض ومن طغاتها وجباريها، ولكنه ولكنه ولكنه أسباب كثيرة مختلفة. أيها المسلم! لك قلب مؤمن ونفس مسلمة، ولك عقل راجح وفكر متزن، ولك يقين بأن وراء هذه الحياة حياة أخرى، فاختر لنفسك ما فيه فلاح دنياك ونجاة أخراك، واعلم أن كلما يزين لك، وكلما تشجع عليه، وكلما قد تلجئك الأحداث إليه ما لم يكن عليه بينة من كتاب وسنة، وما لم يكن هو النهج الذي تمسك به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، واعتصم به سلف الأمة، وجدده المؤمنون الأبطال الأشراف عبر تاريخ الأمة إلى يومنا هذا؛ فلا تركن إليه، ولا تمل إليه، ولا تستعذب عاجلاً يكون وراءه آجل عظيم الخطر، شديد الضرر.

خطر الموج الإعلامي المفسد للمجتمعات الإسلامية

خطر الموج الإعلامي المفسد للمجتمعات الإسلامية هذه طوائف ومواقف أستعرضها لكم، وأنتم تعرفونها؛ غير أني أريد أن أبين اختراق الناس في الأوقات العصيبة والمحن المزلزلة والفتن الملتبسة؛ ليكون لنا موقف ونهج نستعين فيه بالله جل وعلا أولاً وآخراً، ونلتجئ فيه إلى المنهج المعصوم من كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، من هذه المواقف: أولاً: كاتب يصف طائفة بمواقفها، ويتخيل أنه يكتب ذلك بعد خمسين عاماً، وكأنه يروي لابنه ما سيسرده له في زمن قادم، ويصف حال طائفة من واقع الأمة، وعلى الطرف الآخر كان فريق من بني العرب يواصلون الغناء الفج والرقص الرخيص ليلاً ونهاراً، وكانت جثث العرب التي تنهشها الكلاب تملأ الصفحات والقنوات، وكانت نساء العرب تبكي وتنتحب في بغداد والقدس وغيرها فيما يسهر القوم حتى الصباح لمتابعة امرأة، ثم ذكر أسماءً أعف لساني عن أن أذكرها من الغانيات الفاسقات، ثم قال: لقد جاءوا بهن، وجردوهن من معظم ملابسهن، وأطلقوهن علينا صباح مساء، وكأنهم يحتفون بالدم العربي على طريقتهم، كان الأبناء مثلك في هذا الوقت -يعني: هذا الوقت الحاضر- يخرجون للهتاف لزعيم للفضاء، ويعني: الذين فازوا في برامج الفضاء النجومية، وذكر أسماءهم، ثم قال: كان مجرد ظهور راقصة عارية في فلم عربي يثير الاستياء، أما في هذا الزمن الذي أحدثك عنه فالعري بات سمة للمطربين والمطربات، كنا نحاول أن نمسك أو نتمسك بقيمنا العربية الأصيلة لكن الموج كان عالياً، والعدوان عاتياً، والحصار محكماً، وشيئاً فشيئاً تعودنا على الخلاعة، وأصبح كل من يكتب منتقداً هذا المسح أو المسخ الأخلاقي ساذجاً ومتخلفاً مثل أبيك، أي بني! معذور في سخطك علي، ثم ذكر حال طائفة، ذكر ذلك في إيحاءات وإشارات، ولكني أنقل ومضات قليلة من فيض كثير يصور واقعاً عملياً لمثل هذه الفئات، فهذه عاصمة كبرى لدولة عربية عظمى، يزورها مغنٍ أمريكي يأتي بطائرة خاصة، يحرسه أربعمائة شرطي، وألفي رجل أمن خاص، ويرافقه مائة وعشرون من المرافقين! ومعه نحو أربعين طناً من المعدات الصوتية والغنائية! وترافقه خطيبته، وهناك أربعة عشر ألف تذكرة طبعت، قيمة الواحدة منها تتراوح ما بين خمسمائة إلى ألف من عملة تلك البلاد! والعجيب أن هناك تذاكر بمائتين فقط لمن يريد الدخول وقوفاً! وسيشارك في هذا الحفل واحدة من أولئك الساقطات اللائي ذكرهن صاحب المقال السابق.

فساد أكثر القنوات الفضائية العربية

فساد أكثر القنوات الفضائية العربية تذكر الصحف نحو مائة قناة تخاطب المشاهد العربي، منها إحدى عشرة قناة غنائية فقط؛ ليس لها على مدى أربع وعشرين ساعة إلا الآهات واستعراض الأجساد العارية والفتن الماجنة، وهكذا نجد قناة عربية في بلد عربي آخر تتولى عقداً من مؤسسة إعلامية أمريكية؛ لتقوم بمهمة إنشاء قناة فضائية عراقية، فكم تبذل من الأموال؟ وكم يُستغل من الأشخاص؟ وكم من الشباب والشابات؟ وكم هو هذا التيار في واقع حياتنا؟ فهناك من ارتضى لنفسه أن يعيش مع الشهوات، وأن يبقى مع المطربين والمطربات، وأن يبقى على الهواتف والاتصالات والتصويت، وهناك أجيال تغرب وتقتل فيها معاني العزة والشرف، ولسان حال أولئك كأنما يعبر عما ذكره الله جل وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، وذلك ينبؤنا عن كثير مما يحل بنا من البلاء؛ لأن الفتن إذا عظمت والمفاسد إذا كثرت والمنكرات إذا أقرت فإن ذلك مؤذن بخطر عظيم في انتشار الفساد والشر والضر، وأعظم منه فساد القلوب وكدر النفوس وزيغ الأهواء وضلال العقول، نسأل الله عز وجل السلامة. ومثل ذلك قد يكون كثيراً، وأختمه بحادثة كتبتها الصحف عن إحدى محافظاتنا أنه: قبض على مواطن وأربع نساء يديرون شبكة دعارة، ومصانع لتصنيع الخمور! وهذا في ظل هذه الظروف التي تسمعون عنها، فالفاسدون والمفسدون هم مسامير تدق في نعش أمتنا، وتكون سبباً فيما يحل بنا من بلاء.

أحداث الفلوجة

أحداث الفلوجة لا أريد أن أعلق على كل طائفة وموقف، ولكني أستعرض، وسأنتقل إلى طائفة أخرى ومواقف أخرى، واسمحوا لي أن أكون مبتعداً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار فإن هذا هو ما يحكيه واقعنا: في الوقت الذي يسهر أولئك على الطرب والغناء، أنقلكم إلى مدينة فيها سبعمائة ألف من المسلمين العرب السنة، وقد استشهد منهم في خلال أيام قليلة سبعمائة، ووقعت فيها جرائم فظيعة تسجل في سجل الجرائم ضد الإنسانية؛ وهي جرائم غير مسبوقة؛ لأن جيشاً عظيماً هائلاً للقوة العظمى يحاصر الفلوجة نحو أسبوعين، ويقصفها بالطائرات، ويرميها بالمدفعيات، ويهدم المساجد على رءوس من فيها، فيستشهد أكثر من أربعين، ويستخدم القنابل العنقودية المحرمة دولياً كما يقولون، ويواصل الحصار، ويحفر الخنادق حولها، ويضرب مؤسسات الكهرباء والماء، ويمنع الجرحى والمرضى أن يصلوا إلى المستشفيات، حتى وصف مراسل صحيفة محلية استطاع أن يدخل إلى الفلوجة في زمن يسير أثناء توقف القتال فيصف لنا هذه المشاهد فيقول: مدينة تطفوا على بركة من الدم! ظلام دامس! ثم يخبرنا أنه رأى بطولات من مدينة المساجد والمآذن، وما إن تدخل المدينة حتى تسمع من يقول: القتال في الفلوجة يعني: الدخول إلى الجنة، فيأخذك الشعور بالاطمئنان، ولحظة ذاك تدرك الفرق بين الجنة والجحيم على أرض الواقع، ولكن بشكل مخالف جداً للحقيقة، وتبرز أمامك حقائق كثيرة أهمها: إصرار الأهالي على القتال، على الرغم من إدراكهم أنهم يدفعون الثمن باهظاً. ثم يروي كلمات لمحافظ المدينة ويقول: إن الناس هناك مصرون على الثبات، ويروي قصة امرأة أخذت جثة زوجها القتيل، ووضعتها في وسط دارها؛ لأنها لا تستطيع دفنها، ثم ضمدت جراح ابنها، وأخذت بندقيتها وخرجت للثأر من القتلة غير مبالية، ثم يقول: ما يجعلنا متمسكين بقيمنا أن الأهالي مصرون على مواجهة الاحتلال، وعدد من الأهالي كتبوا وصاياهم وسلموها إلى أئمة المساجد، ومعظمها فيها وصية الأبناء والأحفاد بمواصلة الجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، وأولئك العزل وأولئك الضعفاء قد أسقطوا عشر طائرات، وقد قتلوا في الحقيقة لا في المعلن أعداداً تزيد على المئات أو تبلغ المئات، ثم مع ذلك تجد ثباتهم ويقينهم وليسوا وحدهم، فإنهم إن كان قد مرت بهم أحداث الاحتلال خلال عام فإنها قد وصلت إلى نحو أكثر من ستين عاماً في أرض فلسطين، وما زال أبطال الأقصى وما زال أشراف بيت المقدس وما زال المؤمنون هناك يرفعون رايات العز ويأبون الذل.

ومضات من تاريخ مدينة الفلوجة

ومضات من تاريخ مدينة الفلوجة أشير إلى مدينة الفلوجة على وجه الخصوص؛ فإن لها تاريخاً في الإيمان والعزة، وفي الجهاد والفداء والتضحية، وفي دحر المعتدين، فقد كانت شرارة مقاومة عظمى ضد الإنجليز في زمن مضى، وكانت بداية نصر، والعجيب أن هذه المدينة باسمها واشتقاقها في معانيها اللغوية تحمل معانٍ عظيمة! فمن معانيها: الفوز والظفر، ومن معانيها: السكينة والطمأنينة إلى غير ذلك، وقد قال الرصاصي شاعر العراق عنها قبل أكثر من نحو أربعين عاماً، وكأنه يقوله اليوم: أيها الإنجليز لن نتناسى بغيكم في مساكن الفلوجه أدرتم فيها على العزل كأساً من دماء بالغدر كانت مزيده حلها جيشكم يريد انتقاماً وهو مغرٍ بالساكنين علوجه سوف ينأى بخزي وعار عن بلاد تريد منها خروجه ما حياة الإنسان بالذل إلا مرة عند حسوها ممجوجه فثناء للرافدين وشكراً وسلاماً عليك يا فلوجه إنها عين القصة، ونفس الجريمة، وذات الطريقة، ولكنه كذلك -بإذن الله عز وجل- تجدد موقف الإيمان وعزة الجهاد وشموخ المستعلين بدينهم المعتزين بأصالتهم وعراقتهم، الرافضين لكل ما يقال ويذاع ويشاع، ومع ذلك فالدروس عظيمة يضيق المقام عن حصرها. إلى الذين ركعوا وخنعوا وذلوا وباعوا فلتأخذوا من أهل الفلوجة مع قلة عددهم وعددهم عبرة ودرساً؛ فإن المعتدي اليوم هو الذي يلتمس الخروج، وهو الذي يوسط المفاوضين، وهو الذي يريد أن يسلم من نار تلك المقاومة الجهادية، وانظروا كذلك فإنكم واجدون هناك من صور الإيمان والعزة ما يبين حقيقة القوة في المعاني الإيمانية والإسلامية لا في القوى المادية والعسكرية، ولو أردنا أن نذكر هنا شيئاً من المواقف المشرفة ومن الآثار العظيمة لطال مقامنا في ذلك، ولكني أستعرض لكم تلك المواقف والطوائف لتروا وتنظروا، وتفضلوا وتقارنوا، وتختاروا وتتبعوا.

بيان ضرر وخطأ الذين يفجرون في البلدان الإسلامية

بيان ضرر وخطأ الذين يفجرون في البلدان الإسلامية أنتقل إلى طائفة ثالثة وهي مفارقة ومخالفة، فحالنا يجمع أموراً عجيبة، وتناقضات غريبة، إنها أحداث قائمة على منهج خاطئ، وتهور مرفوض، وسفك للدماء المعصومة، وإتلاف للأموال المحترمة، وإخلال بالأمن، ذلكم ما جرى ويجري في بلادنا من تلك العمليات والتفجيرات والاغتيالات، وقد أسلفنا القول فيما هو صحيح في ارتباطه أو صلته من قريب أو بعيد بمعاني الجهاد، أو بمعاني الإصلاح والتغيير المطلوب والمرجو منه نفع الإسلام والمسلمين، وليس فيها ما قد يكون شبهة من دليل فضلاً عن أن يكون حجة قاطعة، ثم هناك استنفار وتفجير للطاقات في غير مكانها، وميادين للمعارك في غير ساحاتها، وفرص للأعداء وتمكينهم، وفرص لإضعاف القوى والمجتمعات والدول والشعوب الإسلامية، وإثارة النزاعات والقلاقل والاختلافات، فأي شيء وراء ذلك ونحن نعلم تعظيم حرمة دم المسلم؟ قال عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وكلنا يعلم ما ورد في ذلك من الأحاديث، وقد أسلفت القول مراراً وتكراراً؛ فإن هذه صفحة سوداء مظلمة، وإن هذا مسلك وخيم العواقب، وليس له حجة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونهج الصحابة، وليس في سلف الأمة من جنح إلى مثل ذلك، وكلما شذ عن هذا فقد جاءنا فيه بيان واضح شافٍ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن التحذير من تلك المزالق والمأزق، فينبغي لنا أن ندرك ذلك؛ لأنه على خلاف نهج ديننا، ولأنه على تناقض مباشر مع مصالح أمتنا، ولأنه يصب في الجملة في خانة أعدائنا، وتلك صفحة أخرى وطائفة أخرى قل عددها، ونرجو ألا يكون فينا ولا معنا ولا بيننا من قد يلتبس عليه أمرها.

التحذير من العرب الموالين لأعداء الإسلام

التحذير من العرب الموالين لأعداء الإسلام أنتقل إلى طائفة أخرى، وقد تعجبون هل بقيت هناك طوائف؟ ما سأذكره من بقية الطوائف إنما هو بعضها لا كلها: طائفة من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وقد أشرت مراراً إلى بعض أحوالهم، وكثير من فعالهم، وهم يشكلون حربة تطعن الأمة في ظهرها، وتطعنها في خاصرتها، وتجوس خلال ديارها، وتبث عوامل الضعف والانحلال من داخلها، إنهم أولئك الذين يرددون أقوال المعتدين الذين يواجهون الإسلام والمسلمين، ويبشروننا بمقالاتهم، ويؤكدون علينا صدق وعودهم، ويرددون علينا صباح مساء ضرورة التحالف والائتلاف معهم ونحو ذلك، وتراهم يقومون في داخل بلادنا الإسلامية على اختلاف رقعتها بما يريده العدو، بل بما هو أكثر من ذلك، أفلستم تسمعون وترون الصيحات المتتابعة والأعمال المتواصلة لتغيير مناهج التعليم، واجتثاث جذورها الدينية، واقتلاع صلتها الإسلامية، ومحو ارتباطها التاريخي؟! ويقولون لك: إنه لابد من ذلك وإلا فإننا سنكون في نظر العالم متطرفين وإرهابيين وغير ذلك! أفلا تراهم وهم يحدثونك عن العمل الخيري وركن من أركان الإسلام وهو الزكاة ومساعدة المحتاجين وتأكيد وحدة المسلمين، وما يلزم من الوقوف مع الممتحنين والمضطهدين فيقولون: إن ذلك مساندة للإرهاب، وإننا إنما نبدد أموالنا في غير معركة -كما يقولون- ناجحة؟! ثم إنهم يقولون: إن هناك خطراً عظيماً، وإن صورنا الدولية في العالم ينبغي أن تضبط، وأن تحسن، ولابد من التضييق على هذا العمل الخيري، ومن إغلاق مؤسساته، ومن تجفيف منابعه، ومن ومن إلى غير ذلك، ويسعون فيه فعلاً لا قولاً، ثم تراهم وهم يطنطنون على قضية المجتمع، والمرأة وحريتها ومشاركتها وعملها فيما ليس معروفاً ومضبوط بضوابط شريعتنا وبأسس مجتمعاتنا، بل بلسان عدونا، وبمنطق ديمقراطيته، وبمبادئ حريته، وبأسس إباحيته إلى غير ذلك. وهكذا ترى أحدهم وقد كتب عن الفلوجة التي تحدثنا عنها فيقول: إن هذا الفعل من أولئك القوم ومن الذين ينادون بنصرتهم والوقوف معهم، إنما هو خطأ محض، وإنما هو تهور لا داعي له؛ لأنه يفسد الصورة المستقبلية المرجوة من تسليم الحكم لأهل البلاد، ومن شيوع الأمن، وحلول الديمقراطية، وحصول التقدم وغير ذلك من الوعود التي لا يصدقها إلا صاحب هوىً أو صاحب حمق نسأل الله عز وجل السلامة. الله جل وعلا يخبرنا عن أمثال هؤلاء وغيرهم، ويبين أنهم مع وضوح الرؤية لديهم كأنما يقصدون الحرب لدين الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، وكل صورة من صور العداء للدين أو مواجهته أو التضييق عليه فإنما صاحبها يعرض نفسه لمحاربة الله ورسوله، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33]، إنها صور من المحاربة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحاولة لتغيير واقع الأمة بما يتوافق مع الأعداء، وذلك خطر عظيم.

فضل المصلحين من هذه الأمة

فضل المصلحين من هذه الأمة أنتقل إلى طائفة أخيرة أشير إليها إشارات؛ لأنها ليست محصورة في صور معينة، وإنما هي واسعة الطيف، منتظمة في كثير من البلاد والبقاع، وتشمل فئات غير قليلة من أهل الإيمان والإسلام والغيرة، إنهم علماء من الأمة يعلمون ويرشدون ويبينون ويوضحون ويقفون المواقف المشرفة، ويقومون بالأعمال العظيمة، دعاة غيورون، يذكرون الناس وينبهونهم ويحذرونهم من المخاطر والمزالق، ويتقدمونهم إلى الإصلاح وتغيير المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، متبعين قول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، إنهم مربون ومربيات من الأساتذة والأستاذات يقومون بتوجيه أبنائهم وتلقينهم مبادئ الإسلام، وتعريفهم بعزته، وتذكيرهم بلزوم اتباعه والاستمساك به، وآخرون من الآباء والأمهات يحسنون تربية أبنائهم، ويجعلون بيوتهم نوراً مشرقاً بآيات القرآن وموطناً لمواطن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعراض سيرته، وينشئون أبناءهم تنشئة على الخير والهدى والتقى والصلاح، وآخرون يلتزمون دين الله سبحانه وتعالى في لزوم المساجد والصلوات والدعوات والصدقات وكل الأعمال الصالحات، بل ويقومون بالأعمال والمشروعات الخيرية والدعوية والإصلاحية؛ ليتحقق بذلك بعض سنة الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ويحققوا نداء الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، ويتعرضون ليكونوا من طائفة محمودة في أمة الإسلام قال عز وجل عنها: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وليكونوا كذلك سبباً من أسباب دفع البلاء والنقمة الربانية، وليكونوا سبباً من أسباب تنزل نصر الله عز وجل، قال عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقال سبحانه: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]. تلك طوائف، وتلك مواقف؛ والحق أبلج بين، فاختر لنفسك؛ فإنك تعلم ما ينفعك في دنياك وما ترجو أجره وثوابه في أخراك. أسأل الله عز وجل أن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يسلك بنا طريق الصلاح الرشاد والهدى والتقى، وأن يجعلنا لكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

واجب المسلمين أمام التحديات التي تحاك لأمتهم

واجب المسلمين أمام التحديات التي تحاك لأمتهم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم بتقوى الله؛ فإنها أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولا شك أنكم من الناحية النظرية تعرفون ما تختارون، وأن الاختيار واضح، إلا أنني أحب أن أشير إلى نقاط مهمة: كثيرون في كل مرة وأزمة، وفي كل فتنة ومحنة، وفي كل كارثة وأحداث أليمة محزنة يأتون وملء صدورهم حماسة، وملء قلوبهم غيرة، وهم يسألون: ماذا نفعل؟ وكأن أحدهم يتصور أنه لا يمكن أن ينصر دينه أو أن يعين إخوانه إلا في صورة واحدة أو صور محدودة، فإن تعثرت لم يكن له طريق يقيم فيه دين الله، وينصر فيه دين الله عز وجل، ولست هنا سأعطي لكم وصفة أو طريقة، ولكني أنقلكم إلى مشهد مماثل من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يوم تحزب الأحزاب، واجتمعوا كما يجتمعون اليوم في أرض العراق، يوم صار الحصار واجتمعت القوى الرهيبة العظيمة، يوم أسلم نعيم بن مسعود في تلك الأزمة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له: إني قد أسلمت، فمرني -يا رسول الله- ماذا أفعل؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إنما أنت رجل منا فخذل عنهم ما استطعت)، وهي التي نقولها لكل أحد: إنما أنت من المسلمين فخذل عنهم ما استطعت، ولو باستقامتك وطاعتك، ولو بصلاتك ودعوتك، ولو بزكاتك ونفقتك، ولو بتربيتك ابنك وابنتك، ولو بكل سبيل وطريق، فإن كنت ذا غيرة وإيمان فلن تعدم الوصول إليها، وكما قلت من قبل: من يقول: ليس هناك شيء أفعله فإنه في الغالب لا يريد فعل شيء، وإلا فإن أي عمل يمكن أن تصنعه سيكون مفيداً نافعاً، فمثلاً: الذي يدخن ويحرق ماله وصحته ويقوي أعداءه أفليس حري به في مثل هذه الظروف العصيبة أن ينتصر على نفسه؛ فيقلع عن هذه الصفة الذميمة؟ أفليست هناك جهود تبذل في هذا، وهي من جهود نصر الأمة؟ ونحو ذلك من أمور كثيرة يضيق المقام عن ذكرها.

أمور مهمة في طريق الإصلاح

أمور مهمة في طريق الإصلاح نحن نحتاج إلى أمرين: الأمر الأول: أن نكون على نهج ومنهج وبينة وبصيرة، لا أن يكون عملنا رد فعل، ولا تحركاً طائشاً، بل على آيات تتلى وأحاديث تروى وسيرة تعرف ومناهج محددة واضحة بينة. الأمر الثاني: الاستمرار، فلسنا نريد عاطفة مؤقتة، أو دمعة عابرة، أو دعوة واحدة مفردة، ثم نعود مرة أخرى، ذلكم ما كنت ولا زلت وسأظل أذكر نفسي به وإياكم، نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وحسن أقوالنا، وأخلص أعمالنا، وأصلح أحوالنا، وضاعف أجورنا، وارفع منازلنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفقنا للصالحات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم املأ قلوبنا بحبك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واستخدم جوارحنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك ونصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة عليهم. اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أذل أعناقهم، وسود وجوههم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك يا عزيز! يا منتقم! يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي! يا عزيز! يا متين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين، وهزيمة الشرك والمشركين والكافرين المعتدين والطغاة الظالمين يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والجرحى والمرضى والمحاصرين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، اللهم أفض إلى قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، اللهم أمدهم بحولك وقوتك ونصرك وعزتك يا رب العالمين! اللهم كثر العدو القاهر، وقلَّ المعين الناصر، وليس لها من دونك كاشفة، اللهم اكشف البلاء عن الأمة، وارفع الضراء والغمة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل فيما قضيته على إخواننا في العراق وفي فلسطين وفي كل مكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم وعاجل أمرهم وآجله يا رب العالمين! اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

المخاطر الجسيمة والوعود العقيمة

المخاطر الجسيمة والوعود العقيمة أكبر قضية تشغل بال المسلمين اليوم هي قضية القدس السليبة، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرض النبوات، وهي مربط الفرس في العداء بين المسلمين وأهل الكتاب، وما ذاك إلا لأنها بالنسبة للمسلمين شيء عظيم عزيز يفدونه بأرواحهم ودمائهم، ولا يمكن أن يتخلوا عنه أبداً مهما تآمر المتآمرون، وفعل المبطلون، والدفاع عنها باقٍ إلى قيام الساعة.

العداوة بين أهل الإسلام واليهود

العداوة بين أهل الإسلام واليهود الحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! حديثنا اليوم عن القضية العظمى التي لا أمل من تكرار الحديث عنها لاعتبارات كثيرة؛ لأنها هدف نهائي، وغاية كبيرة عظمى لكل ما يحاك حول أهل الإسلام وأمته، ولكل ما يدبر للمسلمين في شتى بقاع الأرض. إنها قضية فلسطين مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المسجد الأقصى، أرض النبوات والأنبياء، الأرض التي فتحها عمر رضي الله عنه، وحررها صلاح الدين رحمه الله، وروتها دماء المسلمين إلى يومنا هذا على أيدي الأبطال الأشاوس المؤمنين من الصغار والشباب الذين بذلوا أرواحهم فداء لدينهم، والذين أزهقوا نفوسهم إعزازاً لأمتهم، والذين تصدوا بصدورهم العارية للقوة الضاربة الضارية؛ ليثبتوا عظمة الإيمان، وقوة الإسلام، وغيرة وحمية المؤمنين الذين لا ترهبهم القوى العظمى، ولا تخيفهم المؤامرات الكبرى، ولا تنطلي عليهم الخدع المتوالية.

أسباب استمرار العداء في أرض الإسراء

أسباب استمرار العداء في أرض الإسراء مسلسل العداء: مربط فرسه، وقطب رحاه في (أرض فلسطين)؛ لأسباب كثيرة: أولها: أن هذه الأرض بالنسبة للمسلمين أرض مقدسه، فيها آيات تتلى، وأحاديث تروى، ولن تنسخ الآيات مهما فعل المبطلون، ولن تلغى الأحاديث مهما تآمر المتآمرون، ولن ينسلخ المؤمنون من دينهم، ولن ينزع اليقين والتسليم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلوبهم، فالقضية باقية ما بقي القرآن، وهو باق إلى قيام الساعة، والقضية باقية ما بقيت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، باقية ما بقي مسلم وطائفة مسلمه ثابتة على الحق معتصمة به، وقد قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وفي راوية أحمد قيل: (أين هم يا رسول الله؟! قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس). وقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ستة أمور تتوالى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وذكر منها فتح بيت المقدس؛ ليشير النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أنه امتداد لرسالته ومهمته ونبوته منذ أن أسرى الله عز وجل به إلى تلك البقاع المقدسة، ومنذ أن صلى إماماً بالرسل والأنبياء، ومنذ أن عرج به إلى السماء. وقد سارت جيوشه صلى الله عليه وسلم وجنوده من صحبه الكرام لتتوالى وتتصل من بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. الأمر الثاني: أن الصراع في تلك الأرض المقدسة مع القوم الذين أخبرنا الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، ولن نكذب كتاب ربنا ونصدق أباطيل الكذبة الفجرة الكفرة، أو المنافقين والمداهمين المجاملين؛ فإن يقيننا بكتاب ربنا راسخ رسوخ الجبال الرواسي لا تزعزعه تلك الرياح الفارغة، ولا تلك الصيحات الكاذبة، وهذه قضية مهمة. والأمر الثالث: أن العداء العالمي الدولي والتحالف الصليبي الصهيوني يتركز كله اليوم في هذه القضية، فتجتمع الدول والمؤسسات والمنظمات العالمية كلها، وتدار المؤتمرات، وتعقد الندوات، وتتوالى المفاوضات، وتوقع المعاهدات، وتأتي الالتزامات، وتقام العقوبات، لأي شيء أيها الإخوة؟ وفي أي موضوع؟! هل هو في قضايا أخرى من قضايا المسلمين -وإن كانت كلها عندنا عظيمة ومهمة-؟ أفترون ذلك كله يدور لأجل الشيشان -وهو جرح نازف- أو لأجل كشمير -وهو دم ينزف- أو لأجل هنا أو هناك؟ إن الصراع محوره وبؤرته وركيزته القدس، وإن سقوط العراق إنما هو طريق لاستقلال تلك القوة والسلطنة والهيمنة؛ لفرض ما تريده وتقصده وتهدف إليه وتنشده الدولة الغاصبة في أرض الإسراء، في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل الأحداث القريبة تجمع حزناً مؤلماً كما تجمع مع ذلك إصراراً قوياً، وعظمة كبيرة، وشموخاً إيمانياً، واستعلاء إسلامياً، وثباتاً منهجياً، لأصحاب الحق الواضح أصحاب الإيمان الصادق أصحاب الإسلام الخالص أصحاب المبدأ النظيف الطاهر الذي لا يتلون مع دنس السياسة ولا يخضع لمعاملات الاقتصاد، واهتزاز الأموال، ولا يرهب من القوى العسكرية والسياسية وغيرها.

أقوال سياسية عربية فيها الانحياز إلى اليهود

أقوال سياسية عربية فيها الانحياز إلى اليهود لا شك أيها الإخوة أننا أمام مخاطر عظيمة تعد فيما أرى الأخطر مما يواجه الأمة المسلمة اليوم، وإن هذه المخاطر ليست مخاطر أرض اتسع حجمها أو صغر، وليست مخاطر فئة أو مجموعة يصفونها بالإرهاب يريدون أن يتوقف شرها كما يزعمون، إنها قضية عقيدة الأمة الإسلامية وهويتها. إن قضية حضارة الأمة الإسلامية ووجودها هي القضية الأساسية، وهي الحربة الموجهة إلى صدر الأمة وقلبها اليوم، ويوشك إذا نشبت في ذلك الصدر أن يحصل ما يأمله الأعداء من ترنح هذه الأمة أو سقوطها، وذلك لم ولن يكون؛ لأن وعد الله القائم لا يخلف. لكن نشير إلى بعض الأمور المؤلمة المحزنة، ونرى كيف تجري تلك المؤامرات، وكيف يحصل الرضوخ للمساومات، وكيف تباع -لا أقول: الأرض ولا القضية- وإنما كيف تباع الديانة والهوية على ما يسمى طاولة المفاوضات؟ هذه كلمات أقولها، ولو كان قولها بغير اللسان العربي المبين لكان أبلغ وأفصح، ولكان أكثر مطابقة مع حقيقة هذه المعاني التي يؤسفنا أن نقولها بهذا اللسان الذي نطقت به، والذي أرادت أن تعبر به عن أهل فلسطين، وعن أمة العرب، وعن المسلمين أجمعين، وإن كانت في واقع الأمر لا تمثل إلا من ينطق بها أو يمثلها في حقيقة تخاذله وتآمره وضعفه، وغير ذلك من الأوصاف. (هدفنا دولتان تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن، وطريقنا طريق التفاوض المباشر، وحل كافة قضايا المرحلة النهائية، وإنهاء الاحتلال الذي بدأ في عام 1967م ولا تنسوا التواريخ؛ فإن هذا ينسخ ما قبل ذلك، فلم يكن ثمة احتلال ولا هجوم ولا عدوان قبل ذلك بنحو خمس وعشرين عاماً كما هو معروف من عام ثمانية وأربعين، والأمر جلي واضح. ثم ماذا عانى في ظله الفلسطينيون من شديد المعاناة؟ ثم يقول: وفي ذات الوقت لا نتجاهل معاناة اليهود على مر التاريخ، وقد حان الوقت لإنهاء كل هذه المعاناة). جدير بكم أن تذرفوا الدموع على معاناة اليهود الذين تهدم بيوتهم كل يوم في أرض فلسطين! جدير بكم أن تبكوا على اليهود الذين رأينا أطفالهم في السنة الأولى تخترق أجسامهم القاذفات التي تحدث خروقاً كاملة في أجسادهم! جدير بكم أن تبكوا على اليهود الذين لا يستطيعون أن يكسبوا لقمة عيشهم في أرضهم. جدير بكم أن تشاركوا في هذا الحزن على تلك المعاناة الشديدة الرهيبة، وكأننا لا نرى بأم أعيننا أن ذلك يجري على إخوان لنا في الدين والعقيدة يدافعون عنا وعن وجودنا، ويدافعون قبل ذلك عن قرآننا وسنة نبينا، ويدافعون عن شرفنا وعزنا. الواقفون يوم جثا كل الناس أو معظهم على الركب، الشامخون برءوسهم يوم ذلت الأعناق وكانت الذلة شعاراً عم الجميع إلا من رحم الله، الثابتون في مواجهة القوة يوم فر الجميع إلا أولئك النفر القليل من أهل الإيمان والصدق واليقين. وواصل القول المحزن المؤلم فقال: (ولكني ولكي أكون صريحاً وواضحاً أقول: لا يوجد حل عسكري لصراعنا، ونكرر إدانتنا ورفضنا للإرهاب والعنف ضد الإسرائيليين أينما كانوا. إن هذه الوسائل -واسمعوا إلى من يتحدثوا باسم كتاب الله وسنة رسول الله وأمة الإسلام كلها عبر تاريخها الطويل، ومآثرها المجيدة- لا تنسجم مع تقاليدنا الدينية والأخلاقية، بل تشكل عقبة خطيرة أمام دولتنا المستقلة ذات السيادة). ولقد قلت من قبل سنوات عدة: إن مقتضى مثل هذا الكلام: إما أن نحبس القرآن في أماكن لا يخرج منها، وإما أن ننزع منه صفحات، أو نطمس منه آيات؛ لنصدق مثل هذه المفتريات، وهذا أمر خطير، فليست القضية سياسية، وليست القضية بلاغية أو كلامية، إنها أخطر من ذلك كله! ثم قال: (سنبذل كل الجهود، وسنستخدم كل إمكانياتنا لتنتهي عسكرة الانتفاضة، وسننجح. الانتفاضة المسلحة يجب أن تنتهي، وعلينا أن نستخدم الوسائل السلمية في سعينا لإنهاء الاحتلال، ومعاناة الفلسطينيين والإسرائيليين، هدفنا واضح، وسنطبقه بحزم وبلا هوادة، نهاية كاملة للعنف والإرهاب، وسنكون شركاء كاملين في الحرب الدولية ضد الإرهاب). اهـ. ولا أظنكم تحتاجون إلى أن ننسب هذا القول إلى قائله، ولو كان بلسان عبري مبين لما كان في الأمر أدنى شك، فهو لا يخدم ولا ينطق ولا يعبر عن الإسلام والمسلمين ولا عن فلسطين وعن الفلسطينيين. ولعلي أنتقل بكم أيضاً إلى مقالات أخرى، وأحسب أنها ستختلط عليكم إذ لا يعرف من يقول هذا ويتبناه ومن يؤمن ويعتقده ومن يخالفه ويناقضه. قال بعضهم: (نحن ملتزمون بقوة بضمان أمن إسرائيل كدولة يهودية نابضة بالحياة، إن هذا الرجل يمثل قضية سلام، وقضية دولة للشعب الفلسطيني، إنني أدعم بقوة هذه القضية أيضاً). لقد وعد لبذل أقصى الجهود والموارد لإنهاء الانتفاضة المسلحة، كما وعد بالعمل من دون مساومة من أجل وضع حد نهائي للعنف والإرهاب. ثم قال: (السلام يتطلب أيضاً إنهاء العنف، وإزالة كل أشكال الحقد والأذى والمرارة في كل الأحوال، وفي المناهج الدراسية). ولعلكم لا تحتاجون إلى كثير ذكاء لنقارن ما يطلب اليوم بما هو واقع على الأرض، فلسنا نحن الذين نذكره معاشر المسلمين، بل تذكره وكالات الأنباء وتعيده وتردده، ما الذي يدرس في المناهج اليهودية عن العرب والمسلمين؟ ومن ذا الذي فتح فمه ليقول: غيروا هذه الثقافة العنصرية العنيفة؟ هل سمعتم أحداً يذكر ذلك أم أننا لا نسمع إلا ضرورة تغيير مناهج المسلمين التي فيها منهج الإسلام بكامل عدالته وسماحته وصحته وصلاحيته؟! ثم ماذا؟ لابد من وقف الدعم والإعانة. لمن؟ للذين لا يملكون سلاحاً ولا قوة، لا تعينوا الذين مات آباؤهم، لا تساعدوا الذين دمرت بيوتهم، لا تنجدوا الذين لا يجدون لقمة عيشهم، لا تغيثوهم. ثم ماذا؟ ولتأتي الدول الكبرى والصغرى لتعين دولة مؤججة بالسلاح تعد الرابعة أو السابعة في دول العالم من حيث الأسلحة. ثم ماذا؟ تأتي المنظمات في شرق الأرض وغربها لتدفع ليس فتاتاً من الأموال -كما يقع في دعمنا لإخواننا- بل مئات من الملايين، ويكفي أن تعرفوا أن اليهود يستلمون شهرياً أكثر من ستين مليون دولار لتعويض من يزعمون أنهم تضرروا من الحملة الألمانية على اليهود في عهد هتلر، وفي كل شهر يستلمون هذه المبالغ، فضلاً عن القوى العظمى التي تدعم اليهود بنحو ثلاثة مليارات دولار سنوياً، فضلاً عن المنظمات والشركات التي تدعم الجمعيات التي تعلن عنصريتها. ويعجب المرء عندما يردد الناس، وتردد محافل السياسة، وتردد كثير من الزعامات هذا، ولا تستطيع أن تنظر إلى ذلك، وهذا يذكرنا بقول أبي هريرة رضي الله عنه: (ترى القذاة في عين أخيك ولا ترى الجذع في عين نفسك). أي أمر هذا العجيب؟! وأي انتكاس وارتكاس هذه المغالطات التي تبين لنا حقيقة الأمر؟! ونأتي لمقالة ثالثة: (إن الأمن الدائم يستلزم في نهاية المطاف السلام، ولا يمكن إحلال السلام الدائم إلا عبر الأمن). والمقصود: الأمن اليهودي الذي نزعته الانتفاضة الجهادية المباركة، والطمأنينة التي لم تعد موجودة عند اليهود بفضل أولئك البررة الأطهار من المجاهدين الأخيار الغيورين على دينهم، الذين أبوا أن يذلوا وأن يساموا الخسف، وهم أصحاب الحق، وهم أصحاب الأرض، وهم أصحاب الدين والمعتقد الصحيح. ويعجب الإنسان عندما يسمع ذلك المجرم وهو يقول: (وأن السلام لا يمكن أن يتحقق من دون التخلي عن الإرهاب والعنف والتحريض). من القائل؟ إنه سيد الإرهاب وقائده الذي شهد له بذلك بشهادات عالمية موثقة دخلت إلى أروقة المحاكم! ثم نستمع إلى زعامات في بلاد الإسلام والمسلمين تقول: (إن هذا الرجل قوي، وإن المرحلة لإقرار السلام تحتاج إلى رجل قوي، وإنني أعتقد أنه سيقود المهمة بنجاح). ما الذي بقي لنا من عقولنا حتى نفهم؟! ينبغي أن نسير على رءوسنا بدلاً من أقدامنا إذا أردنا أن نقبل مثل هذه المقالات، فإن هذا زيغ ظاهر، وخلل كبير، وخطر عظيم.

أثر هذه المقالات على اليهود

أثر هذه المقالات على اليهود أقف وقفات يسيرة مع بعض الأصداء التي نتجت عن مثل هذه الكلمات؛ لنرى كيف ينظر القوم إلى ذلك. هذا مسئول من اليهود عليهم لعائن الله يقول مبتهجاً بما وقع: (إن هذا التصريح يعد إنجازاً حقيقاً، بل هو الإنجاز الأبرز؛ لأنه سيحول في المستقبل دون طرح قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى تخوم إسرائيل على أجندة المفاوضات). ويقول كذلك عن تلك المستعمرات التي يسمونها مستوطنات: (عددنا قليل، والغالبية العظمى مستوطنات أقيمت بقرارات اتخذتها حكومات متعاقبة، يقولون: سيزيلون ما هو مخالف للقانون) أي قانون هذا؟ إنه القانون الذي يخبرنا أنه وقع بالأمس -تزامناً مع هذه اللقاءات- تهديم الجيش اليهودي الغاصب لثلاثة منازل فوق رءوس أصحابها، فيها واحد وثلاثون شخصاً من النساء والأطفال، لثلاثة من الأبطال تأسرهم وتعتقلهم القوة الغاصبة في فلسطين، في ذات الوقت تهدم البيوت، وتجرف الأراضي، وتخترق السياجات، وتنتهك حرمة وكرامة وأمن إخواننا، ثم لا نرى لذلك أثراً. ويأتينا أيضاً صدى آخر يقول: (جاءت هذه التصريحات على قدر التوقعات بل فاقتها، عندما أشارت إلى إسرائيل كدولة يهودية). ونحن لا ندقق في الكلمات مع أنها منتقاة مختارة موزونة مضبوطة لتؤدي معانيها في دولة دينية، ولا يسمح ولا يرغب أن يكون في بلد من بلاد الإسلام دولة إسلامية. ليس هناك دولة دينية إسلامية ثم يقال: إن دولة دينية! هذا أمر. الأمر الثاني: أن الذين يعيشون من غير اليهود في هذه الدولة ليس لهم موقع من الإعراب ولا مكان من الأرض، ولا حق في النظام. الأمر الثالث: أن الذين شردوا وهجروا من أرضهم وديارهم من باب أولى ليس لهم مكان ولا موقع، ثم ماذا بعد ذلك؟ ما هو المطلوب في فهم أولئك الساسة بعد مثل هذه التصريحات؟! المطلوب الآن تنفيذ الفلسطينين للخطة الأمنية، والقيام بإجراءات صارمة ضد التنظيمات الإرهابية وفقاً للخطة الموضوعة. ثم يصرح تصريحاً كنت أريد أن أجعله عنواناً لهذا الحديث على زعمهم، لكنه كاذب خاطئ ليس له واقع بإذن الله عز وجل، يقول: (إن هذا اللقاء ومراسمه -في نظره هو- مراسم دفن الانتفاضة) اهـ. ونقول: سيخيبون ويخسرون؛ لأننا سمعنا من الأصداء ما يدل على ذلك، فالمعتقلون من الفلسطينيين في سجون اليهود المجرمين الذين يقال: (إننا نصنع ذلك لأجل حريتهم وإنقاذهم وإنهاء معاناة أسرهم)؛ أخرجوا بياناً استنكروا فيه ذلك الذل، ورفضوا فيه ذلك الخذلان، وأكدوا فيه أنهم ليسوا معنيين به، وليس موضع قبول عندهم مهما كان يتصل ببعض من حقوقهم كما يزعم الأفاكون؛ فكانت صفعة قوية، ورداً عملياً. وأما الأبطال فقد قالوا كلمتهم: (ماضون في الدفاع عن حقوقنا، ثابتون على الدفاع عن كرامتنا، ولو تخلى عنا الناس أجمعون)، وهذه قضية مهمة.

مخاطر مؤامرات اليهود وأعوانهم

مخاطر مؤامرات اليهود وأعوانهم وأقول هاهنا: المخاطر كثيرة، وأولها وأشدها خطراً: أن يكون قتل المسلمين بأيدي المسلمين، ومنع الدفاع عن الحق والعرض والأرض فضلاً عن العقيدة والدين بأيدي منتسبين إلى الإسلام والعروبة. ثانياً: أن كل من ينبض قلبه بالتعاطف والتأييد، فضلاً عمن ينطق لسانه بالمباركة والتمجيد، فضلاً عمن يخرج ماله للدعم والإسناد والتثبيت، كل أولئك إرهابيون متطرفون مخالفون للقوانين الدولية، ومعارضون للسلام والسماحة. وهذه التهمة ليست متعلقة ببعض إخواننا في فلسطين، بل هي تهمة لك أنت، ولي أنا، ولكل واحد منا إلا إذا انسلخنا من ديننا، ونسخنا معاني العزة والكرامة من نفوسنا. وكنت قبل يومين في مناسبة اجتماعية، ودار الحديث عن هذا الخطر الداهم والمؤامرة العظيمة، فقال رجل كبير السن من الحضور ليس في لحيته شعرة سوداء واحدة: (إن المطلوب منك أنت، ومن كل واحد منا: أن يأتي إلى المصحف الذي يقرؤه فيقال له: إنك تقرأ كتاباً إرهابياً ممنوعاً). أي: لا بد أن تتركه، أو أن تغير ما فيه! وقلت معلقاً: قد قيل هذا بحرفه ونصه من قبل زعامات دينية صليبية حاقدة، وهو مكتوب مسطور، ومضاف إليه افتراء على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. إن القضية في أساس الدين، وليست في فئة ولا في مجموعة تتبنى دفاعاً عن حقها، وليس في متدينينا الذين عندهم علم بالدين، أو في دعاة ينشدون الإصلاح والخير لأمتهم؛ بل هي لكل مسلم في عقر داره، بل لكل أحد أصبحت له من تمسكه ومن صلاته وأدائه لفرائض ربه سمة الإسلام والمسلمين. نسأل الله عز وجل السلامة من ذلك، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يجعل الدائرة عليهم، وأن يثبتنا على الحق ويعصمنا به، وأن يجعلنا من المعينين والمساندين لإعزاز الدين ورفع رايته في كل آن وفي كل حال. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

دور أهل الإسلام في مواجهة المخاطر المحدقة بأرض الإسراء

دور أهل الإسلام في مواجهة المخاطر المحدقة بأرض الإسراء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين, وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن هذه المخاطر الجسيمة والوعود العقيمة لابد أن ننتبه لها، والمقام يضيق عن ذكر الواجب نحوها، وقد أسلفنا شيئاً من ذلك، ولعلي أكرر وأنبه. أولاً: ضرورة الوعي والإدراك لحقائق الأمور وخلفياتها الدينية والسياسية والواقعية، فلسنا أغبياء ولا حمقاء (ولست بالخب، ولا الخب يخدعني). الأمر الثاني: إدراك استهداف الدين والعقيدة والهوية الإسلامية، ومعرفة أن هذا هو المعقل الأخير الذي إن تهوانا فيه كان بمثابة الداء السرطاني الذي يوشك أن يأتي على الجسد كله، فما لم نغر على ديننا، وما لم يكن لدينا حمية وقوة وعزة للكفاح والدفاع عن عقيدتنا، والجهاد في سبيل إعلاء رايتها؛ فلا خير فينا، ولا أمل في نصرتنا وعزتنا، فضلاً عن قدرتنا على مواجهة أعدائنا. الأمر الثالث: أن نكون عمليين في كل ما يقتضي مواجهة هذا العداء السافر، وتلك المؤامرات الخطيرة، بالأساليب الحكيمة، والعمل الدءوب المتواصل؛ فإننا نستهدف -معاشر المسلمين- استهدافاً متوالياً وشاملاً لم يعد قاصراً على قضيتنا العسكرية، ولا على هويتنا الثقافية، ولا على مناهجنا التعليمية، ولا على قدراتنا الاقتصادية، ولا على استقلالاتنا السياسية، إنه يهدف إلى أن يضعف ذلك كله ويقوضه.

ضرورة العمل في مواجهة الأعداء ولو بالمقاطعة وترك التطبيع

ضرورة العمل في مواجهة الأعداء ولو بالمقاطعة وترك التطبيع أفرد الكلام عن خطر التطبيع مع اليهود الذي أعلن ولي العهد تحذيره منه، ورفضه له؛ لأن فيه من المخاطر ما هو معلوم، ولعلنا ندرك الأمور التي قد جرت فيما سبق، وظهرت آثارها السيئة، فما بالنا لا نعتبر ولا ندكر؟! إننا لا نريد أن نعلن الصراخ والنواح، ولست ممن يجيد فن التأثر والانفعال بالعواطف حتى نستدر الدموع ثم نمضي بعد ذلك لنسلي أنفسنا بأننا قد قمنا بشيء عظيم. إن هذه المشاعر لابد أن تترجم إلى منهجية مبدئية ثابتة، وإلى صورة عملية فاعلة، وكل في عنقه أمانة وعلى كاهله واجب، وكل يدرك ذلك، ويعرف كيف يطبقه، ومن قال غير ذلك فإنما يغالط نفسه. وأخيراً أيها الأحبة! كنت أتحدث فيما مضى عن الغلو ومخاطره ومعالمه؛ فأبدى بعض الإخوة تحفظاً على ذلك، وأرادوا ألا نسترسل في هذا الحديث، وقالوا: ليس في الناس من هو متشدد كما تذكر في مظاهر الغلو! وأقول لأولئك الذين تتابعوا في حديثهم إلي: إن القضية أعظم وأخطر مما تتصورن، وإننا عندما نخاطب الناس لا نخاطبهم لأنهم هم واقعون في ذلك، ولكن ليكون الأمر وقاية لهم، وبياناً لهم؛ لئلا يقعوا فيه، وليكون فرصة لهم ليتزودوا بعلم وثقافة وفهم يغيرون به غيرهم ممن قد يقع في هذا الأمر. ولأن القلة التي تجنح إلى منهج خاطئ له تداعيات عملية خطرها أعظم، وقد أشرت إلى أهم وأعظم خطرين في استحلال الدماء بالتكفير، وفي استحلال نزع الأمن لنزع الشرعية، وما يترتب على ذلك من بلاء عظيم وشر مستطير، فليست القضية سهلة، وليس المقام في هذا المقام إلا مقام التنبيه على الأمور الخطرة، ولا نريد مرة أخرى أن ننساق وراء عواطفنا، بل نكون على منهج الكتاب والسنة، وفيه مراعاة مصالح الأمة. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتاب الله مستمسكين، ولهدي رسوله صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار الصحابة والسلف الصالح مقتفين. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد! اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وردنا إلى دينك رداً جميلاً، واهدنا واهد بنا، واجعلنا هداةً مهديين! اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت أقدامهم، وأفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، ووحد اللهم كلمتهم وأعلِ رايتهم، وسدد رميتهم، وقوِ شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين؛ فإنهم لا يعجزونك! اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً! اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا! اللهم إنهم قد أذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، ودنسوا مقدسات المؤمنين! اللهم عليك بهم أجمعين! أنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلاف في صفوفهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين، واشف من الأعداء صدور قوم مؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه، يا سميع الدعاء!

الواجبات في الأزمات

الواجبات في الأزمات في كل زمان ومكان تتكرر تهم الباطل والحرب ضد الأولياء والصالحين، فمن وقت موسى عليه السلام الذي اتهمه فرعون بالإفساد في الأرض والتفريق بين الناس إلى وقتنا الحاضر تتكرر المقالة، وتتكرر الوجوه الفرعونية المعادية للمؤمنين، والتي تنبزهم بأبشع الألقاب المنفرة كالإرهابيين أو التخريبيين ونحو ذلك، ولكن لا يزال سلاح المؤمنين الذي يتمسكون به دائماً وأبداً هو الصبر والحكمة حتى تفرج الشدائد وتكشف الكروب.

مفارقات عجيبة في أحوال الأمة وتعامل النظام الدولي معها

مفارقات عجيبة في أحوال الأمة وتعامل النظام الدولي معها الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل العاقبة للمتقين، وجاعل الدائرة على الكافرين الضالين ولو بعد حين، أحمده سبحانه وتعالى جعل لمن يؤمن به من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وجعل بعد العسر يسراً، وجعل بعد الصبر نصراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: "الواجبات في الأزمات" موضوع حديثنا في هذا الزمن الصعب ومفارقاته العجيبة، ولا شك أن الأيام القريبة التي اختلت قد جمعت في طياتها أحداثاً فيها تناقضات ومفارقات، وأكثرها محزن مؤلم قد يحتار معها العقل، وقد يضيق بها الصدر، وقد تحزن بها النفس، غير أن دواء الإيمان الناجع يزيل ذلك كله.

مفارقات في المواقف تجاه فلسطين وإسرائيل

مفارقات في المواقف تجاه فلسطين وإسرائيل لا شك أيها الإخوة المؤمنون أننا نرى هذه المفارقات في الحادث الذي تحدثنا عنه من قبل، في استشهاد البطل الفريد والشيخ القعيد أحمد ياسين رحمه الله، وكيف كان من أعداء الله عليهم لعائن الله استهداف ثم إعلان واعتراف، وكيف كان لأعوانهم من دولة البغي والظلم الكبرى في العالم تأييد لهم، واعتراض على نقدهم أو إدانتهم. ثم مع ذلك كله ومع هذا الصلف والاجتراء والعدوان نرى موقفاً آخر من قادة الدول العربية، وهو موقف التجاهل والتغافل سوى كلمات قليلة وبيانات رسمية حفظ الناس لغتها وعرفوا تحفظاتها، ثم في تلك المداولات والمشاورات القريبة لم يرد ذكر الحدث لا من قريب ولا من بعيد؛ خوفاً من أن يسيء ذلك إلى الأوضاع العامة، أو أن يؤثر على الموقف الدولي أو غير ذلك. ثم انظروا إلى صفحة أخرى من المفارقات المؤلمة: فرقة واختلاف انفض به مؤتمر القمة ولم ينعقد حتى يومنا هذا، وإن كان أكثر الناس لم يكونوا معولين شيئاً عظيماً ينتظر منها. وفي الوقت نفسه انظروا إلى الحدث القريب: سبع دول لا تجمع بينها لغة، ولا يربط بينها دين، ولا توحدها جغرافيا قريبة، تأتلف وتنظم إلى دول أخرى ليتسع هذا الاتحاد وتعظم قوته وتكثر دوله، وتكون صفاً واحداً فيما يحقق مصالحها ويواجه أعداءها. وكذلكم تعلمون ما زاد من دول عشر في الاتحاد الأوروبي، ونحن كأوراق شجرة في خريف تتساقط واحدة تلو الأخرى. وأزيدكم من المفارقات القريبة العجيبة في القوة والإعلام الذي يظهره اليهود عليهم لعائن الله في دولة الغصب في أرض فلسطين، وهم يعلنون أسلحتهم النووية، وبرامجهم التي تصنف، ويكتب عنها في البحوث والكتابات الرسمية، ولا يستحيون من ذلك أو يخشون أحداً، ولا تستطيع دولة في الدنيا كلها أن تقول: إن عندهم أسلحة دمار شامل أو غير شامل، وفي مقابل ذلك ضعف وخذلان، وإقرار وتسليم مخزٍ لم يقع في عالم اليوم مثله يكون من دولة عربية مسلمة.

مفارقات في المواقف من الجمعيات الخيرية

مفارقات في المواقف من الجمعيات الخيرية ثم انظر إلى غير ذلك من توسع وانتشار في الأعمال الخيرية المزعومة، والأعمال الإنسانية الجائرة في كثير من أحوالها في بلاد الغرب والشرق، وتضييق وحصار على الأعمال الخيرية والمؤسسات الإسلامية الإنسانية. كان في أمريكا وحدها قبل نحو عامين مليون ونصف مليون جمعية ومؤسسة خيرية وإنسانية، وبلغ مجموع التبرعات في عام واحد مائة وواحداً وعشرين مليار دولار، ومعدل الجمعيات: جمعية لكل نحو ثلاثمائة وخمسين فرداً. وفي دولة الكيان الصهيوني الغاصب نحواً من ثلاثين ألف جمعية خيرية -على حد قولهم وزعمهم- بمعدل جمعية لكل أقل من مائتين وخمسين فرداً، ثم الواجب المطلوب اليوم في كل بلاد الإسلام أن يضيق على العمل الخيري، وأن يخنق، وأن يحال بينه وبين أن يصل إلى المسلمين المضطهدين والمعذبين في شرق الأرض وغربها، وأن يكون الدرهم أو الدينار الذي يخرج لمساعدة من هدم بيته إرهاباً ينبغي على الجميع محاربته في الداخل والخارج. ثم أيضاً: تحريض وتزوير في مناهج التعليم عند القوم في شرق الأرض وغربها، وصور مشوهة عن الإسلام والمسلمين، وافتراءات كاذبة على التاريخ والواقع والنصوص والشرائع كلها. وأما في ديار المسلمين فالمطلوب هو التهذيب والتغيير في هذه المناهج حتى تصل إلى حذف الآيات من كتاب الله، أو محو الأحاديث من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا نحزن أحداً من أولئك القوم الذين يفيضون إنسانية ويرتقون في معاني الإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان. هل يا ترى نريد من ذكر هذه المفارقات وغيرها أن ندخل اليأس إلى القلوب؟ إننا نريد أن نسأل السؤال المهم: هل لنا في هذا دور؟ هل نحن مسئولون من قريب أو بعيد عن هذا؟ هل يمكن أن يكون لنا إسهام في تغيير الواقع، أم أن موقفنا قد يكون على أحد نوعين لا نريدهما ولا نسعى فيهما في غالب الأحوال: إما صراخ وجؤار وانفعال وحماس وأعمال طائشة واندفاعات غير صائبة، وإما يأس وقنوط ووضع اليد على الخد ننتظر أن لا يكون شيء إلا مزيداً من هذه الأحوال المؤسفة المحزنة. أوضاع أمتنا الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً -وخاصة في أحداث قمتها الأخيرة وما يدور حولها من الأحداث- تبرز لنا أن أكثر الدول تقدم المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، وأنها في واقعها السياسي والعملي ذات تبعية وليست ذات استقلالية، وما فوق ذلك وبعده ومعه لا ترى حقائق الأمور، بل تمضي مع الأوهام.

وقفة مع موسى وقومه في مواجهة طغيان فرعون

وقفة مع موسى وقومه في مواجهة طغيان فرعون أيها الإخوة المؤمنون: كنت ولا زلت وسأظل أخاطب نفسي أولاً وأخاطبكم ثانياً؛ ليعرف كل منا مسئوليته ويحمل أمانته، ويؤدي واجبه، ولسنا نبحث عن المخرج من هذه الأزمات في شرق أو غرب، أو عند أنظمة دولية أو اتفاقات عالمية، ولا نرى ذلك إلا في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقامنا هذا يضيق عن الإفاضة. ووقفتي كما وقفنا من قبل في شأن الإصلاح مع بضع آيات تقصها علينا آيات القرآن، لصور مرت بأهل الإيمان مع أنبياء الله عز وجل، في مواجهة بغي وظلم وعدوان وكفر من أعظم أمثلة التاريخ البشري كلها، فأي أمر وجهه الله عز وجل إلى أهل الإيمان ليخرجوا من هذه الأزمات؟!

عاقبة الصبر والثبات للمتقين

عاقبة الصبر والثبات للمتقين وتدل الآية على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] هل تريدون عاقبة بلا تقوى؟ هل تريدون أن تخالفوا سنة الله الثابتة في آياته الناطقة الباقية إلى قيام الساعة؟ ثم استمع إلى المراغي في تفسيره وهو يذكر لنا كلام نفيساً ودرراً غالية في هذا المعنى ويقول: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي: العاقبة الحسنى لمن يتقون الله، ويراعون سننه في أسباب إرث الأرض باتحاد الكلمة، والاعتصام بالحق، وإقامة العدل، والصبر على الشدائد، والاستعانة بالله عند المكاره، ونحو ذلك مما هدت إليه التجارب، ودلت عليه الشرائع. والخلاصة: أن الأمر ليس كما قال فرعون، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله، ولمن وعده الله جل وعلا توريث الأرض، ونحن الموعودون بذلك، ولكن بشرط أن نقيم شرعه، ونسير على سننه في خلقه. هل هناك أظهر من هذا البيان القرآني، وكلام العلماء رحمة الله عليهم جميعاً؟ ألسنا نرى هذا المنهج واضح المعالم؟ أين هي الاستعانة بالله التي ذكرنا صوراً منها؟ وأين هو الصبر الحميد؟ وأين هي المغالبة التي سنذكر أمثلة لها في واقعنا وليس في تاريخنا فحسب؟ ماذا كانت في العاقبة في هذه الآيات العظيمة؟ بعد بضع آيات جاءت النتيجة: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]. إن سنن الله لا تتخلف، وإن وعد الله عز وجل لا يخلف: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} [الأعراف:137] وعده الصادق {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]، كل هذه القوى الظالمة الباغية الضخمة الهائلة لا تساوي شيئاً في ميزان الإيمان بالله والاستعانة به، ما هي قوى الأرض كلها إلى قوة الله ملك الملوك، جبار السماوات والأرض؟ أين نصر الله عز وجل لقوم لا يفضون بقلوبهم إليه، ولا يلتجئون عند الشدائد إليه، ولا يعتمدون بصدق ولا يتوكلون عليه، ثم يقولون: أين هو نصر الله عز وجل؟ أين تقوى الله سبحانه وتعالى من بواطن قلوبنا ونفوسنا، وظواهر أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا، فلقد عم الفساد إلا ما رحم الله، وساد الخنا والزنا والفسق والفجور تخاطب به الآذان، وتجبه به الأبصار، ويروج له على الصفحات والشاشات، ثم نقول: أين منا نصر الله عز وجل؟ وأين أحوال أمتنا العربية الضعيفة الهزيلة وقد كان فيها ومنها ما هو حرب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟! كيف نريد نصر الله ونحن نجاهر بذوات أنفسنا وفي أحوال أمتنا بمعصية الله عز وجل؟! سنن الله لا تتغير: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].

الاستعانة بالله في الأزمات

الاستعانة بالله في الأزمات إننا نتلو آيات من كلام الله عز وجل، إننا نتلو قرآناً حقائقه قاطعة يقينية، فإن كنتم في شك من كتاب ربكم ومن كلام خالقكم، ومن سنن بارئكم، فلا أمل ولا خير فيكم. استمعوا إلى قول موسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ) وليست لفرعون، ولا لأمريكا ولا للشرق ولا للغرب. (يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كلمات واضحات! قد يقول بعض الناس: وماذا في هذا؟ وأي شيء سيغير هذا في الواقع؟ ليس في هذا مواجهة، وليس فيه مصادمة؟ نقول: هو منهج السنة الربانية، ابدأ بنفسك أولاً، حرر إيمانك، أخلص نيتك لله، اصدق في تعلقك بالله عز وجل، ما هي القوة التي تعتمد عليها؟ قوة الله! من هو الذي تلجأ إليه في السراء والضراء؟ أهو الله؟! من الذي تفضي إليه بهمك وغمك؛ هل هو الله أم ما زالت تتوزعك الأهواء؟! أم ما زالت أحوال أمتنا ودولنا تبحث عن سند هنا أو هناك، وتبحث عن قوة من هذا أو ذاك؟! (استعينوا بالله) أين هي الاستعانة بالله في واقع حياتنا اليومية البسيطة؟ عندما نمرض هل تتحقق استعانتنا بالله؟! عندما يُضَيَّق في رزقنا ويقتر علينا في عيشنا بقدر الله هل نستعين بالله؟ هل القلوب مملوءة بهذا اليقين: أن الأمر كله لله، وأن الخير والشر والضر والنفع إنما هو بيد الله؟! ألم نستمع لهذه الكلمات التي قالها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لغلام صغير كان معه: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)؟ أين اليقين الذي يرسخ في القلوب ليكون قوة لا تستطيع قوى الأرض كلها أن تقف في مواجهتها؟! {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128] قال السعدي في تفسيره: قال موسى لقومه موصياً لهم في هذه الحالة التي لا يقدرون فيها على دفع ولا مقاومة: استعينوا بالمقاومة الإلهية، والاستعانة الربانية، (استعينوا بالله) أي: اعتمدوا عليه في جلب ما ينفعكم، ودفع ما يضركم، وثقوا بالله أنه سيتم أمركم، (واصبروا) أي: الزموا الصبر على ما يحل بكم منتظرين الفرج. ونقل القاسمي في تفسيره عن بعضهم كلمات رائعة في الاستنباط في هذه الآية، قال: تدل على أنه عند الخوف من الظلمة يجد الفزع إلى الله سبحانه وتعالى، والاستعانة به، والصبر. ولا مفزع إلا هذين: الانقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع، واللطف في الصبر.

قوى الظلم تتهم المصلحين بالإفساد

قوى الظلم تتهم المصلحين بالإفساد استمعوا معي إلى هذه الآيات: {وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]. تأملوا هذه الآية في مطلع مقطع قصير من هذه القصة: (وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) أليس هذا هو واقعنا اليوم؟! أليس أهل الإسلام والإيمان هم الإرهابيون وهم العنصريون، وهم المفسدون في الأرض؟ ومن يقول ذلك؟! يقوله أكابر المجرمين من شذاذ الأرض وأفاكيها من اليهود ومن يعينهم من الصليبيين اليمينيين المتطرفين. (أَتَذَرُ مُوسَى) نبي الله عز وجل! كليم الله سبحانه وتعالى، (وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) أي إفساد جاء به موسى عليه السلام؟ يقول ابن كثير في تفسيره: أتدعهم ليفسدوا في الأرض، أي: ليفسدوا رعيتك، ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك، يقول ابن كثير بهذه العبارات: يا لله العجب! أصار هؤلاء هم المفسدين؟! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون! وقال السعدي: ليفسدوا في الأرض بالدعوة إلى الله، وإلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال التي هي الصلاح في الأرض، وما هم عليه هو الفساد. نعم هذا هو واقع اليوم، هذه الأمور التي انقلبت، والمقاييس التي انتكست، والحقائق التي تبدلت وتغيرت، حتى أصبح الطاهر قذراً، وصاحب الحق مبطلاً، والناطق بالخير مفسداً، لم يقل ذلك أعداء الله فحسب، بل صرنا اليوم نسمعه من بني جلدتنا، ومن الناطقين بلغتنا، بل ربما نرى من يقوم به في واقعنا أكثر ممن يقوم به من أعدائنا: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] وجاء جواب فرعون طاغية الأرض الأعظم: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] حرب على الإرهاب لا هوادة فيها، سنظل نحارب الإرهاب، وسنجمع الدول كلها لمحاربة الإرهاب، وعلى الجميع أن يحاربوا الإرهاب، ذلك الذي نسمعه اليوم هو الذي نقرؤه في آيات الله، ولكن المهم عندنا ما الذي قاله موسى لقومه؟ ما الذي قاله للمؤمنين من أتباعه من بني إسرائيل؟ وماذا كانت نهاية الأمر؟

موقف المسلم من أمراء السوء

موقف المسلم من أمراء السوء استمعوا معي إلى هذا الحديث الذي يرويه الترمذي في سننه من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، استمعوا إليه وهو يحكي صورة من واقعنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يأتون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد عليّ الحوض، ومن لم يغش أبوابهم فلم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، ويرد عليّ الحوض. يا كعب بن عجرة! الصلاة برهان، والصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. يا كعب بن عجرة! إنه لا يربو لحم من سحت إلا كانت النار أولى به) قال الترمذي: حسن غريب.

الصبر على فساد الأمراء

الصبر على فساد الأمراء روى ابن عباس رضي الله عنه حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما قال: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة الجاهلية) ذلكم ما وجه به النبي صلى الله عليه وسلم مطابقاً للقرآن: (الصبر)، وليس الصبر قعوداً ولا عجزاً، بل الصبر ضبط لئلا يترك الحبل على غاربه، ولئلا تنطلق الحماسة تدمر وتفجر وتفسد وتهلك الحرث والنسل، فلا يعود انضباطاً ولا أمناً ولا أماناً، ولا يعود قدرة على الإصلاح والتغيير. واستمعوا إلى حديث مسلم أيضاً في مسألة سألها الصحابي الجليل مسلم بن يزيد الجعفي رضي الله عنه، قال: (يا نبي الله! أرأيت إن كانت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا، فما تأمرني؟ فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم)، وأحسب أن هذا السؤال يكرره كثير من الناس وهم في قمة انفعالهم، وشدة حماستهم، فأعاد Q ( يا نبي الله! أرأيت إن كانت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا، فما تأمرني يا رسول الله؟ فأعرض عنه، فأعاد عليه الثالثة قال: ما تأمرني يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا، فإن عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم) أي: ستسألون وحدكم، ستسألون عن واجباتكم، عن فرائضكم، (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). تلكم ومضة من ومضات القرآن والسنة، كيف نواجه هذه الأزمات؟ استعانة بالله، وصبراً على ما قدر الله، وتحققاً بالتقوى، وانتظاراً لوعد الله، فإن الأمر كله لله. نسأل الله عز وجل أن يحسن أحوال أمتنا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يرجع بنا إلى سبيل الحق والهدى والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الالتزام بالدين والكفر عن المعاونة على الظلم

الالتزام بالدين والكفر عن المعاونة على الظلم هذا حديث يحكي واقعنا: (يا كعب بن عجرة! أعيذك بالله من أمراء يأتون من بعدي) أي: لا يكونون على نهجي، قال: (فمن غشي أبوابهم، وصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم)، فنحن شئنا أم أبينا جزء من هذه المسئولية لهذا الفساد الذي عم وطم، نسأل الله عز وجل السلامة. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه: (يا كعب بن عجرة! الصلاة برهان، والصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة) لم قال ذلك؟ يا مسلمي اليوم! يا أتباع محمد! التفتوا إلى واجباتكم التي قصرتم فيها، التفتوا إلى الفرائض والطاعات والعبادات التي لم تعودوا تؤدونها، أو لم تعودوا تؤدونها على الوجه المطلوب؟! اعلموا أن طاعتكم واستقامتكم طريق لتغير أحوالكم بإذن الله عز وجل: (الصلاة برهان، والصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار). ثم أفرد النبي تنبيهاً وتحذيراً: (يا كعب بن عجرة! إنه لا يربو لحم من سحت إلا كانت النار أولى به)، كيف ترجون إجابة الدعاء والطعام حرام والملبس حرام، وقد شاع بين الناس وهان في نفوس كثير منهم أكل الحرام؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به)، (يمد يديه إلى السماء، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له)، (يا سعد بن أبي وقاص! أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة). لم لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى الأفعال المطلوبة، وإلى الأفعال المحذور منها والمنهي عنها؟ ليقول: إنه لا بد لكم من عمل تصلحون به أحوالكم، وتغيرون به نفوسكم، حتى تتهيئوا لرحمة ربكم. ولو أردنا أن نفيض في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لوجدنا الكثير من ذلك، ولوجدنا ما يستدعي ويسترعي انتباهنا.

أهمية الاستعانة بالله والصبر عند الأزمات

أهمية الاستعانة بالله والصبر عند الأزمات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن ما ذكرناه من ومضات هذه الآيات، وأنوار هذه الأحاديث، حري بنا أن نلتفت إليه ونعتني به، وأنا أعلم أن طبائع النفوس تريد الحديث العام الذي يوزع التهم والمسئوليات بعيداً عنها، فهذه مسئولية الأمراء، وتلك مسئولية العلماء، وكأنه ليس لنا في الأمر شأن، لكننا أيها الأحبة الكرام نريد أن نواجه أنفسنا، نريد أن نقول: ما الذي فعلناه نحن أولاً لنكون سبباً من أسباب هذه الأوضاع المزرية؟ وما الذي فعلناه أو الذي سنفعله لنكون سبباً من أسباب الإصلاح والتغيير بإذن الله عز وجل؟ ولعلي أنتقل بكم في ومضة سريعة لصورة مشرقة وضيئة؛ لنرى آثار تطبيق هذا. إخواننا المرابطون المجاهدون في أرض الإسراء، لا نفتأ نذكرهم، ونفخر بهم، ونرى في مسيرتهم وسيرتهم أنموذجاً إيمانياً يحتذى، (استعينوا بالله)، فهل يستعينون بنا نحن معاشر العرب والمسلمين الذين تخلينا عنهم وبخلنا بأموالنا، وربما نسيناهم في دعواتنا؟! ما هي استعانتهم في وجه ذلك الظلم والعدوان والبطش والإرهاب الذي ليس له في دنيا الناس اليوم مثيل؟! إن استعانتهم بالله، ألم تسمعوا إلى الشيخ القعيد وهو يخاطبكم فيما أسلفت في الجمعة الماضية، ألا تسمعوه وهو يقول: نحن طلاب شهادة، نحن لا نريد هذه الدنيا الفانية، نحن رغبتنا وأملنا أن يقبلنا الله عز وجل في الشهداء. ألستم ترون أنهم يواجهون قوة عظمى بكل المقاييس المادية، ومن ورائها القوة العظمى كما يسمونها، ثم ليس لهم إلا الاستعانة بالله، ثم صبر فريد عجيب، نسأل الله عز وجل أن يزيدهم منه وأن يعينهم. ثم بعد ذلك صورة التقوى المشرقة في المساجد الممتلئة، والأيدي المتوضئة، والجباه الساجدة، والأرواح المستشهدة، ألسنا نرى صورة من ذلك؟ ألسنا نستمع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك) وفي رواية أحمد في المسند: (أين هم يا رسول الله؟ قال: في الشام وفي أكناف بيت المقدس) ألسنا نرى أن المنهج يتجدد في كل مكان؟ يلتزم أهل الإيمان أمر الله عز وجل، ويلتجئون إليه، ويصبرون على ما قدر عليهم، ويتحلون بالتقوى، فتكون العاقبة قريباً لا بعيداً: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]. كم هي المواقف في تاريخ أمتنا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الأزمنة المتأخرة! كيف فتح محمد الفاتح القسطنطينية التي أعيت المسلمين ثمانية قرون وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، ارجعوا وقلبوا صفحات التاريخ، وانظروا إلى كل من فتح الله عليه وأعز به دينه، فسترون استعانة بالله، وصبراً وتقوى، وسترون تغيراً وتغييراً وإصلاحاً قبل أن يأتي النصر الذي يظهر في صورته المادية. ما الذي فعله صلاح الدين وقد أسلفنا القول عنه؟ أليس قد منع الفساد والفسق والفجور وأغلق الخمارات؟ أليس قد أحيا العلم وأشاعه بإحياء المدارس وإنشائها في كل مكان؟ أليس قد عمل على الوحدة فضم بلاد اليمن إلى بلاد الحجاز إلى مصر لتكون دولة إسلامية واحدة في ذلك الوقت والزمان؟ أليس قبل ذلك كله كان عابداً تقياً، كان داعياً مخبتاً مخلصاً لله عز وجل؟ ألم يكن يجعل من يدعون الله عز وجل من أهل الجيش في كل كتيبة حتى جاء النصر من بعد؟! وأمتنا منصورة بإذن الله، وذلك وعد الله، ولكن الشرط لا بد أن يتحقق، نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً. اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم استخدمنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين. اللهم أنطق ألسنتنا بذكرك، وولع قلوبنا بحبك، واجعل أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدامنا سائرة لطاعتك، وجباهنا ساجدة لعظمتك. اللهم اجعلنا لك عابدين، اللهم واجعلنا عليك متوكلين، اللهم واجعلنا بك واثقين برحمتك وعزتك وقوتك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم يا رب العالمين! يا ناصر المستضعفين! يا كاشف الضر! يا فارج الهم! نسألك اللهم أن تفرج همومنا وغمومنا، وأن تكشف عن أمتنا أحوال ضرها وشرها يا رب العالمين. اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وذهاب قوتنا، وهواننا على الناس، إلى من تكلنا، إلى بعيد يتجهمنا، أم إلى عدو ملكته أمرنا! اللهم إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي، ورحمتك وعافيتك أوسع لنا يا رب العالمين. اللهم أيدنا بتأييدك، وانصرنا بقوتك وعزتك يا رب العالمين. اللهم إنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك، فأمدنا اللهم بحولك وقوتك يا رب العالمين. اللهم لا نخيب وأنت رجاؤنا، ولا نضل وأنت هادينا، ولا نهزم وأنت ناصرنا يا رب العالمين يا أرحم الراحمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنهم قد طغوا وتجبروا وتكبروا، اللهم إنهم قد أذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي يا عزيز يا متين، يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

حرب على الإسلام

حرب على الإسلام يكن أعداء الإسلام كل الحقد والعداء والخبث لهذا الدين وأهله، ولهذا يسعون جاهدين في قتل وتشريد المسلمين، ويستغلون مآسي المسلمين للدعوة إلى أديانهم الباطلة، بل ويصطنعون المآسي لأجل ذلك، وللأسف الشديد نجد المسلمين لا يلتفتون إلى إخوانهم، ولا يساعدونهم في مآسيهم، إلا من رحم الله، فيجب على المسلمين أن يتكاتفوا ويتراحموا فيما بينهم، كما يدعوهم إلى ذلك دينهم، علهم أن ينجو في الدنيا من العذاب، وفي الآخرة من سوء العقاب.

أحوال المسلمين اليوم في ظل الصمت العالمي

أحوال المسلمين اليوم في ظل الصمت العالمي الحمد لله الذي أحيا القلوب بالإيمان، وشرح الصدور بالإسلام، ونور البصائر بالقرآن، نحمدك اللهم حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائك ونعمك التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما تحب وترضى، نحمدك اللهم على كل حال وفي كل آنٍ، لا يُحمد على مكروه سواك، أنت أهل الحمد والثناء، فلك الحمد في الأولى والآخرة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق الإنسان، وعلمه البيان، وأرشده إلى طريق الطاعة والإيمان، وكره له الكفر والفسوق والعصيان، ووعده عند الطاعة بالجنان، وتوعده عند المخالفة بعذاب النيران. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا لأن يكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، وسار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا اليوم هو عن الحرب على الإسلام، تلك التي تدور رحاها في كل مكان، والتي تمتد عبر التاريخ والزمان منذ قرون خلت. وفي معركة بين الإسلام والكفر صاح القائد المسلم عندما اشتد كيد الأعداء مردداً: واإسلاماه!! يحيي بها قلبه، ويقوي بها قلبه، ويحمس بها جنده، وينظم بها صفه، ويدحر بها عدوه، وكانت هذه الصيحة تنبعث من أعماق القلب فتجد صداها في قلوب المؤمنين الذين تجري في دمائهم عزة الإسلام واستعلاء الإيمان والالتزام بهذا الدين العظيم. فتحركت مع أصداء هذه الصيحة قوة الإيمان، ووحدة الإسلام، والغيرة على دين الله، والشدة على أعداء الله سبحانه وتعالى، فكانت الجولة للإسلام والمسلمين، وكان النصر والعزة والغلبة والتمكين. واليوم تتردد هذه الكلمة، واليوم تُعاد وتكرر هذه الكلمة، وتملأ أجواء الفضاء، وتشق عنان السماء؛ يصرخ بها الأطفال الأبرياء، والفتية الأشداء، والرجال الأقوياء، والنساء، والضعفاء، تنطلق من إفريقيا السوداء، ومن قلب أوروبا البيضاء، ومن فلسطين السليبة، ومن كشمير الحزينة: أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه هذه الصيحات والصرخات تصم الآذان، وتنادي الإيمان، وتخاطب الوجدان، وتناشد الإنسان، ولكن لا ملبٍ ولا مجيب، إنها صيحة في واد ونفخة في رماد، فما تزال جراحات المسلمين تتوالى، وليس الحديث مقصوراً على المآسي، وإنما هو لبيان أن كل هذه المآسي إنما هي صورة واحدة متعددة الأشكال للهجمة الشرسة والحرب الضروس التي تمارس ضد الإسلام، ليست في ديار الكفر بل حتى في ديار الإسلام والمسلمين: قلبي يفيض أسىً وعيني تدمع والجسم من فرط الضنى متضعضع نار تمور بها الحشى مثالم يسري نياط القلب فهي تقطع حر يسام أذىً ويهتك عرضه قهراً فيالله كم ذا مفزع وفتاة طهر بالحجاب تلفعت عنها حجاب الطهر قسراً يُنزع وشباب حق بالهدى مستمسك يلقى عذاب الهون كيما يركع هذه هي الصورة التي تلامس الأسماع، وتواجه الأبصار في كل لحظة وآنٍ، وفي كل موطن وميدان، ولنا وقفات لكل واحدة منها تدمي القلوب، وكل واحدة منها تستثير الهمم، وتوقظ الغافلين.

صور من مآسي المسلمين في الصومال

صور من مآسي المسلمين في الصومال عندما أردت أن أجمع صوراً متفرقة لأخلص منها إلى أن هناك حرباً مقصودة هادفة مبرمجة ضد الإسلام والمسلمين؛ فإنني وجدت نفسي محاصراً بآلاف وآلاف من الوقائع والأحداث وبتقارير كثيرة، فآثرت أن أختصر وأقتصر، وأن أتيح المجال لقضية لم يسبق الحديث عنها بتفصيل، ولم نذكر فيها المآسي والصور التي لا تخطر على البال، ولا يتصورها العقل، ولا يمكن أن يرضى بها من في قلبه ذرة إنسانية، أو بقية فطرة، فضلاً عن أن يكون صاحب إسلام أو أن يدعي أنه صاحب إيمان. تلكم هي المآسي الدامية في أرض الصومال المسلمة، لعل مما دفعني أن أسهب في هذا الجانب أنه وصلني بالأمس تقريران خطيران ميدانيان عن صور مفزعة لما يجري هناك، وعن طبيعة الاستثمار التنصيري لمآسي المسلمين؛ مما يدل على أن كل موقع تقع فيه مأساة فإن المأساة الإنسانية تهون أمام المأساة الإسلامية الدينية، ولذلك أوجز لكم الحديث في بعض الأرقام، ثم أذكر بعض المشاهد، ثم أجتزئ جزءاً من الوقت لأقرأ لكم بعض هذه التقارير، كما كتبها من شاهدوا بأم أعينهم، والذين ما يزالون في تلك المواقع ينبئوننا عن الأحوال، يستثيرون الهمم، ويحركون المشاعر. في كينيا ثلاثمائة وخمسون ألفاً من اللاجئين الذين فروا من ويلات الحرب ومن شدة وضراوة القتال، ومن بؤس وقسوة الجفاف! وفي أثيوبيا منهم أيضاً مئات آلاف أخرى، وفي اليمن منهم عشرات الآلاف، ولك أن تتصور بماذا خرج هؤلاء؛ خرجوا بغير شيء إلا ثيابهم التي تستر عوراتهم، وتخلوا عن هذه الثياب في رحلة العناء، فإذا بهم عراة لا يجدون حتى ما يكفنون به موتاهم! وقد نفقت وهلكت نحو (92%) من المواشي أبقاراً وإبلاً وأغناماً، وهي التي تُعد المصدر الأول في غذاء أولئك القوم في تلك البلد المسلمة التي نسبة المسلمين فيها (100%) من بين سائر الدول الأفريقية! ثم في هذه الرحلة المريرة، وتحت الحرب القاسية يموت نحو خمسة آلاف طفل يومياً! خمسة آلاف طفل بريء مسلم يموتون من عضة الجوع ومن قنص الرصاص ومن شدة العطش والمعاناة القاسية الرهيبة! وأيضاً: حين تجد المعسكرات التي أعدت للاجئين فإنك ترى فيها عجباً! وترى فيها أمراً غريباً! إذ بعشرات الآلاف يحشرون في الأماكن الضيقة، وليس عندهم من قوت، ولا مأوى ولا سكن، فإن مساكن هؤلاء المغرَّبين والمهجَّرين إنما هي أعواد من الخشب وبعض القش! ويقول التقرير أيضاً: والغني أو السعيد منهم من يكون عنده بعض قطع من الكرتون يسد بها الشقوق والثقوب! فعلى سبيل المثال: في منطقة يسكنها (126000)، ونزح إليهم (70000) آخرين، هؤلاء يعيشون على (18) بئراً ارتوازياً لهذا العدد كله بعد أن فقدوا مصادر الرزق والقوت بهلاك أنعامهم ودوابهم! ثم أنتقل إلى بعض الصور المحددة والتي تروي بعض هذه المآسي: هذه أم تخرج بأطفالها تهاجر وتغترب، وفي أثناء هذه الرحلة المريرة يموت طفلها الأول، فتدفنه وتمضي، ثم تموت الأم، ويبقى الأبناء جياعاً ضائعين؛ لا يجدون ما يأكلونه إلا جسد أمهم، فأكلوا منه!! وهذه وقائع مكتوبة من شهود العيان الذين يرسلون التقارير، ويستنجدون ويستصرخون الإيمان في أمة ماتت فيها الهمم، ونُزعت منها الغيرة، وانشغلت بلهوها، وسارت وراء أهوائها، وعبثت بها المجون والأهواء في كل ناحية وفي كل مكان. ولعلي أطيل في ذكر هذه الصور؛ لأننا لا نصدقها؛ ولأننا نستبعد وقوعها في زمن الحضارة التي تنفق ليس عشرات ولا مئات بل آلاف الملايين من الدولارات لأجل إطعام الكلاب والقطط في شرق الأرض وغربها! وليس ذلك في ديار الكفر فقط، بل في ديار المسلمين أيضاً! وتنفق أيضاً مئات وآلافاً من هذه الملايين على اللهو والعبث والفن الماجن والخمور والدعارة والسياحة! والمسلمون يموتون ولا من ملب ولا مجيب. وهذه قصة أخرى: امرأة جاءت إلى هؤلاء الإخوة الذين ذهبوا للزيارة والإغاثة، وإذا بها ليس عليها حجاب، أرادوا أن ينكروا عليها فبادر زوجها وقال: لقد كفنت ابني بحجاب أمه، وليس عندها ولا عندي ما تستر به عورتها أو تغطي شعرها!! إنها حقائق ليست خيالات، فليس عند القوم ما يكفنون به موتاهم. ولقد ذكر لي بعض الإخوة الذين قدموا من هناك: أنه استقبلهم هؤلاء اللاجئون وقالوا: لا نريد منكم طعاماً ولا شراباً، نريد أكفاناً نكرم بها موتانا، فإننا ننتظر الموت في كل لحظة وآنٍ!! ومن أفظع التقارير: أنه لكثرة الموتى ولعدم قدرة الآخرين لضعفهم وهزالهم على دفنهم يدفن الميت في حفرة لا يزيد عمقها عن ثلاثين سنتيمتراً، فإذا جاءت الرياح ظهرت الجثث، وتعفنت الأجواء، وكثرت الأمراض والأوبئة!! وقصة ثالثة: امرأة كانت تملك مائتين من البقر ومثلها من الغنم، وجدوها تسكن بين أعواد الشجر مع ثلاثة من أولادها لم تذق منذ يومين إلا قليلاً من الماء، وتقول: إنني مستعدة لأكل الجلد، ولأكل أي شيء من أجل أن أعيش!! ولعل هذا الذي ذكرته لا يُعد شيئاً مما سأتلو عليكم من بعض هذه التقارير التي وصلت بالأمس كما أشرت إليكم.

بعض التقارير التي تبين حجم المأساة في الصومال أثناء الحرب

بعض التقارير التي تبين حجم المأساة في الصومال أثناء الحرب يقول التقرير الأول: في منطقة علوان -وهي المنطقة التي فيها أكبر تجمع لهؤلاء على الحدود الصومالية الكينية- مخيم فيه (25000) لاجئاً، ولا يوجد فيه أي مركز من مراكز الإغاثة، وإنما قدم فيه الصليب الأحمر وجبة واحدة فقط، وكثير منهم لم يحصل على شيء، ومنهم عائلة من ستة أشخاص لم تحصل على شيء لمدة عشرة أيام، ولما وصل بعض الإخوة من السعودية يوم الخميس الماضي إليهم إذا بجميع هذه العائلة جثث هامدة قضى عليها الجوع وهي تشتكي إلى الله!! ووجدوا خيمة فيها خمسة أطفال، واحد منهم عنده جرح من إثر دمل في الصومال، ونقل من هناك بوسائل مختلفة، منها: المشي والحمل على ظهر البعير، وعلى أكتاف العائلة، حتى اتسع هذا الجرح الصغير فأصبح طوله أكثر من خمسة عشر سنتيمتراً! ووصل إلى العظم، وهو يحتضر الآن لعدم إمكانية علاجه! ويقول كاتب التقرير ويضع هذه العبارة بين قوسين: (إذا كنت لا تصدق احضر وانظر بنفسك!). ثم يقول: هل رأيت شخصاً لم يغتسل بالماء منذ ولدته أمه؟! تعال معنا إلى اللاجئين في عليوان لترى العجب! ثم يذكر أيضاً قصة أخرى ويقول: طفل أصيب بالملاريا، ولم يستطع شراء الدواء، (وقيمة هذا الدواء خمسة وعشرين هللة للعلاج كله)، وامتدت الملاريا إلى المخ، وأصيب بإغماء وفقدان الشعور لمدة أربع وعشرين ساعة، وأصيب بصرع نتيجة الملاريا يحتاج إلى إبرة للعلاج كلفتها ستين هللة، وبالطبع كان وضعهم لا يسمح بشرائها، وجدناه وهو بين الموت والحياة، ونقلناه إلى المستشفى، ولا ندري أكتبت له الحياة أم لا! وسوف نخبركم بما يحدث له لاحقاً. هذا طفل استطعنا نقله، وأمثاله آلاف لم يستطيعوا الانتقال إلى المستشفى أو شراء العلاج، والكل ينادي: واإسلاماه!! هل من بضع هللات تكون هي الفرق بين الموت والحياة نشتري بها الدواء؟! والكل يناشد: أين الأطباء المسلمون ينذرون شهراً من حياتهم زكاة عن أعمارهم لإخوانهم المحتاجين؟! والتقرير الآخر كتبه أحد الأئمة والخطباء ممن زاروا هذه المنطقة في الفترة القريبة الماضية، يقول: رأيت طفلاً في العاشرة من عمره لا يستطيع أن يقوم من شدة الجوع، بل لا يستطيع أن يمضغ الطعام؛ لأن عملية مضغ الطعام تحتاج إلى قوة هو من أفقر الناس إليها! ورأيت بعض الأمهات يرضعن أولادهن وهن أكثر جوعاً وأهزل جسماً من أطفالهن! ورأيت بعض النساء يعملن من الصباح حتى المساء راتبها اليومي وجبة واحدة من الطعام لها ولصبيتها الصغار، فتذكرت رواتبنا الشهرية التي أنعم الله بها علينا، والتي لا يؤدي الكثير منا حق الله فيها! ووجدنا بعض النساء قد انكشف شيء من صدورهن أحياناً، فاندفعنا متحمسين لإنكار ذلك فقيل لنا: إنهن لا يملكن ما يوارين به ما انكشف من أجسادهن! بل هناك بعض النسوة قلن: أعطونا ملابس نستر بها أجسادنا العارية، ولكم علينا عهد ألا نلبس ملابسكم إلا في الصلاة إن أردتم ذلك! فتذكرت الملابس التي عندنا والتي احتار كثير من الناس ماذا يفعل بها، وتذكرت مراكز تخفيف الوزن التي يعلن عنها في صفوفنا، وتذكرت الحفلات التي تهدر فيها الأموال بغير حساب، وتذكرت القمامة التي نرمي فيها البراميل الخضراء وما فيها من الأرز واللحم وأصناف الطعام المختلفة، فقلت في نفسي: يا رب! ما أحلمك علينا! وما أرحمك بنا! ويقول: اتجهنا إلى الحدود الكينية الصومالية، وزرنا قرية مجير وعليوان، وقد رأينا صوراً بئيسة أدمت القلوب، وأبكت العيون، وقفنا عند تجمع للنازحين، فسألناهم عن حالهم، فقال لنا شيخ كبير: نحن نعاني من الجوع، وهيئة الأمم تعطي كل أسرة كيلو واحد من الذرة كل خمسة عشر يوماً! ولك أن تتصور قلب الأم وهي ترى طفلها يتلمظ بين يديها ثم يموت، ليس به شيء إلا الجوع! ثم قال: ونحن نعاني أيضاً من البرد، والبرد عندنا قارس، وليس لهم إلا التراب ينامون عليه، وأغصان الشوك يلتحفون بها، ونعاني من لدغ العقارب والحيات، ولا دواء، ونحن كما ترى ننام في العراء، والأرض التي نحن فيها تكثر فيها الهوام، ونحن ندفن كل يوم خمسة عشر نفساً ما بين شيخ كبير، وطفل رضيع، لا نجد ما نكفنهم به!! ثم رأينا بعض الأسر النازحة، ولقد رأينا عجباً ما رأيناها تحمل معها قدوراً، ولا رأيناها تحمل معها زاداً ولا طعاماً ولا فرشاً، ولكننا رأيناها تحمل فيما تحمل لوحاً من الخشب، تعتز به، وتحمله معها أينما حلت؛ إنه لوح كتبت عليه بعض سور القرآن الكريم! حقاً إنهم قوم يعتزون بإسلامهم، ويموتون على إيمانهم، وهذه الصور المفزعة غيض من فيض، وهذا تقرير لأفراد معدودين ممن رأوا هذه الصور على مناطق الحدود، فكيف بما هو في داخل الجحيم، وفي أتون النار، وفي معمعة القتال، وفي نار الرصاص؟!!

استغلال المنصرين مآسي المسلمين في دعوتهم إلى النصرانية

استغلال المنصرين مآسي المسلمين في دعوتهم إلى النصرانية ولك أن تتصور بعد ذلك ما هي النتيجة المتوقعة؟ وما هي النصرة المنتظرة؟ وما هو العمل الذي بدأ يلامس أولئك القوم؟ إنه التنصير الذي يفرح بمثل هذه المآسي، بل ربما يخطط لها، بل ربما يستزيد أمدها ويطيل زمنها؛ ليقطف الثمار في ظل هذه المآسي تنصيراً للمسلمين، وسرقة لأبنائهم، وإنك لترى -كما يذكر إخواننا في تقاريرهم- أعداداً من هؤلاء المساكين يقفون على أبواب السفارات الأوروبية في نيروبي عاصمة كينيا؛ لينتقلوا إليها، ثم تحتضنهم هناك الجمعيات التنصيرية، ثم يُسلب منهم أبناؤهم، وبعد فترة يُعاد الآباء ويبقى الأبناء؛ ليتغذوا بغذاء الصليب، وليرضعوا لبان المسيحية، وليعودوا حربات تطعن في قلب الأمة المسلمة! والذي يقوم بالإغاثة والعمل هناك: أولاً: منظمات تنصير: الكنيسة الأفريقية الداخلية، وهي منظمة أمريكية بروتستانتية. ثانياً: الكنيسة الكاثوليكية. ثالثاً: منظمة (جي سي دت) الألمانية. رابعاً: منظمة أطباء بلا حدود البلجيكية. خامساً: منظمة العون الأمريكية. سادساً: منظمة الرؤيا العالمية. سابعاً: منظمة أكسفام للإغاثة الإنجليزية. ثامناً: منظمة الصليب الأحمر السويدية. وكلها هناك تضطهد وتقدم الغذاء بيد والإنجيل باليد الأخرى! بل لا تعطي الغذاء حتى يأخذ الإنجيل، وحتى يكفر بالإيمان، وحتى يخرج من الإسلام!! وفي هذه التقارير أيضاً عجب عجاب من هذه الصور التي تلبس وتشوش علينا؛ تبين لنا حقيقة الواقع لهذه المنظمات التي تسمى إنسانية، فهذا التقرير يقول: لقد عشعش الصليب هناك وفرخ، والقساوسة والمنصرون ركزوا جهودهم ونشاطهم في الأماكن التي يكثر فيها المسلمون، واستغلوا الكثير من المؤسسات ذات الصبغة الرسمية في نشر دعوتهم، ومن هذه المؤسسات: هيئة الأمم المتحدة؛ لقد وضعت جميع إمكاناتها وأموالها تحت تصرف القساوسة والمنصرين! ووجدنا مراكز تنصيرية على شكل بعثات تمثل الدول الأوروبية النصرانية، وقد زودت بكافة الإمكانيات الضخمة والأموال الطائلة، وقد زرت مركز البعثة التنصيرية لإحدى الدول الأوروبية فوجدت الأطباء والدواء والغذاء والماء والسيارات والخيام، ووجدت المركز يعج بالمسلمين الذين أرغمتهم الحاجة والمرض والجوع إلى مثل هذه المراكز!!

دور المسلمين الغائب عن مآسي إخوانهم

دور المسلمين الغائب عن مآسي إخوانهم والسؤال الذي تردد في ذهني وأنا أرى هذه المراكز: من هذه الدول النصرانية: أين مراكز الدول الإسلامية، أهان عليهم المسلمون وهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين؟! حيث تحث هذه الجمعيات الأسر الصومالية على ترحيل الأبناء إلى بلاد الغرب تمهيداً لتنصيرهم، وإضافة لذلك؛ فإن هذه المنظمات ليست إنسانية، وإنما هي منظمات كنسية دينية لا تبذل إلا بقدر ما تأخذ من عقائد المسلمين، وبقدر ما تفتن منهم عن دينهم وتصدهم عن إسلامهم! فهذه الصورة المفزعة المرعبة لا يهم فيها الموت والجوع بقدر ما يهم هذه المؤامرات التي تمول أحياناً من أموال المسلمين، ومن المنظمات الدولية كما تُسمى، ومن المنظمات الإنسانية كما يُطلق عليها، ثم تستخدم في إخراج المسلمين من دينهم بقوة هي قوة الإغراء، وبقوة هي قوة إيجاد الفقر والجوع والمرض، ثم استغلاله بعد ذلك للتنصير وللحرب ضد الإسلام والمسلمين.

واجب المسلمين تجاه إخوانهم

واجب المسلمين تجاه إخوانهم إنني في هذا المقام أذكر أن هناك منظمتين إسلاميتين تقومان بجهد جيد مشكور، وهما منظمة لجنة مسلمي إفريقيا وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، ولكنها لا تنافس ذلك القدر الهائل من المنظمات، وتلك الأموال الطائلة والإمكانيات الضخمة، إضافة إلى ذلك فإنني أناشد هاتين المنظمتين أن تبعثا بتقاريرها وبما يواصلها به مندوبوها إلى كل إمام وخطيب وإلى كل رئيس هيئة تحرير بل إلى كل مسلم، وإلى كل صناديق البريد؛ ليعلم الناس؛ فإن هذه الهيئات لا يصل خبرها إلى المسلمين، ولا يعرف تقاريرها أبناء الإسلام، ولا ينشر كثير مما ترى، ولا تكتب في الصحف أو في الإذاعات أو على شاشات التلفزة، فينبغي أن تعالج هذا الأمر؛ لأن وصول الأنباء ومعرفة الأخبار وإشاعة التقارير لها أثر كبير محمود. والله نسأل أن يدفع عن المسلمين السوء والضر، وأن يرزقنا أن نؤدي شكر النعم، وأن يدفع عنا أسباب الهلاك، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

صور من مآسي المسلمين في الهند

صور من مآسي المسلمين في الهند الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى نصرة المسلم، والله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، وكلهم مظلومون بهذه المؤامرات والمؤتمرات والكيد والحروب. وكذلك يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن واجب المسلمين، ويصفهم بأنهم (تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، فلا بد أن يستشعر المسلم وحدته مع إخوانه، والقضية ليست قضية إنسانية فحسب، بل هي قضية إسلامية، ولذا أواصل استكمال الصورة ليس في الصومال، وإنما في مناطق أخرى بإيجاز شديد؛ لأبين أن القضية هنا وهناك في آسيا وفي أوروبا وفي أفريقيا وفي أماكن أخرى إنما هي قوة ومؤامرة بصورة أو بأخرى، هدفها: القضاء على الإسلام، والقضاء على المسلمين، وإخراج المسلمين من دينهم. وإليكم هذا الخبر الذي يقض مضاجع المؤمنين فيما وقع على إخواننا المسلمين في الهند: نشرت التقارير في أوائل هذا الشهر الميلادي نقلاً عن صحيفة هندية شهيرة تتبع للهندوس ذكرت فيها: أنه خلال نحو عامين تم ارتداد خمسين ألف مسلم، ودخلوا في الديانة الهندوسية. وأشارت تقارير الجماعة الإسلامية في باكستان أن هذا العدد ليس صحيحاً، وأن العدد الصحيح يتراوح ما بين مائتي ألف إلى ثلاثمائة ألف من الذين تركوا الإسلام ودخلوا في الهندوسية، فهل كان ذلك باختيارهم؟! كان ذلك بالعنف والإجبار والإكراه وبالقوة والسلاح، وكان ذلك بالتضييق والتجويع، وكان ذلك بإحراق المنازل ومحاصرة التعليم، وكان ذلك بكل ضروب العسف والقهر والعدوان، وكان ذلك على فئة من المسلمين، حيث قالوا: ينبغي أن يرجعوا إلى الهندوسية؛ لأن أجدادهم كانوا من الهندوس، وبعض أولئك دخلوا في الإسلام في أوائل الثمانينات، ثم أجبروا في هذه الولايات قهراً وقسراً على أن يتركوا دينهم، وأن يدخلوا في الهندوسية! وتقول مجلة الإصلاح التي نشرت الخبر مفصلاً: المهم أن الخطر ليس على المسلمين بالاسم، بل هي بداية وانطلاقة لمأساة هدفها القضاء على إسلام المسلمين الهنود الذين يشكلون أكبر عدد من المسلمين في دولة واحدة بعد أندونيسيا، ومعلوم أن عدد المسلمين في الهند يبلغ عشرين ومائة مليون مسلم، يعادلون عدد المسلمين في الدول العربية جمعاء، ومع ذلك يمارس ضدهم هذا الاضطهاد، ويلجئون إلى الارتداد، وليس هناك من ملب ولا مجيب.

صور من مآسي المسلمين في البوسنة والهرسك، وبيان حقد الغرب على المسلمين

صور من مآسي المسلمين في البوسنة والهرسك، وبيان حقد الغرب على المسلمين وإذا انتقلنا إلى الحدث الساخن الثالث وما يجري في أوروبا المتحضرة ذات الحضارة المدنية الباهرة، وذات الإعلانات الحضارية الزائفة التي تدَّعي حماية حقوق الإنسان، والتي تدّعي رفع شعار العدالة الدولية، والتي تدّعي أنها تنصر الحق في أي مكان، وأنها تنجد الإنسانية في أي ميدان، وإذا بنا نرى على مدى شهور طويلة هذه المؤامرة البغيضة الحاقدة على إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، وليس من ذنب ولا من خطأ ولا جريمة إلا أن القوم مسلمون، وإن كان بعضهم ربما لا يعرفون من الإسلام إلا أقل القليل؛ ولذلك كلما مر زمن كلما اتضحت أبعاد المؤامرة. فإذا بنا نسمع عن معسكرات الاعتقال التي تضم أكثر من (260000)، وإذا بنا نسمع عن قتل أكثر من (17000) في داخل هذه المعتقلات، وأن (50000) من هؤلاء يضطهدون ويعذبون حتى الموت، وأن هناك ما يسمى بحملات التطهير العرقي، وهي في الحقيقة حملات التطهير الديني!! فلماذا يقتلون الأطفال؟! ولماذا يبقرون البطون ويقتلون الأجنة التي لم تر النور؟! إنهم يقتلون الإسلام الذي يثأرون منه كما يقولون، إنهم يقتلون الإسلام الذي لا يريدون له أن ينبعث في القارة الأوروبية النصرانية المسيحية التي لا تقبل وجوداً للإسلام والمسلمين، ولذا غضت الطرف وسكنت وسكتت، فلما ظهرت الصور الفظيعة تحركت بالإغاثة لا لأجل ألا يموتوا ويقتلوا، ولكن ليكن موتهم وهم شباع البطون بدلاً من أن يموتوا وهم جياع، فقد تم الاتفاق على أنهم يموتون ويقتلون ويهجرون، ولكن يمكن أن يموتوا بعد تزييف لهذه المساعدات الإنسانية. وكذلك عندما جاء الكلام على التدخل العسكري، وعلى معاقبة المعتدي، فإن الأقوال تشعبت وتعددت، وإن التبريرات تكاثرت وتعددت، وكل ذلك ينبئ أن القوم ماضون في المؤامرة، ومؤخراً اتضحت الأبعاد، وتبادل الصرب والكروات الأسرى، وبدءوا ينسقون فيما بينهم، ويوزعون أراضي البوسنة والهرسك: ثلثين للصرب وثلثاً للكروات، ويحددون مواطن كل دولة تنضم إلى التي تريد، إما إلى دولة صربيا العظمى أو الكبرى كما يسمونها، أو إلى دولة الكروات. وهذه المؤامرات تؤكد أن القضية دينية إسلامية، وأن المؤامرة صليبية مسيحية، ولعلكم تسمعون الفظائع التي تبين لنا أن القوم بنصرانيتهم وأن القوم بحضارتهم أنهم ليسوا من الإنسانية ولا من الآدمية بسبب ولا بنسب، ولذلك قتلوا الأطفال، واختطفوا النساء، والحقائق والوثائق والتقارير التي نطلع على جزء يسير منها يشيب لهولها الولدان. ومن ذلك أنهم قتلوا (500) من المسلمين بطريقة عجيبة فظيعة لا يصدقها العقل، سحبت منهم الدماء لأجل إنقاذ جرحى الصرب، فكان الواحد منهم يموت وهو يقطر دماً قطرة قطرة، حيث يسحب دمه حتى يلفظ أنفاسه!! وفي موقع آخر حشر (57) من المسلمين في بدروم لعمارة، ثم جاء واحد من الصرب وألقى عليهم قنبلة يدوية، ولما تعالت الصرخات من هؤلاء تعالت الضحكات من ذلك الوغد الحقير، وكل هذه الصور تتناقلها وسائل الإعلام!! والأمر أيضاً مرة أخرى تنصير، ومؤامرة على الإسلام في الأطفال الذين يستوعبون في البلاد الأوروبية شرقاً وغرباً، ليضعوا لبان النصرانية، ولذلك قال أحد كتابنا في مجلة اليمامة: إني أحس بألم شديد أن يتحول هؤلاء الأطفال إلى ديانة غير الإسلام؛ لأن إخوانهم المسلمين تخلوا عنهم في لحظة هم في أمس الحاجة إلى أن تمتد إليهم أيدي إخوانهم المسلمين لتنتشلهم، ثم يقول: المهم ألا نفرط بهذه البراعم التي أنقذها الله من براثن الشيوعية ثم ابتلاها ببراثن التعصب الأعمى الذي اجتثها من الأرض. ويقول كاتب آخر: لقد اتضح أن القيادات الغربية في أمريكا وأوروبا لن تتخذ أي مبادرة بهذا الخصوص لنجدة المسلمين. لماذا ينجدون المسلمين؟! لماذا يفنون أموالهم أو يبيدون رجالهم لأية مصلحة؟! إن مصلحتهم في عكس ذلك، ويقول: لم تتخذ أية مبادرة بهذا الخصوص، والأمم المتحدة قدمت كلما لديها، ووجدنا أنه حل سقيم، ولكنني أعتقد أن الغرب إذا شعر بأن الدعم الإسلامي للبوسنة يجسد تيارات قوية رسمية وشعبية في العالم الإسلامي فقد يفكر في تغيير موقفه في البوسنة، وإذا أدرك الغرب أو اعتقد أن موقفه تجاه قضية البوسنة سيضر ببعض مصالحه في العالم الإسلامي فقد يتجه نحو صد العدوان الصربي على البوسنة.

قضية المسلمين واحدة في كل مكان، والدفاع عنها مسئولية الجميع

قضية المسلمين واحدة في كل مكان، والدفاع عنها مسئولية الجميع إنه منطق القوة لا يجدي غيره، ولو أن أمم الإسلام حاربت بجيوشها، أو حاربت بمقاطعتها لهذه البلاد ومنعت البترول، ومنعت عن المناصرين الذين يؤيدون هؤلاء المدد وكل ألوان التعامل؛ لكان هناك شأن آخر، هذا إذا كان هذا في دول أوروبية، فكيف الحال إذا كان في الهند؟! قال الشاعر: غض المفاوض صوته فتكلم بلسان نار يا كتائب أو دم لم يسمع المحتل من خطبائنا فلتفهموا المحتل ما لم يفهم لا بد أن ندرك أن القضية حرب على الإسلام وإن اختلفت الصور وإن تعددت الأماكن، والصرخة ما تزال تدوي في الفضاء: واإسلاماه! لتبين الأمر للغافلين الذين يعيشون في وهم الشرعية الدولية، ويعيشون في وهم النظام الدولي الجديد ويعيشون في وهم تسامح الأديان، والإخاء الديني والنظرة الحضارية والنظرة الإنسانية: بني الإسلام هذي حرب كفر لها في كل ناحية لهيب يحركها اليهود مع النصارى فقولوا لي: متى يصحو اللبيب؟ أراكم تنظرون وأي جدوى بنظرتكم إذا غفت القلوب؟ ستطحنكم مؤامرة الأعادي إذا لم يفطن لها الرجل الأريب وليس هناك من ذنب إلا أن هؤلاء الذين يضطهدون في كل مكان مسلمون، كما قال الشاعر الآخر: لأنك مسلم سترى العذابا وسوف تواجه العجب العجابا لأنك مسلم ستموت غماً وهماً واضطهاداً واضطرابا ستسأل كل أهل الأرض عدلاً وتنتظر الجواب ولا جوابا يسوءك أن ترى الطاغوت يعلو ويحني المسلمون له الرقابا لأنك مسلم ستزور سجناً وتنهبك السياط به نهابا إذا قرعت به يمناك باباً سمعت الفحش يسرع والسبابا وسوف تعض من ألم بناناً وسوف تسف من جوع ترابا فإما أن تكون كما أرادوا وإما ينزلون بك العقابا هذه هي الحقيقة، وهذه هي الصورة والمؤامرة، وليس لها من دون الله كاشفة، وليس لها بعد الله إلا المؤمنون الغيورون، وليس لها بعد الله إلا المسلمون الصادقون، وليس لها بعد الله إلا أن تتحرك القلوب، وأن تلهج الألسن بالدعاء، وأن تمتد الأيدي بالعطاء، وأن يبادر كل قادر على ما يستطيع، وإن التقارير التي سأذكر بعضاً منها بعد الخطبة تبين لنا أن الأمر الذي يحتاجون إليه لا يكلفنا الكثير، بل هو يكلف أقل القليل مما نزهد فيه، بل مما نتخلى عنه في أمور تافهة، ولذلك ينبغي لنا أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بقلوب مخلصة وبدعوات حارة خالصة. اللهم إنك العالم بالسرائر المطلع على الضمائر، اللهم قلَّ الناصر، واعتز الظالم، وأنت المطلع الحاكم، اللهم بك نعتز عليهم، وإليك نهرب من بين يديهم، حاكمناهم إليك، وتوكلنا في إنصافنا منهم عليك، ورفعنا ظلامتنا إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا وبين أعدائنا بالحق وأنت خير الحاكمين. اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، إلى من تكلنا: إلى بعيد يتجهمنا، أم إلى عدو ملكته أمرنا؟ إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي، ولكن عافيتك ورحمتك هي أوسع لنا، اللهم فارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

ومضات إصلاحية من الآيات القرآنية

ومضات إصلاحية من الآيات القرآنية الإصلاح قضية مهمة في حياة المجتمعات والأفراد، وهي قضية لا تقوم إلا على أسس راسخة، وقواعد ثابتة، وقد كان أنبياء الله هم قادة الإصلاح في جميع المجالات، وقد طرح الشيخ في هذه المادة أسس الإصلاح التي انطلق منها نبي الله شعيب عليه السلام حتى تكون منهاجاً لكل من يريد الإصلاح.

القرآن والسنة هما أسس الإصلاح

القرآن والسنة هما أسس الإصلاح الحمد لله كاشف الضر والبلوى، عالم السر وما هو أخفى، الآمر بالبر والتقوى، الناهي عن الإثم والنجوى، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً وفتح به قلوباً غلفاً. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى به نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! ومضات إصلاحية من الآيات القرآنية، نجعلها حديث يومنا هذا وقد كثر الحديث عن الإصلاح، وتنوعت صوره، فمن إصلاح تأتي به دبابة عسكرية إلى إصلاح تبثه قنوات فضائية إلى إصلاح آخر يتجلى في مبادرات سياسية إلى ثالث ورابع وخامس، وقلما سمعنا في الإصلاح الذي يأتي من الخارج، أو الذي يروج في الداخل، أو الذي يتناقل في وسائل الإعلام هنا أو هناك، قلما رأينا تأصيله من كتاب الله، واسترشاده التام بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الثوب إذا كان من قماش حسن، وبخياطة متقنة لكنه على غير مقاسك، لا تستطيع الانتفاع به، وكذلكم كل ما يأتي على غير الأساس الذي نقوم عليه، وننطلق منه، ونحتكم إليه، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلن يكون محققاً لمراداتنا وطموحاتنا من هذا الإصلاح. وذلك يقين لا بد أن يستقر في النفوس والقلوب، مع علم وفكر وبصيرة تدرك أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما من القواعد الكلية، والمقاصد الشرعية، ما يستوعب مستجدات كل زمان، وما يصلح أحوال كل مكان، وما ينفع الإنسان في تقلبات أحواله وتغيرات أزمانه. فليس هناك قصور كما يتوهم البعض، ولا تخلف كما يفتري البعض، بل كمال مطلق، وصلاح دائم، وتجدد مستمر، ومرونة عظيمة، مع أصالة وثبات يعتصم به المؤمنون والمسلمون من أن تضل بهم الأهواء، أو أن تتقاسمهم الآراء، أو أن تتشبث بهم الحيرة، أو أن يغشاهم الاضطراب، {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].

الإصلاح في دعوة نبي الله شعيب عليه السلام

الإصلاح في دعوة نبي الله شعيب عليه السلام وليس مقامنا هذا كافياً لأن نتحدث عن منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يستوعب الحياة كلها في مجالاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدولية وغير ذلك، وحسبنا في هذا المقام الذي نفتتح به حديث الإصلاح في القرآن والسنة أن يكون اليوم في ومضات قرآنية ربما نأخذ جلها من قصة واحدة من قصص الإصلاح وحواراته من رسول الله شعيب عليه صلوات الله وسلامه.

أول إصلاح قام به شعيب عليه السلام هو الاعتقاد الصحيح

أول إصلاح قام به شعيب عليه السلام هو الاعتقاد الصحيح قصة شعيب مع قومه فيها ومضات منهجية نؤسس بها لقضية الإصلاح: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84]. نبي من أنبياء الله، والأنبياء هم صفوة المصلحين، وخلاصة الذين رسموا المنهج القويم للإصلاح على هدي من ربهم، وبنور من وحيه، وبرقي وسمو بما كانوا عليه من صلاح السرائر، وجمال الأخلاق، ورشد العقول، وحسن التدبير، وكمال السياسية. هذه دعوة شعيب يبدؤها بأول وأهم وأعظم أساس لا يكون إصلاح إلا به، أساس الإصلاح الاعتقادي الإيماني الذي يعلق القلوب بتوحيد الله وتعظيمه، فلا شرك ولا إشراك ولا توزع لهموم الإنسان وطموحاته أو خوفه ورجائه إلى آلهة متعددة وإن لم تسم آلهة. أول دعوة بدأ بها شعيب وبدأ بها كل الرسل والأنبياء: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:84]، هذه الدعوة الإصلاحية الأولى. كم نحن في حاجة إلى إصلاح مسائل الاعتقاد والإيمان من جهات ووجوه شتى، منها العلم والمعرفة المبنية على الدليل الثابت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن انحراف الآراء وانجراف الأهواء. كم نحن في حاجة من جهة أخرى إلى دحض الشبهات، وإلى بيان فساد المبتدعات، وإلى التذكير والتحذير من خطورة الشركيات، ليس من ذلك شيء إلا ونحن في أمس الحاجة إليه، وليس من ذلك شيء إلا وهو من أعظم وأسس الانحراف والضعف والزيغ الذي حل بأمتنا، أو بكثير من أبنائها وفي كثير من أصقاعها. ثم نحن كذلك في حاجة إلى مراجعة الأثر الحقيقي للإيمان في واقع الحياة، هل قضايا الإيمان تشربتها القلوب؟ هل حقائق الإيمان رسخت في النفوس؟ هل أصبحت تجري مع الدماء في العروق؟ هل تضبط الخواطر والأفكار؟ هل تهذب الأقوال والكلمات؟ هل تقوم السلوك والأعمال؟ هل تحكم بين الناس فيما يجري بينهم من الأمور؟ هل تضبط أمور معاملاتهم المالية؟ هل هي حقيقة حية واقعة تتجلى في سجود جباههم، ودموع أعينهم، ووجل قلوبهم، وورع نفوسهم؟ هل حقيقة الإيمان موجودة؟ لو أنها كانت على النحو المطلوب، وعلى الوجه الكامل، وعلى الصورة المؤثرة لرأينا كثيراً من وجوه الفساد والقطيعة والخلاف تنتهي وتزول من واقع حياتنا، ولكنه الإيمان إذا انحرف ضل أربابه إلى صور من شرك أو انحراف وابتداع، وإذا ضعف فاستولت الدنيا بشهواتها على القلوب، وسيرت النفوس، وحكمت في العلائق والأحوال المختلفة؛ فحينئذ لا يرجى أن يرجى أثر لأي إصلاح، وذلك ما دام الفساد في القلوب مستقراً، وما دام الكدر والقذر موجوداً في النفوس لم تطهره قضايا الإيمان وحقائقه كما ينبغي. إن طهارة القلوب، وزكاة النفوس، ورشد العقول، وحسن الأقوال، وصحة الأعمال، وصلاح الأحوال، لا يمكن أن تنطلق إلا من أساس صحيح لاعتقاد صحيح راسخ مؤثر، ذلكم هو أساس الإصلاح والتغيير الذي جاء به سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، يوم بذر بذرة الإيمان في قلوب قوم من أهل الشرك والكفر والجاهلية والعصبية، كانوا أهل فسق وفجور، أهل انحراف وأهواء، فإذا بهذا الإيمان يغير حياتهم، ويؤسسها على قاعدة جديدة متينة من شهادة التوحيد، ومن معرفة حقائق الإيمان وتأثيره في النفوس. وتلك هي القضية التي جاء بها الرسل والأنبياء، جاء بها شعيب هنا وقدمها لتكون أساساً يبني عليه الإصلاح الاقتصادي الذي كان الإفساد فيه شائعاً في قومه، وجاء بها موسى عليه السلام ليصلح الفساد والطغيان السياسي الذي كان عليه فرعون، وجاء بها لوط ليصلح الإفساد الأخلاقي الذي كان في شذوذ قومه وانحرافهم فيما يأتون من الذكران. فكل قضية إصلاحية إنما يؤسس لها بتأسيس صلاح الإيمان، وصحة الاعتقاد، وحسن التعلق بالله، وكمال الرجاء فيه، وعظمة الخوف منه، وصدق التوكل عليه, ودوام الإنابة إليه، تلك هي التي تحسن بها أحوال الناس في معاشهم، وتكون بعد مماتهم سبباً لنيل رحمة الله عز وجل ورضوانه.

الإصلاح الثاني الذي دعا إليه شعيب هو الامتثال لأمر الله

الإصلاح الثاني الذي دعا إليه شعيب هو الامتثال لأمر الله قال الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف:85]؛ لأجل دنيا تريدون تحصيل المزيد من الأرباح فيها بتنكب الحق وارتكاب الغش، وقال لهم: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) ما معنى ذلك؟ أراكم بخير في معيشتكم ورزقكم، أي: فيما تأخذون من الحلال وإن كان قليلاً، فأخاف أن تسلبوا ما أنتم عليه بانتهاككم محارم الله، قاله ابن كثير في تفسيره. إذاً: الإصلاح يعتمد كذلك على الطاعة لله عز وجل، والموافقة لشرعه، والمجانبة لمحادته ومشاقته ومخالفة أمره، فإن دواعي الفساد والإفساد إنما مبعثها مخالفة حكم الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. وما كان من التزام بأمر الله وأمر رسوله فذلك فيه الصلاح والخير، ولذلك قال: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود:84] أي: ما استقمتم على أمر الله، ثم حذر فقال: {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84] بأن تفسد أحوالكم في دنياكم، وتحل بكم نقمة الله عز وجل، وينزل بكم سخطه، وتنزع منكم بركته في الدنيا، ثم تكون العاقبة السيئة والعياذ بالله في الآخرة. فالأساس الإصلاحي الثاني الذي تصلح به أحوال العباد بعد حسن الاعتقاد: حسن الامتثال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، وهذه دعوات قرآنية كثيرة، ودعوات نبوية عديدة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). وينبغي أن نعلم سوء أثر مخالفة أمر الله في واقعنا، لم افترقت النفوس؟ لم اختلفت الآراء؟ لم تفرقت الصفوف؟ لم قست القلوب؟ لم جحدت العيون وقحطت؟ لم تغيرت أحوالنا؟ إنه بسبب ضعف إيماننا وكثرة معاصينا، والمعصية آثارها عظيمة، وأضرارها وخيمة ووبيلة، والمؤمن الحق يدرك تماماً أن أثر المعصية عظيم. ولقد كان أسلافنا رضوان الله عليهم يرون أثر المعصية في الأمر اليسير الهين الذي لا نلقي له بالاً، فكانوا إذا ساء خلق زوجة أحدهم أو دابته رد ذلك إلى قصور في طاعته، أو إلى غفلة في ارتكاب شيء من المعاصي، كانوا يرون أن كل عارض يعرض لهم فيه ضرب من الابتلاء أو ضرب من العناء، إنما هو بسبب شيء من غفلتهم عن أمر الله أو اجترائهم على معصية الله. واليوم قد كثرت الذنوب والمعاصي، وتعاظمت حتى صارت كأمثال الجبال، بل ملأت ما بين السماء والأرض، ثم بعد ذلك نسأل: ما السبب في تغير أحوالنا؟! ولماذا لا نستطيع أن نحقق مرادنا ولا أن نصل إلى مبتغانا، ولا أن نصلح أحوالنا، ولا أن نداوي أمراضنا؟! إن ذلك لا يكون ولن يكون إلا بالصلح مع الله عز وجل، وإصلاح ما بيننا وبينه، وبالتعظيم والوفاء لرسولنا صلى الله عليه وسلم، استمساكاً بهديه واتباعاً لسنته، وذباً عنه عليه الصلاة والسلام. ولذلك حذر شعيب هنا من هذه المعصية، فماذا كان جواب القوم، وإن كان لا يعنينا ذلك كثيراً في هذا المقام، لأننا إنما نريد أن ننظر إلى لسان المصلح ماذا كان يقول؛ وإلى نظريته التي يقدمها إلى توجيهاته التي يذكرها. لكنهم في سياق ردهم عليه جاءوا بالتهكم والسخرية، وأتوا بما يستوجبون به سخط الله عز وجل، وحلول الفساد في أرضهم وديارهم، وقبل ذلك في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم، قالوا: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]، لم يقولوا ذلك ذكراً لصفات حسنة فيه، ولكنهم يقولون: إن مقتضى ما تقوله لنا يدلنا على أنك لست بحليم ولا رشيد. يقولون ذلك على سبيل التهكم، ويذكرون هنا قضية مهمة في شأن الإصلاح، وللأسف أن بعض بني جلدتنا الناطقين بألسنتنا يشابهونهم في قولهم: (أصلاتك تأمرنا أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وهؤلاء يقولون: لماذا تدخلون أمر الاعتقاد والدين في صلب الحياة؟ ما للدين وللاقتصاد؟ ما للدين وللسياسة؟ وما للدين وللحياة الاجتماعية؟ ما للدين وللحياة العلمية والتقنية؟ أرادوا أن يقولوا له: بماذا جئتنا يا شعيب؟ نحن ننكر ونستنكر ولا نقبل ولا نفهم أن تكون صلاتك التي تقوم بها، أو ديانتك التي جئت بها، تريد أن تغير أحوال حياتنا كلها، تريد أن تضبط وتحكم تفاعلات جوارحنا ومعاملاتنا في سائر جوانب حياتنا! وذلكم ما لعله اليوم يقال في ديار الإسلام، وبألسنة بعض أبناء الإسلام الذين يقولون: لماذا لا نأخذ النظريات الاقتصادية من الشرق؟ لماذا لا نأخذ النظم السياسية من االغرب؟ لماذا لا نستفيد في جوانب الحياة الاجتماعية من هنا أو هناك؟ وكأننا فقراء لا منهج عندنا! كأننا أمة مبتوتة لا تاريخ لها! كأنه ليس بين أيدينا النور التام الذي تبحث عنه البشرية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم! لقد أصبحنا اليوم نسمع عن الديمقراطية والحرية وغيرها من المصطلحات، ولم نعد نسمع ذكراً لآية من كتاب الله، أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صفحة مشرقة من صفحات كثيرة ملئ بها تاريخنا الذي رسم الحياة الإنسانية على القاعدة الإيمانية، وفي ظلال الشريعة الإسلامية، فأتى بالتقدم والرخاء الاقتصادي، وأتى بالعدالة السياسية والقضائية، وأتى بأحسن القوانين والأحوال الاجتماعية، وأقام فوق ذلك حضارة مدنية وتقدماً علمياً، ما تزال أمم اليوم تعود نهضتها إليه، ويرجع مبتدؤها إليه، فأين أمة الإسلام عن حقيقة الإصلاح في جوهر المنهج القرآني والرباني؟

نبي الله شعيب يؤسس قواعد الإصلاح

نبي الله شعيب يؤسس قواعد الإصلاح ثم استمعوا معي إلى ما قاله شعيب عليه السلام في هذه الكلمات التي تؤسس القواعد مع ما سبق أن ذكرناه من قاعدة الإيمان وحسن الاعتقاد وصحته، وقاعدة الاستقامة وكمال الالتزام بشريعة الله عز وجل. قال عليه السلام عندما ردوا عليه بهذا الرد: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]. في هذه الآيات منهج لكل مصلح ما الذي ينبغي عليه في تكوين ذاته ونفسه، ما الذي يجب عليه في حسن عرضه ودعوته، ما الذي ينتهي ويرتكز عليه في قدرته ومواصلته. استمعوا إلى هذه الآيات! استمعوا إليها بالقلوب والعقول استماعاً فيه التدبر والتأمل وهو يقول: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود:88]، فأول أمر أيها المؤمنون المسلمون لا بد أن نكون على بينة من أمرنا، على بينة من ديننا، على بينة من نهجنا، لا بد أن نعرف حقائق إيماننا وشرائع إسلامنا، أن نعرف ما يثار من الشبهات. لا بد أن نعرف المنهج الإسلامي معرفة صحيحة من أصوله الصافية، ومنابعه العذبة؛ لأن هذا هو الذي يجعل لنا النور الذي نكشف به صور الانحراف والخلل، وهذا هو الذي يثبت المصلح. أما إذا لم يكن المصلح على بينة من ربه، وعلى معرفة من نهجه، فربما اضطرب أو تشكك، وربما تراجع وتقهقر، وربما وافق وداهن أو جامل فيما لا ينبغي أن يكون؛ خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه المفاسد والأطروحات والضغوطات المختلفة، حتى صار الناس يدعون أموراً ليست من الإسلام وينسبونها إليه؛ لأنهم ليسوا على بينة من ربهم. وهذا أول أمر ينبغي للمؤمن والمصلح والداعية والعالم وكل فاعل خير في هذه الأمة أن يتزود به، وأن يتحصن به، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام:57]، حتى وإن كذبت الدنيا كلها، وإن صارت وسائل الإعلام تصك أذاننا كل يوم بمذاهب وضعية بشرية؛ فإننا نقول: إنا على بينة من ربنا. {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام:57] كانوا يقولون: أين أثر ذلك؟ أين النتيجة لذلك؟ واليوم يقول بعض المسلمين: أين أثر القرآن وأين أثر الإيمان؟ وأين أثر شعائر الإسلام؟ هل يمكن أن تطبق في واقع الحياة اليوم؟ إن هذا التشكك لا يزيله إلا يقين راسخ، ومعرفة تامة، وبينة واضحة في منهج الإسلام. {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]. ثم قال شعيب عليه السلام: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود:88] قال أهل التفسير: قصد النبوة، أو الرزق الحلال، قال ابن كثير: والأمر يحتمل، ومقصوده في سياق الآية: (ورزقني منه رزقاً حسنا) أي: أخذت من الحلال ما كان موافقاً لشرع الله، وتركت ما كان من الحرام مخالفاً لأمر الله. فالاستقامة هنا بعد وضوح المنهج، إن كل مصلح لا بد أن يكون قدوة ولا بد أن يكون مسابقاً لكل خير يدعو إليه، ومجتنباً لكل سوء أو شر يحذر منه، لا بد أن يكون قدوة تتعلق بها القلوب، وتتأثر بها النفوس، وتكون أنموذجاً يقتفى، وأسوة تحتذى. هذه معالم مهمة في الإصلاح، فما بال كثير من أهل الإصلاح يقولون ما لا يفعلون، ويدعون إلى ما عنه يتخلفون! ومن هنا أتبعها فقال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] إن أعظم أثر سلبي لدعوة الإصلاح أن يكون الداعي إليها أول مخالفٍ لها، كيف نقول إننا ننطلق من ثوابتنا ونحن نستورد من غيرنا؟ كيف يقول ذلك المصلح إنه يريد خيراً لوطنه وبلاده، وقلبه وفكره في خارجها؟ كيف يدعي أنه يريد الإصلاح كما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح، وهو يتلقى توجيهاته أو إرشاداته أو نظرياته أو أفكاره ممن ليسوا على دينه ولا على ملته، وليسوا من دياره ولا من بلاده؟ ثم كذلك: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] سواء كان ذلك في السر أو كان في العلن، ذكر ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: لا أنهاكم عن شيء وأخالفكم في السر فأفعله خفية عنكم، كما قاله قتادة، وقال كذلك: لم أكن أنهاكم عن أمر وأركبه، لما كان لهذا الأمر أثره في عدم قبول دعوة الإصلاح والتأثر بها. ثم قال: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88] وهذه قاعدة إصلاحية مهمة، قاعدة الإخلاص والتجرد عن المصالح الذاتية، قاعدة الارتباط بتغليب المصالح العامة للأمة. إن الداعية المصلح لا يريد شيئاً لنفسه، لا يريد حظاً لدنياه، لا يريد شيئاً يتصل به أو بجماعته أو بقبيلته أو بفئته، إن المصلح الحق إنما يريد وجه الله أولاً، وخير أمته وأبناء أمته ثانياً، لا يوجهه لذلك مصلحة ولا يرده عن ذلك مفسدة. لا يدعوه إلى ذلك مغنم، ولا يصده عن ذلك مغرم، إنما أساسه ورغبته الإصلاح، فإرادته الجازمة وغايته الواضحة: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]. وقضية الإصلاح والتغيير قضية ليست سهلة، ومن هنا جاء قوله عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فإنه لا يمكن أن تحقق دعوة إصلاحية أثرها إلا بتوفيق الله عز وجل، ولا يستدعى هذا التوفيق ولا يستجلب إلا بالإخلاص لله عز وجل، وكمال التجرد، والرغبة في خير هذه الأمة وإصلاحها. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] فالاعتماد عليه، والرجوع إليه، قال السعدي في تفسيره: وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد، وهما الاستعانة بربه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، وكما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن انطلقنا في دعوتنا للإصلاح مستعينين بالله، مستحضرين رجوعنا إليه، فذلك هو النهج القويم الذي ترجمته لنا آيات القرآن. نسأل الله عز وجل أن يصلح فساد قلوبنا ونفوسنا، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وأصلح أعمالنا، وحسن أقوالنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

رتباط دعوة الإصلاح بالداعي إليها وتوفيق الله له

رتباط دعوة الإصلاح بالداعي إليها وتوفيق الله له الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله عز وجل الارتباط بمنهجه وبإرشاده وتوجيهه فيما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في إصلاح أحوال العباد والبلاد، التي نسأل الله عز وجل أن يمن بها علينا وعلى بلادنا بلاد الحرمين الشريفين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بالنهج القويم، والصراط المستقيم، وأن يدرأ عنا الفتن والمحن والأغاليط والأباطيل، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ومضات الإصلاح في القرآن كثيرة، ولئن وقفنا مع هذه الآيات القليلات من جزء من قصة شعيب عليه السلام، فإن ما وراء ذلك أكثر وأظهر، ولنا عنه أحاديث لاحقة إن شاء الله. غير أني أورد هنا ما ذكره ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات، لما له من دلالة مهمة، عندما روى حديثاً عن أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه قريب منكم، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه بعيد منكم، فأنا أبعدكم منه) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح كما ذكره ابن كثير. وسياق هذا الحديث في هذه الآيات له دلالة على مسألة مهمة، إن دعوة الإصلاح ترتبط بالداعي إليها، فإذا نظرنا إلى الداعي وأحواله، فغلبت أحوال الخير عليه، فلم نعرفه إلا من أهل الصلاح والتقى، ولم نعرف له من المواقف إلا مواقف الخير والإصلاح، ولم نسمع له من الكلمات إلا كلمات البر والإحسان، ولم نر له من الأفعال إلا أفعال النجدة والإغاثة والإصلاح؛ فحينئذ قد جاء الشيء من معدنه فنقبله. أما إن كانت الأخرى، فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى ذلك، فإن كان ما نراه ونسمعه من دعوة للإصلاح بتاريخ نعرفه على غير الإصلاح، في أقوال وأفعال وأحوال وعلاقات، فينبغي ألا يغرنا حسن القول، وننسى مثل هذه القاعدة المهمة، على أن حسن الظن وهو مطلوب من المسلمين جميعاً لا ينبغي أن يكون نوعاً من الغفلة والسذاجة التي تضيع بها المصالح، فإن الأمور تنتظم أوائلها مع أواخرها، وتدل أواخرها على أوائلها، وهذه مسألة مهمة. وثمة ومضات كثيرة لا يتسع لها المقام، أذكر منها بعضاً ليكون لنا عنها حديث آخر بإذن الله عز وجل. أول ذلك: أن التوفيق الرباني مقرون بالدعوة الإصلاحية بإذن الله، فالإصلاح قرين التوفيق، كما قال عز وجل في شأن الخلاف بين الزوجين والإصلاح بينهما: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] أي: إن صلحت وخلصت النية للإصلاح جرى بإذن الله عز وجل التوفيق. ودعوة الإصلاح كذلك لها أثر مهم في الأمن والأمان من الهلاك: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117]، لم يقل: صالحون، بل (مصلحون)، فإذا كان الصلاح والإصلاح في الأمة سارياً فذلك من أسباب درء العذاب عنها بإذنه جل وعلا. والأساس الأول هو الارتباط بالله كما قال الحق جل وعلا: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:1 - 2]، قال ابن كثير في نقله عن المفسرين: (أصلح بالهم) أي: شأنهم أو حالهم أو أمرهم، وقال السعدي: أصلح دينهم ودنياهم، وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح ثوابهم بتنميته وتزكيته، وأصلح جميع أحوالهم. نسأل الله عز وجل أن يصلح أحوالنا، وأن يصلح قلوبنا ونفوسنا، وأن يرشد عقولنا وأفكارنا. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا بكتابك معتصمين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم زك قلوبنا، وطهر نفوسنا، وأرشد عقولنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم اجبر كسرنا، واغفر ذنبا، واستر عيبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، واجعلنا من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين، اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر وما بطن، عن بلدنا هذه خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم إذا قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين برحمتك يا رب العالمين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم أجمعين يا رب العالمين. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم خالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم في أنفسهم، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم اللهم لمن خلفهم آية، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا القوة والجبروت؛ نسألك اللهم أن تنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا عن الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر منهم ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

وقفات مع الحج والحجاج

وقفات مع الحج والحجاج فريضة الحج من أعظم الفرائض التي تجسد معنى الوحدة والألفة والأخوة بين المسلمين، وكذلك يتجسد فيها معنى الصبر والرفق والرحمة، لأنها فريضة عملية أكثر من كونها نظرية، ومن هنا فعلى المسلم أن يعلم حقيقة هذه الفريضة وما يجب عليه فيها، وأن يعلم الأحكام المتعلقة بها حتى يكون حجه مبروراً مقبولاً بإذنه سبحانه وتعالى.

بين يدي الموضوع

بين يدي الموضوع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وبعد: فهذا الدرس بعنوان (وقفات مع الحج والحجاج) وهذه الوقفات مختلفة، وليس بالضرورة أن تكون ضمن موضوع واحد، غير أنها كلها لها صلة وسبب بالحج، وهي عشر وقفات: أولها: فضائل ووصايا. الثانية: موجز أعمال الحج. الثالثة: منهجية التربية العملية. الرابعة: المطوفون والخدمات. الخامسة: التوعية والدعوة. السادسة: الأولويات والمهمات. السابعة: دراسات ومشروعات. الثامنة: قصص وأخبار. التاسعة: فتاوى مهمة. العاشرة: قصائد وأشعار.

فضائل الحج العامة والخاصة

فضائل الحج العامة والخاصة وأول هذه الوقفات: فضائل ووصايا. ومعلوم أن الحق سبحانه وتعالى رغب عباده في الفرائض والشعائر والواجبات والتكليفات بالأجر والفضل والمثوبة؛ لأن النفس بطبيعتها تحتاج إلى الترغيب لترتبط بالخير، وإلى الترهيب لتنفر من الشر. والفضائل في هذا الركن من أركان الإسلام كثيرة جداً، ونعرج فيها على سائر ما في الحج من المناسك والشعائر، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استمتعوا من هذا البيت، فإنه قد هدم مرتين ويرفع في الثالثة) وهذا تهييج وتشجيع على زيارة البيت وقصده للعمرة وللحج، وأيضاً حث النبي عليه الصلاة والسلام على فريضة الحج لما فيها من الأجر والفضل بقوله صلى الله عليه وسلم: (عجلوا الخروج إلى مكة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة). وأيضاً في حديث قدسي آخر يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام عن رب العزة والجلال: (إن عبداً صححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد علي لمحروم) أي أنه يحرم نفسه الأجر والمثوبة، كما يحرم نفسه الفائدة والمنفعة الإيمانية الروحية التي تعود عليه من هذه الفريضة العظيمة، وقد ثبت أن الحج من أفضل الأعمال؛ وذلك لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة مبرورة، وتفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها) وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام الحج بأنه جهاد، ومعلوم أن الجهاد عظيم في دين الله سبحانه وتعالى، وأنه من أعظم الأعمال مثوبة؛ إذ فيه بذل النفس والروح مع المال لله سبحانه وتعالى. ولما شابه الحج الجهاد في بعض معانيه -إذ هو بذل للجهد وراحة البدن، كما أنه بذل للمال والنفقة، كما أنه سعي في الطاعة والاستجابة رغم المشقة والكراهة التي ربما تكون في نفس الإنسان- قال النبي عليه الصلاة والسلام مخاطباً بعض أصحابه: (ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: حج البيت). أي: الحج هو الجهاد الذي لا شوكة فيه. وقال في حديث آخر: (الجهاد حج كل ضعيف). ووصف الحج بأنه أحسن الجهاد حينما قال عليه الصلاة والسلام: (لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور) وقال أيضاً: (نعم الجهاد الحج). ثم أعظم فضيلة في هذا الحج غفران الذنوب، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد). وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). ومن فضائل الحج أن الحاج ضيف على الله سبحانه وتعالى، وحق على الضيف أن يكرمه مضيفه، والله سبحانه تعالى أعظم وأكرم وأجود من يمنح ضيوفه ووفده، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم). وذلك أن الحاج والغازي في سبيل الله سبحانه وتعالى حق على الله سبحانه وتعالى أن يعطيه سؤاله وينجز له وعده. وأيضاً من الفضائل في الحج المسير إلى الحج، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فضيلته وأجره ومثوبته بقوله: (ما ترفع إبل الحاج رجلاً ولا تضع يداً إلا كتب الله له بها حسنة، ومحا عنه سيئة، أو رفعه بها درجة). وبعض مناسك الحج ورد التفضيل لها على وجه الخصوص، فالوقوف في يوم عرفة ورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف الملائكة، ويقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك) كما ورد بهذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام. وفي حديث عائشة: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة). والرمي وردت له فضيلة، كما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك) أي: مدخور لك أجره وثوابه عند الله سبحانه وتعالى. كذلك الحلق، فحينما يحلق الحاج شعره متبذلاً ومتجرداً من الزينة لله سبحانه وتعالى فله فضيلة وأجر أخبر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: (وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة). أما التلبية فقال فيها عليه الصلاة والسلام: (ما أهل مهل قط، ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة). والطواف قال فيه صلى الله عليه وسلم: (من طاف بالبيت سبعاً وصلى ركعتين كان كعتق رقبة). والأحاديث -أيضاً- أكثر من ذلك وأوسع، وهذه الأحاديث كلها من صحيح الجامع الصغير، أي أن الشيخ الألباني قد صححها، وهي بروايات مختلفة، فبعضها مختلف في ألفاظه عن البعض الآخر، والذي يتأمل يرى أن الحج ربما يكون من أعظم أو أكثر الفرائض ذكراً للمثوبة والأجر، وذلك لكون الحج فريضة في العمر مرة واحدة، وقد لا يدركه كثير من الناس إلا هذه المرة، بينما الصلاة كل يوم، والزكاة في كل عام، لكن الحج واجب في العمر مرة واحدة، وغالباً ما يقع للناس إلا مرة واحدة فقط، فلذا كان الأجر المذكور فيه عظيماً بصورة يظهر فيها أهميته، وفي نفس الوقت أثره وفائدته، ففيه غفران الذنوب، وفيه عود المرء كيوم ولدته أمه، وفيه مشابهته بالجهاد، وفيه من المعاني التي ذكرنا شيء كثير؛ إذ فيه كثير مما يتفرق في عبادات أخرى من الشعائر، سواء كانت فرائضاً أو سنناً.

وصايا مهمة للعازم على الحج

وصايا مهمة للعازم على الحج هنا جملة من الوصايا للذي يعزم على الحج نلخصها في الآتي: أولاً: أن يتوب العازم على الحج إلى الله سبحانه وتعالى توبة نصوحاً يقدمها بين يدي إقباله على الله سبحانه وتعالى وشروعه في هذه الفريضة التي مبناها الأول على الاستجابة والطاعة المطلقة لأمر الله، والسعي الدائب لنيل رضوان الله سبحانه وتعالى. ثم تحقيق الإخلاص وتحرير النية لله سبحانه وتعالى؛ لأن الحج في مغزاه الأول ومعناه الأعظم تحرير القصد لله سبحانه وتعالى. ومن ذلك أيضاً أنه ينبغي له عند تحقيق هذا المعنى أن يتحرى النفقة الحلال ليكون حجه أدعى وأجدر بالقبول عند الله سبحانه وتعالى. إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل حج لبيت الله مبرور ومما ينبغي للحاج أن يتهيأ به أن يتعلم المناسك، وأن يأخذ من فقهها ما يصح به حجه، وهو في حقه فرض عين؛ لأن على الإنسان أن يتعلم ما تصح به عبادته، كما لو حاز نصاب الزكاة فحينئذ يجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة وفرضها ومشروعيتها وما يجب في ماله لله سبحانه وتعالى، وإن عزم على الحج وجب عليه أن يتعلم أحكامه، ومشكلة الناس اليوم أنهم يتهيئون ويتزودون ويستعدون بكل شيء، إلا أن كثيراً منهم لا يتهيأ لمعرفة المناسك وتعلمها، فتجده يهيئ المال ويسأل عن الطريق وعن الراحة وعن المخيمات وغير ذلك، لكن لا يعتني بجانب أحكام المناسك. ومن ذلك -أيضاً- اختيار الرفقة الصالحة التي تعين على أمرين مهمين في هذه الفريضة: الأمر الأول: أمر العلم والفقه في المناسك. الأمر الثاني: عدم الإتيان بما يجرح كمال العبادة في الحج. إذ بعض الناس قد يأتي بالحج أركاناً وواجبات، لكنه لم يأت بالكمال من استغلال الأوقات في أنواع الطاعات، ولم يكن ممن يبتعد ويتقي كل ما قد يجرح أو ينقص أجر الحاج في حجه من أمور كثيرة يقع فيها الناس من غيبة أو نميمة أو جدال أو خصام أو سوء ظن أو نحو ذلك، أو أذى للناس والحجاج وغير ذلك من الأمور، فهذا مما ينبغي أن ينتبه له الحاج أيضاً. ومن هذه الوصايا -أيضاً- أن يأخذ الإنسان بالرفق وحسن الخلق والتحلي بالصبر، فإن هذه الفريضة نوع من الجهاد، ومهما بالغ الناس في الترفيه وإيجاد الخدمات من التكييف والطعام والفرش وكذا إلا أنها يبقى فيها نوع من المشقة والخشونة، فإذا لم يتحل الإنسان بالصبر ويوطن نفسه على أنه يبذل ويتحمل لأجل مرضاة الله سبحانه وتعالى فإنه عند وجود أقل عارض يجزع، وتجد كثيراً من الحجاج يبطلون حجهم أو يجرحونه إذا قلت برودة الماء أو تأخر وقت الطعام، وذلك بالجزع، ولم يكن عنده رحابة الصدر ولا لين الجانب، ولا إظهار هذه الأخلاقيات التي هي من تمام وكمال هذا الفرض. وكذلك -أيضاً- يحتاج الحاج إلى أن يستصحب الزاد الذي أخبر الله عز وجل عنه في فريضة الحج على وجه الخصوص، حينما قال جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] فاستحضار التقوى من التوقي لكل ما فيه معصية لله عز وجل أو كراهة أو حرمة، وكذلك الحرص على كل ما فيه طاعة وفضيلة وأجر. والوصية التي بعدها حسن المعاملة وعدم الأذى، فإن حسن المعاملة مع الناس مطلوبة، لكن في كثير من الأحوال قد لا يستطيع الإنسان بحكم شغله أو بعده أن لا يتعامل إلا مع فئة محدودة أو قليلة، لكنه في الحج قطعاً يتعامل مع كثير من الناس شاء أم أبى، سواء أكانوا في طوافهم، أم في رميهم، أم في سيرهم وحلهم وترحالهم، ويتعامل مع أناس لا يعرف لغتهم، ولا يعرف تفكيرهم، ولم يسبق له معرفتهم، فلذلك لابد من أن يجمع العزم على أن يكون حسن التعامل لين الجانب. وآخر وصية هي أن يستحضر التواضع والبعد عن كل أسباب الكبرياء؛ فإن الحج مبناه الأعظم على أن الإنسان قد تجرد من هذه الدنيا وزينتها، ومن الفوارق التي تفرق بينه وبين الآخرين، فأجدر به أن يراعي التواضع واللين مع حجاج بيت الله الحرام؛ لأنه إذا ذل لله سبحانه وتعالى ينبغي أن يلين لإخوانه المؤمنين.

موجز أعمال الحج

موجز أعمال الحج

حقيقة الأنساك الثلاثة للحج

حقيقة الأنساك الثلاثة للحج أولها: التمتع، وهو أن يأتي بالعمرة كاملة ثم يتحلل من إحرامه ويتمتع من عمرته إلى حجه بمعنى أنه يأتي بكل شيء كان يفعله قبل إحرامه حتى معاشرة النساء، ثم إذا جاء الحج أحرم من مكة للحج، لكن إذا خرج من المواقيت فإنه لا يكون متمتعاً. النسك الثاني هو الإفراد، وهو أن يأتي بالحج مفرداً ليس معه عمرة، فلا يطوف إلا طواف الحج، ولا يسعى إلا سعي الحج، طواف وسعي واحد فقط، وهذا إن لم يكن أتى بعمرة قبل ذلك فالألزم له أن يأتي بعمرة ولو بعد الحج، أو قبله، لكن إن جاء بالعمرة قبل الحج فالأولى والأتم له أن ينويها تمتعاً. النسك الثالث القران، وهو الذي يجمع فيه بين الحج والعمرة معاً، وذلك بأن يقرنهما معاً، وأن يسوق الهدي؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من لم يسق الهدي فليحل وليجعلها عمرة ثم ليتمتع إلى الحج) فإن كان قد ساق الهدي فهو الذي يقرن بين الحج والعمرة، والصحيح من أقوال أهل العلم -كما أفاض وتوسع بذلك ابن القيم في زاد المعاد- أنه ليس عليه في قرانه بين الحج والعمرة إلا سعي واحد فقط، وهذا خلاف لمن أوجب السعيين على القارن، والقول الأول -وهو قول كثير من أهل العلم- انتصر له ابن القيم -كما أشرت- في زاد المعاد انتصاراً عجيباً جداً، وأصاب فيه، حتى ذكر لذلك اثنين وعشرين دليلاً واستنباطاً، ثم كر على كل رواية تشبث بها القائلون بالرأي الآخر، وبين إما ضعفها أو عدم صحة الاستنباط إن كانت الرواية صحيحة، ولعل هذا المبحث -والله أعلم- من أوسع ما كتب أهل العلم في هذه المسألة على وجه الخصوص.

صفة الأنساك الثلاثة للحج

صفة الأنساك الثلاثة للحج الصفة الموجزة للحج بالنسبة للمتمتع أنه يطوف ويسعى للعمرة، أن يطوف بالبيت سبعاً، وأن يجعل البيت عن يساره، يبدأ من الحجر الأسود وينتهي إليه، ثم يسعى بادئاً من الصفا وينتهي إلى المروة، من الصفا إلى المروة شوط، وليس كما يقع من بعض الناس أنهم يجعلون الذهاب والإياب شوطاً واحداً فيسعون أربعة عشر شوطاً، وهذا يقع من كثير من الناس، وعندما يفعلون ذلك يختلط عليهم العد، فربما يسعون عشرة أو ثلاثة عشر أو أربعة عشر إلى آخر ذلك، خاصة مع زحام الحج لا يستطيع أن يضبط الطائف العدد، ويقع لهم بذلك مشقة كبيرة، وللأسف أنه يقع في هذا عدد غير قليل من الحجاج، بل ربما يقطع سعيه لعدم القدرة على الإكمال، وما عرف أن السعي المطلوب هو أشواط سبعة فقط. ثم إذا جاء الحج ينوي بالحج. أما المفرد فإنه إذا قدم إلى مكة فإما أن يقدم إليها في اليوم الثامن أو يتوجه إلى منى، فله الخيار، فإذا قدم مكة وأراد أن يقدم سعي الحج فإنه يطوف طواف القدوم إن كان من غير أهل جدة ومن حاذاها، أو يعتبره طواف الركن لتقدمه على السعي ثم يسعى، فيكون هذا السعي سعي الحج، وإن لم يفعل توجه إلى منى في اليوم الثامن وهو يوم التروية، والذهاب إلى منى يوم الثامن سنة، فيصلي بها خمسة فروض: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر يقصر منها ما حقه القصر، ثم ينطلق من منى إلى عرفة في اليوم التاسع، والوقوف في عرفة ركن، والأولى أن لا يدخل إلى عرفة إلا بعد زوال الشمس، أي: قبيل الظهر بقليل، أو وقت دخول صلاة الظهر. فإذا دخل عرفة فإنه يصلي بها الظهر والعصر جمع تقديم، ويستمع لخطبة الإمام، وليس في عرفة من مشاعر محددة أو أعمال معينة إلا الإلحاح بالدعاء والاشتغال بالذكر والتضرع لله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي ينبغي أن ينشغل به الإنسان من تلاوة للقرآن وذكر لله ودعاءٍ وتضرع متصل لله سبحانه وتعالى. وعرفة كلها موقف لا يحتاج الإنسان فيها إلى أن يحدد مكاناً بعينه، وإن تيسر له أن يقف في الصخرات في أسفل الجبل كما وقف النبي عليه الصلاة والسلام فعل، وإلا فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة). ثم يدفع من عرفة بعد غروب الشمس، ولذلك قال أهل العلم: الأكمل أن يجمع في عرفة بين النهار والليل، لكن الصحيح أن الوقوف بعرفة وقته من بعد الزوال إلى فجر يوم العيد، فلو أنه لم يدرك النهار ثم جاء إلى عرفة بعد غروب الشمس ووقف بها صح حجه وتم ولا شيء عليه. قال أهل العلم: إنه لو وقف قبل الزوال ثم خرج في ذلك الوقت فإنه لا يعد واقفاً بعرفة، وإذا فاته الوقوف بعرفة فاته الركن، وإذا فاته الركن بطل حجه ووجب عليه قضاؤه. وهذا في عرفة، ثم يدفع إلى مزدلفة، والمبيت بها واجب، ويصلي بها المغرب والعشاء جمع تأخير، وللرعاة والسقاة وأصحاب الحاجات والنساء والضعفة أن يدفعوا من مزدلفة بعد منتصف الليل، والسنة والتمام والكمال أن يبقى الحاج إلى صلاة الفجر، ثم يصلي الفجر ويبقى حتى يسفر النهار -أي: حتى يبدو الضوء وينبلج الفجر- ثم بعد ذلك يذهب إلى منى ويكون قد دخل في اليوم العاشر يوم العيد. وهذا اليوم تقضى فيه معظم أعمال الحج، يكون فيه رمي جمرة العقبة وهو واجب، وفيه طواف الإفاضة وهو ركن، وبذلك تكتمل الأربعة الأركان: الإحرام، وسعي الحج، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة. ففي يوم النحر رمي جمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى، ووقته ممتد من بعد منتصف الليل كما وصفه بعض أهل العلم، أو من بعد الفجر إلى آخر ذلك اليوم. وفيه طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة. وكذلك الحلق أو التقصير، وكذلك ذبح الهدي أو الفدية، فهذه أربعة أعمال له أن يقدم منها ما شاء وأن يؤخر منها ما يشاء، وإن لم يكن سعى سعي الحج فيحسن به أن يسعى سعي الحج بعد طواف الإفاضة، فهذه الأعمال السنة أداؤها في يوم النحر، هذا إن استطاع ذلك، وإن لم يستطع فإن مدتها ممتدة إلى آخر أيام التشريق، بل إلى آخر أيام الحج إن كان هناك عذر كحيض المرأة أو نفاسها، أو وجود علة من مرض أو نحو ذلك، فإن له أن يؤخر بعض هذه الأعمال إلى اليوم الثاني أو الثالث، بل إلى ما وراء ذلك، وهذه الأعمال -كما أشرت- ليس هناك من ضرورة في التقديم أو التأخير فيها، بل كيف ما اتفق له، وإن تيسر له متابعة فعل النبي عليه الصلاة والسلام فإنه أكمل وأتم في هذا الأمر. والحلق أفضل من التقصير، والذبح الأكمل فيه والسنة فيه أن يباشره بنفسه إن استطاع، وإن شق عليه لعدم معرفته -كما هو الحال الآن- أو للزحام فإنه يوكل غيره، وهذا التوكيل صحيح ولا شيء فيه، ثم يبقى بعد ذلك في منى أيام التشريق الثلاثة، أو يبقى الحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر هو مخير فيه بشرط أن يخرج قبل مغيب الشمس إن تعجل في يومين، وليس هناك من أعمال في هذه الأيام سوى المبيت بمنى وهو واجب، ورمي الجمار الثلاث وهو -أيضاً- واجب. ويرمي الجمار على الترتيب الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى، ويقولون: رمي الأولى والثانية يأخذ ناحية اليسار ويجعل القبلة أمامه، ويتوجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، فقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو في هذه المواضع بقدر سورة البقرة، هذا موجز هذه الشعائر. فإن استطاع أن ينفر في اليوم الثاني عشر فلينفر قبل الغروب، فإن أدركه الغروب قبل النية والشروع في الخروج من منى فإنه يلزمه أن يبيت بمنى وأن يبقى اليوم الثالث عشر فيها إلى ما بعد الزوال حتى يرمي. وإن كان قد شرع في الخروج لكن أدركه الزحام ونحو ذلك فلا شيء عليه أن يخرج ولو غربت الشمس وهو ما يزال في حدود منى.

التربية العملية في الحج

التربية العملية في الحج إن هذا الدين علم أتباعه وأمة الإسلام بأسلوب عملي لتتحقق الفرائض والأحكام والآداب التي أمر الله سبحانه وتعالى بها. إن الأمور في التعليم تنقسم إلى قسمين: ناحية نظرية، وناحية عملية، والناحية النظرية على أهميتها كثيراً ما يبقى تأثيرها ضعيفاً حتى يأتي التطبيق العملي، ولذلك الدرس العظيم في هذا الحج هو أنه ينقل كل الأوامر والتشريعات في صورة عملية كاملة، فليست المسألة مسألة أقوال، وإنما يضرب الله سبحانه وتعالى من خلال هذه الفريضة أمثلة عملية تتربى الأمة عليها؛ لأن المقصود هو العمل، قال عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] فلم يقل الله عز وجل: تكلموا أو فكروا. وإنما قال: (اعملوا) والعمل هو المقصود؛ لأنه -في الحقيقة- هو ثمرة العلم، وثمرة هذا الدين إنما هي العمل. ولذلك لما ذكر الله سبحانه وتعالى الاستخلاف في الأرض قال: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] ليس: كيف تقولون. ولا: كيف تتصورون أو تفكرون!

الإخاء والمساواة

الإخاء والمساواة إن كل دروس الحج إنما هي دروس عملية، ونأخذ بعض هذه الدروس من حيث التربية العملية، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال في حجة الوداع: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) فهذه مقالة تتجلى فيها العملية لتحقق هذه المقالة، بينما غيرها من أقوال الناس أو الدول تبقى نظريات حالمة، أو خيالاً وأمنيات لا يصل إليها الواقع، ونحن اليوم في هذا العصر وفي هذا الزمن وفي ظل النظام الدولي الجديد يقولون: المساواة ونبذ العنصرية. ثم تجد أن التطبيق العملي على عكس ذلك في كثير من الصور والأوضاع والوقائع، لكن في الحج تجد فيه درس المساواة ونبذ العنصرية متجدد بصورة عملية، فإذا الأسود إلى جوار الأبيض، وإذا الضعيف إلى جوار الغني، وإذا صاحب النسب إلى جوار من ليس له شرف في نسب، صورة عميلة متجسدة توقن من خلالها الأمة أن المساواة حتم لازم بإذن الله سبحانه وتعالى. فأي نظام يدعي المساواة يستطيع أن يأتي بعشر معشار ذلك المشهد العظيم الذي يتم في الحج وتتجسد فيه المساواة بصورة عملية لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، ولا بين غني وفقير، ولا بين عالم وجاهل؟! بل الكل في ميزان الشرع وفي ميزان الإسلام سواء، لا يتفاضلون إلا بتقواهم لله عز وجل.

وحدة الأمة المسلمة ومظاهرها

وحدة الأمة المسلمة ومظاهرها حينما يأتي الأمر من الله سبحانه وتعالى للأمة المسلمة أن تكون أمة واحدة فإن هذا الدرس يبقى نظرياً، وتأتي شعيرة وفريضة الحج وتجسد هذا الأمر تجسيداً عملياً، فإذا الأمة في تلك المشاعر وفي تلك المواقف وفي تلك الأعمال وحدة كاملة، وهذه الوحدة حديثة في صورتها العملية في الحج؛ لأنها تدل على ما ينبغي أن تبنى عليها الوحدة، ليست وحدة حكومات ولا وحدة قرارات، وإنما تبدأ من أغوار النفوس وأعماق القلوب، فإذا بالقلوب في مشاعرها واحدة، وأمنية النفس وطلب الإنسان في تلك الأماكن والمناسك كله طلب واحد ومشاعر واحدة. بل إنهم في شعارهم ولباسهم على حال واحد، ثم الهتاف والقول: (لبيك -اللهم- لبيك) هتاف واحد، ثم هم في العمل والمسير على عمل ومسير واحد من منسك إلى منسك، ثم هم -أيضاً- في الانتهاء والإفضاء والخروج من هذه الفريضة على خروج وإفضاء واحد، ليدل على أن مسألة الوحدة ليست قضية شكلية، بل هي قضية كلية ينبغي أن تشمل كل العوامل التي في المسلم الواحد، بدءاً من مشاعره ومن تصوراته ومن شعاراته ومن مظهره ومن أعماله، بحيث تصاغ صيغة واحدة. ولذلك الوحدة التي طال الحديث عنها وتشدق بها كثيرون من أهل القومية أو من أهل البعث أو غيرهم كلها نكصت على رءوسهم؛ لأنها لم تكن على أسس الإسلام أصلاً، ولم تكن حتى على أسس مرضية في المنهج من حيث الأصل، بل كانت على مصالح، بينما ما أراده الله عز وجل أن يتجسد في الحج حتى يكون أمراً ظاهراً على الأمة بمجموعها في دولها وفي علمائها وفي حكامها على الوحدة العملية تراه حقيقة، فإن وحدة الشعوب ووحدة المسلمين في فريضة الحج كأنها تلغي كل سبب من أسباب الفرقة، وتلغي الحدود وتلغي شروط الجنسيات وتلغي -أيضاً- الطبقيات، تلغي كل ما خالف فيه المسلمون أمر الله سبحانه وتعالى، وتعطي المسألة قابلية للتطبيق خلافاً لمن يستبعد هذا ويقول: لا يمكن أن تجتمع الأمة أو أن تكون أمة واحدة.

كف الأذى

كف الأذى من الدروس العملية في التربية الإيمانية للحج أن يكون الإنسان المسلم كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: ينبغي للمسلم أن لا يصدر عنه إلا الخير في الحج، فيأمن أذاه وشره ليس المسلم فحسب وليس الإنسان فحسب، بل الشجر والصيد، ولذلك من محظورات الإحرام الصيد، وفي منطقة الحرم لا يقطع الشجر ولا ينفر الصيد فيها، كل هذا يهذب الإنسان المسلم بصورة عملية، لينزع النفسية العدوانية الإجرامية، فلا تبقى عنده هذه الروح إلا فيما هو انتصار لحرمات الله سبحانه وتعالى وغضبه على أعداء الله عز وجل. ولذلك فدعاوى السلام ودعاوى الإنسانية ودعاوى مقاومة الإرهاب التي تقال اليوم كلها دعاوى في غالب الأحيان يعكس الواقع ضدها، لكن الإسلام الذي يتهم اليوم أربابه وأصحابه بالإرهاب هو الذي يربي أتباعه على المسالمة وعلى كف الأذى تربية عملية متكاملة.

القدرة والاستعداد على التغيير

القدرة والاستعداد على التغيير إن القدرة والاستعداد على التغيير هي أن يغير الإنسان السوء إلى الحسن، والمعصية إلى الطاعة، فكثيراً ما يجد الإنسان أنه يدور في حلقة مفرغة، يسمع العبرة والتذكرة ويتأثر بها ثم لا يُغَيِّر أو يُغَيَّر ثم يرجع، فتأتي فريضة الحج وإذا بها دورة عملية فيها من أولها إلى آخرها استجابة موفقة لله عز وجل وبعد تام وتوق دقيق لكل معصية ومخالفة لأمر الله عز وجل، فإذا بها ترفع في الإنسان المسلم فعالية وقدرة التغيير نحو الأصلح، والله عز وجل قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. إذاً في الحج تتغير النفوس والقلوب تغيراً جذرياً، هذا إذا أديت العبادة على وجهها المطلوب ووفق حكمتها ومشروعيتها التي أرادها الله سبحانه وتعالى، فإنك تجد هذه القدرة ترتبط بهذه المعاني، فالمسلم في الحج يحظر عليه أن يقص شعره، وأن يقلم ظفره، أو أن يقطع شجرة، بهذه الأوامر يتعود على أن لا يقطع حرمة المسلم، وهو في الحج لا يستعمل الطيب بعد إحرامه ولا يمسه، والطيب في الأصل حلال، فبهذا يتعود على الاستجابة لأمر الله بحيث لا يمس شيئاً مما حرمه الله عز وجل، فلا يمس مالاً حراماً ولا يمس امرأة حراماً، ولا يمس أي أمر فيه حرمة وكراهة في شرع الله سبحانه وتعالى. ثم إنك -أيها المسلم- تخلع المخيط لتخلع زينة الدنيا وتتحلى بلباس التقوى، ولذلك ينبغي أن تتعود على أن تنخلع من كل معصية ومن كل أمر تتحلى وتتزين به، إلا أن يكون ذلك كما قال الله سبحانه تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. وكذلك يستجيب الإنسان المسلم لأمر الله سبحانه وتعالى حيث يرفع صوته بالتلبية ويعلنها: (لبيك -اللهم- لبيك) وما من عبادة إلا والنية فيها مضمرة، إلا الحج فإنه يصرح ويقول: لبيك -اللهم- حجاً. أو: لبيك -اللهم- عمرة. لأن هذه الفريضة مقصود فيها إعلان الاستجابة والتعود عليها، ولذلك حينما ترمي الجمار فإنك تعلن العداء للشيطان والمناوأة له، وتعلن همتك الإيمانية على قدرتك على تجاوز وسواسه وهمزه ونفثه لتطيع الله سبحانه وتعالى وتدحر الشيطان وما يضلك به أو يوسوس به إليك. والدروس في ذلك كثيرة، لكنها في الحج تتجسد في صورة تربوية عملية وهذا من الأمور المهمة.

المطوفون والخدمات في الحج

المطوفون والخدمات في الحج الوقفة الرابعة: المطوفون والخدمات والمتأمل الآن يجد أن إعلانات المطوفين تشمل الإغراءات التي ترغب الناس فيما عندهم والحج معهم، فإذا بهم يذكرون تكييف الحافلات، وتوفير الوجبات، والقرب من الجمرات وغير ذلك من الأسباب، ربما كلها لا تعدو أن تكون أسباباً مادية، بينما لا تجد مثلاً من يقول: هناك دروس ومحاضرات، هناك تنبيهات وإرشادات. وهذه الظاهرة ليست من جانبهم، بل في الحقيقة هي صدى للجانب الآخر وهم الحجاج، تجد من يريد الحج يسأل من حج في العام الماضي: كيف كان المطوف؟! كيف كان الطعام؟! كيف كان الشراب؟! كيف كانت المواصلات؟! لا يسأل عن شيء آخر، فالمطوفون إذا احتج عليهم بمثل هذا قالوا: نحن نبذل ما يرغب فيه الحجاج أنفسهم. إذاً ينبغي أن يحرص المطوفون والحجاج على عدم التلبس بالمنكرات، والحرص الشديد -أيضاً- على استغلال الأوقات؛ لأن بعض الناس خاصة في أيام التشريق بعد أنت تنتهي المناسك يتلبسون بالمنكرات، وبعضهم الآخر بالمخالفات، وأقل ما يقال فيها: إنها مكروهات. فإذا بهم يشربون الدخان، ويلعبون الورق، وإذا بهم يتكلمون فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وهذا لا شك أنه ناتج عن هذا الفراغ، وربما كان ناتجاً عن بعض مسئوليات أولئك المطوفين. أيضاً ينبغي أن يعتمد هؤلاء المطوفون على توفيق الله سبحانه وتعالى، وليس فقط على جهدهم، فتجد المطوف يعد الناس بكل شيء، وإذا قالوا: هل عندك كذا يقول: نعم عندي كل ذلك، وأنا جاهز بكل وجه. ونحو ذلك، وينسى أن يقول: إن شاء الله. وينسى أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقه أن يؤدي الدور كما يشاء. إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده لكن على المطوف حين يهيئ كل شيء أن يستعين بالله عز وجل، وأن لا يركن إلى أنه قد حسب لكل أمر حسابه؛ لأنه قد تختلط الحسابات في الحج، قد يحسب حساب المواصلات ويختار طرقاً قليلة الزحام فإذا بها في ذلك العام هي الطرق التي يشتد زحامها، وغير ذلك من الأمور. أيضاً على المطوف أن يكون حريصاً على معرفة الأخطاء حتى يتجنبها في أعوام قادمة، فلماذا لا يسأل الناس عن آرائهم عما عرض لهم من مشكلات، وعن مقترحاتهم التي قد ينتفعون وينتفع هو بها أيضاً في أعوام قادمة؟!

التوعية والدعوة في الحج

التوعية والدعوة في الحج إن موسم الحج أعظم تجمع، وهو أكبر فرصة للتوعية والدعوة للمسلمين من كل مكان، فتصور كل معنى وفائدة يجنيها هذا المسلم يعود بها إلى بلده، وتجد أن كماًَ هائلاً من الحجاج في غالب الأحوال مع حجاج الداخل والخارج قد يبلغون المليونين من الحجاج. ونقف هنا وقفات: الأولى: الدعاة الرسميون التابعون للهيئة العامة للدعوة والإفتاء والإرشاد قد يبلغ عددهم في بعض الأعوام مائة وخمسة فقط، ولو قسمناهم على أعداد الحجاج ربما يكون نصيب العشرة آلاف أو الخمسة عشر ألفاً من الحجاج واحداً من هؤلاء الدعاة، فلا شك أن هذا في غالب الأمر لا يؤدي الدور كاملاً، بينما في المقابل -لا على سبيل المقارنة- تجد -مثلاً- أن عقد النظافة بمنطقة المشاعر يضم أربعة وعشرين ألف عامل لينظفوا الشوارع والطرقات، ومائة وخمسة ليعلموا الناس فريضة الحج! هل جاء الناس فقط ليتنظفوا أم ليحجوا فيقفوا في عرفة ويبيتوا بمزدلفة ويرموا الجمرات ويخلطوا خلطاً عجيباً؟! لأن بعض الناس لا يعرف شيئاً عن الحج. الثانية: اللغات. فكثيراً ما تقع التوعية باللغة العربية، وكأن الحج ليس فيه من ينطقون غير العربية، والصحيح غير ذلك، فتجد أن التوعية تكون قاصرة، وأذكر مرة أنا كنا في بطن عرنة ننتظر الزوال حتى ندخل إلى عرفة، فكانت سيارات التوعية بمكبرات الصوت ينادى فيها: أيها الحاج! أنت خارج عرفة لا يصح بقاؤك في هذا المكان، يجب أن تدخل عرفة وإلا بطل حجك، ويتكرر النداء عشرات وعشرات. فتلتفت يمنة ويسرة فتجد بعض الناس لا يعرفون ماذا يقول هذا الرجل؛ لأنهم لا يعرفون اللغة العربية، فهل هو ينادي على بضاعة يبيعها، أو هو صاحب إسعاف يريد أن ينقذ الجرحى والمرضى؟! لا يعرفون شيئاً، لذلك فمسألة اللغات مهمة في التوعية، وربما تكون من المقترحات النافعة والمفيدة أن الجهات الشرعية في تلك البلاد -سواء أكانت رئاسة إفتاء أم وزارة حج أو أوقاف أم نحو ذلك- تكاتب هيئة التوعية في المملكة لتنتدب بعضاً من أولئك العلماء والدعاة في تلك البلاد ليدخلوا ضمن برنامج التوعية التي تقوم به الرئاسة في المملكة حتى تستكمل جوانب النقص. الثالثة: توزيع الكتب والأشرطة. والكتب والأشرطة توزع باللغة العربية، بينما تجد أكثر الحجاج لا يعرفون العربية، ولو وجدت بدل هذه الكتب نشرة واحدة موجزة بلغات مختلفة ربما انتفع بها الناس أكثر من هذه الكتب. ونحن نجد في فترة ما قبل الحج أن مئات الآلاف من الكتيبات الصغيرة النافعة توزع على الناس وربما كان كثير منهم لا يحجون ويجعلونها في بيوتهم، وبعضهم يحجون وهم قد عرفوها وعرفوا ما فيها، بينما الكثير من يحتاجون إلى هذه التوعية لا تصل إليهم بالصورة المطلوبة. الرابعة: أن التوعية لا ينبغي أن تكون في الحج، بل ينبغي أن تكون قبل الحج؛ لأن أكثر الحجاج بعد أن يخطئ ويخلط ويجعل عاليها سافلها يأتي فيسأل ويجد أنه قد أتى بالحج على غير وجهه من أوله إلى آخره، بينما المطلوب أن تكون التوعية قبل الحج، ويمكن أن تكون هناك أمور ميسرة، ذلك أن تقوم الجهات المسئولة بعقد دورة لمدة يوم أو نصف يوم فقط يتعلم الحجاج فيها المناسك بصورة موجزة، ويعطى بها شهادة أو ورقة، ولا يأخذ تأشيرته إلى الحج إلا بعد أن يعرف المناسك؛ لأننا لا نريد أن نستكثر من عدد الحجاج الذين لا يعرفون كيف يحجون ثم يبطل حجهم ويرجعون مرة أخرى وقد لا يتيسر لهم الرجوع. وهناك -أيضاً- اقتراح، وهو أن تقوم جهات مسئولة في المملكة -ثل وزارة الحج أو غيرها- تصوير شريط فيديو لمدة نصف ساعة عن المناسك، مجموعة من الناس يقومون بالمناسك ويذهبون إلى منى وإلى عرفة في أوقات فراغها، وهذا الشريط يرتب ويذكر التعليق عليه بلغات مختلفة، حتى يوزع على كل الحجاج قبل أن يأتوا أو عندما يأتون، لأجل أن يعرفوا هذه المناطق عبر هذه الصور؛ لأن بعض الحجاج لا يعرفون سوى الكعبة بيت الله الحرام، لكن لا يعرفون عرفة ولا المشعر الحرام، مسميات لا يعرفون حقائقها ولا صورتها، فلذلك تجد أسئلة بعض الحجاج غريبة أحياناً، تراه يأتي فيسأل عن مقام إبراهيم، ربما يظنه جبلاً أو يظنه شيئاً آخر، فليس عنده أي فكرة عن هذه الأسماء وحقيقتها، فمثل هذه التوعية يبدو أنها من أهم القضايا التي تنفع الحجاج، وللأسف الشديد أن كثيراً منها غير موجود.

الأولويات والمهمات في الحج

الأولويات والمهمات في الحج حينما نتأمل في هذا الحج العظيم نجد أنه مؤتمر إسلامي كبير ضخم، فينبغي للأمة أن تستغله بالاستغلال المناسب، ومن أعظم هذا الاستغلال أن تكون في هذا الحج مناقشة الأولويات والمهمات، ليس التركيز على العوارض اليسيرة والقضايا السهلة، فإننا لو تأملنا خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع نجد هذا المعنى متجسداً، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما خطب الأمة في ذلك اليوم العظيم والمشهد الحافل ما تحدث عن قضايا صغيرة، وإنما عن القضايا المهمة، وتأمل حديثه عليه الصلاة والسلام كما ورد في الصحيحين من حديث أبي بكر رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما، قال أبو بكر: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ ثم قال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) فتحدث عن حرمة المسلم بهذا الأسلوب العظيم؛ لأن من أعظم القضايا والمهمات في حياة الأمة المسلمة أن يرعي المسلمون حرمة بعضهم، وأن يقاتلوا من ينتهك هذه الحرمة من أعداء الله سبحانه وتعالى، ولذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث وهذه الخطبة: (وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً أو ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم! فاشهد) وفي بعض الروايات في مسند الإمام أحمد أنه عليه الصلاة والسلام قال في هذه الخطبة: (اسمعوا مني تعوا: ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكنه رضي في التحريش بينكم، واتقوا الله في النساء؛ فإنهن عندكم عوان -يعني: أسيرات- لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً، وحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذنَّ في بيوتكم لأحد تكرهونه) إلى آخر ما قال، ثم قال: (يا أيها الناس! إن ربكم واحد وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى) وقال في رواية عند الطبراني: (وأُحَدِّثكُم من المسلم؟ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأُحدِّثكم من المؤمن؟ المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، وأُحدِّثكم من المهاجر؟ المهاجر من هجر السيئات، والمؤمن حرام على المؤمن كحرمة هذا اليوم، لحمه عليه حرام أن يأكله بالغيبة يغتابه، وعرضه عليه حرام أن يظلمه، وزاده عليه حرام أن يدفعه دفعاً، وأذاه عليه حرام أن يدفعه دفعاً). وفي روايات أخرى يقول: (كل رباً من ربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب) ناقش النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة القضايا الكلية للأمة المسلمة. وهذا الحج بهذا الحشد الجامع والمؤتمر العظيم فيه هو -أيضاً- مقياس لنبض هذه الأمة، فإذا رأيناها قد التفتت فيه إلى مهمات الأمور وناقشت كبريات القضايا، وكذلك ظهر فيها العلم والوعي، وظهر في سلوكياتها الرحمة والتآلف، وظهر من سلوكياتها الوحدة والقوة فهذا مؤشر بأن الحجاج نموذج متكامل للأمة المسلمة مع اختلاف البلاد أو اللغات أو مستويات التعليم أو غير ذلك.

دراسات ومشروعات في الحج

دراسات ومشروعات في الحج أشير إلى بعض المشروعات التطبيقية العملية التي تنفع، والتي ربما هي من مقاييس القدرة العملية على اتخاذ القرار المناسب المبني على الدراسة والعلم والتنفيذ، فهناك مشروعان أشير إليهما سريعاً: المشروع الأول: مشروع مقاومة الافتراش، وهذه المشكلة يعاني منها الحجاج، وكأن الأمة كلها تعجز عن حلها، والمقصود بالافتراش هو افتراش الحجاج للمناطق تحت الكباري، خاصة عند الجمرات، فعرض منطقة كل جمرة ثمانين متراً، الذي يبقى منها وقت الحج من اليوم الثامن حين يبدأ الحج يبقى متران: متر للذهاب ومتر للإياب، ويحصل هناك من المفاسد الشرعية من التبرج والاختلاط ومن المفاسد الصحية وغيرها كثير، وكل عام يتكرر هذا المشهد، وهو دليل عجز الأمة عن حلول مشكلات يسيرة وتافهة. إلا أنه -بإذن الله تعالى- سيبنى مركز أبحاث الحج، يكون عمله دراسة مفصلة ومقترحات واضحة فيما يتعلق بالحجاج، ونرجو أن يكون هذا التطبيق جيداً وناجحاً في مقاومة الافتراش كما سمي هذا المشروع، وهو سيطبق لأول مرة منذ أن بدأ الحج في السنوات الأخيرة. المشروع الثاني: ترقيم الأراضي في منى، وهذه تفيد في إرشاد الضائعين والتائهين، فكثيراً ما تختلط المناطق مع زحام الحجاج، وقد سبق أن قامت فرق الجوالة وجمعية الكشافة بالترقيم، لكن على الأرض الإسفلتية، وهذا الترقيم لم يحل المشكلة بسبب أنه قد تقف سيارة على الرقم أو يأتي حاج فيفترش الأرض فوق الرقم، مما يجعل المرشد والحاج يتوهان عندما يبحثان عن المكان. وهذا المشروع تبنته جامعة الملك سعود، وستكون المناطق واضحة تخدم كل من يريد أن يستدل على مكان بعينه، وأيضاً تفيد في مسائل الخرائط.

قصص وأخبار في الحج

قصص وأخبار في الحج الحج عبر امتداده الطويل فيه كثير من القصص والمشاهد، نقف عند بعض منها بشكل موجز، من هذه القصص في سير سلف الأمة ما هو معروف ومشهور من سيرة عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه ورضي الله عنه، فقد كان مشهوراً أنه يحج عاماً ويغزو عاماً، وكان يحب أن يحج الناس على نفقته، ولذلك كان يحب الناس أن يحجوا معه لينتفعوا بعلمه، فالناس فيما مضى كانوا يصحبون العلماء لينتفعوا بمعرفة المناسك ويتعظوا ويتذكروا، فكان إذا جاءه الناس ليحجوا معه يقول: ائتوني بنفقتكم. فيأتي كل بنفقته فيضع عليها اسمه، ثم يجمعها كلها في خزينة عنده، ثم لا يأخذ منها شيئاً، ويخرج بالحجاج ينفق عليهم منذ خروجهم من مرو التي كان فيها في بلاد المشرق حتى يحجوا، فإذا انتهى حجهم سألهم: من عندكم من الأولاد؟ وماذا تريدون أن تهدوا لهم؟ فبعد أن يخبروه يقوم فيشتري لهم الهدايا واللطائف، ثم إذا رجعوا بيض بيوتهم على ما هي العادة، حيث يبيضون البيوت فرحاً بالحج وإشارة إلى أنهم أدوا فريضة الحج، ثم يجمعهم بعد ثلاث ليال في وليمة فرحاً بما يسر الله من أداء الحج، ثم يعطي كل واحد منهم نفقته التي كان قد أعدها لنفسه، فقيل له: لماذا لا تتركها لهم حين جاءوك بها؟ قال: حتى لا يستكثروا منة لي عليهم، وحتى لا يشعروا أن في حجهم نقصاً أو جرحاً. فهذه قصة من قصص السلف الصالح رضوان الله عليهم، وللنبي عليه الصلاة والسلام مواقف وقصص كثيرة فيها عظات وعبر، لكننا نذكر ما جاء بعد ذلك. ذكر في بعض قصص التاريخ أن هارون الرشيد حج مرة، وقد قيل -أيضاً- عن هارون: إنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً. خلافاً لما يلصق به الحاقدون من التهم وما لا يليق بسقطة الناس فضلاً عن أمراء وخلفاء المسلمين، فكان يمشي وكان الحراس يصرفون الناس بين يديه -أي: يوسعون له الطريق-، وكان هناك أحد الصالحين يعظ الناس ويذكرهم، فقالوا له: اسكت قد أقبل أمير المؤمنين: فلما حاذاه رَكْبُ أمير المؤمنين قال: يا أمير المؤمنين! حدثني أيمن بن نابل: حدثني قدامة بن عبد الله قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث، ولم يكن ثم ضرب ولا طرد ولا: إليك إليك). فسأل عنه فقيل: إنه فلان. فقال الرشيد: قد عرفته. فقال له: قل. فقال: فهب أن قد ملكت الأرض طراً ودان لك البلاد فكان ماذا أليس غداً مصيرك جوف قبر ويحثو الترب هذا ثم هذا فقال له الرشيد: قد أجدت فغيره؟ يعني: قل غير ذلك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين. من رزقه الله جمالاً ومالاً فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار. فظن الرشيد أنه عرض بذلك إلى حاجته -أي: كأنه يريد أن يطلب منه مالاً- فقال له: قد أمرنا بقضاء دينك. فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا تقض ديناً بدين، اردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك. قال: إنا قد أمرنا أن يجرى عليك. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يعطيك الله وينساني، فقد أجرى علي الذي أجرى عليك ولا حاجة لي بجرايتك. فكان هذا الموقف عظيماً في وحدة ومساواة الأمة وانتفاعها بمثل هذا المشهد العظيم. ومن هذه القصص أيضاً والأخبار أن سفيان الثوري قال: قدمت مكة فإذا أنا بـ أبي عبد الله جعفر بن محمد قد أناخ راحلته فقلت: يا ابن رسول الله! لم جعل الموقف من وراء الحرم -أي: في منطقة الحل ليس بمنطقة الحرم-؟ فقال: الكعبة بيت الله، والحرم حجابه، والموقف بابه، فلما قصده الوافدون أوقفهم بالباب -يعني: بعرفة خارج الحرم- يتضرعون، فلما أذن لهم بالدخول أدناهم من الباب الثاني وهو المزدلفة، فلما نظر إلى كثرة تضرعهم وطول اجتهادهم رحمهم، فلما رحمهم أمرهم بتقريب قربانهم وهو الذبح بمنى، فلما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التي كانت حجاباً بينه وبينهم أمرهم بزيارة بيته على طهارة. ثم قال سفيان: فلم كره الصوم أيام التشريق؟ قال: لأنهم في ضيافة الله، ولا يجب على الضيف أن يصوم عند من أضافه. فكانت هذه الأقوال والمساءلات والمحاورات بين أهل العلم تدل على فطنتهم ورعايتهم لهذه الحقوق. وذكر الذهبي أيضاً أن ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان السلجوقي لم يتهيأ له الحج، وكان لم يعزم على الحج، ومضى إلى مكان ليقضي بعض الأمور، فإذا به يرى ركب العراق وهم متوجهون إلى الحج، ووقف يتأمل الحجاج فرق لهذا المنظر واشتاق إلى زيارة البيت الحرام وأداء الحج، ونزل وسجد وعفر وجهه بالتراب وبكى، وقال: بلغوا سلامي وقولوا: العبد العاصي الآبق أبو الفتح يقول: لو كنت ممن يصلح لتلك الحجة كنت في الصحبة. وطلب من الناس أن يدعوا له. وأيضاً عن محمد بن يزيد الرفاعي قال: سمعت عمي يقول: خرجت مع عمر بن ذر إلى مكة فكان إذا لبى لم يلب أحدٌ أحسن منه صوتاً، فلما أتى الحرم قال مناجياً ربه: ما زلنا نهبط حفرة ونصعد أكمة ونعلو شرفاً ويبدو لنا علم حتى أتيناك بها، نقبة أخفافها، وبرة ظهورها، ذبلة أسنامها، فليس أعظم المؤنة علينا إتعاب أبداننا ولا إنفاق أموالنا، ولكن أعظم المؤنة أن نرجع بالخسران، يا خير من نزل النازلون بفنائه. فهذه مناجاة جميلة وقصة يستفاد منها في هذا الدرس.

فتاوى مهمة في الحج

فتاوى مهمة في الحج في الحقيقة مسائل الحج كثيرة، لكن هناك مسائل دائماً يكثر السؤال عنها، فاتخذت بعضاً منها من فتاوى كبار أهل العلم في المملكة وغيرها، وأيضاً بعضها من المجمع الفقهي. ومن أكثر هذه المسائل وروداً ودروجاً مسألة تجاوز الميقات والإتيان إلى جدة والإحرام منها، وخلاصة ما يقال في هذا أنه يجب على كل قادم من خارج المواقيت إلى مكة والمشاعر بنية الحج أو العمرة أن يحرم من الميقات، وإذا تجاوز الميقات فإنه يجب عليه أن يرجع إلى ميقاته أو أقرب ميقات، وإذا لم يتمكن من ذلك أو أحرم من جدة أو من غير جدة متجاوزاً لميقاته فإنه يجب عليه دم فدية؛ لأن الإحرام من الميقات واجب، وتركه للواجب يجبر بالدم، ولا يجزئه مطلقاً بأي حال من الأحوال أن يحرم من جدة، لكن إذا جاء إلى جدة أو إلى مكة بغير نية النسك لعمل أو لزيارة مريض أو لغير ذلك ثم أنشأ النية بعد ذلك، فإنه يحرم من مكانه من جدة إن كان في جدة، ومن مكة إن كان في مكة، لكن لا يحتال؛ لأنه يحتال على الله عز وجل. فبعض الناس يقول: أنا أتيت بنية العمل وكذا. لكن إذا سألته يقول: كنت أقول: إن تيسرت العمرة فسأعتمر. وإن دققت معه سيقول: سأجد فرصة وإن شاء الله سأعتمر. إذاً فأنت كنت تنوي العمرة وكنت تنوي الحج، فلابد من أن تأتي بالأمر على وجهه. المسألة الثانية التي يذكرها -أيضاً- كثير من الناس: ما يتعلق بطواف الوداع أو طواف الإفاضة بالنسبة للمرأة الحائض أو النفساء. نقول: إذا استطاعت المرأة أن تنتظر حتى تطهر فإنه يجب عليها أن تطوف طواف الوداع أو الإفاضة بعد طهرها، أما إن كانت مع رفقة أو محرمها ولا تستطيع التأخر فإنه -والحالة هذه- لا يجب عليها طواف الوداع ويسقط عنها بهذا العذر، وأما طواف الإفاضة فإنها تغتسل له وتستثفر وتطوف ولا شيء عليها إن شاء الله تعالى. والمسألة الثالثة فيما يتعلق بمسألة الحج على نفقة إنسان آخر، فلو أن إنساناً دعا إنساناً ليحج معه وسينفق عليه فبعض الناس يتوهم أن حج الفريضة لا يصح إلا أن يكون من ماله، وهذا خطأ، فمتى توافرت لك الاستطاعة -الزاد والراحلة- فليس هناك شرط أن يكون الحج من مالك أو أن يكون هدية من صديق أو أن يكون مساعدة من أخ، لا يشترط هذا الشرط، فإن حج مع هيئة رسمية أو مع جهة العمل أو مع صديق أو مع بعض الناس الذين يصنعون مثل صنيع ابن المبارك رحمة الله عليه فلا حرج في ذلك مطلقاً، فإن هذا الأمر -كما أشرت- يغلب على كثير من الناس، فربما يؤجلون حجهم وقد يتيسر لهم مع من يكفيهم المئونة ومع ذلك يتركون الحج لهذا المعنى، وهذا غير صحيح.

قصائد وأشعار في الحج

قصائد وأشعار في الحج الوقفة الأخيرة مع بعض القصائد والأبيات الشعرية في الحج: يقول الشاعر: بحر من الخلق لا يحصى له عدد فيه من الأبحر الأمواج والزبد يطوف بالبيت سيل لا نفاد له إذا مضى مدد منه أتى مدد تسري ضراعته في الأفق لاهجة فكل حي به نشوان يرتعد تكاد في غمرها الأجساد من لهف يحيلها الشوق أنواراً فتتقد يا رب أنشودة الأرواح تعزفها هنا القلوب فيا لله ما تجد والدمع من لذعها هام فلا خجل يكف جريته الحرى ولا جلد تذكرت شأنها يوم الحساب وقد سيقت إلى العرض لا عون ولا سند تود لو أنها في الأرض ما وجدت ولا ألم بها مال ولا ولد فاستصرخت رب نفس غير سائلة سوى النجاة وقد أودى بها الكمد يذكي لواعجها طيف الذنوب فما تكاد تبصر غير الهول يحتشد وتنجلي نفحات العفو عن كثب فتستقر بُعيد اللوعة الكبد والنفس في غمضة النجوى قد انطلقت من أسرها فبدت روحاً ولا جسد شفت فلا يتراءى في بصيرتها سوى المليك الذي قد صاغها أحد فيا لها جلوات للكروب هدى تحيا بلمس ثناها أعين رمد بها تجلى على تلك الوفود وقد وافته تبغي رضاه الواحد الصمد وكذلك أيضاً يقول آخر: هذي طلائع للحجيج شعارها لبيك يا رب الحجيج المحرم كل النفوس تعلقت آمالها تدعوك ما بين الحطيم وزمزم حتى المشاعر كبرت حصباؤها حسب الذي يدعوك أن لا يندم وتكبل الشيطان في اليوم الذي قد أوقدت أبواب نار جهنم وتفتحت أبواب جنتك التي وعد الحجيج بها بيوم أعظم وثالث أيضاً وقد تخلف عن الحج -وهذه مشاعر روحانية جيدة حين يعز على الإنسان أن يفقد مواضع الطاعة وأسباب القربة من الله سبحانه وتعالى- يقول: خلفوني مع الدموع وراحوا ليتهم من ودعوا قد أراحوا أزمعوا الحج يا هناهم فصاروا يسبق الطائرات شوق صراح فجروا في فؤادي نبع حنين يا بروحي حنينهم والنواح وسمت بي مع الخيال سماء وضياء يلفني لماح وجلال الأذكار في الكعبة الغـ راء نور بها الهدى وضاح والبرايا من كل جنس ونوع جمع الله طيهم فارتاحوا وتعالى الصوت الحبيب جهيراً تلبيات ترجيعها صداح واقع تخشع القلوب إليه ومقام تسمو به الأرواح كل خطو في أرض مكة ذكر كل ركن في ساحها مصباح وانجلت عتمة وأزهر شوق واحتوتني بفيضها الأفراح فإذا بي والبيت يحرس خطوي مستقيم في خطوه مرتاح وزحام الطواف نفحة حب وحنان الدعاء روح وراح وعجيج الساعين نبعة خير وصلاة ريانة وارتياح والوقوف الحبيب في عرفات نفحات من الهدى وانشراح وسلاح الحصى العجيب فخار تاه عزاً فغار منه السلاح وطواف الوداع للبيت دمع وابتهال نحوه يجتاح إنما الحج والزيارة خير ووصول وتوبة وفلاح ولقاء مع السماء كريم وعطايا فيها التجلي نجاح أتراني أحظى برحلة حج في حياتي أم فاتني المصباح

الأسئلة

الأسئلة

حكم النيابة في الحج عن الوالدين أو غيرهما

حكم النيابة في الحج عن الوالدين أو غيرهما Q ما حكم النيابة في الحج عن الوالد أو الوالدة أو غيرهما؟ A الحج من الأعمال التي تجوز فيها النيابة، والنيابة هنا عامة لا يشترط أن يحج فيها عن الشخص قريب له أو ولد له، بل متى أناب أو وكل غيره وأعطاه النفقة صح حجه عنه إن كان من يحج عنه معذوراً، كأن يكون مريضاً بمرض لا يرجى برؤه، أو عاجزاً عجزاً لا يستطيع معه الحج، أو كان ميتاً فوكل ورثته من يحج عنه، وكذلك إن لم يكن هناك مبادرة من صاحب الحج، فإن تطوع الرجل ليحج عن أبيه الذي لم يحج، أو تطوع أن يحج عن صديق له مات وهو لم يحج فإنه لا شيء في ذلك، وليس هناك من عمل يختلف بين حج الشخص عن نفسه وحجه عن غيره إلا النية، فقد ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك -اللهم- عن شبرمة. فقال: هل حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة). فليس هناك خلاف في العمل، فبعض الناس يظن أنه يحتاج إلى عمل معين، وليس كذلك، لكن عند التلبية للحج يسمي؛ لأن تسمية من يحج عنه وارد ومشروع، فيقول: لبيك -اللهم- حجة وعمرة عن فلان. أو: لبيك -اللهم- حجاً عن فلان. أما بقية الأعمال فإنه يؤديها كما يؤدي حجه عن نفسه بكامل إخلاصه، فعندما يدعو فيدعو بالدعاء الذي يدعو به في المعتاد حينما يحج عن نفسه، ويعمل نفس الأعمال، لا يزيد عن ذلك شيئاً، إلا أنه يعلن بالنية في أول الأمر ويستحضرها عند بعض المناسك خاصة عند النحر أو الذبح، وقد يصرح أيضاً بأنه ينحر عن فلان؛ لأنه قد ورد مثل ذلك -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وسلم.

إنفاق المال في الجهاد أفضل من حج التطوع

إنفاق المال في الجهاد أفضل من حج التطوع Q أحد الإخوة كان قد تبرع بمبلغ الحج للمسلمين المتضررين في البوسنة والهرسك أو في غيرهما؛ فأيهما أفضل: الحج أم ما صنعه؟ A هناك فتوى اطلعت عليها من ضمن الفتاوى لكبار العلماء، يقولون فيها: إن الذي عنده نفقة الحج ويريد أن يحج تطوعاً فإنه من الأولى له أن ينفق المال في الجهاد في سبيل الله. مستشهدين بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الحج المبرور) فإذا كان حج الفريضة قد أداه فإنه إن أنفق المال في الجهاد فهو أولى إن استطاع وكان أمره متيسراً وعنده نفقة الحج، وإن أراد التفاضل فإنه على هذا الوجه استناداً لهذا الحديث، لكنه لا يجب عليه أن يترك حج التطوع لينفق المال في ذلك المضمار، ولا يكون آثماً إن صرف المال في حج التطوع؛ فإنها قربات، والمسألة هي مسألة تفاضل، والإنسان لو ترك الأفضل وأخذ بالمفضول فإنه جائز، لكنه قد يكون أخذ بأجر أقل وترك الأجر الأعظم، هذا ما يقال في مثل هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وقفات مع أخطر المهمات

وقفات مع أخطر المهمات مهمة التعليم من أهم وأبرز القضايا في حياة الأمم والشعوب؛ وذلك لأن الجهل من أعظم أسباب الضياع والهوان، وقد حث الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على العلم والتعلم، فكانت أول كلمة من القرآن نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ)، ولم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء إلا من العلم، فقال: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، ولنا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلقه ومعاملته مع أصحابه في التعليم خير دليل وهادٍ ومرشد في ممارسة العملية التعليمية.

مهمة العلم والتعليم

مهمة العلم والتعليم الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، وخلق الإنسان، علمه البيان، أحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، ويقينا سخطه وعذابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، جعل العلم طريقاً إلى حياة القلوب، وزكاة النفوس، ورشد العقول، واستقامة الجوارح، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، المعلم الأمثل، والمرشد الأكمل، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فبين أيدينا وقفات مع أخطر المهمات، مهمة شرفها أن أعظم من حملها رسل الله وأنبياؤه، مهمة من معالم أهميتها وخطورتها أنها من أعظم أسباب القوة والحفظ للأمم، وتضييعها من أعظم أسباب الضياع والهوان للأمم. إنه حين تبدأ الدراسة ينطلق الملايين من الطلاب والطالبات ومعهم عشرات ومئات الآلاف من المعلمين والمعلمات، وتدور الأيام وتتوالى وهذه المدارس والمعاهد والجامعات تعمل، ثم نرى ونسمع شكوى من ضعف الأخلاق، وانحلال الروابط الاجتماعية، ورقة الدين، وغلبة الهوى، بل نسمع كذلك شكوى من ضعف العلوم العصرية المدنية الحضارية، وتدني المستويات الطلابية، وكثرة المشكلات التعليمية، وتمضي هذه العجلة ولكنها في مثل هذا الوقت على وجه الخصوص تكتسب أهمية أكبر وخطورة أعظم، وتحتاج إلى جهود متكاتفة متكاملة، وإلى وقفات متبصرة متأنية. تحتاج إلى قلوب غيورة محترقة، وإلى نفوس فتية قوية، وإلى عزائم ماضية عالية، وحتى ندرك ذلك نقف بعض الوقفات التي تكشف لنا عن كثير من هذه المهمات نحن أمة الإسلام، أمة العلم والتعليم، أمة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] أول ما نزل على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم. نحن أمة: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] نحن أمة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأمي الذي علم البشرية كلها. نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل التعليم وراثة للنبوة فقال عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، نحن هذه الأمة، نحن أمة العلم والحضارة المادية المدنية، ونحن أمة العلم والتزكية النفسية القلبية، نحن الأمة الذين أخذت عنها الحضارات المعاصرة علوم المادة والتجربة، لكننا نسمع ما يسمى اليوم العالمي لمحو الأمية، وتأتينا الإحصاءات لتقول لنا: إن سبعين مليوناً من أمة العرب أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وهذا العدد يعادل بحد أدنى الخمس، وقد يصل إلى قريب من الربع، ويأتي أيضاً تصريح للمسئول عن منظمة التربية والعلوم ليقول لنا: إن الأمية تزداد في جل الدول الإسلامية، وإنه لم تسجل زيادات في القضاء على الأمية إلا في ست دول إسلامية فحسب، وأن نحواً من (50%) يعدون في صفوف الأميين من حيث القراءة والكتابة، أو من حيث الاتصال بالتقنيات المعلوماتية المعاصرة. أليست هذه المفارقات الكبيرة والأوضاع المحزنة في ظل عصر المعلومات والتقنيات والعلوم المتقدمة جديرة بأن تجعلنا نقف مع أنفسنا؟! إنني لا أدعو إلى وقوف وزارات التربية والتعليم والحكومات فحسب، بل أدعو إلى وقوفك أنت وأنا وتلك الأم في بيتها وابني وابنك. لماذا تمضي الأيام، ولماذا تتدرج بالطلاب المراحل ثم يخرجون بعد سنوات وهم جهلة معممون أو مزينون بزينة وحلية ظاهرية، ولم يخلص العلم إلى قلوبهم، ولم تدخل التزكية إلى نفوسهم، ولم يصبح في عقولهم اتزان واعتدال، ولم نجد في سلوكهم استقامة ولا قوامة؟ لِمَ ذلك؟ لنقف هذه الوقفات المهمة.

أهمية التربية والتعليم

أهمية التربية والتعليم أول هذه الوقفات أجعلها في أمر مهم أساسي، وهو الذي نريد أن نقول فيه: لم سمينا مهمة التربية والتعليم أخطر المهمات؟ إن ذلك لأمرين اثنين: الأول -وهو ما نريده بالصورة الإيجابية-: إدراك الأثر والقوة التأثيرية للعلم والتعليم، فإن مقياس قوة الأمم اليوم لا يعد بكثرة جيوشها وأسلحتها، بل قبل ذلك بكثرة المتعلمين فيها، وبوجود مؤسسات التعليم التطبيقية الراقية العالية، وبوجود مراكز الأبحاث والدراسات المستمرة المتتابعة، تلك التي جعلت القرن الماضي الذي ربما شهد أكبر مخترعات في تاريخ البشرية تستأثر دولة واحدة فيه بنحو (30%)، ومجموعة من الدول الغربية بنحو (30%)، ثم يتوزع الباقي على كل بلاد الدنيا، ثم يكون حظ دولة الغصب الصهيونية معادلاً لمجموعة الدول العربية كلها وأكثر! ولا بد أن ندرك أن ذلك ليس من مجرد هذه الحقائق الواقعية فحسب، بل من آياتنا القرآنية ومن إرشادات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. إن التحليل في هذه الآية ومثيلاتها يعطينا الأهمية القصوى والمفاتيح الأساسية الرئيسة التي بها تغير الأمم وتبدل أحوالها من ضعف إلى قوة، ومن تفكك إلى ترابط، ومن تراجع إلى تقدم. فالأول السمع، والمقصود به تلقي العلوم وأخذها من كل جهة، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، ويكون مع السمع التدبر والتحليل والتقسيم والتبويب، وأما النظر والبصر فالمقصود به المعاينة والمشاهدة والتجربة والاستنباط والدقة في معرفة ما يرى ويشاهد، نحن نرى كل شيء في هذا الكون، فلا يكاد يسترعي انتباهنا ولا يلفت نظرنا، ولا يشغل تفكيرنا، بينما نرى الأمم المتقدمة المدنية من حولنا وهي تدرس الظواهر تنظر بعين البصيرة لا بعين البصر فحسب. ثم يأتينا من بعد ذلك البصر والفؤاد، والفؤاد المقصود به القلب والعقل الذي يحدد ويقوم المسار، والذي يكشف عن آثار هذه المعرفة المستقاة من الجوارح في تأثيرها النفسي والقلبي والسلوكي من بعد ذلك، والتي تضبط المسيرة، وتحدد المعالم وترسم المناهج، وترمي إلى الغايات النبيلة السامية. وأمر آخر في هذه الأهمية، فنحن نرى اليوم -كما قلنا- أن أصحاب القوة هم أصحاب العلم والتقنية والمعلومات، ويعرفون عنا عن بلادنا وعن ثرواتنا وعن إحصاءاتنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. لكن جانباً آخر يكشف عن الأهمية والخطورة، وهو ضرورة التميز، فالعلوم المدنية المادية مشترك واحد، فالماء تكوينه عندي وعند غيري من غير المسلمين وعند أهل الشرق والغرب واحد، لكن ما وراء ذلك من التصور والاعتقاد والفكر، وما وراء هذه الظواهر الكونية، بل ما وراء الكون كله والحياة كلها يختلف عندنا -معاشر المسلمين- عن غيرنا من الأمم، والأمم التي تقدمت اليوم في المادة فشلت في الجملة أن تتقدم في ميدان الخلق، فلا القلوب مشرقة مضيئة، بل هي في جملتها مظلمة كدرة، ولا النفوس زاكية طاهرة بل كثير منها متدنسة قذرة، ولا الصدور منشرحة طيبة بل كثير منها ضيق حرج. نحن الأمة التي أعطينا التميز في الجمع بين جانب المادة والروح، بين جانب العلم المادي والعلم المعنوي، ولقد لخصت آيات القرآن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مهمة كل معلم وداعية من بعده: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] وتلاوة الآيات هي نقل العلوم والمعرفة وسردها وعرضها بفنون مختلفة وبأساليب متنوعة. كان قدوتنا فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم تدرج في التعليم واستخدم وسائله المختلفة، يوم رأف بالجهلة والذين عندهم شيء من التسرع، يوم كانت سيرته وشخصيته أنموذجاً فريداً للمعلم الحاني البصير. ثم {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] فلا خير في علم لا يخلص إلى القلب، ولا ينفذ نوره إلى النفس، ولا يظهر أثره في السلوك. تلك هي المعادلة المهمة، كل آية تقرأ، كل حديث يروى، كل معلومة تحفظ، كل حقيقة علمية تتجلى ينبغي أن تسكب مزيداً من الإيمان في القلب، ومزيداً من الطمأنينة في النفس، ومزيداً من التعظيم للخالق، ومزيداً من الثقة بالمنهج وارتباطاً بالكتاب والسنة. أين هذا من ممارساتنا التعليمية في مدارسنا ومعاهدنا؟! أين هذا مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم روى أصحاب أصحابه رضوان الله عليهم من التابعين (كان الذين يقرءوننا القرآن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كـ أبي وعثمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نفقه ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل معاً). {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] وذلك هو التطبيق العملي، والمقصود بالحكمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كما أوجزت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن) قرآن يمشي على الأرض، سلوك راق، خلق سام، قيم فاضلة، معاملة لا مثيل لها، إنسانية لا يبلغ أحد مبلغها، تلك هي الصورة المثلى للمعلم الأمثل صلى الله عليه وسلم. إذاً فقيادة المجتمعات في داخل الأمم وقيادة الأمة لغيرها من الأمم مربط فرسها ومحور رحاها هو التعليم والتربية، والأخذ بأسباب القوة العلمية المادية في العلوم الدنيوية، لكن بمنهج متميز في الارتباط بالله. تلك الآية الأولى، (اقرأ)، تعلم وخذ، لكن باسم ربك لا باسم الهوى، لا باسم النزعة الإنسانية الطاغية، لا باسم الشهوة التي فيها نوع من العدوان البشري باستخدام القوة والتسلط على البشر، هذه مزيتنا نحن أمة الإسلام.

الأمور المهمة في مهمة التربية والتعليم

الأمور المهمة في مهمة التربية والتعليم في مقتبل بداية هذا التعليم وأيامه، وفي كل عام دراسي جديد نوجه الحديث أيضاً في وقفات أخرى، وأكرر أن أهميتها تخصنا جميعاً، وأن خطابنا فيها موجه لكل واحد منا بشخصه وذاته، فضلاً عمن يكون مسئولاً عن هذه المهمات فإن مسئوليته مضاعفة، وإن مهمته أكبر وأكبر، ونريد من المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات والآباء والأمهات أن يحرصوا على هذه المعاني.

الاستمرار في التعلم والتطوير

الاستمرار في التعلم والتطوير وأخيراً في هذا الجانب: مسألة الاستمرار والتطوير. فهي قضية مهمة، لا ينبغي أن نعلم اليوم كتباً قديمة قد جاءت العلوم الحديثة بعد خمس أو عشر من السنوات بمعلومات جديدة وفروع وقضايا وحقائق وتجارب مختلفة ونحن ما زلنا ندرس ذلك العلم القديم، ونحن أيضاً ليست عندنا المراكز البحثية التي تتابع كل جديد بالقدر الكافي، وإن الذي يصرف على البحث العلمي يعد اليوم من أسباب تقييم الأمم وجعلها في المصاف العليا أو الدنيا، والمعدل الذي يذكر عالمياً أنه ينبغي أن يصرف (1%) من الدخل القومي لكل دولة على الأبحاث العلمية وتطويرها، وليس هناك دولة من بلاد العالم الإسلامي في جملتها تبلغ مثل هذه النسبة، وكما قلت فإن الذي يصرف على دولة الغصب الصهيونية في البحث العلمية يعادل كل ما يصرف في البلاد العربية ويفيض عليه. وعندما جعل تقييم لأحسن مائة جامعة في العالم كله -بغض النظر عن هذا التقييم- لم يكن بينها جامعة في بلاد إسلامية مطلقاً، بينما اشتملت على سبع جامعات في ذلك الكيان الغاصب.

المعرفة بالأثر والخطورة في سوء التربية

المعرفة بالأثر والخطورة في سوء التربية والأمر الثاني: المعرفة بالأثر والخطورة. فإن المعلم اليوم يمكن أن ينشئ جيلاً صالحاً أو طالحاً، وإن المدرسة اليوم يمكن أن تعيد إلينا أبناءنا إلى بيوتنا وقد تشوشت أفكارهم وانحرفت سلوكهم، أو تعيدهم إلينا وقد ثبت إيمانهم ورسخ يقينهم وسمت أخلاقهم، بل قبل ذلك نحن -معاشر الآباء والأمهات- عندما كان أبناؤنا في صغرهم قبل المدارس وحتى في أثناء المدارس نحن الذين وضعنا بصماتنا عليهم، فإن وجدت ابناً بذيء القول سيئ الفعل فاعلم أن لذلك حظاً من أسرته وبيته، إما تفريطاً في المهمة وإما إكساباً لهذه الأخلاق من سلوك الآباء والأمهات، ومن هنا فإن المهمة خطيرة وعظيمة، فإن أبناءنا الصغار لا أقول في الثالثة والرابعة من العمر والخامسة قبل الدراسة، بل حتى وهم في بطون أمهاتهم، تبدأ التربية من هناك، وقد يعجب بعض الناس من ذلك، فنذكر بما وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر ودعاء عند معاشرة الرجل أهله، وقال فيه عليه الصلاة والسلام: (فإن قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان) وعندما أخبرنا وسن لنا أن يؤذن في أذن الوليد ويقام في أذنه اليسرى حتى ينطبع في نفسه ونفس الإنسان وخلقه شيء عجيب، فلم يعرف الناس بعد إلا القليل من أسراره، فيكون ذلك موطئاً لما يكون في هذا، بل قد حث الرسول صلى الله عليه وسلم ووجه باختيار المرأة الصالحة؛ لأنها المحضن لهذه التربية.

الجدية والاهتمام في العملية التعليمية

الجدية والاهتمام في العملية التعليمية الأمر الثالث: الجدية والاهتمام. إن من الصور السليبة في معاهدنا التعليمية اليوم أن اللامبالاة قد تقع من المعلمين والمعلمات، ولكنها أكثر في صفوف الطلبة والطالبات، فيسهرون ليلهم وينامون نهارهم، ويؤجلون دروسهم، ويحفظون من أسماء اللاعبين واللاعبات والفنانين والفنانات ومواقع الدورات والمباريات أكثر مما يحفظون من المناهج والمقررات. إن صور ونسب الرسوب وتدني المستويات مع توفر الإمكانيات يدل على خسارة كبيرة وهدر عظيم للثروة القومية، فكيف نعلم مليوناً -على سبيل المثال من الطلاب- وفي آخر العام يكون القريب من نصفهم راسباً يعيد عاماً كاملاً ويستهلك مرة أخرى من المال والجهد مثل ذلك. أليس هذا جديراً بأن نفكر فيه؟ ألسنا معنيين بأن نعالج الأمور المهمة التي سأشير إلى بعض منها أيضاً؟ أين هذه الجدية؟! أين نحن من منهج الإسلام الذي يريد منا أن نكون أقوياء؟! {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] دين يدعو إلى المسابقة في الخيرات والمسارعة إليها {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. دين يريد الهمم العالية والعزائم الماضية، دين جعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يضربون المثل، فيرحل جابر بن عبد الله رضي الله عنه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصر ليلقى صحابياً من الصحابة، يقول: جئت أسألك عن حديث لم يعد أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنت، ثم يروي له ذلك الحديث، فيرجع من وقته من مصر إلى المدينة. إن أمر العلم وطلبه وتحصيله لا ينال بالنوم والكسل ومشاهدة المسلسلات ومتابعة الفضائيات واللعب بالإلكترونيات كما شاع وراج بين أبنائنا اليوم إلا من رحم الله، ومن هنا نريد أيضاً أمراً ثالثاً، وهو أمر الهمة العالية، فكثير من أبنائنا في صورة ربما تتضمن شيئاً من الطرفة لكنها محزنة. ما هو شعار كثير من الطلاب؟! يقولون: نسأل الله القبول. لا يعنون به ما نعنيه بالدعاء، وإنما القبول هو أدنى الدرجات فوق الرسوب، وأقل التقديرات أن ينجح بتقدير (مقبول) ويقولون: نسأل الله القبول. أين المراتب العالية؟! وأين التنافس؟! وأين الذين سيخرجون متعلمين أو علماء أو مبتكرين أو مخترعين؟! إنهم أقل من القليل، والنسبة في ظروف وفي أحوال كثيرة تزداد سوءاً، وذلك ما ينبغي الالتفات إليه.

الإخلاص لله وإدراك الغاية من العمل

الإخلاص لله وإدراك الغاية من العمل أولاً: الإخلاص والغاية. فإن منطلق كل تعليم لا بد أن يتوافر فيه إخلاص لله، وغاية مشدودة إلى طلب رضوان الله، ورغبة مخلصة في الامتثال لأمر الله والتزام شرع الله سبحانه وتعالى، تلك الغاية هي التي تفرق بين مسلم مؤمن يأخذ العلوم من كل حدب وصوب ومن كل فن ولون، لكنه لا يأخذ ما يعارض شرع الله، ولا يأخذ إلا ما يستخدمه في مصلحة عباد الله. تلك الغاية المهمة التي ينبغي أن نغرسها في أبنائنا وبناتنا، وقد غلبت المادة على الناس إلا من رحم الله، فلم يعد أحد يتعلم إلا لوظيفة، بل أصبح تخصصه وتوجهه مرتبط بما سيئول إليه حاله بعد هذا العلم من اكتساب رزق وحظوة اجتماعية ومكانة دنيوية وغير ذلك، حتى إنك لو سألت طالباً اليوم -لا أقول في المدرسة بل في الجامعة، بل ربما حتى في الدراسات العليا-: لم تدرس لأعطاك تفصيلات من الفروع الدقيقة المتعلقة بهذه الأمور الدنيوية المادية الاجتماعية، ولم تجد في ذهنه ولا في قوله شيئاً من الغايات السامية ولا الأمور العظيمة المتعلقة برسالته ودوره في هذه الحياة ودوره تجاه أمته وتجاه تاريخه وحضارته، فشتان في كثير من الأحوال ما بين جيل اليوم وأجيال خلت، ولذلك عندما نقول: إن هذه المهمة أخطر المهمات فلابد أن ننقل تعريفها، وهذا ليس منا، بل من الغرب أنفسهم، ففي دائرة المعارف البريطانية تعريف للتربية يقول: هي الجهد الذي يبذله ويقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرته للحياة التي يؤمنون بها. إنها جهد يقوم به الآباء والمربون، لماذا؟ لينشأ جيل يترجم ويمثل نظرتهم للحياة التي يؤمنون بها، فهل يدرك المعلمون والمعلمات والطلاب والطالبات -بل والآباء والأمهات- هذا المعنى المهم الذي يبين فيه هذا القول أن التربية ليست مجرد معرفة ومعلومات، بل هي فكر وسلوك وقيم ومعان وضوابط تنتقل من جيل إلى جيل عبر هذه المؤسسات التعليمية والتربوية في الأسرة وفي المدرسة، وفي وسائل الإعلام وغير ذلك. إن المهمة الأساسية للمدرسة أن تضخ القوة الروحية، وتجعل لها تأثيراً في التلاميذ حتى يواصلوا الاستمرار على نهج جيلهم السابق بذات النظرة التي يعيشون بها ويتقدمون إلى الأمام. إذاً أول هذه الأمور ما نريد أن نثبته في هذه القضية، وهو الإخلاص وإدراك الغاية.

وقفات مع المعلمين والمعلمات

وقفات مع المعلمين والمعلمات

الوقفة الرابعة: متابعة الطلاب وحل مشاكلهم

الوقفة الرابعة: متابعة الطلاب وحل مشاكلهم وأخيراً: المتابعة. فإن كثيراً من مشكلات أبنائنا السلوكية والفكرية والخلقية والاجتماعية والأسرية يمكن أن يطلع عليها المدرس إذا كان متابعاً لطلابه، فيرى انخفاضاً في المستوى فيسأل، ويرى غياباً عن الحضور فيتفقد، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه، ولما نزلت الآيات بالنهي عن رفع الصوت في مجلسه غاب ثابت بن قيس رضي الله عنه، فتفقده الرسول وسأل عنه: أين هو؟! فذهب بعض الصحابة يسأل فقال: إني امرؤٌ جهوري الصوت، أخشى أن أتحدث بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلو صوتي على صوته فأهلك. فيبشره النبي صلى الله عليه وسلم ويرده. هذا التفقد نحتاجه لئلا تسري أفكار منحرفة ومناهج مضللة إلى عقول أبنائنا، لئلا يخرج أبناؤنا من مدارسنا ومعاهدنا إلى أحد طريقين: طريق تطرف حقيقي خارج عن شرع الله يخرب البلاد ويروع العباد، أو يخرجون إلى طريق من الانحراف ينسلخون فيه من أمتهم وأسرهم، وينقطعون عن ثقافتهم، ويعيشون بيننا بعقول ليست كالعقول التي نفكر بها، وبقلوب ونفوس على غير ما هو في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه مهمة عظيمة وخطيرة، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا نحن -معاشر الآباء والأمهات- إلى حسن القيام بها، وأن يحسن من أداء معلمينا ومعلماتنا، وأن يوفق الجميع لما فيه خير الإسلام والمسلمين.

الوقفة الأولى: القدوة الحسنة

الوقفة الأولى: القدوة الحسنة هاهنا أمور كثيرة، فإننا جميعاً نقدم فلذات أكبادنا إلى المدارس يقضون فيها اثني عشر عاماً، يكونون فيها مع المعلمين والمعلمات في كل يوم نحو ست ساعات إلى ثمان ساعات، يشاهدهم المعلمون والمعلمات أكثر مما نشاهدهم في بيوتنا، نحن نعول على دورهم، نحن نجد أن هناك مهمة كبرى نحتاجها منهم. أولها: أن يكونوا قدوات حسنة، فليس أضر في التعليم من أن يكون المعلم قدوة سيئة، فيقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، وقد ذم الله جل وعلا ذلك لنا -معاشر المؤمنين- فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. وحذرنا الله عز وجل من ذلك، وضرب لنا المثل السيئ القبيح لمن كان لهم هذا السلوك، كما بين الحق سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فهو حمار يحمل علوماً وكتباً فوق ظهره ولا يعقل منها شيئاً، ولا يفهم منها علماً، ولا يأخذ منها سلوكاً، فما أقبح هذا المثل!

الوقفة الثانية: التركيز على الهدف والغاية من التعليم

الوقفة الثانية: التركيز على الهدف والغاية من التعليم وأمر آخر: تركيزهم على المهمة التي ذكرناها {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، وليس مجرد سرد للمعلومات.

الوقفة الثالثة: القرب من الطلاب والرأفة بهم

الوقفة الثالثة: القرب من الطلاب والرأفة بهم وثالثة مهمة، وهي قربهم من الطلاب والطالبات ورأفتهم بهم وشفقتهم عليهم، وإبداؤهم كامل الحب لهم، فإن التعليم لا يجد طريقه إلى العقول، وإن الفهم لا يجد طريقه إلى القلوب إلا عندما يقبل ذلك الطالب أستاذه ويحبه من قلبه، وتتعلق به نفسه. تأمل كيف كان تعليم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، بل كيف وصفه الله عز وجل وبين صفته العظمى في تعليمه؟ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ووصفه الله جل وعلا في حاله مع من يدعوهم ويعرضون فقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه فقال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار) ذلك هو الشفيق الرحيم. لا يمكن أن تعلم أحداً وأنت دائم القسوة عليه، وأنت دائم النفرة منه، وأنت دائم العبوس في وجهه، ولن تصل كلماتك إلى عقله وقلبه. ومن هنا نقول: كيف علم النبي صلى الله عليه وسلم؟ خذ ذلك الحديث الرقيق الأديب العجيب الذي قال فيه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ! والله إني لأحبك) ثم شرع يعلمه الحقيقة العظمى، ففرح معاذ بتلك المقدمة، وانشرح صدره، وتهيأ قلبه، وانفرجت أساريره، وتلهفت نفسه، فكل كلمة حينئذ تقع موقعها، وتقبل وتؤثر بإذن الله عز وجل. وكان رديفه ابن عباس -كما في الحديث المشهور- وهو غلام صغير، فيلتفت إليه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا غلام! إني أعلمك كلمات) كلها مقدمات. والقرآن يعلمنا في قصة لقمان {يَا بُنَيَّ} [لقمان:16] مما يبين أن هذا التلطف والشفقة والرحمة مهمة في غاية الأهمية.

التكامل في العملية التعليمية

التكامل في العملية التعليمية إن أداء مهمة التربية والتعليم من أعظم دلائل التقوى، ومن أعظم أسباب وجودها في أبنائنا وبناتنا، ولعلي أقف وقفة أخيرة مهمة، وهي التكامل في العملية التعليمية، وأعني بذلك غير مؤسسات التعليم كالمدارس والمعاهد والجامعات، وأعني بذلك جهتين مهمتين: الأولى: الوسائل الإعلامية، وما أدراك ما وسائل الإعلام؟ تبني ما يهدمه أفضل المعلمين وأشرف المعلمات، وتبدد من العلوم ما ربما استغرق الأيام والأعوام والسنوات. كم نرى اليوم من آثار مدمرة ليست فقط في جانب السلوك والخلق، بل في جانب الفكر، بل وفي جانب التحصيل العلمي، مع أن الأصل أن يكون هناك تكامل، فكيف نقول للأبناء في المدارس: إن هذا الاختلاط محرم، وإن التبرج والتهتك والإتيان بالحركات التي تثير الشهوات كل ذلك نهى عنه القرآن وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يجد ذلك على الشاشات والقنوات الفضائية صباح مساء؟ بل قنوات متخصصة في الغناء من الفجر إلى الفجر، وأخرى في الرياضة لا تتوقف فيها الأقدام تركل، أو الأيدي تضرب أو غير ذلك من الأنواع، وحظ العلم والتعليم والإرشاد والتوجيه إن وجد فهو أقل من القليل، وصحافة أيضاً في بعض الأحوال تهدم ما يقوله المعلم، بل تشكك الطلاب في المعلمين والمعلمات، بل وتطعن في المناهج والمقررات! كيف يستقيم ذلك؟! كيف أدرس طالباً وهو يقرأ أن ما أدرسه فيه خلل أو انحراف، أو أنه سبب لشذوذ أو خلل؟! كيف يصلح ذلك ما لم يكن هناك التكامل؟! وهذه قضية مسئوليتها عظيمة، فكل كلمة تقال أو تكتب أو برنامج يذاع أو يبث كله مسجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. والجهة الأخرى: الأسرة والبيت. تتعلم الطالبة في مدرستها أو في جامعتها أموراً من الحشمة والعفة والحياء، ثم تأتي إلى بيتها وأمها خراجة ولاجة متبرجة، والقنوات في البيوت تبث ما تبث، فكيف يمكن أن نوائم بين هذا وهذا؟! أو الشاب يقول له معلمه: الزم بيوت الله حتى يشرق قلبك، وأدمن تلاوة القرآن حتى يترطب لسانك بذكر الله، وإذا به قد يجد أباً يقول له: احذر! لا تذهب للمسجد، وانتبه لدروسك، وأخر كتاب الله وتلاوته. فهذا تعارض تحدث به أمور غير محمودة العواقب، إما أن ينحاز إلى الجهة السلبية الخطيرة، وإما أن يحصل اضطراب واختلال لا يستطيع به التوفيق، فلا يستطيع الركون إلى الخير والمضي في طريقه. نسأل الله عز وجل أن يحفظ أبناءنا وبناتنا، وأن يحفظ معاهدنا وجامعاتنا ومدارسنا لتنشئة صالحة وتربية قويمة وتعليم هادف، إنه -جل وعلا- ولي ذلك والقادر عليه. اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم! ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم! أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وضاعف لنا البركات، وامح عنا السيئات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات برحمتك يا رب الأرض والسماوات. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! إنا نسألك زكاة نفوسنا، وطهارة قلوبنا، ورشد عقولنا، واستقامة جوارحنا، رطب -اللهم- ألسنتنا بذكرك، واشغل جوارحنا بطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا اللهم ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين. اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ اللهم لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين. اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل -اللهم- لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء. اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين. أصلح! اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

المنهج الوقائي في الإسلام

المنهج الوقائي في الإسلام الوقاية خير من العلاج حكمة عظيمة ذات مدلول كبير، وهي لا تعني الوقاية في باب الصحة الجسمانية فحسب، بل تشمل الوقاية في جميع الأمور الدينية والدنيوية، إلا أن الوقاية في الأمور الدينية أهم بكثير؛ إذ يترتب عليها فوز العبد في الدار الآخرة أو هلاكه. فيجب على المسلم أن يقي دينه مما يخدشه أو يضر به، وعليه أن يقي نفسه من غضب الله وأليم عقابه.

معنى الوقاية

معنى الوقاية الحمد لله الواحد الديان، الرحيم الرحمن، الكريم المنان، ذي الفضل والإحسان، والجود والإكرام، جعل السلامة في الإسلام، وربط السعادة بالإيمان، وأودع الهداية في القرآن، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويكافئ فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، هو جل وعلا أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه رحمة للعالمين، وأرسله إلى الناس أجمعين. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الإيمان هو النعمة الكبرى، والإسلام هو المنة العظمى، والقرآن هو الهداية التي ليس بعدها هداية. وهنا قفه يطول الحديث فيها، وهي عن الوقاية في الإسلام، ذلك المنهج الذي نستجلي به كم يدفع الله عز وجل عنا من الشرور! وكم يقينا من الآثام وكم يسلمنا من الرزايا والبلايا إذا استمسكنا بإيماننا والتزمنا إسلامنا واتبعنا قرآننا واقتفينا آثار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الوقاية خير من العلاج، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج، هذه مقالات نعرفها ونحفظها، بل نعقتدها ونستيقنها، بل ونأخذ بها، ونعمل بها، ونطبقها في مجال الصحة والطب، وكل يوم يمر علينا نرى حملات للوقاية من شلل الأطفال، وأخرى للوقاية من الحصبة، وثالثة ورابعة، فهل الوقاية مختصة بالأجساد والأبدان؟ وهل مشكلتنا في علل الأجساد وأمراض الأبدان؟ إن المسألة التي يعالجها الإسلام أعظم وأشمل وأكمل من هذه الجوانب التي لا تمثل إلا جزءاً يسيراً من هذا الدين العظيم، إن هذه الشعارات التي تعمل لها الحملات للتوعية هدفها أن يقتنع الناس ويوقنوا بأن العمل قبل وقوع الضرر أفضل لهم وأيسر، وأنه أقوى أثراً، وأوفر في التكاليف التي قد يتصورونها أو يرونها، فما هو معنى الوقاية؟ إن الوقاية تشتمل على معنى الصيانة والحماية، إنها حفظ ورعاية، وستر وحماية، مأخوذة من: وقاه من الشيء إذا صانه، ووقيت الشيء إذا حفظته وسلمته من الأذى، كما قال الله جل وعلا: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11].

أهمية الوقاية في كل شيء

أهمية الوقاية في كل شيء ولابد أن نفهم أن الوقاية ينبغي أن تكون شاملة للأبدان والقلوب والعقول، لأنه ما الفائدة إذا صحت الأبدان وضلت العقول؟ وما الفائدة إذا سلمت الأجساد وزاغت القلوب؟ نسأل الله عز وجل السلامة. إن العالم اليوم يبذل مئات الآلاف من الملايين في شأن الصحة، ومنظمات للصحة العالمية، وأبحاث وتجارب وكثير وكثير، لكنه لا يعدو أن يكون في دائرة ضيقة، ولا يعدو أن يعالج أسباباً محدودة، وإذا بنا نرى أن الأمراض تتكاثر وتعظم، وأن الضحايا تتوالى وتتابع؛ لأن العلاج إنما تناول جزءاً واحداً، وكأنما أنت في مكان تخشى عدواً فأحكمت إغلاق باب من الأبواب إغلاقاً جيداً، ولكن الأبواب الأخرى أو بعض النوافذ مفتوحة، فإنه ولاشك سوف يدخل عليك العدو أو يأتيك البلاء الذي تحذره من جانب آخر، فما الفائدة إذا عملوا على تحصين الأجساد وتلقيحها والبحث عن أدوية الأمراض ولم يعالجوا أسبابها من الانفراط الأخلاقي والانحلالي السلوكي الذي يؤدي إلى مثل تلك الأمراض؟ لننتبه إلى أن الوقاية التي نريد أن نتحدث عنها في لقاءات متتابعة تشمل الإنسان كله، وتشمل الفرد وحده كما تشمل المجتمع برمته، إنها وقاية تغير وجه الحياة لتجعلها مبنية على الأمن والسلامة باطناً وظاهراً، وتعالج الأمراض من أسبابها، وتوقف الخطر من منابعه، وهذه هي المهمة الأعظم الأشمل الأكمل التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تتوفر إلا في وحي الله عز وجل الذي أكرمنا وأنعم علينا به.

مباني الوقاية وذكر نماذج

مباني الوقاية وذكر نماذج يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان، وكلاهما مذكور في القرآن. ومرض القلوب ينقسم إلى قسمين: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما مذكور في القرآن. وهذا هو الذي ينبغي أن ننتبه له.

الوقاية تقوم على التقوية والحماية

الوقاية تقوم على التقوية والحماية ولنعلم أن الوقاية تقوم على أمرين اثنين مهمين: أولهما التقوية، وهي التي تماثل في الطب التغذية، ونحن قبل أن نحقق أول أسباب الوقاية لابد أن يكون هناك قوة في البدن، ثم بعد ذلك نأتي إلى الجانب الآخر وهو الحماية، وهي عند أهل الطب الحمية. فإنه لابد أولاً من أسباب قوة توفر لهذه الذات قوة في الجوانب المختلفة، ثم نحافظ على هذه القوة التي أنشأناها بذلك الغذاء بأن نحميها من العوارض والأسباب التي تنقص تلك القوة أو التي تضعفها. ومنهج الإسلام يقوي الإنسان بإيمانه وإسلامه ويقينه بالله عز وجل، وفيه زكاة نفسه، وطهارة قلبه، ورشد عقله، وحسن قوله، وصلاح عمله، فإذا كان هذا النموذج الإيماني القرآني النبوي قد حرصنا على حفظه، فبعد ذلك إذا بقيت له هذه القوة في إيمانه وخلقه وقوله وعمله، فنقول له: احذر كذا وكذا، وانتبه من كذا وكذا، ولا تفعل كذا لأنه يؤدي إلى كذا، فتجيء الشرائع كأنما هي سياج أمني حافظ لتلك القوة أن يصيبها ضرر، وكأنما هي خطوط أولية للدفاع عن التي تليها؛ حتى يبقى المؤمن في حصن من إيمانه، وفي سياج من إسلامه، وفي قوة من يقينه بإذن الله سبحانه وتعالى.

نموذج قرآني للوقاية الإيمانية

نموذج قرآني للوقاية الإيمانية ولننتبه إلى صور عامة، وننظر إليها في بعض آيات القرآن وبعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لنرى ما الذي، أو لنعرف ما المعنى الذي نريد أن نبينه في شأن الوقاية الإيمانية في منهج الإسلام. ولننظر إلى أمثلة من الوقاية العقدية والأخلاقية والاجتماعية في عجالة سريعة حتى ندرك ما المفهوم الذي نتحدث عنه: في الوقاية العقدية تقوية وإقامة للحجة وإظهار للبرهان على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وعلى ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وعلى قضايا الإيمان كلها: من الإيمان بالرسل والأنبياء والكتب والصحف وما يكون في اليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. وكل ذلك مبسوط في آيات القرآن، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]. وآيات كثيرة في إثبات البعث الذي ينكره المنكرون، ويعترضون عليه لضعف عقولهم، فيأتينا القرآن بأمثلة وقصص وإثباتات كثيرة، كقوله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]، وأمثلة يضربها الله عز وجل في الحياة التي تبعث في البذرة الصماء حتى تكون نباتاً يزهر ويثمر إلى غير ذلك. ثم يأتينا جانب الحماية والتحذير والوقاية بعد هذا البناء الذي قام على أسس راسخة من الأدلة الظاهرة والحجج القاطعة؛ كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، ويأتينا التحذير أيضاً في آيات أخرى كقوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]، وتأتينا الآيات القرآنية المحذرة من الشرك ومن كل أسبابه، والمبطلة لصوره عند أربابه، فكان هذا منهجاً متكاملاً ألمحنا إلى بعض صوره من خلال هذه الآيات.

نماذج قرآنية للوقاية الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية

نماذج قرآنية للوقاية الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية وتأتينا الوقاية النفسية من أمراض كثيرة وعلل عديدة من أهمها: شح النفس وأمراض القلب؛ قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. وهناك وقاية أخلاقية تسلم الإنسان من الفواحش والفتن، قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، وقال جل في علاه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، والتعبير القرآني بقوله: (وَلا تَقْرَبُوا) يعني: لا تفعلوه ولا تقربوا منه، أي: لا تفعلوا ما يؤدي إليه أو يقرب منه، فالنهي أعظم وأشمل، والوقاية أتم وأكمل، ونرى في ذلك كثيراً وكثيراً من الآيات التي تبين لنا هذا الوجه وتحثنا عليه. وتأتينا الوقاية الاجتماعية التي تسلم المجتمع من الأمراض التي تفتك به وتقطع أواصره وتجعل الشحناء في القلوب والبغضاء في النفوس؛ فيأتينا قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، وهذه الآيات هي في التحذير والوقاية، وفي التنبيه على الأمر اليسير الذي قد يكون ظناً يجول بالخاطر ويحوك في النفس، وإذا به ينتقل من طور إلى طور حتى يدفع إلى التجسس والتحسس، ثم يدفع إلى القول والغمز واللمز والغيبة والنميمة، ثم يدفع إلى التباغض والتدابر، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، والله سبحانه وتعالى ينهانا عن هذا فيقول: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، أي: لما يؤدي إليه أيضاً من المشاكل الاجتماعية الخطيرة. وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة حماية من الفرقة حتى يبقى المجتمع متماسكاً مترابطاً. والوقاية الاقتصادية في أن يكون الإنسان المسلم متبعاً لشرع الله في بيعه وشرائه وكسبه وإنفاقه، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، وقليل الأمر في مثل هذا وكثيره سواء، والله سبحانه وتعالى يسوق لنا الآيات في كثير من جوانب الحياة ليعلمنا ما الذي يدعونا إليه إيماننا، وما الذي يرسمه لنا إسلامنا، ثم ليحذرنا ويقينا ويسلمنا من الزيغ والضلال والانحراف عن ذلك، ويكشف لنا ما يئول إليه الأمر، أو ما آل إليه الأمر بالفعل لمن ارتكب مثل ذلك من أهل الكفر والضلال؛ فإن العاقبة تكون وخيمة، والخاتمة تكون شر خاتمة، نسأل الله عز وجل السلامة.

نماذج من السنة للوقاية الأخلاقية

نماذج من السنة للوقاية الأخلاقية وإذا التفتنا إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإننا سنرى أحاديث كثيرة كلها يبدأ بقوله: إياكم! إنها لفظة التحذير التي ترفع الضوء الأحمر للتدليل على الخطر قبل وقوعه، والتنبيه عليه قبل الوصول إليه، وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: (إياكم والجلوس في الطرقات! قالوا: يا رسول الله! مجالسنا ما لنا منها بد، قال: فإن كنتم فاعلين فأعطوا الطريق حقه: غض البصر، ورد السلام، وكف الأذى). وهذا من حرصه عليه الصلاة والسلام على لفت الأنظار إلى ضرورة الوقاية، ولكن حالنا اليوم بخلاف ذلك؛ حيث لم يأخذ كثير من الناس بهذا التحذير، فصار في مجتمعاتنا ما نشكو منه من جلاس الطرق وأبناء الشوارع الذين يؤذون الرائح والغادي، ويتعرضون للنساء، وهذا جزء مما يقع إذا لم يأخذ الناس بالتحذير، وإذا لم يلتزموا الوقاية. وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام بين شأن الفتنة العظمى والبلية الكبرى التي بدأ الناس يتجاوزون فيها حدود الوقاية، ثم يشكون من الآثار والأضرار والأخطار، وذلك في شأن المرأة ودعوة الاختلاط والتخفف من الحجاب ونحو ذلك، ولنا في كل هذا أحاديث مفصلة: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)، والحمو: أقارب الرجل. ولعل هذا الحديث بمجرد التأمل في لفظه من غير شرح ولا تفصيل يبين لنا أن القضية تحذيرية، وأنها إشارة قوية؛ لئلا يقع المحظور الذي يكون بعده عض أصابع الندم واللطم، أو محاولة العلاج بعد ألا يكون هناك فائدة. ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)، ويقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم)، وغير ذلك من أحاديثه عليه الصلاة والسلام في الناحية الإيمانية والتربوية. وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم ومحقرات الذنوب! فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)، وكم نرى نحن في حالنا ما نقول فيه أو عنه: هذه بسيطة، وهذه يسيرة، وهذه لا بأس بها، وهذه نسأل الله عنها العافية، وهذه وهذه وهذه؛ حتى تهلكنا تلك الذنوب التي نراها صغائر! وكان أنس رضي الله عنه يقول: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات). فلما حذروا ولما انتبهوا ولما تيقظوا، ولما كانوا على أهبة الاستعداد وعلى قدم المواجهة وعلى عقلية اليقظة والفطنة تنبهوا لذلك فسلموا، وعوفوا بإذن الله عز وجل، ولما غفل الغافلون وتساهل المتساهلون، وفرط المفرطون وردت إلينا أدواء القلوب وأمراض النفوس، وبدأت تشيع بين الناس بعض المنكرات وبعض الجرائم وبعض المشكلات التي يلتمسون لها حلاً، والحل فيما فرطوا فيه وفيما تركوه من أسباب الوقاية، فالأب مثلاً لا يسأل عن ابنه ولا يلتفت إلى ابنته ولا يربي أبناءه ثم يشكو أن ابنه قد صار صريع المخدرات! أو أن ابنته صارت من اللاهيات العابثات! وهذا أمر نعرفه في حياتنا الاجتماعية. وهكذا في الجوانب المهمة الأخرى تأتينا التحذيرات النبوية؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين)، وقوله: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)، وقال: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، وقال: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه؛ فأوغلوا فيه برفق). هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وحذر حتى فيمن يريد أن يزيد أو أن يتقدم، ولكنه يتقدم بما لم يثبت في كتاب الله، وبما لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل من السنة واجباً، ومن الواجب فرضاً، ويغير الأمور حباً بزعمه للخير، ورغبة في القوة في الحق، وهو متنكب للطريق ينسى ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا نرى في القرآن والسنة منهجاً واضحاً لهذه الوقاية، وتأكيداً عليها وتنبيهاً على أهميتها، وتذكيراً بخطر التهاون فيها.

الأسس التي تبنى عليها الوقاية

الأسس التي تبنى عليها الوقاية ولنا وقفة هنا مهمة عند أسس الوقاية، وكيف تبنى هذه الوقاية؟ أو كيف بنيت في المنهج الإسلامي والقرآني؟ لأن من المهم أن نعرف ذلك لانعكاسه على فهمنا وعلى ما يترتب على ذلك من التصور والعمل: أولاً: أساس العلم؛ فعلى سبيل المثال: هذه الحملات الطبية لا تقوم على التحذير من شيء إلا بعد العلم بخطره وضرره، فهي تحذر من شرب الماء غير النقي، أو تحذر من التعرض لأجواء بعينها، أو تطعم الأطفال من أمراض بعينها عند الصغر، فمن أين جاء ذلك؟ جاء من علمهم بأن هذا الأمر سيؤدي إلى كيت وكيت. فالعلم أولاً هو أساس هذه الوقاية، ونحن وقايتنا ربانية بحمد الله، والله عز وجل هو العالم، كما يقول سبحانه وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. ولئن ظن أهل الطب أنهم يعلمون عن الإنسان في جسده وأجهزته الهضمية والأجهزة الأخرى فإنهم في الحقيقة حتى الآن لا يعلمون من ذلك إلا قليلاً، ومع ذلك فإنهم يجهلون الكثير والكثير من حالة الإنسان العقلية والنفسية، والله عز وجل الذي شرع لنا الشرائع وأكرمنا بالإيمان وأعزنا بالإسلام هو العالم بما يصلح لهذه النفوس، وما يداوي تلك القلوب، وما يرشد تلك العقول، وما يقوم السلوك، وما تقع به المودة ويحصل به الوئام بين الناس، وهذا كله من رحمة الله عز وجل بنا. وأيضاً من العلم الذي تؤسس عليه الوقاية: العلم بمآلات الأمور، فإن الأطباء يعلمون أن هذه الأمراض تؤدي إلى الوفاة، وأنها تؤدي إلى كيت وكيت، وأنها تستنزف من الأموال في العلاج كذا وكذا، وبالتالي فإن كل خطر يعرفونه يجعلون الوقاية بقدره، فإذا كان الخطر عظيماً وجسيماً ونتائجه في غاية الضرر فإن الوقاية أو التحذير منه تكون خطيرة، كما نرى التحذير اليوم مشدداً ومؤكداً من المخدرات؛ لأنها تلف للعقول، وإنهاك للأبدان، وضياع للأموال، واختلال للأمن، وانتهاك للأعراض؛ ولأنها بلية البلايا ورزية الرزايا، فيكون التحذير مناسباً لما يئول إليه الأمر، كما قال الله عز وجل: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]. فكل شيء من شرع الله فيه الترك أو الهجر فإنما شرع حتى لا تكون العاقبة فتنة واختلالاً، ففي الاقتصاد طبقيات، وفي الاقتصاد تضخم، وفي الاقتصاد بطالة؛ وكل هذا نتيجة تنكب شرع الله عز وجل، وفي كثير من المجتمعات انحلال وشذوذ وخراب ونحو ذلك؛ وكل ذلك نتيجة لتنكب أمر الله سبحانه وتعالى، كما أخبر الحق جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، فتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم! وانظر الواقع الذي يحيط بك من حولك ترى أن مخالفة الأمر الأول وقع بسببه الفتنة والفساد الكبير، نسأل الله عز وجل السلامة. والأساس الثاني للوقاية هو الرحمة: فإن الأطباء إنما يحذرون ويقومون بالتوعية ويفعلون أسباب الوقاية رحمة بهذا الإنسان أن يقع فريسة المرض، ويعجز حينئذ الطب عن علاجه، وإذا به يضمر كالزهرة الذابلة شيئاً فشيئاً، ثم يفترسه ذلك المرض العضال فيمصه مصاً حتى يموت، وهذه الرحمة في الذين يتقدمون بالحلول لعلاج مشكلات المجتمع أمر لازم؛ ولذلك عندما تنزع الرحمة نرى ما يفعله من يدعون التحضر والتقدم والحضارة والإنسانية وحقوق الإنسان عندما يجربون الأدوية والأمصال الحديثة في الإنسان، ولكن أي إنسان؟ إنه إنسان أفريقيا المسكين، أو الإنسان المسلم، أو يفعلون تجارب على الأسلحة في بعض هذه المواجهات التي يفعلونها هنا وهناك، فأولئك قوم تجردوا من الرحمة، وأولئك قوم عندهم من الغطرسة والغرور ما أعمى بصائرهم عن كل معاني الإنسانية التي يدعونها، والحديث في هذا يطول، والأمثلة كثيرة، والشواهد شهد بها لسان القوم، والحق ما شهدت به الأعداء. والله عز وجل هو أرحم بعباده من كل الناس، بل هو سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، ولذلك نجد أن رحمة الله عز وجل كانت في إرسال الرسل، وفي إنزال الكتب، وفي الهداية التي ساقها إلى الناس؛ ليستنقذهم من الظلمات إلى النور، وليستنقذهم من الهلاك إلى الأمن والسلام. ورحمة الله عز وجل ساقها لنا في هذا القرآن العظيم، وأكرمنا بها في بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إنها رحمة ليس بعدها رحمة، وإنها نعمة ليس بعدها نعمة؛ حيث سهل الله عز وجل لنا ذلك؛ لأن الله عز وجل رحيم بعباده، ولا يرضى لعباده الكفر، والله سبحانه وتعالى لا يريد للخلق إلا الخير والرحمة، وإنما يتنكب الناس الصراط بقدر الله عز وجل ولحكمته البالغة. ونرى قوله جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ورحمتي وسعت كل شيء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال: (سبقت رحمتي غضبي)، ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم امرأة تضم ولدها الرضيع إلى صدرها فقال: (أرأيتم هذه ملقية بولدها في النار؟ قالوا: هي أرحم به من ذلك، قال: فالله أرحم بكم من هذه على ولدها). الأساس الثالث: التجرد والاستغناء: فإن الذي يريد أن يأخذ مبدأ الوقاية لابد أن يكون متجرداً؛ لأنه إن كان هو في ذاته صاحب مصلحة في أمر فإنه يغلب مصلحته ويترك الوقاية، فمثلاً: انظر إلى شأن التدخين، لقد أثبتت الأبحاث الطبية أنه السبب المباشر لـ (80%) من الذين يصابون بأمراض تصلب الشرايين وأمراض السرطان، نسأل الله عز وجل السلامة، فماذا يفعل أولئك الذين أثبتوا بأبحاثهم أن هذا البلاء موجود في هذا الدخان؟! وهل تراهم تآزروا حتى يمنعوه، أو تناصروا حتى يوقفوه؟! إنهم يكتبون كلمات: التدخين يضر بصحتك، ننصحك بالامتناع عنه، ويدفعون الأموال ليعوضوا بعض من تضرروا، وكأنهم يقولون: نحن لا نعرف إلا الدولار والدينار، ونحن لا يهمنا إلا ما يدخل إلى الجيوب من مئات الآلاف، وأما السلامة والوقاية والبيئة فتحت الأقدام. وانظر إلى ما يقال من تخفيض نسب التدخين في البلاد الغربية والأوروبية بنسب كبيرة ورفعه بنسب عظيمة في آسيا وأفريقيا، وهذا يدلنا على أن أصحاب المصالح لا يمكن أبداً أن يكونوا أصحاب منهج يقدمون للناس فيه الخير ويمنعونهم من الشر، ونحن أكرمنا الله عز وجل بشرعه الذي شرع لنا، فهو سبحانه الذي أنزل الإيمان، وهو الذي أنزل القرآن، وهو سبحانه وتعالى الغني عن الناس، الصمد الذي لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] أي: الذي تصمد إليه الناس في حوائجها، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. فالله جل وعلا يريد بالناس الخير، وهو سبحانه وتعالى أعظم وأجل من أن يكون له صلة بنفع أو ضر من هؤلاء الخلق، بل هو النافع سبحانه وتعالى وهو الضار، ولذلك منهجنا وديننا من الله عز وجل لا من البشر فلا تتنازعه الأهواء، ولا تتجاذبه المصالح كما هو واقع في دنيا الناس اليوم، فنسأل الله عز وجل لنا ولكم الوقاية والسلامة والحماية، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وأخلاقنا. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

ثمار وفوائد الوقاية

ثمار وفوائد الوقاية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. أيها الإخوة الأحبة! هنا وقفة أيضاً حول هذا الموضوع في ثمار الوقاية وفوائدها؛ حتى ندرك أننا بصدد أمر عظيم وفائدة كبرى ونعمة عظمى ينبغي أن نحرص عليها، وأن نعض عليها بالنواجذ، وألا نفرط فيها، وألا يضحك علينا أعداؤنا بزخرف من القول وبهرج من الألاعيب والأباطيل التي يريدون أن يصرفونا بها عن ديننا، فإذا كنت في منزل محصن تسلم فيه من الأذى ومن البرد والحر، فإنك تكون مغفلاً إن جاءك من ينزلك منه ويقول: تعال إلى حيث الهواء الطلق والجو الجميل، ثم تخرج وإذا أنت في العراء ليس لك مسكن يؤويك ولا بيت يحميك، وهذا هو الذي يريده أعداؤنا؛ ولهذا فإن ثمار الوقاية عظيمة جداً وكبيرة، ولا يمكن أن يقدر قدرها أحد، ولا يمكن أن توزن ولو بذهب الدنيا كلها:

الطمأنينة والسلامة

الطمأنينة والسلامة الثمرة الأولى: الطمأنينة والسلامة، والأمن والأمان، وسكينة النفس وطمأنينة القلب وهدوء البال والخاطر؛ إنها تلك السلامة التي يأمن بها الناس على أموالهم وأعراضهم، والتي يحصل فيها بينهم من هدوء البال ما لا يشغلهم، كما نرى في العالم المحموم اليوم؛ فامرأة لا تأمن على عرضها، وتاجر لا يأمن على ماله، وأخ لا يأمن أخاه، وصديق لا يثق بصديقه، فانظر إلى العالم اليوم تجد أن شريعة الغاب التي يتحدثون عنها قد أصبحت اليوم تعد مثلاً يسيراً هيناً، وتعد شيئاً لا يذكر أمام الغابة الإنسانية البشرية الوحشية التي تفتك بالأسلحة المدمرة، والتي تقتل بالأمصال والأدوية، والتي تفعل الأفاعيل، والتي غاب فيها عن الناس كل أنواع السكينة والطمأنينة إلا من رحم الله وأكرمه بالإيمان، فانظر إلى عالم الغرب اليوم، وانظر إلى تلك الحيرة والاضطراب الذي سنذكر له أمثلة يسيرة في حديثنا هذا، ونعقبه بعد ذلك بالتفصيل الذي يأتي في كل باب من أبواب الوقاية.

النظافة والطهارة

النظافة والطهارة الثمرة الثانية: النظافة والطهارة، فإن الإنسان بإنسانيته يعف عن الدنايا، ويترفع عن الرذائل، وله من فطرته أمور تدفعه إلى أن يستر العورات، وإلى أن يكون نزيهاً نظيفاً طاهراً، وانظر إلى من تركوا أسباب الوقاية، تجد أنهم قد نافسوا وسبقوا الحيوانات في العري وفي الشذوذ وفي كل أنواع القذارة التي لا يمكن بحال أن يتصورها عقل إلا عندما تمسخ الفطرة مسخاً. ونحن نعرف ونسمع من أخبار القوم ما يعف اللسان عن ذكر مثله، وخاصة في بيوت الله المطهرة.

القوة والمحبة

القوة والمحبة الثمرة الثالثة: القوة والتماسك والمحبة والوئام: فإن وجود الوقاية والتزامها إذا أفاض الطمأنينة في القلوب وإذا أوجد النظافة في السلوك، فإن ذلك يعني أن القلوب تملأ بالمحبة، وأن هذا المجتمع يكون عنده أسباب القوة والتماسك، فليس هناك إهدار للمال لعلاج الأمراض الناشئة عن الانحراف الخلقي، وليس هناك إهدار للمال للإنفاق على جيوش وأجهزة تحفظ الأمن الضائع، وإذا بأصحاب الأمن أنفسهم هم الذين يضيعون الأمن. وحسبك أن تعرف أخبار المدن الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الدول الأوروبية؛ لتعرف كيف يصرفون المبالغ الهائلة لحفظ الأمن، وكيف يكون أصحاب الشرطة والقائمون عليها بعد ذلك هم الذين يخلون بالأمن! ويكون المال هو الذي يسير الأمر؛ إن هذا المجتمع تتقطع أواصره بكل هذه الانحرافات التي خاض فيها الناس عندما تجاوزوا الحدود وعندما لم يلتزموا الوقاية.

الحذر من ترك الوقاية الدينية

الحذر من ترك الوقاية الدينية وأخيراً: أحبتي الكرام! إن القضية مهمة وإن إثارتها في مثل هذا الوقت أكثر أهمية، إننا اليوم أمام دعاوى العولمة وأمام دعاوى الانفتاح وأمام دعاوى وحدة الأديان والإخاء، وأمام دعاوى كثيرة تريد أن تخرجنا من حدود وقايتنا، حيث يقولون: لماذا تريدون أن تكونوا هكذا؟ ولماذا تمنعون المرأة من الاختلاط؟ ولماذا تمنعونها من أن تلبس ما تشاء؟ لماذا تحدون من حريتها؟ وفي جوانب أخرى أيضاً يقولون: لماذا تمنعون الكتب التي تعبر عن حرية الفكر؟ ولماذا تحاكمون من يجترئ على ذات الله عز وجل، أو يسخر برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن الفكر ينبغي أن يكون حراً، وينبغي ألا يكون هناك حدود. وتأتينا أيضاً دعاوى ودعاوى كثيرة، وكلها تريد أن تزعزع ثوابتنا، وأن تهدم أسوارنا التي تحمينا؛ حتى نكون مثلهم، وحتى نصبح كلأً مباحاً كما هو الحال عندهم، وحتى ينفرط عقد الأمن الذي ننعم به، فيصبح حالنا كحال تلك البلاد في كل دقيقة واحدة تسجل جريمة اغتصاب وجريمة قتل وجريمة سرقة، فأي حياة هذه! وأي أمن هذا! وأي حضارة تلك؟! وأي تقدم هذا الذي يوصف؟! وأين هي معاني الإنسانية في تلك الوحشية أو في ذلك الاعتداء على الأطفال الصغار، أو في ارتكاب هذه الجرائم مع المحارم؟! فالأب يهتك عرض ابنته من الخامسة حتى الرابعة والعشرين، وأخبار كثيرة وقصص لا نقولها نحن، وإنما يظهرونها هم في وسائل إعلامهم. إنها الحياة الشقية النتنة التي يراد أن يجر المسلمون إليها بأن يشككوا في مثل هذا، ونحن نريد أن نقف وقفات طويلة لننظر إلى منهج الوقاية في الإيمان وما أكرمنا الله به، وما منعنا وحذرنا منه حتى لا نؤتى من بدعة تتسلل إلينا، ولا من غلو يخرج بديننا عن وسطيته واعتداله، ولا من حرية فكر تؤدي إلى إقرار الكفر، فإنه كما يقولون: هناك شعرة طفيفة خفيفة بين حرية الفكر وحرية الكفر، فهم يريدون أن يغالطونا، وأن يعموا علينا الأمور، والحمد لله عز وجل فقد آتانا من حجج القرآن الساطعة، ومن هداية النبي صلى الله عليه وسلم الواضحة، ومن تاريخ أمتنا العريق، ومن وعينا، ومن يقظة علمائنا، ومن حركة دعاتنا؛ ما ينبغي أن نفرح به، وأن نستزيد منه، وأن نقبل عليه حتى يبقى لنا آثار تلك الوقاية التي ذكرناها، وحتى يبقى لنا طمأنينتنا وأمننا، وحتى يبقى لمجتمعاتنا نظافتها وطهارتها وقوتها وتماسكها. نسأل الله عز وجل أن يقينا جميعاً الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يسلمنا بإسلامنا، وأن يؤمننا بإيماننا، وأن يهدينا بقرآننا، وأن يكرمنا باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم ارحمنا فإنا بك راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، وأن تجنبنا الفتنة والزلل. اللهم احفظ علينا إيماننا ويقيننا وأخلاقنا، وسلمنا من نزغات الهوى، ومضلات الفتن، ووساوس الشيطان، وقرناء السوء يا رب العالمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا وأذلوا عبادك المؤمنين وحاربوا هذا الدين؛ اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم خالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم اكفناهم بما شئت يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى والمظلومين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، واجعلهم من أهل الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا رب العالمين. ربنا اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، من علينا بالعفو والعافية والسلامة والإسلام والأمن والإيمان، وأكرمنا بحفظ ذلك علينا يا أكرم الأكريمين. اللهم احفظ علينا نعمك وزدها بشكرك يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، والحمد لله رب العالمين.

وثيقة العار وشهادة الاحتضار

وثيقة العار وشهادة الاحتضار أعداء الإسلام يكيدون للإسلام والمسلمين على مر التاريخ والعصور، وقد تنوعت أساليبهم في الكيد والمكر، ومن تلك الأساليب: المؤتمرات والوثائق التي يزعمون أنهم يخدمون بها البشرية، وهم يريدون -بالمعنى الأصح- أن يفسدوا البشرية ويدمروها، فيجب الحذر والتيقظ لمخططات هؤلاء الأعداء، ومواجهتها للقضاء عليها وإحباطها.

حقيقة وثيقة العار المقدمة إلى مؤتمر الإسكان والتنمية

حقيقة وثيقة العار المقدمة إلى مؤتمر الإسكان والتنمية الحمد لله، الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، بسط الأرض ومد، ورفع السماوات بلا عمد، وأفاض النعم بلا عدد، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء حمداً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آنٍ، فله الحمد في الأولى والآخرة حمداً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه كافة للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد ولد آدم أجمعين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها المؤمنون! يعجب المرء أيما عجب ويحار العقل أيما حيرة في أحوال هذا الزمان العجيبة! وفي تطوره المدهش، وفيما تتفتق عنه أذهان الجاهلية العمياء من ظلم وظلمات، ويعجب الإنسان عندما يتصور أن مظاهر التقدم الحديث وأن مظاهر التطور المعاصر قد بلغت مبلغاً تتكافأ فيه مع تقدم وتطور العقل المرشد إلى الخير أو الهادي إلى الصواب أو الداعي إلى التزام المبادئ والأخلاق! وعندما ينظر الإنسان يجد هذا الفرق الشاسع بل هذه المعارضة الواضحة بين ما يسمى تقدماً بالمفهوم المادي وبين ما يحق أن يسمى تخلفاً، بل يحق أن تلصق به أسوأ الأسماء وأقبحها فيما يتعلق بالسلوكيات والمبادئ والقيم. وثيقة العار وشهادة الاحتضار التي تقدم إلى مؤتمر الإسكان والتنمية، وإن شئت قل: إلى مؤامرة الإفساد والتعرية هي حديث الناس في هذه الأيام، فأحببت أن يكون لنا وقفة معها، وأن ننظر إلى حقيقتها وإلى ما ورائها، فإن كثيراً من الأمور إنما تؤسس على أصول معروفة، وإنما تستند إلى مقررات بدهية مفروغ منها، وهذا المؤتمر الذي يعنى بالإسكان والتنمية -كما هو عنوانه- هو في حقيقته صورة واضحة سافرة وشاملة عارمة للهجمة الغربية الكافرة على بلاد المسلمين وعلى الدول النامية في العالم الثالث كما يسمى. فبعد الغزو العسكري في عصور سلفت، وبعد الغزو الإعلامي الذي غزا الأسماع والأبصار، وفتن القلوب، وأفسد النفوس، وبعد الغزو الاقتصادي الذي دمر المقومات، وأوقف عجلة التقدم، وأرهق الدول والأفراد بأرصدة الديون، وبعد الغزو الأخلاقي الذي تمثل في كثير من صور الانحراف، يأتي هذا الغزو في صورته التشريعية السياسية التي تريد أن تجعل كل الأمور المحرمة وكل القبائح الفطرية وكل الرذائل الإنسانية مشروعة مفروضة باسم الأمم العالمية، وباسم الأنظمة الدولية، وباسم القرارات الرسمية؛ حتى يكلل كل ذلك الغزو بالصورة المثلى التي تلغي المفاهيم وتنحي الأديان وتغير الأسماء وتقلب الموازين رأساً على عقب. وعندما يتأمل الإنسان في الإسكان والتنمية يظن أن الأمور ينبغي أن تتوجه إلى بحوث تعنى بهذا الجانب عناية صحيحة، وتلمس الأسباب الناتجة عن المشكلة الإسكانية وعن قضية التنمية ملامسة صحيحة، غير أن الأمر على غير هذا. ولا أريد أن أفيض في تفاصيل تلك الوثيقة التي يعجب الإنسان أن تكون وثيقة تقدم ليناقشها ويأتمر حولها أو يتآمر معها عشرون ألفاً من البشر يمثلون واحداً وتسعين ومائة دولة، ويشهدهم ثلاثة آلاف صحفي وإعلامي، وينقل عن المؤتمر خمسمائة ساعة بث إعلامي بالأقمار الصناعية، كل ذلك ليقدم إليهم أن الزنا حلال! وأن الإجهاض ينبغي أن يكون مشروعاً! وأنه لا ولاية للآباء والأمهات على أبنائهم وبناتهم! وأنه ينبغي أن تسهل أسباب الفاحشة، وأن تحمى، وأن تعتبر من الحرية الشخصية، وأن تقدم لها المعونات المادية! ثم فوق ذلك كله الصراحة الواضحة للمناقضة التي لا شك فيها لشرع الله عز وجل بالمطالبة بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وإلغاء التفريق في كل شيء حتى في المواريث! والنظرة الاحتقارية لسنة من سنن الفطرة وهي سنة الختان! وبالتنفير والرغبة في محاربة الزواج المبكر! والذي كان من أعلم أعلامه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في زواجه بـ عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها التي بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنين. أيها الإخوة! قد رأينا هذه الأمور في الواقع العملي في ساحات البلاد الكفرية وفي ساحات كثير من البلاد الإسلامية، إلا أن في كثير من البلاد ما تزال هذه الأمور مما يستحيا منه، وفي كثير من البلاد أيضاً مما يخالف القانون أو يعاقب عليه، سواءً وقعت العقوبة أو لم تقع. أما اليوم فيراد أن يفتخر بها أصحابها، وأن توجه سبل التنمية التي تدفع الفقر كما يقولون للإنفاق على وسائل الإجهاض ووسائل منع الحمل غير المرغوب فيه كما نصت الوثيقة وغير ذلك، كل هذا يراد أن يكون مشروعاً، وأن يكون مدعوماً، ويعجب الإنسان عندما يفكر في هذا! ولا أقول: الإنسان العادي، بل هذا الإنسان المتطور المتقدم بتفكيره، فلو كان للبهائم عقل لما رأت أن ذلك يشرف لها ولا يجدر بها.

تدرج أعداء الإسلام في الدعوة إلى التفسخ والانحلال

تدرج أعداء الإسلام في الدعوة إلى التفسخ والانحلال أريد أن أقول بعض الملاحظات المهمة: الأمر الأول: أن الأمور تبنى على التدرج، وأحسب أن مثل هذه الكلمات وهذه المقترحات ما كانت لتقدم في وقت مضى، لأنها لو قدمت لما كانت موائمة للأفكار ولا ملائمة للنفوس، ولا كان لها -كما يقال- موقع من الإعراب، إنما جاءت بعد غزو مكثف لسائر البلاد ولسائر المجتمعات عبر الأقمار الصناعية التي قدمت هذه الصورة البشعة الإباحية أمام الناس ينظرونها بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، ويتابعونها ليلاً ونهاراً، وقبل ذلك مئات وآلاف ومئات الآلاف وأكثر من ذلك من الوسائل التي تروج الفاحشة عبر الأشرطة والمجلات والكتب والأجهزة الحديثة حتى الكمبيوترات وغيرها؛ حتى إذا ألفت النفوس وضعفت الغيرة وماتت الحمية وتحللت الأخلاق وانفرط عقد الأسر إلى حد ما جاءت هذه الهجمة؛ لتكون بمثابة المعول الأخير الذي يضرب الضربة القاصمة التي تقصم ظهر البعير كما يقال.

تربص أعداء الإسلام بالمسلمين الدوائر

تربص أعداء الإسلام بالمسلمين الدوائر الأمر الثاني: أن الأعداء يتربصون بنا الدوائر، وأن الإحصاءات تدل على أن هناك مشكلة سكانية حقيقية، لكنها من نوع آخر بالنسبة لأعدائنا، فمعلوم أن دول العالم الثالث -ومعظم الدول الإسلامية تحت هذا المسمى- تشهد أكبر معدلات نمو بشري، والقارة الإفريقية على سبيل المثال يتضاعف عدد سكانها كلها في خلال خمسة وعشرين عاماً فقط. وعلى سبيل المثال: وجد أنه خلال نحو عشر سنوات معدل الولادات في بلد مثل رواندا يصل إلى ثمانية مواليد ونصف للمرأة الواحدة خلال هذه الفترة، بينما يصل في دولة أوروبية مثل إيطاليا إلى واحد ونصف، ولهذا تشكو الدول الغربية اليوم من قضية خطيرة وهي النقص السكاني الحاد، والضعف الأسري العظيم الذي أوجد طبقتين عمريتين تستهلكان أكثر نسبة السكان: طبقة غير القادرين على العمل، أي: من هم في الطفولة، وطبقة غير القادرين على العمل ممن تجاوزوا السن إلى مرحلة الشيخوخة، بينما يزخر العالم الإسلامي -كما في الإحصاءات- بأكبر عدد ممكن ممن هم في فترة العمر الشبابية الإنتاجية، ولذلك تأتي هذه المؤامرة للمحاولة للتغلب على هذه الصورة التي بشكل أو بآخر في ظل ظرف أو آخر يمكن أن تكون ذات إيجابية عملية للمسلمين، وتضر بالتالي أعداءهم، ومن هنا كان قبل ذلك على سبيل التدرج الحملات المكثفة فيما يسمى ببرامج تنظيم الأسرة، وحقيقة كثير منها تحديد النسل.

بعض صور الجاهلية المعاصرة

بعض صور الجاهلية المعاصرة الأمر الثالث: صور الجاهلية المعاصرة هي صور أقبح من الجاهلية السالفة التي كان فيها الإنسان محدود المدارك، متخلف التفكير، متأخراً في الوسائل، ومع ذلك تحكي لنا الجاهلية السابقة للإسلام صوراً لا يمكن أن تقارن بمثل هذه الجاهلية المعاصرة، فهذا الشاعر الجاهلي فيه عفة وفيه مراعاة للحرم وللأعراض وفيه حياء عندما يقول: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها وهند رضي الله عنها لما جاءت مبايعة للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعة النساء فكان من ضمن البيعة ألا يزنين، فانتفضت رضي الله عنها وهي تقول: (عجباً! أوتزني الحرة؟!) فكأن ذلك لم يكن في عرفهم وفي قاموسهم بهذه الصورة البشعة التي نراها اليوم في الواقع العملي تقدم عبر هذه الأوراق والمقترحات والتوصيات. وقد ذكر أهل الحديث في الكتب الصحيحة حديث عائشة رضي الله عنها التي وصفت فيه صور البغاء والفجور في الجاهلية، فبينت لنا أن هناك نساءً بأعيانهن كنَّ معروفات في بيوتهن وبراياتهن يغشاهن طلاب الفساد وأرباب اللذة العاجلة، ويفعلون معهن الفاحشة، وكان ذلك معروفاً محدوداً معلوماً دائرته. أما اليوم فهذه الوثيقة تريد أن يكون جميع الناس -بلا استثناء- زناة وشاذين ومن أتباع قوم لوط، دون أن يكون عليهم في ذلك حرج ولا أي غضاضة في مثل هذا، وهذا لا شك أنه من أعظم أسباب التقويض والإنهيار، كما قال شوقي رحمه الله: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

عاقبة من أعرض عن شرع الله

عاقبة من أعرض عن شرع الله أيها الإخوة الأحبة! هنا أمر أشير إليه وأنبه عليه: وهو حقيقة قرآنية وسنة إلهية ينبغي أن نعيها وأن نعرفها، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] وفي شطر هذه الآية الأول أن كل إعراض عن ذكر الله وكل مخالفة لشرع الله إنما هي ضنك في العيش، ولست أقارن، ولست أذكر أمور الدول الإسلامية أو دول العالم الثالث أو الدول النامية أو النائمة كما تسمى، وإنما نذهب إلى الدول التي طبقت مثل هذه التوصيات ردحاً طويلاً من الزمن، فهل انتهت عندهم مشكلة البطالة أم ما تزال في تزايد مستمر؟! وهل انتهت مشكلة الجريمة أم أن هذه الأمور من أعظم أسباب قوة الجريمة وفشوها؟! وهل انتهت عندهم مشكلات الاعتداء الإجرامي على الأطفال وعلى النساء؟! وانظر إلى ما عندهم من الأرقام والإحصاءات لتعرف حقيقة الأمر، وأن البلاء موكول بكل ما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى؛ لأن أمر الله هو الذي يطابق الفطرة البشرية، وهو الذي يوافق الكرامة الإنسانية، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70] هكذا يبين الله عز وجل لنا شرف الإنسان وكرامته، ويبين لنا أن خسته ودناءته إنما هي في بعده عن أمره سبحانه وتعالى. ونحن نسمع ونعرف ونقرأ ما في المجتمعات الغربية من صور الانحلال التي يعف اللسان عن ذكرها مما لا يتصوره عقل إنسان، ولا ترضى به فطرة سوية بحال من الأحوال، حتى جاءوا بأمور يعجز الإنسان عن تصورها وتخيلها من ممارسة الجنس مع البهائم والحيوانات وغير ذلك من الصور القبيحة، ثم ما ترتب على ذلك مما يعارض التنمية، فجاءت الأمراض الفتاكة التي صرفت ولا تزال تصرف عليها الملايين والملايين دون أن تتحقق نتائج إيجابية في العلاج والتطبيب، وكل ذلك وما يلحقه من نفقات على الإجرام وما يلحقه من نفقات على البطالة وما يلحقه من غير ذلك هو الذي أدى بما يعرف بالتضخم، وأدى إلى زعزعة الوضع الاقتصادي في الدول ليست النامية وإنما الدول المتقدمة.

حقيقة ما يريده أعداء الإسلام من المسلمين

حقيقة ما يريده أعداء الإسلام من المسلمين أمر مهم ينبغي أن نعيه وأن نتأمل فيه، وذلك هو: أن الأعداء وكل من لا يودك عموماً يريد أن يلحق بك كل نقيصة فيه، وأن يسلبك وأن يحرمك كل إيجابية عندك، وهذا هو المفهوم الذي تسفر عنه هذه الوثيقة. فهل مشكلة الفقر تتعلق بتقليل عدد السكان كما يقولون؟! ولنسأل أنفسنا أسئلة تعرفون إجابتها: كم من الملايين تصرف على تربية الكلاب والقطط وطعامها، بينما يموت الملايين من البشر؛ لأنهم لا يجدون قوتاً ولا طعاماً؟! وكم من الملايين تصرف في أسلحة الدمار وفي أمور السياسة الخبيثة، ويكون نتاجها مزيداً من البلاء والشقاء لبني الإنسان؟! وكم من الملايين تهدر من أجل المحافظة على الأسواق والمحافظة على الاقتصاد؟! فكثير من الثمار وكثير من المحاصيل الزراعية تتلف وترمى في البحار إذا فاض عن معدلات معينة لئلا تتأثر به الأسعار! فأين هذه الصورة المزعومة التي يقال فيها: إن العالم يريد أن يكون هناك تكاملاً وتقارباً في مستويات التنمية؟! فلو كان ذلك حقاً لكان هناك تفضيل التعليم بدل التجهيل، ولكان هناك إتاحة الفرص للتعاون بين القدرات البشرية والقدرات العلمية حتى تحصل تنمية بشرية حقيقية لبني الإنسان، ولكن الأمر على غير ذلك. ومن هنا لو رأيت كثيراً من الأسباب لعلمت أن القضية على غير ما يعلن عنها ويراد بها، وانظر إلى المجتمعات الغربية الرأسمالية التي تعتبر الربا المحرم أساساً لاقتصادها، وانظر إلى ما جره هذا الاقتصاد وتلك الإباحية من أمور عجيبة وغريبة! إذاً: أيها الإخوة الأحبة! هذه صورة بسيطة، وعندما نخلص إلى حقيقتها نجد أنها تتناقض مع أساسيات اعتقادية إيمانية عند الإنسان المسلم، فالله عز وجل قد بين لنا أنه قد خلق الخلق بقدر وبإحكام، وأنه سبحانه وتعالى قد جعل لكل شيء قدراً، فقضية أن الموارد أو أن ما يخرج من الأرض أو أن ما يكون فيها من أسباب العيش يضيق بأهلها ليس أمراً صحيحاً، وإنما هو أمر ناشئ عن الممارسة الإجرامية الخاطئة لبني الإنسان أنفسهم، فالله عز وجل يقول: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10] والله سبحانه وتعالى يقول في موضع آخر مبيناً أنه قد جعل في الأرض ما يكفيها: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] قال بعض أهل التفسير: ليس عام بأمطر من عام، بل كل ذلك مقداره واحد، لكنه يتغير، فقد يكون جفاف في أرض وثراء وغناء في أرض، فلو كان عند الناس إنصاف ولو كان عندهم إحسان لما حصلت مثل هذه المشكلات، ولكنها الجريمة التي يمارسها الأعداء والأقوياء ضد الضعفاء، وهذا هو حقيقة الأمر، ولذلك هذا تعارض مع أصل الإيمان بالقضاء والقدر الذي يؤمن العبد فيه بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأرزاق مقدرة من عند الله عز وجل. وأمور أخرى أيضاً تتعلق بهذا، وهو أمر تحديد النسل أو إيقافه أو ما دعت إليه هذه الوثيقة من أمور تخالف ما يعتقده المسلم الحق. ثم أيضاً هناك أمور مخالفة للأحكام الشرعية مثل التنفير من الختان، والتنفير من الزواج المبكر، وإباحة الإجهاض الذي هو محرم شرعاً، وكذلك إباحة الأمور الأخرى الواضح تحريمها، فهذا كله يتعارض مع شرع الله عز وجل.

أحوال المجتمعات الإسلامية في العصور المتقدمة

أحوال المجتمعات الإسلامية في العصور المتقدمة وقفة أخيرة في هذا المقام الأول عن تاريخنا الذي كانت فيه كل الصور التي ينتقدها علينا أولئك المستغربون والمستشرقون، فلم تكن مجتمعات الإسلام في كثير من عصورها تشهد مثل هذا التحلل والتسيب، فقد كان هناك الزواج، وكان هناك التعدد والتسري، وكان هناك كثرة الأولاد وكثرة الإنجاب، ومع ذلك كانت هناك عمارة وحضارة ورقي وتقدم، وفاضت في عهد عمر بن عبد العزيز أموال الزكاة، حتى صرف منها على كل راغب في زواج ليتزوج، وصرف منها على كل كفيف ليجد قائداً له يصرف عليه من بيت مال المسلمين، فاض المال وصار يرجع من الأمصار إلى عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه دون أن يجدوا له من يستحقه! هذه هي التنمية الإنسانية الحقيقية، والعجب أن يكون أساس التنمية قتل أعظم أسبابها، إن أعظم أسباب التنمية هو الإنسان المفكر بعقله العامل بيده المتحرك المنتج، فعندما نهدف إلى قتل الإنسان وضعفه وتقليل عدده فلا شك أننا نضعف التنمية من أساسها، فعلى سبيل المثال: إذا كان عندك قدر من المال لا يكفي أسرتك، فما هو الحل؟ هل الحل أن تقتل بعض أولادك كما كان يفعل بعض الجاهليين أو أن توقف الإنجاب أم أن الحل غالباً ما يتفتق على أن بعض الأبناء يتحملون المسئولية قليلاً؟! نعم فيعمل هذا هنا، ويعمل هذا هناك إضافة إلى دراسته، فتتحرك الطاقة، وتنفتح أبواب العمل، ويزداد الإنتاج، ويحصل لنا من وراء ذلك أننا نطالب بعد ذلك بمزيد من الإنتاج البشري؛ لأن الوفرة المادية قد أصبحت في المستوى الذي يحتاج أو يمكن أن يستوعب أكثر عدد من السكان. فالله أسأل أن يبعدنا عن هذه الفتن وعن هذه المحرمات، وأن يجنبنا هذه المزالق والمخاطر؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

بعض المواقف الإيجابية تجاه وثيقة العار

بعض المواقف الإيجابية تجاه وثيقة العار الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين, على من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى تجنب المحارم والبعد عنها، والحرص على البعد عن كل ما يقرب منها. أيها الإخوة الأحبة! هناك وقفات أخرى؛ بعضها إيجابي مشرق، وبعضها يحتاج إلى التنبيه: أما الإيجابيات فهو هذا الرفض العارم الذي انتظم أكثر فعاليات العالم الإسلامي من المؤسسات والدعاة والعلماء، فقد تقدمت رابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع البحوث الإسلامية في مصر ولجنة الفتوى بالأزهر وغيرها من الجهات مفندة هذه الوثيقة التي هي وثيقة العار وشهادة الانهيار لهذه الحضارة ولهذه المبادئ والقيم. وهذا يدلنا على أن الأمة -بحمد الله عز وجل- ما يزال فيها خير، وقد ناقشت كثير من صحفنا المحلية هذه الوثيقة، ونقلت هذه التعليقات، وأفردت لها الكثير من صفحات النقد وبيان العوار الذي فيها، وذلك يبين لنا أن روح التوعية الإسلامية -بحمد الله- أفضل من ذي قبل، وهذا شيء نفرح له، ونطلب المزيد منه.

التحذير من قبول بعض مخططات الأعداء

التحذير من قبول بعض مخططات الأعداء هناك أمر ثانٍ أريد أن أنبه عليه، وأقدم له بمثال: عندما يذهب الإنسان ليشتري بضاعة فإذا قال له البائع: إنه بأربعين، فإنه يقول للبائع: أريدها بعشرين، وهو يعلم أن البائع لن يرضى بهذا الثمن، ولكنه يقول: عشرين ليصل معه إلى الثلاثين، وأخشى أن يكون موقف بعضنا أو موقف فئات ومجتمعات إسلامية من هذا المؤتمر مثل هذا الموقف، فقد عرضوا في هذه الوثيقة كل المحرمات، ليصلوا بعد ذلك إلى أن يكون هناك تفاوض ومكاسرة كما يكون في البيع والشراء، فنرفض هذا ونرفض هذا ونقول: هذا لا يليق، فيقال: إذاً: فلنلغ هذا، وأما هذا فيمكن أن يكون هكذا وهكذا. وأقول: هذه الصورة قد تقع على مستوىً عام وعلى مستوىً فردي، وهذا هو الأمر الخطير، فما زلنا في واقع حياتنا نترخص ونأخذ ما فيه بأس رجاء ألا يكون فيه بأس، بينما سلفنا كم أثر عنهم كانوا يجعلون بينهم وبين الحرام سبعين باباً من الحلال تورعاً واحتياطاً واتباعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه). وأقول: هذا الحمى قد سبق أن تدرج فيه الناس ووقعوا فيه، فلم نكن في يوم من الأيام نرضى للمرأة المسلمة أن تكشف عن وجهها، ثم ترخصوا في ذلك، ثم قالوا: لا بأس بشعرها، ثم ذراعها، ثم أصبحت تسبح في المسابح لا يستر عورتها شيء إلا أقل القليل، وهكذا قد تطلب مثل هذه الطلبات، فيقال: لا، هذا لا يليق، وهذا لا يصح، ثم يرضى بعد ذلك بما هو أدنى منه مما هو أسوأ. وينبغي أن تكون مثل هذه الدعوات والتوصيات دافعة لنا للمراجعة لما سبق، فلننظر فيما سبق، ولتنظر المجتمعات الإسلامية، أليس قد وقع فيها كثير من الأمور المخالفة لشرع الله عز وجل، ووقع في بعض البلاد ما يشبه إباحة الزنا والدعوة إليه والإرشاد إليه؟! أليس هذا كله قد وقع؟! إذاً: بدلاً من أن نرفض هذا ونترخص فيما هو دونه ينبغي أن يكون ذلك كالتنبيه لنا لنرجع، حتى في بيوتنا؛ ألسنا قد كنا من قبل نستحيي في أسرنا أن يتكلم الأبناء أو الآباء والأمهات في مكان أو في وقت بأمر يمس من قريب أو بعيد الأمور الخاصة بأمور الرجل والمرأة، فأصبحنا بعد ذلك لا نرى بأساً بهذا الحديث، بل أصبحت الأسر الإسلامية في كثير من البلاد تجتمع على الشاشات الفضائية أو على الأفلام التي تظهر فيها مظاهر العري، والأم والأب والابن والبنت يشاهدون ذلك ولا شيء ولا حرج ولا حياء! إذاً: نريد أن يكون هذا بمثابة الهزة التي تنبهنا إلى ما سلف من تصرفاتنا التي ترخصنا فيها وتجاوزنا فيها شرع الله عز وجل.

استهداف وثيقة العار هدم الأخلاق والقيم

استهداف وثيقة العار هدم الأخلاق والقيم هذه الوصايا والمقترحات تهدف -كما جاء في مذكرة رابطة العالم الإسلامي- إلى دعوة الدول إلى إعادة صياغة جميع البرامج الخاصة بها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً تبع التوصيات، حتى التعليم ينبغي -بموجب هذه التوصيات- أن يغير، وأن يدرس الأطفال والمراهقون أمور الجنس وغيرها. ثم أيضاً يترتب على ذلك تنحية الجوانب الدينية والأخلاقية، وأن يلغى من قواميس الاصطلاح والتعامل الاجتماعي: الحرام، والعيب، والحياء، ونحو ذلك. وتتضمن التوصيات ما يفيد أن أية دولة تخالف هذه التوصيات بعد إقرارها سوف تكون شاذة عن الإجماع الدولي العالمي، وستتعرض إلى ضغوط سياسية، وإلى شروط اقتصادية مجحفة، وهذا أيضاً أمر تتضمنه هذه الوثيقة كما جاء في مذكرة الرابطة. وتشير الرابطة إلى أن الوثيقة التي تكونت من مئات الصفحات للتكلم عن التنمية لم تتحدث عن التنمية إلا بقدر عشرين بالمائة، وأن الثمانين بالمائة الأخرى كانت خاصة بالخدمات الصحية التناسلية والجنسية، كما هو تعبير الوثيقة، ولذلك نرى أن الأمر واضح. كثير منا يقول: لا تهمنا هذه الوثيقة وهذا المؤتمر؛ لأننا ننكر ما فيه، ولكنني أقول: إن الأمر أخطر من ذلك، فينبغي أن يكون الإنكار عملياً، وأن تكون المراجعة شاملة، وأن يكون الحذر كاملاً من مثل هذه الأمور الخطيرة التي تستهدف الأخلاق، وتستهدف القيم والمبادئ، وتستهدف قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك الإيمان والعقائد. فالله أسأل أن يحفظنا، وأن يحفظ مجتمعاتنا، وأن يحفظ أسرنا، وأن يحفظ أبناءنا وبناتنا وأزواجنا، وأن يحفظنا جميعاً من كل سوء، وأن يبعد عنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يسلمنا وأن يبعدنا عن المحرمات وعن الأمور المشتبهات. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الإيمان والتقى. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الورع واليقين. اللهم إنا نسألك أن تباعد بيننا وبين ما يسخطك، وأن تجنبنا كل ما حرمت علينا يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن تلهمنا الرشد والصواب. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا هداة مهديين، وأن تهدينا، وأن تهدي بنا. اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تحفظ شبابنا وشاباتنا من كل سوء يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

واقع اليهود وحقيقتهم

واقع اليهود وحقيقتهم اليهود هم تلك الفئة التي انحرفت من سالف الأزمان، فكذبت كثيراً من الرسل، وطعنت في كثير من الكتب الإلهية، وظنت في نفسها الرفعة والعلو على باقي البشرية، وقد اقترن بتاريخهم قديماً وحديثاً سفك الدماء، والغدر والخيانة، والنفاق وسوء الأخلاق، ولذلك صار حالهم منكوساً، وطالعهم منحوساً، فشتتهم الله في أقطار الأرض، وزرع لهم في النفوس البغض، وهو حسيبهم يوم العرض.

اليهود: الشر العريض والتاريخ البغيض

اليهود: الشر العريض والتاريخ البغيض الحمد لله الذي وعد المؤمنين بالنصر، وطمأن قلوبهم بالذكر، وزاد نعمهم بالشكر، وكتب على الكافرين الذل والخسر، وجعل مآلهم إلى ضياع وقهر، أحمده سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، له الحمد كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إنّ من أهم الأدوار التي ينبغي أن نقوم بها، وأن نحرص عليها، معرفة حقيقة الأعداء، فاعرف عدوك حتى تستطيع أن تواجهه، وأن تعرف مواطن ضعفه، وهذا التعرف قد سبق لنا عدة أحاديث عنه من خلال حقائق الآيات القرآنية الناطقة، وشواهد ومواقف السيرة النبوية العطرة. ولعلنا اليوم ونحن نرى بغي اليهود وعلوهم وغطرستهم، وما هم عليه من ذلك الكبر والعظمة التي تلقي في قلوب الخونة والخورة الهول والرعب، لعلنا ونحن نرى ما يشيعونه من أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ونحن نسمع عن ترسانة عسكرية هائلة، ونحن نعلم عن أسلحة نووية مدمرة، لعلنا ولعل كثيراً من المسلمين قد خامر قلوبهم وعقولهم عظمة الأعداء، وشدة قوتهم، واتحاد صفهم، ونحو ذلك مما ينبغي أن نعرف حقائقه، وأن ننظر إلى صور ذلك المجتمع الملفق من شذاذ الأرض الذين تجمعوا من آفاق الدنيا، فتجمعت بهم رذائل الدنيا كلها في ذلك المجتمع العنصري البغيض، ولعلنا ونحن نكشف بعض وجوه الخلل والضعف في تلك الدولة المزعومة نتساءل -وسيرد هذا التساؤل-: كيف استطاع اليهود أن يبرزوا كقوة ترهب أكثر من ألف مليون مسلم مع كل صور الضعف، وكل مظاهر التفكك الداخلي؟! وكيف يظهرون كدولة ولا يجرؤ أحد في العالم كله على معارضتهم خاصة العالم الغربي الذي يدعي القوة، والذي يحرص على العدالة، والذي يظن الناس فيهم أنهم يقيمون قسطاس العدل في الدنيا كلها، فلا يستطيع أحد أن يتكلم بكلمة واحدة فضلاً عن أن يقف موقف عداء ضدهم، أو أن يقف موقف نزاهة وعدالة إزاء عدوانهم، وإن فعل ذلك أحدهم اتهم بأنه عدو للسامية، ويحاكم على تلك العنصرية، بل إننا رأينا عجباً من دول فتية قوية وهي تدفع الجزية لليهود عن جرائم وهمية، وتعتذر لهم بكل الصور والوسائل الإعلامية عما سببته لهم من اعتداء أو نحو ذلك.

تدهور المجتمع اليهودي وتفككه وانهياره من الداخل

تدهور المجتمع اليهودي وتفككه وانهياره من الداخل فلننظر إلى صورة اليهود من الداخل، وذلك من خلال إحصاءات لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات من داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي، ومن خلال إحصاءات ودراسات قامت بها مراكزه، ونشرت في صحافته، وظهرت في داخل حوارات مجتمعه: فنسبة (23. 5%) من الطلاب الذين أعمارهم ما بين الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين يتعاطون المخدرات، (14%) يتعاطون الحشيش، و (30%) كما هو في دراسة مجلس سلامة الطفل في أرضهم يمارسون نوعاً من الاتجار بالمخدرات، أي: أن نحواً من ثلث ذلك المجتمع يمارس تجارة المخدرات، وفي إحصائية ودراسة لوزارة العمل الإسرائيلية أفادت أن (37%) من طلبة وطالبات المدارس العامة يعاقرون الخمر، و (80%) منهم مدمنون للخمور بشكل عام. وفي البناء الاجتماعي، والتصدع الأسري تظهر حقائق عظيمة أيضاً: فنسب الطلاق تتجاوز (25%)، والزنا في دائرة الأسرة نفسها بلغت نسبته في المجتمع اليهودي (50%)، وفي خارج إطار الأسرة (25%)، وأما جرائم العنف في طلبة المدارس فإنها قد بلغت نحو (50%)، وأثبتت بعض الدراسات أن (60%) من جميع الطلاب لم يتخرجوا حتى مارسوا عمليات من العدوان على زملائهم في تلك المدارس. والصور أكثر من ذلك، والشذوذ عندهم -وهو فعل قوم لوط ونحوه- مقر وشائع وذائع، بل إنه يعقد عقداً رسمياً بمباركة الحاخامات وعلماء الدين اليهود في الأماكن المقدسة عند حائط المبكى الذي يقدسونه! ولا عجب في هذا إن كنا نعرف كتاب ربنا، ونقرأ آياته، فإن الله قد وصفهم فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].

نسبتهم الفواحش والآثام إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام

نسبتهم الفواحش والآثام إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام يروج اليهود للفواحش بنصوص توراتهم المحرفة المدنسة لا الأصيلة المقدسة، بل وينسبونه كذباً وزوراً إلى الرسل والأنبياء؛ ليجعلوا فعلها عبادة يتقرب بها إلى الله، ففي نصوص توراتهم المكتوبة عندهم اتهام لأكثر الأنبياء بممارسة الزنا والفواحش مع المحارم، وقد نصوا نصاً واضحاً على أن لوطاً عليه السلام قد شرب الخمر وعاقرها حتى فقد عقله، ثم زنى بابنتيه، وهذا ليس ادعاءً عليهم، بل هو نص ما بين أيديهم من الكتب التي يقرءونها، ويدرسونها، ويدّرسونها.

المجتمع اليهودي والعنصرية

المجتمع اليهودي والعنصرية إن هناك تفككاً اجتماعياً، وطبقية عنصرية في داخل ذلك المجتمع، فليس اليهود كلهم في مرتبة واحدة سواء بالنسبة للمجتمع اليهودي، أما هم فيعتبرون أنفسهم أعلى من الخلق كلهم، وأحسن من البشرية جمعاء، ولكنهم في داخل ذلك المجتمع ينقسمون إلى يهود من الدرجة الأولى وهم: اليهود الغربيون الذين أتوا من أوروبا الغربية، ومن أمريكا ومن غيرها، ويسمونهم الإشكاريزن، واليهود الآخرون من الدرجة الثانية من أوروبا الشرقية، ويسمونهم سكادرن، ثم هناك من هو دونهم، وهم اليهود القادمون من إفريقيا ومن بعض الدول العربية، وهذا ليس أمراً مدعىً عليهم، بل هو معروف لديهم، وإن أولئك اليهود الذين يحسون بهذه التفرقة العنصرية بدأت آثارها الاجتماعية واضحة جلية تتحدث في صور كثيرة داخل ذلك المجتمع. ثم نرى أيضاً كثيراً من الصور التي تندرج تحت ذلك الضعف والهوان الحقيقي الذي قد نستغرب كيف يكون كذلك ثم لا يجرؤ أحد، ولا تستطيع أمة أو دولة أو شعب أن يقهرهم ويغلبهم؟!! ومن الأمور التي صارت معروفة في هذه الأيام على وجه الخصوص ومع الانتفاضة الجهادية المباركة أن كثيراً من جنود اليهود يرفضون الأوامر العسكرية بالتوجه إلى مناطق التماس والمواجهة الحربية، وأن كثيراً منهم الآن مسجونون في السجون الإسرائيلية عقوبة لهم على عدم امتثال الأوامر العسكرية، وأن كثيراً منهم قد ملئت قلوبهم رعباً، وأنهم -كما رأينا بعد العمليات الجهادية الموجعة- باتوا يدعون إلى إعلان تهدئة الأوضاع، أو وقف إطلاق النار كما يزعمون أو نحو ذلك. ونجد كثيراً من الأوضاع العجيبة في ذلك المجتمع، تدل على الكثير من الفساد العظيم، والهلاك الكامل، والتفكك الرهيب الذي ينخر في ذلك المجتمع، وهناك دراسات كثيرة تدل على ذلك ليس هذا مقام ذكرها. فكيف استطاع أولئك أن يواجهوا الأمة العربية والإسلامية رغم كل هذه الأوضاع المتردية؟!

ما الذي جعل اليهود يواجهون العرب رغم التفكك الاجتماعي عندهم

ما الذي جعل اليهود يواجهون العرب رغم التفكك الاجتماعي عندهم التفسير لا يحتاج إلى كثير من التفكير، فإن بين يدينا من كلام ربنا ما يبين ذلك ويجليه، فقد ضرب الله سبحانه وتعالى عليهم الذلة والمسكنة، وبين أنهم قد باءوا بغضب من الله، ثم جاء الاستثناء الذي يفسر لنا كثيراً من الواقع: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112]، أما حبل الله جل وعلا فقد انقطع عنهم، وقد ظهر أمر الله عز وجل عند وجود أهل الإيمان والإسلام الصادقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن أصحابه رضوان الله عليهم حيث نكسوا على رءوسهم، وهزموا وقتلوا وأخرجوا وطردوا، ولم يكن لهم قوة ولا شوكة ولا أي وجود مطلقاً، وكذلك كانوا في كل مراحل التاريخ الإسلامي الذي كانت الأمة فيه متماسكة، وبكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم مستمسكة. فما هو حبل الناس؟ إنها حبال كثيرة وليست حبلاً واحداً، والحبل هنا اسم جنس يشمل الواحد وما زاد. أول ذلك: حبل أعداء الإسلام قاطبة، فإن اليهود يجدون العون والدعم والإسناد المعنوي والسياسي والإعلامي والاقتصادي والعسكري من العالم الغربي النصراني، ومن العالم الشرقي الهندوكي، ونحن وكل الناس نعرف أن الأموال تصب على إسرائيل صباً، وأن المواقف السياسية الحاسمة الرافضة المدافعة عنهم تعلن علناً، وتظهر لكل أحد، وهي كثيرة تلك الصور التي لا تخطئها العين من حجم أولئك القوم الذي يدعمون اليهود وينصرونهم، وذلك لقدر وحكمة ربانية يعلمها الله تعالى، فهذا سبب عظيم من أسباب قوتهم وبقائهم رغم ضعف اقتصادهم، ورغم كثير من مشكلاتهم. ونحن نعلم أن تلك الاتجاهات والدول الغربية تنطلق إلى ذلك من منطلقات عقدية، وينبغي أن نعرف ذلك وقد أخبرنا الله جل وعلا به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فهم أولياء بعض، وأخبرنا أن المنافقين بعضهم أولياء بعض، فنحن نصدق كتاب ربنا، ونكذب كل قول يعارضه ويخالفه. ولقد ذكرنا من قبل بعض المؤتمرات النصرانية المسيحية الكنسية التي عقدت لأجل دعم الصهيونية، وهم يعتقدون -وخاصة فرقة من فرق النصارى وهم البروتستانت- أن عليهم نصرة اليهود، وأخذوا ذلك من نبوءات كتبهم المقدسة، وما يأملونه ويعتقدونه بالباطل والتحريف، ومنها: أن عيسى عليه السلام سينزل مرة أخرى إلى بيت المقدس، وهم يظنون أن اليهود حينئذ سيؤمنون به ويتابعونه، فهم يسعون لذلك، وعندهم أن هذا لا يتحقق إلا بعد ثلاثة أمور: 1 - قيام دولة إسرائيل. 2 - كون القدس عاصمة لها. 3 - إعادة بناء الهيكل لليهود. وفي استفتاء لأكبر دولة داعمة لإسرائيل وجد أن (39%) من مواطني تلك الدولة يعتقدون بهذه النبوءة، ويدفعون الأموال لتحقيقها، وذلك غير الدعم الحكومي، فتصب عليهم ملايين الملايين من أولئك الحمقى والمغفلين. وهذه عقائد تضافرهم وتؤيدهم، ومن هنا كان الوعد الذي أعطي لهم في أول الأمر، ومن هنا كانت المسارعة بالاعتراف بدولتهم بعد مرور ثلاث دقائق، ومن هنا كان ذلك الدعم الذي نراه ونلمسه ونجد له شواهد عديدة. وهناك حبل آخر -وهو وللأسف- حبل يمت للمسلمين بصلة، وهو حبل الضعف والخور وزعزعة اليقين والإيمان في نفوس أهل الإسلام، ثم ما نشأ عنه من ممالأة لهم ومداهنة، بل ومعاونة، بل واشتراك معهم في بعض جرائمهم، ومع أن الله جل وعلا يبين لنا أخلاق اليهود وأفعالهم؛ لنحذر منها، ونحن نرى أيضاً كثيراً من بلاياهم وانحرافاتهم ومع ذلك كله صار المسلمون يطبقونها ويقلدونها، ويسيرون وراءها، وذلك مصداق ما أخبربه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أي: فمن غيرهم؟! ألسنا نرى كثيراً من أحوال مجتمعات المسلمين تطبعت بخلال اليهود، واتسمت بأخلاقياتهم؟! فقد صار الانحراف والاختلاط ونحو ذلك مما نعرفه شائعاً، ومن هنا ضعف الإيمان، وكادت حقيقة الإسلام أن تخفى من تلك المجتمعات، وجاء بعد ذلك كله ما قلناه من أنه لا يمكن مواجهة أولئك الأعداء، فصارت هناك مواقف الذل والخنوع والممالأة، وحينئذ لم يكن هناك شيء ولا موقف يستطيع أن يكشف ذلك العوار في داخل ذلك المجتمع، ولا أن يهتك الستر عن تلك الصور المخزية التي تبين أن ذلك المجتمع فيه كل الرذائل، بل وفيه كل المخالفات التي تسمى اليوم -بمقياس المنظمات الدولية- مخالفات لا تتفق مع القوانين والشرائع النظامية، وهناك مواقف كثيرة من مواقف المسلمين، ومن مواقف كثير من الذين بأيديهم الحل والعقد تمثل ذلاً للمسلمين، وهواناً لهم، وخوراً وضعفاً أمام أعدائهم، بل ويعطون ما يريدون مع كل ما قد يظهر من خلاف ذلك في صور إعلامية مزيفة، وهذا يدلنا أيضاً على سبب آخر، ويجعلنا نكتشف كذلك أسباب أخرى، ولو أنا رجعنا إلى كتاب ربنا، ولو أنا عرفنا حقائق أولئك القوم لكانت مواقفنا كمواقف أولئك الأبطال الذين يعلمون حقيقة اليهود من واقع معايشتهم في أرض فلسطين، فترى الواحد منهم وهو صغير لا يتجاوز الخامسة عشرة يقذفهم بالحجارة، وهم يولون أمامه كما نرى في صور التلفزة، من أولئك الذين قتلوهم وهددوهم وأرهبوهم وهم لا يملكون شيئاً من القوة الحقيقية المادية، ولكن قوة الإيمان، ومعرفة حقيقة الأعداء كفيلة بهذا. نسأل الله عز وجل أن يقذف الرعب في قلوب اليهود، وأن يفرق شملهم، وأن يخالف كلمتهم، وأن يظهر ضعفهم، وأن يجعل بأسهم بينهم. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

تعبئة المجتمع اليهودي على الحرب والدماء

تعبئة المجتمع اليهودي على الحرب والدماء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه. وهناك صورة أخرى نحتاج إلى معرفتها، وهي صورة التربية والتعبئة في داخل المجتمع اليهودي، إن الذي يمسك هؤلاء المفترقين، وهؤلاء المتفاوتين طبقياً، وهؤلاء المخمورين والمخدرين، إن الذي يجمعهم ويبث فيهم شيئاً من التماسك والقوة؛ هو التربية الدينية اليهودية العدائية، والتعبئة النفسية الحربية العسكرية. إن هذه الدولة كلها دولة حرب، ونحن نسمع في كل الدنيا عن وزارات للدفاع، لكن في إسرائيل يسمونها وزارة الحرب؛ لأن الحرب والدموية والعدوان والإرهاب أمر يدرس للأبناء والصغار في المدارس من المراحل الأولى، بل ويدعمه كثير من العوامل: أولها: العامل الديني التوراتي، فالتوراة تبين أن غير اليهود ليست لهم حرمة، وقتلهم يعد قربة، وأنهم كلاب لليهود، وأنهم يسخرون لشعب الله المختار، وليس هذا ادعاء، بل هو نص توراتهم وتلمودهم، وقول أحبارهم ومعاصريهم اليوم، وقريباً سمعنا تصريحات الحاخام الشهيرة عندما قال: يجب أن تقتلوا العرب جميعاً، صغيرهم وكبيرهم! وهذه التعبئة موجودة في توراتهم المحرفة، فقصة موسى عليه السلام التي ذكرها الله لنا في القرآن لما رأى رجلاً من قومه، وكان ذلك قبل نبوته، فوكزه موسى فقضى عليه، ولم يكن يقصد ذلك؛ يوردها اليهود على أن هذا فعل عظيم من أعظم أنبيائهم، وأنه إذا استطاع اليهودي أن يقتل غير اليهودي فهو واجب عليه، ويكون بذلك مقتدياً بموسى عليه السلام عياذاً بالله! والله عز وجل قد أخبرنا في القرآن أن موسى عليه السلام ندم على ذلك، واستغفر ربه، وأن ذلك قبل نبوته، ولكنهم يزورون ويحرفون؛ ليجعلوا كل يهودي مشبعاً بروح الدم والقتل والإرهاب، ونرى ذلك في مناهج المدارس، بل نجده كذلك في كل الصور المختلفة الإعلامي منها وغير الإعلامي. أحد كبار مجرميهم وزعمائهم السابقين ألف كتاباً يخبر فيه عن أفكاره ومعتقداته ونظراته ومواقفه، فيقول: تعلمت من أبي: أننا نحن اليهود لا بد أن نعود إلى أرض فلسطين كل فلسطين، وبكل حزم؛ ولذا لقد كنا مقتنعين بالشرعية المطلقة لكل أعمالنا اللاشرعية! أي: شرعيتهم هم، فهذا القتل الذي يعد بكل المقاييس ليس شرعياً، هم يرونه شرعياً وعبادة وتقرباً بسبب هذه العقائد المزيفة المحرفة، ثم يقول: كتبت هذا الكتاب لغير اليهود أيضاً؛ خوفاً من أن يكونوا قد نسوا أنه من الدمار والنار والدموع والرماد قد خلق صنف جديد من البشر لم يعرفهم العالم وهو: اليهودي المحارب، ثم يستشهد بقول المفكر الشهير الذي قال: أنا أفكر فأنا موجود، قال: وأنا أقول: أنا أحارب فأنا موجود، وكن أخي وإلا قتلتك! هذه عقيدتهم التي ينشرونها، وهذا إعلامهم الذي يكرسونه لها، وهذه عنصريتهم التي يقررونها؛ ولذلك نجد أن هذا أمر يبث في كل وسائل إعلامهم، ويدرس في مدارسهم، ويكرس في آليتهم العسكرية والحربية، فكل يهودي لا بد أن يكون جندياً محارباً، ذكراناً وإناثاً، فالكل عليهم التجنيد الإجباري إلا قلة من كبار السن، فكلهم مسجلون احتياطيون في الجيش، فالمجتمع كله جيش محارب، وهذا أمر واضح، ولذلك يشغلون مجتمعهم كله، ويدفعونه نحو المواجهة الذهنية؛ لكي ينشغل بهذا الأمر، فيكون عنده ذلك الانحراف الخلقي الذي يمتد إلى أقصى مدى في رذائل اليهود، ويكون عنده ذلك الاندفاع الإجرامي الذي يمتد إلى أقصى مدى أيضاً في مواجهة من يسمونهم أعداءهم؛ ولذلك قال قائلهم في بعض البحوث: إن التعليم في إسرائيل هو مجرد تعبئة روحية لإعداد الجنود ليوم الحرب، ويتضمن مهد التاريخ، ويتضمن تاريخ الحركة الصهيونية، وتمديد الجيش اليهودي، ودراسة التوراة، وكل ما من شأنه أن ينمي في نفوس الناشئة الروح العسكرية. ولا أريد أن أطيل، ولكن انظروا ما الذي يكون في الجانب المقابل في كثير من بلاد العرب والمسلمين، بينما نرى عقيدة اليهود عندهم في جوانب شتى، وفي نواحي عديدة، وأصبح العنف -كما يقول أحد باحثيهم- جزءاً من مكونات حياة اليهود، وأسلوب معيشتهم؛ ولذا تقول أكبر صحفهم: إن مجتمعنا يؤمن بأن الحق للقوة، وهذا ما جعل العنف في نظر الشباب أفضل رد على جميع المشكلات. هذا التوجه هو الذي يحفزهم ويدعمهم، إلا أن الله جل وعلا قد أخبرنا عن حقائق خور نفوسهم، ورعب قلوبهم، وضلال عقولهم، وانحراف أخلاقهم، وهذا كله مما نراه، والمسلمون الصادقون، والمؤمنون الأخيار، والمجتمع المسلم الحقيقي لم يواجه أولئك، لكن كما قال بعضهم: عندما يكون الجدار متصدعاً فتضع يدك عليه فإنه سيسقط، وليس ذلك من قوة اليد، وإنما من تصدع ذلك الجدار، فما علا اليهود وما انتصروا إلا بضعفنا وخورنا؛ ولذلك يوم يخرج الأطهار الأبرار المؤمنون الذين يطلبون الشهادة فستزلزل صفوف اليهود، وترعب قلوبهم، وتخل قوتهم؛ وحينئذ يتضح أنه لا يمكن أن يكون السلاح هو الذي يحقق النصر إذا كان حامله رعديداً جباناً وإذا كان القائمون به ليسوا على قدم واحدة، وليسوا على هداية واستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى. خلوا الطريق لنا فنحن الناس أما الذين بغوا فهم أنجاس نصر النبي لنا جميعاً كله لا النصف لا الأرباع لا الأخماس ولينصرن الله ناصر دينه هذا هو المعيار والمقياس فحقيقة أعدائنا ينبغي أن نعرفها، وحقيقة حبال القوة التي تمدهم يوشك في زمن قريب أو بعيد أن تنقطع، ويقيننا بما أخبرنا به الله عز وجل، وما بشرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يكون كاملاً وتاماً. قال الله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله). نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقوي إيماننا، وأن يعظم يقيننا، وأن يزيد من همتنا، وأن يقوي من ضعفنا، وأن يوحد صفوفنا، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين، ومن جنده المخلصين، وأن يكتبنا من ورثة جنة النعيم. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى. اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب ولا ترضى. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك. اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم يوماً قريباً أسود يا رب العالمين! اللهم إنا ندرء بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم. اللهم فرق صفهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واجعل الدائرة عليهم. اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم إن نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين. اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم وانصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

فقه تزكية النفوس

فقه تزكية النفوس تزكية النفس هي عنوان الفلاح، فينبغي للمسلم أن يفقه هذه التزكية؛ ليعرف كيف يزكي نفسه. ومن فقه التزكية أن نعرف فوائدها وثمراتها والأسباب الموصلة إليها، كما نعرف الآفات والعوائق التي تحول دون تحصيلها.

مفهوم فقه تزكية النفوس

مفهوم فقه تزكية النفوس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. وبعد: فنحمد الله أن يسر لنا هذا اللقاء، ونواصل ما كنا بدأناه من الدروس العلمية -العامة- وهذا هو الدرس التاسع عشر، وهو بعنوان: (فقه تزكية النفوس). وهذا الموضوع ربما كان مناسباً في مثل هذا الوقت الذي لم يطل فيه البعد عن شهر رمضان المبارك، الذي كان -ولا يزال- موسماً عظيماً من مواسم العظة والتذكرة والإيمان، فيه تحيا القلوب، وتطمئن النفوس، وتنشرح الصدور، ولابد لنا -ولكل مؤمن- أن يسعى إلى هذا الخير العظيم، وهو: تزكية النفس، وتطهير القلب. مرادنا بالفقه هنا معناه العام: الفهم والإدراك، وليس مرادنا الخاص المتعلق باستنباط الأحكام الفقهية من أدلتها التفصيلية، وإنما المراد: الفهم الذي يشمل المعاني المعنوية، وكذلك الأحكام العملية، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] أي: لا تفهمونه ولا تعقلونه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) لم يقل: يعلمه الدين، وإنما قال: (يفقهه) لأن الفقه أعمق من العلم، إذ إن العلم هو أخذ الأمور حفظاً وإدراكاً، ويزيد الفقه على ذلك: بمعرفة ما يتصل بهذا من المعاني الإيمانية والقلبية وإدراكها ضمن تصور عام يبين منزلتها وموقعها. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا) أي: إذا أخذوا الفقه والفهم في هذا الدين، والمشكلة الكبرى التي تعترض المسلم اليوم هي: النأي والبعد عن الفقه، إما جهلاً به، أو جنوحاً ومخالفة له، وهذا الفقه الذي نعنيه هو: (الفهم)، فقد يجنح بعض الناس في فهمه لمسألة من مسائل الدين فلا يقع على الخير والبصيرة أو قد يغفل عنها فيفوته خير كثير. ولذلك فإن الآيات القرآنية تبين أن المشكلة الكبرى إنما هي عدم الفقه، كما قال سبحانه وتعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]. فالمراد أن نفهم هذه التزكية للنفوس، وكيف تكون وأهميتها وآثارها وما يلحق بذلك. فهذا هو فقه التزكية، ويأتي -إن شاء الله تعالى- فقه الدعاء، وفقه السجود، وفقه السؤال والجواب، وفقه الهجر والعتاب، وربما موضوعات أخرى يكون فهمها وإدراك معانيها الظاهرة والباطنة فيه خير كثير، وربما كان هناك بعد أو غفلة عن فهم مثل هذه الأمور، فنشرع فيما يتصل بتزكية النفوس.

فوائد وثمار التزكية

فوائد وثمار التزكية لماذا الحديث عن تزكية النفوس؟ وما أهمية هذه التزكية وفائدتها؟ قد يقول قائل: إن مثل هذه الموضوعات إنما يُذكَر بها العوام، دون طلاب العلم! وإنما تصلح للغافلين المعرضين دون الذاكرين المقبلين، أو إنها تصلح للعاصين دون الملتزمين، وهذا من الخطأ في فهم التزكية وفقهها؛ إذ إن أولى الناس بالتزكية هم المقبلون الطائعون، بل لا تتم طاعتهم -معرفة وثمرة وجنياً لخيرها- إلا بهذه التزكية. فنقول: أهمية التزكية تكمن في نقاط مهمة ومتعددة كما يلي:

التزكية غاية عظمى في هذا الدين وخلاصة دعوة المرسلين

التزكية غاية عظمى في هذا الدين وخلاصة دعوة المرسلين التزكية مهمة لأنها غاية عظمى في هذا الدين، وخلاصة دعوة المرسلين، ولنتأمل قول الله سبحانه وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151]، لم يكن المقصد هو العرض بتلاوة الآيات وإنما أثرها في تزكية النفوس، وتطهير القلوب، وفيما يترتب بعد ذلك من العلم، إذ العلم لا يكون إلا لمن قذف الله في قلبه التوفيق، ولمن أنار قلبه ببصيرة الإيمان، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] وكم من حامل علم لا أثر لعلمه في عمله؛ لأنه لم يكن لعلمه أثر في تزكية نفسه، فكيف يظهر بعد ذلك في قوله أو في فعله؟! ولذلك قال إبراهيم الخليل عليه السلام كما في دعائه الذي ذكره القرآن: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] وتقديم التزكية أو تأخيرها له علة تدل على أهميتها، فتقديمها: لأن الإخلاص وتزكية النفس والقلب يؤهل لنيل المعرفة والعلم، كما ذكر عن الشافعي قوله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي وكذلك تأخير التزكية عن العلم دليل على أن صاحب العلم إنما ينفعه علمه إذا زكى نفسه أولاً، وحينئذ يؤثر بقوله وعمله في الناس؛ ولذلك فأول أمر في أهمية التزكية: أنها غاية عظمى في هذا الدين، وخلاصة دعوة المرسلين.

التزكية سبب للسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة

التزكية سبب للسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة التزكية نجاح الدنيا، وفلاح الآخرة، إذ المدار كله على هذه القلوب، وهذه النفوس كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، وكما قال جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]. إنما الفلاح والنجاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة بهذه المعاناة في تزكية النفوس، فما أجدرها أن تكون لها أهمية عظمى، إذ هي بمثل هذا المكان الذي به يقع الفلاح أو الخسران.

التزكية ثمرة العبادات وخلاصة نتائجها

التزكية ثمرة العبادات وخلاصة نتائجها التزكية ثمرة العبادات وخلاصة نتائجها، فليست العبادات في هذه الظواهر من ركوع أو سجود، أو مجرد تلفظ بألفاظ، أو إرهاق النفس بالصوم، أو إجهاد البدن في الحج، وإنما هو ما وراء ذلك كله، مما ينسكب في القلب ويملأ النفس من الروحانية والإيمان، والتي تجعل نفس الإنسان في مراتب عليا من الطهارة والنقاء والصفاء. إذاً: هي غاية هذه العبادات، كما قال سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، إنما هو محض التطهير والتزكية، وكما قال جل وعلا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وقال في الغاية من الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. فكل عمل خلاصته وثمرته هي هذه النفس وتزكيتها.

التزكية سبب لدخول الجنة والنجاة من النار

التزكية سبب لدخول الجنة والنجاة من النار التزكية عربون الجنة، وستار من النار كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76]، ويقول سبحانه وتعالى في الوقاية من النار: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18]. إذاً: التزكية سبب لدخول الجنة وستار ووقاية من النار.

التزكية سبب طهارة القلب وصلاحه

التزكية سبب طهارة القلب وصلاحه هذا جامع لكل ما سبق وهو: أن التزكية مناطها القلب، والقلب هو قطب الرحى، فإن الله جل وعلا قال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. فإذا عميت القلوب عميت معها البصائر، وتعذّرت كل أسباب الفلاح، فيضل الإنسان، ويتخبط في عمله -عياذاً بالله سبحانه وتعالى-؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم -: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام مبيناً أن الأمور كلها مرتبطة بالقلب وصلاحه: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). أفلا يكون لهذه التزكية الأهمية الأولى والكبرى في حياة الإنسان المؤمن؟ وإن كان فيه خير، وإن كان مصلياً عابداً، وإن كان متقرباً ذاكراً، فإن فقه التزكية هو الذي يقويه على هذه الطاعات، ويجني له ثمرتها على أتم وأكمل صورة بإذن الله سبحانه وتعالى. ولذلك أذكر الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في قصة الرجل الذي بشره الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً بالجنة، فصحبه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ليرى فعله، فلم ير منه كثير صلاة ولا صيام، فلما سأله قال: (ليس من شيء إلا ما رأيت، غير أني أبيت وليس في قلبي على أحد من المسلمين غشاً ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه) فلما تطهّر من هذه الآفات -كما يقول ابن القيم:- صلُحت سلعته لعقد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] أما النفوس المليئة بالأكدار، والقلوب المليئة بالأوضار، فليست سلعة تقدم بين يدي الله سبحانه وتعالى. فلذا كانت التزكية مدار الأمر وأوله وآخره، وعليها -بإذن الله سبحانه وتعالى- المدار في الفلاح والنجاح، نسأل الله جل وعلا أن يزكي نفوسنا، وأن يطهر قلوبنا.

أهمية تزكية النفس في ظل طبيعة النفس البشرية وكثرة الفتن

أهمية تزكية النفس في ظل طبيعة النفس البشرية وكثرة الفتن هناك تعليل أخص من هذا التعليل العام، لاختيارنا موضوع التزكية ليكون حديثاً إلى من يُظن بهم الخير! ليسوا فقط من الذين يؤدون الفرائض، بل ومن المقبلين على الطاعات، المرتادين للمساجد، الحريصين على العلم، وقد يظن البعض أنهم لا يحتاجون إلى مثل هذا، فتعليلاً لهذا الأمر على وجه الخصوص أقول: من وجهين أردت أن يكون الحديث -على وجه الخصوص- موجهاً لمن فيهم الخير، ومن هم على خير.

حاجة النفس البشرية إلى التزكية مهما كان حظها من الطاعات

حاجة النفس البشرية إلى التزكية مهما كان حظها من الطاعات معرفة أهمية التزكية أصالة منهج في سياسة النفس، ووضوح رؤية في معرفة طبيعة هذه النفس، وطبيعة هذا الدين، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فالأمر كما قال حذيفة رضي الله عنه: (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً). إذاً: ليست التزكية مفقودة -أو ناقصة- عند العصاة فحسب، بل هي ناقصة أو مفقودة عند كثير من الطائعين؛ لذا وجب التذكير بها لهم، وهم فيها قدوة، فإذا فُقدت التزكية من أهل الخير والصلاح والطاعة، فماذا في بقية الناس من المتلبسين بالبدع أو المنغمسين في الشهوات والمعاصي؟ فهي -لاشك- أكثر بُعداً ومجانبة لحصولها في أنفسهم؛ لذلك نوجه الحديث لنا نحن الذين نظن بأنفسنا خيراً؛ لأننا أحوج ما نكون إلى هذا الأمر، ولأن فقده فينا خسارة عظمى لنا، وللناس أيضاً ممن هم أبعد منا عن الخير، أو أقصر همة في الاستباق إليه.

كثرة الفتن تجعل حاجتنا إلى التزكية أكثر من حاجة السلف إليها

كثرة الفتن تجعل حاجتنا إلى التزكية أكثر من حاجة السلف إليها هذا إدراك للواقع الذي كثرت فيه الفتن التي تغزو القلوب، والشهوات التي تفسد النفوس، أصبحت الدنيا تجذب الناس وتخطف أبصارهم وبصائرهم إليها، فنحن في عصر مهما كان للإنسان فيه من الخير فلابد أن يعترضه من الشر ومن سهام الفتن ما لا يكاد يحتمل، فلذلك كان لابد لنا من أسلحة مضادة، كما أن هناك في الحرب أسلحة مضادة للطائرات، فهناك أيضاً أسلحة مضادة للشهوات وللشبهات لابد أن تكون عند الإنسان، فإذا كان الإنسان يتوقع مثلاً أن عدوه لا يملك إلا رصاصة واحدة، فإن احتياطه سيكون محدوداً، ودفاعه يسيراً؛ لأنه يعلم أن العدو يملك سلاحاً ضعيفاً وذخيرة قليلة؛ فبمجرد أن تنتهي هذه الذخيرة فهو في مأمن، أما إذا علم الإنسان أن عدوه أكثر قوة فإنه سيستعد له بما يكفي لردعه وردّ كيده عنه. فإذا علم المسلم أن الدنيا تصب عليه فتنها وشهواتها ليلاً ونهاراً، سماعاً ورؤيةً، وقراءةً واطلاعاً، بهذا الكم العجيب من هذه الرزايا والبلايا، فإنه لابد أن يعرف أنه في حاجة إلى جهد أكبر. وإذا كنا نسمع من أهل الصلاح وأهل الإيمان من السلف الصالحين حرصهم على الطاعات وعلى تزكية النفوس، رغم أنهم لم يكونوا يجدون من هذه الفتن والشهوات مثلما نجد؛ وجب علينا -حينئذ- أن ندرك أننا في حاجة أكثر لتزكية النفوس. ولذلك فقه الدعاة المخلصون هذا الأمر، فحرّضوا طلبة العلم، ومن دخل تحت مسمى الالتزام بالدين وشباب الدعوة اليوم؛ أن يكون حرصُهم على تزكية النفوس أبلغ، وربما أكثر من حرص السابقين؛ لأن السابقين لم يكونوا يجدون مثل ما نجد من الفتن؛ ولذلك يقول الراشد جزاه الله خيراً: (والمؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية)، لماذا أشد حاجة؟ لأنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، وكان أهل المعاصي والفسق يُجهدون أنفسهم في التستر والتواري عن أعين العلماء، وسيوف الأمراء، أما الآن فإن المدنيّة الحديثة جعلت الكفر بجميع مذاهبه مسموعاً مرئياً بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف والمجلات، وجعلت إلقاءات شياطين الإنس والجن قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المسلم من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع والمنظور، فضلاً عن ابتعاد كثير من الدول والشعوب الإسلامية عن تحكيم شرع الله، فوجب على المسلم من المجاهدة والمراقبة -لوقته وقلبه- أكثر مما كان يجب على السلف. وهذا دليل فقه وفهم لاحتياج الواقع، ولذلك قال النورسي رحمة الله عليه: (إن هذه المدنيّة السفيهة المصُيّرة للأرض كبلدة واحدة، يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباح مساء؛ غَلُظَ بسببها وتكاثف بملاهيها حجابُ الغفلة بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة) أي: بسبب هذه الفتن وقربها والتصاقها بالناس، بحيث يسمعونها ويرونها، فغلظ بسببها وتكاثف بملاهيها حجابُ الغفلة، بحيث لا يخرق ولا ينقشع هذا الحجاب إلا بصرف همة عظيمة، ولذلك اخترنا هذا الموضوع المهم.

مدخل جامع لتزكية النفس

مدخل جامع لتزكية النفس لابد أن ندرك أن التزكية متعلقة بأمر واحد وهو (القلب)، والقلب مُتقلّب، والقلب لا يظهر للعيان، وهو سريع التأثر، فلذلك كانت المهمة صعبة، ولذلك يُعبّر ابن القيم رحمة الله عليه عن جوهر هذه التزكية، وخلاصة المعركة والمعاناة والمجاهدة فيها فيقول: (والمقصود أن يكون ملك الأعضاء -وهو القلب- قائماً بعبوديته لله سبحانه وتعالى هو ورعيته).

أمراض القلوب وأقسامها

أمراض القلوب وأقسامها الجوارح كلها رعية القلب، وأما المحرمات التي على القلب فقد قال عنها ابن القيم رحمه الله: (وأما المحرمات التي عليه فالكبر، والرياء، والعجب، والحسد، والغفلة، والنفاق، وهي نوعان: كفر ومعصية. فالكفر: كالشك والنفاق والشرك، وتوابعها. والمعصية نوعان: كبائر وصغائر. فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريماً من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها). فليست الكبائر محصورة في الزنا وشرب الخمر وغيرها مما يتعلق بالجوارح، لكن أكبر منها ما يتعلق بهذا القلب، وفتنته وشهوته، وأوضاره وأقذاره التي تصرفه عن مراد الله سبحانه وتعالى، ومقصوده منه جل وعلا، ولذلك قال ابن القيم: التي هي أشد تحريماً من الزنا، وشرب الخمر! وكما أن ابن القيم بين لنا الأمراض ومدارها، فكذلك بين لنا العلاج ومداره فقال: (فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد. ويترتب عليهما داءان قاتلان: وهما: الضلال والغضب. فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها).

علاج أمراض القلوب بتحقيق (إياك نعبد وإياك نستعين)

علاج أمراض القلوب بتحقيق (إياك نعبد وإياك نستعين) ذكر ابن القيم الجملة الجامعة للشفاء والعلاج، وهي جامعة للتزكية ومقاصدها، فقال رحمة الله عليه في مدارجه: (ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]). ثم بين لنا تركيب هذه الوصفة الطبية فقال: (فإن هذا الدواء -أي: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) - مركب من ستة أجزاء: عبودية الله لا غيره، بأمره وشرعه لا بالهوى، ولا بآراء الرجال، وأوضاعهم، ورسومهم، وأفكارهم، بالاستعانة على عبوديته به، لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره). فهي عبودية بالأمر والشرع، لا بالهوى، ولا بآراء الرجال. وبالاستعانة بالله، لا بالنفس ولا بالغير، قال: (فهذه هي أجزاء (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)). لكن الأجزاء ليس كل أحد يستطيع تجميعها، وليس كل أحد يستطيع تركيب الدواء تركيباً سليماً. قال: (فإذا ركبها الطبيب اللطيف العالم بالمرض، واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام، وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر)؛ فلذلك لابد أن ينتبه لهذا. ثم قال: (ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد، وهما: الرياء، والكبر، فدواء الرياء بـ (إياك نعبد)، ودواء الكبر بـ (إياك نستعين)، وكثيراً ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (إياك نعبد) تدفع الرياء، و (إياك نستعين) تدفع الكبرياء). فما أحوجنا لأن نفقه مثل هذا الفقه والفهم لهذه الآيات وتحقيقها في القلوب.

الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى هي علاج لأمراض القلوب

الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى هي علاج لأمراض القلوب ذكر ابن القيم أموراً جامعة لتحصيل ما به حياة القلب، وحصول محبة الله فيه، فذكر عشرة أسباب هي الجالبة لمحبة الله تعالى فقال: (أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهّم لمعانيه، وما أُريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه. الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة. الثالث: دوام ذكره على كل حال، باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر. الرابع: إيثار محابه -أي: محابّ الله عز وجل- على محابك عند غلبات الهوى. الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة. السادس: مشاهدة بر الله وإحسانه وآلائه ونعمه. السابع -وهو من أعجبها-: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى. الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بأدب العبودية بين يديه. التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك. العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل). وذكر عن بعض السلف أنه جمعها بأخصر مما ذكره ابن القيم فقال: (دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين). فهذه جملة جامعة تبين لنا جماع هذه التزكية، وتوضح دواء القلوب من أسقامها.

الرضا عن النفس أساس أمراض القلوب

الرضا عن النفس أساس أمراض القلوب قال ابن القيم رحمة الله عليه كلاماً يبين لنا سبباً رئيسياً هو سبب كل بلية تأتي للنفس، ويقع فيها الإنسان، وذلك هو: رضا الإنسان عن نفسه، فمتى رضي الإنسان عن نفسه عن عبادته عن ذكره عن طاعته، فهذا هو أُسُّ الأمراض وأساس البلاء، يقول رحمة الله عليه: (رضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية، وعدم عمله بما يستحق الرب جل جلاله). ويبين هذا أكثر فيقول: (وحاصل ذلك: أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما: رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها). من أنت -أيها الإنسان- وماذا عملت حتى ترضى عن عملك وطاعتك؟! وهل تدرك عظمة حق الله عليك؟! لو أدركت ذلك لرأيت أنك ما أتيت لا بالعشر ولا بمعشار العشر مما ينبغي أن يكون عليه حال العبد المؤمن استفراغاً للقيام بحق العبودية لله سبحانه وتعالى. ولذلك قال بعض السلف رحمة الله عليهم كلمة جامعة هي أصل في هذا الشأن: (أصل كل غفلة ومعصية وشهوة الرضا عن النفس). نحن كل ما نريد أن نتقيه هو الغفلة والمعصية والشهوة، وأصل هذه جميعها: (الرضا عن النفس)؛ لأن الذي يرضى عن نفسه كيف سيزيد في التذلل لله؟! وما الذي سيدفعه لمزيد من الطاعات لله؟! وما الذي سيدفعه للاستغفار من ذنبه؟! ولذلك فإن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك تستغفر في أعقاب الطاعات، وبعضنا إذا قلت له: استغفر الله وتب إلى الله، قال: الحمد لله أنا على خير!! بسبب جهله بنفسه، وجهله بحق ربه؛ يظن أنه لا يحتاج للاستغفار؟! رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وفي رواية: مائة مرة -مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- لكن ليعلمنا أن هذا الاستغفار دليل النقص في الإنسان، فينبغي أن تدرك -دائماً- أنك في نقص، وأنك مقصر، إما في الإتيان بالأعمال، وإما في كمالها، وإما في عدم حصول قبولها، وهذا أمر ينبغي أن يفطن له الإنسان المؤمن. ولذلك ما إن تُسلّم من صلاتك حتى تقول: استغفر الله!! تستغفر الله من أي شيء؟! تستغفر لأنك لم تأت بالعبادة على كمالها لم تستحضر الخشوع التام لم تتذلل التذلل الكامل مع الندم لم تتذوق حلاوة الطاعة ربما غفلت ربما ما استحضرت عظمة الله كما يجب وكل إنسان يتعرض لمثل هذا، قليلاً كان ذلك أو كثيراً، وهذا هو (الفقه) حينما يستغفر الله، حتى قال بعضهم: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار، وحمدنا يحتاج إلى حمد!!) وهذا من فقههم لهذه المعاني، فأنت تستغفر بلسانك، وقلبك لاه غافل، فهذا نوع غفلة تحتاج منك إلى استغفار، وحمدك لله عز وجل إنما هو محض توفيق من الله عز وجل أن ذكّرك وألهمك أن تذكره وأن تحمده!! فهذا يحتاج إلى حمد، ولابد أن يكون الإنسان -دائماً- منتبهاً لمثل هذا. وليعلم أن هذه التزكية هي اللذة التي ذكرها السلف رضوان الله عليهم لما قال قائلهم: (والله! لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف). فما أجمل أن ينشرح الصدر، وأن يطمئن القلب، وأن تسكن النفس، وأن تجد لذة الطاعة والمناجاة، ولذلك فإن سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة؛ سيماء يحتكرها المؤمن، ولئن توهّم أصحاب الدنيا جنّاتهم في الدنيا والنساء والقصور المنيفة، فإن جنة المؤمن في محرابه!! هذه هي اللذة التي كان يجدها الصالحون المخلصون لله عز وجل؛ فتشغلهم عن كل بهرج في هذه الدنيا، وعن كل جاه يصرف الناس إلى أحوال من الدنيا كان ينبغي ألا ينصرفوا إليها، ولذلك متى وجد الإنسان لهذه التزكية فقهها الصحيح، فإنه يتشبث بها ولاشك، ولا يجنح عنها ولا يحيد.

مجالات تزكية النفس

مجالات تزكية النفس نشرع الآن في ذكر ما يتصل ببعض المجالات المهمة للتزكية، وكثيرة، وكل واحد منها جدير بالاهتمام -من حيث العلم به، ومجاهدة النفس للعمل به- فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للإحاطة بجماع القول في مثل هذه المجالات.

تزكية النفس بالإخلاص

تزكية النفس بالإخلاص أول هذه المجالات وآكدها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى وتحرير النية والقصد ابتغاء رضوان الله جل وعلا. قال الله سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15]. ويقول جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3]. إذا صحح العبد إخلاصه لله، فهذا هو بداية تأثره واستفادته من كل ما سيأتي من أنواع الأعمال في تزكية القلوب والنفوس، وهذا الإخلاص ليس مجرد ادعاء، بل هو إخلاص من أعمق أعماق القلب، ومن أعمق أغوار النفس. هو الإخلاص الذي يؤرق الإنسان ويجعله لا يبغي شيئاً في هذه الدنيا، ولا حتى حظ نفسه، ولا بعض ما يترتب على الطاعة من خير في هذه الدنيا، ولا شيئاً مما يفتح الله به عليه فيها، إنما يبغي فقط رضوان الله سبحانه وتعالى. وتأمل معي موقفاً عظيماً في سيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لنرى أن الإخلاص ليس ادعاءً وإنما هو من أصدق المشاعر التي تملك على الإنسان كل جوارحه، وكل تصرفاته، ذلكم يتجلى في قصة البكّائين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أخلصوا لله بقلوبهم، وأرادوا وجه الله بأعمالهم، لم يكن ذلك خاطراً عابراً ولا كلمة بلسان!! تحركوا وقد اشتعل حب الجهاد في قلوبهم، وقد امتلأت قلوبهم بقصد السعي لمرضاة الله سبحانه وتعالى، فطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يحملهم للجهاد، فقال معتذراً: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92]. فماذا كانت الصورة؟! {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]؛ لأنهم كانوا صادقين من أعماق قلوبهم، فحزنوا على فوات هذه الفرصة في الطاعة، وعلى فوات الأجر في بذل النفس لله سبحانه وتعالى، هذه هي حقيقة الإخلاص، حينما يتمكن من القلب، ولذلك فإن هذا الإخلاص له الأثر المباشر في حياة المؤمن وفي الأجر والفضل الذي يسوقه الله سبحانه وتعالى له. ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (من طلب الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه). يبلغ مراتب الشهداء، لكن ليس فقط بدون شيء، بهذا الإخلاص الذي هو متملّك للقلب، مستول على النفس. في الحديث الصحيح عن الثلاثة النفر الذين آواهم المبيت إلى غار فسقطت الصخرة فسدّت عليهم باب الغار فقالوا: لا نجاة لكم إلا أن يدعو كلٌ منكم ربه بأخلص عمل قدمه لله سبحانه وتعالى، فلما دعوا انتقوا أخلص أعمالهم التي ما عملوها إلا ابتغاء وجه الله عز وجل، فلما ذكر الأول عمله وتوسل إلى الله به فرج الله عنهم قليلاً، ثم الثاني، ثم الثالث، ففرج الله عنهم ببركة الإخلاص لله سبحانه وتعالى. فانعدام الإخلاص هو رأس كل بلاء يحل بالنفس والقلب، والشرك والرياء أعظم موجب لموجبات العذاب في الآخرة، كما ورد في الحديث الصحيح عن الثلاثة الذين هُم أول من تُسعّر بهم النار: قارئ للقرآن، ومجاهد، ومنفق متصدق، لكنهم لم يعملوا ذلك ابتغاء مرضاة الله، فَهُم أول من تُسعّر بهم النار، ولذلك يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريء). قال الجنيد رحمه الله: (الإخلاص سرّ بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوىً فيميله)، فهو من خفائه على هذه الصورة. قيل لـ سهل التستري رحمة الله عليه: أي شيء أشد على النفس؟ -يعني: أي شيء أصعب عليها؟! هل هو العبادة؟! هل هو الإنفاق؟! هل هو الطاعة؟! - فقال: (الإخلاص -هو أشد شيء على النفس- لأنه ليس لها فيه نصيب!!) فالمخلص لا يريد شيئاً لنفسه -حتى لنفسه- لا يريد!! إنما يعمل لأجل الله سبحانه وتعالى وابتغاء رضوانه؛ ولذلك حينما تتأمل تجد أن الإخلاص هو المفتاح الذي يؤدي إلى ما بعده من الفضائل. يقول ابن القيم: (أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة هم أهل (إياك نعبد) حقيقة، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لله وحده لا يريدون من ذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، بل قد عدّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور) عدوا الناس من حولهم كأنهم موتى، لا يثنون عليهم بخير، ولا يذمونهم بمعصية، فمن تجرد هذا التجرد، تحقق له كمال الإخلاص. فهل نحن لا نحتاج إلى مثل هذا التسليم؟! وهل يدعي أحد أنه قد عالج قلبه وجاهد نفسه؛ ليتحقق بمثل هذا الإخلاص الكامل التام غير المنقوص، الذي لا تشوبه شائبة، ولا تخالطه أية صورة من صور الصرف عن وجه الله سبحانه وتعالى؟! نظن أن أكثر الناس -إلا من رحم الله- لم يَصِل إلى مثل هذا الأمر، يقول ابن القيم: (جعلوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع لا يكون من عارف بهم ألبتة)، من أراد وجه الناس فهو لا يعرفهم؛ لأنهم لا يملكون له شيئاً، ولو كان يعرف ذلك لانصرف لله سبحانه وتعالى. وآثار السابقين تدلنا على أهمية الإخلاص والنية، يقول هشام بن عبد الملك في وصف عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: (ما أحسب عمر خطا خطوة قط، إلا وله فيها نية) أي: نية إخلاص وطاعة وقربة لله سبحانه وتعالى، خطوة من أي عمل مما قد يظنه الناس من أعمال الدنيا أو من أحوال ومصالح المعاش، فكيف ونحن قد نقبل على طاعات وعبادات مفروضة، ولا نستحضر أو نستخلص ونصفي وننقي هذه النية لله سبحانه وتعالى؟! ولذلك كان من أثر هذا النهج في عمر بن عبد العزيز أنه أصلح الله به أحوال الأمة كلها، في أحوال قلوبها، وفي أقوال ألسنتها، وفي مالها وخيرها ورخائها، وفي أمنها وأمانها، وفي فتحها ونصرها، وفي درء الشر عنها وكل ذلك في أقل من سنتين، مما لم يكن لمن كان قبله من بني أمية ولمن جاء بعده من بني أمية وبني العباس، فإنه لم يتحقق لهم مثلما تحقق على يديه في هذا الزمن اليسير، إنها بركة الإخلاص والنية لله سبحانه وتعالى. وانظروا إلى الأثر العملي للإخلاص في التوفيق فيما ذكرناه عن عمر من الأثر العام في الإصلاح، يبينه لنا سليمان بن عبد الملك، فإنه لما أدركته الوفاة قال: (لأعقدن عقداً ما يكون للشيطان فيه نصيب)، وكان هذا العقد أن عَهِدَ بالخلافة لـ عمر فلم يُراعِ في ذلك أبناءه، ولا إخوانه، ولا الناس في ذلك الوقت، عند وفاته واحتضاره أراد أن يتقرب إلى الله بعمل خالص، وقال: (لأعقدن لله عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب)، فلما عقد هذا العقد بهذه النية وذلك الإخلاص أثمر ووُفّق في عقده، فـ عمر بن عبد العزيز ربما كان أعظم حسنات سليمان بن عبد الملك رحم الله الجميع؛ لأنه ساق للأمة هدية صلُح بها حالها. ومن ثمار الإخلاص: التوفيق للصواب؛ ولذلك قال الكيلاني رحمة الله عليه: (كن صحيحاً في السر تكون فصيحاً في العلانية)، لا يوفق ولا يُسدّد ولا يُصوّب إلا من كان على درجة من الإخلاص عظيمة. وقال مكحول: (ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه). وهنا مسألة ذكرها القاضي عياض رحمه الله، وهي: قد يقول قائل: سأُخلِصُ أربعين يوماً حتى تأتيني الحكمة! فهُنا بَطُلَ الإخلاص؛ لأنه لم يُخلص لله، بل أخلص لنيل الحكمة!! وهذا مما ذكره العلماء من شدة خفاء الإخلاص ودقته، فمن بركات التزكية وثمارها -كما سيأتي-: أن الله سبحانه وتعالى يمن على الإنسان بالرؤيا الصالحة، وبالخير الذي يساق إليه، فإذا قصد مثل هذه الأمور فقد انصرف عن كمال الإخلاص لله سبحانه وتعالى. ولذلك يقول التابعي الجليل مطرف بن عبد الله بن الشخير: (بل هو -أي: الإخلاص- مفتاح كل خير وصلاح، وهو أول الأمر وآخره) ويقول: صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية، ومن صَفَى صُفّي له، ومن خَلَط خُلِط عليه). إذاً: الأمر كله مداره على الإخلاص، ولذلك فإن ما نعانيه من غفلة أو من عدم حصول لذة في الطاعة إنما هو من هذا التخليط، (من صَفَى صُفّي له، ومن خَلَط خُلِط عليه) وهذا جماع الأمر، ومن جميل كلام الرافعي رحمة الله عليه -وهو كلام أدبي لكنه يدلُّ على فهم وإدراك طبيعة النفس-: (إن الخطأ الأكبر أن تُنظّم الحياة من حولك، وتترك الفوضى في قلبك!!). فتنظم مواعيدك، وتنظم عملك الدنيوي، وتنظم عمل دراستك، وتترك الفوضى في قلبك مشتتاً موزعاً في أودية الدنيا، ليس موجهاً لله سبحانه وتعالى!! فإن هذا تعارض وتناقض ينبغي أن ينأى الإنسان بنفسه عنه. قال ابن القيم عن حقيقة الإخلاص: (فيه تصفية العمل من رؤيته وملاحظته، وطلب العِوَض والرّضا به، والسكون إليه)، فالإنسان ينبغي له أن يُخلّص قلبه من (رؤية العمل)، يعني: أن يرى أنه عمل وأنه قدّم، وهذا ينبغي أن يكون أيضاً موضع عناية واهتمام؛ لأن الإنسان ينبغي له ألا ينظر إلى عمله، وأن له فيه فضلاً، أو أنه مُمتنّ به على الله عز وجل -عياذاً بالله- كلا! ولكن إلى ماذا ينظر؟ ينظر إلى أن هذا هو توفيق الله سبحانه وتعالى، وإلا فالنفس كُلّها أمراض، وأدواء، وشهوات، فمن الذي أعانه على نفسه حتى أخلص لله؟! ومن الذي وفقه للعمل؟! هو الله سبحانه وتعالى. قال الله عز وجل مُمتناً على رسوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}

تزكية النفس بالهمة العالية

تزكية النفس بالهمة العالية ننتقل إلى أمر آخر في تزكية النفس وهو: (الهمة)؛ لأن الذي أخلص لله لا تكفيه النية فقط، كما يقول بعض الناس: الإيمان في القلب!! أو يقول: أنا مؤمن بقلبي! هذا كله محض ادعاء. إنما بعد النية لابد من الهمة في طلب الطاعات، ومعالي الأمور، ومرضاة الله سبحانه وتعالى، فيما يحبه جل وعلا وإن كان شاقاً، وإن كان مخالفاً للنفس. ولذلك كلما أخلص الإنسان ارتفعت همّته في طلب الطاعات، والوصول إلى رضوان الله عز وجل. والنفس بطبيعتها دنيئة، فما لم ترفعها بالهمة العالية، فإنها تبقى في الدرك الأسفل، راكنةً إلى الدنيا متلطخة بأوحالها وأوضارها، ومن جميل قول عبد الوهاب عزام: (إن الإنسان لابد أن يأخذ نفسه بالهمة ليرفعها حتى تُحلّق)، ويقول عن النفس: (إن لم تشغلها بالعظائم، شغلتك بالصغائر، وإن لم تُعملها في الخير، عملت في الشر، إن في النفوس ركوناً إلى اللذيذ والهين، ونفوراً عن المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق، ورُضها وسُسْها على المكروه الأحسن حتى تألف جلائل الأمور وتطمح إلى معاليها، وحتى تنفر عن كل دنيئة، وتربأ عن كل صغيرة، علّمها التحليق تكره الإسفاف، عرّفها العز تنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة تحقر اللذات الحسية الصغيرة). متى ما ذاق الإنسان لذة الإخلاص والطاعة علت همته في مثل هذا، ولذلك يقول ابن القيم في فوائده: (الكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية -مع العمل القليل- أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق!!). فهذا ينبغي أن يفطن له الإنسان المؤمن، وهذه التزكية والهمة لها آثارها الحسنة بلاشك، التي فيها نور القلب، كما قال بعضهم: (استجلب نور القلب بدوام الجد). أي: باستحضار الهمة والجد في الطاعات. ثم إذا جاءت الهمة، فأي باب من الأبواب تصرف فيه الهمة؟! أول باب من أبواب الهمة، وهو أعظم باب في الأمور العملية باب الفرائض، وأدائها، والمحافظة عليها، وكمالها، وقد يقول قائل أيضاً: إن الفرائض أسهل الأمور، يعني أن كل أحد مقبل عليها ومطبّق لها. فنقول: نحن نحتاج إلى فقه في مثل هذا الأمر، لندرك أثر هذه الفرائض في التزكية، وكيف يكون كمالها، ليحصل كمال التزكية. يقول بعض السلف: (لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يبتل أحد بتضييع السنن إلا أوشك أن يبتلى بالبدع!!). فانظر إلى هذا التدرج، كم في التزام الفرائض من وقاية للقلب من مثل هذا الزلل والزيغ؟! نسأل الله -سبحانه وتعالى- السلامة، والحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال يؤكد أهمية الفرائض، وهو قوله جل وعلا في الحديث: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه). وأيضاً يوجد حديث عجيب يبين لنا أهمية هذا الأمر، والحاجة إليه، وأن القضية تحتاج إلى كمال في أداء الواجبات، والله جل وعلا ما قال: صلوا! وإنما قال: (أقيموا الصلاة)؛ لأن قيامها يحتاج إلى أمور كثيرة، يقول أبو الدرداء: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يُختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدرون منه على شيء. فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يُختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا -فلم يفهم زياد إلا مجرد الظاهر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد! إن كنتُ لأعُدّك من فقهاء أهل المدينة! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟! قال جبير بن نفير -راوي الحديث-: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له: ألا تسمع ما يقوله أبو الدرداء؟! قال: صدق، إن شئتَ حدثتك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه خاشعاً) رواه الترمذي. إذاً: أليست الفرائض بحاجة إلى أن تكون أول زاد يُقبِل به العبد على الله سبحانه وتعالى، تزكية لنفسه مع استكمالها، والإتيان بها على وجهها؟! والذي يتأمل يجد النصوص في أمر الفرائض كثيرة، فإن هذه الفرائض -من حكمة الله- هي أعظم ما يزود القلب والنفس بالخير، والتزكية والتطهير، مثلاً: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة). والآثار، والأذكار، والأحاديث الواردة في أمر الصلاة، وفضل شهودها في الجماعات كثيرة جداً. لماذا كل هذا التقديم والتفضيل والتعظيم؟ إنما هو لما لها من عظيم الأثر، والفوائد الكثيرة، وهناك شواهد يحتاج الإنسان أن يتأملها في سيرة السلف؛ حتى ندرك هل نحن قائمون بالأمر كما يجب؟! قيل للأحنف بن قيس: إن فيك أناة شديدة -يعني: تُؤَدة وبصيرة وتروّي- فقال: قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها!! وهذا المعنى يمر علينا مرور الكرام دون أن نتأمل فيه، لكن لو تأملنا: هل يعجل الإنسان إلى صلاته إذا حضرت؟! وأنا هنا أخاطب كثيراً من الملتزمين، والوعاظ، والطيبين، والصالحين فضلاً عن غيرهم، فتجد الواحد منا حين يؤذن المؤذن يقول: ما زال هناك وقت إلى الإقامة!! وما تأتي فريضة من الفرائض إلا وتجد هناك جمعاً ليس بالقليل يقومون لقضاء ما فاتهم من صلاتهم. واستمع إلى ما قيل في وصف إبراهيم بن ميمون في سمته، قالوا: كان فقيهاً، وكانت صنعته الحدادة، قال ابن معين: كان إبراهيم بن ميمون إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردّها!! ولم يكمل طرقته. انتهى الأمر الآن، وانتقل من حال الدنيا إلى حال الآخرة، سارع إلى الطاعات وأجاب نداء الفريضة. هذا السِّباق هو الذي يؤهل النفس لأن تقبل على الطاعة، وأن تكون مهيأة بفراغ الوقت، وفراغ العقل من الشغل، والتقرب بالتلاوة والذكر والاستغفار والدعاء. إذا أراد أحدنا أن يحضر مناسبة أو وليمة، هل يذهب دون أن يتفقد هيئته ولباسه وسمته؟! ثم هل يذهب متأخراً لا يبالي هل يدرك الوليمة أم لا؟! فكما أننا نتهيأ لمثل هذه المناسبات -بل ونسارع إليها- فالأجدر بنا أن نولي أعمال الآخرة اهتماماً أعظم!! ولو تأملنا سير السلف وشدة مسارعتهم إلى الطاعات لرأينا أن الفرق بيننا وبينهم كما بين الثرى والثريا. هذا بشر بن الحسن يُلقّب بالصَّفي -نسبة إلى الصف- لماذا؟ قالوا: لأنه لزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة. وربما لو أراد أحدنا أن يواظب على الصف الأول خمسين يوماً لعجز عن أن يتم نصف هذه المدة!! بل كم من المرات تفوتنا الجماعة ثم نصلي متأخرين أو منفردين. واسمع إلى سليمان بن حمزة المقدسي ماذا يقول عن نفسه؟! يقول: لم أُصلّ الفريضة قط -منفرداًً- إلا مرتين، وكأني لم أصلّهما. بينما ربما نحن في اليوم الواحد أحياناً نصلي الفريضة منفردين مرتين أو أكثر، والجاد منا قد يصلي الفريضة في الأسبوع مرتين أو أكثر منفرداً!! سيما الفجر أو بعض الفروض، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة. المقصود: أن تكون الهمة والخشوع على أتمّ وجه وأكمله في الصلاة وكذا في بقية الطاعات، فليس المقصود -فقط- الظواهر التي تبدو للناس. ولذلك فَقِهَ السابقون هذا الأمر، فقد روي عن أحدهم أنه قال: (إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه) أي: إذا تهاون في التكبيرة الأولى -تكبيرة الإحرام- مع الإمام، فاغسل يدك منه. يعني: أنه ليس على رسوخ في الطاعة، والإقبال، والإخلاص، والتزكية لنفسه كما ينبغي أن يكون. وهذا الأمر لا شك أنه ظاهر من حيث المعنى الظاهر والحكم، لكننا نفتقد كثيراً من جوانبه من حيث التحقق التام والكامل. والحق أن المجالات المتبقية من التزكية فيها من النصوص والقول والتطويل شيء كثير، ولها أهميتها العظمى والكبرى، فبعد أداء الفرائض هناك النوافل، وقيام الليل على وجه الخصوص؛ لأن فيه خلوة، والخلوة يحلو فيها الذكر، والذكر من المواضيع المهمة، ومن أهم أبواب الذكر ذكر الآخرة والموت، وهو من أعظم أسباب حياة القلوب. ومن بعد ذلك كله تزكية النفس في معاملتها مع الآخرين ومع الناس أجمعين، ثم آثار هذه التزكية، وليس من الممكن مطلقاً أن نوجز القول فيما بقي من هذه الأمور المهمة؛ لأن طيّها والعجلة فيها يبخسها حقها، ويحرمنا من نفعها في الحقيقة، خصوصاً وأنها تتعلق بكثير مما نحتاج إليه جميعاً.

الأسئلة

الأسئلة

ذكر المراجع والمصادر في المحاضرات

ذكر المراجع والمصادر في المحاضرات Q حبذا لو تذكر المرجع والمصدر، مع الجزء والصفحة عند نقل النصوص. A هذا قد يكون مستحسناً، ولكن كما يُقال: هذا سرُّ الصنعة، فلو ذكرت المراجع لانتهى الأمر، لكنها ملاحظة جيدة نذكرها في الدروس القادمة إن شاء الله. وبالجملة: فإن كثيراً من كلام ابن القيم رحمة الله عليه مستقى من مدارجه وفوائده، ففيهما الكثير مما يتعلق بهذه المعاني، وما ذكرت من القصص أكثره من سير أعلام النبلاء، ومن تراجم بعض العلماء والصالحين مما يناسب مثل هذه الموضوعات، وكذلك من كتب معاصرة مثل: (كتاب الرقائق) للراشد، فإن فيه أيضاً جملة من المعاني المتعلقة بتزكية النفوس وتطهير القلوب. ولكن ذكر المراجع والمصادر فيما ينقل من نصوص قد يصرف -أحياناً- عن مقصود الدرس والتفاعل معه بالنسبة للذي يلقيه، فلو ذكرنا أحياناً المصدر، ومرة أهملناه، فلا بأس إن شاء الله. ومن أراد مزيداً من ذكر المصادر فيمكن -بطلب خاص- أن يُعطى ذلك.

أحداث الجهاد في أفغانستان وواجبنا تجاهها

أحداث الجهاد في أفغانستان وواجبنا تجاهها Q نرجو تبشير المسلمين بأخبار المجاهدين الأفغان؟ A الحق أن هذه التذكرة جيدة، ومناسبة ومهمة في نفس الوقت، وإن كان سبق -بفضل الله وتوفيقه- الحديث في خطبة الجمعة عن هذا الموضوع. وخلاصة الأمر بالنسبة للأخبار، من ناحية الوقائع: أن الله سبحانه وتعالى يسّر وتفضل على عباده المجاهدين في أرض أفغانستان بأن سهل لهم جملة من الانتصارات المتوالية يوشك إن شاء الله جل وعلا أن تتم بتمام النصر وسقوط الأعداء ودولتهم، واندحار قوّتهم بإذن الله. فقد استسلمت حامية قندهار، وسقطت كثير من المناطق حول كابل مثل: قندس، ودرديز، وبعض المناطق الأخرى، وسقطت أيضاً قاعدة باجرام، ومطار كابل أيضاً، وكذلك منذ قريباً من ليلتين تقدم المجاهدون واستولوا على منطقة من ضواحي كابل اسمها: خير خان. والأخبار تذكر أنهم في تقدم مستمر، وأنهم الآن في داخل كابل، وما زالت هناك معارك مستمرة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق وأن يتمم لإخواننا نصرهم. ألخص ما ذكرته في خطبة الجمعة من الكلام عن واجبنا نحو هذا النصر فأقول: أول واجب: هو الشكر، فقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة فاتحاً دخلها وهو مطأطئ رأسه وهو على ظهر دابته شكراً لله سبحانه وتعالى، فإنما النصر من عند الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن نشكر الله -جل وعلا- على هذا الأمر. الأمر الثاني: أنا نلمح -والله أعلم- أن هذا النصر في هذا الوقت يأتي برداً وسلاماً على عباد الله المؤمنين، إذ إن الهجمة تشتد ضراوتها على المسلمين، والعذاب والابتلاء يُصب عليهم، وحرب الإبادة تضربهم وتحيط بهم في كثير من البلاد، سواء في البوسنة والهرسك أو في غيرها. أيضاً نجد أن هذا الأمر يحيي الأمل في القلوب، ويفرح المسلمين، وكما يتحدث الناس عن النكبات، وعن الكوارث، والدماء والمصائب المتوالية على الأمة، فكذلك يأذن الله سبحانه وتعالى بأن نتحدث عن فتح وفرج ونصر من الله سبحانه وتعالى!! وأشرت أن في ذلك دروساً عديدة: منها: أن النصر مع الصبر، فلما صبروا وصابروا أكرمهم الله سبحانه وتعالى بهذا النصر، وهذا بسبب الثقة بالله، وبدين الله، وبوعد الله، فلو لم يثقوا لانقطعوا وما صبروا. كذلك من الدروس: الصورة الواقعية لوحدة المسلمين، إذ انخرط في هذا الجهاد أبناء الإسلام على اختلاف جنسياتهم وبلدانهم في غالب الأحوال، فإن تلك الديار كأنها جامعة للدول الإسلامية، هذا من بلد، وذاك من بلد، وذاك من بلد، ليدللوا على أن الرابطة هي رابطة الإيمان، وأن الذي يجمع الناس هو دين الإسلام. وأيضاً: بيان أن طريق جني الثمار إنما هو الأعمال لا الأقوال!! وكم قلنا وقال الناس وعقدت المؤتمرات والتوصيات في قضية فلسطين منذ أكثر من أربعين سنة فما حُلّت إلى الآن، والأفغان طال جهادهم، لكن السنوات التي قضوها في ذلك لحل قضيتهم أقل بكثير مما يقضيه الكثير من المسلمين لحل كثير من قضاياهم؛ لأنه ليس هناك سوى أنهم يخططون ويقولون ويعيدون، ولم يتقدموا بخطوات عملية، والله عز وجل يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فهذا معنى مهم. ودورنا يتمثل في أن نبادر -ونستمر- بالإلحاح في الدعاء، وكذلك تقديم البذل والعطاء، لأن بعض الناس يقول: انتهى الأمر فقد انتصروا!! وحتى لو انتصروا، وفتحت البلاد لهم، أليست هناك الحاجة لإقامة دولة؟ أليست هناك مشكلات مترتبة: عمران، وأيتام، ومشكلات أخرى؟ أنت لو أردت أن تقيم مدرسة وأُعطيت المبنى كاملاً، وأُعطيت كل ما يلزم لإقامة المدرسة ستظل أيضاً في حيص بيص حتى تُعان بأمور كثيرة؛ كي تقوم بما عليك، وتستطيع أن تكمل هذا المشروع الصغير، فماذا تقول في مثل هذا الأمر العظيم الكبير؟!! الأمر الثاني: على العلماء والدعاة وأصحاب الكلمة المسموعة أن يبادروا بالزيارة للتهنئة، وأيضاً لإبداء المشورة والرأي، وتأليف القلوب، والتقريب بين وجهات النظر، وإزالة كل أسباب الاختلاف أو تباعد وجهات النظر، وقد كان لتجربة سابقة -في أحداث كونر- أثر بالغ حينما قام بعض العلماء بالزيارة؛ فكان لهم كلمتهم المسموعة وأثرهم الطيب في تأليف القلوب وتحسين الأوضاع، وهذا من أهم الأمور. الأمر الثالث: أن الدول الإسلامية مطالبة بالتأييد ومدّ يد العون، وسرعة تثبيت هؤلاء المجاهدين؛ ليتمم الله لهم إقامة دولة الإسلام في تلك الديار، والله سبحانه وتعالى نسأل أن يجعل في هذه الأمور كلها خيراً -إن شاء الله- للإسلام والمسلمين. وهناك من يتساءل عن دور العلماء والدعاة فيما يجري للمسلمين من الابتلاء في بعض الديار الإسلامية، مثل: تونس والجزائر وغيرها، والحق أن مثل هذا الأمر أول ما يجب فيه الحاجة إلى معرفته، وتتبع أخباره، وأن نُحسّ بارتباطنا بأخوة الإسلام والإيمان، فنتفقد أحوال إخواننا ونسمع أخبارهم، ونحن حين نسمع هذه الأخبار فلابد أن نسمع ما يثير الفزع في القلوب، ويدميها حزناً وألماً، ولكن هذا يفيدنا في معرفة ضراوة الأعداء. ليست المسألة فقط مسألة السجن ولا الضرب، وإنما كل ألوان الفتنة والتعذيب بما لا يتصوره عقل، وهذا ليس بمبالغة، فمن سمع وتتبع فسيجد أموراً لا تخطر على عقول شياطين الجن، ولكن عملها شياطين الإنس من الظلمة والطغاة عليهم من الله ما يستحقون! وواجبنا الدعاء والعطاء، وأن نوطن النفوس على أن تكون أعظم إخلاصاً لله، وقرباً منه سبحانه وتعالى؛ ليكون في ذلك صلاحنا وصلاح إخواننا إن شاء الله.

قسوة القلب والاغترار بفعل الطاعات وثناء الناس

قسوة القلب والاغترار بفعل الطاعات وثناء الناس Q سائل يسأل عن قسوة القلب، وما السبيل إلى لين القلوب، ثم يقول: عندما أعمل الطاعات أو أي عمل خير كصوم التطوع أفرح بذلك، ويداخلني الغرور إلى نفسي، ولكن ما أن تنقضي تلك الطاعة حتى أعود إلى الغفلة؟! A أما الأمر الأول: ينبغي للإنسان ألا يُجحف نفسه، فإن الشيطان يُلبّس عليه، لاشك أنك تفرح إن كنت طائعاً، هل تحزن إذا أطعت الله؟ لا. ولكن -انتبه! - لا تفرح فرح الغرور، ولو ذكر الناس خيرك فاحمد الله، ولكن لا تجعله سبيلاً إلى فتنة قلبك وصرفك عن مراد الله، فإن النبي عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم - سئل عن ذلك قال: (ذلك عاجل بشرى المؤمن). فمن تعجيل البشرى للمؤمن بالقبول: أن يثني عليه أهل الإيمان والصلاح والخير، وأمة الإسلام لا تجتمع إلا على خير حتى في ثنائها وفي تزكيتها، مرت جنازة على الصحابة فأثنوا عليها خيراً فقال صلى الله عليه وسلم: (وجبت)، وأثنوا على الأخرى بشر فقال: (وجبت)، ثم قال: (أثنيتم على الأولى خيراً فوجبت لها الجنة، وأثنيتم على الأخرى شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض). فاجتماع الصالحين والأخيار على شيء فالغالب أنه يكون حقيقة، فيفرح الإنسان بمثل هذا، لكنه ينقص نفسه مقدارها، ولا يرضى بالوصول إلى هذا الحد، بل يطلب المزيد، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن.

ترك العمل بحجة عدم الإخلاص

ترك العمل بحجة عدم الإخلاص Q بعض الناس -وخاصة الشباب- يتركون بعض الأعمال الصالحة ويزهدون فيها كحفظ القرآن، والصلاة في القيام، ونحوها من العبادات، بحجة أنه قد يصيبهم الرياء وعدم الإخلاص؟ A قال الفضيل: العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. كيف يدخل عليهم الرياء في قيام الليل؟ أنت تقوم في الليل في بيتك حيث لا يراك أحد، حتى ذُكر في وصف بعض السلف -من شدة حرصهم على الإخلاص- أنهم عند قيام الليل لا يشعلون أنوارهم حتى لا يعلم أنهم استيقظوا!! ففي قيام الليل لن توقظ الجيران أو تعلن لأهل البيت، فهذا أمر من الأمور التي سيأتي ذكرها إن شاء الله، وفيها قُربٌ من الإخلاص.

الحقد على المسلمين أو بغضهم من أمراض النفوس

الحقد على المسلمين أو بغضهم من أمراض النفوس Q أشعر -أحياناً- بحقد وبغض على إنسان!! ولكني أحاول التغلب على ذلك بالدعاء، فما نصيحتكم؟! A هذا يأتي في مسألة معاملة الآخرين، وأذكر مقالة واحدة تُبين لنا خطورة هذا الأمر، وفي نفس الوقت أهميته: كتب رجل لبعض الصالحين من السلف يقول له: إني أحسبك من أهل الصلاح والخير، فاذكر لي ما أنت عليه كي أصنع مثله؟! فماذا ردّ عليه ليبين لنا فقه الأمر، ومعرفة النفوس؟ قال: أتاني كتابك، تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، فأُخبرك أنني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذاك بعيدة. ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكر الناس إلا من خير، فوجدت الصوم في اليوم الحار أيسر عليها من ذلك! هذا أمري، والسلام!! وهذا يدل على أن مغالبة النفوس أمر صعب، ولم يبعد ابن القيم لما قال: إن الرياء والحسد، والسرور والفرح بأذى المسلمين، والشماتة بهم أعظم الكبائر، بل قال عين الحق وعين الصواب، رحمة الله عليه. وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الصفحة الجديدة

الصفحة الجديدة النفس البشرية بطبيعتها تميل إلى الشهوات والملذات والهوى، ولهذا تقع في الأخطاء والذنوب، ولكن يجب على العبد أن يحاسب نفسه، ويمنعها عن الشر، ويدفعها إلى الخير دفعاً، وإن وقع في شيء من المعاصي والهفوات فليرجع إلى الله عز وجل، وليتب إليه، وليفتح صفحة جديدة يحرص أن يملأها بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله سبحانه وتعالى.

أحوال الناس في بداية كل أمر ونهايته

أحوال الناس في بداية كل أمر ونهايته الحمد لله، الحمد لله الأول بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء، ليس قبله شيء ولا بعده، وكل شيء هالك إلا وجهه، أنزل كتبه، وأرسل رسله؛ ليوضح منهجه، وليهدي خلقه، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه كافة للناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الصفحة الجديدة موضوع مناسب لهذا المقام مع ختام العام، وكثيراً ما نسمع البداية الجديدة التي يتنادى لها الناس في أحوال حياتهم المعتادة كلما عرض لهم عارض أو جد في حياتهم جديد. فالطالب في بداية عامه يبدأ صفحة جديدة فيها منهج جديد يتلقاه على أيدي معلمين أكفاء، ثم يجتهد ويبذل وسعه وطاقته، ثم يتعاون في تحصيل العلم مع زملائه وأقرانه، ثم يخوض غمار الامتحان، ويوم الامتحان يكرم المرء أو يهان. والتاجر في نهاية عامه المالي ينظر فيما سلف ومضى، ثم يبدأ صفحة جديدة يتلافى فيها أخطاء الماضي، ويزيد من إيجابياته، ويشق طرقاً جديدة، ويفتتح آفاقاً وأعمالاً عديدة، وهو في ذلك أيضاً يختط لنفسه منهجاً، ويضع لنفسه قانوناً، ثم إنه يحاول أن يستفيد من خبرة غيره، وأن يدرس ما سلف من المشروعات التي مرت بغيره، ثم بعد ذلك يبذل جهده من عقله وفكره ومن وقته وراحته ومن تخطيطه وتدبيره حتى ينجح، ويتعاون بعد ذلك مع غيره؛ لأن مبنى الحياة على التعاون، ثم بعد ذلك يأتي في آخر عامه لينظر في حصيلته من الربح والخسارة. وهكذا إذا كان بين بعض الناس خصام، وجاءت الفرصة للصلح والوئام قالوا: نفتح صفحة جديدة ننسى فيها الماضي، ونبدأ بداية تقوم على أسس صحيحة، وهذا نجده في حياة الناس في كل يوم وكل ظرف، ونجد عندهم في كل مرحلة عزماً جديداً وتوجها يبغون به المضي نحو الأفضل والأكمل والأحسن، وتحصيل ما يعود عليهم بالراحة والطمأنينة والسكينة، وهذا الأمر في الرحلة الكبرى، رحلة الحياة الدنيا، رحلة العبد المؤمن على هذه الأرض وهو يمضي إلى الله، وهو يمضي إلى أخراه، وهو يمضي إلى موقفه بين يدي الله، فينبغي أن يجدد كثيراً، وأن يعاهد مرارا ً وتكراراً، وأن يجدد صفحة حياته مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة.

رحمة الله عز وجل بالخلق

رحمة الله عز وجل بالخلق ومن رحمة الله جل وعلا أن هذه الصفحة الجديدة تأتي في آخر العام بعد موسم عظيم من مواسم المغفرة لحجاج بيت الله الحرام، ولغيرهم أيضاً بالفضائل التي ساقها الله جل وعلا لمن يعمل الخير ويبذل فيه في تلك الأيام المباركة، فكأن الفرصة مواتية لبدء هذه الصفحة الجديدة. فلن ننسى ما مضى، ولكننا نتعظ ونعتبر به، ونحمد الله جل وعلا أن محا عنا الذنوب والخطايا، وحط عنا السيئات والرزايا، وهيأنا بقلوب مطمئنة وصدور منشرحة ونفوس راضية وعزائم ماضية، لنمضي إلى طاعته ورضوانه وقد استشعرنا خفة الحمل الذي كان يرزح فوق كواهلنا من المعاصي والذنوب والخطايا والآثام، وشعرنا بذلك الندم الذي يكون له في القلوب وخز وفي النفوس ندم وفي العيون بكاء؛ حتى نهيئ أنفسنا لنقبل على الطاعة ولنسابق إلى الخيرات. ونجد كذلك الفرصة مواتية لما في آخر العام من ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تلك الهجرة التي تبين لنا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم النموذج القدوة، وكيف ينبغي أن نمضي إلى طاعة الله، ورضوانه، فنتخطى في ذلك الصعاب، ونتجاوز العقبات، ونمضي ونحن على ثقة بوعد الله، وعلى ثقة بنصر الله؛ لأننا نمضي على منهج الله. الصفحة الجديدة ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا، وينبغي أن يجعلها كل منا نصب عينيه، ولعلنا في هذا المقام نذكر أنفسنا بما ساقه الله جل وعلا لنا؛ لنكون دائما ًفي هذه الحياة الدنيا على صفحة جديدة وفي بداية حميدة إن شاء الله تعالى. فكما قلت في شأن الطالب وفي شأن التاجر: ثمة منهج ينظر أحدهم فيه، وثمة معلم يرشد إليه، وثمة جهد يبذل في سبيله، وثمة تعاون يتعارض فيه الأقران أو الأصحاب ليحققوا ثمرته، ثم بعد ذلك ثبات واستمرار ومضي حتى يلقى المرء غاية جهده وثمرة عمله.

القرآن الكريم منهج كامل شامل

القرآن الكريم منهج كامل شامل والله سبحانه وتعالى قد جعل لنا ما هو أعظم من ذلك في سيرنا إليه وفي مضينا إلى طلب رضوانه وفي السعي إلى نيل جنانه، فإنه جل وعلا قد جعل لنا المنهج النظري الكامل، وذلك في القرآن العظيم، القرآن الذي جعله الله سبحانه وتعالى المعجزة الخالدة للرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]. فكل شيء من حاجة الفرد والجماعة والأمة في هذا القرآن، وكل شيء من حاجة القلب والنفس والبدن في هذا القرآن، وكل شيء من حاجة الحياة الدنيا والأخرى في هذا القرآن، لقوله جل شأنه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، فلا شيء أكمل ولا أهدى ولا أقوم من نهج القرآن، فإنه يهدي للتي هي أقوم في أي شيء وفي أي مجال، وتبقى الآية مطلقة لتعلم المسلم أن القرآن يهدي للتي هي أقوم في شأن الدين وفي شأن العبادة وفي شأن الدنيا وفي شأن السياسة وفي شأن الاقتصاد وفي شأن الأسرة وفي شأن الحياة الاجتماعية والقضائية، وفي كل شيء من نواحي هذه الحياة، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل شيء يحتاج إليه العبد في هذه الحياة. قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:105]، ويبين الحق جل وعلا ذلك التفصيل العجيب الكامل النادر في القرآن الكريم في قوله سبحانه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]، أي: فيه تفصيل كل شيء، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]. فأي فضل أعظم وأي منة أكبر على أمة الإسلام من قرآن تكفل الله بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وذكر كماله فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]؟ فلا نحتاج إلى تفكير ولا إلى تدبير، ولا نحتاج إلى مقارنة ولا إلى مقايسة، ولا نحتاج إلى اقتباس؛ فإن بين يدينا منهجاً ربانياً قرآنياً كاملاً يشمل الحياة الدنيا والحياة الأخرى وما فيهما، ويشمل كل شيء في هذا الوجود، فالله سبحانه وتعالى جعل لنا المنهج الذي نسير عليه، ونجعل سيرتنا مرتبطة به. ولذلك أخي المسلم! الصفحة الجديدة تقتضي صلة بالقرآن وطيدة، فرطب به لسانك، أحي به قلبك، واشغل به عقلك، وليكن أنيسك في وحشتك، وليكن نورك في ظلمتك، وليكن منهجك في حيرتك، فإن هذا القرآن شفاء القلوب وجلاء الهموم والأحزان، كما قال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمؤمنين} [الإسراء:82]، إنها نعمة بين أيدينا وجوهرة ثمينة غالية أهداها الله سبحانه وتعالى إلينا، فأين نحن منها؟! وأين نحن من التعلق والالتزام بها؟! والله سبحانه وتعالى قد دعانا إلى أن تكون صلتنا بالقرآن أعظم صلة، وأن نجعل الألسنة دائما تتلو القرآن، كما قال جل وعلا في أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل:92]، وكما بين في شأن أوصاف أهل الإيمان وما لهم من الثواب والإكرام والإحسان: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30]. والأذن ينبغي أن تنال حظها من القرآن استماعاً وإنصاتاً؛ ليخلص إلى شغاف القلب وإلى أعماق النفس، فينفض غبار الشهوات، ويبدد ظلمات الشبهات، ويبعث النور وضيئاً في قلوب المؤمنين، قال عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]. والعقل ينبغي أن ينشغل به؛ لأن الله سبحانه وتعالى دعانا إلى التدبر، ونعى على غير المتدبرين فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فينبغي لنا أن نتذكر هذا الأمر، وأن نتذكر أن الكون والوجود كله منصت لهذا القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن الشمس والقمر والشجر والدواب كلها تسجد لله سبحانه وتعالى، وكلها تسبح بحمده، وكلها تستجيب لأمره، والمسلم إذا مضى على منهج القرآن كان مع هذا الكون المسبح للرحمن، وإذا خالفه كان شاذاً فريداً بعيداً غريباً طريداً، ولذلك من نعمة الله على أهل الإيمان أن جعلهم الله سبحانه وتعالى مع الخلق، كما هو شأن الإنس، وكذلك هو شأن الجان، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، هكذا ينبغي أن نحيي قلوبنا بالقرآن المنهج الذي نحتاجه، والحكم الذي نبحث عنه، والأدب الذي نفتش عنه، وكل شيء نريده من الناحية النظرية المنهجية موجود بين أيدينا في القرآن، تلك هي الوسيلة العظمى الأولى.

رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلم القدوة

رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلم القدوة والوسيلة الثانية: المعلم القدوة رسولنا صلى الله عليه وسلم: فهو الشارح المفسر للقرآن، وهو السورة الحية لتطبيق آداب وأحكام القرآن، إنه سيد الخلق أجمعين نبينا وحبيبنا رسول رب العالمين، قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، فنحن ندرك عظمة القرآن ولكن لا نعرف تطبيق أحكامه إلا إذا نظرنا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتأملنا في أحاديثه وهديه العظيم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد مدحه رب العالمين فقال جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وهو الذي أنزل عليه القرآن، وهو الذي بين لنا كيف يحيا المسلم وتحيا أمة الإسلام بالقرآن، فكل الطرق إلى الله عز وجل مسدودة إلا من طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى). إنه الرحمة المهداة والنعمة المسداة، بل أعظم منة منَّ بها الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة هي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم الذي ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام، وقد وصف صلى الله عليه وسلم رحمته بأمته وحرصه على هداية الخلق أجمعين بقوله: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار)، فهو صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بالهدي الأكمل، وهو القدوة عليه الصلاة والسلام، قال عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وسعت رحمته العظيمة هذه الأمة الكريمة، وأفاض عليها عليه الصلاة والسلام من شفقته وعطفه، وبين لها -كما أخبر الصحابة- كل شيء يحتاجون إليه، فهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحية في السماء إلا ذكر لنا منه علماً). وفي سنن أبي داود عن سلمان رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة) أي: حتى كيفية قضاء الحاجة، فقد عرفنا سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في يقظته ومنامه، وفي حربه وسلمه، وفي رضاه وغضبه عليه الصلاة والسلام، وعرفنا حاله مع أزواجه، وعرفنا حاله مع أصحابه، وعرفنا حاله مع أعدائه، وكل شيء جاء في هذه السيرة العطرة والسنة الشريفة المطهرة، ليكون ذلك هو التطبيق العملي لمنهج القرآن الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي)، فما أعظم منة الله على هذه الأمة أن حفظ لها كتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المنهج النظري وهذا هو التطبيق العملي.

أهمية المجاهدة الصادقة

أهمية المجاهدة الصادقة وبعد ذلك ينبغي أن تكون هناك وسيلة ثالثة، فإن القرآن والسنة كانا على مر العصور، ولكن كان هناك في بعض الأحوال اختلاف ومخالفة وبعد، ولذلك ينبغي أن نأخذ بالأمر الثالث وهو المجاهدة الصادقة، فعلينا أن نجاهد أنفسنا لنلتزم كتاب ربنا ونقتدي بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى قد وعد ووعده الحق فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فلا يمكن أن ننال ثمرات الإيمان ولا أن ننال خيرات الإسلام ونحن نائمون كسالى عاجزون كل بضاعتنا هي الأماني والأحلام والأوهام. إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام جاهدوا أنفسهم حتى هاجروا، وخلفوا الأرض والديار، وخلفوا الأموال والثمار، وخلفوا الأهل والأبناء. إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه جاهدوا أنفسهم فخاضوا المعارك، وضربوا بالسيوف، وطعنوا بالرماح، وسالت منهم الدماء. إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه جاهدوا أنفسهم فخرجوا من الجزيرة شرقاً وغرباً لينشروا نور الله، وليبلغوا دعوة الله، وليرفعوا راية الله، وليعلنوا عزة الإسلام في كل مكان. إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه أحيوا ليلهم قياماً لله عز وجل حتى تفطرت الأقدام، وانسكبت الدموع، وسجدت الجباه، وتحركت القلوب، ونطقت الألسن تضرعاً وتذللاً بين يدي الله سبحانه وتعالى. إن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أقاموا أعظم حضارة دنيوية في الدنيا؛ لأنهم أسسوها على نهج الإيمان، وأقاموها على منهج الإسلام، فينبغي أن ندرك أن هذا الدين لا يتحقق في هذه الحياة إلا بجهد وجهاد من أبناء المسلمين، وأن هذا الدين لا يهدى للكسالى والعاجزين، كما قال الشاعر: إسلامنا لا يستقيم عموده بدعاء شيخ في زوايا المسجد ينبغي أن ندرك أنه لا بد لنا من مجاهدة للنفس حتى نستقيم على أمر الله، ونترك الإخلاد إلى الدنيا والركون إليها والانشغال بها والتعلق والتلذذ بشهواتها وملذاتها، وينبغي أن ندرك أننا في حاجة إلى عزيمة ماضية وإيمان قوي ويقين راسخ؛ حتى نتجاوز كل هذه الجواذب كما تجاوزها النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام والعلماء والأئمة من أمة الإيمان. أما كيف تجاوزوا ذلك؟ فتجاوزوه عندما جاهدوا أنفسهم ليهتدوا بالقرآن؛ وليقتدوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وليجددوا سيرة الأصحاب رضوان الله عليهم، فعندما فعلوا ذلك جاءتهم الآثار، وانبسطت بين يديهم الثمار، وكانت حياتهم مثلاً عظيماً من أمثلة تطبيق الإسلام التزاماً بالقرآن واتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي في هذه المجاهدة أن نستشعر المراقبة والمحاسبة، وينبغي أن نجدد ذلك النهج العظيم الذي كان عليه السلف الصالح، نهج يقظة الضمير والمراقبة الدائمة لرب العالمين، نهج لم يكن فيه شقاق ولا خصام ولا اعتداء ولا حاجة لتوسع القضاء وتشعب القضايا؛ لأن الناس كانوا يراقبون ربهم، وكانوا يستشعرون قول الله جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، ويعلمون حقيقة قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:5 - 6]. إن المجاهدة تعني: أن نتحقق بمعنى الإحسان الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أن نتذكر قول أحد السلف رضوان الله عليهم لما سئل: كيف الطريق إلى غض البصر؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما حرم عليك يردعك عن ذلك، فإن لم يردعك الخوف من الله فليردعك الحياء من الله، وكلاهما لا يكون إلا باستشعار مراقبة الله. قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، فينبغي أن نستشعر ذلك، وانظروا إلى واقعنا! لو كان الناس يراقبون ربهم لما اعتدى بعضهم على بعض، ولما وجدنا هذا الأكل للأموال بالباطل، ولما وجدنا هذا الاعتداء الغاشم الظالم، ولما وجدنا هذه المفاسد والفواحش التي استهان بها الناس كأنهم لا يراهم ربهم، وكأنهم لا يستحيون من خالقهم، وكأنهم لا يعظمون نعمة ربهم وفضله عليهم سبحانه وتعالى، وكأنهم يسيئون انتسابهم إلى هذا الدين وإلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فينبغي لنا أن نحقق هذه المراقبة، وأن نستشعر المحاسبة، كما قال عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر). قال عز وجل: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال عن أهل الإيمان: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21]، وقال عز وجل: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]. فينبغي أن نحقق هذه المجاهدة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ثمارها، وأن يجعلنا مستقيمين ثابتين عليها، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

أهمية التعاون على البر والتقوى

أهمية التعاون على البر والتقوى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم دافع لإقبال العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى أن يكون المرء مراقباً لله، مستشعراً لعظمة الله، خائفاً من عذاب الله، فإن ذلك فيه -بإذن الله- وقاية عن معصية الله وبعد عما حرم الله. وإن الوسيلة الرابعة المهمة هي التعاون على البر والتقوى: قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، والمؤمنون إخوة، والمسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، فينبغي أن نتعاون على الطاعات، وأن نتكاتف لإحياء معاني الإيمان في القلوب، وأن نتآزر لننفي عن بيئاتنا ومجتمعاتنا المنكرات والمحرمات. إن هذه الأمة فضلت لأنها أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فضلت لأنها أمة بعضها لبعض نصحة، والمنافقون والكافرون بعضهم لبعض غششه، قال جرير رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فزادني: والنصح لكل مسلم) أي: النصيحة الرفيقة الشفيقة، النصيحة الحكيمة الودودة، التعاون على البر والتقوى، والدعوة إلى الخير، وشعور المسلمين بأنهم جسد واحد، فإن لم يتحقق في الأسرة الواحدة وفي الحي الواحد بين الجيران فكيف تريد أن يتحقق في أمة الإسلام على اختلاف أصقاعها وتباين بيئاتها ولغاتها، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم، وفي رواية أخرى: (المسلمون كجسد واحد إذا اشتكى رأسه اشتكى كله، وإذا اشتكى عينه اشتكى كله)، فأين التراحم والتلاحم؟ وأين الذي يجد من يعظه ويذكره إذا نسي؟ ومن يزجره وينهاه إذا أخطأ، ومن يشجعه ويدعوه إذا أقبل؟ هل نتعاون في ذلك كما نتعاون في أمور الحياة الدنيا؟ ترون أهل العمارة الواحدة قد يتفقون على من يحرس لهم عمارتهم، ويتفقون كيف يؤمنون الماء إذا كانوا يحتاجون إليه، ويخصصون حصصاً مالية بينهم، لكننا لم نسمع كيف يوقظ بعضهم بعضاً لصلاة الفجر، ولا كيف يجعلون من وقتهم في أسبوعهم كله ساعة واحدة يتلون فيها كتاب الله، أو يقرءون شيئاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن انعدام التعاون وضعف النصيحة وخلو المجتمع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب من أسباب الهلاك والدمار، ويعود على الناس جميعاً حتى الصالحين؛ لأن الصالحين إن لم يكونوا ناصحين يوشك أن يكون في صلاحهم فساد وخلل. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا الماء صعدوا إلى من فوقهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقاً فاستقينا الماء ولم نؤذ من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)، فالتعاون ينبغي أن نحرص عليه، والرفقة الصالحة فضل عزيز مهم في هذه الحياة، كما في الحديث: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)، فإذا وجد بين أيدينا المنهج النظري في القرآن الكريم، والمنهج العملي في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وجاهدنا نفوسنا، وبذلنا بصدق وإخلاص من أعماق قلوبنا وخفايا نوايانا ومن حر مالنا ومن جهد أبداننا ومن المهم من أوقاتنا لنطيع الله سبحانه وتعالى، ثم كان بيننا تعاون وتكاتف على البر والتقوى، وإحياء معاني الإيمان، وإشاعة العلم بهذا الدين، والدعوة إلى رب العالمين، وتشجيع الناس على الطاعات، ونهيهم عن المنكرات والمحرمات؛ فسنجد أننا بالفعل قد بدأنا صفحة جديدة. فليست كلمة (صفحة جديدة) هي كلمة نرددها، أو هي أسلوب نعتاد أن نقوله كلما جاءت نهاية عام أو بداية عام، بل ينبغي أن نذكر هذه النعم والمنن التي ساقها الله إلينا، فقد كفينا أمر المنهج، وكفينا أمر تفسيره وتطبيقه، وبقي علينا جهاد نفوسنا الضعيفة المريضة، فعلينا أن نعالجها، وأن نجاهدها، وبقي علينا أن نشد من أزرنا، وأن نقوي الأواصر فيما بيننا؛ حتى نستطيع التعاون، وأن نتغلب على شهوات النفوس وعلى فساد البيئات، وأن نكون كما أراد الله سبحانه وتعالى فيما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً). فنحن عند أن نكون في المسجد نلصق الكتف بالكتف، ونصلي مع بعضنا، لكن كثيراً منا لا يعرف الآخر، ولا يسأل عن حاله، ولا يسعى لمنفعته، ولا يسعى لدفع الضر عنه، وسبب ذلك هذه الأواصر التي ضعفت، وهذه العلائق التي انقطعت، فإنها سبب من أسباب ضعفنا في ديننا، ومن أسباب بعدنا عن هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن أسباب مخالفتنا وإعراضنا عن كتاب ربنا. نسأل الله جل وعلا أن يحيي قلوبنا بالإيمان، وأن ينور بصائرنا بالقرآن، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بكتابه مستمسكين، وعلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم سائرين. اللهم اجعلنا ممن يحل حلال القرآن ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه. اللهم اجعله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا. اللهم اجعلنا لرسولك صلى الله عليه وسلم متبعين، وفي محبته صادقين مخلصين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا. اللهم جدد في القلوب إيماننا، وجدد في الحياة أخلاقنا على ما يرضيك يا ربنا. اللهم وفقنا لما تحب وترضى واصرف عنا ما لا تحبه وترضاه. اللهم ارزقنا الصالحات والخيرات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم يوماً أسود قريباً يا سميع الدعاء؛ اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم فرق كلمتهم، ودمر قوتهم، واستأصل شأفتهم، واجعل بأسهم بينهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار؛ يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا، اللهم إنهم قد أذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين، اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والمرضى والثكالى والعجزى يا رب العالمين! اللهم الطف بإخواننا المعذبين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وأجب دعوتهم، وفرج كربتهم يا حي يا قيوم؛ اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين. اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراةً فأكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم يا رب العالمين، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم عجل فرجهم، وقرب نصرهم يا رب العالمين! اللهم واجعلنا في نصرتهم عاملين، اللهم واجعلنا لنصرة دينك باذلين منفقين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم سدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الحق والخير يا رب العالمين. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. والحمد لله رب العالمين!

المرأة بين الحرية والاستقلالية

المرأة بين الحرية والاستقلالية لقد أعلى الإسلام مكانة المرأة، وأعطاها حقها في كل شيء، فأعطاها حقها في التصرف المالي، وفي اختيار الحياة الزوجية، وفي شهود العبادة مع الجماعة بالضوابط المعروفة، وكذلك اعتبر قولها في الرأي والمشورة، وحسن التدبير والتصرف، وغير ذلك، وهذا فيه رد على أولئك الأفاكين أصحاب الشهوات والنزوات البهيمية الذين يريدون من المرأة أن تكون سلعة تباع وتشترى، فالإسلام حفظ للمرأة كامل حقوقها، وصانها من كل شر، وأعطاها من الحقوق ما لا يمكن أن تحصل عليها في غيره.

حقيقة الحرية في الإسلام

حقيقة الحرية في الإسلام الحمد لله رضي لنا الإسلام ديناً، وحفظ لنا القرآن دستوراً وشرعاً، وأكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد:

تشويه مكانة المرأة في الإسلام

تشويه مكانة المرأة في الإٍسلام أيها الإخوة المؤمنون: (المرأة بين الحرية والاستقلالية والعبودية والتبعية) هذا موضوع من الموضوعات المهمة التي تبرز مكانة المرأة في الإسلام وإظهار حقوقها ورعايتها وحمايتها في دين الله عز وجل، وبالمقارنة تتضح أيضاً معالم الجاهلية التي تبخسها حقها، والتي تفرط في مكتسباتها، والتي تجعلها نهباً للخوف ولكل ما يتعلق بالاعتداء على عفتها وشرفها وأنوثتها وحيائها. والحرية كلمة جميلة وشعار مغر هو كالمساواة التي سبق الحديث عنها، تدغدغ به المشاعر وتستمال به القلوب وتضل به العقول؛ لتخرج من شرع الله عز وجل، ومن الميزان العدل والحرية الحقة التي شرعها الله جل وعلا العليم بخلقه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فيدعى للمسلمين ويشاع بينهم أن في شريعتهم بالنسبة للمرأة قيوداً، وأن في ذلك أيضاً ضرباً من العبودية والتبعية والاضطهاد والظلم للمرأة، وإلغاء شخصيتها ومصادرة استقلاليتها، إلى غير ذلك مما يشاع ويذاع، وقد يغتر به بعض الجهلة من المسلمين، ويتشدق به بعض المفتونين بالكافرين من غربيين وشرقيين، ولذا فإن بيان هذا الأمر وتجليته ينبغي أن يكون مما يحرص عليه المسلم والمسلمة؛ ليكون على بينة من أمره، وليكون المجتمع المسلم مجتمعاً متماسكاً عارفاً أحكام شرع الله، مطلعاً على الحِكَم والمنافع والمصالح التي تنتج من التزام أمر الله سبحانه وتعالى.

الفوضى المطلقة ليست من الحرية

الفوضى المطلقة ليست من الحرية عندما يتأمل المرء في تشريع الإسلام يجد أنه أعطى المرأة الحرية والاستقلالية الكاملة التامة فيما ينفعها ويعود عليها بالخير والصلاح. وإذا وجد ما يظنه بعض الناس قيوداً فإنه لابد أن يعلم أن الحرية لا يمكن في أي مذهب ولا نحلة، ولا مجتمع ولا تاريخ قديم ولا حديث أن تكون بلا قيد مطلقاً؛ لأن معنى إعطاء الحرية لكل أحد بلا قيد أن يتعدى حدوده ليعتدي على حقوق الآخرين، وكل حرية لها حد تقف عنده، وهو ألا تُتجاوز حقوق الآخرين ويُعتدى عليها، ومن ثم فليس هناك ما يعرف بالحرية المطلقة، إلا أن يكون هناك الفوضى التي تسمى باسم الحرية؛ لأن الحرية إذا أعطيت لي على أني أنا حر في أن أصنع ما أشاء، فلأقم بكل عمل ولو كان فيه ما يضر الآخرين أو يزعجهم أو يقلقهم، فهل يقبل أحد أن يعطيني مثل هذه الحرية؟! وأنا حر في أن أمتلك ما أشاء، فهل تعطيني هذه الحرية الحق في أن أسطو أو أسرق أو أعتدي على حقوق الآخرين لأحقق حريتي؟! والحرية أيضاً في مجال الشهوات والغرائز هي أيضاً موجودة في الفطرة، فهل يقر أحد أن تكون الحرية على حساب أعراض الآخرين؟! كل هذا ينبغي أن يكون معلوماً وأن يكون من الأمور المستقرة المسلّمة عند كل أحد. فلننظر إلى الحرية الحقة في الميادين الرئيسة، وفي الأسس المهمة في حياة البشرية، التي أعطاها الله عز وجل ووفرها شرع الله سبحانه وتعالى للمرأة المسلمة.

حرية الاعتقاد في الإسلام للمرأة

حرية الاعتقاد في الإسلام للمرأة إن هذا الدين جاء بشطر آية هي من أعظم شعاراته ومن أبلغ حقائقه: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، فليس هناك إكراه في دين الله عز وجل على الناس سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ أن يدخلوا في دين الله قهراً أو قسراً أو غصباً فإن ذلك ليس من شرع الله سبحانه وتعالى، وليس الجهاد كما نعلم ضرباً من هذا القهر أو الإكراه، وإنما هو ضرب من تكسير القيود وتهديم الحواجز؛ حتى يكون للناس اختيار تام فيما يعتقدون ويعتنقون. والإسلام الذي أباح للمسلم أن يتزوج بالكتابية من أهل الكتاب لم يجعل من شرط زواجه أن تسلم، ولا من حقه أن يكرهها على الدخول في الإسلام، وإنما جعل ذلك باباً من الأبواب الذي قد يحصل به مثل هذا من خلال الإقناع والتأثر بالقدوة الحسنة. والله سبحانه وتعالى قد بين حق المرأة المسلمة في اعتناق دينها الإسلامي وحرصها عليه وثباتها عليه، وذلك عندما نزلت سورة الممتحنة تقرر عقيدة المرأة المسلمة وحريتها، وتفرض على المجتمع المسلم أن يحميها ممن يريد أن يضطهدها في دينها: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار} [الممتحنة:10]. ويضرب لنا القرآن المثل العظيم في استقلالية شخصية المرأة وحريتها الاعتقادية، حتى في المجال السلبي، وذلك عندما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بكفر امرأة نوح وامرأة لوط قال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم:10]. ثم ضرب لأهل الإيمان مثلاً عظيماً وهو قوله جل وعلا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، انظر إلى هذا المثل، المرأة في بيت الطاغية الأكبر مدعي الربوبية والألوهية الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، هذا الكافر الأعظم في بيته زوجة مؤمنة تدعو الله سبحانه وتعالى، تحافظ على عقيدتها وإيمانها وتتشبث وتتمسك به. لقد ضرب لنا القرآن مثلاً ونموذجاً من الأمم السابقة ليبين أن للمرأة شخصية مستقلة، وأنها بإيمانها وإسلامها لشرع ربها سبحانه وتعالى تكون في أعظم قوة وفي أقوى شخصية، تتمرد حتى على فرعون الذي كان مضرب المثل في القوة والطغيان والتكبر. وسمية أول شهيدة في الإسلام مضرب مثل عظيم تحدت أبا جهل فرعون هذه الأمة، ومرغت كبرياءه في التراب، ولم يستطع أن ينال منها كلمة تتنازل بها عن عقيدتها أو تتخلى عن إيمانها، أو تساوم في دينها أو تشتري دنياها بأخراها، فما كانت المرأة المسلمة إلا هذا النموذج الحي القوي في ثباته واستقلاليته وقوته.

الحرية المالية للمرأة في الإسلام

الحرية المالية للمرأة في الإسلام

حق المرأة في التملك بالميرات والمهر

حق المرأة في التملك بالميرات والمهر هذه أيضاً من الأمور المهمة التي جعل الله عز وجل للمرأة فيها حرية وحقاً مستقلاً وتميزاً ظاهراً بيناً، فجعل لها حق التملك في الميراث، وحق تملك المهر، وحق تملك النفقة، وحق التملك بالكسب، فلها شخصيتها المستقلة وحريتها الكاملة في مجال ما تكتسبه وما تمتلكه، وليس لأبيها ولا لزوجها حق في أن يأخذ منه شيئاً من غير طيب نفس ومن غير رضاً ومن غير قناعة. ليست هناك الصورة الجاهلية السابقة في أن تكون المرأة من ضمن الميراث، ولا الصورة الجاهلية الحاضرة التي يمكن أن تلغي حقها بمجرد الهوى والشهوة، كلا، فقد أنزل الله عز وجل آيات تحفظ لها حقها، وتحمي حريتها من الاعتداء عليها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] قرآن يتنزل وآيات تتلى لتحفظ لها استقلاليتها وملكيتها وحريتها المالية فيما اكتسبته بالطرق الشرعية، أو آل إليها من خلال إرث أو مهر أو نحو ذلك. {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:20 - 21] حقها لا يمكن أن ينتقص، وما هو شائع في بعض بيئات المسلمين هو ضرب من الإعراض عن شرع الله، فليس للآباء حق في مهور بناتهم ولا أن يأخذوا نسبة من نصف أو ثلث أو نحو ذلك، فكل ذلك ليس من شرع الله ولا يلصق بدين الله. قد قلنا من قبل: إن معرفتنا للدين إنما تكون من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التطبيق في العهد النبوي الكريم، ولا يمكن أن نجعل بعض العادات أو التقاليد أو الأعراف الجاهلية هي التي تعطينا صورة الإسلام، أو التي يحصل منها التطبيقات العملية للإسلام، فليس هذا من الحق في شيء مطلقاً.

حق المرأة في البيع والتبرع

حق المرأة في البيع والتبرع وانظر إلى التطبيق العملي لحق التملك وحق التصرف وحق الأهلية والاستقلالية المالية: روى مسلم في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، زوج الزبير رضي الله عنه، تقول: (كان لي جارية فبعتها -يعني كما يظهر من الرواية أنها باعتها من غير إذن سابق من زوجها- قالت: فدخل الزبير وثمنها في حجري فقال: هبي هذه الأموال لي، يطلب منها الزبير وهو الزوج الذي له حق الطاعة في شرع الله عز وجل قالت: فقلت: إني قد تصدقت بها). هذه صورة حية من داخل بيت مسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه المرأة باعت جاريتها لأن لها حق التصرف في ملكها ومالها، وليس من شرط صحة عقدها إذن زوجها وإن كانت لو أخذت رأيه أو استشارته لكان ذلك حسناً، لكن لا يترتب عليه فساد عقد ولا إبطال بيع، فلها مطلق الحرية في التصرف في مثل هذا الشأن. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلها -أي: أن تقطف التمر من النخل- فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بلى فجدي نخلك، فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفاً)، أي: جدي نخلك فهو ملك لك عسى أن تبيعيه ثم تتصدقي منه أو تصنعي معروفاً. فهذه أيضاً صورة حية لاستقلالية المرأة المالية في إطار الشريعة الإسلامية. وكذلك حديث ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها: (لما أعتقت وليدة لها فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إني أعتقت وليدتي-فهو لم يكن يعلم من قبل بما فعلت، ولم يكن يترتب على إذنه صلى الله عليه وسلم صحة فعلها- فقال لها: أما إنك لو وهبتيها لأخوالك لكان أعظم لأجرك)، كما في صحيح البخاري.

حرية المرأة في الحياة الزوجية في الإسلام

حرية المرأة في الحياة الزوجية في الإسلام

حق المرأة في اختيار الزوج

حق المرأة في اختيار الزوج إن للمرأة حريتها في الحياة الزوجية، فلها حريتها في الاختيار، لا الحرية التي تدعى أو تنادى إليها المرأة اليوم ليقال: إن الإسلام يمنع المرأة من الاختيار، أو أن لأبيها أن يغصبها أو يبيعها لمن شاء؛ ليكتسب من ورائها ولا يكون لها رأي ولا اختيار؛ لكن إن وجد مثل هذا في بعض بيئات المسلمين فإنه ليس من الإسلام في شيء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن). لها مطلق الحرية في القبول أو الرفض وليس لأحد أن يكرهها، وانظر إلى التطبيق العملي في هذا الشأن وهو أمر مهم أن يظهر في بيئات المسلمين؛ لأن بعضاً منهم يمارسه بطريقة خاطئة مخالفة لشرع الله عز وجل: روى البخاري عن القاسم أنه قال: (إن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة، فأرسلت إلى شيخين من الأنصار عبد الرحمن ومجمع ابني جارية رضي الله عنهما تخبرهما عن هذا التخوف، فقالا لها: لا تخشي فإن خنساء بنت حزام أنكحها أبوها وهي كارهة فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك). امرأة زوجها أبوها وهي كارهة فجاءت إلى رسول الله تشكو، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النكاح الذي بني على غير رضا المرأة.

حق المرأة في رفض من لا تراه صالحا لزواجها

حق المرأة في رفض من لا تراه صالحاً لزواجها والتطبيق العملي يظهر أيضاً في صورة أخرى جميلة وجديرة بلفت النظر والاهتمام، تلك الصورة هي قصة مغيث وبريرة مولاة عائشة: (كان مغيث عبداً وكانت بريرة لا تحبه وهو زوجها من قبل، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعتقت: إنها لا تريد مغيثاً، وإنها ليس له في قلبها منزلة وقدر ومحبة من الناحية النفسية، فجعل مغيث يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً، ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى بريرة فقال لها: ألا ترجعين إليه؟ قالت: يا رسول الله! أتأمرني؟ قال: لا، إنما أشفع يا بريرة، فقالت: فلا حاجة لي فيه). أي استقلالية أعظم وحرية أظهر من موقف مولاة لـ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أمام رسول الله عليه الصلاة والسلام. قال ابن حجر في تعليقه وشرحه لهذا الحديث: فيه من الحِكَم واللطائف: أنه يندب للإمام والحاكم أن يشفع بين الناس وأن يصلح بينهم، وفيه وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه حسن أدب بريرة فإنها لم ترد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها قالت: لا حاجة لي فيه. انظر إلى هذه الصورة العظيمة.

اشتراط المرأة لما تريده قبل زواجها

اشتراط المرأة لما تريده قبل زواجها ولننتقل إلى صور أكثر وضوحاً وجلاء لهذا الحق العظيم من حقوق المرأة والحرية المهمة من حرياتها، وهو أمر في أعظم بيت من بيوت الدنيا كلها، إنه بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما توفي أبو سلمة وانقضت عدة أم سلمة رضي الله عنها تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخطبة أم سلمة المهاجرة للهجرتين والمتقدمة في نصرة الإسلام، قالت: (أرسل إلي صلى الله عليه وسلم حاطباً يخطبني إليه فقلت: إن لي بنتاً وأنا غيور -كأنها تذكر بعض الأمور التي ينبغي أن يراعيها أو أن يعرفها الزوج حتى يأخذ بالاعتبار مثل هذه الأمور فيقدم أو يحجم- فلما رجع الرسول إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أرسله وقال: أما ابنتها فأدعو الله أن يغنيها عنها، وأما غيرتها فأدعو الله أن يذهب عنها الغيرة). ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم قصة أخرى أعظم من هذه وأبلغ في زواج النبي صلى الله عليه وسلم الزواج القرآني الذي خلده الله عز وجل في آيات تتلى، وذلك زواجه من زينب بنت جحش لما طلقها زيد رضي الله عنه، يقول زيد كما في صحيح مسلم: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فانطلقت حتى إذا جئت وهي تعجن عجيناً لها، فوقفت فهبتها لما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوليتها ظهري وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي -أي: حتى أستخير وأصلي وأتخذ القرار بناء على استخارة ربانية- ثم ذهبت ونزلت إلى مسجدها في بيتها ونزل القرآن: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْه} [الأحزاب:37] إلى آخر الآيات القرآنية التي زوج الله عز وجل بها النبي صلى الله عليه وسلم من زينب. وهذه صورة عملية لاستقلالية المرأة المسلمة وحريتها في الاختيار، حتى في هذا الموقف العظيم الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حق المرأة في الرجوع إلى زوجها الذي طلقها

حق المرأة في الرجوع إلى زوجها الذي طلقها نزلت آيات قرآنية تتلى، وسبب نزولها حفظ حق المرأة وحريتها واستقلاليتها باختيارها ورضاها بزوجها، ففي الحديث الصحيح عن معقل بن يسار: (أن أخته كانت متزوجة فطلقها زوجها وتركها حتى انتهت عدتها ثم جاء يخطبها، فرفض معقل وقال: طلقها ثم تركها ثم جاء يخطبها، فجاءته الحمية أن لا يردها إليه وأن لا يوافق على زواجها) وفي رواية عند غير البخاري ومسلم قال الراوي فيها: (وكان الرجل لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فمنعها أخوها، فأنزل الله عز وجل قوله جل وعلا: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً وتلا عليه الآية القرآنية -قالت الرواية في الصحيح-: فترك معقل الحمية واستقاد لأمر الله عز وجل). فأي حق وأي حرية وأي استقلالية أعظم من هذا للمرأة في أمر هو من أهم شئونها، وهو أمر زواجها وبناء أسرتها. نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يجعلنا مستمسكين بشرعنا. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وجعلني وإياكم من أهل الذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

حرية المرأة في شهود العبادة وضوابط ذلك

حرية المرأة في شهود العبادة وضوابط ذلك الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله وخير خلق الله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى التزام شرع الله في معاملة النساء، والتزام شرع الله عز وجل في هذه الأحكام التي تجاوزها عدد غير قليل من المسلمين، فأجحفوا في حق المرأة، وظلموها من ذات أنفسهم ومن خلال أعرافهم أو قواعد قبلياتهم ونحو ذلك، بأمور وأفعال ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان. وإن من الحقوق التي تظهر حرية المرأة واستقلاليتها: حرية شهود العبادة: فإن هذا الدين العظيم جعل للمرأة الحق في أن تشهد بعض العبادات من غير فرض ووجوب عليها، ولكن المشاركة لها في بعض الأمور قد ثبتت ثبوتاً متواتراً قطعياً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كشهود صلاة العيد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحض النساء على الخروج إليها حتى تخرج ذوات الخدور من بيوتهن، وحتى يخرج الحيض ويكن في معزل عن المسجد يشهدن الخير مع المسلمين. وكذلك الخروج إلى الصلوات المعتادة، فإنه ليس من المحرم ولا من المكروه إن لم يكن هناك ارتكاب لمكروهات أو محرمات، فتشهد المرأة صلاة الجماعة مع المسلمين، فقد ثبت ذلك في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وثبت أن النساء كن يصلين الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث آية نزول الحجاب. وكذلك ورد في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه قال لامرأة عمر: لماذا تخرجين إلى الصلاة وأنت تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟! فقالت: وما يمنعه أن ينهاني؟! فقال ابن عمر: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله). فالحكم الشرعي لا يتغير لتغير أفكار بعض الناس أو لسوء تطبيقه، بل ينبغي لنا أن نطبق الحكم الشرعي كما هو، فإن جاءت ملابسات أو ظروف فإنها لا تلغي الحكم الشرعي وإنما يقال: إن ثمة فتنة أو ثمة ضرراً أو ثمة خوفاً لأجله منع هذا الأمر لا لإبطال أصله، فإن بعض الناس قد يكون عنده غيرة أو حماسة، فيجعل المنع حكماً شرعياً كأنه دائم أو كأنه أصلي أساسي.

مشاورة المرأة والأخذ برأيها في بعض الأمور

مشاورة المرأة والأخذ برأيها في بعض الأمور من صور الحرية التي أعطاها الله عز وجل وأبرزها الإسلام في شخصية المرأة: حرية الرأي، ورجاحة العقل، وحسن التدبير والتصرف في الأمور: فليست المرأة كماً مهملاً كما يدعي بعض الناس، أو كما قد يمارس بعض الناس في بعض الأحوال، فإن صوراً كثيرة وثيقة أبرزت لنا مواقف تدل على ذلك في حياة المرأة المسلمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحسبنا في ذلك من الأمثلة موقف أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية؛ لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يحلقوا رءوسهم ليرجعوا عن مكة، فشق ذلك على نفوسهم، فدخل رسول الله عليه الصلاة والسلام على أم سلمة مغضباً وهو يقول: هلكوا، فلما سألته أخبرها بأمر امتناعهم، فقالت: يا رسول الله! قد دخل عليهم ما تعلم مما يشق على نفوسهم، فاخرج إليهم ثم اؤمر حالقك أن يحلقك، فإن رأوك فعلت فعلوا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيها الحكيم ومشورتها الصائبة، فخرج فحلق، فابتدر القوم يحلق بعضهم بعضاً حتى سال الدم من شدة ما كانوا يحلقون. فهذا موقف عظيم من هذه المواقف المهمة، ومواقف أخرى تدل على حسن التدبير واللطف مع مراعاة حق الزوج وطاعته. هذه أسماء مرة أخرى تعرف طبع الزبير بن العوام رضي الله عنه: (جاء رجل يستأذن أسماء في أن يبيع في ظل دارها، فقالت: إني أخشى إن فعلت ألا يرضى الزبير، ولكن ائتني إذا كان موجوداً فاطلب طلبك، فجاء والزبير موجود فقال: إني أريد أن أبيع في ظل بيتكم، فقالت: أما وجدت في المدينة إلا داري؟! فقال الزبير: وما يمنعك أن تجعليه يكتسب في ظل دارك؟!) كما في صحيح مسلم. ففي هذه القصة حسن التدبير والتصرف من غير مخالفة، ومن غير نوع من المصادمة والاختلافات التي يجعلها بعض الناس بينهم بحجة وجود أو طلب الاستقلالية، لم يتحكم الرجل؟! لم تتحكم المرأة؟! إذاً سيبقى هناك نزاع دائم في مثل هذه الأمور. انظر إلى حسن التصرف في قصة أم سليم رضي الله عنها في شأن زواجها وفي شأن وفاة ابنها: لما جاءها أبو طلحة يخطبها قالت: (إنك رجل كفء ولكنك كافر، فلو أسلمت لتزوجتك، فأسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامه مهرها). وهذه من الصورة التي تدل على رجاحة العقل، فما طلبت مالاً ولا طلبت شيئاً، وإنما جعلت أمر الزواج سبباً أو أسلوباً من أساليب دعوتها إلى الله عز وجل. كان لـ أم سليم ابن مريض فتوفي وزوجها خارج البيت، فجاء إليها في آخر اليوم يسأل عن ابنه فقالت: هو اليوم أسكن منه مما مضى. كلمة صحيحة في المعنى فهم منها أن الابن قد سكن وهدأ، وهي تعني بالسكون الموت الذي لم يعد له فيه حراك. ثم أعدت له طعام العشاء وتصنعت له وتزينت حتى غشيها، فلما فعل ذلك قالت له: إن لنا جيراناً أودعهم بعض الناس وديعة فلما طلبوها منهم أبوا أن يردوها، فأنكر ذلك عليهم، فقالت له بعد ذلك: إن ابنك وديعة الله عندك وإن الله قد استرد وديعته! فتلطفت وأحسنت التصرف وأصابت الرأي، فغضب أبو طلحة فمضى في الصباح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عن هذه القصة التي فيها بعض التورية، فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سليم، ودعا لهما بالبركة في ليلتهما تلك، فرزقا عشرة من الأبناء طال عمرهم وحسن عملهم، وكانوا من خيرة أبناء الإسلام.

حرية المرأة واستقلالية شخصيتها

حرية المرأة واستقلالية شخصيتها وكذلك مواقف القوة التي تبرز شخصية المرأة المسلمة؛ لأن الصورة التي تظهر الاستقلالية بصورة ممسوخة سيأتي الحديث عنها. صورة أو مثل واحد أختم به الحديث، في قصة الحجاج الظالم الطاغي حين استحل حرمة البيت الحرام في مكة المكرمة، وقتل عبد الله بن الزبير، ثم أرسل إلى أسماء يدعوها لتأتي إليه، فأبت أن تأتي، فأرسل إليها: لئن لم تأتي لأرسلن من يسحبك بقرونك، فقالت: لا آتيه حتى يرسل من يسحبونني بقروني. فلما بلغ ذلك الحجاج قال: أين مكانها؟ فأخبر به فلبس نعله ثم جاء إلى أسماء وقال لها: ما رأيت فيما فعلت بعدو الله -يعني: ابنها عبد الله بن الزبير، وكانت امرأة كبيرة في السن تفقد ابنها وقد عمي بصرها ويأتي قاتل ابنها بهذه القوة والغطرسة والجبروت- قالت: رأيت أنك قد أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك. الحجاج الباغي سفاك الدماء الذي كان الناس يرتعدون من سماع اسمه، ثبتت له أسماء، ثم قالت له: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن في بني ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا أراه إلا أنت)، فأخذ الحجاج نفسه ومضى لا يلوي على شيء من هذه المواجهة للمرأة المسلمة المؤمنة الواثقة. فهذه أمثلة محدودة مما جعله الله عز وجل من استقلالية لشخصية المرأة، وحريتها في اعتقادها وعبادتها وتصرفها المالي واختيارها الزوجي، وهذه الحريات كثيرة وفيرة وعظيمة وصالحة نافعة، أما الحريات التي يطالب بها بعض الجهلة من المسلمين وأعداء الإسلام، وهي حرية التبرج، وحرية الممارسة الجنسية وغيرها من الحريات؛ فهي فوضى وليست حرية، ويقولون لنا أيضاً كما سبق أن أشرنا في الموضوعات السابقة: أين حرية المرأة وأنتم تحجبونها تحت حجابها؟ وأين حرية المرأة وقرآنكم يتلى ويقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]؟ فهي حبيسة البيت قعيدته، إلى غير ذلك مما يقولون مما هو مردود عليهم ولنا فيه حديث. أسأل الله عز وجل أن يعصمنا بالإيمان، وأن يقينا شرور أهل الكفر والطغيان، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمل نساءنا بالحياء والحشمة، وأن يجعلنا ممن يتبعون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وحط عنا السيئات، وكفر عنا الخطيئات، وأقل لنا العثرات، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا واجعلنا من عبادك الصالحين، وانصر جندك المجاهدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء. اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك. اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً. اللهم استأصل شأفتهم، وفرق كلمتهم، واجعل بأسهم بينهم، وأنزل بهم بأسك وسخطك ومقتك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والجرحى والمرضى. اللهم رحمتك بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والنسوة الثكالى، والصبية اليتامى. اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم عجل فرجهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واحفظ إيمانهم وأعراضهم وديارهم وأموالهم يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك ووفقهم لرضاك، وارزقهم بطانة صالحة تحثهم على الخير وتدلهم عليه، وتنهاهم عن الشر وتحذرهم منه يا سميع الدعاء. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الهوية بين السلبية والإيجابية

الهوية بين السلبية والإيجابية نحن بحاجة في هذا العصر -أكثر من أي عصر مضى- إلى معرفة هويتنا الإسلامية حق المعرفة، والتمسك بها، والعض عليها، والسبب واضح في ذلك؛ فإنه ما من أمة إلا ولها هوية تعتز بها، وتقوم على أساسها وتنافح عنها، وترتكز الهوية على ثلاثة أقطاب تدور رحاها عليها، وهي: الدين، واللغة، والتاريخ، فمن أراد الإمساك بزمام الهوية وبقائها فعليه أن يحافظ على هذه الأقطاب الثلاثة.

العناصر الثلاثة التي ترتكز عليها الهوية

العناصر الثلاثة التي ترتكز عليها الهوية الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، له الحمد سبحانه وتعالى أن شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وأتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام ديناً، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، ختم به الرسالات، وأكمل به الديانات، وجعل شريعته صالحة إلى قيام الساعة. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء -ليلها كنهارها- لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! "الهوية بين الإيجابية والسلبية" حديث كثر تناوله، فهل لكل أمة خصوصية تميزها، وهوية تعرف بها؟ وهل ذلك إن وجد يكون عائقاً في طريق تطورها، ومانعاً من صلتها بغيرها، وقاطعاً لها عما حولها؟ ونحن في هذه الأوقات والأزمان التي لم يعد للمسافات فيها أثر، ولم يعد إمكان لأن يكون هناك انعزال كامل بحال من الأحوال، ينبغي أن نعرف هذه المسألة؛ لأنها في غاية الأهمية لإدراكنا ولأحوالنا في تصوراتنا ومبادئنا، وفي علومنا ومعارفنا، وفي ثقافتنا وحضارتنا، وفي سلوكنا وأعمالنا، من هنا نبدأ بهذه المسألة المهمة. الهوية لأي مجتمع وأمة لابد أن تكون موجودة بشكل أو بآخر، وهي ترتكز على ثلاثة عناصر: الدين، واللغة، والتاريخ، وما من أمة في قديم الزمان وحاضره إلا ولها دين، ولسان تتحدث به، وتاريخ كان لهذا الدين وتلك اللغة والثقافة والحضارة ارتباط به، ومن هنا تتميز به ويكون سمة خاصة بها، ويشكل لها كثيراً من أسسها وقواعدها وتصوراتها ورؤاها. ولابد أن ندرك أننا في هذا العصر نحتاج إلى معرفة الهوية وتأكيدها، ومعرفة الجوانب التي نجعل منها إيجابية نافعة في هذه الهوية؛ لأن هناك من قصر فهمه ونظر إليها نظراً مختلاً، فرأى أنها حاجز لا بد أن يزال، وسمت لا بد أن يلغى، ولابد أن يكون الناس كلهم شيئاً واحداًًًًًًًً، ونمطاً واحداً، وهذا إن قاله بعض من نعدهم من الأعداء من غير المسلمين قلنا: إن مقاصدهم بذلك أن ينزعوا ديننا، وأن ينسخوا تاريخنا، وأن يبدلوا كل خصوصياتنا، لكننا إن سمعناه من بعض أبناء جلدتنا، وبعض أبناء ملتنا، أدركنا أنهم ربما كان عندهم سوء فهم، وخلل فكر، وميل هوى، يحتاجون معه إلى مراجعة ومناصحة، ولذلك ليس من النافع أن يكون هناك احتراب قبل أن يكون هناك تعيين وتحديد.

أهمية الهوية في دين الأمة

أهمية الهوية في دين الأمة إن هوية الأمة في دينها أمر أساسي لا نريد أن نقول: إنه من ذات ديننا وصميم آيات قرآننا وأحاديث نبينا، بل نقول كذلك: إنه من واقع الحياة المعاصرة، وإنا لنسأل ونتساءل: دولة الغصب في الكيان الصهيوني المحتل في أرض فلسطين ماذا تسمي نفسها؟ وما هو شعارها؟ وكيف هي مناهجها؟ وكيف تكون أيام عطلها؟ وما الذي يدور في معاهدها ومحافلها؟ وعمن تدافع؟ ومن تجلب إلى أراضيها؟ إن أي مغفل أو أحمق يدرك أن محور القطب والرحى الذي تدور عليه ديانتها وعقيدتها اليهودية، وإن أمماً أخرى كثيرة -حتى غير الديانات السماوية- تجعل أعيادها، وتجعل تصرفاتها، وإجازاتها، وكثيراً من صور أحوالها الاجتماعية منبثقة من تلك الديانة وتلك العقيدة حتى وإن كانت بشرية كما أشرت، فلماذا يستنكر على أمة الإسلام أن يكون لها مثل ذلك، أو يرى أن ذلك من الضيق في الفكر، أو التحجر في النظر، أو عدم القدرة على التعارف وعلى التواصل مع الآخرين؟!

العنصر الثاني: اللغة

العنصر الثاني: اللغة ثم إذا جئنا إلى اللغة وما أدراك ما اللغة؟! لغة القرآن، لغة الفصاحة والبيان، التي أصبحت اليوم غريبة في ديارها، لا يحسن أهلها أن يقيموا حروفها، وأن يفصحوا في إعرابها، ولا أن يظهروا بلاغتها، وصار كثير منهم لا يكاد يتكلم جملة إلا ويحشر في كلماتها من تلك اللغة أو الأخرى كلمات لا تعود تعرف هل هو من أبناء هذه اللغة أو غيرها؟! وأسألكم: من يتحدث بالعبرية في أنحاء العالم؟ كم عددهم؟ ومع ذلك كل مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم وكليات طبهم لا تتحدث ولا تدرس إلا بها، ولو ذهبت إلى أقصى الشرق في بلاد اليابان لما رأيت أحداً يلتفت إليك، ما لم ترطن برطانته وتتكلم بلغته، ولو ذهبت إلى فرنسا لرأيت أنها تعتز بلغتها وتأبى أن تتحدث بغيرها، وتحرص على حمايتها، ومنع تسرب اللغات الأخرى بحيث تكون هي الأصل في أبناء جلدتها، وانظروا إلى التجمعات الكثيرة العالمية كالجامعات التي نرى فيها أن أظهر سمة فيها هذه اللغات، فما بالنا نقول: لم تتحدثون بالعربية؟ ولم تصرون على الفصحى؟ ولم تريدون أن تجعلوا التعليم في معاهدنا وجامعاتنا بهذه اللغة غير العلمية؟ وبالمناسبة: يغتر بعض الناس باللغة الإنجليزية، ولا يدركون أنها من حيث النسب ليست عالمية، فإن نسبتها دون نسبة اللغة الصينية التي تشكل (15%) من سكان العالم كله، ولذلك أقول: هذا المعنى مهم، وسنذكر أهميته في صور كثيرة عظيمة قد يضيق مقامنا عن ذكرها.

العنصر الثالث: التاريخ

العنصر الثالث: التاريخ ونحن اليوم انتسابنا بالإسلام يمتد جذوره إلى أبي البشرية آدم عليه السلام، ويمر بتاريخ الرسل والأنبياء والصالحين والدعاة، ولنا تاريخ ننتسب فيه إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] هذا التاريخ لم ينسخ أو يلغ، لكنه قد يختزل أو يختصر، أو يكتب في المناهج -كما أسلفت من قبل في بعض البلاد العربية والإسلامية- سبعة أسطر عداً وحصراً في سيرة وتاريخ الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ونصف صفحة لا أكثر ولا أقل في سيرة عمر بن الخطاب، ثم يكون لنا من بعد ذلك صفحات وصفحات في تاريخ أمة من شرق أو غرب، وشخصيات من هنا أو هناك، كيف يمكن حينئذ أن يكون لنا لون وطعم ورائحة معروفة؟! وانظروا اليوم إلى كل أمم الأرض كيف تبحث وتنبش عن صفحات تاريخها، بما فيه من أوحال وأدناس وأرجاس، وبمناسبة ذلك: يظن بعض الناس -من أثر ما سلط على الجوانب السلبية في تاريخنا- أن تاريخ أمتنا ليس إلا قتلاً وحرباً وصراعاً، وأنه ليس فيه كثير من المعاني العظيمة التي سجلت في صفحات تاريخ الإنسانية العظمى في ظلال الإيمان والإسلام. أقول هذا -أيها الإخوة المؤمنون- لأن قضيتنا مهمة في هذه الشخصية الإسلامية والهوية، وهذه البلاد الإسلامية التي تضم الحرمين الشريفين يستنكر اليوم الناس ما يعرف بخصوصيتها أو هويتها، ويقولون: هل نحن جنس من غير جنس البشر؟ وهل نحن من غير نسل بني آدم؟ وهل في عروقنا دماء غير دماء البشرية؟ لنقول: من قال ذلك؟! ولكننا بلد الإسلام، فهل في بلاد أخرى كعبة غير البيت الحرام؟ وهل في بلاد أخرى مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سوى الذي في المدينة؟ وهل هناك مشاعر مقدسة وبلاد محرمة بتحريم الله وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم في أي بقعة من الأرض غير هذه البلاد؟ وهل هناك دولة أو بلد لم يدخل الاستعمار إليه دخولاً كاملاً: عسكرياً وفكرياً ونظامياً وقانونياً وتعليمياً سوى هذه البلاد، وهل هناك أنظمة منصوص عليها في سياسة التعليم والإعلام وغيرها ليس فيها حرف واحد يتناقض مع أصول الإسلام وثوابته، أو مع أهدافه ومقاصده سوى هذا البلد؟ وهل هناك بلد فيها فصل للتعليم بين الذكور والإناث في كل المراحل مثلما في هذه البلاد؟ وهل هناك بلد الأصل أن كل من يعيش على أرضه من أبنائه هم من المسلمين؟ وغير ذلك من الأسئلة، فكيف إذاً تطرح الحقائق وتلغى؟!! وهذه كلمات أقرؤها عليكم لكاتب كتب في إحدى صحفنا قبل يومين لا أكثر ولا أقل، لا نستعدي ولا نصرخ، وإنما ننصح ونراجع، يقول: وبعد مرور ربع قرن من عمرنا، ينبغي أن يكون قد ترسخ في ضميرنا ووجداننا وأذهاننا قناعات فحواها: أنه ليس من الضروري الاحتكام للرؤية الدينية في كل شاردة وواردة تطرأ على حياتنا، ويقول: أختلف معهم -أي: مع الذين يقولون بهذه الخصوصية- في اعتبار الدين -أي دين- مكوناً للخصوصية. ثم يقول: إن الخصوصية هي: العلمانية الإيمانية، أو العلم الإيماني، أو الإيمان العلمي، ويذكر حينئذ صوراً، فيقول: إننا إذا تحدثنا عن فرنسا ذكرنا الحرية والمساواة والإخاء، وإذا ذكرنا أمريكا ذكرنا حقوق الإنسان والحريات، وإذا ذكرنا كذا وكذا وعدد من بلاد الشرق والغرب، وكأن أمة الإسلام ليس لها إلا الذل والتخلف والسوء والسواد والشنار والعار، ولعلي أظن أنه لم يقصد ذلك، فهو لم يدرك مرامي الكلام وغاياته.

ماذا نعني بخصوصيتنا الإسلامية؟

ماذا نعني بخصوصيتنا الإسلامية؟ أيها الإخوة المؤمنون! إننا إذا انتبهنا لهذا المعنى نستطيع أن نجد عشرات ومئات من الآيات والأحاديث تبين ذلك، ولكننا في الوقت نفسه ندرك ونعي أن خصوصيتنا الإسلامية لا تعني أننا لا نتصل بالآخرين ولا نعرف كيف نتعامل مع الأمم الأخرى، فإن تاريخ إسلامنا قد دخل وانتصر على الحضارة الفارسية والرومانية واليونانية، وكثير من الحضارات الأخرى، فما دمرها وهدم بيوتها على رءوس أصحابها، وإنما استطاع أن يستوعب أهلها، ويدخل أكثرهم في دين الله أفواجاً، وأن يأخذ حضارتها المادية، فورث العلوم والفكر الحضاري المادي الذي لا يتعلق بالتصورات والعقائد، وبقيت أمة الإسلام أمة متميزة بإيمانها وعقيدتها وإسلامها وأخلاقها ومبادئها وثقافتها، لم تنسخ ولم تذب في غيرها. بل إن المسلمين الذين خرجوا إلى فجاج الأرض شرقاً وغرباً، والذين أقاموا في بقاع مختلفة من شتى أنحاء العالم هم الذين -في جملتهم- كانوا المستعصين على الذوبان، ولو ذهبتم اليوم إلى بلاد كثيرة لرأيتم كيف ذابت شعوب وحضارات شرقية في تيار الحضارة الغربية، فالصيني أو الياباني الذي يعيش اليوم في أمريكا لا تكاد تعرف منه شيئاً من أصله إلا شحمته ووجهه التي خلقه الله عز وجل عليه، ولكنك ترى مسلمين ولدوا في تلك الديار ونشئوا فيها، وتعلموا في معاهدها، وتخرجوا من جامعاتها، وقلوبهم مليئة بالإيمان، وصدورهم عامرة بالإسلام، وألسنتهم ناطقة بالقرآن، وجباههم ساجدة في محاريب الصلاة، وهم في أعلى المستويات العلمية في كل المجالات التقنية والطبية والهندسية وغيرها، فهل هؤلاء أيضاً منغلقون وأغبياء وحمقى، ولا يعرفون كيف يأخذون بحضارة هذا العالم المعاصر في جانبها المادي والتقني؟! ينبغي أن نأخذ مبدأ التوسط في معرفة الأمور، فليس كل شيء يقبل كاملاً على علاته أو يرفض كاملاً بكل ما فيه، بل العاقل المنصف، والأريب الأديب الذي يأخذ الحق فيستخلصه من بين براثن الباطل، ويقول: إنه حق وإن جاء من هذا الشخص أو ذاك، أو من هذه الجهة أو تلك، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. نحن أمة الإسلام أمة عمارة الأرض؛ لأن الله عز وجل خلقنا واستخلفنا في هذه الأرض لعمارتها، فكل ما هو من شأن عمارتها مطلوب منا شرعاً بدين الله عز وجل، كما عمر أسلافنا الأرض بالعمارة المادية والمدنية، وأقاموا الحضارة العلمية في أزمنتهم المختلفة في حواضر العالم الإسلامي كلها، حتى في الأندلس وما أدراك ما الأندلس؟! وهي حضارة امتدت على مدى ثمانية قرون ولا تزال مؤلفاتها ومخترعاتها إلى يوم الناس هي الأساس والقاعدة التي تم الانطلاق منها. وقضية أخرى مهمة: ينبغي لنا ألا نغفل الواقع والتدخلات والضغوط الخارجية، وألا نغفل ما تحدث عنه المتحدثون كثيراً وطويلاً، وهو: أن الفكرة المسماة بالعولمة إنما تريد أن تجعل الناس شيئاً واحداً، لكن أي شيء؟ إنهم لا يريدون شيئاً واحداً مشتركاً، بل يريدون أن تتحدث بلسانهم، وأن تفكر بعقولهم، وأن يخفق قلبك بمشاعرهم، وأن تنزل إلى أرذل وأسفل دركات سلوكياتهم القذرة، ولذلك يقولون: لماذا تحجبون المرأة؟ لماذا تمنعون الاختلاط في التعليم؟ لماذا لا تكون عندكم أسر مثلية فيتزوج الرجل الرجل، والمرأة المرأة؟ لماذا لا تكون عندكم نواد مفتوحة وشواطئ للعراة؟ فذلك موجود عندهم، ويريدون أن يكون في كل الأرض شرقاً وغرباً، فعندما نتحدث عن بعض الأخطاء في واقعنا، أو عن بعض ما يحتاج إلى مراجعة هنا أو هناك، فلماذا لا ننتبه إلى أن حديثنا ينبغي أن يكون مضبوطاً؛ حتى لا يكون مواكباً وموافقاً لما يريده أعداؤنا منا فينبغي أن ننتبه إلى ذلك.

من صور الانفتاح اللامسئول

من صور الانفتاح اللامسئول واليوم وقد بدأت كثير من صور الانفتاح والدعوات إلى الإصلاح، أصبح الناس يخوضون فيها، ويركضون فيها خيولهم قبل أن يفكروا ويتأملوا، فإن الكلمة التي تكتب أو تقال، وإن الرأي الذي يقدم لابد أولا ً أن يكون فيه الفكر والتدبر والعلمية والمنهجية، ولابد أن يكون ناشئاً من النية الخالصة التي تريد المصلحة العامة، لا الأهواء أو المصالح الذاتية، ولا تصفية الحسابات الشخصية، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} [هود:88]. وكذلك لا ينبغي أن نقول قولاً ونخالفه {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، كثيرة هي الأمور التي تطرح أحياناً، فهذه كاتبة -لا أتهم نيتها، ولا نريد أن نعيد الصراخ والهجوم- تكتب عن حديث: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، ثم لا تجد شيئاً من التفسير لتلوي عنقه، فتتجه إلى راوي الحديث أبي بكرة رضي الله عنه لتقول عنه: إنه رجل لا نسب له، وهو كذاب! فتقع في أمر خطير أحسب أنها لا تدرك عظمته وخطورته، إن الصحابة زكاهم القرآن تزكية واضحة صريحة ليس فيها لبس، وأجمعت جماهير علماء الأمة -بلا خلاف معتبر بينهم- أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم عدول، وأن الطاعن في أصحاب محمد إنما يطعن في القرآن، وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل في شخصه، إذ كيف يكون من أصحابه من هذه سماتهم، وتلك أوصافهم، ثم يكونون هم أعمدته، وهم معاونوه ووزراؤه، وولاته الذين استعان بهم في إقامة دين الله عز وجل؟! واستمعوا أيضاً إلى كاتبة أخرى فاضلة تريد أن تقول إنه قد أخطئ أنا ويخطئ غيري من العلماء، والرجوع إلى الحق فضيلة، فتضرب المثل بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وتعبر التعبيرات التي أحسب أنها أيضاً قضية خطيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، وهو سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم أجمعين، فإن تحدثنا عنه كما نتحدث عن أي إنسان فماذا بقي لنا؟ تقول الكاتبة: بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلم من عتاب الله له، ولومه على تصرف أتاه، أو رأي رآه، مع اختلاف لهجة العتاب من بين آية وأخرى، فمن عتاب لطيف تستشهد له بقول الله جل وعلا: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]. وكنت أتمنى أن ترجعوا إلى كتب التفسير لتقرءوا ماذا قال العلماء في مثل هذه المقامات، والإشارة والدلالة على أن هذا العتاب إنما هو إجلال ورفع لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان كرامته ومنزلته عند ربه ومولاه سبحانه وتعالى، ولا يفهم من ذلك ما قد تشي به هذه الكاتبة. ثم تقول: إلى صورة أخرى -أي: من العتاب- فيها توعد كما في قضية الأسرى، وتستشهد بقول الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال:67]، وترى أن في هذا توعداً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، بل يبلغ الأمر أخطر من ذلك عندما تقول: إن لهجة الخطاب القرآني تعلو فيها نبرة اللوم في قوله جل وعلا: (َ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]. ثم تزيد فتقول: وتتضح لهجة اللوم، ويكون فيها تجاهل لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترد كلمة نبي أو رسول، ولم تعد صيغة المخاطب هي الصيغة بل صيغة الغائب، وهذا أسلوب معلوم في اللغة العربية أن فيه ما فيه من اللوم، وتستشهد بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]. وكلنا يعلم أن أهل العلم قد ذكروا أن هذا كان في خلاف الأولى، وأن كل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وأمضاه من الأحكام قد أقره الشرع عليه، وثبتت به الأحكام، وإلا لكان هناك رجوع، فهل رجع النبي صلى الله عليه وسلم عما أبرمه في قضية أسرى بدر؟! إن الكتابة المطلقة، وإن الانفتاح الذي تتبدى أروقته، وإن الإصلاح الذي ترفع راياته، ينبغي ألا يكون مندفعاً نخسر معه حقائق مهمة، ونخوض في قضايا تضرنا جميعاً، وأولئك القوم الذين يكتبون، حتى وإن كانوا يظنون أنهم في مواجهة آخرين قد أساءوا في طرحهم أو في تعبيرهم، فليعلموا أن القضية في آخر الأمر قضية ديننا، قضية هويتنا، إن مصالح أمتنا أن تتماسك، وأن تعرف حقائق ما يقويها ويحفظ عليها وحدتها، فهل إذا تخلينا عن ديننا ولغتنا وتاريخنا يمكن أن يكون لنا صبغة واحدة؟ سيتكلم هذا بلغة، وذاك بلغة، وذاك درس في بلاد، والآخر تخرج من أخرى، فسنكون شراذم، ولا يجمعنا ولن يجمعنا لا اليوم ولا غداً إلا دين الله عز وجل في بلاد الحرمين، ومهبط الوحي. مع أننا نريد كذلك أن يكون فهمنا للدين صحيحاً، وأن يكون تشبثنا بالخصوصية تشبثاً واعياً، فالخلاف الفقهي ينبغي أن تتسع له الصدور ما دام قائماً على أسس علمية، وفي المجالات والميادين والقضايا التي يسوغ فيها الاجتهاد، فليس هناك أحادية رأي، وليس هناك حجر على من يرى رأياً أو مذهباًَ فقهياً، أو قضية مما وقع فيها اختلاف الأمة في تاريخها كله، ولكن ذلك لا يعني أن يدخل في الاختلاف شيء من غير ديننا كله، أو فكر لم يرد في قرآننا ولا في سنة نبينا، ولا في أقوال علمائنا، ولا في صفحات تاريخنا، فلا يجوز أن يقال: ما دمنا قد رحبنا بالحوار، أو ما دمنا قد فتحنا أبواب الإصلاح، أو ما دمنا قد رأينا ألا نحجر على الآراء، فينبغي أن نترك ذلك كله بدون خطام أو زمام! وأختم هذا المقام لأقول: إنه في كل ديار الدنيا لابد من حدود تؤطر المسموح، وتجعل له شيئاً من الممنوع، وكل دساتير الدنيا تقول: إن التعدي على دستور البلد أو رئاسة الدولة جريمة كبرى يحاكم عليها، ثم إذا جيء إلى دستور الإسلام، وإلى الشرع والحاكم بشرع الله عز وجل، كان التعدي عليه أمراً ميسوراً؛ إن هذا لشيء عجاب! نسأل الله عز وجل السلامة، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وهويتنا وأخلاقنا، وأن يدرأ عنا شرور الأشرار، وكيد الفجار، وأن يحفظ هذه البلاد من كل سوء وشر وضر، وأن يجعلها موئل الإسلام وأهله، وموضع دعوته ونشرها، ورفع رايتها في الآفاق، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الاختلاف المسموح والمطروح

الاختلاف المسموح والمطروح الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إن صبغتنا الإسلامية قضية أساسية مرتبطة بإيماننا وعقيدتنا، وثقافتنا وفكرنا، وتاريخنا وحضارتنا: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]. ينبغي أن ندرك أن الاختلاف سنة من سنن الحياة كلها، فلن يأتي يوم يكون الأخ فيه مطابقاً لأخيه في كل شيء، لكن الاختلاف تختلف أنواعه، فهناك اختلاف تنوع داخل دائرة واحدة، وقد يكون لنا اختلاف في اجتهاد أو رأي في الدائرة المشروعة السائغة، ولا يعني ذلك أننا قد خرجنا من هذه الدائرة، ولذلك لابد أن نتميز عن غيرنا ممن ليسوا في دائرتنا، والله عز وجل قد بين ذلك في آيات كثيرة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. إذاً: هناك طرق، وهناك ديانات ومناهج، فإذا أخذنا طريقنا فإننا لن نسير في طريق غيره، وذلك يعني أننا نخالف غيرنا، وليس من ضرورة الخلاف أننا نحارب غيرنا دائماً وأبداً، ولكننا نحارب من يحاربنا، ونحارب من يضع الطريق والعراقيل في طريقنا، وفي طريق بيان ديننا وحقائقه، وذلك أمر بين واضح، وتأتينا آيات كثيرة في هذا المعنى كقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]. إننا إذا لم نعرف أن هذا الذي عندنا هو الحق، وأننا نؤمن به بناء على يقين قلبي، ومعرفة عقلية علمية، واستقراء تاريخي طبيعي، فإننا حينئذ لن ندرك أن غيره مخالف له، وهذا أمر مهم، والله عز وجل يقول فيما يتعلق باتباع رسوله عليه الصلاة والسلام: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. إننا لابد أن ندرك أن قضية الالتزام الإسلامي قضية عقدية، ونستيقن في نفوسنا أن خلاصنا ونجاتنا، وأن ضبط أحوالنا وصلاحها، وحسن علائقنا بغيرنا، تكمن في انطلاقنا من ديننا وارتباطنا به، ومن هنا فإنني أقول: إن كثيراً من القضايا التي تطرح وتثار ما لم تكن لها مرجعية حاكمة في أصولها الجامعة وإطارها العام، فإن ذلك يعني أن الفوضى ستكون هي المثار، ومن هنا ينبغي لنا أن نستحضر أهمية التوسط والاعتدال، فلا نصم آذاننا عن السماع؛ حتى نعرف ما يقال، ونوجه بالحكمة والموعظة الحسنة والنصيحة دون تنابز بالألقاب، ودون تبادل للاتهامات، وفي المقابل لا ينبغي لنا أن نغفل عن خطورة هذه الموضوعات، وأن تموت غيرة النفوس، فخذ المنهج السليم، وخذ الحكمة البالغة، وخذ الطريق الذي يغلب على ظنك أنه يوصل إلى المقصود.

شهادة الواقع بأن الإسلام خير ما نتحد عليه

شهادة الواقع بأن الإسلام خير ما نتحد عليه وحقيقة الأمر أن هذه الأحوال المعاصرة تقتضي من كل مسلم أن يتنبه ويتيقظ، وأن يحرص على أعظم ما ينبغي أن يحرص عليه، دينه وإيمانه وإسلامه وأخلاقه، وليعتبر كل أحد بالواقع المعاصر، فإننا لا نريد أن نحاجهم بما في الآيات والأحاديث فحسب -وهي حجة قاطعة- ولكنا نقول: خذوا الواقع، خذوا ما دعوتم إليه وما طرحتموه من أفكار، انظروا إلى أمم وديار إسلامية ما حل بها، وانظروا إلى بلاد غير إسلامية ما حل بها. أليس في بلاد الإسلام من يعد لبس حجاب المرأة المسلمة قانوناً محظوراً ويمنع أن يلبس في المدارس والمعاهد والجامعات؟! أفلسنا ندرك أن قليلاً من الأمور قد يؤدي إلى كثير منها؟! ولسنا بمبالغين في مثل هذه الأمور، حتى يقال: إن سد الذرائع باب أفضى إلى إغلاق كل اجتهاد وتطوير، ولكننا نقول: خذوا ضابط الشرع، فما خرج عن الشرع فاعلموا أنه ستكون له آثار غير حميدة، والله عز وجل قد بين لنا ذلك، وبين في شطر آية شقاء الدنيا كلها: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]. تلك هي الحقائق التي ينبغي أن نتنبه لها، لا سيما ونحن نستقبل الموسم الأعظم الذي يبين هوية الأمة في فريضة الحج العظيمة، ونرى القادمين من بلاد شتى، وأعراق مختلفة، وألوان متباينة، ولغات ليست واحدة، ومع ذلك ما الذي يجيء بهم؟ وما الذي يجمعهم؟ وما الذي يجعل كل أفعالهم تصب في إطار واحد، وفي بقعة واحدة، وعلى هيئة واحدة، في أقوال وكلمات واحدة؟ إنها صبغة الإسلام، فهل هناك قوة أو معنى أو مبدأ ممكن أن يذيب كل الفوارق المختلفة، ويأتي إلى هذه البقاع المقدسة بكل جنس ولون؟! كثير من الناس كانت دياناتهم وديانات آبائهم ليست هي الإسلام، ما الذي جاء بهم؟! إنها قوة الحق في هذا الإيمان، وصفاء المنهج في هذا الإسلام، وصلاحية الشريعة التي تمثلت في آيات القرآن، إنها القوة التي ليس لها مثيل في هذا العالم اليوم، ولن يكون لها مثيل مطلقاً. فنسأل الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يعلمنا ويبصرنا بكتاب ربنا، وأن يلزمنا سنة نبينا، وأن يجعلنا لآثار الصالحين مقتفين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ينفعنا ويرفعنا يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبيلاً لمن اهتدى، اللهم تول أمرنا، وارحمنا ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبعك رضاك يا رب العالمين! اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب وترضى. اللهم احفظ بلاد الحرمين الشريفين من كل سوء، اللهم اجعلها بلد الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والهداية والاستقامة، ورغد العيش ورخائه يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن ترد عنا كيد الكائدين، وشرور المعتدين، وأن تحفظ بلاد الإسلام والمسلمين من كل سوء وضر وعدوان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن توفقنا لطاعتك ومرضاتك، وأن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

أنى اتجهت إلى بلد وجدت إسلاما

أنى اتجهت إلى بلد وجدت إسلاماً إن الإسلام يدخل بنفسه إلى القلوب فيحييها بإذن الله بعد أن كانت ميتة، وإن الكفر ينزوي يوماً بعد يوم، وما ذلك إلا أن الإسلام موكول حفظه ورعايته وإتمامه إلى الله، وغيره موكول إلى البشر، والمأساة كل المأساة حين لا يعرف قيمة هذا الدين أهله المنتسبون إليه، فيتهافتون على الفسق والفجور تهافت الفراش، ولا مخرج من ذلك إلا بفهم ووعي وإدراك، وعمل وبذل وتضحية، وتعاون من الجميع على الخير ونشره بين الناس.

المستقبل للإسلام

المستقبل للإسلام الحمد لله لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد جل وعلا، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له الخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، أسمع الله به آذاناً صماً، وأحيا به قلوباً ميتة، وزادنا وببعثته هدى من بعد ضلالة، ورشداً من بعد غي، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: أنى اتجهت إلى بلد وجدت إسلاماً وأنى يممت إلى قطر وجدت مسلمين! هذا الدين في كل صقع من الأرض له أتباع تخفق به قلوبهم اعتقاداً ويقيناً، وتجسده جوارحهم التزاماً وامتثالاً، ويظهرون محاسنه دعوة واقتداءً، ونجد ذلك تصديقاً لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)، هذا الدين الذي نجد الدنيا كلها منشغلة به حتى وإن كان انشغال الأعداء حتى وإن كان على سبيل الكذب والافتراء حتى وإن كان على سبيل العدوان والاعتداء؛ فإن هذا الانشغال دليل على عظمة الإسلام، وكل أمر يشغل الناس ولو بالمعارضة دون التأييد فدليل على قوته وأثره وأهميته. وثمة أديان أخرى أصلها سماوي، وإرثها نبوي، وهي في عقر ديارها اليوم لا يذكرها أحد، أجيالهم الجديدة اليوم لا تعرف شيئاً عن ذلك الدين، ولا عن إرثهم التاريخي، ولا يشهدون أماكن العبادة، ولا يكادون يعرفون شيئاً عن هذا الدين، بل إنهم يصرحون بأنهم لا يعرفون ديناً، ولا يلتزمون عقيدة أو يقيناً بأي شيء من الأشياء، بل إنهم كذلك يهاجمون أحياناً دينهم، ويرونه صورة من صور التخلف أو التقيد وعدم الفاعلية في الحياة. إن الإنسان ليعجب كثيراً وهو يرى ذلك، وبعض المسلمين ربما ينظر إلى الجانب المظلم، وإلى الجانب الذي يرى فيه هذا العداء المتعاظم، وذلك الكيد الكبار، وتلك المؤامرات المتواصلة، ولا يرى كيف يشرق الإسلام في كل يوم على قلوب جديدة لم تعرفه، فإذا بها تقبل عليه وتعتنقه، ولا ينتبه أيضاً إلى فئام من المسلمين ضلوا في دروب الحياة، وغرقوا في شهواتها، وكل يوم يستيقظ منهم ويعود إلى الذكر من بعد الغفلة وإلى الالتزام من بعد الفتور والتفريط، فئام وجماهير من المسلمين. إن مستقبل الإسلام قطعاً ويقيناً هو المستقبل الذي سيملأ هذه الدنيا كلها عدلاً وإنسانية، كما سيقيم فيها الخلق الفاضل، والنهج المستقيم، وذلك بقدر الله وقوته، وما اقتضته سنته التي جعلت وجود هذا الدين في هذه الحياة يعتمد على ما يقوم به المسلمون: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، فسنة الله لا تحابي أحداً، وسنة الله لا تتغير: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]. لو كانت السنة الربانية تحابي أحداً لكان أولى الناس بذلك سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن عندما خالف بعض أصحابه في غزوة أحد أمراً من أوامره دارت الدائرة عليهم، وكانت دائرة مؤلمة، ذهب ضحيتها سبعون من الشهداء، وكان فيها جرح غائر عظيم في نفوس المؤمنين، وجاءت الآيات: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. الإسلام دين عظيم، والمسلمون فيهم عاملون فضلاء، وفيهم غافلون سفهاء، وفيهم معاندون أقرب إلى الأعداء، ويوم ينطبق ما بين أهل الإسلام ودينهم فحينئذ لن تقوم في وجههم قائمة، ولن تستطيع أن تعترض مسيرتهم قوة، وسوف يجددون ما كان من تاريخ أسلافهم، ويعيدون ما مضى من أمجادهم؛ لأن تلك هي سنة الله عز وجل. أنتم معاشر المسلمين تملكون أعظم شيء في الوجود، إنه الدين الذي يسير الحياة ويقودها، ويدخل في كل جزئية من جزئيات الحياة، ويؤثر في جميع الأحياء بل وفي غير الأحياء؛ لأنه شامل لكل شيء في الحياة. نحن أمة الإسلام أمة القرآن المحفوظ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، أمة القرآن الذي فيه شفاء للناس: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، شفاء أمراض الحس، وأمراض المعنى، أمراض القلوب، وأدواء النفوس، وضلالات العقول. كل شيء في كتاب الله، ففيه الهداية التامة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9]. نحن أمة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، أمة الرسول الذي مثل كل جوانب الحياة، فكان هو المؤمن العابد، وكان هو القاضي العادل، وكان هو الحاكم النزيه، وكان هو القائد الشجاع، وكان هو الزوج الرحيم، وكان هو المربي العظيم، وكان هو الصاحب الوفي، فكل جانب من جوانب الحياة نرى فيه صورة مثلى، وقدوة عظمى لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]. نحن أمة الإسلام أمة الرسالة الخالدة إلى قيام الساعة، ليس بعد هذا الدين دين، وليس بعد هذه الرسالة رسالة، جعل الله سبحانه وتعالى فيها كل ما يصلح الناس في سائر الأزمان والأمكنة إلى قيام الساعة، فما بال المسلمين؟

صور متناقضة عن المسلمين المقيمين في أقاصي الأرض

صور متناقضة عن المسلمين المقيمين في أقاصي الأرض دعوني أنقل لكم بعض الصور في بلاد بعيدة من خلال أقليات مسلمة، لنرى أن من قام بالإسلام وعمل به كان له دور وأثر، وأن هناك من ضيع وفرط، وأن الخير في هذه الأمة يزداد ويتضاعف، ويوم يتقلص الشر والفساد والإفساد فسوف تتنزل علينا من رحمات الله ما حجبت بسبب الذنوب والمعاصي والآثام: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، تلك هي سنة الله عز وجل. في أقصى شمال الأرض التي في بعض بقاعها ومناطقها تمر بهم أيام ليس فيها نهار أبداً، أو نهار ليس فيه ليل أبداً، ووجدت فيها مسلمين يأتون ليفرغوا أنفسهم وأوقاتهم ويتركوا أهلهم وأعمالهم ليتعلموا دينهم، ويسألوا عن صلاتهم وصيامهم وسائر أوضاعهم. ورأيت في تلك المجتمعات صوراً أخرى متناقضة، صوراً ممسوخة نسيت دينها، وانسلخت من تاريخها، وتجردت من أصولها، وأصبحت نموذجاً مشوهاً للضياع والتيه. وفي بلد أخرى مسجد للمسلمين مهدد بالضياع؛ لأنهم لا يملكون تسديد باقي قيمته، وفي الوقت نفسه في تلك البلاد تاجر فاجر يملك الملايين وهو منتسب إلى الإسلام، لا يعرف طريق المسجد، ولا يدري أين موقعه، وتدور الدائرة عليه ويصبح رهين السجن نتيجة لتلاعبه وتحايله! وفي بلد آخر لقيت جمعاً من الناس يفضون بهمومهم، فإذا هي حول تعليم أبناء المسلمين، كيف ينشئون المدارس في الأوقات الإضافية في آخر الأسبوع ليعلموا العلوم الإسلامية واللغة العربية، ليحفظوا الهوية، ويجعلوا الجيل القادم جيل إسلام وطهر ونقاء، وعلى مقربة منهم ببضع خطوات لا أكثر سياح من بلاد الإسلام والمسلمين، يبذرون الأموال في الملاهي وشرب الخمور والعهر والفساد، كأنما الإنسان يرى التناقض العجيب والصورة المتعارضة؛ فيدرك أن سنة الله عز وجل تمضي بقدر الله عز وجل؛ ليكون في ذلك بإذنه جل وعلا خير عاجل غير آجل إن شاء الله. وصورة أخرى أنقلها لنرى هذا التناقض الذي يكاد يعرفه كل الناس: سائق أجرة مسلم في عاصمة غربية كبرى ركبت وحدثته، فحدثني بغيظ عظيم، وبألم كبير؛ لأنه يجوب الطرقات ويركب معه من بلاد الإسلام والعرب كثير من الناس، ويرى في حالهم وسلوكهم ما يفطر قلبه، ويحير عقله، وأخبرني عن قصة واحدة، قال: ركبت معي امرأتان متحجبتان تغطيان وجوههما، لكنني عجبت من المكان الذي تقصدانه، إنهما تطلبان مني أن أوصلهما إلى مكان هو واحد من الملاهي التي يفعل فيها كل أنواع الفسق والفجور، وعند الدخول لم يكن هناك حجاب ولا غطاء، وكان حارس المكان -وهو أجنبي- يضرب على الظهور ويشجع ويرحب ويقدم. هذه الصور المتناقضة تبين لنا قضية مهمة، لو أننا استطعنا أن نعرف ما هو السر الذي جعل أولئك عاملين فضلاء مهتمين حريصين على دينهم، ولماذا كان هؤلاء غافلين يقومون بمثل هذه الأعمال ولا يكادون يذكرون أمر أمتهم ولا شأن دينهم؛ لو عرفنا الأسباب واستطعنا أن نعالجها لاستطعنا بإذن الله أن نكثر من الجانب الأول، وأن نقلل من الجانب الثاني. ولعلي أذكر صورة أخيرة قبل أن أمضي إلى التنبيه على ما نحتاج إليه: في البلاد الغربية وفي بعض العواصم الكبرى منها على وجه الخصوص، من أبرز برامج الصيف في تلك العواصم الغربية: الأغاني العربية، يحضرها مغنون يسافرون من بلاد العرب، وجمهورهم من السياح الذين يسافرون أيضاً، فإنه لن يحضر هذه الأغاني من لا يعرف العربية، فتعجب لماذا تغادرون بلادكم وتنفقون أموالكم لتستمعوا إلى المغنين الذين بدياركم؟! لترى كيف تكون العقول والنفوس إذا شردت وبعدت عن طريق الله عز وجل!

أهم القضايا والأمور التي نعالج بها الواقع المر

أهم القضايا والأمور التي نعالج بها الواقع المر أمور كثيرة نحتاجها، غير أني أذكر ثلاثة منها هي محور الحديث وجوهره، وهي لب القضية وأساسها:

التعاون والتكامل

التعاون والتكامل وأخيراً: التعاون والتكامل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، نحن أمة الإسلام أمة الإخاء أمة الوحدة أمة الارتباط: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، والله عز وجل قد بين لنا أن أعظم منة منَّ بها على رسوله صلى الله عليه وسلم هي التأليف بين القلوب الذي يتبعه توحيد بين الصفوف، ويتبعه تكامل في العمل ومواجهة الأعداء، كما أخبرنا الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103]. وكما صور لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم قضية التكامل بقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وقوله: (مثل المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى)، وقوله: (المؤمن مرآة أخيه)، أين هذه المعاني والفرقة قد دبت والخلاف قد استشرى، والكل قد أدبر عن أخيه؟ ولكننا نجد هذه الدعوة إلى هذا الائتلاف والانسجام مع وجود وتضاعف العداء بحمد الله تلقى صدىً واسعاً، فقد جعل الله سبحانه وتعالى من حكمته ورحمته تسلط الأعداء سبباً في تكتل المسلمين وتقاربهم. نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يجعلنا في سبيله ولدعوته باذلين وعاملين، وأن يجعلنا على نهجه وعلى الإيمان به وعلى متابعة رسوله مؤتلفين ومتفقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

العمل والبذل والتضحية

العمل والبذل والتضحية الأمر الثاني: العمل والبذل والتضحية: لا يمكن أن تجد ثمرة بدون عمل، ولا نتيجة بدون جهد، تلك سنة من سنن الكون والحياة، من يريد المال ألا يبذل ويتعب، من يريد الرقي في الوظائف ألا يجتهد ويبذل، من يريد تحقيق أي غاية ألا يسعى إليها، وقد يواصل ليله ونهاره: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. لا يغنينا الانتساب إلى الإسلام، ولا يكفينا الانتماء إلى الإيمان، ولا يعفينا من القيام بمهماتنا أننا من بلاد الحرمين أو من هذه البلاد أو تلك، أو أننا من أولئك القوم أو من نسلهم، فقد قال محمد صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد اعملي، فوالله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس اعمل، فوالله لا أغني عنك من الله شيئاً)، وفي حديث آخر قال: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). إن الانتساب للدين، والانتماء للأمة، لابد أن يكون له حقيقة يصدقها العمل والبذل لا في ذات الإنسان نفسه بل في كل الدوائر، فأنت مسئول عن نفسك: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وأنت مسئول عن أهلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وأنت مسئول عن الأمة كلها بما ينبغي عليك من أمر بمعروف ونهي عن منكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]؛ يوم نفقه ذلك نتذكر ما كان عليه عمر رضي الله عنه، يوم كان لا ينام ليله حتى يعس ويتفقد أحوال المسلمين، حتى قال: (لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها). يوم كانت المسئولية العظيمة تملأ القلوب فتزهد في الدنيا، ويبذل أصحابها قمة البذل والعمل، حتى وقف عقبة بن نافع على شاطئ الخضم والبحر العظيم يقول: والله لو كنت أعلم أن وراءك قوماً لخضتك مجاهداً في سبيل الله، ومبلغاً لدين الله. يوم تكون قمة الفهم والوعي والإدراك مستقرة في القلوب، تتحرك النفوس بالعمل وتعلو الهمم، ويكون للمسلمين بذل وعطاء عظيم.

الوعي والفهم والإدراك

الوعي والفهم والإدراك أولها: الوعي والفهم والإدراك: أنت أيها المسلم هل تعي دورك؟ هل تفهم رسالتك؟ هل تدرك غاية وجودك؟ هل تعرف تاريخك؟ هل تدرك صورة وصفة أمتك؟ يوم يحصل ذلك يتغير الأمر باتجاه ما يستقر في القلب من مشاعر وعواطف، وما يجول في العقل من أفكار وخواطر، وما تمارسه الجوارح من أفعال وأحوال، إننا معاشر المسلمين نحتاج أن نركز كثيراً على حقيقة إسلامنا وإيماننا، وأن غاية الوجود في الحياة عبادة الله وإعمار الحياة، تلك هي الرسالة التي جاء بها الإسلام: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وإعمار الحياة أن نقود هذه الحياة في تقنياتها وصناعتها، وفي كل جانب من جوانبها باسم الله، وعلى منهج الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون في الحياة اقتصاد إلا وهو ملتزم نهج الإسلام، ولا سياسة إلا وهي منضبطة بضوابطه، ولا علم إلا وهو قائم على أسسه العامة، وعلى مراميه ومقاصده الكلية، ويوم يكون ذلك كذلك يتجدد فينا ما كان في أسلافنا، يوم عمروا الكون بالمساجد والمحاريب ومدارس العلم والقرآن، ويوم عمروا الدنيا كذلك بكل المخترعات والعلوم التي سبقوا فيها غيرهم، والتي أسست حضارة اليوم على تلك النهضة العلمية العملية التجريبية التي كانت للمسلمين في بلاد الأندلس، وفي بغداد، وفي دمشق، وفي حواضر العالم الإسلامي كله. إن قضيتنا في فهم رسالتنا وإدراك عمقها وشمولها لجوانب الحياة، وأنه لا ينبغي لنا أن نكون أمة إسلام ثم نكون أمة تخلف، وأنه لا ينبغي لنا أن نكون أمة قرآن ونكون أمة جهل، لم تكون نسب الجهل ونسب الأمية في البلاد العربية والإسلامية أكثر من غيرها؟ ولم لا تكون النهضة العلمية والصناعية في البلاد الإسلامية؟ لم نحن في آخر الركب؟ لأننا لم نفقه الدين فقه الحياة المطلوب والمنشود. كتب أحد المؤرخين الغربيين في عام سبعة وثلاثين وتسعمائة وألف ميلادية -أي قبل نحو سبعين عاماً- يتكلم عن بعض البلاد وعين معها ثلاث دول إسلامية قال: هذه الدول فيها من القدرات والطاقات، ولها من الأعمال والمنجزات ما أظنها ستكون به مثل الدول المتقدمة وتنافسها. واليوم وبعد سبعين عاماً من هذه المقولة نجد هذه الدول وقد صار بينها وبين تلك الدول بوناً شاسعاً ومسافة هائلة، كانت إحدى هذه الدول هي الدولة الثانية في العالم في تصنيع القطن، واليوم نجد هذه وغيرها في ذيل القائمة، لماذا؟ لأن المسلمين لم يفقهوا حقيقة دينهم وظنوه في جانب من الجوانب، وحتى تلك الجوانب التعبدية والإيمانية أخلوا بها انحرافاً وابتداعاً، أو تقصيراً وتفريطاً، أو أنها كانت صوراً ظاهرة لا حقيقة لها في قلوبهم، ولا أثر لها في نفوسهم، ولا وجود لها في واقعهم، وذلك ما ينبغي أن نلتفت إليه يوم أن ندرك ونعرف غايتنا، ونعرف ما الذي نقدمه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. هل هذه الأمور هي المقدمة في حياتنا؟ هل هي الشاغلة لفكرنا؟ هل هي التي تنقضي فيها أوقاتنا؟ هل هي التي تتعلق بها قلوبنا؟ إذاً: فكيف سنكون عابدين لله، وكيف سنجعل الحياة محراب عبادة وطاعة لله؟ وكيف سنقود الحياة على منهج الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ تلك غاية مهمة، ورسالة عظيمة، وفقه أصيل يوم فقهه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعرفوا حق هذا الدين، كان الواحد منهم يسلم في لحظة فيتغير فكره وشعوره وعاطفته وعمله وسلوكه وعلاقاته وصلاته؛ لأنه ينصبغ بصبغة جديدة: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]. يوم يفقه المسلمون حقيقة هذا الدين، ويفهمون غايتهم في هذا الوجود يكونون كما كان أسلافهم، ويجددون ما هو بحمد الله موجود في بعض أفرادهم، وفي جماعات وفئام كثيرة منهم اليوم، ويكون لذلك أثره ونفعه بإذن الله.

تساؤلات لابد منها

تساؤلات لابد منها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وإن هذه المعاني التي ذكرتها رغم قلتها ووضوحها وبساطتها إلا أننا جميعاً لا نكاد نخلو من تقصير فيها، ولعلي أختم بهذه التساؤلات لأثيرها في كل ذهن، وأحييها في كل نفس، في الوعي والإدراك والفهم: هل تبيت وأنت تحمل هماً لأجل الإسلام والمسلمين؟! هل تستيقظ وفي فكرك أحوال الأمة وينشغل بالك بكيفية علاجها، أم أنك تمر بك الأيام والليالي وأنت تضرب في هذه الأرض، وتأكل من نعيم الله، وتملأ بطنك، وتنام ملء جفنيك وكأن أمر هذه الأمة لا يعنيك؟ إن كنت كذلك فما فقهت حقيقة ارتباطك، وما عرفت غاية وجودك حق المعرفة. الأمر الثاني: سل نفسك: ماذا عملت؟ {وَقُلِ اعْمَلُوا} [التوبة:105]، هل عملت ما هو واجب عليك في حق نفسك؟ وهل قمت بدورك ورسالتك وواجبك تجاه أهلك وأسرتك؟ وهل لك دور وإسهام في الأعمال التي تعود على الأمة بالنفع؟ هل تشارك في هذا البرنامج أو ذاك؟ هل تسهم في تلك المهمة أو تلك؟ هل تعمل في تلك المؤسسة أو الأخرى؟ أم أنك إذا انتهيت من عملك وكسبك خلدت إلى راحتك، وشغلت نفسك ببعض من اللهو والعبث الذي لا يليق بمثلك؟ وأخيراً: هل تمد يدك إلى إخوانك؟ هل تغض الطرف عن الأخطاء؟ هل تتجاوز عن بعض الهفوات؟ هل تملأ قلبك بذلك الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم سبباً من أسباب دخول الجنة يوم قال: (يدخل عليكم رجل من أهل الجنة)، وكان سبب هذه البشارة أنه يبيت وليس في قلبه غل ولا غش ولا حسد لأحد من المسلمين؟ إننا جميعاً مقصرون! فلعلنا نستدرك ذلك، ونراجع أنفسنا، وتلك هي الانطلاقة الصحيحة؛ لأن الله جل وعلا يقول فيما بينه من سنته الماضية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، نسألك اللهم أن تغير ما بأنفسنا إلى الخير والصلاح والهدى والتقى يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك التوفيق للصالحات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا رب الأرض والسماوات، اللهم إنا نسألك أن تملأ قلوبنا بحبك، وأن تنطق ألسنتنا بذكرك، وأن تستخدم جوارحنا في طاعتك، وأن تسخرنا في نصرة دينك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد المسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، وفرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم بقوتك وعزتك يا رب العالمين! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء. اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

غدا الاختبارات

غداً الاختبارات العلم أحد ركائز الأمم للسير نحو الأمام، وهو الدفة التي توجه المجتمعات نحو كل فضيلة، وتخرجها من كل رذيلة، والتعليم النظامي المعهود -على ما فيه من مثالب وسلبيات- أمره عظيم، وتبذل الحكومات جهوداً جبارة لإنجاحه، وأهم عامل لإنجاح هذا العمل: الطالب والمعلم، ولكل منهما حقوق وواجبات ومشاكل تنتهي بالاختبارات في نهاية العام الدراسي؛ لتكون النتيجة مقياساً لما أنجز وتحقق من حصيلة علمية طوال العام.

التعليم كمنظومة متكاملة

التعليم كمنظومة متكاملة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين. أما بعد: أيها الأحبة! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا موعدنا مع الدرس الثامن والعشرين، وهو بعنوان: غداً الاختبارات، وقد جاء توقيت الدرس مناسباً؛ لأنه بالفعل غداً تبدأ الاختبارات، وسيكون الموضوع منقسماً إلى مقدمة، ثم إلى فقرات ثلاث: أولها: ما يتعلق بالطالب، وفيه أيضاً موضوعات: سمات الطالب المسلم، وطريقة المذاكرة ومشكلاتها، والاختبارات، والإجابة على الأسئلة. ثانيها: المدرس ودوره في العملية التعليمية، ووضعه للأسئلة، وتصحيحه لها. ثالثها: ما يتعلق بقضايا متفرقة حول التعليم. ونبدأ بالمقدمة، وأردت من خلالها النظر إلى أهمية قضية التعليم من وجوه متعددة. أولاً: نشرت صحف الأمس أن نحواً من مليونين وأربعمائة ألف طالب وطالبة سيتقدمون لإجراء الاختبارات في يوم غد -بإذن الله سبحانه وتعالى-، وإذا حسبت وتصورت هذا العدد، وعرفت أن وراءهم أسراً تنفق عليهم، وإدارات للتعليم تعد المناهج، ومدرسون يدرسون، وسياسة تعليمية، ومتابعة تقويمية؛ لعرفت أن قضية الاختبارات ليست سؤالاً وجواباً، بل هي جزء من قضية كبرى في حياة المجتمع والأمة. ثانياً: العلم ركيزة أساسية في بناء الحياة، وما زال تأثيره ودوره يتضاعف كلما تقدمت البشرية في أسباب الحياة المدنية، وكلما ارتادت آفاقاً جديدة من آفاق الاكتشاف والتصنيع والاستنباط والاجتهاد في حلول مشكلات هذه الحياة، وبالتالي فإنه في ظل هذا السباق نحو تحصيل أسباب الحياة المادية بالسبل والطرق العلمية ليس هناك مكان لأمة متكاسلة لا تدفع أبناءها إلى تحصيل العلم، ولا تحفزهم لنيل قصب السبق فيه، وتجاوز المراحل المعتادة إلى المراحل المتقدمة، ومن هنا تظهر أهمية العملية التعليمية من كل جوانبها، وبجانبها المدني للأمة المسلمة التي تعاني تخلفاً وتأخراً كبيراً في هذا الميدان. ثالثاً: ينبغي أن نعلم أن الارتقاء بالعملية التعليمية ليس أمراً مستقلاً بذاته، بل هو جزء من الارتقاء في جوانب الحياة كلها، فإنه لا يمكن أن ترتقي الأمة في مستواها التعليمي وهي متخلفة أخلاقياً، وهي متأخرة إدارياً، وهي تعاني من فساد أنظمة الحكم، أو تعاني من شظف العيش، فإن جميع جوانب الحياة تتكامل وتتناسق لتؤدي بعد ذلك إلى صورة متقابلة متوازية من الارتقاء والتكامل؛ ولذلك يجب أن نعلم أنه لا ارتقاء في المستوى التعليمي ولا للعملية التعليمية إلا في ظل إصلاح شامل، وتكامل يستوعب جميع الجوانب، ولعل أولها وأبرزها وأهمها: الارتقاء الإيماني الذي يقوم سائر جوانب الارتقاء، ويربطها بالطهر والنقاء، وينظمها في سلك البذل والعطاء، ويعصمها من البغي والاعتداء، فإن العلم المجرد من ضوابط الإيمان وأخلاقياته كثيراً ما يقع به فساد في الأرض، وضرر على الإنسان؛ لأن العلم ما لم يضبط بإيمان وأدب وخلق فإن مضرته كثيراً ما تكون أكثر من منفعته. رابعاً: أن كل هذا العمل -أي: الارتقاء في الجانب التعليمي على وجه الخصوص والجوانب الأخرى كلها- يحتاج إلى إيجاد الفرد الذي هو المقصود الأول والهدف الأعظم في هذا الارتقاء، فنحن حينما نقول: مناهج تربوية دراسات شرعية دراسات علمية جوانب أخلاقية نريد أن يتشكل في هذا الفرد، ولا تتم العملية إلا من خلال هذا الفرد، ولذلك لابد من إيجاد الفرد الذي يتحلى بقابليته للتلقي، واستعداده للتفاعل، وأهليته لتجاوز مرحلة الاجترار إلى مرحلة الابتكار، تكفينا الدهور والسنوات الطويلة المتعاقبة التي ظللنا نجتر فيها أقوالاً قديمة، وعلوماً تأتينا من الشرق والغرب ليس لنا فيها إلا أن نحفظها وأن نكررها ونمارسها بالقدر الذي يسمح لنا به، ويفرض علينا في كثير من الأحيان. خامساً: أهمية التعليم خطيرة جداً، وعظيمة جداً؛ لأن مناهج التعليم هي التي تصوغ الأفكار، وتشكل جيل المستقبل؛ فإنك تجد أن أية دولة وأية فكرة وأي مبدأ أول اهتماماته عندما تفضي إليه الأمور وتصبح مقاليدها بيده؛ هو مناهج التعليم، فإذا جاءت دولة شيوعية فأول قضية تفرغ لها جهدها أن تؤلف وتنشأ مناهج جديدة تخدم الفكرة وتؤصلها وتعرقها وتعمقها في قلوب الناس، وهكذا فلذلك ليست قضية التعليم هي الاختبار أو السؤال، وإنما هي وحدة متكاملة من أساسياتها: السياسة التعليمية، والإدارة التعليمية، والمناهج التعليمية. وكل هذا لا يكفي، بل ينبغي أن يوجد المدرس الذي ينفذ هذه السياسات ويحقق أغراض وأهداف هذه المناهج، ولابد من وجود الطالب الذي يتقبل ذلك ويتفاعل معه، ولذلك فإن عملية التعليم تعد أولى أولويات المجتمع والدولة في أية بقعة من بقاع الأرض، وهي كذلك سبب من أسباب درأ كثير من وجوه القصور والنقص؛ لأن التعليم والعلم مفتاح لكثير من الأبواب، سواءً في أبواب العمل، أو الصناعة، أو التجارة، أو درأ التخلف في صور اجتماعية وعادات وتقاليد وغير ذلك، وكثيراً ما يكون التعليم هو الباب الذي تفتح به هذه المغاليق، وتحل به هذه المشكلات.

قضايا تهم الطالب في عملية المذاكرة

قضايا تهم الطالب في عملية المذاكرة نشرع في ذكر النقاط المتعلقة بالطلاب، والحقيقة أن مسألة التعليم لابد أن يكون هناك موضوع خاص يتحدث حولها، وبحكم التركيز على جانب الاختبارات سنمر على بعض هذه القضايا المهمة، لكنها قطعاً لن تكون شاملة للمقصود في العلاج، والتركيز اللازم للفت النظر إلى كثير من القضايا حول التعليم.

سمات الطالب المسلم

سمات الطالب المسلم أول قضية بالنسبة للطالب أنبه عليها هي: سمات الطالب المسلم، ولن أسرد كثيراً من السمات، وإنما أجمع وأركز على أربعة منها: أولها: تحديد الهدف والغاية: فليس المسلم هو الذي يخبط خبط عشواء، ويدرس ولا يدري لماذا يدرس؟ ويتخصص في مجال ولا يدري لماذا يتخصص؟ وليس له في ذلك قصد ولا غاية ولا نية ولا توجه، فإن هذا عبث ينزه عنه الإسلام المسلم، ويلفت نظره قول الشاعر: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل والتعليم يعتبر جزءاً من حياة الطالب المسلم، ويدخل ضمن عموميات المفهومات المستقرة لدى الطالب في قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقوله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فهدفه إرضاء الله سبحانه وتعالى، وتحصيل ما يستعين به على طاعة الله، وخدمة أمة الإسلام، ودفع أسباب الضعف والخور عنها، متمثلة في شخصه، وفيمن حوله، ليس عنده تحديد للغاية فقط، بل إن غايته تشمل مصلحة أوسع من دائرة الأنانية الذاتية، فليست نظرته قاصرة في الحصول على الشهادة، أو التفوق لذات التفوق، بل إنه يكرس ذلك كله إلى أهداف سامية، وغايات تشمل جميع الأمة في مصالحها وشئونها المتعددة، وهذا أول أمر من سمات الطالب المسلم. ثانيها: الجد والإتقان: الجد طريق المجد، والإتقان طريق رضى الرحمن، ليس هناك وقت للخور ولا للتكاسل في حياة المسلم، والطالب أيضاً في هذا المضمار ليس عنده أية كلمات في قاموس حياته التعليمية تقبل الكسل أو الخور أو الرسوب أو الضعف أو نحو ذلك، بل كله جد يستشعر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، ينبغي أن يتأمل الطالب أنه مفرغ للدراسة، ومهنته المكتوبة في هويته: طالب، وينفق عليه لأجل ذلك، وتبنى له المدارس لأجل ذلك، ويحضر له المدرسون، وتتوافر كل هذه الإمكانات والجهود والطاقات والعقول والسياسات والإدارات لأجل أن يكون هو المستثمر والمستفيد حتى ينعكس ذلك عليه وعلى المجتمع من بعد ذلك، فكيف يخلف الظن في كل هذه الأمور؟! لو كان هذا في الأحوال المعتادة مقبولاً أو العتب فيه خفيفاً أو يسيراً لكنه في ظل أوضاع تأخر الأمة وتخلفها اليوم لا يمكن أن يكون مستساغاً ولا مقبولاً بأية صورة من الصور، فإن الإنسان إذا كان في سباق وعلم أن المتسابقين قد سبقوه في المسير بساعات عدة وهو يريد أن يلحق بهم -لا نقول: يريد أن يسبقهم- فلن يبذل جهده المعتاد أو الطاقة المعتادة المتوقعة، بل المتوقع أن يبذل الضعف، وأن يضاعف الجهد ليستدرك هذا الخلل وذلك الفارق الكبير. ولاشك أن تخلف وتأخر الأمة في جوانب كثيرة يبعث الأسى والألم، ويثير الحزن، ويكثر الحديث عنه في خطب الخطباء، ووعظ الوعاظ، ولكن أكبر قوة وأقوى صورة لتغيير هذا الضعف واللحاق بالركب السائر هي صورة العمل والجد والإتقان، ولذلك حينما نسمع هذه الاستغاثات أو عدم الرضا عن هذا التخلف نسمعه كلاماً كأنه يدور في حلقة مفرغة، والإجابات العملية هي التي ينتظرها الناس، ويؤمل فيها التغيير، وإلا فإننا نستطيع أن نردد مع القائل كثيراً من أسباب التندم والتحسر، ولكن يحتاج الأمر في آخره إلى العمل. ملكنا هذه الدنيا القرونا وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا وكنا حين يأخذنا عدو بطغيان ندوس له الجبينا تفيض قلوبنا بالهدي بأساً فما نغضي عن الظلم الجفونا وما فتأ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد كانوا أئمته سنينا وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا ترى هل يرجع الماضي فإني أذوب لذلك الماضي حنينا ولن يرجع إلا بالجد والإتقان. ثالثها: الصبر والاستمرار: فإن التعليم وقضيته ليست ثورة عابرة، وليست طفرة حماس عابر، ولا زمن قصير سائر، بل هي صراع حضاري، وبناء أممي، جهاد طويل المسار، متعدد المسالك، تحتاج الأمة فيه من أفرادها وأبنائها إلى دأب واستمرار، فليس المسلم هو الذي يقنع بالدون، بل همته لا ترضى إلا بأعلى المعالي، ولذلك ما يزال كلما اقتبس علماً ووصل مرتبة سعى إلى غيرها، وكان بهذا السعي والتقدم عاملاً من عوامل التغيير المنشود. رابعها: الاستمداد من الله سبحانه وتعالى، وهذه مزية الطالب المسلم؛ أنه يشعر دائماً بالفقر والعجز والحاجة لله سبحانه وتعالى، ولذا يندفع نحو الاستعانة بالله جل وعلا. إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده ويستشعر قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، ولذلك تجد الطالب المسلم يستمد من الله عز وجل دوام الاستعانة به، والحرص على الاستقامة، ولذلك تجد في هذه الأيام بعض الطلاب يحرصون على الاستقامة، ويقبلون على المساجد، ويحرصون على الطاعات؛ لماذا؟ لأن في نفوسهم شعوراً بأن هذا يؤدي إلى التوفيق، ويقول الطالب في نفسه: إن أنا أطعت الله عز وجل يسر لي الأمر، وسهل لي العسير، ونحو ذلك، وهذا الشعور في حد ذاته محمود، لكن السمة للطالب المسلم الحق هي: دوام الاستمداد من الله سبحانه وتعالى، فلا يفتر، ويعلم قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، فإذا كان هذا هو الجزاء في الآخرة فهو كذلك في الدنيا عظيم، بدوام التوفيق والتيسير والتسهيل.

طريقة المذاكرة

طريقة المذاكرة النقطة الثانية: فيما يتعلق بالمذاكرة للطلاب، والموضوع كله في نقاط محددة ومركزة؛ لأن الدراسة أصلاً تحتاج إلى مثل هذا التركيز. أولاً: التهيئة للمذاكرة، وتشمل: الاستعداد النفسي بإزاحة المشكلات التي تشوش الفكر، وتزيد الهم، ويحصل بها الاضطراب، وهناك كثير من المشكلات تعترض أحياناً مسيرة الطالب سواءً كانت مشكلات عامة في أسرته، أو مجتمعه، أو مشكلات خاصة، مثل: شعوره بالضعف والقصور، وعدم القدرة على التحصيل الجيد، أو تخوفه من عدم النجاح، أو تذكره لرسوب سابق ونحو ذلك، فلابد أن يهيئ نفسه لتكون مستعدة للتفاعل مع هذه المذاكرة. ثانياً: الاستعداد الجسمي: فلابد من ترك السهر، والبعد عن الإرهاق، وتجنب ترك الطعام، والإقلال منه بشكل خاص في مثل أيام الاختبارات، وسيأتي أيضاً مزيد إيضاح لهذا. ثالثاً: الاستعداد الفكري: بأن يعرف أهمية الاختبارات، وضرورة التفوق والنجاح، وأثر ذلك على أسرته ومن حوله، فهذا أيضاً يجعله متحفزاً للمذاكرة بالشكل الجيد. رابعاً: توزيع الدراسة والمذاكرة وتقسيمها، بمعنى: إذا كان قبل الاختبارات فيوزع المواد على أيام حتى لا يجمع ويخلط في وقت واحد، أو يوزع المادة الواحدة في يوم الاختبار إلى أقسام، وهي مقسمة في الأصل إلى فصول وأبواب، لكنه يقسمها بحسب ما يحتاج إليه ويراه، ولماذا هذا التقسيم؟ الأمر الأول: لأنه يساعد على التفاعل والقبول النفسي: عندما ترى الكتاب ذا الصفحات المتعددة، ويهولك منظره؛ يكون هناك نوع من الهيبة، لكن إن قسمته وقلت: هذا القسم في الصباح، وهذا القسم بعد الظهر، وهذا القسم بعد العصر، تشعر بأن هذه الأقسام فيها نوع من التخفيف، وتهيئة النفس للتفاعل. الأمر الثاني: أنه يساعد على استثمار الوقت، وحسن تنظيمه، فبعض الطلاب يبدأ يذاكر في فصل واحد، وبدون تقسيم للوقت ولا توزيعه، وإذا به أمضى سائر اليوم في ربع المنهج، وبقي له سويعات يريد أن يختم فيها ثلاثة أرباع المنهج! الأمر الثالث: أنه يساعد على معرفة التقدم والتأخر: أي أن هذا التقسيم إذا استخدمه، وجعل الوقت مناسباً للحصة، فقال: هذا الفصل من الساعة الثامنة إلى العاشرة فإنه سيدرك هل أنجزه في هذا الوقت؟ إذاً: السير متحتم، ويعرف إذا تأخر عنه، أما إذا كانت الكمية كلها لم تنجز فإنه قد يفطن إلى التقدم والتأخر لكن في الوقت الضائع كما يقولون. الأمر الرابع: أن هذا يساعد على الحفظ والاستيعاب: فالله عز وجل قد قال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106]، نزل القرآن منجماً، ومن فوائد تنجيمه: سهولة حفظه واستيعابه شيئاً فشيئاً، والشيء إذا كان متكاثراً يصعب على الإنسان تحصيله. خامساً: البداية بالصعب أو بالسهل: هناك مذهبان في هذه المسألة، ولكل منهما مزايا: إما أن يبدأ بالصعب، لماذا؟ أولاً: لأنه في البداية يكون عنده قوة وتفتح ذهن وعزيمة وهمة، فلا يصعب عليه الصعب. ثانياً: لأنه إذا نجح في معالجة الصعب وحفظه واستيعابه سهل الباقي، مثلما قيل لـ عنترة: كيف اكتسبت هذه الشجاعة؟ قال: كنت أعمد إلى الرجل الجبان الرعديد فأضربه ضربة ينخلع لها قلب الشجاع. فإذا جاء الطالب إلى الفصل الصعب واستطاع أن يتجاوزه فسيكون ما بعده بلاشك أيسر وأسهل، ونفسه وقدرته على تجاوز المصاعب الأخرى أكبر. ثالثاً: هذا في نفس الوقت أيضاً يساعده على استثمار الوقت من جهة أنه إذا قضى وقتاً طويلاً في الصعب فإن الوقت اليسير الباقي سيكفي لتغطية الجوانب السهلة واليسيرة. وغالباً في مسائل الفقه المقارن إذا جاءوا بمذهب الشافعي مثلاً بالأدلة، تقول: ليس هناك قول أرجح من هذا القول، فإذا جاء المذهب الآخر بأدلته جعلك تتردد في أيهما أرجح. المذهب الثاني يقول: يبدأ بالأسهل، لماذا؟ أولاً: إن من فوائد هذه البدايات أنها تشجع الإنسان على الاستمرار، فإذا مضى في الأسهل، وأنهى فصلاً وفصلين وثلاثة، فسينهي ما وراء ذلك. ثانياً: أنه ينشط الذهن، فإن الإنسان إذا بدأ بالصعب واستغلق ذهنه جاء إلى السهل ولم يعد يفهمه، فإذا جاء إلى مسائل معقدة جاء إلى المسائل السهلة بنفسية معقدة فعقدها فلم يعد يفهمها. ثالثاً: الشعور بالتفرغ للأمر الصعب، ودائماً الإنسان إذا كان عنده قضايا يزيح الأسهل الأسهل حتى يفرغ وقته وجهده وطاقته في آخر الأمر للقضية الكبرى، فيكون أيضاً هناك اندفاع نحوها. والمسألة راجعة إلى نفسية الطالب، وإلى ما يراه أنسب وأوفق لطبيعته، ولكن ليس بالضرورة دائماً أن تأخذ المنهج كله، لك أن تبدأ بالأسهل أو الأصعب متفرقاً إذا كانت المادة تحتمل مثل هذا التفريق، أما إذا كانت مترابطة فلابد من مثل هذا الترابط. سادساً: الحرص على الفهم والاستيعاب، وليس على التجاوز والحفظ المجرد، فبعض الطلاب يريد أن ينتهي وكأنه يغرر بنفسه، فلو كان هناك شيء صعب أو مسألة لم يفهمها يتجاوزها، والمهم أن ينتهي، حتى إذا جاء إلى آخر الكتاب قال: انتهيت، والآن أعود إلى ما لم أفهمه لأركز عليه، ويعود ولم يحصل في المرة الأولى شيئاً، وفي المرة الثانية كذلك، مثل الذي ينفخ في القربة المخروقة؛ لأن هذا التجاوز والسرعة لا تساعده على الاستيعاب، ولذلك لابد من الفهم؛ لأن الفهم هو أساس للحفظ والاستيعاب. سابعاً -وهي من النقاط المهمة-: التركيز على النقاط: كثير من الطلاب خاصة في مراحل الدراسة دون الجامعية في مواد التاريخ والحديث والجغرافيا وغير ذلك، الطلاب يقولون: معظم ما في هذا الفصل حشو، وكثير منه يمكن أن يستغنى عنه، وهذا في حقيقة الأمر ليس صحيحاً، وفي نفس الوقت ليس خطأً، كيف؟! نقول: إن كل موضوع يتركز في نقاط، وكل نقطة يحب المؤلف أو الكاتب أن يشرحها، ويزيد فيها، ويستخدم المترادفات، ويطيل النفس في التعبير والتأكيد على المعنى، لكن في آخر الأمر النقطة هي واحدة، فليس كل الكلام حشواً، لكن أيضاً ليست هذه الإضافات حشواً، لكنك أنت يمكن أن تستغني عنها، كيف؟ ما هو المقصود بهذا الاستغناء؟ إذا حدد النقاط عرف أن هذا مثلاً حديث شرحه يتركز في كذا وكذا وكذا، أو أن هذا الحدث التاريخي مثل المعركة تتركز في أنها وقعت بين المسلمين والكافرين في بلاد العراق، وكان عدد المسلمين كذا وعدد هؤلاء كذا، وبهذا تتلخص الحقائق، وبعد ذلك لك أن تقرأ في الكتاب: فكروا عليهم كرة شرسة، أو بعد فترة طويلة، أو بعد حصار، هذا مما تستطيع أن تعبر عنه كما شئت، فلا ترهق عقلك بحفظه، ولا بالتركيز عليه، وتفوتك النقاط، فإذا جئت في الإجابة ذكرت الكر والفر والعناء والبلاء وضاعت النقاط التي عليها الدرجات، وهذا كثيراً ما يقع من الطلبة، فيخرج ويقول: أجبت إجابة وملأت الصفحات، ولكنه ما ذكر نقاط الدرجات، فإذا جاءت الدرجة قليلة أو ضعيفة تذمر وشكى، واعتبر أن هناك من يترصده، ومن يتربص به الدوائر ونحو ذلك. بالنسبة لهذا التركيز يمكن أن يعين عليه بعض الأمور: الأول: لابد عند قراءتك أن تكون ممسكاً بقلمك، وليكن قلم رصاص حتى لا تشوه الكتاب، ثم ضع خطوطاً تحت النقاط المهمة أو الرئيسية كما يعبر عنها. الثاني: ضع عناوين جانبية: بعض الكتب -لا سيما في المرحلة الجامعية أكثر منها في المدرسية- تفتقر إلى العناوين الجانبية، فتجد عنواناً ثم أربع خمس صفحات متتابعات، ويريد الإنسان أن يربط بينها، فكيف يجمعها؟ يضع هو بنفسه عناوين جانبية: أهمية كذا وكذا، فوائد كذا وكذا، العوائق كذا وكذا، حتى يستطيع أن ينظم ويركز هذه القضية. الثالث: الاستعانة بالأرقام: أحياناً لا يكون في الكتاب ترقيم، وأضرب لذلك مثلاً: تجد بعض الكتب الموسوعية لا تهتم بمثل هذه القضايا، فيسرد لك مثلاً ابن حجر رحمة الله عليه في فتح الباري فوائد الحديث منتثرة، فضع تحت كل منها خطاً ورقمها؛ لأنك بالترقيم تستطيع أن تعرف هل استكملت الإجابة أم لا؟ فإذا رقمت فوائد هذا الحديث عرفت أنها عشرة، فإذا كتبت حال الإجابة ثمان فوائد علمت أنه بقي اثنتان، أما من غير الترقيم والتركيز فستكتب بعضها وتقول: أجبت على السؤال كاملاً، وأنت ما زلت مقصراً فيه، فهذا التركيز ينبغي أن يخلص الموضوعات إلى نقاط وعناوين وأرقام حتى تستطيع التركيز والاستيعاب، وإن شئت لك أن تكتب هذا في وريقات بحيث إنك في آخر الأمر تستغني عن الكتاب فلا تحتاج أن تحمله مع ثقله، أو مع كثرة هذه الكتب، وتأخذ هذه الوريقات وفيها النقاط، والحواشي والإضافات والتعبيرات لك أن تبدع فيها وتجتهد؛ إذ ليس فيها خطورة. ثامناً: الحفظ: مهما اعتمدت على الفهم والتركيز فإنك تحتاج إلى الحفظ، لابد من الحفظ في بعض الأمور، وحتى بهذا التركيز لن تستطيع استذكار الأرقام إلا إذا حفظت مضموناتها، وما هي بعض الوسائل المعينة لهذا الحفظ؟ الأمر الأول: تعديد الوسائل: لا تعتمد على وسيلة واحدة؛ لأنه إذا زادت الحواس المحصلة للمعلومة كان الذهن أقدر على حفظها وضبطها؛ فأنت يمكن أن تقرأ وتكتب بعض ما تقرأ؛ فتكون الكتابة -وهي حاسة اليد- أقدر وأقوى في ضبط الحفظ مع القراءة، ولك أيضاً أن تسمع؛ فتسمع سواءً عندما تقرأ بصوت عال، أو عندما يقرأ زميل لك، أو عندما تسمع هذا الدرس في شريط، وسأذكر بعض التجارب حتى في مثل هذه القضايا والوسائل التي تعين على مثل هذا: معروف أن الإنسان إذا سمع خبر يكون تركيزه وحفظه له أقل مما لو سمعه ورآه وقرأه، فإن هذه تكون أكثر، فكلما رأى الإنسان أنه لم يحفظ شيئاً فليستعن مع القراءة بالكتابة، وإذا قرأ وكتب فليستعن أيضاً بالسماع. الأمر الثاني: التكرار: والتكرار -كما يقولون- يعلم الشطار، هذا التكرار هو الذي يستطيع الإنسان به أن يثبت المعلومة. الأمر الثالث: التسميع: لا تعتمد أنك إذا حفظت فقد حفظت، ولكن استرجع ذلك بالتسميع لنفسك أو لغيرك. الأمر الرابع وهو مهم أيضاً: المذاكرة: والمقصود بالمذاكرة مع شخص آخر، تقول له: هذا الموضوع يتلخص في كذا وكذا وكذا، وقال فلان: كذا، والقانون الفلاني ينص على كذا، وقضية الحفظ فيها تفصيلات أخرى لا أظن أننا نحتاج إلى الاستطراد فيها. هذه جملة من الأمور التي تتعلق بطريقة

مشكلات المذاكرة

مشكلات المذاكرة النقطة الثالثة: مشكلات المذاكرة: ذكرنا طريقة المذاكرة، لكن هناك عوارض كثيرة تعترضها، من أهمها:

النسيان

النسيان أولاً: النسيان: يقول الحسن البصري: غائلة العلم النسيان. هذا النسيان من أسبابه: أولاً: المذاكرة عند الإرهاق، يذاكر الطالب ويقول: ذاكرت وتعبت، ولكني ما استطعت أن أحفظ؛ لأنه كان مرهقاً مجهداً، والإنسان كيان واحد: (إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد)، إذا كنت مريضاً في قدمك أو مرهقاً في نومك، سيكون هذا له تأثير على ضعف العقل والذهن. ثانياً: كثرة التنقل من منهج إلى منهج، أو من فصل إلى فصل، قرأ قليلاً ثم انتقل إلى الفصل الآخر قبل أن يتم الأول، أو إلى مادة أخرى قبل أن يتم الأولى، ويخلط من هنا وهناك؛ فلا يصبح عنده إلا كناشات وقصاصات ومتفرقات لا يمكن أن تنتظم في صورة يكون بها حافظاً لهذا المنهج. ثالثاً: عدم المراجعة القريبة الآنية: عندما تحفظ شيئاً لابد من التسميع والمراجعة في وقت قريب، لا تحفظ الآن ثم تراجع بعد شهر، فقطعاً ستكون قد نسيت. رابعاً: الاضطراب والخوف: وهذا لا شك أنه من أعظم الأسباب التي تبدد كل ما يحفظ، ولذلك الإنسان عند شدة الخوف قد ينسى حتى اسمه كما يقولون، فإذا كان الإنسان كثير الخوف دائم الاضطراب يقل مستوى حفظه بشكل كبير. خامساً: عدم التركيز: فهو يريد أن يحفظ الصفحة كما هي، حتى أنه يحفظ ما بين الأقواس، مثل: (انظر شكل سبعة) فهو يريد أن يحفظ هذا، وهذا طبعاً يرهق نفسه، ولا يستخلص ما يحتاج إلى الحفظ. سادساً -وهو مهم-: عدم الربط بين الأفكار لضمان التسلسل: لابد أن تربط بين الفكرة والفكرة، والفقرة والفقرة، حتى تستمر في التسلسل في الحفظ، أما أن تحفظ نقطة ونقطة ونقطة، فإذا أردت أن تربط بينها لا تستطيع، مثل الذي يحفظ القرآن فيحفظ صفحة وصفحة وصفحة ولا يربط بينها، فإذا انتهى إلى آخر آية في الصفحة وقف حتى تعطيه أول آية فيستمر، ويسمع الصفحة كاملة تسميعاً جيداً، فإذا جاء إلى آخر الصفحة وقف حتى تعطيه مرة أخرى، لماذا؟ لأنه لم يربط بين هذه المحفوظات بتسلسل معين، ولك أن تسلسل بطرق شتى، لك أن تربط التسلسل إما بصورة الصفحة، أو بمضمونها، أو بموقف وتداعي الأفكار -كما يقولون- عندما ركز مدرس على هذه المسألة، وعندما ناقشتها مع بعض إخوانك من الطلاب، هناك كثير من الصور للربط، المهم لابد أن يكون هناك ربط. سابعاً: عدم تكثير الوسائل لهذا الحفظ من سماع وقراءة. إلى آخره.

الملل

الملل الثانية: الملل: وهذا له تأثيره بين الناس، بعض الناس بمجرد أن يمسك الكتاب يمل، وبعضهم قبل أن يراه يمل، وهذا الملل مشكلة من المشكلات التي بالفعل تعيق المذاكرة. هناك وصايا سريعة لطرد الملل: أولاً: لا تواصل الدراسة والمذاكرة دون فترات راحة وترفيه، فالذي يواصل كثيراً يصيبه الملل، ومن هنا ركز على الشيء الممل، واجعله في أول الوقت؛ فإن كانت هناك مواد مملة بطبيعتها أو فقرات من المنهج مملة فعجل بها في أول الأمر حتى يسهل هضمها قبل أن تذاكر فترة وتقطع شوطاً فيأتي الممل وقد مللت؛ فتكون المسألة معادلة مركبة وصعبة. ثانياً: يستحسن أن يرفه الإنسان بكتب غير منهجية في بعض الفقرات، وخاصة كتب الأدب والملح والطرائف: أذكر من تجاربي في أوقات اشتداد الاختبارات أني كنت أضع دائماً قريباً مني بعضاً من كتب الأدب والشعر والقصص، فإذا مللت خذ منها فإنها تنشطك، وقد قال ذلك ابن عباس رضي الله عنه حينما كان يذاكر أصحابه في التفسير والفقه، فإذا رأى مللاً منهم قال: أحمضوا علينا بكتب الأدب، أحمضوا بها علينا، والتحميض هو نوع من الترفيه أو الطرفة أو نحو ذلك. ثالثاً: تذكر الهدف الذي تذاكر وتجتهد من أجله حتى يزول عنك مثل هذا الملل، استحضر الثمرة المرجوة، فأنت تريد أن تتفوق أن تنجح أن تتنقل إلى مرحلة أخرى أن تؤدي دوراً مهماً. رابعاً: تنبه إلى أن المسألة وقت قليل، وزمن محدود، وجهد نسبي، فليست الاختبارات ولا فترة المذاكرة ستستمر معك طول أيامك وليلك ونهارك، الإنسان إذا عرف أن هناك مشكلة ستبقى معه وقتاً طويلاً يجثم على نفسه ملل وهم كبير، بعكس إذا عرف أنها أيام وتنتهي. خامساً: انظر إلى ما مضى لتتفاءل: إذا كنت قد أنهيت نصف الكتاب لا تنظر إلى النصف الباقي ولكن انظر إلى النصف الذي قد مضى، وإذا كنت قد وصلت إلى منتصف الاختبارات فانظر إلى ما مضى من الاختبارات، وقل: قد ذهبت الفيزياء، وانتهينا من الكيمياء، وتجاوزنا الرياضيات، وما بقي إلا كذا وكذا، فهذا يساعد على تبديد الملل، والتنشيط للمذاكرة.

علاج القلق والاضطرابات

علاج القلق والاضطرابات القلق والاضطراب من المشكلات المتكررة عند كثير من الطلاب، ويحتاج الحديث عنها إلى نقاط: النقطة الأولى: تنظيم الوقت والمذاكرة في جداول بحيث يعرف كل وقت مذاكرة، بزمن محدد، وكميات محددة، فلا يكون عنده نوع من القلق والاضطراب في مثل هذا. النقطة الثانية: الاستعانة ببعض الامتحانات القديمة وحلها، أو وضع بعض الأسئلة وحلها، فالذي يضطرب لماذا يضطرب؟ يذاكر ولكنه يخاف أنه لم يحفظ أو لم يستوعب، ولو جاء على بعض الأسئلة، ورأى حلها؛ لرأى أنها بسيطة وزال عنه بعض هذا القلق والاضطراب. النقطة الثالثة: تذكر التوكل والاعتماد على الله عز وجل، واعلم أنك تبذل الأسباب، وأن النتائج بيد الله عز وجل، وحينها ستطمئن، ماذا تريد بعد أن ذاكرت وحفظت وكتبت؟ لماذا تبقى مضطرباً؟ تقول: هذا ما علي، والباقي على الله عز وجل، واطمئن. النقطة الرابعة: الوضوء والصلاة: وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في شأن الغضب أنه أوصى الغضبان أن يتوضأ ويصلي، والوضوء وتعميم الماء على هذه الأجزاء من البدن -كما ثبت علمياً- يسكن النفس، والصلاة بطبيعتها وما فيها من خشوع وطمأنينة ومناجاة ودعاء تسكن نفس الإنسان، وتجدد النشاط. النقطة الخامسة: أشعر نفسك بالأمان، وتوقع أفظع النتائج، ما الذي سيحدث؟ أقصى شيء أنك رسبت في الاختبار، لم تقم القيامة ولم تتدهور الأمة، فهذه مسألة يسيرة، فأشعر نفسك بالأمان، وأنه لو كانت هناك أفظع النتائج فإنها أمور ميسورة مقدور عليها. النقطة السادسة: البدء بالأسهل بالنسبة للذي عنده قلق واضطراب كبير، فيبدأ بالأسهل ليشعر باستغلال الوقت، وليشعر بأن هذا النجاح الذي يحققه في السهل يزيل عنه بعض هذا الاضطراب.

عدم النوم وكثرة السهر

عدم النوم وكثرة السهر هذه من أفتك المشكلات، وأذكر لكم قصة واقعية حتى يتنبه الطلاب لمثل هذا: أحدهم كان يأخذ بهذا المبدأ الذي يواصل فيه الليل بالنهار، أو يسهر في الليل حتى يختبر في أول النهار ثم ينام بعد ذلك، وهذا تغيير للفطرة، ونكس للأمور، وتبديل للمعتاد من حياة الإنسان؛ فيضطرب لأجلها، أحدهم كان على مثل هذا الأمر، ثم ذهب إلى الاختبار في اليوم الثاني وهو مرهق، قليل النوم، أحمر العينين، متهالك الجسم؛ فبدأ يجيب في اختبار زمنه ثلاث ساعات، وبعد أن أمضى نصف ساعة وضع يده على خده ليسترخي أو ليرتاح وإذا به ينام، والنوم -كما يقولون- سلطان، عندما يصل جسم الإنسان إلى حد فوق حد المرونة فإنه ينام رغم أنفه، وعلى أقل تقدير يكون الإرهاق يشكل عبئاً عليه، فلا يستطيع أن يركز في إجابته، ويوصي كل المعلمين والخبراء الطلبة أنه في يوم الاختبارات ينبغي أن تزيد في مقدار النوم عن المعتاد، وهذا إذا كنت اتبعت الطريقة التي أشرنا إليها، والتلخيص في النقاط؛ لأن الارتياح النفسي والبدني من أهم الأسباب على التركيز في الإجابة بدلاً من الزيادة في هذا الوقت التي تسبب إرهاقاً في الجسم، وتشتتاً في التفكير، واضطراباً وتوتراً في النفس، وكلها معاول تقوض قدرتك على التركيز والإجابة الجيدة.

سوء التغذية والكسل

سوء التغذية والكسل من المشكلات: عدم الأكل أو قلته بشكل كبير، وخاصة في الصباح عندما يذهب إلى الاختبار، ونحن لا شك لا نريد منه أن يصنع الولائم، أو أن يذهب إلى العزائم، لكن بعض الطلبة يقلل الطعام كثيراً، وما يعلم أن الطعام هو الذي يحرك الغدد، ويفرز الإفرازات، وينشط العقل، وكل هذه الأمور ينبغي أن تكون في ذهنه. أما الكسل فهو غير الملل، يقول: أنا تعبان، لا أستطيع أن أقرأ، عيني مرهقة، وعقلي مشلول وانتهى، وهذا عارض من العوارض التي ينبغي التنبه لها، وينبغي للإنسان: أولاً: أن يستذكر قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، يستغفر ويدعو الله سبحانه وتعالى ويجدد نشاطه. ثانياً: تجنب الأوضاع المساعدة على الكسل: كمن يذاكر في الغرفة المكيفة، وهو متمدد على فراش النوم، ويضع تحت رأسه ثلاثاً من المخدات، ويجعل الستائر مظللة للمكان، فهو بهذا سينام ولو كان في قمة النشاط، وسيجد أنه في هذا الوضع قد أرهق إرهاقاً عجيباً جداً كأنما جاء من معركة، فلابد أن يغير مثل هذا الوضع. ثالثاً: تذكر روح المنافسة بينك وبين زملائك؛ فلا تكسل لأنك ممكن أن تحصل درجة بهذا الكسل، ولكنك إذا ما تنشطت ستزيد درجة أخرى وتنافس، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. رابعاً: تذكر مغبة النتيجة لهذا الكسل: تكسل لساعة أو ليوم وستذهب عليك ثمرة قد تتندم عليها طويلاً. خامساً: استعن بتنظيم الوقت. سادساً: لابد من تغيير الوضع: إذا كنت في هذا المكان تغير إلى مكان آخر، إن كنت في جلسة مسترخية غير هذه الجلسة.

علاج السرحان

علاج السرحان آخر مشكلة من مشكلات المذاكرة: السرحان: قد لا يمل ولا يكسل ولكنه يحلق في شرق الأرض وغربها، ويجوب فجاج الأرض، والكتاب بين يديه يشكو من قلة النظر إليه! وهذا يقع كثيراً، وكثيراً ما ينطلق خيال الطلاب في مسألتين اثنتين: أولهما: الإجازة: يتخيل آخر يوم في الاختبارات، وماذا سيصنع؟ وكيف سيلقي بالكتب، ويبتعد عنها، وينام نوماً عميقاً؟ ثانيهما: يسرح في الشهادة، وكيف سيكون التقدير؟ وسينافس فلان، وسيأخذ الدرجة، وإن كان متخرجاً إلى أين سيذهب؟ وإن كان سيتخرج من الأول الثانوي هل سيذهب إلى القسم العلمي أم الأدبي؟ ويتوه في هذه الوديان، وهذه بلا شك قضية خطيرة. ومما يعين على إبعادها: أولاً: القراءة بصوت مرتفع: الذي يقرأ في سره وبعينه يصيبه الكسل والملل والنوم، فأحياناً تحتاج إلى أن تقرأ بصوت مرتفع، والقراءة بصوت مرتفع فيها كثير من الفوائد، على أن تكون في غرفة منفردة، ولا ترفع الصوت كثيراً حتى لا يحصل لك بعض الأمور التي يخشى منها. ثانياً: استشعر أهمية الوقت، فإنك إذا فاتك هذا الوقت ينبغي أن تتنبه إلى أن القضية ليس فيها إمهال. ثالثاً: كن عملياً: هذه الخيالات والأوهام لن تتحقق إلا بالعمل، فلا تسرف وتبني كما يقول: تبني الرجاء على شفير هار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار لا تطلب شيئاً لا تكون مستعداً له عملياً. رابعاً: استعن بوسائل تزيل هذا السرحان، مثل: المذاكرة مع بعض الأصدقاء؛ فإنك تسألهم ويسألونك، أو اتصل بالهاتف لتسأل عن مسألة تجدد النشاط وتمنع أو تقطع حبل هذه الأفكار؛ لأنك إذا اتصلت بفلان ورأيته وقد انتهى من الفصل الذي لم تبدأ فيه عرفت أنك كنت في خيالات وأحلام وبحاجة إلى أن تعود إلى اليقظة. ومن هذه الوسائل: استخدام أمور مذكرة واضحة، كأن يضع عنده لوحة يكتب فيها عناوين لبعض الفقرات حتى إذا سرح عن كتابه يرى أمامه أشياء كثيرة أخرى تعيده إلى الواقع الذي هو فيه. هذا بعض ما يتعلق بمشكلات المذاكرة.

الاختبارات والإجابة على الأسئلة

الاختبارات والإجابة على الأسئلة هذه مرحلة ما بعد المذاكرة، وزوال أسباب المذاكرة فمن يريد أن يجيب ويحصل على الدرجات المناسبة فعليه بما يلي: أولاً: استعن بالله، وابدأ باسم الله، واستشعر الهدوء، وطمئن نفسك؛ لأن الاضطراب لا يفيد. ثانياً: اكتب المعلومات المطلوبة قبل الجواب. أحياناً يجيب الطالب إجابة جيدة ثم لا يكون قد كتب اسمه فتضيع إجابته وقد يرسب، وأحياناً يظن أنه من الممكن الاستدراك، وقد يكون غيرك ترك اسمه مثلك وليس عند المدرسين وقت لينظروا ويقارنوا الخطوط ويرحموك وينظروا، وخاصة في الاختبارات الكبرى، فستضيع ورقتك مع الضائعات بحكم أنها مجهولة الهوية. ثالثاً: اقرأ الأسئلة بتركيز، وضع خطوطاً تحت المطلوب في السؤال، مثل كلمة: اشرح، اذكر باختصار، بتوسع، ثلاثاً من فوائد؛ حتى تعرف ما هو المطلوب؛ لأن مجرد مرور عين الطالب على فقرة وعنوان وهو مدرك له جيداً، يفرحه ويكتب ولا يعرف ما هو المطلوب، هل المطلوب الاختصار بعد أن يكون كتب صفحتين أو المطلوب اذكر وليس اشرح، وقد شرح وشرّح وشرق وغرب؟! رابعاً: اعرف المطلوب الأساسي: هل المطلوب الإجابة على جميع الأسئلة على سؤالين على ثلاثة الإجابة بتوسع؟ أحياناً تكون هناك ملاحظات عامة، يقول لك مثلاً: جميع الإجابات تكون باختصار، أو جميع الإجابات يجب أن تكون بالنص، وفي بعض الاختبارات بالذات في المدارس الشرعية تجده يقول لك: مستشهداً في جميع الإجابات بالأدلة، وإذا لم تقرأ هذه الملاحظة لم تدلل على أي مسألة بالدليل على اعتبار أنه لم يطلب، وهذا أيضاً خطر كبير. خامساً: لا تزد عن المطلوب أبداً، إن كان المطلوب اذكر فلا تشرح؛ لأن الزيادة ضدك في 99%، وقد تكون معك بنسبة 1%؛ لأن الورقة ستذهب إلى مدرس مرهق ومتعب ومرغم بالدوام، وعنده أكوام من الأوراق للتصحيح، وسيكون دوره معك دوراً غير مقبول عندك. سادساً: ركز الإجابة في نقاط، واستعن بالعناوين وتنظيم الفقرات، فإن الشرح المطول قد يطلب منه، فتشرح لكنك ما ضمنت هذا الشرح النقاط المركزة، فشرحت في نقطة واحدة وتركت اثنتين أو ثلاثاً، وهذا لا يكون منك إلا عندما تكون قد ركزت عند المذاكرة على تلك النقاط. سابعاً: أحسن عرض الإجابة، من حيث: وضوح الخط، فصل الإجابات بعضها عن بعض، توضيح الفقرات، الترقيم، أحياناً يكون المطلوب الإجابة عن ثلاثة أسئلة من خمسة، فيكتب إجابة السؤال الأول، والثاني، والثالث، وهو اختار الرابع والخامس والسادس مثلاً، والمدرس الذي يصحح -خاصة في اللجان- عنده نموذج إجابة السؤال الرابع الذي يصححه، وأنت كتبت إجابة السؤال الثالث وهو في الورقة الخامس، فتأتيه الورقة على أنها له فيرميها للآخر، فتكون بهذا قد خسرت هدوء وطمأنينة المصحح بمثل هذه الفقرات أو الأخطاء اليسيرة. ثامناً: لا تغير الإجابة، ولا تتردد، ولا تخلط بين إجابات الفقرات والأسئلة: بعضهم يضع الفقرة (ألف) من السؤال الأول، والفقرة (باء) من السؤال الثالث مع السؤال الرابع، ويبقى كأن المصحح يحتاج إلى دليل حتى يرشده إلى هذه المتاهات في هذه الورقة، واسألوا المدرسين كم يفوت عليك هذا الكثير من الدرجات، ولا تضع أكثر من جواب، بعض الطلاب يجتهد يقول لك: ضع خمس إجابات وسيأخذ لك المدرس الأفضل، بل سيأخذ لك الأسوأ أو سيأخذ لك الأول، وكما يقولون: أنت ونصيبك. تاسعاً: كل هذه القضايا ينبغي أن يتركها الطالب لا لقصد حصد الدرجات، وإنما لأن هذا ليس هو مقصود الاختبار، ولا يليق به أن يخبط خبط عشواء، ويكتب أية إجابة، ويضع أي شيء؛ حتى أن بعض الطلاب إذا كان لا يعرف السؤال فإنه يجيب عن سؤال آخر، يضع سؤالاً من رأسه ثم يجيب، وهمه أن يملأ الورقة! هذا عبث، وتضييع للوقت، واستخفاف بالمصحح، وبمجرد أن يرى المصحح أن هذه الورقة فيها شيء من الاستخفاف أو الاضطراب تسقط من عينه، وتكون معاملته لها معاملة مختلفة. عاشراً: راجع الإجابة مع الأسئلة: أحياناً الطالب يراجع الإجابات من غير المقارنة مع الأسئلة، وما الفائدة بالمقارنة مع الأسئلة؟ ستجد أنك نسيت فقرة أو تنبيهاً في فقرة، أو ربما سؤالاً بالكلية، نعم راجعت الإجابات وهي صحيحة لكن هناك مطلوبات لم تذكرها لأنك ما انتبهت إليها، ولذلك ينبغي أن تنتبه إلى هذه النقطة. حادي عشر: نقطتان ملحقتان: إحداهما قبل الاختبار والثانية بعده: النقطة الأولى: قبل الاختبار: لا تقبل الطالب الذي يأتي إليك بأسئلة قبيل الاختبار: وهذه النقطة مهمة؛ لأنك مستقر ومنظم الفكر؛ فإذا بك تختلط عندك الأوراق في اللحظة الأخيرة، وتفوت عليك دقة التصويب، ولا تصيب الهدف. النقطة الثانية: لا تراجع بعد الاختبار؛ لأن الأمر انتهى، وسبق السيف العدل. ثاني عشر: هناك نقطة بالنسبة لأنواع الأسئلة: أهل التربية يقسمونها إلى الأسئلة المقالية، والأسئلة الموضوعية، والأسئلة التصويبية، والأسئلة الربطية، والأسئلة الاختيارية، والأسئلة التي هي ربط بين فقرة وفقرة، أو الأسئلة التي فيها عدة إجابات تختار منها، أو أسئلة الصح والخطأ، كل هذه أنواع: أولاً: الأسئلة المقالية التي هي اشرح أو يعطيك عبارة ويترك لك الصفحات لتجول فيها وتصول، ركز كما أشرت على النقاط، وليس على الكم. ثانياً: بالنسبة لأسئلة الاختيارات: ابدأ أولاً باستبعاد الاختيارات المرفوضة، وغالباً إذا كانت هناك عدة اختيارات يكون منها واحد أو اثنين مستبعدة لأول وهلة، حتى تنحصر المسألة في دوائر أقل، حينئذ يمكن التركيز في أيهما أرجح، لا تلجأ إلى التخمين إلا بعد انتهاء كل الوسائل والإجابات الصحيحة التي تترجح عندك، أما بعض الطلاب فعندهم قاعدة: اختر رقم واحد في كل الأسئلة، وقطعاً لن يفوتك من الخير نصيب، وكثيراً ما يقع من المدرسين أنهم يركزون الإجابات الصحيحة في فقرة معينة قد تكون هي الفقرة الأخيرة، وأنت اخترت فقرة واحدة على اعتبار أنه قطعاً مرة في الثانية ومرة في الأول ومرة في الأول ومرة في الثالثة فستصيب، وهو لا يجعلها كلها في مكان واحد، مثل الذي يضع البيض في سلة واحدة ويفقدها مرة واحدة، فلا تخمن إلا بعد هذا الجانب. ثالثاً: بالنسبة للربط بين حقل وحقل كما يكون في أسئلة الطلاب بالذات في المدارس، اربط بين الواضحات أولاً؛ لأن أي سؤال من هذا غالباً ما يكون هناك أمور واضحة، ثم تبقى أمور مشكلة؛ هل هذه مع هذه، أو هذه مع هذه؟ ولماذا تبدأ بالسهل؟ أولاً: لأنه واضح ولا شك فيه. ثانياً: حتى يقلل دائرة الاختيارات، وما دام أن هذه الفقرة انتهت من هنا فسيكون الاختيار محصوراً. ثالثاً: حتى تستطيع أن تركز في الترجيح بين أمور محدودة ليست متكررة ولا كثيرة. هذه جملة فيما يتعلق بإجابات الاختبارات. ختاماً: نسيت أن أذكر في خضم الاستعراض: أن الطالب عندما يكون قلقاً أو يحمل الهم عليه أن يذكر أدعية الأرق وأدعية الهم الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام وهي محفوظة ومذكورة.

المدرس ودوره في العملية التعليمية

المدرس ودوره في العملية التعليمية بالنسبة للمدرس أول نقطة ينبغي أن نذكرها: أن المدرس يتحمل في الاختيارات عبئاً أكثر من عبء الطلاب، بينما يقول الطلاب: المدرس الآن يأكل ويشرب وينام ونحن نسهر ونتعب، والمدرسون يقولون غير ذلك، وهما لا أقول: خصمان، لكن فريقان، ربما لو أتيحت فرصة مناظرات موسعة لرأينا عجباً عجاباً فيما بين الفريقين! وأحب أن أركز على العبء الملقى على المدرس، وهو كبير جداً، بل إنه في حقيقة الأمر يعطل ويعرقل العملية التعليمية، فهو يأخذ في المدارس أربعاً وعشرين حصة، وعنده إشراف على الفسحة، وريادة فصل، وتحضير -دفتر تحضير- ممل ومكرر وغير عملي، وليس له هدف، وليس وراءه ثمرة، ويعطيه مرة لزوجته لتكتب، ومرة لصديقه، ومرة يستعين بالتصوير، وأخرى يتحايل على التواريخ، فيبقي دفتر العام الذي مضى حتى يغير تاريخه من غير أن يلحظه الموجه، ثم ابتلي بهذه الواجبات التي أصبحت لازمة؛ فهو يقرأ كراريس وأوراقاً وخطوطاً وخلطاً عجيباً، ومطلوب منه أن يقرأه، وفي الغالب أنه لا يقرأه، ولذلك إذا جاء العبء أحال التصحيح إلى الطلبة، خاصة في الواجبات المعتادة، فيجيب الإجابة النموذجية، ويقول لهم: صححوا، أو يجيب الإجابة النموذجية ويناقشها معهم ثم يجعل على كل ورقة صح تشملها من أولها إلى آخرها حتى ينتهي من هذا العبء، وبالتالي يأتي إلى العملية التعليمية وهو مستهلك، فلا يكون عنده حماس، أو قدرة على العطاء والتفهيم والتركيز والإعادة، ولذلك مجرد أن يطلب منه الطالب أن يعيد الدرس تجده يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، وغالباً ما تكون النفسية غير مهيأة؛ نظراً لمثل هذا العبء الكبير. أيضاً في الاختبارات العبء على المدرس كبير، فهو يحتاج أولاً: إلى وضع الأسئلة، وهنا لابد أن يسأل المدرس نفسه السؤال المهم، وهو: ما هدف الاختبار؟ ولماذا يضع الأسئلة؟ هناك تصورات: التصور الأول: يضع الأسئلة لينتقم من الطلاب، والذي سيضعها بهذه النفسية قطعاً ستكون أسئلة غير عملية وغير نافعة، خاصة في بعض الاختبارات المفتوحة التي ليس فيها لجان تصحيح، فهو يضع أسئلة ولو كانت خاطئة، وفي الجامعة قد يضعون أسئلة فيها أخطاء، ومع ذلك يبقى الطالب هو المخطئ، ويتحمل نتيجة خطأ المدرس أو الدكتور، وكما يقولون: يضرب على أم رأسه مرتين: مرة لأنه لم يعرف الإجابة، ومرة لأنه ما اعترض على خطأ المدرس. التصور الثاني: أسئلة للتخلص، يريد أن يعمل أسئلة يجيب عنها جميع الطلاب، وينتهي من تصحيحها بسرعة، وينتهي هذا العناء الذي ينتظره ويحمل همه، فلا تكون له ثمرة ولا فائدة. التصور الثالث، وهو المقصود المهم: أن الأسئلة مقياس تقريبي لا تحديدي: ليست الاختبارات هي التي تحدد قطعاً ويقيناً الذي فهم والذي أجاد، لكنها مقياس تقريبي جيد، ونسبته في التقويم عالية وليست متدنية، لكن قطعاً قد يخطئ الفاهم، وقد يضطرب أحياناً المذاكر، والاختبار لا يجامل ولا يراعي مثل هذا إلا عندما يكون المدرس يعرف الطالب ويعرف وضعه فيتنبه له. الأسئلة المفروض أن تكون تشتمل في تصوري على ثلاثة أمور: أولها: أسئلة مباشرة وواضحة ليست سهلة، دائماً يقول الطلاب: هناك أسئلة سهلة، والمقصود أن يعبر عنها بأنها أسئلة واضحة ومباشرة، وهذا الوضوح والمباشرة يساعد على نيل جزء من الدرجات، وتشجيع الطالب على إجابة بقية الأسئلة. ثانيها: الأسئلة التي تحتاج إلى نوع من الاستنباط، وشحذ الذهن، وتكون فيها بعض الفقرات غير المباشرة وليست صعبة. ثالثها: وهو ما يكون أقل هذه الأسئلة، وفيه شيء من الدقة والقياس والاستنباط، وليس مباشراً في المنهج، بل قد يكون بعيداً عنه، وهذا لتمييز استيعاب الطالب بشكل عام، وكذلك لتمييز صاحب الذكاء أو الفطنة في مثل هذا العلم أو المادة، وبهذا التنوع تكون هناك مجالات لأن يكون الاختبار مقياساً جيداً إلى حد كبير، ففيه فرصة للضعيف أن يحصل بقدر ما حصل من هذا العلم أو هذه المادة، وأن يجتهد، ويضعف عن بعض هذه الأسئلة، وبقيتها يمكنه أن يجيب عنها. النقطة التالية للمدرس في مسألة التصحيح: ينبغي أن يعلم الطالب أن المدرس أكثر ما يراعي في وضع الأسئلة التصحيح، فهو يضع الأسئلة، وهو يفكر في تصحيحها، فلذلك قد يجعلها منظمة، ومختصرة، أو بطريقة الصواب والخطأ ليسهل عليه التصحيح، ولذلك ينبغي للمدرس أن يراعي في أسئلته التوزيع في الدرجات، بعض المدرسين لا يراعي مصلحة الطلاب، ولا يراقب الله عز وجل، يضع على الأسئلة السهلة -مع كثرتها- درجات قليلة، ويضع على السؤال الصعب أكبر الدرجات، فيجيب الطلاب على أربعة أسئلة، والخامس الصعب يتركوه، وإذا به عليه نصف الدرجات! فهذا يفوت على الطالب النجاح أو تحصيل درجة عالية، والأفضل أن يوزع الدرجات على ورقة الأسئلة؛ حتى يساعد الطلبة على إدراك الأهم، ومحاولة اقتناص بعض هذه الدرجات، وحيازة أكبر قدر ممكن منها. ولا شك أن عليه مراقبة الله عز وجل، والصبر والاحتمال، وأن يؤدي هذه المهمة متجرداً عن أعبائه، فلا يؤديها إذا كان متعباً فيتعجل، أو إذا كان مكرهاً فيجحف ويظلم، وينبغي عليه أن يتصور أنه في موقع هذا الطالب. وعليه أن يتصور الفصل الكامل بين ما هو فيه وبين الطالب، ما ذنب الطالب إذا كنت أنت مرهقاً أو مجبراً على هذا التصحيح أو كانت لك ظروف خاصة؟! ينبغي أن تفصل بين هذا وذاك.

قضايا متفرقة حول التعليم والاختبارات

قضايا متفرقة حول التعليم والاختبارات

العلم بين التعليم والتحصيل

العلم بين التعليم والتحصيل الأسلوب التعليمي المتبع في المدارس فيه مشكلة، وهو: أن الطالب يدرس من كل بحر قطرة، ويخرج من البحر بلا قطرة، بمعنى: أن هناك كثرة في المواد وتنوعها واختلافها، وليس بينها رابط في سنة واحدة، ومع دوامها غالباً لا يتلقى الطالب الحصيلة المرجوة من هذه المواد، مثلاً: مادة اللغة العربية تدرس في المدارس من السنة الرابعة حتى الثالث الثانوي، أي: تسع سنوات يدرس الطالب نحواً في المدارس، ويتخرج من الثانوي وهو لا يفرق بين الاسم والفعل والحرف، لماذا؟ لأنها تفرقت وتبعثرت ولم تركز، واختلطت معها مواد أخرى، فلم يكن لها جهد مستقل، وقس على هذا بقية المواد، فإنك أيضاً ستجد أنه يأخذ مواداً تستمر معه عدة سنوات، لكنه لا يخلص منها بنتيجة، فمثلاً: مناهج اللغة العربية في هذه السنوات التسع، من الممكن لو أتينا بها كلها، وعقدنا دورة لهذا الطالب ذاته في ستة أشهر أو سنة، سيخرج مستوعباً لهذه المناهج، متمكناً فيها، حافظاً لها. أيضاً: كثرة تشعيب المواد وتفريقها على الزمن المتراخي مع وجود الإجازات، وما أدراك ما الإجازات؟ إنها تعتبر ناسخة أولاً بأول لكل ما تحصل من علم، ويحرص الطلبة على أن يخلصوا عقولهم من كل ما ترسب فيها حتى يأتوا إلى السنة الجديدة بعقل جديد ليس فيه أثر مما مضى، بل -للأسف- بعض المدارس مثل مدارس تحفيظ القرآن مطلوب إلزامياً من المدرسين ألا يسألوا الطلبة عن حفظ العام الذي مضى، والذي يختبر الطلاب في حفظ ما مضى من المدرسين يعاقب على ذلك! وكأن القضية مثل اللوح الذي يكتب فيه ثم يمحى، ثم يكتب فيه ثم يمحى، ولو أردت أن تسترجع بعض ما فيه فإنك ستجد أطلالاً باهتة وبقايا خطوط، فعنده شيء كان يسمى نحواً وقواعد، ومر به شيء كان يسمى الفاعل، وله نائب ينوب عنه أحياناً، وبعض هذه الأمور ليس بينها رابط، وليس فيها تأصيل، وهذه النقطة أجعلها تحت عنوان: العلم بين التعليم والتحصيل، هل نريد من الطالب أن يتعلم وينتهي تعليمه أم نريده أن يحصل العلم؟! هناك مسائل تحصل؛ لأنها تتكرر، فمثلاً: جدول الضرب يحفظه الطالب، ولا يقول: هذا كان في منهج السنة الثالثة أو الرابعة، ولا أسأل عنه الآن، فهو يحفظه لأنه يتكرر معه، واحتاج إليه، وداوم عليه، فصار محصلاً عنده، فهو لا يحتاج فيه أن يرجع إلى كتاب، ولو احتاج إلى الرجوع يرجع رجوعاً سريعاً، فما نسبة ما يأخذه من التعليم إلى ما يقع عنده ويخلص له من التحصيل؟ أعتقد أن النسبة بالتفاؤل ما بين 10 - 20%، وأظن أن بعض الطلبة قد يصل تحصيله إلى حد 1% كحد التشبع، يعني كحد أعلى لمثل هذا التحصيل! وهذه نقطة سلبية كبيرة جداً في أسلوب وطريقة التعليم. أما طريقة التعليم السابقة فإن فيها نوعاً من التفريغ للأمر الواحد أو لأمرين معتمدين، مع التركيز، ثم ينتقل إلى غيرها، تجد السابقين أول ما يبدأ الطالب عندهم بحفظ القرآن والذهن متفرغ، والوقت مصروف، والجهد مكرس لهذه القضية، فإذا حفظ القرآن دفع به ليتعلم اللغة العربية أو الفقه مثلاً، يأخذ منهجاً مختصراً يستوعب به كل المادة بإيجاز، ثم يرقى من هذا الكتاب إلى كتاب آخر فيه ذات الموضوعات، لكن فيها مزيد من التفصيل والاستدلال والتوسع، ثم يأخذ كتاباً ثالثاً في نفس الموضوعات بشيء من التوسع، وذكر بعض الاختلاف، وتوسيع المدارك، فهذا التكرار أعطاه قوة في العلم، عندما تكررت عليه المسألة أخذ أفقاً أوسع، وعندما تكررت ثالثة أخذ أفقاً أوسع، فلو جاءته مسألة أصعب لم تمر به كان عنده القدرة على التوسع والاستيعاب والتمكن والاستنباط والقياس ونحو ذلك، وهذه المشكلة من أكبر المشكلات في العملية التعليمية المعاصرة.

بين الشكلية والواقعية

بين الشكلية والواقعية كثيرة هي الأمور الشكلية في مسائل التعليم، فالطلبة إلى حد ما هم والمدرسون صاروا نسخة، فالطلاب ينبغي في كل مادة عنده واجب، ويأخذ هذا الواجب يقرأ السؤال ويجيب من نفس الكتاب، وينقل نفس الكتاب والإجابة، ويُذهب بالدفاتر إلى المدرس ولا يقرأها؛ لأنه يعلم أن الطالب لم يشغل فيها عقله ولم يستنبط، بل مجرد أنه نقلها من ورقة إلى ورقة بشيء من الكراهة والملل، ثم جاءت إلى المدرس فتجاوزها من غير قراءة ولا تصحيح، ثم المدرس مطلوب منه أن يرصد الدرجات، درجات على الواجب، ودرجات على الاختبار الشهري، ودرجات على كذا، فإذا به ينسخ ويقرأ ويصحح، وإذا به في آخر الأمر لم يعد معلماً، بل صار كاتباً ومصححاً! والطالب أيضاً لم يعد طالباً يفهم ويستوعب ويفكر ويسأل ويبدع بل صار كاتباً ناسخاً! وأصبحت الصورة شكلية، ثمانية وثلاثة أرباع، والدرجة من خمسة عشر في الشهر الواحد مقسمة على أقسام، ومبادلة الحسابات على هذا المنوال، وضاعت الزبدة التعليمية في داخل هذه الشكليات التي فيها إرهاق وجهد وتضييع لكثير من الطاقات!

الاختبارات

الاختبارات -كما عبر بعض المدرسين- مسألة استجماع لبعض المعلومات، ثم تتقيأها على ورقة الاختبار، وتخلص نفسك من كل آثارها، وأيضاً المدرس يكون قد انتهى من هذا الأمر، ولم تكن لها ذلك التقويم والتحفيز بشكل أو بآخر.

التعليم والإبداع

التعليم والإبداع ليس هناك في الأساليب والمناهج التعليمية ما يسهل على إيجاد المبدعين والمبتكرين، فليس هناك في غالب الأحوال ربط بين الناحية النظرية والعملية، وليس هناك توسيع في دائرة التعليم خارج إطار المنهج؛ لأن المدرس مرهق ولا يستطيع أن يتوسع، والطالب عنده ألف مشكلة ومشكلة ولا يحتاج إلى مراجع إضافية، بل يريد المذكرات المختصرة، وبالتالي ليست هناك غير عملية تكرارية، وعلى أحسن الأحوال سننتج نسخة واحدة ليس عندها قابلية الإبداع ولا الابتكار، وليس هناك تميز أو احتضان لمن عنده إبداع، بل الذي يسأل المدرس كثيراً سيجبره على السكوت؛ لأنه يشوش عليه؛ ويسأله عما لا يعرف، أو يثير فتنة وبلبلة ويفرق الصفوف وجماعة الطلبة ونحو ذلك؛ لأنه ليست هناك أية صورة من صور استيعاب وتبني مثل هذه الجوانب بشكل أو بآخر.

استفادات معنوية من الاختبارات للطلبة والمدرسين

استفادات معنوية من الاختبارات للطلبة والمدرسين أولها: أن الطالب يكتشف أن الوقت أكثر منه في الأيام الأخرى، كأن اليوم لم يعد أربعاً وعشرين ساعة بل ربما صار ثمان وأربعين ساعة، فإنك تجده أولاً: يستطيل الوقت، وثانياً: يرى كم ما بين الفجر إلى الظهر؟ من الساعة الخامسة إلى الثانية عشر سبع ساعات، الآن يضيع نصفها في النوم، ونصفها في الكلام، والمشاوير، حينما تلغى هذه العوامل كلها في أوقات الاختبار يشعر الإنسان بالوقت وامتداده، إذاً: لماذا لا يستفيد وينتبه إلى أنه يبدد الوقت وأن الوقت كبير وطويل، ويمكن عمل الكثير في هذا الوقت لكنه هو الذي يفرط. ثانيها: قوة الطاقات: يقرأ ساعات متوالية، ويحفظ صفحات متكاثرة، ويستوعب مسائل دقيقة، بينما في غير أيام الاختبارات إذا قرأ الصفحة لم يحتمل الثانية، وجاءت الضربة القاضية في الصفحة الثالثة أو نحو ذلك، وكذلك في الاستيعاب يظن أنه لا يستطيع أن يحفظ كذا، طاقته موجودة لكنه ما استثمرها وما دربها، وما عمل عملية الاستثمار والتنمية المطلوبة. ثالثها: الوحدة التي تجمع عند وجود العامل المشترك، كل الطلاب الآن متحدون في كثير من السمات، سواءً في الهم والاهتمام، والجد، واستغلال الوقت، وتفريق أو ترك الشواغل، إذاً: كلهم على اختلاف أنواعهم لما كان هناك هدف واحد أو مشكلة واحدة تجمعت الطاقات والجهود، وتشكلت الظروف كلها لتخدم هذا الغرض، والأمة ينبغي أن تتعلم أنها متى رأت مشكلاتها وعرفت أعداءها أن عليها أن تتوحد لمعالجة هذه المشكلات ولمحاربة أولئك الأعداء بدلاً من أن تتفرق في تفاهات وقضايا فرعية وجانبية. رابعها: التعاون؛ فإنك تجد فرص التعاون ترقى بين الطلاب والمدرسين وفئات المجتمع حتى في الأسرة، وبين الأب وابنه، وهذه الروح من التعاون ألجأتنا إليها هذه الظروف التي فيها نوع من الشدة أو الحاجة، فلماذا لا نجعل هذا التعاون أيضاً دأباً وسمة مستمرة في حياتنا دائماً؟ خامسها: حسن التصرف: فإن الطالب والأسرة والمدرس يتعود على أن يضغط الوقت، ويتصرف، ويكيف الظروف، وأن يتخلص من المآزق، فإذا جاءه الضيف يعرف كيف يتخلص منه، وإذا جاءته المشكلة يعرف كيف يصرفها، لماذا؟ لأنه يحتاج إلى الوقت، فإذاً: لماذا لا تكون لبقاً حسن التصرف في كل هذه الظروف التي تمر بك في حياتك ولا تحسن التصرف والتكيف إلا في هذا الوقت فحسب، كما ذكر عن ابن الجوزي على سبيل المثال: أنه كان يأتيه بعض الثقلاء الذين يضيعون عليه وقته، قال: فكنت أعد لهم بري الأقلام، وتجهيز مداد الدواة، فإذا جاءوا يتكلم معهم لكنه يبري قلمه، ويعد مداد دواته حتى لا يضيع وقته، أنت إذا جاءك الإنسان في الاختبارات أو جاءتك المكالمة الهاتفية استطعت أن تتخلص منها بأسلوب حسن في دقائق معدودة؛ لأنك تريد أن تستثمر الوقت، أما في الوقت العادي لو أراد المتحدث أن ينهي المكالمة تقول له: ما زال في الوقت متسع؛ فتجد الإنسان يفوت الوقت، ولا يكون عنده الجد وحسن التصريف للأمور. سادسها: معرفة قيمة الجد وثمرة الجهد: عندما تجد وتجد الثمرة تعرف وتتعلم أن الحياة جد، وأن الذي يريد أن يحصل الثمرة لابد أن يجتهد، وكثير من الأمور نضيعها بسبب الكسل والتراخي وعدم الجد.

بين اختبار الدنيا واختبار الآخرة

بين اختبار الدنيا واختبار الآخرة النقطة الأخيرة في فقراتنا المتنوعة عن الاختبارات: هناك حاجة ماسة وملحة للربط والاستفادة من هذه الاختبارات وأجوائها باختبارات الآخرة وما يقدم عليه الإنسان، فهل أعددت للسؤال جواباً؟ وهل أعددت للجواب صواباً كما تعد لهذا؟ وهذا موضوع سبق أن تحدثت فيه في خطبة جمعة، وفي محاضرة سابقة بعنوان: لمحة على الامتحانات، ومرة: بين اختبارات الدنيا والآخرة، وفيه مقارنات شتى نطبقها في أمر اختبارات الدنيا ونغفل عنها وننساها في أمر اختبارات الآخرة. نسأل الله عز وجل أن يوفق الطلاب لأداء الاختبارات والنجاح فيها والتفوق، وأن يجعلوا ذلك عوناً لهم على طاعة الله عز وجل، وأن يكونوا أفراداً عاملين لمصلحة وخير هذه الأمة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما دورنا في مواجهة المآسي؟

ما دورنا في مواجهة المآسي؟ إن الناظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم وما تعيشه من مآسٍ مروعة، وجرائم شنيعة في كثير من البلدان، ليعلم شديد البلاء الذي يعيشه إخواننا المسلمون في بلاد كثيرة ومنها بلاد البوسنة والهرسك، فقد تكالبت عليهم القوى الكفرية لتصفيتهم، فدمرت بيوتهم، وشردت أطفالهم، وقتلت رجالهم، ورملت نساءهم، وأحرقت منازلهم ومزارعهم بوحشية ليس لها نظير في عالم الوحوش والغابات، كل ذلك على مرأى ومسمع من الدول الكبرى والمنظمات الحقوقية، والمؤسسات الدولية، فما هو دورنا في مواجهة هذه المآسي؟!

أحداث البوسنة عبرة وعظة

أحداث البوسنة عبرة وعظة الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، وجاعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، نحمده سبحانه وتعالى جعل الدائرة على الكافرين، وجعل سوء العاقبة للظالمين، نحمده جل وعلا هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! قد طلب مني بعض الأفاضل أن يكون حديث اليوم عن المآسي المروعة، والفضائع الشنيعة التي ما انقطعت في بلاد المسلمين، بل تضاعفت وتزايدت، وازداد أوارها، واشتعل لهيبها، وتصاعد دخانها في كثير من البلاد الإسلامية، وأراد أن يكون الحديث عن الهجمة الشرسة الفضيعة التي يلقاها إخواننا في شرقي البوسنة في مدينة (ورازده)، وما يلقاه إخواننا في أرض الإسراء مثوى العديد من الأنبياء من المعاناة والبلاء، ومن شدة الكرب والعناء، وكنت أقدم على ذلك وأحتم، ولسان حالي يقول: وماذا عسانا أن نقول في مثل هذه الأمور؟ وعن أي شيء نتحدث في هذه المآسي ولأي غرض نعيد هذا القول ونردده؟ هل نريد أن نكرر القول المسموع؟ أو نزيد من الصراخ والبكاء والعويل؟ ويثور السؤال الذي يدفع إلى التردد، لماذا نذكر هذه المقالات؟ وماذا عسانا أن نفعل تجاهها؟ وما دورنا في مواجهة المآسي ولسان حال كثير منا يقول: ليس باليد حيلة، وليس هناك مجال لأن نؤدي دوراً أو أن نقوم بمهمة؟ ولكن هذا التردد يزول؛ لأنه يكفينا من هذا الحديث أن نشارك إخواننا في مآسيهم، ولئن بكوا دماءً ودموعاً فلا أقل أن نذرف معهم ولو دمعةً واحدة، ولئن ملئوا الدنيا صراخاً وعويلاً فلا أقل أن نرفع من أعماق قلوبنا لله دعوةً خالصة، فحري بنا أيها الإخوة أن نزيد القول، وأن نكرره في هذه الأمور، عل ذلك أن يحيي موات القلوب، وأن يوقظ غفلة العقول، وأن يحرك ضعف العزائم والهمم، وأن يبعث في القلوب الأمل والثقة في الله عز وجل. إننا لا نريد أن نجعل الحديث طعنات تغتال الأمل في النفوس، ولا أن نجعل المآسي تحيط بنا لتقعدنا عن العمل، كلا أيها الإخوة، فلقد مر بالمصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا البلاء الكثير والكثير، ولقد مر بمن جاء بعده من كرام صحابته ومن أئمة هذه الأمة وسلفها ما مر من الأحداث المروعة، ومع ذلك نرى التاريخ ينطق بشواهده وحوادثه على المنهج الذي ينبغي أن نسلكه، وعلى الطريق الذي ينبغي أن نتواصى به. لا شك أيها الإخوة أننا سمعنا كثيراً في الأيام القريبة الماضية عن الجرائم المروعة التي يحار العقل فيها ابتداءً، ولكنه يعرف تفاصيلها وخلفياتها انتهاءً؛ لأن الأمر لم يعد فيه خفاء، بل صار أوضح من الشمس في رابعة النهار، وانظر إلى هذه الأحداث في شرقي البوسنة على مدى أيام وشهور متواليات، وانظر إلى الأخبار الأخيرة التي ذكرت أن القصف توالى حتى صارت القذائف تنزل على المسلمين في تلك الديار بمعدل قذيفة واحدة في كل عشرين ثانية، فاحسب رعاك الله كم قذيفة في الدقيقة والساعة واليوم، لترى كيف تشتعل النار في ديار إخواننا، بل في أجسادهم، بل في أطفالهم وشيوخهم ونسائهم! وانظر رعاك الله إلى النار التي تلتهم الأخضر واليابس، وإلى الرصاص الذي يغتال الصغير والكبير، وإلى الشظايا التي تنطلق من الأرض، والمباني التي تتهدم على رءوس أهلها، وانظر إلى ذلك كله وهو يجري على سمع الزمان كله، وبمرأىً من الأبصار، ينقل إلى كل الدنيا عبر الأقمار الصناعية، والشاشات الفضائية مدعماً بالوثائق الشاهدة الناطقة، وبالتقارير الميدانية الساخنة، وكأن الدنيا كلها قد صمت آذانها، وعميت أبصارها، وماتت قلوبها، وانطفأت كل معاني الإنسانية والفطرة البشرية في نفوسها كأن الناس مسخوا وحوشاً، ليس لها بالبشرية ولا بالإنسانية سبب ولا نسب! وانظر إلى حال العالم وإلى حال القوى التي تسمى كبرى، وإلى المنظمات التي ترفع شعار الأمن والعدالة، فماذا تراها تفعل؟! إنها تشجب وتستنكر، ثم تنذر وتحذر، ثم تتصل وتجتمع، ثم تفكر وتخطط، ثم تريد أن تقرر، وبعد أن تقرر تفكر هل تفعل أو لا تفعل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود حتى إذا لم يبق حجر على حجر، ولم يبق روح في جسد، ربما تحركت هذه القوى والمنظمات! لماذا؟ لتقوم بدفن الموتى، وتدمير ما بقي من الخرائب، وإطفاء الحرائق التي ظلت مشتعلة. ولئن كان الأمر كذلك في البوسنة على فضاعته لم يمض عليه إلا هذه المدة اليسيرة مدة عامين، فانظر رعاك الله إلى فلسطين المسلمة التي ما تزال مأساتها تمتد عبر السنوات، فقد مضى عليها أكثر من نصف قرن أو نحو ذلك. انظر إليها وفي كل يوم مزيد من القتلى وعديد من الجرحى، وارتفاع في أعداد اليتامى، وتزايد في أعداد الأرامل والثكالى، وما زالت الأحداث تنبئنا بالمزيد، والليالي تحمل في طياتها الكثير والكثير، وكل ذلك نراه ونسمعه، ومع ذلك نرى من يشجبه ويستنكره، فيعجب المرء أي أمر قد بلغ في ديار الإسلام والمسلمين؟ وإلى أي مدىً قد بلغت الخسة والدناءة واللؤم والجرم في هذا العالم المنكود، غربيه وشرقيه، العالم الكافر الذي اجتمع من كل حدب وصوب وعلى كل ملة ودين ليوجه سهامه، ويصوب قذائفه على المسلمين العزل المستضعفين، ثم بعد ذلك يرمون المسلمين بتهم الإرهاب والتطرف والإجرام والترويع للآمنين؟! عجباً لهذه المقاييس المنتكسة، ولهذه الأحوال المنعكسة! والمرء يفكر مرة أخرى، ويعيد Q ماذا عسانا أن نزيد عما سمعنا ورأينا، ونسمع ونرى في كل يوم وفي كل آن؟ وهل نريد أن نزيد الجراح جرحاً والصراخ صراخاً؟ إننا نريد أيها الإخوة أن نعرف من هذه المآسي كثيراً من الأمور التي تنفعنا، والتي تبصرنا، والتي تصفعنا لنستيقظ من نومنا، وتدفعنا لنتحرك من عجزنا. إننا أيها الإخوة نتربى بأقدار الله عز وجل، فإن الأقدار الربانية تساق للمسلمين حتى يتعظوا ويعتبروا، فإنه ليس شيء في هذا الكون يجري عبثاً، وليس قدر من أقدار الله إلا وله حكمة بالغة يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها، فالدماء التي تسيل، والأرواح التي تزهق، والبيوت التي تحرق، والمساجد التي تهدم، كل ذلك يجري بقدر الله عز وجل لحكمة بالغة، فانظر رعاك الله إلى ما ينبغي أن تقرأ من وراء سطور هذه الأحداث، ولننظر ما الذي ينبغي أن نخرج به، وأن نعرفه وأن نستيقنه، وأن نتداوله فيما بيننا، وأن نشيعه في مجالسنا؛ حتى ننتفع ونستفيد، وحتى نتحرك ونمضي، ونبذل ونعمل، فقد كثر منا القول والكسل، وكثر منا المراء والجدل، وقل في صفوفنا التحرك نحو العمل.

الوعي بحقيقة الأعداء

الوعي بحقيقة الأعداء الوعي الذي نريد أن يرسخ في أذهان المسلمين من هذه الأحداث يقودنا إلى آفاق واسعة، فالأعداء لم يعد لهم ستار يستر عوراتهم، ولا شعار يغطي على أخطائهم، نريد أن يعرف المسلمون حقيقة أعدائهم بكل تفصيلها، ولئن غفلوا عن آيات القرآن التي أنزلها الله عز وجل لتعلمهم، فليتعظوا وليعتبروا بالأحداث التي تواجههم. انظر إلى حقيقة الأعداء في ولائهم وتجمعهم، أيقاتل صرب البوسنة وحدهم؟ قد جاء إليهم إخوانهم في الملة والدين ولاءً ونصرةً متطوعين من صربيا الكبرى، ومن (يوغوسلافيا) العظمى، ومن بلاد الروس. إنهم متوالون ومتجمعون، والله عز وجل قد نبأنا وعلمنا، ولكن غفلنا وجهلنا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وإن لم تكونوا مثلهم، وإن لم تفعلوا فعلهم: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)، وأي فتنة أعظم مما نرى؟! وأي فساد أشد مما نسمع ونرى؟! وانظر إلى حقيقة الأعداء في تواطئهم وتآمرهم! أين القرارات؟ وأين نتائج المؤتمرات؟ وأين هيبة المنظمات؟ وأين سمعة الدول الكبرى والعظمى؟ أين كل ذلك؟ إنه يمرغ تحت أقدام ثلة وحفنة من جنود الصرب، أفترى القوي لا يستطيع أن يردع أمثال هؤلاء؟! أفترى العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، أسلحةً تدك أقصى الأرض وأقصاها الآخر تعجز أن تؤدب مثل هذه الحفنة؟! إن الجواب لا يخفى على لبيب عاقل، إنه ذلك التواطؤ والتآمر الذي يبصرنا بحقيقة الأعداء، واحد يضرب، والثاني يشجب، والثالث يؤيد، والرابع يخالف، وتمضي القضية والنار تزداد اشتعالاً، والحرب تزداد نكالاً، وهذا التآمر والتواطؤ جزء من حقيقة الأعداء التي بصرنا بها كتاب ربنا، ونطق بها تاريخنا. وانظر إلى حقيقة الأعداء في إجرامهم وبغيهم، أين حقوق الإنسان؟! أين أنصار المرأة؟! أين حماة الطفولة؟! أين الذين ملئوا العالم ضجيجاً وعجيجاً وهم ينادون بهذه المبادئ الإنسانية، وبهذه المعاني التي خدعوا بها كثيراً من العقول؟! فهل ترى بغياً أشد من هذا البغي؟! وهل ترى إجراماً أفظع من هذا الإجرام؟! وهل ترى انسلاخاً من الإنسانية أشد وأظهر وأوضح وأفضح من هذا الانسلاخ؟! قوم يقتلون الصغار قبل الكبار، يسملون العيون، ويبقرون البطون، ويغتصبون الحرائر، ويفعلون الأفاعيل التي لا يفعلها حتى أخس الحيوانات وأشدها فتكاً. قوم قد ظهر بالدليل القاطع والبرهان الساطع أنهم هم المجرمون والإرهابيون، والذين تلصق بهم كل نقيصة تتبرأ منها الإنسانية: وحشية كشف الزمان حجابها لا بل أشد من الوحوش وأظلم الوحش يفتك جائعاً ويعف عن فتكاته إذ ما يعض ويطعم الوحش إذا أكل قام عن فريسته، وأولئك يمثلون بالجثث التي قد فارقت أرواحها أجسادها! إنهم قوم قد ظهر بغيهم وإجرامهم، فهل نحن في شك بعد ذلك من هذه الحقائق الواضحة البينة؟

الوعي بحقيقة الشعارات والمصطلحات التي يروج لها الأعداء

الوعي بحقيقة الشعارات والمصطلحات التي يروج لها الأعداء حقيقة أخرى مهمة: الوعي بحقيقة الشعارات والمصطلحات التي تروج بين الناس لتخدع عقولهم، ولتخطف أبصارهم، ولتضلل سعيهم، ولتحرف تصوراتهم! إنها القضايا التي يضحكون بها على الناس، ويروجونها بين المسلمين، إنها كما قال الرافعي الأديب: (الألفاظ الكبيرة تصنع للمسلمين ليتلهوا بها، لينشغلوا بها، فما يزالون يكبرون المصطلحات، ويرددون الشعارات، والمسلمون ينخدعون بهذه اللافتات). وينبغي لنا ومن هذه الأحداث أن نعي حقيقة هذه الشعارات، فانظر رعاك الله إلى المناطق الآمنة وهي في كل عشرين ثانية تنزل فيها قذيفة، إنها مناطق آمنة أصبحت في قمة الخوف والذعر والهلع. وانظر إلى قوات حفظ السلام وهي لا تستطيع أن تحفظ نفسها، وانظر إلى القرارات الدولية التي تمرغ تحت أقدام الجيوش الصربية، وانظر بعد ذلك إلى مصطلحات الإرهاب والتطرف، لترى أن الشعارات منعكسة، وأن الأسماء لا تتصل بالمسميات، وأن القضية وراءها ما وراءها. إذا وصف الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل وفاخرت الأرض السماء سفاهةً وفاخرت الشهب الحصى والجنادل وقال السهى للشمس: أنت كسيفة وقال الدجى للصبح وجهك حائل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل فينبغي أن نعرف حقيقة هذه الشعارات.

الوعي بضرورة القوة والثبات على المبادئ

الوعي بضرورة القوة والثبات على المبادئ وعي ثالث نحتاجه بحقيقة المبادئ والقوة، فإن الحق بلا قوة كالمتجر بلا باب، فأي تاجر يدع متجره مفتوحاً على مصراعيه، ويريد ألا يجترأ عليه أحد؟! إن اللحم المكشوف يغري بأن يلتهمه الملتهمون، وأن يعدو عليه الغاصبون، وإن الحق بلا قوة كالجسم العاري الذي لا يستر سوءته شيء. إن الأمر يظهر لنا عياناً بياناً. أن كل مبدأ وكل حق لا بد أن تكون له قوة تحميه؛ لئلا تنقلب الألفاظ فيكون الأمن خوفاً، والسلام حرباً، والحماية جناية، ولابد أن ندرك أن الحق لا يرهب أعداءه إلا أن يكون إلى جواره القوة التي يحسبون لها حسابها. من يستدل على الحقوق فلن يرى مثل الحسام على الحقوق دليلا ما أيد الحق المضاع كمنطق تدهي به شفة السلاح الأبكم

السنن الكونية في أحداث البوسنة

السنن الكونية في أحداث البوسنة أيها الإخوة! ننتقل إلى أمر مهم آخر، وهو: أننا نحتاج من هذه الأحداث أن نعرف سنن الله عز وجل التي تجري بها أقداره، ويمضي بها مشيئته سبحانه وتعالى، وقد بثها لها لنا في كتاب الله القرآن الكريم، فاعلم هذه السنن وتأمل فيها، ومن هذه السنن:

سنة الابتلاء

سنة الابتلاء سنة الابتلاء، قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. هل في الدنيا وفي البشرية أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم؟ تجمع الأحزاب من كل حدب وصوب، وأحاطوا بمدينة الرسول عليه الصلاة والسلام إحاطة السوار بالمعصم، واجتمعت شدة الخوف مع شدة الجوع مع شدة البرد، والوصف القرآني يصف حال المسلمين بأنه بلغت القلوب الحناجر، وبأنهم زلزلوا شديداً. هذه سنة ينبغي أن ندركها، فإن الطريق إلى مرضاة الله وإلى نصر الله طريق فيه ابتلاء، وتمحيص، فينبغي أن ندرك هذه الحقيقة: أما علمت أن طريق الخلد قد فرشت بالشوك ما فرشت ورداً ولا بسطا

سنة البلاء

سنة البلاء سنة البلاء سنة مربوطة بسلوك البشر، فإن الله عز وجل قد قال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165]. من أين هذا البلاء؟ من أين هذا العناء؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمٌ} [آل عمران:165]، تفقدوا أحوالكم، تفقدوا مجتمعاتكم، تفقدوا بيئاتكم، قارنوها بمنهج ربكم، فإنا نرى خللاً واضحاً، ونعرف السنة، وكيف يجريها الله عز وجل: فالذنب ذنب بني الإسلام مذ بعدوا عن منهج الله أضحى أمرهم فرطا قد خاصموا الله إذ خانوا شريعته وقل إنتاجهم إذ أكثروا اللغطا تفرقوا شيعاً شتى وأنظمة إذ لم يعد حبلهم بالله مرتبطا أليس هذا حال كثير من بلاد الإسلام إلا ما رحم الله؟ إذاً: فأي شيء نبحث عنه؟ وعن أي سبب نفكر؟ نريد أن نقول: إنهم الأعداء، وهل ينتظر من الأعداء غير العداء؟ لننظر إلى الأسباب في صفوفنا، وإلى الخلل في سلوكنا، فإن سنة الله عز وجل ماضية.

سنة قهر الأعداء

سنة قهر الأعداء سنة ثالثة لابد أن تكون منها على ذكر، وأن تكون منها على اعتبار واتعاظ وهي: سنة قهر الأعداء، فالله عز وجل يمهل للظالم ولا يهمله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، ويقول جل وعلا: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعض صحابته في الفترة المكية، وقد بلغ بهم العناء مبلغاً، واشتد الأذى إلى المنتهى، فقالوا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا، فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كان من قبلكم يوضع لأحدهم المنشار على مفرق رأسه فينشر حتى ينقسم إلى نصفين، ومنهم من كان يمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، فوالله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) إن العاقبة للمتقين ولا شك، وإن الدائرة على المجرمين ولا شك، فافقهوا سنة الله هدانا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والله نسأل أن يدفع عن إخواننا المسلمين الأذى، وأن يمن عليهم بالعفو والعافية، وأن يرزقنا وإياهم الصلاح والتقى، والعفاف والغنى. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

أسباب النصر

أسباب النصر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ويلتمس به رضاه، وإن من التقوى أن نشارك إخواننا في مآسيهم، وأن ننصرهم بما نستطيع، ويأتي السؤال الذي ذكرته، ما المطلوب منا؟ وأوجز ذلك في أمور مهمة.

الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى

الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى أولاً: إننا نريد أن ننصر إخواننا، وطريق نصرهم أن ننصر ديننا، وأن ننصر الله ربنا، وذلك أمر لا بد أن ندركه: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، انصروا الله في أنفسكم استقامةً وصلاحاً انصروا الله في بيوتكم طهارةً ونقاءً انصروا الله في بيئاتكم ومجتمعاتكم أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر انصروا الله في كل لحظة من لحظات حياتكم في كل حركة من حركات جوارحكم، فهذا هو الطريق إلى النصر، وإن طالت مسافته، ولا طريق غيره: للنصر قانون والله فصله لا تحسب النصر يأتي الناس معتبطا من ينصر الله ينصره فلا أمل في النصر إلا لمن وفى بما اشترط

الصبر

الصبر الأمر الثاني: الصبر الصبر، فإن الصبر أمر عظيم نحتاج أن نوطن النفوس عليه، وانظر إلى ما خاطب الله به رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، صبر معه يقين، فينبغي أن نصبر، وألا يقودنا البلاء إلى اليأس والقنوط، وألا يقودنا إلى أن نخرج عن طورنا وأن ننسى منهج ربنا سبحانه وتعالى أخي قد أصابك سهم ذليل وغدراً رماك ذراع كليل ستبتر يوماً فصبر جميل ولن يدمَ بعد عرين الأسود

العمل والبذل

العمل والبذل الأمر الثالث: نحتاج إلى العمل والبذل، بكل ما نستطيع، فينبغي أن نعمل لنصرة هذا الدين، ولو بشق تمرة، ولو بقليل من المال، ولو بلسان حسن منطقه؛ لنعلي راية الحق، ولننصر دين الله عز وجل في كل ميدان من الميادين، هناك فسحة للعمل فأين العاملون؟ وهناك طرق للبذل، فأين الباذلون؟ لئن عجزنا أن نبذل القليل، فنحن عن الكثير أعجز، ولئن لم ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا، وراحتنا ونوم عيوننا، وملء بطوننا، فكيف نريد أن ننتصر لنكون مجاهدين نضحي بأرواحنا؟! إننا نحتاج إلى أن نعمل ونبذل في دائرتنا حتى نظهر هذه التربية في أنفسنا، ولنعلم أن القوة والبذل والجهاد والفداء والتضحية عربون من عرابين النصر، وطريق من طرق العزة عهداً على الأيام ألا تهزموا النصر ينبت حيث يرويه الدم وطن يقسم للدخيل هدية فعلامَ يحجم بعد هذا محجم

التضرع إلى الله بالدعاء

التضرع إلى الله بالدعاء الأمر الرابع: الدعاء الذي غفلنا عنه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، إننا لم نعد على صلة وطيدة بربنا، لم يعد ندعوه كلما حزبنا أمر، ونفزع إليه كلما أدلهمت في وجوهنا الخطوب، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]. هذا هو هدي القرآن، فأين الدعاء الذي نرفعه إلى رب السماء في الأسحار قبل الفجر؟ أين الدعوات الصادقة أن يوفقنا الله أن يهدينا أن ينصرنا أن يوحد شتاتنا وتفرقنا أن يقوي ضعفنا ويزيل عجزنا؟ إننا نريد ونحتاج أن ندرك أن الدعاء عمل إيجابي وليس حيلة العاجز، فالدعاء استنجد به النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر؛ فنزل النصر، ودعا به في يوم الأحزاب؛ فتفرق الأعداء، والله مجر سنته، وممض حكمته، ومثبت منهجه سبحانه وتعالى، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وادعوا الله وقد قدمتم أسباب البذل والعمل، والاستقامة والصلاح، ينزل الله عليكم النصر من حيث لا تحتسبون، أو نظن أننا سننتصر على أعدائنا بمكرنا وكيدنا، بعقولنا وتخطيطاتنا، بقواتنا وأسلحتنا، خاب إذاً والله سعينا! لابد أن ندرك أننا لن ننتصر إلا بدعاء ربنا بعد أن نبذل الأسباب، ولابد أن نلجأ إلى رب الأرباب سبحانه وتعالى فيارب هب لي منك صبراً ورحمةً ويا رب حببني بما فيَّ تكتب ويا رب زدني عنك فهماً لمحنتي وثبت يقيني فيك فالقلب قُلَّب وزدني إحساناً بما أنت أهله وحسن فعالي أنت نعم المؤدب وأنزل على قلبي الجريح سكينة وأحسن ختامي ليس لي عنك مذهب

الثقة بالله

الثقة بالله لابد لنا من الثقة بالله، تلك الثقة التي أنطق الله بها موسى عليه السلام يوم جاء فرعون من ورائه والبحر من أمامه: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال الواثق بالله عز وجل، الواثق بنصره الماضي على منهج ربه: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، ويوم قال أبو بكر في الغار: والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، فنحن نحتاج إلى أن نثق بالله وبوعد الله سبحانه وتعالى. وإني على ثقة من طريقي إلى الله رب الثناء والشروق فإن عافني الشوق أو عقني فإني أمين لعهدي الوثيق فالله نسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب! اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة! اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرور أنفسنا! اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً. اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية! اللهم فرق كلمتهم، ودمر قوتهم، واستأصل شأفتهم! اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المستضعفين، اللهم رحمتك بالمشردين والمبعدين، اللهم رحمتك بالمعذبين والمضطهدين، اللهم رحمتك بالأسرى والمسجونين، اللهم رحمتك بالأطفال الرضع، اللهم رحمتك بالشيوخ الركع، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، اللهم رحمتك بالنسوة الثكالى، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم! اللهم زدهم مع الإيمان يقيناً، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء! اللهم اجعل ما قضيت عليهم من بلاء تثبيتاً لهم وزيادةً في اليقين، ولا تجعله اللهم فتنةً لهم في الدين، يا قوي يا عزيز، يا رحمن يا رحيم! اللهم عجل فرجهم، وقرب نصرهم، وفرج كربهم، وأزل غمهم، وآنس وحشتهم، وسكن عبرتهم، وسكن لوعتهم، وامسح عبرتهم يا أرحم الرحمين! اللهم كثر الأعداء، وقل النصراء، ولا حول ولا قوة لنا ولا لهم إلا بك يا أرحم الراحمين! اللهم إنه ليس لها من دونك كاشفة، اللهم فاكشف عنا العذاب إنا عائدون، اللهم إنا نسألك أن تجعل هذه الأحداث للمسلمين عبرةً وعظةً يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا، وأن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين! اللهم احفظ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

إغراق وإشراق

إغراق وإشراق أصل الإنسان من شقين اثنين: مادي أرضي، وروحاني علوي، ومن هنا كان لكل شق ما يناسبه من غذاء، وما يهذبه من أحكام، فغذاء البدن من جنس الأرض، أي: مما يخرج منها من الحبوب والثمار، وغذاء الروح من جنس خلقتها وهو الغذاء الرباني من وحي الكتاب والسنة، ومن هنا لابد من التوازن بين هذين الأمرين بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فيعطى الجسم حقه من الغذاء، وتعطى الروح حقها من الغذاء، حتى لا يكون هناك إفراط أو تفريط.

مقدمة عن الإغراق المادي والإشراق الروحاني

مقدمة عن الإغراق المادي والإشراق الروحاني بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على جزيل نعمه، ووافر عطائه وعظيم كرمه ومنه سبحانه وتعالى، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، ونحن معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين. أما بعد: فإن موضوع (إغراق وإشراق) تفصيله إغراق المادية وإشراق الروحانية. والحقيقة أن هذا الموضوع متعدد الجوانب، وفيه كثير من المتاعب، وكذلك فيه دقة وتأكيد على صواب ينبغي أن يخلص من خطأ لا يطغى على الصواب، فهو لذلك كنوع من استخلاص شيء مشتبك بأشياء أخرى كثيرة، ومن هنا لابد من أن يكون التعبير والنقل والبيان واضحاً وجلياً؛ لئلا يكون هناك التباس في فهم أو خلط بين قول وقول. وتقدمة لهذا الموضوع فإننا نعلم جميعاً أن هذا الإنسان مخلوق من قبضة طين ونفخة روح: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28 - 29]. فأصل الإنسان من هذين الشقين، وبالنظر إليهما نجد أن أحدهما شق مادي أرضي، والآخر شق روحاني علوي، ومن هنا كان لكل شق ما يناسبه من غذائه وما يهذبه من أحكامه، فغذاء البدن من جنس الأرض والطين الذي خلق منه من الزروع والثمار والحيوانات والطعام والشراب مما سخر الله سبحانه وتعالى ويسر في هذه الأرض. وكذلك الأحكام تناسب هذا البدن، فنجد قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ونجد الأحكام التفصيلية تراعي مثل هذا: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً، فإن لم تستطع فعلى جنب). وإذا نظرنا إلى الشق الثاني فإننا نجد أيضاً أن غذاء الروح هو أيضاً من جنس خلقتها؛ لأنها كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، فلما كانت هي من أمر الله ومن سر الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق وهذا الوجود فكذلك غذاؤها لا يكون إلا من جنس أصل خلقتها، فهو غذاء رباني من وحي الله سبحانه وتعالى ومن كتاب سبحانه وتعالى، ومن التعلق بالله سبحانه وتعالى، ومن المحبة لله سبحانه وتعالى، إلى آخر ما هو معلوم في هذا الباب مما سيرد ذكر بعض منه بعون الله تعالى. وكذلك أحكامها إن تأملنا فسنجد أنها تناسب هذا الأمر وتتوافق معه، فليست فيها تلك الأحكام المادية البحته، فإن أمر الرؤى والأحلام، وإن أمر الكشف والإلهام، وإن أموراً مما يلحق بهذا لها حكم يتناسب معها ليس آخذاً صفة المادية البحتة، بل هو مواكب وموافق للروحانية. ومن هذا المنطلق عندنا جانبان: الجانب المادي، والجانب الروحي. فالإغراق في المادية يطفئ أنوار الروحانية، والغلو في الروحانية يغلق الناحية البدنية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. والتوسط هو الهدي المستقيم، وهو الشرع الحكيم الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم. وهذا كلام مجمل يوضح المعنى الإجمالي لهذا الموضوع الذي نتحدث عنه، ولذلك قال العلماء من أمثال ابن القيم وابن تيمية كلاماً في مثل هذا الشأن يوضح هذه المقدمة ويبينها. فـ ابن القيم على سبيل المثال يقول: اللذات ثلاث: لذة جسمانية، ولذة خيالة وهمية، ولذة عقلية روحانية. فأما اللذة الجسمانية فهي لذة الأكل والشراب والجماع، ويشترك فيها الإنسان والحيوان، وتحصيل هذه اللذة لا يؤدي إلى كمال الإنسان؛ لأن أنقص الحيوانات يحصلها. فلو كان كمال الإنسان بكثرة الطعام والشراب والمبالغة أو المسابقة في هذا الشأن لكان كلما ازداد في هذا الشأن كلما اتصف بالحيوانية، بل بأدنى مراتب الحيوانية؛ لأن من الحيوانات الوضيعة ما يكون في هذا الجانب مبرزاً أو سابقاً. وأما اللذة الوهمية الخيالية فلذة الرئاسة والتعاظم على الخلق. ويقصد بها ما يتعلق بالنفس من الأمراض من عجب أو تكبر، ففيها لذة في حقيقة الأمر، وفيها نوع من الفرح والسرور، وفيها نوع من حصول طمأنينة النفس المتوهمة، أو استقرار يظنه صاحبه كذلك، ولكنه على الحقيقة ليس كذلك، وقد فقه أهل الإيمان ذلك، ومن ذلك مثال يذكره ابن القيم عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه مشى مرة فمشى خلفه بعض الناس، فقال: هل لكم من سؤال تسألونه أو حاجة تطلبونها؟ قالوا: لا. ولكنا أحببنا أن نسير معك -موكب وحفاوة ونوع مما نسميه نحن البهرج والاتباع والالتفاف- فقال: لا تفعلوا؛ فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع). ذلة للتابع لا تتناسب مع كرامة الإنسان، وفتنة للمتبوع يستعلي بها على الخلق، ويظن أنه قد ارتقى مرتقىً لا يبلغه أحد، وهذا من سفه العقل ومن حمق الإنسان، حينما يظن أنه من الممكن أن يفارق البشر ويرتفع عنهم بشيء مما يتعلق بهذه التوهمات والتخرصات. ولذلك كان عتب أهل العلم والإيمان ونقدهم في هذا الباب جميل وقوي، فهذا أحدهم يقول حينما رأى أحد الأمراء وهو يزدهي ويفتخر فقال: علام هذا؟ ما أنت في أولك إلا نطفة مذرة، وفي آخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بينهما تحمل العذرة. أي: الفضلات. أكرمك الله. فلا موجب للتكبر، والقرآن بين هذا بياناً شافياً، فقال سبحانه وتعالى في شأن المتكبر: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]. مهما مشى المتكبر فله مشيتان: إما أن يدك الأرض دكاً، وإما أن يترفع فيمشي كالطاووس منتشياً على أطراف أقدامه. والقرآن بين أنك مهما بالغت في هذه المشية فإنك لن تخرق الأرض، ومهما بالغت تطاولاً فإنك لن تبلغ الجبال طولاً، فلتعرف قدرك. ولذلك قال أبو العلاء المعري: خفف الوطأ ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد يعني: على مهلك عندما تمشي؛ فإن هذه الأرض غداً ستكون أنت من ترابها الذي يوطأ. فإذاً هذه لذة قال عنها ابن القيم رحمة الله عليه: وطلاب هذه اللذة أشرف نفوساً من طلاب الأولى، ولو أنهم ليسوا على الكمال المطلوب، لكن آلامها أعظم من التذاذ النفس بها؛ لأن صاحبها قد نصب نفسه لمعاداة كل من تعاظم عليهم، فهذا يغتابه، وهذا يحسده، وهذا يتربص به، وهو في ذلك على خوف على نفسه ونحو ذلك مما لا يحقق لذة من اللذة التي يطلبها العبد. وأما اللذة العقلية الروحانية فهي لذة المعرفة والعلم والاتصاف بصفات الكمال، من كرم وجود وعفة وشجاعة وصبر وحلم ومروءه ومعرفة الله ومحبته. قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا طيب نعيمها. فقيل له: وما هو؟ قال: محبة الله والإنس به والشوق إلى لقائه ومعرفة أسمائه وصفاته. فهذه اللذة هي التي يسعى الإنسان إلى الكمال فيها ويسعى إلى تحصيلها، وهي التي بها يقع التوازن ويقع العلو والشرف للإنسان، وسيتضح هذا حينما نفصل الآن المدرستين أو الجانبين، سنتحدث عن إغراق المادية وصورها، ثم عن إشراق الروحانية وصورها، وفي كل يقع خلل بين غلو وتفريط وبين إجحاف وإفراط، لأن هذا هو حال ما يقع فيه الالتباس حينما لا يكون الإنسان ملتزماً بنهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إغراق المادية وما نتج عنه من مدارس

إغراق المادية وما نتج عنه من مدارس المادية متعلقة بالجسم، ومتعلقة كذلك بقوة بدنية تتمثل في الطعام والشراب وقوة الجنس ونحو ذلك، وقوة عقلية تتمثل في الفكر والتأمل وحل المعضلات ونحو ذلك، وقوة هي نوع من التعامل مع المواد والحوادث والوقائع التي تخرج عن دائرة ذات الإنسان. فهناك نتج عن الإغراق في المادية ثلاث مدارس نحتاج أن نمر على بعضها مروراً سريعاً لوضوحها، وبعضها يحتاج إلى شيء من التفصيل. فنشأت المدرسة الإباحية، والمدرسة المادية، والمدرسة العقلية.

المدرسة العقلية حقيقتها والآثار المترتبة عليها

المدرسة العقلية حقيقتها والآثار المترتبة عليها المدرسة الثالثة -وهي التي يطول الحديث فيها- المدرسة العقلانية التي بالغت في حد العقل ومكانته حتى بلغت به أن يكون في منزلة الإله، أو بلغت به أن يكون هو الذي يحكم كل شيء ويوجه كل شيء، حتى جعلت العقل حاكماً على الشرع، وهذا من أعظم الفساد وأكثر المزالق التي ضلت فيها فرق كثيرة، والتي حينما ابتليت بها الأمة وقع فيها من الخلل ومن الزيع -بل ومن الكفر والخروج من الملة- ما هو مشهود له في وقائع كثيرة. وهذا الأمر يحتاج إلى بعض التفصيل؛ لأن الأمرين السابقين أحسب أن صورتهما واضحة سواء من الإباحية أو من المادية التي ذكرناهما، ذلك كله ظاهر، لكن مسألة العقلانية تطوف بالعقول أكثر، والتلبيس فيها أكثر. فإذاً هذه الصورة هي المهمة نقف عندها ونسرد أولاً أقوالاً تبين لنا ما قال هؤلاء العقلانيون إن صح التعبير نسبة إلى العقل الذي بالغوا في تقديره، وإن كانوا في حقيقة الأمر خالفوا مقتضى تفكير العقل؛ لأن العقل من حسن تفكيره وتدبيره أن يعرف حدوده، وأن يعرف مدخله ومخرجه، فالإنسان إذا كان له تخصص معين ثم يدخل في كل تخصص ويريد أن يبدع في كل تخصص فإنه يخلط، أو يأتي بحق وصواب، أو يوفق إلى بعض الصواب ويخطئ في كثير، فلا يقال عن مثل هذا: إنه مصيب. بل يقال: إنه أخطأ؛ لأنه تجاوز الحد. فهؤلاء عقلانيون باعتبار أنهم تكلموا في مسألة العقل، لا باعتبار أن عقولهم هي الراجحة أو الكبيرة، وإن كانت كذلك في ذات الأمر، لكنها في آخر الأمر انقلبت على ذاتها. فنذكر أقوالاً تبين صورة موجزة لهذا الأمر، فمن هذا قول الزمخشري صاحب الكشاف في مسألة العقل، يقول: امش في دينك تحت راية السلطان -ويقصد به سلطان العقل- ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه. هذا القول يعني: سر في دينك تحت سلطان العقل، واترك الرواية عن فلان وفلان، لا تقنع بها بل حاكمها إلى العقل، فإن اقتنع بها عقلك وإلا فالتمس لها مخرجاً أو تأويلاً. والغزالي القديم أيضاً يقول في تعليق على قول الله سبحانه وتعالى في خطابه للسماوات والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] يقول الغزالي: فالبليد في فهمه هو الذي يقدر لهما حياة -يعني: للسماوات والأرض- يخلقها الله للسماء والأرض، وعقلاً وفهماً للخطاب، وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض فتجيبان بحرف وصوت وتقولان: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، هذا البليد والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال، وأنه أنبأه عن كونهما مسخرتين بالضرورة. أقول: هذا الفهم الذي هو ظاهر النص والقرآن وجاء باللغة العربية، كما قال تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]. كل هذه الدلالات تدل على أن ظاهر لفظ القرآن يحمل على الحقيقة، إلا أن توجد القرينة القوية المستدل بها من النصوص الأخرى على أن المعنى مفسر بقول آخر. فهو يقول: البليد الذي يظن أن هذا المعنى الظاهر هو المراد، والبصير هو الذي يفهم أن هذا أمر معنوي وليس حسياً. وسنبين الخلاصة بعد سرد بعض هذه الأقوال أيضاً، وستجد -أيضاً- من المتأخرين من يرى مثل هذا. فـ محمد عبده يقول: الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل العلم، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي وغيره يأتي بعده. ويقول: تقرر بين المسلمين كافة -إلا من لا ثقة بعقله ودينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل، كالعلم بوجود الله سبحانه وتعالى. وهذا طبعاً خلاف الصحيح. ثم أقوال أخرى دخلوا فيها مدخلاً صحيحاً وخرجوا مخرجاً خاطئاً، دخلوا من مدخل تكريم الإسلام للعقل، ودعوة للتأمل في القرآن والتدبر والتفكر وإعمال العقل، دخلوا من هذا المدخل، ثم خرجوا منه إلى أن العقل هو الحاكم، ولذلك أولوا كثيراً من النصوص، مثل إمداد الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين بالملائكة، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فيقول الواحد منهم في تفسير له: إن هذا الإمداد أمر روحاني يؤثر في القلوب، وليس هناك ملائكة نزلت ولا غير ذلك. انظر إلى النظرية العقلية المادية البحتة! ثم يقول: المسلمون في بدر كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والكافرون كانوا قريباً من ألف، فلو نزلت الملائكة وكان كما ورد في الروايات أن أحدهم يقول: إني كنت أرفع سيفي فإذا بالكافر أو المشرك يقطع رأسه ويموت قبل ذلك، فإذا كانت الملائكة نزلت بكثرة فمعنى هذا الكلام أن الانتصار أصبح فيه نوع من التكافؤ، وهذا لا يكون، بل الانتصار كان بقوة الروح. ومن هذا التوهم يأتي مثل هذا الكلام، وعلى هذا فقس. كذلك حينما يأتي قول الله سبحانه وتعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]، يقولون: هذا للتسخير ونحو ذلك. إذاً فما ورد من تسبيح الطعام بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وما ثبت أيضاً في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة وخرج مرة فما مر بشجر ولا حجر إلا وهو يسلم عليه إذا قلنا بهذا القول فإن معظم ما ورد سيكون غير واضح الدلالة، أو دلالته غير مرادة. وهذا لا شك أنه إخراج للنصوص عن مرادها الظاهر والواضح. هذه المدرسة مشكلتها أنها وصلت إلى حد خطير، وهو رد النصوص، فتجد من هؤلاء من ينكر كل نص وإن ثبت إذا كان يرى أنه مخالف لمقتضى العقل. أقول: أولاً: أي عقل هذا الذي نريد أن نجعله حكماً؟! فعقلي غير عقلك وعقل الثاني غير عقل الثالث. ثانياً: هذا الدين جاء لكل الناس، للعامي البسيط، وللعجوز الشمطاء التي لا تعرف ولا تبصر ولا تدرك من الأمور كثيراً، وللطفل الصغير، فلو قلنا: إن هذه المكانة للعقل بهذا التدبر والتفكر وهذا الإمرار للنصوص على العقل يحكم فيها فإننا سنجد أن هذا لا يتحقق إلا في فئة من الناس لا يتجاوزون نسبة ضئيلة، والآخرون كيف سيكون حالهم؟! هل سيكونون كلهم من البلداء؟! وهل سيكون مثل هذا الوصف يلحق بمن كانوا من أهل الإيمان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين، وهم من سيأتي ذكر كثير من قولهم في الشق الثاني من الموضوع؟! A ينبغي أن يكون هناك تدبر وتأمل، ومن هنا اقتضى هذا الإسراف في هذا الجانب. وعلماء أهل السنة ردوا على هذه القضية في ردود كثيرة، كان أوسعها وأعظمها وأدقها كلام الإمام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل) هذا كتاب كامل في هذه المسائل، ربما نوجز بعض ما أشار إليه، ونذكر بعض القضايا اليسيرة قبل أن نذكر كلام شيخ الإسلام رحمة الله عليه. إن الناس يسلمون بمحدودية الحواس الأخرى، ومن هذا المدخل تكون إحدى الحجج على العقلانية، فمثلاً: كل الناس مسلمون بأن البصر والنظر محدود، ونحن الآن في هذا الهواء والفراغ هناك كائنات وهناك ميكروبات وهناك فيروسات لا نراها، فهل عدم رؤيتنا لها يجيز لنا أن ننكر وجودها وأن نرفض وجودها؟! وهل عدم العلم هو إثبات للعدم؟! هل أنت إذا لم تعلم أن هناك -مثلاً- إنساناً خارج الغرفة التي أنت فيها هل ذلك دليل على عدم الوجود؟ A لا. فالآن أنت ببصرك هل ترى كل شيء؟ الجواب: لا. حتى السمع معروف أن له ذبذبات معينة من كذا إلى كذا يسمعها الإنسان، إذا زادت عن هذا الحد لا يسمعها، وإذا نقصت عن هذا الحد لا يسمعها، ومن ذلك الحديث الذي في عذاب القبر أن المعذب يصرخ صرخة يسمعها كل من في الأرض إلا الثقلان الإنس والجان، ثم كذلك هناك أشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وهذه المسميات أيضاً لا يراها الناس، هل أنكروا وجودها أم قالوا: نعم هي موجودة عرفناها يقيناً من جهة أخرى، وما لم نعرفه أيضاً نسلم بأن هناك ما هو أدق وما لم يزل بعد حتى بالأجهزة والإلكترونيات والمجاهر ما وصلنا إليه؟ إذاً أنتم جعلتم للبصر حداً محدوداً وللسمع حداً محدوداً، وقلتم: نوقن بهذه الحواس وبقوتها، لكننا نعلم أن لها حداً لا تستطيع أن نتجاوزه إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي مما يسر الله سبحانه وتعالى كالمكبرات وغير ذلك من الأمور، إذاً لماذا لم نقل ذلك في موضوع العقل، وأن له حداً إذا زاد عنه لا يستطيع أن يصل إلى هذا الحد إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي الوحي المبلغ للناس من الله سبحانه وتعالى؟! فكل ما هو في إطار الغيب خارج عن حدود العقل لا يمكن للعقل أن يدركه إلا بمساعد، وهو الوحي الذي يبين له إجمالاً وتفصيلاً ما ورد عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم به، وإلا فإنه يكون أيضاً منافقاً، كيف سلمت بحد الحواس كالبصر والسمع وتركت الأخرى، ولو قلنا: العقل يدرك كل شيء فكيف سنفهم كثيراً من الأمور؟ حتى الأشياء الممارسة في الحياة اليومية كثير منها نجد أن الناس يسلمون بها من غير تحكيم للعقل، فكيف يكون هذا فيما وراء ذلك من الأمور الشرعية؟! إنك تتصور بعض الأمور الغيبية، مثل عذاب القبر، أو نعيم القبر كما ورد في الأحاديث الصحيحة: (فيفسح له في قبره حتى يكون مد بصره) إن أخذتها بالعقل فإذاً كيف سيصنع هذا القبر بجيرانه؟! وكذلك كما في الحديث أنه يجد من ريحها ونعيمها، وفي الحديث أنه يجد من حرها وعذابها، فلو تجاورا هل ينتقل نعيم هذا أو برد هذا إلى حر هذا؟ بالعقل ستتعب في هذا التفكير، كذلك لو فكرت بالعقل في كثير من القضايا الغيبية لا يمكن أن تصل فيها إلى جزم، وإلغاؤها نوع من تكذيب الشرع، أو نوع من الطعن في تبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نوع من خفاء الوحي وخفاء الدين على كثير من الناس، والأصل أنه جاء تبياناً لكل شيء، وأنه واضح لكل إنسان، وأنه جاء للعالم والعامي وغيرهما، وهذ

المدرسة الإباحية حقيقتها وآثارها السلبية على الفرد والمجتمع

المدرسة الإباحية حقيقتها وآثارها السلبية على الفرد والمجتمع المدرسة الإباحية أصحابها هم الذين جعلوا همهم في اللذة الأولى، لذة كمال الجسم المادي بالطعام والشراب وإطلاق العنان للغرائز والشهوات، وهذا الجانب عند التأمل نجد أنه حينما يسير الإنسان وراءه مندفعاً بشهواته غير منضبط بشرع ولا بحكمة ولا بعقل ولا بتوسط واعتدال فإنه ينشأ عنه صورة مرذولة قبيحة، لها من الأضرار شيء كثير، ومن ذلك أننا نستطيع أن نضرب الأمثلة من واقع الحال، فنجد أن الإباحية المطلقة التي نادى بها وطبقها الغرب كم أنتجت من صور تقشعر لها الأبدان، وتجفل منها القلوب، وتشمئز منها الفطر السليمة. فإذا نحن نرى شيوع الفاحشة من الزنا بأمر لا يخطر على العقل كثرة، ولا يخطر على العقل مما يقع معه مصاحباً للجريمة أو الاعتداء أو نحو ذلك، مما يهدد حياة الناس كما يتضح من سلسلة الآثار. وكذلك تجاوز هذا الأمر إلى عدم الاكتفاء بالصورة التي يعرف أن النفس البشرية أصلاً مفطورة مجبولة عليها، فتعدى الأمر الفواحش إلى الشذوذ، وصار هناك -أيضاً- باب واسع من هذه الأبواب في الشذوذ المعروف، بل تجاوز الأمر ذلك إلى الانطلاق في ممارسة الفواحش مع المحارم والأبناء والبنات والأخوات والأمهات، وتجاوز الأمر كل ذلك -رغم هذه الإباحية- إلى حصول الأمر بنوع من الاعتداء والاغتصاب والجريمة، وصاحب كل ذلك نوع من الأمور التي لها آثار سيئة جداً من انتشار المسكرات والمخدرات، وانتشار الجريمة بكل صورها إلى القتل في أعظم صوره. كل هذا صورة ظاهرة لهذه المدرسة الإباحية، وتجد الإحصاءات والأرقام شيئاً عجيباً جداً. فعلى سبيل المثال: من الإحصاءات -وليست جديدة- في أوائل الثمانينات في أمريكا ما بين اثني عشر إلى خمسة عشر مليوناً يمارسون الجنس مع المحارم، وهناك نحو سبعة عشر من المائة من المواطنين الأمريكيين يمارسون الشذوذ. وهناك أعداد كبيرة لا حصر لها تمارس الفاحشة والزنا والحرام؛ لأنه ليس عندهم بمحرم، إضافة إلى ذلك تجد مثلاً بلداً مثل السويد -وهو من أعظم الدول إباحية- تصل فيه النسب إلى شيء مهول، نتج عن ذلك آثار كثيرة جداً يهمنا منها بعض الآثار المهمة، وهي إطفاء نور القلب، وطمس معالم الفطرة السوية، فهؤلاء القوم ليس عندهم فرق بين عيب، ولا عندهم في قاموسهم العيب ولا الحياء، فضلاً عن الكراهة أو الحرمة، كل ذلك زال، والنفس البشرية من فطرتها ما ذكره الله سبحانه وتعال: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121]، فطرة الإنسان أن يستر عورته فضلاً عن أن ينطلق في هذه الميادين البهيمية. هذا كله كان متجرداً في هذه المجتمعات، فحصل هذا الأثر الأول، وهو انطماس الفطرة السليمة، وانعدام كل معالم القيم التي تقرها الفطر والعقول فضلاً عن الديانات أو الأنظمة التي وضعها حتى البشر من ذات أنفسهم. وهذا جانب واضح آثاره المادية كثيرة جداً، ومنها انهيار شديد جداً في البناء الأسري، وعزوف كبير جداً عن الزواج، وملايين من الأطفال من اللقطاء. ومن الآثار المادية التي تترتب على هذا أن اللقطاء -مثلاً- يحتاجون إلى أموال ومؤسسات ودور وجوانب أخرى كالأمن وغير ذلك. أضف إلى ذلك الآثار الصحية المعروفة، من انتشار الأمراض المهلكة والأوجاع التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها لم تكن في أسلافهم، وهذا كله شاهده آية واحدة في القرآن، تبين لنا بياناً شافياً كل الآثار التي يقع فيها الناس عندما يتنكبون طريق الله سبحانه وتعال، وهي قوله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، وهذا التعبير القرآني قوي وأصيل وبليغ، معيشة ضنك، والضنك هو ضيق في النفس، وضيق في المال، وضيق في الصحة، أمر لا يفارق الإنسان، يصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته. ولو تصور الناس ما يدعو به بعض الناس في مجتمعات المسلمين أن هذا هو الذي يحقق سعادة النفوس، ويحقق للناس انفتاحاً وانعتاقاً مما يسمونه كبتاً أو عوائق لكان أجدر الناس بأن يحصلوا على هذه اللذات المتوهمة وهذه الخيرات المفتعلة هم هؤلاء القوم، ولكنا نجد أنهم في شقاء نفسي معنوي ظاهر، يظهر في انتحارهم ويظهر في اعتدائهم، ويظهر في أقوالهم التي تبين حيرتهم المطلقة، رغم أن كل أسباب المادة من طعام وشراب وجنس ونحو ذلك ما تركوا منه شيئاً إلا وأخذوا بأوفى وأعلى حظ منه، ومع ذلك ما يزيدهم الأخذ في هذا الشأن إلا زيادة في ضنك العيش مرة بعد مرة، وهذا شاهده قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، لا يتخلف هذا الأمر وإن اختلفت صوره أو ألوانه. هذا ما يتعلق بإيجاز بالنسبة للمدرسة الإباحية.

المدرسة المادية حقيقتها وآثارها السلبية وأصناف الناس فيها

المدرسة المادية حقيقتها وآثارها السلبية وأصناف الناس فيها المدرسة المادية هي التي تجعل حساب المادة حساباً وحيداً، فإذا جاءت في قاموس المواجهة والنصر والهزيمة حسبت عدتها من العتاد والسلاح والعدة وغيرها ثم قالت: لا يمكن. وإذا جاءت في مسائل معتادة للناس أخذت بالأسباب، وجعلت هذه الأسباب المادية هي وحدها الحكم، ونسيت ما وراء ذلك من قدر الله سبحانه وتعالى، من نصر الله سبحانه وتعالى، من دفع الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك أدلته في القرآن واضحة. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم} [محمد:7]، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]. فالماديون -للأسف- تغلغلت أفكارهم حتى في مجتمعاتنا، أصبح الناس الآن إذا قيل: قوى عظمى خافوا، وإذا قيل: لا نستطيع مسألة من المسائل قالوا: هذا لا يمكن. وكذلك المريض أخذ الطب وسيلة وحيدة لا يوجد غيرها، لم يكن عنده نوع توكل على الله، ولا نوع اتجاه إلى الله، ولا نوع سؤال لله سبحانه وتعالى. وكل هذه المثالب أو هذه المشكلات يجمعها مثلب واحد ونقيصة مهمة، وهي أن هذا النوع من الانطلاق يلغي شيئاً مهماً في حياة البشرية كلها، وهو وصف العبودية للخلق، ووصف الألوهية والربوبية لله سبحانه وتعالى. وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن كل نقص في الإنسان يقابله كمال عند الله سبحانه وتعالى، ليبقى العبد دائم الافتقار لله جل وعلا، فقد ركبت أيها العبد من العجز لتنظر إلى كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى كمال غنى الله سبحانه وتعالى. فإذا أخذ الإنسان بأسباب المادة وقع في هذا، ومثال ذلك من القرآن قصة قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]. أي: ليس هناك فتح ولا تيسير ولا توفيق ولا رعاية ولا عناية من الله سبحانه وتعالى. فكانت النتيجة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، فكل من أخذ بأسباب المادة وحدها وقطع أسباب الله سبحانه وتعالى فإنه يكون مصوراً لصورة قبيحة، وهي انفصال العبودية عن الإلهية، أو أن هذا الإنسان أصبح مستقلاً بذاته غير مفتقرٍ -عياذاً بالله- إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى. ولذلك المؤمنون حينما كان يخالطهم بعض اعتماد -ربما كان فيه زيادة عن الحد المطلوب- بقوتهم كان العقاب يأتيهم والتربية تأتيهم من الله سبحانه وتعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] فقط كلمات قالوها، قالوا: (لن نغلب اليوم من قلة). هذه الكلمة فقط، لكن لأنهم كانوا على الإيمان والكمال فكان كل يسير من التقصير يعاقبهم الله سبحانه وتعالى عليه، ويربيهم بما يقدرون عليه من البلاء، حتى يعلم أثر هذه الأمور في حياة الناس، ومشكلة الناس اليوم أنهم يرتبطون بأسباب المادة وينسون أسباب السماء في كثير من الأحوال والوقائع. فنجد هنا هذا المعنى حينما ينقطع الإنسان عن هذه الأسباب الإلهية، يلغي هذا الجانب من العبودية الذي هو حياة الكون كله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وهذا الإنسان هو الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فغاية هذا الكون كله هي عبوديته بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فإذا اعتمد على المادة ونسي أسباب السماء فكأن هذا نوع الغاء للعبودية، ونوع اجتراء على إلاهية الله سبحانه وتعالى، وكون كل أسباب الدنيا والآخرة بيده جل وعلا، ولذلك قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، فمباشرة جاء العقاب من الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر. والله جل وعلا قال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، الربط بالسبب الذي هو نوع من التعلق بالله سبحانه وتعالى، إما موافقة لأمره أو تخلفاً عن أمره، فلما كان تخلفهم عن أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام في أُحد بشيء يسير أو بأمر واحد جاءت العقوبة من الله سبحانه وتعالى. وهذا لا يكون إلا عندما يكون العبد في درجة من الإيمان والكمال، ينزل الله سبحانه وتعالى له من البلاء ما يذكره بخطئه وما يمحو عنه ذنبه، أما غير هؤلاء من الناس فإن قدر الله قد يجري باستدراجهم، فيملي لهم سبحانه وتعالى، ولكنه يمهل ولا يهمل جل وعلا {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. فإذاً هذا المعنى عند أهل الإيمان يربطون به السبب المادي، فكان أحدهم يقول: إني إذا أذنبت الذنب أجد ذلك في خلق زوجتي ودابتي. فكلما حصل سبب مادي ربطه بسبب معنوي يصله بالله سبحانه وتعالى. أما اليوم فهذه النظرة المادية قد طغت على الناس، فإذا جاءت الزلازل فسروها تفسيراً مادياً، قالوا: ضعف القشرة الأرضية وغير ذلك. ونسوا أن يقولوا: إن ذلك قدر من الله، وإن له فيه حكمة، وإنه قد يكون مرتبطاً بعقوبة من الله سبحانه وتعالى. كما بين الله جل وعلا أنه ما من شيء يقع إلا بما كسبت أيدي الناس ويعفو سبحانه وتعالى عن كثير. فهذه المدرسة المادية التي أهملت أسباب السماء طغت على كثير من مجتمعات المسلمين، وصاروا لا يلتفتون إلى هذه المعاني، وهي لب وجوهر من جواهر العبودية له سبحانه. وحقيقة الإيمان من توكل وتعلق وربط كل شيء في هذا الكون بموافقة أمر الله ورضا الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، أو بمخالفة أمر الله سبحانه وتعالى وسخط الله سبحانه وتعالى وبلائهم في تقديره. وهذا الأمر حينما غاب عن الناس حصل لهم من البلاء شيء كثير، ولكن كثيراً من الناس لا يفكرون ولا يتأملون، وكم نرى من أحوال الناس في مجتمعنا ممن أعطاهم الله سبحانه وتعالى مادة ومالاً لكن محقت منهم البركة، أو ابتلوا بأنواع الأسقام، أو ابتلوا بعقوق الأبناء، أو ابتلوا بصورة من الأبناء المتخلفين أو القاصرين في عقولهم، فتجد هذا الغني الثري يأتي لابنه بكل المدرسين ثم يرسب هذا الابن، فإذا ما نفعه مدرس أتى بمدرس آخر بدرجة أعلى في العلم، أو يأتي باثنين أو بثلاثة، ما فكر أن المسألة قد يكون مرجعها في الحقيقة إلى نوع تفريط في اكتسابه للمال من حرام أو نحو ذلك. وهذا أيضاً إيجاز شديد مختصر للمدرسة المادية التي تركت أسباب السماء وتعلقت بأسباب الأرض تعلقاً كاملاً، فكانت كأنما تلغي مقام العبودية والذلة لله سبحانه وتعالى، وكل هذه المدارس التي فيها إغراق مادي هي نوع من الإجحاف بإشراق الروحانية.

الإشراق الروحاني

الإشراق الروحاني الشق الثاني: ما يتعلق بإشراق الروحانية، وهو أيضاً باب واسع فيه مداخل ومزالق خطيرة جداً، فمن غلا فيه خرج عن حد الاعتدال والمشروع، فاستوجب كرد فعل من غيره أن ينكر أمره بالكلية ما صح منه وما بطل، وهذه هي المشكلة عندنا، كما يقال: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه. إذا أخطأ شخص في جزء، كما لو أنه أخذ بستين في المائة من الصحيح وزاد عن الحد المشروع أربعين في المائة قلنا له: كل ما عندك خطأ بما فيه الصواب الثابت، وهذه هي النقطة الأساسية التي نحب أن نقف عندها. لابد من مدخل لموضوع إشراق الروحانية في تصور القضية الأساسية في أمر الغيب، لابد من المعرفة أن الروح من أمر الله سبحانه وتعالى يخفى على البشر جملةً وتفصيلاً، ولذلك لما جاء سؤال اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام عن الروح جاء الرد القرآني: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، ليس هناك شيء مما يتعلق بالروح له صلة بالبشر أو بعلم بالبشر غير ما يرد عن الله سبحانه وتعالى مطلقاً. فإذاً كل ما يتصل بالروح وصفاً أو غذاء أو مرضاً أو شفاء كله لابد أن يكون موقوفاً على المصدر الوحيد، عن الله سبحانه وتعالى وحياً قرآنياً وتبليغاً نبوياً من رسولنا صلى الله عليه وسلم. الروح من جانب أنها سر ونفخة من الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا شرع في هذا الدين شرائع وعبادات تغذية وتهذيباً وعلاجاً لهذه الروح، لابد أن ندرك وأن نفهم هذا العطاء الرباني وهذا الغذاء الإيماني، وهذا الذي ينتج عنه الإشراق الروحاني.

وقفات مع لذة العبادة والإقبال على الله عند السلف

وقفات مع لذة العبادة والإقبال على الله عند السلف هذه وقفات سريعة لكنها مهمة مع لذة العبادة والإقبال على الله سبحانه وتعالى، هذه المسألة المهمة تبين لنا سر أو بداية ما يتصل بالروح وإشراقها ونورانيتها، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر بكلمات يسيرة، لكن في الحقيقة عند التأمل يجد الإنسان أنه محتاج إلى تفكير في دلالاتها، حينما يقول عليه الصلاة والسلام لـ بلال في الصلاة: (أرحنا بها يا بلال)، فنقول: كلنا نقول: الصلاة راحة، لكننا نريد أن نبقيها حتى ننفذ معناها، وحينما يقول عليه الصلاة والسلام: (جعلت قرة عيني في الصلاة) فنقول كلنا: الصلاة لذة، لكن ما معنى الراحة واللذة في التطبيق الواقعي، الذي كان نموذجه وقدوته وأسوته الأولى رسولنا صلى الله عليه وسلم؟! وهو الذي يقول عن نفسه: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له)، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. ومعلومة قصة ابن مسعود في الصحيح لما وقف يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء. قيل: وما هممت يا ابن مسعود؟ قال: هممت أن أقعد وأتركه). ونأخذ مثلاً آخر من صحيح البخاري -أيضاً-، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: (ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام، وتختم القرآن في كل ليلة؟ قال: نعم يا رسول الله) هذا ما بلغ النبي عنه. والرسول عليه الصلاة والسلام بعد ذلك رده إلى حد الاعتدال بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأن ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأن يختم في خمس أو في سبع، كما في بعض الروايات. هل هذا الرجل عنده طاقة غير بشرية حتى يقوى على هذا الأمر؟ وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يصلي في البيت الحرام ومنجنيق الحجاج بن يوسف منصوب يقصف، وتسقط شرفة من شرفات البيت ويهيج الناس يميناً وشمالاً وعبد الله بن الزبير واقف في صلاته لم يدرك شيئاً. إذاً ينبغي أن نفهم أن هناك سراً يتعلق بالروح في هذه الأمور حتى نفهم الأمور، إذا قلنا: إن الصلاة راحة وإن العبادة والزاد الروحاني راحة ولذة فهل نجد أحداً يتعب من الراحة أو يسأم من الراحة؟ ولو كان أحد في فترة راحته فالراحة لا يشعر معها الإنسان بتعب ولا يشعر معها بطول وقت، فأنت إذا عملت ساعة ستشعر بالتعب والعناء، وإذا نمت عشر ساعات كأنما نمت عشر ثوان؛ لأن الراحة هذه طبيعتها، تستسلم فيها النفس والجوارح وتخلد وتركن وتجتمع وتطمئن وتسكن. أيضاً لو كان الإنسان -مثلاً- يحب طعاماً معيناً يشتهيه، وهو منذ زمن ما وجد هذا الطعام ثم جيء له بهذا الطعام فإنه لن يشعر بتعب؛ لأن الحواس كلها توجهت نحو اللذة في أثناء لذته، هل يمكن أن ينقطع؟ لكن لو قيل له: حصل حادث أو مشكلة فيمكن أن تتأجل؛ لأن الإنسان في وقت لذته يختلف. ولو مثلنا بالمثل الذي يقع للناس دائماً وهو ممارسة الهوايات لوجدنا حقيقة ذلك، فالذي عنده هواية تجد أنه يعمل مثلاً في هوايته، فيقال له: الوقت انتهى. أو: المحاضرة انتهت ولا يستطيل الوقت، فلو قيل له: هل تعبت أو أرهقت؟ سيقول: نعم. لكن ما زلت راغباً في الاستمرار؛ لأن القضية تتعلق بقوة لابد من معرفتها، وهي القوة الروحية. وحينما يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن في الصلاة راحة فكيف يخرج الإنسان من راحته؟! وكيف لا يطلبها؟! وإذا دخل فيها كيف يكون فيها متعجلاً؟! أو كيف لا يكون مستمتعاً بها متفرغاً لها مغموراً فيها منشغلاً بها عما سواها؟! لا يمكن ذلك إلا إذا تحققت هذه المعاني كما ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام. فـ عبد الله بن عمرو بن العاص أو غيره هل كانت عنده قوة خارقة للعادة؟ لا. لكنه كان يجد في العبادة الغذاء الروحي الصحيح حينما أقبل الإقبال الشرعي الصحيح، فحينئذ لا يشعر مع أن التعب موجود، والنبي عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، لكن هل أدرك هذا التعب؟! ذكر في ترجمة عروة بن الزبير أنه في قطع رجله لما سرت إليها الآكلة قالوا: نسقيك خمراً؟ قال: لا. ولكن إذا كنت في الصلاة فافعلوا ما بدا لكم. فقطعوا رجله وهو في الصلاة ولم يشعر. هل هذا عدم إحساس فيه؟ لا. ولكن القوة تزداد إذا زادت قوة الروح. كذلك الذين يشردون إذا كانت قواهم مركزة في جانب معين انشغل عن غيره، وهذا يقع في الناس، فلماذا يسلمون به في الأمور المعتادة ولا يسلمون به في أمور العبادة؟ لذلك عبد الله بن الزبير لما سقطت شرفة من شرفات البيت إنما كان مقبلاً على الله سبحانه وتعالى بكليته، كان قلبه معلقاً به مستشعراً وقوفه بين يدي ربه، متلذذاً بتلاوة قرآنه، معظماً لربه بتسبيحه، متبتلاً إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه، ولذلك تفطن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ونحن نعلم أن السجود هو أكمل مقامات الصلاة الحسية، يكون الإنسان واقفاً منتصباً، ثم يركع وهو أقل خضوعاً من السجود، أما السجود فهو أكمل الصور في إظهار الذلة والعبودية لله سبحانه وتعالى. فلو جاء أحد يحترم أحداً وانحنى له فلو كان مبالغاً لسجد له؛ لأنه ليس هناك بعد السجود شيء. هذا الموضع الذي فيه كمال الذلة وكمال الانحناء وتمريغ الجبهة بالتراب وإلصاق الوجه بالأرض قال فيه: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؛ لأنه كلما تحقق بكمال العبودية وكمال الذلة وكمال التعلق والدعاء والتوسل بالله سبحانه وتعالى كلما كان هذا أدعى إلى قربه الروحي من الله سبحانه وتعالى. فلذلك ألفاظ أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ليست التأملات فيها جانحة ولا شاطحة، بل كلام العلماء. وسنأتي بما يتيسر ويدلنا على أن أهل العلم إنما نظروا في هذه النصوص بفقه متعلق بالتطبيق الواقعي لحياة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه والصالحين، وهو متعلق بفقه القلوب وفقه السلوك الذي هو علم التصوف الذي فيه ما يذم وهو كثير وفيه ما يقر وهو كثير، وهو الأمر الذي سنرد إليه الآن. فإذاً هذه المسألة لابد من معرفتها، وهي أن الناحية الروحية فيها شيء من عدم إمكان إدراكها بالحواس؛ لأن الروح كلها من أمر الله سبحانه وتعالى، فغذاؤها وما يقع لها لا يمكن أن يفهم إلا في ضوء ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى. وكما ذكرت فالروح نفسها لها تعلق بالبدن، فنحن في أجسادنا أرواح، وإذا نام النائم هل ما زال في جسده روح؟ الروح في النوم هي الروح في اليقظة، لكن ينقص من نسبتها، ولا نعرف مقدار هذا النقص. نتنقل إلى مرحلة أخرى، فحينما يغمى على الإنسان تكون فيه روح، لكن تأثيرها في الحواس أقل، لكن لا نعلم مقدار النقص فيها. كذلك عندما يموت الإنسان لا نستطيع أن نرد إليه روحه. إذاً أمر الروح لا يمكن فيه إلا التسليم والمعرفة التطبيقية لفعل النبي عليه الصلاة والسلام وما علمه لأصحابه، ولا بد أن نعرف أن هذه أمور ليست خاضعة للحس المادي الواضح الذي يقع تحت الحواس، وإلا فلا يمكن أن نفهم هذه الأمور. ثم يأتي لنا ذكر الكرامات والإلهام وتفاصيل أخرى ثبتت أصولها المشروعة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبينها في واقع قوله وفعله، وتحققت في الأمة من بعده منذ عهده وإلى اليوم، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها. ألم يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الرؤى جزء من النبوة؟ فكيف هي جزء من النبوة؟ لأن فيها ملامسة لأمر الروح والوحي الذي هو نوع اتصال غير محدود الكيفية ولا معلوم الكيفية، ولذلك الإنسان يرى رؤيا صالحة فتقع، هل نفسر هذا بالمادة؟ مستحيل أن تفسر شيئاً ليس له مقاييس ولا موازين ولا نسب ولا أي شيء من هذا القبيل، إنما هو محض الوارد عن الشرع، لابد أن نتقيد بالمشروع، حتى لا يكون هناك فتح لهذه الأبواب التي وقع منها نوع انفلات وشطح بعيد خرج ببعض الناس إلى أن وصل بهم الكفر إلى ما هو أكفر من كفر الكافرين. فإذاً لابد أن نعرف أن زاد الروح إنما هو في المشروع عن الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك الزاد في واقع الإنسان يعلو عن الأسباب المادية، فإذا هو يلقى التعب الذي لو حسبته بالمادة لا يمكن أن يثبت له، فكيف يثبت إنسان تقطع قدمه، أو يسقط شيء من حوله وهو غير مدرك، لا يمكن إلا أن نفهم أنه في راحة وأنه في قرة عين وأنه في لذة وأنه في انشغال تام بالعبادة وتعلق كامل لقلبه بالله، وانصراف كامل عن كل الخلق إلى الخالق سبحانه وتعالى، هذا هو الذي يفسر مثل هذا الأمر.

أقوال العلماء في حقيقة الصوفية وأصناف الناس فيها

أقوال العلماء في حقيقة الصوفية وأصناف الناس فيها موضوع التصوف أو موضوع ما يسمى بفقه السلوك أو علم السلوك أو غذاء الروح، أو سمه ما شئت؛ فإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء، وإن كانت الأسماء التي تثبت وتروج ينبغي معرفتها ومعرفة مضامينها، وهذا ما سيأتي في منهج العلماء، فحينما نقول: إن هذه العلوم أو هذه الأحوال منكرة بالكلية خطأ. والذين أنكروا إنما أنكروا لما وقع من شطح من أخذ بهذه الأمور، فهناك طرف غال وهناك طرف جاف، والحق بينهما وسط، ولذلك تكلم العلماء والأئمة في هذه الأمور ووضحوا منها كثيراً، ولهم في ذلك قواعد، وأنا أذكر بإيجاز تعريف التصوف ومعناه. وننقل في ذلك نصوصاً من كلام الأئمة المعتبرين من أمثال ابن القيم وابن تيمية والذهبي وغيرهم من علماء أهل السنة. يقول ابن القيم: التصوف زاوية من زوايا السلوك الحقيقي وتزكية النفس وتهذيبها لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومحبة من تحبه، فإن المرء مع من أحب، كما قال سمنون: ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة؛ فإن المرء مع من أحب. وهذا المعنى الإجمالي. إذاً التصوف هو متعلق بالسلوك الحقيقي المرتبط بتزكية النفس وتهذيبها لتسير إلى الله؛ لأن الغاية هي المنتهى أن يكون المرء مع من أحب. ثم يقول أيضاً في موضع آخر: لما كان للقلب قوتان: قوة العلم والتمييز وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله استعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، هذا العلم والتمييز. واستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. إذاً من صدق في محبته لله سبحانه وتعالى توجه بكليته لمن يحب، وخرج ممن لا يحب خروجاً يبين فيه الأسباب من مسبب الأسباب، ويبين فيه أيضاً التعلق الكامل بالتعلق العارض. ولذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب له كلام جميل في الفهم الأساسي الذي يوازن بين الماديات والروحانيات، يقول: لما كان صلاح القلب واستقامته في طريق سيره إلى الله سبحانه وتعالى متوقفاً على جمعيته على الله ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله فإن شعث القلب -يعني تفرقه- لا يلمه إلا الإقبال على الله. قال: وكانت فضول الشراب والطعام وفضول مخالطة الأنام وفضول المنام وفضول الكلام مما يزيده شعثاً. نحن نريد القلب أن يتوجه إلى الله، فالطعام والشراب ومخالطة الأنام وفضول المنام وفضول الكلام كله مما يزيده شعثاً، إذاً ما الذي جاء في شرع الله ليبعد هذا الشعث ويلم القلب ويوحده في الاتجاه إلى الله سبحانه وتعالى؟ قال: ومن هنا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، حتى يتوجه القلب بكليته لله سبحانه وتعالى، وشرع له من الاعتكاف ومقصوده وروحه عكوف القلب والخلوة لعبادة الله ليعالج مخالطة الأنام، أما الكلام فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فليقل خيراً أو ليصمت). أما فضول المنام فشرع للأمة قيام الليل، فعلم أن ما شرعه الله سبحانه وتعالى من العبادات والأمور إنما غايته لم شعث القلب وتوجهه بالكلية إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: ومدار رياضات أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة، وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج المحمدي، فلم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين. أي: انحراف الغالين الذين جنحوا والمفرطين الذين أنكروا كل شيء، فإذا قيل للواحد منهم: فلان قرأ قرآناً وبكى. أو: صلى وبكى. أو: كان في حالة من الخشوع قال: لا. هذه شطحات وهذه منكرات. التصوف فيه نوع من الدقة والتفصيل، وهو يشمل معالم أساسية من أجل أننا نفرق بين الأسماء والمسميات، فهناك اسم له مائة فرع أو مائة نقطة، قد يتصف إنسان بخمس منها، أو بعشر منها، أو بعشرين، أو بمائة، فالتصوف اسم واسع دخل فيه من غير قصد -وبإنكار من بعض أصحابه- ما هو كفر أو كفر أعظم، مثل الحلول والاتحاد، وفيه ما هو صحيح وصدق، مثل العبادة والذكر والدعاء لله سبحانه وتعالى. فلذلك قال ابن تيمية رحمة الله عليه في الفتاوى: ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقه، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون مخالفون للسنة -أي: لا يقبل منهم شيء- وطائفة غلت فيهم غلواً بحيث صحح عنهم كل ما قالوه، والحق هو أن يقر من قولهم أو فعلهم ما وافق الكتاب والسنة، وأن يرد ما خالف الكتاب والسنة، وحالهم في هذا حال غيرهم من الفقهاء والعلماء؛ لأن صاحب الفقه هو أيضاً مجتهد، فقد يصيب الحق وقد يخالف الحق ويخطئ فيه، فهذا مثل هذا. وبنحو هذا أيضاً قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: ومعاملة الصالحين انقسم فيها الناس إلى ثلاثة أقسام: الفئة الأولى: أهل الجفاء الذين يغمطون حقوقهم، ولا يقدمون من الحب والموالاة لهم والتوقير لهم كما ينبغي. ثم قال: فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكراماتهم، ولا يجحد بكرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين. الفئة الثانية: هم أهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها. وقد أوضحنا من ذلك ما يكفي ذكره. الفئة الثالثة: هم أهل الحق الذين هم متوسطون، الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية، ولكنهم يبرءون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم، والصالحون أيضاً يبرءون من أن يدعوا لأنفسهم حقاً من حقوق ربهم أو نحو ذلك. ويقول ابن القيم في مدارج السالكين: وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس: إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة وصفاء نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساءوا الظن بهم مطلقاً، وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها. الطائفة الثانية: حجبوا لما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم، حجبوا عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانهم، فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليها حكم القبول، وهؤلاء أيضا ًمعتدون مفرطون. الطائفة الثالثة: هم أهل العدل والإحسان والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد، وهذا إجمال هذا الكلام.

أقوال العلماء والزهاد في التصوف وضرورة معرفة حقيقته وضابطه

أقوال العلماء والزهاد في التصوف وضرورة معرفة حقيقته وضابطه إننا نجد أن بعض الأقوال مجرد ذكرها يكون موضع نقد، مع أنه لابد من معرفة حقيقتها، وأنا أورد بعض الأقوال اليسيرة حتى نعرف هذه الأقوال ونعرف قائلها، فهنا أذكر القول الأول ثم أذكر القائل، حتى يتنبه السامع إلى أن القول قد يسبق إلى ذهنه أنه لابد أن يكون منكراً أو غير مقبول؛ لأن فيه تقسيمات أو تفريعات. يقول الإمام أحمد: الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام. الثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص. الثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين. ولو تأملنا في هذه الأقوال فسنجد أنها تذكر كثيراً من الألفاظ والأقسام والتعبيرات، لكن ليس فيها شيء مخالف للشرع، فليس هناك حرج في معرفتها، بل الحقيقة أن العلماء لما تكلموا في هذا تكلموا بمنازل وبتفصيلات أو بمراتب أو بأقسام ذكروا لها شواهد من القرآن والسنة، ومن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم، وهذا ظاهر وكثير. ومن ذلك قول آخر: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. وهذا كنوع من التقسيمات هو من مقالة ابن تيمية. وقال ابن القيم تعليقاً عليه: وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها. وعلى هذا تجد أقوالاً كثيرة في هذا الشأن، لكن القاعدة الأساسية التي تعامل بها العلماء هو ضابط الاتباع، أي: اتباع الكتاب والسنة في كل أمر من هذه الأمور. وإن كنا نقول: إن هذه الأمور فيها ليست لها قياسات مادية، لكن لها ضوابط شرعية، ولذلك كل هذه الأمور ضبطت بعامل الاتباع. ومن ذلك قول ابن القيم في كلامه على علم السلوك، قال: وأصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه الآخرون، والمقام على ما سلك الأولون. ولذلك تجد هذه الأقوال متكررة. ومن ذلك قول الإمام ابن تيمية في الاستقامة، يقول: أصل العمل علم القلب، وهو الحب والتعظيم والتفاني، والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار. ثم قال: لا يقبل عمل إلا بنية، وهذا ظاهر؛ فإن القول والعمل إن لم يكن خالصاً لله لم يقبله الله تعالى. ثم قال: لا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة وهي الشريعة. وهذا الكلام ضابط عام، ومما يبين تأكيدهم على هذا أنَّ المتقدمين من أهل التصوف كانوا يقولون بهذا؛ لأن ثناء العلماء عليهم دل على أنهم كانوا في الأصل قالوا بكلام جملته وأكثره صحيح، ومن ذلك ما نقل ابن القيم عن أبي يزيد البسطامي قال: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ حدود الشريعة. ليس هذا إنكاراً لذاك، لكنه أيضاً ليس إلغاء للشرع، لابد أن نعرف أن كل أمر من هذه الأمور له ضابط مهم في الشرع، ولذلك كان كلام العلماء على كل القضايا الأساسية التي ترد في هذه المسائل من الكرامات أو من الإلهام أو من غير ذلك إنما هو في هذا الضابط العام، فنجد -مثلاً- أنه حينما يكون الإنسان مستمعاً للقرآن أو في صلاته فيغلب عليه الخشوع فقد يبكي، أو قد يغشى عليه، فهل كل هذه الصور منكرة مردودة؟ وهل مثل هذه الصورة بالجملة يخشى أن يكون فيها نوع انحراف؟ لا. ونذكر لك نصاً من كلام ابن تيمية في هذا الأمر، حتى يعلم الإنسان أن الأمور لابد لها من ضابط شرعي من الكتاب والسنة. يقول رحمه الله في شأن هذا الأمر: إن ناساً أنكروه وإن ناساً أقروه بلا ضابط. ثم قال: والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوباً عليه لم ينكر عليه. أي: إذا لم يكن في اختياره. وإن كان حال الذي يثبت أكمل من الذي لا يثبت؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قرءوا وصلوا وحصل لهم خشوع كامل أكمل، لكن ما وقع لهم مثل ذلك؛ لأن الثبات أكمل في الإيمان. ويقول ابن تيمية: ولهذا سئل الإمام أحمد عن هذا فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه، ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، لما هو عليه من العلم والإمامة، وهو من أئمة أهل السنة والسلف، فما رأيت أعقل منه. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك. وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة في ذلك. هذا جملة قوله. ثم قال أيضاً في موضع آخر: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه -أي: من القرآن أو من الخشوع- فهذا الذي يصعق صعق الموت أو صعق الإغماء فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد عليه وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا فيمن يفرح أو يخاف أو يحزن. وانظر! فقد تجد إنساناً يفرح فرحة كبيرة فيغمى عليه؛ لأن الذي ورد عليه أكبر مما في قلبه من الاحتمال. ثم قال: إذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة، كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك. وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها. قال ابن تيمية في هذا الأمر -وهنا جملة تعتبر بمثابة القاعدة- قال: فإنه إذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً. المهم أن لا يكون هناك عمل غير مشروع، أما إذا كان العمل مشروعاً فقد يغلب الإنسان أحياناً هذه الصور، ولذلك قال: فإذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً. وفصل في هذا وقال: وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية، ولو بأمور فيها نوع من الإيمان فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل. يعني: لا يظن أن هذا هو أسمى مرتبة، فقد يقع للإنسان من لذة العبادة والروحانية والأنس بالتلاوة والأنس بالصلاة ما هو أعظم من مجرد هذه الصورة العادية. وكذلك ابن القيم في المدارج له كلام قريب من هذا.

مذهب أهل السنة في الكرامات

مذهب أهل السنة في الكرامات إذا جئنا إلى مسألة الكرامات فإن مذهب أهل السنة يقرها، وهي أمور فيها نوع خرق للعادة، وفيها نوع كشف للغيب، لكنه لا يقع بالمعجز الذي يقع للأنبياء، وليس فيه التحدي الذي هو من شروط المعجزة، وضابطها نصوص كثيرة. فإذا كانت هذه الكرامة ناشئة عن سبب غير شرعي أو توصل بها إلى أمر غير شرعي فهي منكرة مردودة، فهي منضبطة بضابط الشرع.

نماذج من كرامات الصحابة

نماذج من كرامات الصحابة لذلك لما تكلم ابن تيمية سرد في هذا سرداً واسعاً يدلل فيه على أنه لا ينبغي أن يكون ما يقع فيها من الشطحات والمخالفات دالاً أو دافعاً إلى إنكارها، وساق كلاماً طويلاً ونفيساً في إثبات هذه الأمور يحسن بنا أن نذكره، واستعرض كلاماً لو قيل مجرداً عن نسبته إلى ابن تيمية لربما كان في النفس منه شيء، أو كان عند بعض الناس له إنكار، فيقول بعد أن ذكر بعض ما ورد من القول السابق عن الكرامات قال: وكرامات الصحابة والتابعين وسائر الصالحين كثيرة جداً. مثل ما كان من أسيد بن حضير حينما كان يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج، وهي الملائكة نزلت لقراءته، والقصة الثانية أنه كانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين، كلها ثابتة بأدلة ذكرها الذهبي في بعض التراجم كنصوص وأحاديث. وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة، فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما. أي: كان مع كل منهما ضوء. والحديث في صحيح البخاري. وقصة الصديق أبي بكر في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه في بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، كلما أكل لقمة يزيد أكثر منها، فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت عليه، والحديث في الصحيحين. وخبيب بن عدي كان أسيراً عند المشركين بمكة -شرفها الله تعالى- وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة واحدة، وهذا عامر بن فهيرة قتل شهيداً، فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال عروة: (فيرون الملائكة رفعته) وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حساً على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها، وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده، والحديث في مسند الإمام أحمد مصحح. والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله سبحانه وتعالى أبر قسمه، والحديث في هذا صحيح، وكان إذا اشتد الحرب على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء! اقسم على ربك. فيقول: يا رب! أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم. فيهزم العدو، فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك -يا رب- لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد. فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيداً. وخالد بن الوليد حاصر حصناً منيعاً فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم. فشربه ولم يضره. وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة، ما دعا قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق. وعمر بن الخطاب لما أرسل جيشاً أمر عليهم رجلاً يسمى: سارية فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر: يا سارية! الجبل. يا سارية! الجبل. فقدم رسول الجيش فسأل فقال: يا أمير المؤمنين! لقينا عدواً فهزمونا فإذا بصائح يقول: يا سارية! الجبل. يا سارية! الجبل. فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله. ولما عذبت زنيرة على الإسلام فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها قال المشركون: أصاب بصرها اللات والعزى. قالت: كلا والله. فرد الله عليها بصرها. ودعا سعيد بن زيد -وهو من العشرة المبشرين- على أروى بنت الحكم لما كذبت عليه فقال: اللهم! إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها. فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت. والعلاء بن الحضرمي كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين، وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم. فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فدعا الله فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد.

نماذج من كرامات التابعين

نماذج من كرامات التابعين ولقد جرى مثل ذلك في التابعين، كما حصل لـ أبي مسلم الخولاني، فقد مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها -أي من مد النهر- ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل تفقدون من متاعكم شيئاً حتى أدعو الله عز وجل فيه؟ فقال بعضهم: فقدت مخلاة. وكان يضع فيها زاده، فقال: اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها. والأسود العنسي لما ادعى النبوة قبض على أبي مسلم الخولاني وقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. فأمر بنار فألقي فيها، فوجدوه قائماً يصلي فيها وقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر فقال عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم الخليل عليه السلام. ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره، وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت. وكان عامر بن قيس يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه، وما يلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه وقال: إنما أنت كلب من كلاب الرحمن، وإني أستحيي أن أخاف شيئاً غير الله سبحانه وتعالى. ومرت القافلة بسلام. ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء البارد وله بخار من سخونته. ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه. وتغيب الحسن البصري عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات، فدعا الله عز وجل فلم يروه. ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتاً. وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو فقال: اللهم! لا تجعل لمخلوق علي منة. ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال: يا بني! خذ سرج الفرس واترك الفرس؛ فإنه عارية. فأخذ سرجه فمات الفرس. وجاع مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير، فأكل التمر وبقي الحرير عند زوجته مدة. وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره. وكما رأيت فالنصوص كثيرة، لكن ابن تيمية رحمة الله عليه أيضاً نبه التنبيه المهم، وهو أن هذه الأحوال كانت أيضاً لها صورة أخرى، وهي أن هؤلاء كانوا مقيمين على أمر الله، ملتزمين بأمره ونهيه سبحانه وتعالى، فالضابط باق. وإذا لم يكن الضابط موجوداً فهناك حالان: حال الرحمن وحال الشيطان. لأن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر أنهم يسترقون السمع فيوحون إلى أوليائهم، وأنهم يصلون إليهم ويقومون ببعض الأعمال مما يفتن صاحبها ويفتن غيره، فلذلك ينظر إلى حال الإنسان في استقامته على شرع الله، فإنه كما قال بعض العلماء: الاستقامة هي أعظم كرامة. أما الأمور التي ليس فيها استقامة، وفيها بعض ما يظهر للناس أنه خوارق فهذه فتنة لصاحبها ولمن يفتتن به، وهذا مثل حال الدجال، فـ الدجال عنده جنة ونار، ويفعل أموراً خارقة للعادات، ومع ذلك هو غير مقيم على شرع الله، فلا نغتر بذلك، وعلى المؤمن أن يبقى ثابتاً يعرف الحق من الباطل، ومن لطيف وعجيب ما ذكره الإمام ابن تيمية ومن دقة كلامه أنه قال: ولما كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم شرائعها في المساجد كانت بعيدة عن الأحوال الشيطانية، ولما كان غيرها من الأمم شرائعها في الأديرة والمغارات والكهوف والجبال، وخرج بعض من تصوف بهذه الصور واعتزلوا كانت بعض أحوالهم أو كثير منها تقرب من الأحوال الشيطانية؛ لأنها مواضع خلو ومواضع فراغ ومواضع وجود الشياطين والجن ونحو ذلك. فهذه الأمور إذا كان صاحبها مخالفاً للشرع فإنه إذا قرئ عليها آية الكرسي أو نحوها أبطلها ذلك وظهر فسادها وعوارها، ولذلك كان من كلامه وتفصيله أنه قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام ما حذر مثلما حذر من اتخاذ القبور مساجد؛ لأنها تلم بها الأحوال الشيطانية لمخالفة شرع الله سبحانه وتعالى. ولذلك جاء النهي عن الصلاة على المقابر وفي المقابر لهذا المعنى، لذلك فمن كان ملتزماً بشرع الله سبحانه وتعالى فإنه على استقامته فهو على كرامة، فإن زيد شيئاً من ذلك فهو أمر قد يقع أحياناً لتثبيث الإنسان، أو قد يقع لإظهار الدلالة لإنسان آخر، ونحو ذلك كثير يطول الكلام فيه.

كلام العلماء في الإلهام والخاطر

كلام العلماء في الإلهام والخاطر ننتقل بشيء من التفصيل إلى الإلهام، وهو الخاطر الذي يقع للإنسان بأن يفعل شيئاً أو لا يفعل. ذكر الإمام ابن تيمية في جامع الرسائل في تعليقه على فتوح الغيب للجيلاني كلاماً ملخصه أن الأمر إذا تكافأت أدلته ولم يكن ثمت مرجح فإن الإلهام والخاطر القلبي يؤخذ به لا على أنه ترجيح شرعي، لكن على أنه أمر فطري يدل على مثل هذا. وذكر كلاماً طويلاً يمكن أن يرجع إليه، وكما ذكرنا فالعلماء من أهل السنة بينوا الخطأ وبينوا الصواب، والذي يخلط هذا بهذا أو يرد الكل أو يقبل الكل، واستشهدوا بأقوال المتقدمين. ولابد أن نعرف أن بعض المتقدمين من أهل العبادة والزهد كانت أمورهم في غالبها وأكثرها على الأمر الكامل التام المحمود من متابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واستقامة على شرع الله، بل هم ردوا على كل ما خرج منه الناس من الشرع باسم التصوف. وأبرز هذه القضايا الاكتفاء بالعبادة عن العلم وذم العلم وأنه لا يحتاج إليه، بل يكفي أن يكون ذوقه ووجده الذي يدله، فهذا رد عليه متقدمون من أمثال الجنيد ومن أمثال السلمي وغيرهما، كما نقل عنهم ابن تيمية وغيره، ورد عليه أيضاً ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب والذهبي وغيرهم من العلماء في كثير من الكتب. المسألة الثانية الخطيرة هي التفريق بين الشريعة والحقيقية، وادعاء أن هذه الألفاظ لها ظاهر ولها باطن، والباطن هو الحقيقة التي يعرفها هؤلاء، وهذا أيضاً تعطيل للشرع وطعن فيه. المسألة الثالثة الخطيرة هي قضية الحلول والاتحاد، وهو أعظم من كفر اليهود والنصارى، وهم الذين يقولون: هو الفناء عن السوى. فهذا باطل وكفر بواح ذكره كل العلماء؛ لأنه إلغاء للعبودية وإلغاء للإلهية، واعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى حل في المخلوقات، وهذا كفر ظاهر وصريح. والذي قال به العلماء وذكروا أن بعض الأحوال تنطبق عليه ليس هو فناء السوى وإنما هو فناء الشهود، أن يفنى عن مشاهدة الخلق إلى مشاهدة الخالق، فيكون متعلقاً قلبه به، فقد ينصرف عن غيره من الأحداث أو الحوادث كصوت أو كلام أو مناداة أو نحو ذلك. ومن هنا كان بعض العلماء لهم في هذا المقام ثناء على أهل التصوف بما عندهم من الحق، ومدح لهم بما وافقوا فيه الكتاب والسنة، وكان لهم أيضاً تأول في بعض أقوالهم، وذكروا أن أقوالهم ينبغي أن تفهم على ما يعرف من أحوالهم وصدق بعضهم. ولذلك قال ابن القيم في مسألة التأول كلمة جامعة نافعة، قال: فاعلم أن في لسان القوم من الاستعارات -أي: في عباراتهم وكتاباتهم- وإطلاق العام وإرادة الخاص، وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف. يعني: هم استخدموا عبارات فيها هذه الأساليب التي قد لا يفهم الإنسان العادي معناها. قال: ولهذا يقولون: نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة، والإشارة لنا والعبارة لغيرنا. قال: وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد ويريدون بها معنىً لا فساد به، وصار هذا سبباً لفتنة طائفتين: طائفة قبلوا وطائفة ردوا. وهذا واضح وظاهر في هذا الأمر. ولذلك عذروهم في بعض هذه الأقوال. فإذاً المسألة الروحانية بإيجاز هي أساس في حياة الإنسان المسلم منضبطة بالشرع غير واقعة تحت مقياس المادة والحس، وهناك مجاوزة لهذا الحد هو الذي وقع به الشطحات التي أخرجت حتى عن الملة، وهي المسائل التي أشرت إليها وأعيدها، وأعظمها الحلول والاتحاد، ومن بعده الاكتفاء عن العلم، ومن بعده الكلام عن الحقيقة الباطنة والشريعة الظاهرة، وأيضاً مسألة رابعة وهي سقوط التكليف، وهذا كله باطل وجهل ومردود بنصوص الكتاب والسنة. وأسهل رد عليه أنه لو كانت هذه حالات كمال لكان الأولى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم. وما علم أنهم إلى آخر حياتهم إلا وهم عابدون قائمون بالأمر مستقيمون عليه، ممتنعون عن النهي، خاضعون لله سبحانه وتعالى، مبالغون في الارتباط به والذلة له سبحانه وتعالى. وهذا موجز ما أردنا الإشارة إليه. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون فيما ذكر الكفاية، وأن يكون المقصود قد وضح وظهر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حياة صحيحة لأرواحنا، ونوراً مشرقاً لقلوبنا، وطمأنينة كاملة لنفوسنا، وأن يجعلنا أغنى الأغنياء به، وأفقر الفقراء إليه، وأن يقيمنا على شرعه سبحانه وتعالى، وعلى هدي رسوله صلى الله عليه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم- وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مكامن الأخطار في تغيير النفوس والأفكار

مكامن الأخطار في تغيير النفوس والأفكار لقد طفق أعداء الله من اليهود والنصارى يكيدون للإسلام بشتى الوسائل، وبكل الطرق، والأدهى والأمر أن يأتوا إلى المسلمين عن طريق وسائل محرمة في شرعنا، مثل التبرج والسفور، والغناء الماجن، والاختلاط السافر، والنعيق وراء الكرة والمباريات، وإنفاق الملايين والمليارات من الأموال والأوقات فيما يغضب الله، بل أتوهم من كثير من أبواب الكفر والزندقة، وأدخلوا كثيراً من المسلمين في أمور تناقض الدين من أصله، وهذا مسخ للهوية، وتغيير للفطرة، وانسلاخ من الدين، فإلى متى لا نفقه ما يدور حولنا؟! وإلى كم نغفل عما يراد بنا؟!

استمرار الأعداء في محاولة صد المسلمين عن دينهم

استمرار الأعداء في محاولة صد المسلمين عن دينهم الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعظم عطاؤه، وجلت آلاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! مكامن الأخطار في تغيير النفوس والأفكار، هذه الحقيقة في غاية الأهمية، وإن واقع ما تشهده الأمة اليوم من هجمة شرسة قل نظيرها ينبغي ألا يصرفنا عنه أنه احتلال للأرض، أو نهب للثروات، أو سفك للدماء، وكل ذلك حاصل لكنه في جانبه الآخر محاولة لقتل الحمية في النفوس، وإضعاف القوة في القلوب، ووجود الزيغ والانحراف في الأفكار، وإن أمة تموت روحها، وتضعف حميتها، وتدفن مشاعرها، وتضلل أفكارها، تصبح أسهل لقمة سائغة في أفواه أعدائها، واعلموا أن أعداءنا يعرفون هذه الحقائق، ويعملون للوصول إليها أكثر مما يلتفت إليها أبناء هذه الأمة على مختلف مستوياتهم من القادة والشعوب، من أصحاب الرأي والكلمة ومن غيرهم من عموم الناس، ولا أريد أن أجعل الحديث مسترسلاً من غير أن يكون واضحاً بيناً، ولا شك أن ذلك ينطلق في ضوء أنوار توضح الطريق، وتبين المعالم، وتكشف المستور، لابد لنا أن نستضيء دائماً وأبداً بآيات الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأن نستضيء بهدي وسنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي بين لأمته كل ما تحتاجه في هذه الحياة الدنيا لإقامة دين الله وإعزازه، ولكي تؤدي الأمانة التي حملتها، وتبلغ الرسالة التي تلقفتها عنه، وعمن كان من أصحابه رضوان الله عليهم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ولفظ الآية هذه واضح في دلالته المستمرة، وفي غايته الواضحة المحددة، لا يزالون مستمرين على ردة الناس، عاملين متواصين على ذلك ومجتمعين: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم) وصيغة المضارع تدل على الاستمرار، والغاية ليست متشعبة ولا متعددة، بل كما قال الحق جل وعلا: (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ). ولا شك أننا قد تحدثنا في قضية الدين في حياة المسلمين بشيء ربما نبه على هذا الأمر، والآيات كثيرة في هذه الحقائق: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، قضايا كثيرة، وحقائق واضحة بينة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] حسداً من عند أنفسهم، آيات كاشفة واضحة وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم قائمة باقية ما بقي الزمان، يقول فيها صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن)، وهو القائل: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وهو الذي لقن أصحابه حتى قال الفاروق رضي الله عنه: (لست بالخب ولا الخب يخدعني، وإنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية) الحقائق كثيرة، فلننتقل إلى الوقائع لنرى أي شيء يصنع أعداؤنا في هذه الهجمة التي تتزعمها القوة العظمى العالمية التي نعرف أخبار جنونها وقتلها وعدوانها وغير ذلك، لكنه يخفى علينا كثيراً من مكامن الخطر التي تستهدف الروح والنفس، والتي تحرف التصور والفكر.

نماذج من الغزو الفكري

نماذج من الغزو الفكري هذه أخبار جديدة تطالعنا يقول فيها مسئول بارز: إننا في حرب في مجال الأفكار بقدر حربنا في مجال الإرهاب، وإن تخفيف الملابس عبر الملابس يشكل وسيلة مثلى للاختراق -ولا أريد أن أفسر تخفيف الملابس؛ لأن بقية الخبر يوضحه- إذ رصد اثنان وستون مليون دولار لإطلاق قناة فضائية ناطقة باللغة العربية هل لنشر العلوم والتقنية؟ هل ستكون لإصلاح الأوضاع والأحوال الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية؟ إن القائمين يقولون: إنهم جندوا فريقاً من الحسناوات والرموز الثقافية في المجتمعات الأمريكية ليكن رسلاً للثقافة الأمريكية التي يودون الترويج لها! وقد يقول قائل في مثل هذا: إن الأمر لن يكون مؤثراً ولا مقبولاً، فأقول: خذوا الأمثلة الواقعية، وهذه كلمات محزنة مؤسفة نقرؤها لكاتب شهير خطير في صحيفة سائرة ذائعة يروي خبراً أعده من باب التشفي والتشهي بأمتنا ليقول لنا: إننا نفعل بكم، ونلعب بمشاعركم، ونغير في عقولكم، وسنصنع بكم ما نريد وما نشاء، لا بأنفسنا ولكن من خلال ألسنتكم، وبأيديكم وبرجالكم ونسائكم! إنه يتحدث تحت عنوان عجيب نصه: اثنان وخمسون وثمانية وأربعون، قلت: لعلها أعوام فيها بعض الأحداث، فإذا بها نسب للتصويت على أفضل المطربين والمغنين في عالمنا العربي الشهير، الذي أصبحنا لا نستطيع أن نعد أو نحصي أعداد أولئك الجيوش من الفنانين أو الفنانات. يقول هذا الكاتب -وكما قلت: أحسبه ساخراً أو شامتاً-: أؤمن بإمكانية تحول الثقافات تبعاً للتحولات التاريخية والإصلاح الاقتصادي، والتقدم التقني. ويعطينا المثال على ذلك فيقول: وإذا ما أراد البعض معرفة القضية الرئيسية التي بات العالم العربي يتحدث حولها خلال الأسابيع الأخيرة، فسيجد أنها ليست العراق ولا فلسطين، بل رؤية العرب للنموذج الأمريكي، ويخبرنا عن برنامج بثته قناة عربية على مدى واحد وعشرين أسبوعاً للخروج بأفضل المطربين في عالمنا العربي، ويخبرنا بالأحداث التي وقعت في بعض مراحل هذا البرنامج وتصويته، وأنه قد حصل عراك، وأنه قد سالت الدماء، وأنه حصل إغماء، وأن الشوارع خلت في بعض الدول أثناء عرض البرنامج للتصويت، ويضيف قائلاً -وذلك هو المحزن المؤلم-: إن صديقاً له من تلك البلاد التي فازت فيها مغنيتها أرسل له قائلاً: بالأمس فازت مطربة من جنسيته في مسابقة اشترك فيها ما يزيد على أربعة ونصف مليون شخص، ثم يقول واصفاً الحال: لقد انطلق الناس في الشوارع للتعبير عن فرحتهم حتى الساعات الأولى من الصباح، متى كان هذا؟ ليس لتاريخ هذا المقال سوى أسبوع واحد، وهو يخبرنا عما كان شاغلاً لعالمنا العربي الذي تدمر فيه البيوت فوق رءوس أصحابها، والذي تقذف فيه الطائرات النفاثة البيوت والسيارات لتحرق من فيها فلا يبقى منهم بقية من جسد، ولا أثر من جثة، ثم يكمل هذا الصديق العربي قائلاً: يمكن للقبو العربي أن يتغير، ذلك مفهوم التغيير عند بعض أولئك القوم. ثم يخبرنا عن كاتب من تلك الدولة يقول في صحيفته السائرة: كان هذا (أي: التصويت والبرنامج) مثالاً مثيراً على مدى قوة التقنية الحديثة في العالم العربي، وذلك في تأجيج المشاعر، ودفع الجماهير للتحرك. ولست أدري أية مشاعر تلك التي رأى أنها مثالاً مثيراً لتحريكها وإثارتها هل غضبة للأعراض المنتهكة أو للأرض المغتصبة أو للسيادة التي مرغت تحت أقدام القوة الغازية أو لكلمة المسلمين والعرب التي رغم كل هذه الأحداث لم تجتمع لتقول سطراً واحداً فيه شيء من عزة أو قليل من إباء أو بقايا من حياء؟! ثم يقول هذا الكاتب الأمريكي الشهير مختصراً ما يريد أن يوصله لنا في العالم العربي: حيث تستطيع القلة فقط التعبير عن رأيها بحرية، فما بالكم بالإدلاء بأصواتها؟! ها هي القنوات الفضائية تشكل ما قد يصبح في الواقع جدار الديمقراطية، أليس هذا تمويتاً وإماتةً لروح الغيرة والحمية والارتباط بقضايا الأمة ومصيرها، وهي اليوم في أسوأ أحوالها وأضعفها؟ أليس هذا تسميماً للأفكار حتى يكتب الكتاب، ويبعث الأصدقاء، فرحين بالتأثير الهائل للتقنيات الحديثة، لا لترفع مستوى التعليم المنحدر المتهالك في عالمنا، ولا لتجعلنا في صف الدول المتقدمة في تجاراتنا واقتصادياتنا، ولا ولا وإنما لتزيدنا من هز الأوساط وما يلحق بذلك مما يعف اللسان عن ذكره؟! وفي صحيفة محلية تعليق آخر على الحدث ذاته، ولعله كان فيه جانب من النقد الذي يخفف شيئاً من لوعة قلوبنا، إذ بالفعل كانت الصحافة على صفحاتها الأولى مع أخبار القتل والتدمير، نجد خلال الأسابيع الماضية بالفعل خبراً ومتابعة دائمة لهذا الحدث الذي يمثل اختراقاً حقيقياً كما تريد تلك القنوات والوسائل الإعلامية. يقول الكاتب: استطاع البرنامج تلقين الفرد العربي قيماً اجتماعية جديدة على غرار النموذج الغربي، شباب وصبايا توافدوا من كل حدب وصوب يغنون ويتمازحون، ويتبادلون القُبل أمام المشاهدين، وبمباركة أكثر من خمسة ملايين شخص، صوتوا لصالح تشريع القبل المحرمة تحت مسمى الفن، ثم ينتقد ويختم فيقول: ماذا لو كان هناك سوبر ستار للمبدعين العرب؟ وقد يقول أولئك القوم: إن في تلك البلاد والحضارات مثل هذه البرامج، لكني أقول: إن عندهم ميزانيات هائلة وضخمة، وسارية المفعول لمعامل الأبحار، ولمراكز الدراسات، ولكل العلماء والمخترعين، وإن عندهم ميزانيات هائلة لتصنيع الأسلحة الخفيفة والثقيلة والطبيعية وغير الطبيعية، وإن لديهم وإن لديهم فلا حرج إن فعلوا مثل ذلك، فهم في موقف القوة والانتصار والهيمنة، أما أن تكون هذه الأمة في هذه الحال ثم تغرق في مثل هذه الأمور فإنها سياسة خطيرة للفت الأنظار عن المهمات والواجبات والقضايا الكبرى والحقائق العظمى التي تواجه أمتنا. ومرة أخرى أنتقل إلى صفحة أخرى، ولست ممن يحب أن يكثر من الأخبار التي قد يكون فيها شيء من الإضعاف أو الوهن، لكن معرفة الواقع أمر مهم. في أكثر الصحف خلال الأسابيع الماضية صفحة كاملة لإعلان ملفت للنظر، أقرأ لكم فقرات منه لنرى كذلك ما الذي سيشغلنا على مدى تسعة أشهر قادمة؟ وما الذي سيكون موضع اهتمام الشارع العربي كما يقولون في هذا الإعلان عن أبطال الكرة العربية، سطر يقول: مائتان وخمسون مليون متفرج في ملعب واحد، ما هو هذا العدد؟! مائتان وخمسون مليون يعنون به كل شعوب الدول العربية، وأنتم منهم ستكونون جميعاً في ملعب واحد لتتابعوا هذه البطولة! ويقول الإعلان: إحدى عشر مليون كيلو متر مربع قطر الكرة العربية، ويعنون بها: مساحة العالم العربي كله، وتسعة أشهر زمن البطولة، وكلكم معاشر الملايين ينبغي أن تحشدوا كأنكم في ملعب واحد، وكأنكم تتفرجون على كرة واحدة, ليصبح العالم العربي كله بما فيه مهبط الوحي, وأرض الحرمين, وما فيه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكنانة عمرو بن العاص وتاريخ الأمة المجيد كله كرة قطرها: أحد عشر مليون كيلو متر مربع كما يقول الإعلان، وعلى مدى تسعة أشهر ترقبوا وانتظروا وتأهبوا واستعدوا، ثم بعد ذلك نقول ما قاله كثير من العقلاء والحكماء، وما تقوله أمثلتنا العربية وتراثنا الإسلامي: (لا يبلغ العدو من جاهل مثلما يبلغ الجاهل من نفسه) وتلك قضية خطيرة. وثالثة كل هذه الأحداث التي أذكر بعض أخبارها، وكلها في يوم واحد وفي صحف نفس اليوم حتى نرى كم هو حجم الإنهاء والإغواء والإغراء، وكذلك صرف النظر إلى ما لا يريد أعداؤنا أن ننشغل به. لعبة من لعب الكمبيوتر جديدة حديثة، فيها أن اللاعب يصور نفسه، ويظهر على الشاشة، ويمارس اللعب مع أجهزة الكمبيوتر، وهذه الألعاب مشهورة معروفة، وهذا النوع الجديد يستقطب اليوم كثيراً من الشباب صغاراً وكباراً، وتستنفذ فيه من الأوقات لا أقول: آلافاً ولا مئات الآلاف، بل ملايين من الساعات لشبابنا وأبنائنا، أي شيء يجنون؟ وأي بطولة يحققون؟ وأي مهارة يكتسبون؟ وأي خبرة يقتنون؟ وعلى أي خبرة يحصلون؟ إنها قضايا كثيرة، ولذلك لا نود أن نكرر وأن نزيد، فإن الأمر واضح بين، وإننا نقول حينئذ: هل نحن متهمون أو متجنيون عندما نذكر هذه الحقائق؟ وهل يقال بعد ذلك: إن هناك آثاراً وخيمة على شبابنا وأوضاعهم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ ويوجد تحقيق آخر كنت أريد أن أطوي ذكره ولكني أعرج عليه، تحقيق يذكر عن بلادنا بعض الظواهر في شبابنا، وأن منهم بعضاً -وقد يكونون قلة في أول الأمر- أصبحوا اليوم يصطحبون معهم كلابهم في النزهات، ويقولون كما يوجد في العناوين العريضة: جمعتنا الصداقة من خلال الكلاب. وخبراً آخر عن القنوات الإباحية، وانتشار بطاقات فتح تشفيرها، وأن هناك أعداداً خطيرة وكثيرة من هذه القنوات، ثم لا نريد أن يحصل في مجتمعات الأمة بعد ذلك: إما انحراف إلى الجانب الأقصى في اتجاه التهتك والانحلال والانغماس في الشهوات والملذات والمخدرات وغير ذلك من أنواع الجرائم، أو يكون انحرافاً إلى ما يصبح اليوم عنواناً للإرهاب أو التشدد أو التكفير أو غير ذلك، وتضيع الأمة بين طرفي نقيض، والوسط الذي تحدثنا عنه كثيراً يغيب؛ لأننا غيبناه بفعل ما نصنع وخاصة في وسائل الإعلام الفضائية على وجه الخصوص. ولو أردنا أن نكمل الصورة لوجدنا ما يؤلم ويحزن، ولكننا نريد أن نقول ذلك، وأن نبين هذه الحقائق لكي نكون على بينة من أمرنا، وهذا الأمر الذي ذكرته أعلم يقيناً أن عدداً كبيراً منكم يعلمه، وربما عرفه عن خبرة، وربما شاهده، وربما تابعه، وربما البعض منا يدفع الأموال ليشترك في هذه المجموعات الفضائية، أو في تلك المباريات الكروية أو غيرها، فنحن جزء ممن تمرر عليهم وبهم وفيهم ومن خلالهم هذه القضايا التي يقول عنها الكاتب الشهير: إنها ستحدث التغيير في الثقافات أي: في المبادئ والمسلمات، في التعاملات والعادات، في المبادئ والقيم، وفي الروح العامة التي بدأنا نرى في نفوس أبناء أمتنا ما يستدعي التوقف والحذر، صيحة إنذار لمكامن الأخطار في النفوس والأفكار، لا بد أن نطلقها وأن نشيعها وأن نحذر منها، وألا نقبل باستمرارها، وألا نكون نحن وقوداً لها. نسأل الله عز وجل أن يقينا الشرور والآثام، وأن يعصمنا وأن يحمي أهل الإيمان والإسلام، إنه ولي ذلك وا

لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين

لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن لفت النظر والعناية بالاختراق الثقافي والسلوكي والاجتماعي أمر مهم في غاية الأهمية؛ لأنه من العجيب جداً أن نسمع هذه الأخبار، وأن نعرف هذه الوقائع، في الوقت نفسه الذي نستمع ونرى بأعيننا كيف تدمر البيوت فوق رءوس أصحابها في أرض الإسراء، وكيف تخترق الجثث بصواريخ الطائرات، وكيف يقع الكثير والكثير من المآسي والحرائق والتدمير في أرض العراق المحروقة، فمدارسها مغلقة، وجامعاتها معطلة، وأمنها مفقود، أين هذا كله من الذين يصوتون للغناء، أو يترقبون مباريات الكرة، أو ينشغلون بألعاب الكمبيوتر أو غير ذلك، أين هذا من دماء تسيل، وأرواح تزهق، وكرامة تمرغ في التراب، وسيادة تداس بالأقدام، وأمة كأنما لا ذكر ولا وجود ولا حياة لها؟! ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود أين أمة الألف مليون؟! أين أمة العرب التي تجري الأحداث لا نقول بعيداً عنها ولا نقول في عقر دارها، بل في كل شبر من أرضها، وفي كل ذرة من هوائها، وفي كل مرحلة وحركة وسكنة من تفاعلاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ احسبوا الملايين التي تصرف في هذه المجالات، احسبوا الأوقات والجهود التي تصرف في هذه الميادين، أين تقدم العلم؟ أين تطور التقنية؟ أين وأين وأين مما نحن في أمس الحاجة إليه؟! ثم بعد ذلك يراد للأمة ألا تعرف تاريخها، وألا تدرس دينها، وألا تكون بصيرة بواقعها، وأن يكون شغلها الشاغل هو ما تبثه تلك القنوات أو ما تروجه تلك الوسائل الإعلامية. إنها قضية خطيرة، ومسألة أخرى لا أود أن أنهي حديثي هذا وأنا قد وضعتكم في أجواء قد يكون فيها شيء من الإخافة، أو بث روح اليأس، لكنني أجد أن ما نحتاج إليه سيحتاج حديثاً أوسع، إن عزة الأمة وكرامتها، وإن الأمثلة المشرقة المضيئة فيها، وإن المعنيين بهمها، وإن القائمين بواجبهم في مواجهة أعدائها لا يزالون كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). اختر لنفسك أخي أن تكون في هذه الزمرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من السنن الماضية بقاؤها مستمسكة بكتاب ربها، مهتدية بهدي رسولها صلى الله عليه وسلم، رافعة لراية أمتها، ناشرة لبنود وأعلام دينها، ولا تكن كالذي يسير وراء أولئك المغررين من الأعداء أو الأصدقاء، الذين أماتوا في شبابنا وفي مجتمعاتنا من خلال هذه الوسائل كل روح من روح القوة أو المقاومة أو الغيرة، أو حتى الشرف والعزة والنخوة ونحو ذلك، وهناك الصور المشرقة رغم كل الظروف الصعبة والقاسية والشديدة في ميادين المواجهة التي نرى، ورغم كل هذه المآسي في أرض الإسراء، وكم نعجب من تلك المواقف التي نطأطئ رءوسنا خجلاً أمام عظمتها، وتذرف دموعنا حقيقة، وليس تعبيراً أمام كبريائها، وعزة إيمانها، وشموخ إسلامها، وعظمة قوتها، رغم أنها خلو من أسباب القوة المادية. رجل كلكم شاهدتموه قصف بيته حتى لم يبق فيه شيء قائم على شيء، واستشهد ابنه الذي كان مقرراً أن يكون عرسه بعد ثلاثة أيام، ومعه زوجته، وعندما يسأل عن شعوره يقول: ليس ابني أغلى من أبناء فلسطين، وليست الزوجة أغلى من نساء فلسطين، كل من يقتل من الأولاد من الذكور فهم أولادي، ومن الإناث فهم أخواتي أو أمهاتي، ولا ترى إلا قوة إيمان، وشموخ إسلام، ووضوح رؤية، ليس هناك نوع من ذلة المفاوضات السياسية، ولا أنانية المصالح الشخصية، ولا غير ذلك من المآسي المخزية الفاضحة التي جعلت سمعة القوم في أسوأ صورها وأسود حالاتها. ولعلنا نفتح من هذه الصفحات المشرقة ما هو جدير بأن يحيي في نفوسنا الأمل، ويدعونا إلى أن نكون في خندق المواجهة، ليست المعركة اليوم في العراق، وليست في فلسطين، إنها في كل بيت، وفي كل دار، وفي كل بلد إسلامي وعربي لا يستثنى من ذلك شيء، بل بعضها أكثر من بعض، والتفاوت في الحجم والكثرة لا أقل ولا أكثر، فوطنوا أنفسكم على أن تعتزوا بإيمانكم، وتلتزموا بإسلامكم، وتكونوا على بينة من أمركم، ومعرفة لحقائق أعدائكم، واستعداداً لمواجهة هذه الهجمات الشرسة. نسأل الله عز وجل أن يرد عنا كيد الكائدين، وأن يدفع عنا شرور المعتدين، وأن يحقن دماء المسلمين، وأن يحفظ أعراضهم وأموالهم، وأن يتقبل في الشهداء موتاهم. نسألك اللهم يا ربنا أن تهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تمكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، وأن تقمع أهل الزيغ والفساد، وأن ترفع في الأمة علم الجهاد. اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب. اللهم احفظ شبابنا وشاباتنا من زيغ الفكر وانحراف السلوك، اللهم احفظ أبناءنا وأزواجنا وذرياتنا من كل سوء ومكروه يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأصلح أحوالنا، ورخص أقواتنا. اللهم إنا نسألك أن تنزل علينا الخيرات، وأن تفيض علينا البركات، وأن تمحو وتكفر عنا السيئات، وأن تقيل لنا العثرات، وأن تضاعف لنا الحسنات، وأن ترفع لنا الدرجات، وأن تبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك يا سميع الدعاء! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل الدائرة تستوي عليه، وأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، ورد كيده في نحره. اللهم إنا نسألك أن تنزل سخطك ورجزك وغضبك على أعداء الإسلام والمسلمين، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر. اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم لطفك ورحمتك بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، اللهم زد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا، وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم ثبت وأعن وانصر إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، اللهم زدهم إيماناً، وقوة وشموخاً، وعزة ونصراً، وعزاً وتمكيناً يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من جندك المجاهدين، ومن عبادك المخلصين، ومن ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم أهل القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الغلو معالمه ومخاطره [1]

الغلو معالمه ومخاطره [1] ما من أمر إلا وللشيطان فيه نصيب إما بالغلو والإفراط، وإما بالتمييع والتفريط، والغلو كبير خطره، كثيرة مفاسده، عظيمة آثاره، ولقد حذر الله ورسوله منه، كما بين أهل العلم معالمه وصوره ومخاطره.

تعريف الغلو لغة واصطلاحا

تعريف الغلو لغة واصطلاحاً الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعم نواله، وعظم عطاؤه، وتعددت آلاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى، جعل الإسلام يسراً، وجعل المسلمين أمة وسطاً، نحمده سبحانه وتعالى على آلائه الجليلة، ونعمه الكثيرة، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعه واقتفى أثره ونهج نهجه إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فمن حديثنا السالف في جمعتنا الماضية جاءني من الإخوة المصلين من هو مستحسن وموافق، ومن هو طالب ومستزيد، ومن ما زال عنده بعض حيرة وتساؤل، ولأننا كما تعودنا دائماً نؤكد ونذكر أنفسنا بقصد وجه الله سبحانه وتعالى والإخلاص له، وإرادة الخير والهدى والمصلحة لأمة الإسلام والمسلمين؛ نشرع في بيان قد يطول، لكنه مهم ومفيد، ولأننا وكما أكدنا كثيراً في السابق لا نريد أن تكون أقوالنا وأحاديثنا ردود أفعال مؤقتة، أو عواطف متأججة لا يخالطها أصالة المنهج العلمي، واتزان التفكير المنهجي، ومن ثم فإن بعض الذين رأوا أهمية لمثل تلك الموضوعات التي تعالج أحوالنا، وما قد يقع من خلل في مجتمعاتنا؛ أراد الحديث عن التكفير وبيان خطورته، وآخر أراد أن يكون هناك مزيد من البيان لمثل هذه المسائل. وسيكون حديثنا عن الغلو معالمه ومخاطره، ونبدأ فيه ببيان معناه، ثم نؤكد أصالة المنهج في سمة الإسلام وخصائصه. الغلو في لغة العرب: مجاوزة الحد، وكل من غلا فقد تجاوز الحد. والمعنى الاصطلاحي كما عبر عنه كثير من العلماء: مجاوزة الحد والتشدد فيه. المبالغة في الشيء والتشدد فيه بتجاوز الحد أي: في الأمور الدينية المشروعة. وألفاظ أخرى تدور في هذا الفلك منها التطرف، وهو في لغة العرب أيضاً: حد الشيء، وفي بيان المعنى اللغوي قال كثير من أهل العلم باللغة: إن التطرف هو طلب نهاية الحد أي: طرفه الأقصى والأبعد، وهو قريب من معنى الغلو في هذا، ثم التنطع وأصله من النطع وهو: ملاسة الملمس، ونطع الفم: وهو غار الفم وهو الحنك الأعلى، لا يظهر إلا إذا رفع الإنسان صوته، وتشدق في كلامه وتعمق، فصار -كما قال أهل اللغة- قريناً لكل تنطع وتعمق، والتشدد هو: أخذ الأمور بالشدة، وترك الرفق، والعنف كذلك مثله. فهذه المعاني تدور كلها على الشدة التي تبلغ حداً يتجاوز الحد، وكلها متقاربة المعنى، فالغلو وأهله تجمعهم هذه الصفات في جملتها، تشدد في الأخذ بالدين، وتعمق في أفعالهم وأعمالهم، وعنف وتشدد في معاملة الآخرين، ولكننا قبل أن نمضي في هذا المعنى، ونفرع في صوره وأشكاله، أو نذكر معالمه وملامحه نقول سؤالاً مهماً: قولهم: (تجاوز الحد) أي حد هذا الذي يتحدث أهل العلم عن تجاوزه؟ إنه الحد الشرعي الذي يعتبر الخروج عنه مذموماً سواء كان تجاوزاً له وزيادة عليه بالغلو، أو كان قصوراً عنه وتركاً له بالجفاء، ومن هنا نعرف ما قاله أهل العلم أن الدين ضاع بين الجافي عنه والغالي فيه، الجافي عنه مفرط بالأخذ به، مقصر في التمسك بأحكامه، متهاون في التزامه وتطبيقه؛ والغالي فيه زائد عن المشروع فيه، متشدد في فهم أصوله الصحيحة، وقاس وعنيف وغير رفيق في معاملة الآخرين بما هو تجاوز للحد المشروع، فلا هذا مقبول، ولا ذاك مقبول. ومن المهم كثيراً أن نقف على هذا الحد، وأن نعرف أصل الدين حتى نعرف بعد ذلك من يزيد عليه ويغلو فيه، أو من يقصر عنه ويجفوه، فإنه لا تتبين الأطراف إلا إذا عرف الأصل، ولا تعرف الغايات في الطرفين إلا إذا عرف الوسط، ولعلنا معنيون بذلك أكثر؛ لأن فهم أصل الدين وحقيقته وسماحته وخصائصه هو الذي يجعلنا ندرك تماماً مفهوم الغلو في الدين وفق ما جاء في مصطلح الشرع في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحديث قد يطول بنا في هذا، والناس ما زالوا متعلقين بالحديث المباشر عن الغلو أو التكفير، ومرة أخرى أعيد الكرة: نريد منهجاً سديداً، ونريد فكراً رشيداً، ونريد علماً مؤصلاً، لا نريد هيشات فارغة، ولا حماساً متعجلاً، ولا معالجة آنية قاصرة، وفهم الدين في أساسه هو أعظم الأمور.

سمات وخصائص الإسلام

سمات وخصائص الإسلام وليس لنا حديث في هذا اليوم إلا في بيان الأصل، والحد المشروع في سماته وخصائصه العامة؛ ليتضح من بعد ما نرجو أن يوفق الله إليه من إكمال الحديث في الغلو ومعالمه ومخاطره. وهذه سمات وخصائص الإسلام التي تتعلق بهذا المعنى في الخروج عنها إلى الغلو عنها أو الجفاء:

الوسطية

الوسطية السمة الأولى: الوسطية، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، إنه الوصف الرباني الإلهي لأمة الإسلام، والوصف إذا ذكر فله سمات مهمة: أولها: أنه ظاهر بين، إذا أردت أن تصف إنساناً فلا يمكن أن تصفه بصفة خفية لا يعرفها إلا المقربون منه، ربما نصفه بعرج في رجله أو شيء في عينه يراه الناس، لكني إن وصفته بشامة في داخل جسمه من عسى أن يدركها؟ فإن قلنا: أمة الإسلام أمة الوسط فمعناه أن هذه الصفة ظاهرة بينة. وأمر ثان في الصفة وهو أنها ملازمة دائمة، لا نقول عن إنسان: إنه كريم؛ لأنه أنفق مرة واحدة، بل لا نعطيه الصفة إلا إذا كانت ملازمة له ودائمة في سائر أحواله: لعمر أبيك ما عرف المعلا كريماً وفي الدنيا كريم ولكن البلاد إذا اقشعرت وأصحر نبتها رؤي الهشيم فإذاً: الوسطية سمة في الإسلام في كل الأحوال، في السراء والضراء، في السلم والحرب، في معاملة الأحباء ومعاملة البغضاء لا يتغير ذلك. كما هي الصفة اللازمة الدائمة، وكما كان سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه أن يرزقه الله سبحانه وتعالى العدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، إنه الأمر الدائم، والسمة اللازمة. ونحن نعرف أن هذه الوسطية تجمع بين أمرين اثنين لابد من وجودهما في كل معنى من هذه المعاني: أولاً: الخيرية. ثانياً: البينية الوسطية معنوية وحسية، فلا يمكن أن يكون الشيء وسطاً إلا إذا كان هو الأفضل والأعدل والأحسن والأكمل. ومن دلائل هذه الخيرية والعدالة والأفضلية أنه وسط بين المذموم من الطرفين، وهذه سمة الإسلام، وسمة أهله، وسمة تشريعاته، وسمة عقائده، سمة الوسطية أمرها يطول إذا أردنا أن نتحدث عنها أو أن نفيض القول في دلائلها، وحسبنا أن نبرز ذلك في الأمور الظاهرة البينة مما كتبه عمر بن عبد العزيز في بعض رسائله لبيان حقيقة الإسلام، وصفة مواقف السلف رضوان الله عليهم، قال رحمه الله في هذا المعنى: (لقد قصر قوم دونهم -أي: دون سلف الأمة- فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم)، الوسطية خير وفضل، ينأى ويبتعد عن تساهل وتفريط، وعدم تعظيم للدين وأخذ به، ويجتنب كذلك تشدداً ليس من دين الله وتجاوزاً للحد ليس في شرع الله، فتكون حينئذ خيرية ووسطية بينية. ومما قاله ابن القيم في بيان هذا المعنى: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين الضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد. واستمع إلى نماذج يسيرة يضيق المقام عن استقصائها: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] ليس ذماً للدنيا، وليس إغراقاً فيها وتعلقاً بها، وجعلها مقصد الإنسان الأول والأخير والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]. وفي موطن آخر التحذير من التعلق بالدنيا وجعلها غاية الهم وأعظم الشغل، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20]، كما بين الله سبحانه وتعالى في هذا المثل، وجاء في آخر هذه الآية ما يبين لنا ذلك التوازن والتوسط الذي ينبغي أن نأخذ به في مثل هذا المثال.

اليسر في دين الله سبحانه وتعالى

اليسر في دين الله سبحانه وتعالى السمة الثانية: اليسر في دين الله سبحانه وتعالى، وقد جاءت الآيات بينة واضحة في إرادته وقصده، ووصف الإسلام وتشريعاته به كما قال الحق جل وعلا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وكما قال الحق سبحانه وتعالى في أصل هذا الدين، ونعمة الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]. إنها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ترفع الأغلال، وتضع الإصر والأحمال، بما جاء به من هذه الشريعة الميسرة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر فأوغلوا فيه برفق)، القائل هو أعظم الناس التزاماً بهذا الدين، وأكثرهم أخذاً بشرائعه وعباداته، ثم يقرر هذه الحقيقة: (إن هذا الدين يسر فأوغلوا فيه برفق)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً صفة بعثته ورسالته: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم من حديث عائشة. وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الدين أجاب بقوله: (الحنيفية السمحة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والطبراني بسند رجاله ثقات: (إن خير دينكم أيسره)، واليسر المقصود هنا الذي نقل لنا التزامه وتطبيقه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، ليس اليسر هو الترخص والتفريط الناشئ عن عجز الناس وخور هممهم، وضعف عزائمهم، وقلة تعلقهم بأمر الله وثوابه سبحانه وتعالى، فإن ذلك عجز وليس يسراً. وهذا أمر مهم في كل ما نذكره أن المقياس والمرجع في فهم اليسر وتحديده هو الكتاب والسنة، والتطبيق العملي في سيرة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاهو النبي في أمثلة وجيزة نوردها هنا -بحسب المقام- يدلنا على أهمية هذا اليسر والالتزام به، فهو يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وكما قال في غير ذلك مثل هذا المعنى: (لما جاءه الرجل يشكو إطالة إمامهم في الصلاة حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم وقال: أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة) رواه مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه. ثم نرى ذلك في صوره المختلفة، وتعاملاته المتنوعة، فعندما بعث معاذاً وأبا موسى الأشعري كانت وصيته الأولى لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)، وما أعظمها من وصية لكل من يريد أن يصلح الأمة أو أن يدعو أبناءها أو أن يحكم بينها! فلابد من تقديم اليسر على العسر، ولابد من تقديم التبشير على التنفير، ولابد كذلك من المطاوعة لا الاختلاف والمنازعة، وهذا أمر بين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد فيه أيضاً إلى آحاد الأفراد في أعمالهم: (رأى حبلاً متدلياً من سارية من سواري المسجد فسأل عنه فقالوا: حبل لـ زينب تصلي فإذا تعبت تعلقت به، فقال: ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد)، وهذا رد إلى اليسر. (وذاك الرجل الذي نذر أن يقف في الشمس، وألا يتكلم، وأن يحج ماشياً، ولا يستظل، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم والناس حوله قال: ما هذا؟ قالوا: رجل نذر كذا وكذا قال: مروه فليستظل، وليركب، فإن الله غني عن تعذيب هذا نفسه). صورة من صور حماسة النفس أراد بها هذا الرجل أن يجعلها وسيلة للتقرب إلى الله، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ورده إلى الأصل والحد المشروع الذي سيمته اليسر، وهذا أمر بين. وحتى في علاج الأخطاء كان كذلك عليه الصلاة والسلام كما روى ابن مسعود فيما صح عند البخاري: (أن رجلاً أصاب قبلة من امرأة، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فقال الرجل: أهذا لي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل لمن عمل بها من أمتي)، ولا يفهمن أحد من ذلك أنه ترخيص في ارتكاب الإثم أو دعوة إليه، أو تهوين له في نفوس الناس، ولكنه إدراك لطبيعة الإنسان، وما قد يقع منه أثناء غفلته أو شهوته، وأصل إيمانه داع له للندم والاعتراف، فتفتح له ما فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب المغفرة والرحمة، وإن كان أمراً مما يؤاخذ عليه الشرع بحد أو نحو ذلك أخذ به. ولكنه مع ذلك أصل إيمانه في قلبه يدل على صدقه، وإخلاصه في توبته إلى الله سبحانه وتعالى، ولما جاء رجل من الناس قد شرب الخمر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه؛ لأنه قد ارتكب كبيرته، وأقيم الحد عليه، قال الراوي: ومنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، ثم قال رجل: أخزاه الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا عليه الشيطان).

السماحة

السماحة السمة الثالثة: السماحة، وهي نوع وأمر يدل على ذلك اليسر، لكنه يظهر في أصول الأمر والتشريعات، كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن الأمر الأعظم في حياة الأمة ودورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، سماحة في عرض هذا الدين، وفي الدعوة إليه، وفي البيان له، حتى تقتنع به العقول، وتقبل عليه القلوب، وتتعلق به النفوس، وتلتزمه الجوارح، وتتحرك به لإعلانه ونشره والدعوة إليه. والله سبحانه وتعالى يبين ذلك في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، أطغى وأكفر من ذكر الله عز وجل من أولئك الذين خرجوا عن أمر الله سبحانه وتعالى، جاء الأمر إلى موسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، وليس ذلك اللين عن ضعف أو خوف أو جبن، وليس ذلك اللين مداهنة أو مجاملة أو منافقة، إنما هو القول الجميل، والدعوة إلى الله تعالى بآياته، والتنبيه على حججه كما ذكر ابن كثير في التفسير، إنه أسلوب عرض فيه سماحة، وفيه لين في الأداء ليس في المضمون، وليس اللين أن نغير أحكام الله، ولا أن نبدل دين الله، ولا أن نقول: إن الجهاد قد ألغي أو عطل، ولا أن نقول بأن تعليم شرع الله عز وجل انحراف يؤدي إلى خطر، فإن ذلك ليس ليناً بل هو تحريف وانحراف، كما أن ذلك في جانب فهذا في جانب آخر. وهذه السماحة عظيمة في كل شرائع الإسلام، حتى الشرائع التي ظاهرها عند بعض من يجهل ويهوى أنها تتناقض مع السماحة، وهي شريعة وفريضة الجهاد القائمة الماضية إلى قيام الساعة. إنها ليست من القسوة في شيء، إنها ليست دموية ولا إرهابية، إنها سماحة للبشرية، ورحمة للإنسانية، شريعة الجهاد رحمة بالبشر؛ ليخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، ومن الطبقية والعنصرية إلى المساواة والأخوة الإنسانية والرابطة الإيمانية. والله سبحانه وتعالى يذكر لنا ذلك، وتبينه شرائع الإسلام، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] إما أن يسلموا فلهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإما أن يذعنوا لحكم الإسلام ويبقوا على ما هم عليه، ويخضعوا لتشريعات سلطان الإسلام، ويدفعوا الجزية إليه في مقابل ما يلقونه من الخدمة والنصرة، وإما أن يأبوا فمن يأبى النور ومن يأبى الحق ومن يتسلط على رقاب الناس يأتي الإسلام ليحرر الناس التحرير الحقيقي لا المزيف الكاذب، ولينصر النصر الحقيقي لا الكاذب، وذلك أمره بين، والله سبحانه وتعالى قد بين ذلك، وبينته وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في القتال: (لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً)، ووصية أبي بكر الشهيرة إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه، حتى الشجر والنخل نهى عن عقره وحرقه إن لم يكن له داع وسبب، فليس الجهاد في إزهاق النفوس بلا سبب ولا مصلحة راجحة، ولا موجب لذلك من أولئك الكفرة الفجرة المعادين لأهل الحق والإسلام، بل والمعادين للبشرية والإنسانية. ونرى ذلك كذلك في أمور أخرى كثيرة، كقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]. وإذا كان ثمة عهد فالآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقال عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4]. ذلك كله لابد أن نفقهه في إطار جامع واسع، وتلك هي سماحة الإسلام في سمة واضحة من سماته، وصفة جلية من صفاته. نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يفقهنا في إسلامنا، وأن يلزمنا شرع نبينا، وأن يلزمنا هديه صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الاستقامة

الاستقامة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واعلموا أن من سمات أصل هذا الدين الاستقامة، وهي ملازمة النهج الصحيح الذي ثبت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد أمر المصطفى عليه الصلاة والسلام أمراً واضحاً بالوسطية والسماحة واليسر بعيداً عن تلك الأطراف الذميمة من الإفراط والتفريط أو الغلو والتشديد. كما في قوله جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]، أي: لا تزيدوا عن الحد، ولا تتجاوزوه حتى في معاملة الأعداء، فإن ذلك من سمة أهل الإسلام: العدل والإنصاف والاستقامة، كما قال جل وعلا: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15]، فليس هناك ثمة طغيان، وليس ثمة تفريط وترك واتباع للأهواء موافقة للأعداء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير دينكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، رواه ابن ماجة بسند صحيح، أي: لن تستطيعوا البلوغ إلى الكمال، فاستقيموا كما جاء في الحديث الآخر تفسيره: (سددوا وقاربوا)، أي: اجتهدوا، ليس المقصود باليسر ولا بالسماحة الأخذ بالأدنى، بل قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل في الأخذ بالأعلى من الأمر المشروع والعبادة العظيمة، مع ما كان له من خصائص لم يشاركه فيها غيره من الصحابة، ونبههم على ذلك أنه ليس كمثلهم، وأمرهم ألا يفعلوا مثل فعله فيما هو من خصائصه عليه الصلاة والسلام، كما في قصة النفر الثلاثة الذين رأوا أن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قليلة وقالوا: قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبين سوء فهمهم، وقال: (ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا، عندما قال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الثاني: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج، وقال الثالث: أما أنا فأصوم ولا أفطر، فقال عليه الصلاة والسلام: أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فبين عليه الصلاة والسلام الاستقامة في سائر أحواله وأعماله صلى الله عليه وسلم. ولعلنا في وقفتنا الأخيرة نشير إلى أصل المعنى الذي يقع في أهل الغلو خروجاً عن هذه السمات من وسطية ويسر وسماحة واستقامة هي من صميم هذا الدين، وهي الحد المشروع الذي يعد الغلو خروجاً عنه، روى الشيخان في صحيحيهما صفة جامعة من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الغلو، عندما جاءت القسمة المشهورة، وجاء الاعتراض من ذلك الرجل على روايات مختلفة (عندما قال للرسول عليه الصلاة والسلام: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! وفي رواية: لم تعدل! فقال عليه الصلاة والسلام: من يعدل إن لم أعدل؟! ثم وصف ذلك الرجل فقال: يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان). ومن هنا قال أهل العلم: إن السمة الجامعة لكثير من فروع الغلو ترجع إلى هذين الأمرين: الجهل بالقرآن والشرع كما قال في هذا الحديث: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، قال الشاطبي في معناه: يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده. وقال النووي رحمه الله: ليس يصل إلى قلوبهم أي: القرآن؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره، وهذا لا يحصل منهم، والجهل هو الباب الأعظم والأكبر للدخول إلى هذه المزالق الخطيرة، ويترتب عليه ما يترتب عليه، وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما في مثل هذا المعنى: (انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المسلمين) لم يفقهوا أسباب النزول، ولم يفقهوا مقاصد الألفاظ ودلالاتها ومعانيها، ولم يفهموا بقية النصوص الشرعية التي تكمل بها الصورة، وينتقل حينئذ الأمر إلى السمة الثانية وهي التكفير للمسلمين، وبالتالي استحلال دمائهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)، وذلك ما سنشرع في الحديث عنه، في الجمعة المقبلة إن شاء الله. نسأل الله عز وجل أن يجنبنا الغلو غير المشروع، وأن يجنبا التفريط في الأخذ بأمر الله سبحانه وتعالى، وأن يجعلنا من أمة الإسلام الوسط الآخذة بأمره سبحانه وتعالى، والآخذة بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم. اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم إنا نسألك لقلوبنا السلامة والعافية، ولأبنائنا الصحة والقوة، ولمقاصدنا الإخلاص وإرادة وجهك الكريم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، وانشر الأمن في البلاد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة ما يعلي رايتها، وما يعز دينها، وما يوحد صفها، وما يقوي شوكتها، وما يسدد رميتها، وما ينصرها على عدوها يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين، واجعلنا من الذين تتوفاهم على حقيقة الإسلام يا رب العالمين! نسألك اللهم أن تجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) يا أكرم الأكرمين! يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الغلو معالمه ومخاطره [2]

الغلو معالمه ومخاطره [2] لقد جاء كتاب ربنا سبحانه وتعالى كاملاً مكملاً لا نقص فيه ولا خلل، وجاءت سنة حبيبنا واضحة وضوح الشمس لا نقص فيه ولا عوج، فيجب العمل بهما كما جاءا من دون زيادة ولا نقصان؛ فإن الغلو الزائد الذي لم يأت به كتاب ولا سنة منهي عنه في الشرع بكل صوره وأشكاله، فإن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة.

أسس الفهم الصحيح

أسس الفهم الصحيح الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، شرح به الصدور، وطمأن به القلوب، وهدى به البصائر، وجعلنا على بينة من أمرنا، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً. وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول في موضوع: الغلو معالمه ومخاطره، ووقفتنا اليوم مع الفهم الصحيح لحقيقة الغلو، وبيان بعض صوره، وقد أسلفنا القول من قبل أنه لابد لنا أولاً من فهم وفقه حقيقة الإسلام في وسطيته واستقامته، ويسره وسماحته؛ لأن هذا هو الحد المشروع الذي إنما يعرف الغلو بتجاوزه وتعديه، والزيادة عليه أو النقص منه.

المرجعية لكتاب الله وسنة رسوله عند حصول النزاع

المرجعية لكتاب الله وسنة رسوله عند حصول النزاع ولذلك أول أسس الفهم الصحيح هو الفهم للحق الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير إفراط ولا تفريط. الأمر الثاني: أن المرجعية عند حصول الاختلاف أو النزاع إنما هي لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فلابد من معرفة هذه القضية، فعند اختلاف الآراء، أو تباين الأفكار، أو تعدد الاجتهادات فالفصل لا يرجع إلى الأشخاص، ولا يرجع إلى المذاهب، ولا يرجع إلى التقليد أو التعصب، وإنما إلى الاستنارة بضوء وأنوار الكتاب والسنة على ما تقتضيه الأصول العلمية المرعية، والاجتهادات العلمية المقبولة. الأمر الثالث الذي ننبه عليه: هو أن هذا الرجوع فيه ثبات للمرجعية والمعيارية، وسلامتها من تنازع الأهواء وضغوط الواقع، فلو أنه لم يكن لنا رجوع إلى الثابت المعصوم من نصوص الكتاب والسنة لانفرط عقدنا، واختلف رأينا، وتشتت شملنا، وذلك أنما في كتاب الله حق لا باطل معه، ويقين لا شك فيه، وأمر صالح لكل زمان ومكان. ثم هو من جهة أخرى سالم من التغير والتبدل رغم كل تغيرات الظروف والأحوال، وبذلك نفقه هذا الأصل المهم في حقيقة فهم الغلو، فإنه ليس فهماً ينشأ من واقع الناس، فإذا بدل الناس وغيروا في دين الله، وفرطوا فيه، صار الغلو عندهم مفهومه مفهوماً آخر. وربما رأوا أن التمسك بالفرائض والمحافظة عليها، والاجتهاد في الطاعات، والزيادة في المشروع منها غلواً غير مقبول كما يظن أولئك الضعفة والكسلة المفرطون في الواجبات، المتخاذلون عن التزام الفرائض، ولو جعلنا ذلك مرجعه إلى الناس لربما جنحت أهواؤهم ممالأة لأعداء الله عز وجل، ومصانعة لهم، أو خوفاً منهم أو توهماً أن عندهم شيئاً من صواب، وذلك يؤدي بنا إلى الانحراف. فلنعلم هذه الحقيقة المهمة، ثم لنفهم الإطار العام والمنهج الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الغلو فيه حتى لا نجنح إلى مثل هذه الأمور التي أشرنا إليها.

المعالم الرئيسية للفهم الصحيح لحقيقة الغلو

المعالم الرئيسية للفهم الصحيح لحقيقة الغلو

الدعوة إلى الالتزام بالكتاب والسنة وعدم التجاوز

الدعوة إلى الالتزام بالكتاب والسنة وعدم التجاوز أولاً: الدعوة إلى الالتزام والنهي عن التجاوز هي مفتاح ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك للوقاية من الوقوع في الغلو، ولفهم حقيقته على وجهها الصحيح، نحن نقرأ في كل يوم وفي كل ركعة من كل صلاة فريضة وسنة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. إنها الدعوة إلى النهج المستقيم، المتزن المتوسط المعتدل الذي هو جوهر ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحذير من الخروج عنه تجاوزاً أو تقصيراً، إفراطاً أو تفريطاً، والنهي هنا جاء محذراً من فئتين بوصفين ذكرتهما الآية الكريمة: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وهم الذين عرفوا الحق وجحدوه، والضالون: وهم الذين ضلوا في معرفة الحق فلم يصيبوه، والخصلة الأولى بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها ظاهرة في اليهود، والثانية ظاهرة في النصارى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لما أمرنا الله أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم كان ذلك مما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين. ثم بين صوراً لذلك فقال: وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه باليهود ومن انحرف من العباد ففيه شبه بالنصارى؛ لأن العالم إذا انحرف فهو ينحرف مع معرفته وعلمه وفقهه، فهو عرف الحق وجحده، إما اتباعاً للهوى أو طلباً للدنيا أو خوفاً على النفس فيما لا يكون عذراً من الناحية الشرعية، والعباد الذين يضلون لا يعرفون الحق، فيبتدعون ويزيدون وينقصون من دين الله عز وجل.

نهي الأمم السابقة عن الغلو الذي كان سبب هلاكهم

نهي الأمم السابقة عن الغلو الذي كان سبب هلاكهم الوجه الثاني: التحذير من الغلو مقترناً بالنهي عنه في الأمم السابقة، كما ورد ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]. وبين الله عز وجل صوراً من آثار ذلك الانحراف من الناحية العملية، وأنكر ذلك وحذر منه كما في قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك عندما ربطه كذلك بمن سبق من الأمم السابقة في قوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم) أي: عندما قالوا: المسيح بن الله أو قالوا: المسيح هو الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وما جاءت هذه الآيات ولا تلك الأحاديث للإخباء عن أمر قد مضى في الأمم السابقة إلا ليكون وجهاً من أوجه العظة والعبرة، وأن سبب انحرافهم ومن بعد ذلك هلاكهم إنما هو خروجهم عن مقتضى دينهم، وغلوهم فيه، وانحرافهم عن جادة الصواب الذي جاءهم عن الله، وبلغتهم إياه رسل الله صلوات الله وسلامهم عليهم.

النهي عن الغلو في صوره العامة

النهي عن الغلو في صوره العامة الوجه الثالث: النهي عن الغلو في صوره العامة كلها صغيرها وكبيرها؛ لأن معالجة الأمور الصغيرة إنما هي معالجة من باب أولى للصور الكبيرة؛ ولأن النهي عن المقدمات منع للوصول إلى النتائج، ولأن منهج الإسلام منهج متكامل، فيه وقاية وحماية، كما فيه علاج من بعد وقوع الضرر أو الأذى، كما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس في حجة الوداع: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يلتقط له الحصى التي يرمي بها في منى، فالتقط له حصيات كحصى الخذف -أي: صغيرة في حجمها- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين!)، رغم أن المسألة -كما نرى- في ظاهرها يسيرة، في أمر الحصى أن تكون على هذا النحو، ولكنه عليه الصلاة والسلام حذر من الغلو ولو في هذا، بأن يأخذ الناس كبار الحجار ظناً منهم أنها أبلغ في تحقيق المراد بأمر الله، فنهى عن ذلك، ثم جعل النهي عن الغلو عاماً رغم أن الحدث خاص، ورغم أن المسألة ربما تعد مقارنة بغيرها يسيرة فقال: إياكم والغلو في الدين. كما بين أهل العلم هذا في شرح الحديث فقالوا: وإن كان الأمر خاصاً فإن النهي عام عن كل ما فيه غلو وتجاوز للحد المشروع، أي: في صغير الأمور وكبيرها. ومن صور التحذير والتنفير من الغلو بيان الشارع الحكيم لسوء عاقبته، وخطورة مغبته، وأنه لا يؤدي حتى إلى مقصود صاحبه، فإن المتشدد في العبادة أو الطاعة فوق الحد المشروع إنما يريد التقرب إلى الله، وإنما يريد الاستزادة من الخير ومضاعفة وكثرة الثواب والأجر، لكن النتيجة التي أخبر بها الشارع تؤدي إلى غير ذلك. فجاء التحذير من هذا الغلو ببيان عاقبته السيئة الوخيمة، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكرر ويدلل ويبين فيقول: (هلك المتنطعون! هلك المتنطعون! هلك المتنطعون!)، هلكوا هنا معناه عام يشمل الهلاك في حقيقة الأمر المادي والمعنوي، فقد يهلك فينقطع عن تلك الطاعات والعبادات ويعجز عنها، وقد يهلك بانحرافه في اعتقاده ومخالفته لأمر الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بين صفة ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى)، إن المنبت في صفة السفر لا يريد أن يرتاح، فهو يقول: أنا أمضي وأمشي إلى غايتي بقوة وعزيمة، من غير راحة ولا هدوء ولا توقف، يريد أن يبلغ الغاية في أقصر وقت، وبأعلى قوة وهمة، فإذا به ينقطع في وسط طريقه لا يستطيع الاستمرار، ثم يفقد الوسيلة التي بها يسير إلى الغاية إذ تنقطع دابته أو تهلك، فيكون حينئذ هلاكه مقطوعاً به في الصورة المادية في المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم. ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً قد تشددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: {ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]). وهذا أمر واضح ومهم وبين، وله كثير من الأدلة التي تبينه.

صور وأمثلة على الغلو المذموم

صور وأمثلة على الغلو المذموم بعد أن ذكرنا المعالم الرئيسة للفهم الصحيح لحقيقة الغلو، لعلنا نكمل هذا الفهم بالصور والأمثلة التي تدل عليه؛ لأنه بالمثال يتضح المقال.

التشديد على النفس بما هو زائد عن الحد المشروع

التشديد على النفس بما هو زائد عن الحد المشروع من أول هذه الصور وأجلاها التشديد على النفس بما هو زائد عن الحد المشروع، ورد في حديث قبيصة بن مخلب عن أبيه رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن من الطعام طعاماً أتحرج منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا يختلجن في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية) رواه أبو داود. قال الشارح: لا يدخل في قلبك ضيق ولا حرج؛ لأنك على الحنيفية السمحة، فإذا شددت على نفسك بمثل هذا شابهت فيه الرهبانية، والمقصود هنا أن بعضاً من الأمور التي تدخل في دائرة الحلال العام ربما نجد من يشدد على نفسه في تحريمها، أو في البحث عن أصولها بحثاً ليس هناك ما يدعو إليه من ناحية الشرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها). وقد بين الحق سبحانه وتعالى لنا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة:101]، وهذا ضرب من الضروب، يبعث عليه أحياناً شعور في الرغبة في التورع والاستزادة من الزهد، غير أننا ينبغي ألا ننسى الأمر المهم، وهو أننا متعبدون في دين الله على شرع الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا على نوازع النفس، ولا العواطف، ولا ردود الأفعال.

تحريم الحلال وتحليل الحرام

تحريم الحلال وتحليل الحرام قال ابن تيمية رحمه الله: التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، أو تارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه من الطيبات. وهذه قضية أخرى، وصورة نفردها في شأن التحريم والتحليل. جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعندها امرأة فقال: من هذه؟ فذكرت من صلاتها -أي: عبادتها الزائدة عن الحد المشروع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه! عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه). وهذا ظاهر في هذا التوجيه والإرشاد، وجاء من حديث عائشة ما يبين ذلك، وأثره في الصحابة وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم لهم، قالت: (كان إذا أمرهم أمراً أمرهم من الأعمال ما يطيقون فقالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله! إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر)، كان يأمرهم من الأعمال بأوامر يطيقونها، وبعبادات يتيسر عليهم فعلها، فيرون أن ذلك دون طاقتهم وهمتهم وعزيمتهم، فيرغبون في الأكثر فيقولون: (إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله! إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر، قالت: فكان يرى الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم ثم يقول: إني أتقاكم لله وأعلمكم به). أي: قمة ما كان يأمر به هو التقوى، وإرشاده لأمته هو الأفضل والأكمل والأمثل الذي لا مزيد عليه، فمن أراد زيادة فإنما يخرج عن نهج الاعتدال الذي هو سمة الدين، ومن أراد تشديداً فوق المشروع فإنه كأنما يرى في فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصوراً ونقصاً، وهو يريد أن يكون أفضل أو أكثر. وقد أثر عن مالك إمام دار الهجرة: أن رجلاً جاء فسأله وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميقات أهل المدينة فأخبره به، وهو مكان معروف في خارج المدينة، فقال الرجل: لأحرمن من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الإمام مالك: هذه والله الفتنة! فسمع الرجل فرجع وقال: وأي فتنة يا أبا عبد الله! إنما هي أميال أزيدها أبتغي بها ثواب الله؟! أي: أحرم من هذا المكان فتزيد المسافة التي أسيرها وأنا محرم فيعظم أجري عند الله، فقال له: الفتنة أن تعمل عملاً تظن أنك فيه خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فليس هناك خير ولا كمال ولا فضل أتم وأكمل مما أثر عنه عليه الصلاة والسلام.

الاهتمام بعبادات مع ترك حقوق وواجبات

الاهتمام بعبادات مع ترك حقوق وواجبات من صور الغلو ترك الواجبات عند تزاحم الحقوق، فإن من الناس من يندفع إلى طاعة وعبادة، ويفرط في حقوق وواجبات أخرى هي من الشرع بمثابة تلك العبادات من حيث وجوبها، بل ربما تعلق وجوبها بحقوق للعباد، لا يكون التساهل أو التسامح فيها مثل ما قد يكون في حق الله عز وجل. والمثل المضروب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبي جحيفة عند البخاري وغيره في قصة مؤاخاة سلمان الفارسي مع أبي الدرداء رضي الله عنه، حيث (جاء سلمان إلى أبي الدرداء في بيته، فوجد امرأته مبتذلة قال: ما لك يا أم الدرداء؟! قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له فينا ولا في الدنيا نصيب -أي: تفرغ لطاعته وعبادته فقصر في حقوق أهله- فجاء أبو الدرداء فقدم الطعام إلى سلمان فقال له سلمان: كل، قال: إني صائم، قال: عزمت عليك إلا أكلت، وكان متطوعاً فأفطر، ثم لما جاء الليل أراد أن يقوم ليصلي فقال له: نم، ثم أراد أن يقوم فقال له: نم، ثم أراد أن يقوم، فقال له: نم، حتى إذا كان آخر الليل قال: قم فصل الآن، فصليا، ثم لما أصبح الصبح قال سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأخبر أبو الدرداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: صدق سلمان). وكم نرى من اندفاع في باب من الأبواب يقابله قطعاً وبلا أدنى شك تفريط في أبواب أخرى، فينبغي أن نفقه ذلك وننتبه له. قال ابن حجر في تعليقه على الحديث: فيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور. وفي حديث الرجل الذي نذر أن يمشي ويحج ماشياً ولا يستظل، نهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، قال ابن حجر: فيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب ولا سنة كالمشي حافياً، والجلوس في الشمس، ليس من طاعة الله تعالى؛ فلا ينعقد به النذر. وصور من مثل هذا نراها في واقعنا وخاصة عند بعض الشباب: إذا تعلق قلبه بالطاعة وأراد أن يعوض ما فاته من عمره، أو يكفر عما سلف من ذنبه، ربما شدد على نفسه بما لا يستطيع الاستمرار فيه، وفي كثير من الأحوال يفرط في حقوق أخرى. نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة من الغلو، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من أهل الوسطية والاعتدال، ومن أهل الاستجابة والطاعة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

التشديد على النفس بما ليس بمشروع

التشديد على النفس بما ليس بمشروع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن التشدد والتشديد على النفس فيما ليس بمشروع يفوت كثيراً من الحقوق، ويحصل به اختلال عن التوازن، ولعلنا نضيف إلى ذلك أموراً تبين هذا في أصل سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما بينه العلماء في ضوء هذه السنة الشريفة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، وفي رواية عند البخاري نصها: (يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى)، أي: لا يفر إذا لاقى العدو. قال الطبري في شرح الحديث: إنما كان صوم داود من أفضل الصيام من أجل أنه مع صومه لا يضعف عن القيام بالأعمال التي هي أفضل من الصوم، وذلك لثبوته للحرب أمام أعداء الله عند التقاء الصفوف، وتركه الفرار هنالك والهرب، فمن أضعفه صوم النفل عن أداء شيء من فرائض الله عز وجل فغير جائز أن يصوم صومه ذلك، بل محظور عليه إذا كان يصوم تطوعاً ويضيع بسبب ذلك الصوم فرضاً أو واجباً، بل إذا ضيع بذلك الصوم المستحب والنفل ما هو أفضل منه من نفل الأعمال، فإن صومه مكروه غير محبوب، وإن كنا لا نؤثمه، هكذا قال رحمه الله. وهذا يدلنا على أمر مهم: وهو النسبية، فإن ما يطيقه إنسان لا يطيقه غيره، وإن ما يطيقه إنسان في بعض أنواع العبادات قد لا يطيقها في غيره. قد يطيق الصوم لكنه لا يطيق طول القيام، وقد يطيق طول القيام ولا يطيق أمر الصيام، فينبغي للإنسان أن ينظر ما لا تتأذى به نفسه من المشروع فيأخذ به، وأما ما يفضي إلى سآمته وانقطاعه أو تفريطه في حقوق أخرى فينبغي له أن يوازن، فلا يقدم على عمل بتوسع مع علمه أو يقينه بأنه يفرط في غيره. وهذا أيضاً مما فقهه العلماء من صفة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم). قال الشاطبي في تعليقه على هذا الحديث: فانظر إلى ما كان من مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأحوال والظروف والأوقات، فربما في وقت ينشط لهذا، وربما في غيره ينشط لغيره، ولكن المهم هو ألا يتجاوز الحد المشروع بالتشديد على النفس بما يؤدي إلى انقطاعها أو سآمتها ومللها، وبما يؤدي إلى ترك المداومة على الأعمال. نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يفقهنا في كتاب ربنا، وأن يلزمنا هدي نبينا صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهتدين، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك لهذه الأمة أن تبرم لها أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، اللهم يا أكرم الأكرمين! يا أرحم الراحمين! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واصرف اللهم عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة. اللهم وأصلح أئمة المسلمين وولاة أمورهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم ووفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم اربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، ووحد صفوفهم، واعل رايتهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأنزل اللهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي! يا عزيز! يا متين! عباد الله! صلو وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم بالذكر ذو القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم صل وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

الترجمة النورانية لابن قيم الجوزية

الترجمة النورانية لابن قيم الجوزية الحديث عن سير العلماء والصالحين ليس لمجرد التسلية، بل الهدف الأسمى منه هو أخذ العبرة والعظة، والاقتداء بهم في علمهم وعبادتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم. والإمام ابن القيم أحد هؤلاء الأعلام الذين يقتدى بهديهم، ويستضاء بنورهم، وتستحث الهمم بالنظر في كتبهم وعلمهم، وقد برز في مجالات شتى: في مجال العلم والعبادة والأخلاق والسلوك والمعاملة، بل صار منظراً بارعاً، وطبيباً للقلوب ماهراً، وفقيهاً مبدعاً، ولأهل الزيغ والضلال قارعاً ومدحضاً، ولكلامهم وأباطيلهم مفنداً، فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

ابن القيم ونشأته رحمه الله

ابن القيم ونشأته رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين، إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الرحمين. أما بعد: فأيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وهذا موعدنا مع الدرس الثالث بعد المائة في يوم الجمعة الموافق للثامن من شهر الله المحرم عام 1415هـ. وعنوان هذا الدرس: "الترجمة النورانية لـ ابن قيم الجوزية " وهي وقفات يسيرة مع ترجمة عالم من علماء الأمة، وعلم من أعلامها، ومجاهد من مجاهديها، الذين أجرى الله عز وجل على أيديهم خيراً كثيراً، ونفعاً عميماً، وخلد لنا من سيرتهم ومن آثارهم وكلامهم وعلمهم شيئاً كثيراً، والحقيقة أن هذا الموضوع أعرض منه ما أحسب أنه يفيد لعموم الإخوة، سيما في مثل هذا الدرس، وأعرض عما قد يكون من أمور يحسن عرضها للمتخصصين في علوم الشريعة أو بعضها على أقل تقدير، ونحن نريد أن نقتبس أنواراً من ترجمة ابن القيم في حاله وفي منهجه. في حاله: من خلال أخلاقه وعلمه وعبادته وما يتعلق بذلك. وفي منهجه: من خلال أمور كثيرة تميز بها وبرز فيها، وهي من أعظم ما نحتاج إليه في مثل أوقاتنا المعاصرة. وأول ما نعرج عليه هو تسمية ابن القيم رحمة الله عليه. هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي الحنبلي يكنى بـ أبي عبد الله، ويلقب بـ شمس الدين، ويعرف بـ ابن قيم الجوزية، وهذه الشهرة قد تختصر فيقال: ابن القيم، وقد يقع الخطأ في تسميته كما هو واقع من كثيرين، فيقال: ابن القيم الجوزية أو ابن الجوزية وهذا وذاك غير صحيح. فالقيم: هو الذي يقوم على الأمر، ويكون قائماً بشئونه وما يحتاج إليه، فيقال مثلاً: قيم المسجد: أي: المسئول عنه، القائم بشئونه، وقد كان أبوه قيماً على الجوزية، والجوزية مدرسة ودار فيها كتب، فـ ابن قيم الجوزية هو ابن الرجل الذي كان قيماً على الجوزية، ولو اختصرت فقلت: ابن القيم لكفى بغض النظر عما كان قائماً بشأنه من الأمور والأعمال. كانت ولادته رحمة الله عليه في السابع من شهر صفر عام (691هـ) أي: في أواخر القرن السابع الهجري، وكانت وفاته في السابع عشر من شهر رجب عام (751هـ)، أي: على رأس النصف الثاني من القرن الثامن، وكانت مدة حياته ستين عاماً، وكان له خلالها جهد كبير وتاريخ عظيم.

وقفات مع ابن القيم في حاله ومنهجه

وقفات مع ابن القيم في حاله ومنهجه نقف وقفات نقتبس أنواراً من حاله، ثم بعد ذلك ننتقل إلى أنوار نقتبسها من منهجه.

الوقفة السادسة: استعراض مؤلفات ابن القيم في شتى العلوم

الوقفة السادسة: استعراض مؤلفات ابن القيم في شتى العلوم وقفة وجيزة في شأن العلم، نستعرض فيها بعض مؤلفات ابن القيم التي صارت من المؤلفات المشهورة، وسنذكر بعض ما يتعلق بها عندما نتكلم عن الأنوار المقتبسة من منهجه في التأليف. فقد ألف رحمة الله عليه في الإيمانيات والروحانيات كتباً كثيرة ومن أشهرها وأوسعها وأنفعها "مدارج السالكين شرح منازل السائلين" للهروي. وألف كذلك "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" وهو في أمر الصبر والشكر، وفيه كلام نفيس في التربويات والإيمانيات. وألف "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" وهو في أمر المحبة الإلهية وما يتفرع عنها من كلامه على أمر المحبة والعشق، وما يتعاطاه الناس من ذلك، وما يذم منه، وما يمدح، ونحو ذلك مما توسع فيه، وهو كتاب من الناحية الأدبية يعتبر في الرتبة العليا الذي صاغ فيه ابن القيم الكلام بأسلوب عجيب فريد، وبسجع قوي غير ملول، وشنفه وطعمه بأبيات شعرية هي من أروع أبيات الشعر العربي في هذا الباب. وألف أيضاً في الإيمانيات فيما يتعلق بأمور العقائد كتاب "الروح" و"حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح". وألف في المسائل العلمية المتعلقة بالعقيدة والتوحيد والرد على أهل الكلام، كما كان شيخه؛ لأن العصر في ذلك الوقت كان يقتضي هذا، ولنا وقفة وجيزة ستأتي إن شاء الله عن الفترة والبيئة التي عاش فيها. ألف "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" وقد أتى فيه بمنطق القوم وبلسانهم وحجتهم، ونقضها على طريقتهم ومنهجهم، ودحضها بالحجج من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت كتبه من عناوينها فيها مدلولات عجيبة، فهذا اسمه "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" وهي المسائل التي خاض فيها الخائضون فاضطربوا وحاروا، وتقلبت قلوبهم وأصبحوا على شوك الشك متقلبين، فهذا الكتاب شفاء لهذا المريض بهذه الشبه والشكوك، ينزعها منه ويدحضها له ويعدمها بالكلية، حتى يطمئن قلبه ويبرأ من علة الشك. له كتاب آخر "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" وهي صواعق من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطلت حججهم، وأفنت أمرهم، وأحرقت مقالاتهم، والكتاب من عنوانه مطابق لهذه العناوين. وكذا ألف كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية". وله النونية المشهورة واسمها "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" وغير ذلك أيضاً من الكتب. وأما في شأن الفقه وما يتعلق بمسائله، فله الكتاب البديع الرائع الذي هو "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ذكر فيه مسائل وضوابط في الفقه والقضاء والفتيا والتقليد والاجتهاد والتمذهب ونحو ذلك، وأتى فيه بنفائس عظيمة وجليلة ربما تستحق أن تكون مواضيع لدروس عديدة، وقد أفدنا من هذا الكتاب في دروس كثيرة، ومنها على سبيل المثال الدرس الذي كان بعنوان: اللباب في السؤال والجواب. وألف كتاب: "الطرق الحكمية في طرق الإثبات" وغيرها من الكتب الكثيرة في هذا المجال. وفي السيرة له الكتاب المشهور المعروف "زاد المعاد في هدي خير العباد" وهذا الكتاب فيه مزايا كثيرة جداً يضيق المقام عن حصرها، لكنه جمع فيه بين ما كان يسمى بكتب الشمائل وما كان يسمى بكتب السير والمغازي، فجمع المنهجين معاً في كتابه، إضافة إلى ما في هذا الكتاب من التحريرات التاريخية، والمسائل الفقهية الدقيقة التي توسع فيها كثيراً في بعض المواضع، فجمع في كتابه هذا بين التاريخ والفقه والسيرة والشمائل، وغير ذلك من العلوم، ومنها تعرضه لعلل بعض الأحاديث، وقد ألف هذا الكتاب أثناء سفره، أي: من غير كتب ولا مراجع، وإنما مما كان يحفظه في رأسه وفي قلبه من هذه النصوص والعلوم، وقد ذكر بعض الباحثين المعاصرين أنه ألف في السفر الكتب التالية: 1 - مفتاح دار السعادة. 2 - روضة المحبين. 3 - زاد المعاد. 4 - بدائع الفوائد. 5 - تهذيب سنن أبي داود. هذه الكتب ألفها في حال السفر، ولو نظرت إلى بعضها لرأيت فيها علماً جماً لو عكف عليه الباحثون وتفرغوا له، ربما لم يأتوا بجزء منه، وهذا يدلنا على علمه الواسع. وتميز ابن القيم بالكتب المتعلقة بالناحية التربوية النفسية، وله في ذلك: "إغاثة اللهفان" و"الجواب الكافي" وغيرهما من الكتب التي تتكلم على أمر الذنوب والمعاصي، وأمراض القلوب وعللها وأدوائها مما هو أيضاً معلوم وواسع. وقد توسع ابن رجب في ذكر هذه المؤلفات كثيراً، فنحن من خلال هذه الوقفات نؤكد على ما ينبغي أن نستفيده من هذه الترجمة في شقها الأول: ما يتعلق بحال ابن القيم في أخلاقه وخلاله، وفي عبادته وتهجده، وفي علمه ومؤلفاته، وأيضاً في استفادته من شيوخه وتعلمه على أيديهم. وننتقل الآن إلى الشق الثاني وأحسب أن له أهميةً أكبر من الشق الأول: وهو ما يستفاد من منهج ابن القيم رحمة الله عليه الذي قرره في كتبه، وعرف به في حاله وتقريره للمسائل التي تعرض لها.

الوقفة الرابعة: أثر صحبة ابن القيم لشيخه ابن تيمية واستفادته منه

الوقفة الرابعة: أثر صحبة ابن القيم لشيخه ابن تيمية واستفادته منه نحن نرى أن كثيراً منا في هذا العصر يريد أن يطلب العلم دون جهد أو عنى، ويريد أن يحصله دون طول زمن، بل يريد في لمحة من وقته أو ساعة من نهار أن يحفظ ويفهم ويدرك ويجيد ويتقن، وأما علماؤنا فقد كانوا على غير ذلك، وهذا مما ينبغي أن يتنبه له، ثم إنه قد استفاد رحمة الله عليه استفادةً واضحةً من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه؛ ولذلك وقفة أيضاً نأخذها هنا لنرى أثر الصحبة، والاقتباس، وتلقي العلم، والتربية الإيمانية العلمية والسلوكية التي غفل عنها كثير منا في هذه الأعصر. صحب ابن القيم شيخه من عام (712هـ) حتى وفاته في عام (728هـ) أي: أنه لازمه ستة عشر عاماً، كان فيها مختصاً به، مرافقاً له، أكثر الأخذ عنه والمدارسة معه، واطلع على سائر أحواله، وقد وصف من حال شيخه الكثير والكثير، مما يدل على تأثره به وأخذه عنه، وأنه لم يأخذ عن ابن تيمية رحمة الله عليه العلم وحده، وإنما أخذ عنه العلم والسلوك، وأخذ عنه الحال الإيماني والوصف التربوي، كما أنه أخذ منه أمر مهم وهو المنهجية في أخذ العلم والاستنباطات ونحو ذلك مما يأتي ذكره، وقد قال ابن القيم في وصف هذه العلاقة أبيات. يحكي فيها عن نفسه وما مضى به من الأحوال: يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكم معوان جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران أي: قبل أن يصحب شيخه ثم يقول: حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن ورأيت آثاراً عظيم شأنها محجوبة عن زمرة العميان وقال ابن كثير رحمة الله عليه: إن ابن القيم صحب ابن تيمية لما عاد الشيخ من الديار المصرية في سنة (712هـ) ولازمه إلى أن مات، وأخذ عنه علماً جماً. وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: إنه غلب على ابن القيم حب شيخه؛ حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه. وهذا الكلام من ابن حجر رحمة الله عليه ليس على إطلاقه؛ فإن ابن القيم قد استقى من شيخه أن المجتهد لا يقلد، وأن المصدر الذي ينبغي أن يعود ويرجع إليه العالم هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا فقد خالف ابن القيم شيخه في مسائل عديدة، ولم يكن موافقاً له في كل شيء، وإن كان استفاد منه كثيراً، وقد قرر ذلك في كتبه وطول النقل عنه، وكان يقول: أفدت ذلك من شيخنا، وكان يقول: ما أطلقت من قول شيخ الإسلام فأعني به ابن تيمية ونحو ذلك مما كان ينسبه إليه ويستفيده منه، ولكنه مع ذلك خالفه في مسائل ليست قليلة، وليس هذا موضع ذكرها، لكني أذكر بعض هذه المسائل، مثل مخالفته لشيخه في فهم كلام للإمام أحمد في مسألة الرضعة الواحدة، والاعتداد بها، وكيف تكون الرضعة. وكذلك أيضاً مسألة تتعلق بعدة الأمة، فقد خالف فيها شيخه، وغير ذلك من المسائل. وما نقتبسه هنا أيها الأحبة! أنه لا بد لطالب العلم من الشيخ الذي يتلقى عنه العلم، ويتعلم منه السلوك والسمت الصالح، ويأخذ عنه النهج الذي يفتح الله به عليه في معرفة ما يأخذ من العلم وما يدع، وكيف يأخذ هذا العلم، وكيف يصنع به ويستفيد منه وينشره، إلى غير ذلك من الأمور؛ لأنه ليس المطلوب هو مجرد حفظ العلم وتلقيه، بل كيفية الإفادة منه، والتعريف به، ونحو ذلك من الأمور اللازمة التي يحتاج إليها كثيراً.

الوقفة الخامسة: تصانيف ابن القيم وتآليفه

الوقفة الخامسة: تصانيف ابن القيم وتآليفه وقفة أخرى نقتبس منها أيضاً أنواراً أخرى، وهي ما يتعلق بكتبه وتآليفه؛ لأنها أثر من آثار علمه، ويعجب المرء بما كان لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم من همة وعزيمة، وما أمدهم الله عز وجل به من توفيق وتسديد. يقول ابن كثير في شأن مؤلفاته: وله من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير، وكتب بخطه الحسن شيئاً كثيراً، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف. وهذا وصف إجمالي سنذكر بعض تفصيله. وابن رجب يقول: كتب بخطه ما لا يوصف كثرةً، وصنف تصانيف كثيرةً جداً في أنواع العلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتنى من الكتب مالم يحصله غيره. وكان كلام ابن حجر في وصفه في هذا الباب من أجمل وأنفس ما يقال، يقول: وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لم يحصل غيره. يعني كان يجمع الكتب ويقتنيها، ونحن نعلم أن الكتب في ذلك العصر لم تكن مطبوعة بآلاف وعشرات الآلاف كما هو في عصرنا، فكان تحصيلها وجمعها وتتبعها ونسخها أمراً فيه مشقة وجهد وعناء لا يعرفه إلا من كابد ذلك أو بعضاً منه أو اطلع عليه. يقول ابن حجر: وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لم يحصل غيره، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً سوى ما اصطفوه لأنفسهم. من أولاده إبراهيم وعبد الله كانا من العلماء، وقد درسا بعد موت والدهما في المدرسة الصدرية، وكان أحدهما من أهل الفتيا والقضاء، وهما من أهل العلم، فاصطفوا لأنفسهم كتباً، ومع ذلك كانت كتبه من الكثرة أنهم باعوا بعضاً منها على مدىً طويل من الدهر والزمن. وقال ابن حجر في وصف تصانيفه -وهذا إطلاق عجيب دقيق مفيد من ابن حجر -: وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يتعاني الإيضاح جهده فيسهب جداً، ومعظمها من كلام شيخه يتصرف فيه في ذلك، وله في ذلك ملكة قوية، ولا يزال له يد في ذلك، ويبسط مفرداته وينتصر لها. إن قبول المؤلفات وسريانها بين الناس دليل من أدلة التوفيق الإلهي، وقد ذكر العلماء في تراجم بعض أهل العلم هذا المعنى كثيراً، وهو أنه رزق القبول في تصانيفه، أو انتشرت تصانيفه، وتلقاها الناس بالقبول، أو سارت الركبان بتصانيفه في حياته وأخذ بها العام والخاص، ونحو ذلك من الأمور التي ذكرت في بعض العلماء الأعلام الذين ما نزال اليوم نقرأ كتبهم ونتتلمذ عليها، ونرجع إليها، ونعتبرها عمدة الكتب التي خلفها سلف الأمة، مثل: كتب ابن القيم وابن تيمية والإمام النووي وابن حجر والذهبي وغير أولئك من الأعلام رحمة الله عليهم أجمعين. يقول الشوكاني معلقاً بعد نقل كلام ابن حجر: وله من حسن التصرف مع العذوبة السائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الآذان، وتحبه القلوب، وليس له على غير الدليل معول في الغالب، وقد يميل إلى المذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدفع في وجوه الأدلة بالمحامل الباردة كما يفعل غيره من المتمذهبين. وانظر إلى هذا المعنى الذي أضافه الشوكاني وهو معنى ً جميل جيد وواقعي حقيقي، فإن ابن القيم رحمة الله عليه اشتهر بعذوبة عبارته، وسلاسة أسلوبه، وعلو بلاغته، وحسن عبارته، وكثرة استشهاده بالأمثلة والأشعار والبلاغات ونحو ذلك، مما يجعل كلامه مقبولاً في النفوس، وله وقع في القلوب كما قال: تميل إليه الآذان، وتعشقه وتحبه القلوب، وهذا قول واقعي يعرفه من قرأ في كتبه رحمة الله عليه. وهذا أمر نحتاج إليه، وهو ما قاله عنه ابن حجر: يتعانى في التوضيح والتبيين وبسط المسائل حتى تعرف، فليس أمر التعليم وتفهيم الناس أمراً هيناً، وإنما يحتاج إلى معرفة طرق التدريس والتعليم، وقد كان ابن القيم قد أخذ بالحظ الأوفى والأوفر من هذا الوصف، وكتبه مع وضوحها وجمالها فيها العلم والتفصيل والتفريع الذي هو من شأن تخصصات العلوم ودقائقها، إلا أنه كان يسهب بحيث يفهم عنه ويقبل منه، ويكون قد أقام الحجة والدليل بالطريقة الواضحة البينة، وهذه الصفة من الأمور المهمة التي ينبغي أن نستفيدها وأن نقتبسها.

الوقفة الثانية: علم ابن القيم رحمه الله تعالى

الوقفة الثانية: علم ابن القيم رحمه الله تعالى نقف وقفة نقتبس فيها من أنوار ترجمة وحال ابن القيم رحمة الله عليه في علمه. قد قلنا ذاك الموجز في أخلاقه، وهذه العبارات الجامعة في عبادته، فلا نظن أن هذا وذاك جاء من كلام غير خبير، فقد ذكره من ترجم له أمثال ابن كثير وابن رجب وغيرهما، وابن كثير إمام عالم، فإذا قوم فهو تقويم العلماء، وإذا مدح وأثنى فهو يعرف من هذه العلوم ما يجعله يعرف مواقع الكلمات، وليس كما هو الحال في عصورنا المتأخرة، فأنت تجد من حفظ كلمةً أو كلمتين أو اطلع على كتاب أو كتابين، ربما وصف بأنه عالم الأمة وإمام الأئمة، لكن السابقين من العلماء ما كانوا يطلقون هذه الأوصاف إلا عن علم بها، وتحر فيها، ودقة في إطلاقها. قال ابن كثير رحمة الله عليه في وصف علمه: سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة لاسيما علم التفسير والحديث والأصلين، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه. يعني: قل أن يوجد له نظير في مجموع أحواله، من علمه، وعبادته، وأخلاقه، إلى غير ذلك كله. وقال ابن رجب في وصف علمه -وقد توسع في ذلك؛ لأنه تلميذه الذي تلقى عنه وأخذ منه-: تفقه في المذهب، وبرع، وأفتى، ولازم ابن تيمية وأخذ عنه، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير لا يبارى فيه، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى -تأمل هذه العلوم والأوصاف- والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه والأصول والعربية وله فيها اليد الطولى، وتعلم الكلام والنحو وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم، وله في كل من هذه الفنون اليد الطولى. فهذا يدلنا على شمول علمه في مسائل كثيرة وفي فنون متعددة. وقال الذهبي -وهو من نعلم في تقويم الرجال-: عني بالحديث وفقهه، ومعرفة بعض رجاله، وكان يشتغل في الفقه، ويجيد تقريره وتدريسه، وفي الأصلين، وتصدى للاشتغال وإقراء العلم، ونشره. ويقول ابن رجب: ما رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه -ثم يستدرك ويدلنا ذلك على دقة العلماء- قال: وهو ليس بمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله. وقال القاضي برهان الدين الزرعي عن ابن القيم: ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه، وقد درس في الصدرية -وهي إحدى مدارس الشام نسبة إلى صدر الدين الدمشقي - وأم بالجوزية، أي: كان إماماً فيها. فهذه الأوصاف التي ذكرت عن بعض ما كان عليه من العلم، تجعلنا نقتبس من نور أهل العلم أنه لا بد من بذل الجهد والتفرغ والحرص على التلقي وعدم التعجل، فإن ابن القيم ما حاز هذه العلوم ولا نال هذه الرتب إلا بعد وقت طويل، وعمل كثير، وتلق متنوع، ورحلة في طلب العلم، وعكوف عليه، وسهر لأجل حفظه وإتقانه. وقال الشوكاني عنه: برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف.

الوقفة الثانية: عبادة ابن القيم رحمه الله تعالى

الوقفة الثانية: عبادة ابن القيم رحمه الله تعالى نقتبس أنواراً أخرى من أمر وحال عبادته رحمة الله عليه، وقد ذكر المترجمون له في هذا الشأن حالاً عجيبة، وأوصافاً غريبة، وأموراً يتعجب منها كثير منا، وقد ضعفت هممنا، وكثرت بالحياة الدنيا انشغالاتنا، وقصرنا في الطاعات، وفرطنا في كثير من الخيرات. كان ابن كثير من أصحابه وجلسائه الذين عرفوه وخبروه، يقول: وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ومعنى هذا: أنه سيكون مطلعاً على خبايا أمره، وعلى أحواله الخاصة. ثم يقول ابن كثير رحمة الله عليه -وتأمل هذه الكلمات عندما يقولها الإمام ابن كثير وهو من هو في علمه وفضلة وتأريخه وتراجمه المعروفة-: ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادةً منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع من شأن عبادته وطوله فيها، وتفرغه لها وبذله من جهده ووقته فيها. ولم يكن ابن القيم رحمة الله عليه رجلاً منقطعاً عن الناس متفرغاً للعبادة، حتى نقول: إن هذا الوصف يليق به؛ لأنه لم يكن عنده شأن آخر، بل كان عالماً صنف مصنفات يحار العقل في فهمها وتدبرها، ومعرفة ما فيها من غزير العلم، ودقائق المسائل، وكان مع ذلك مجاهداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ينشر العلم ويلقنه، ويرد على المخالفين، ويقوم المبتدعين، ونحو ذلك، ومع ذلك كله ما شغل عن أمر هو من أهم الأمور وأعظمها وآكدها للعالم والداعية والمسلم على وجه العموم، وهو أمر الصلة بالله عز وجل، وأمر العبادة وربط القلب به، واستمداد العون منه. ويقول ابن رجب - وهو ممن تتلمذوا على ابن القيم رحمة الله عليه، وقد وصفه في ذلك وصفاً أطول وأعجب مما ذكره ابن كثير -: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله عز وجل، والانكسار له والانطراح بين يديه على عتبة عبوديته، ثم يقول على غرار ما قال ابن كثير: لم أشاهد مثله في ذلك، وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف. قال: وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه. فذاك قرينه، وهذا تلميذه، وهما من المقربين إليه والمختصين به، العارفين بحاله، فإذا بهما يذكران هذا الوصف الذي يغلب على السامع عندما يسمعه أن هذا الرجل لم يكن له شأن إلا العبادة وحدها، ومع ذلك كان رحمة الله عليه يجمع مع هذا الشأن شئوناً أخرى عظيمة وجليلة؛ ولذلك سمت العبادة ونورها الذي يقذف بالقلب، وتوفيقها الذي يجعله الله عز وجل مسدداً لصاحبها؛ هو أمر مقتبس أصلاً من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من العبادة مع كونه رسول الأمة، وقائد جيوشها، ومدبر أمرها، ورئيس دولتها، ومع ذلك كان هو الموصوف بالعبادة إلى الغاية القصوى التي لا منتهى إليها ولا قرب منها، وكذلك كان صحابته رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، كانوا يجمعون بين هذا وهذا، وعندما ضعف هذا السمت في أجيالنا المعاصرة، وفي المتصدرين للخير والإصلاح، والدعوة والعلم وطلبه، رأينا ضعفاً في الآثار: من قبول الحق، ومن سرعة الفهم، ومن غزارة العلم وغير ذلك من الأمور التي فتح الله عز وجل بها على أسلافنا من الأئمة؛ لأنهم أحسنوا ما بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى فسهل لهم أمورهم، وفتح لهم من أبواب خزائنه سبحانه وتعالى توفيقاً وتسديداً وإلهاماً ورشداً وصواباً في الرأي، ودقةً في الاستنباط، إلى غير ذلك مما عرفوا به واشتهروا به رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم أجمعين.

الوقفة الأولى: أخلاقه وخلاله التي تحلى بها وعرف بها وأقوال العلماء فيه

الوقفة الأولى: أخلاقه وخلاله التي تحلى بها وعرف بها وأقوال العلماء فيه إن أول وقفاتنا مع الأخلاق والخلال التي تحلى بها وعرفت عنه، ولا شك أن البدء بهذا من المهمات؛ لأن غاية العلم هو أن يثمر العمل، والإيمان في حقيقته تهذيب للسلوك وتقويم لأخلاق الإنسان، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في مستدرك الحاكم: (الإيمان والحياء جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال أيضاً: (الحياء شعبة من الإيمان)، مما يدل على أن الإيمان لا بد أن يثمر بهذه السلوكيات والأخلاقيات والعبادات، فالعلم يورث العمل الصالح. قال ابن كثير -وقد كان من أقران ابن القيم وزملائه وأحبابه-: كان ابن القيم حسن القراءة والخلق، وكان كثير التودد، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه ولا يعيبه، ولا يحقد على أحد. وهذه الكلمات الموجزة تنبئنا عما ينبغي أن يتصف به المسلم الحق، والعالم الذي فقه العلم حق الفقه، فهذا ابن كثير يخبرنا عن حسن سلوك ابن القيم رحمة الله عليه. وتأمل إلى قوله: كان كثير التودد. فهذا نور ينبغي أن نقتبسه، فإن المؤمن يألف ويؤلف، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)، فالمؤمن منبسط الوجه باش الوجه دائم التبسم، محب لإظهار السرور على إخوانه؛ وبهذا يتميز كل صاحب إيمان وصاحب علم، وليس من ضرورة الالتزام والعبادة والتهجد الغلظة والفضاضة والتجهم، فإن بعض الناس ربما غلب عليه هذا السمت، لذلك لا تراه إلا مقطب الجبين، عابس الوجه، ويظن أنه بذلك يحقق مقتضى تعبده ولوازم تعلمه! وليس الأمر كذلك. ويقول ابن كثير رحمة الله عليه واصفا ابن القيم: لا يحسد أحداً ولا يؤذيه ولا يعيبه. جاء في مسند الإمام أحمد قصة الرجل الذي بشره النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أهل الجنة ثلاث مرات، ثم صحبه بعض الصحابة ليرى حاله ويعرف سر بشارة النبي عليه الصلاة والسلام له، فلم ير عنده شيئاً يتميز به من كثير قيام أو صلاة أو نحو ذلك، إلا أن الرجل قال له: إني أبيت وليس في صدري غش ولا غل لأحد من المسلمين، فقال: هذه التي بها بلغت، وهي التي عنها نعجز. فغاية التهذيب الإيماني أن يكون المرء حسن السريرة على إخوانه، يحسن الظن بهم، ولا يحمل الحقد في قلبه عليهم وإن أخطئوا عليه. كانت هذه الصفة في ابن القيم بالرغم أن له خصومات مع بعض من خالفه في الآراء، حتى سجن وأوذي، ومع ذلك كان لا يحمل حقداً، فالرجل الكبير العظيم يكون مترفعاً عن الدنايا والصغائر، ولا يجعل لخلاف الرأي أثراً على محبة القلوب، وحسن الظن بالآخرين، والتماس العذر لهم. ولذلك كان وصف ابن كثير مطلقاً، يقول: كان لا يحسد أحداً، ولا يؤذيه، ولا يعيبه، أي: ينتقصه بالعيب أو يقدح فيه سواءً في علمه أو في سمته أو غير ذلك. وقال كذلك: ولا يحقد على أحد. ولا يظنن ظان أن هذا السمت يدل على الهوان والضعف والذلة، وإنما كما قال ابن حجر عندما ذكر كثيراً من صفات ابن القيم: كان جريء الجنان، شجاع القلب، يقول الحق لا يخشى في الله لومة لائم، وقد خالف كثيرين وأصر على رأيه وأنه الحق، وسجن وأوذي فما تردد، ولا ارتجف قلبه ولا خاف ولا داهن في دينه. فتجد أن تبسمك وإدخالك السرور على إخوانك فيهما تنقية قلبك وتهذيب نفسك، بما لا يفضي إلى أن تداهن في الحق أو أن تتراجع عما تعتقده صواباً، وإنما تجمع بين هذه المحاسن كلها، وهكذا كان ابن القيم رحمة الله عليه كما في بعض هذه الكلمات اليسيرة الوجيزة التي ذكرها عنه بعض من ترجم له من أهل العلم.

منهج ابن القيم فيما يتعلق بمؤلفاته المختلفة وكيفية الاستفادة منه

منهج ابن القيم فيما يتعلق بمؤلفاته المختلفة وكيفية الاستفادة منه يمكن تقسيم كتب ابن القيم إلى ثلاثة جوانب أساسية: الجانب الأول: فيما يتعلق بالعقائد. الجانب الثاني: فيما يتعلق بالفقه. الجانب الثالث: فيما يتعلق بالروح والتربية الإيمانية والسلوكية. وليس هذا المقام مغنياً ولا كافياً في الإتيان على هذه المسائل بما يكفي ويجمع كل ما فيها، وإنما نشير من ذلك إلى ما يتسع له المقام، ويليق بحال مثل هذا الدرس العام.

منهج ابن القيم فيما يتعلق بالجانب الإيماني التربوي

منهج ابن القيم فيما يتعلق بالجانب الإيماني التربوي إن ابن القيم رحمة الله عليه لم يكن فقط ممن يقررون المسائل الفقهية على القواعد الأصولية، ويهتمون بالرد على الأقوال فحسب، وإنما خاض في علم القلوب وأحوال النفوس وما يتعلق بذلك، وأتى في هذا بعجب عجاب، وفند فيه كثيراً من الأخطاء، وبين فيه كثيراً من المحاسن التي غفل عنها كثير من الناس؛ ولذلك كان له في ذلك كتب كثيرة كما أشرت إلى بعض منها، ونستطيع أن نسميه من فقهاء الإيمان، هناك فقه الحكم الظاهر، وهناك الفقه الإيماني الذي هو من المقاصد الأساسية لهذا الدين، فنحن مثلاً عندما نأخذ كلام ابن القيم في آثار الذنوب والمعاصي، وعندما نأخذ كلامه على حياة القلوب وموتها وظلمتها ونحو ذلك، نرى ما كان عنده مما يسمى اليوم بعلم النفس، أو علاج الأمراض والعقد النفسيه ونحو ذلك، فإنه قد أتى في هذا الأمر بأشياء كثيرة مفيدة نافعة. وأوجز أيضاً ملامح أساسية في هذا الشأن: الأول: وهذا يتكرر معنا كثيراً: الاقتباس من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تقسيم القلوب ومعرفة أنواعها وأدوائها وعللها وعلاجها، فإن هذا قد أكثر منه ابن القيم رحمة الله عليه كثيراً. الثاني وهو من الأمور المهمة جداً: البناء على الأثر العملي، ليست القضية في الأمور الإيمانية قضايا أقوال كما خاض في ذلك بعض المتصوفة، وبعض الذين أرادوا أن يخلوا أنفسهم من الأعمال، فقالوا أقوالاً جميلة، وتغنوا بأشعار موزونة رقيقة، وتمايلوا طرباً، ورأوا أن هذا هو حال أهل الإيمان فحسب، كان ابن القيم رحمة الله عليه -كما سأذكر بعضاً من نصوصه الكثيرة- يربط حقيقة الإيمان والعلو في الرتب الإيمانية وصفاء القلب ونقاء السريرة وغير ذلك من الأمور؛ بالتزام الشرع والإتيان بالفرائض والإكثار من النوافل، وبيان أنه ليس هناك تفريق بين علم الحقيقة وعلم الشريعة، كما يقولون. الثالث: أن ابن القيم رحمة الله عليه فند الباطل من الآراء والأقوال والمعتقدات التي دخلت في أمر التعبد والسلوك ورياضة النفوس وتهذيب القلوب، فقد أنكر وحدة الوجود وبين زيفها، ورد على ترك التكاليف وبين حقيقة هذه الأمور بياناً شافياً وواضحاً. الرابع وهو مهم جداً: ربطه بين العبادات والأعمال وآثارها الإيمانية في القلب والنفس، وقد أتى في زاد المعاد بأقوال مطولة نفيسة في بعض هذه المسائل، ربما عندما يسمعها السامع أو يقرؤها القارئ لا يرى إلا أنها من أقوال بعض أهل التصوف الغالين فيه، وما ثم شيء قد خرج من فيه ومن كلامه إلا الحق، وإنما كان ينطق بلسان يغترف من قلب شفاف ونفس طاهرة قد تهذبت بهذه الأعمال الإيمانية؛ لأن بعض الناس اليوم أرادوا -عن حسن نية في بعض الأحوال وعن جهل في أحوال أخرى- أن يردوا الغلو الذي وقع والشطحات التي حصلت من بعض من جنح في أمور العبادات والتزهد والترهب؛ فردوا معها أصل الأثر الإيماني، وأنكروا لذلك بعض الأمور إن لم ينكروها بنص قولهم فقد يفهم ذلك من أحوالهم ومجموع أقوالهم، كأن ينكروا ما يقذف في القلب من نور، وما يقع له من تطهير من أثر العبادة والإيمان، وما يقع أيضاً من أمور حسية سواءً بالرؤى الصالحة أو الكرامات أو غير ذلك من الأمور؛ حتى إن ابن تيمية رحمة الله عليه قد بين مثل هذا وأفاض فيه كما في بعض الرسائل والمسائل، حتى إنه عد الإلهام عند تساوي الأدلة مرجحاً عند صاحبه، يعني: يترجح به قول من الأقوال عند صاحبه، ما دام هذا الإلهام لرجل مؤمن صالح؛ لأن هناك شواهد من الأدلة تدلنا على أن التقوى والإيمان والصلاح له أثر في معرفة الحق، وله أثر أيضاً فيما يتعلق بهذه الآثار الإيمانية من ذوق حلاوة الإيمان وطعمه، ومن النور الذي يكون للعبد من أثر هذه الطاعات، ونحو ذلك من الأمور التي تقع له من توفيق وتسديد وإلهام وكرامة، وغير ذلك في حدود ما ثبت دون تجاوز، وأذكر بعض مقالاته في مثل هذه المسائل، وهذا الباب على كل حال من الأبواب المهمة التي أرى أن كثيراً من الشباب تدفعهم حماستهم إلى إنكار كثير من الأمور الإيمانية والتربوية أثناء إنكارهم للباطل الذي فعله بعض المتصوفة؛ ولذلك ترى بعضاً منهم يقول: إن مدارج السالكين لا تصح نسبته لـ ابن القيم! وذلك لأنه رأى أن ابن القيم تكلم على المنازل والمراتب على غرار ما كانوا يتكلمون فيه، مع أنه ما تكلم على ذلك إلا بكلام صحيح في جملته، واستدل لهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورد على الهروي كما سأذكر بعض الأمثلة في بعض ما خالفه فيه، أولم يوفق فيه في بعض الجمل والعبارات ونحو ذلك، وأيضاً بعضهم قد لا ينسب إليه "حادي الأرواح" أو "الروح" أو غيرها من الكتب، وأقول: ليس ثمة ما يدعو إلى عدم تصحيح نسبة هذه الكتب إلى ابن القيم فإن في كلامه وكلام شيخه من قبله وكلام غيرهما كـ الذهبي سيما في مواضع كثيرة من سير أعلام النبلاء وغيرها من كتب التراجم ما يدل على أن هذا أمر مألوف معروف، وهو أيضاً المنهج الذي اقتبسوه مما نقلوه عن السلف من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، فأذكر بعض النقولات السريعة لنختم بها هذا الكلام. بين ابن القيم رحمة الله عليه مذهب التصوف فقال: أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه الآخرون، والمقام على ما سلك الأولون. وأيضاً يقول ابن القيم في معرض رده على بعض ما ذهب إليه غلاة المتصوفة: قيل لبعض الصوفية: قم إلى الصلاة فقال: يطالب بالأوراد من كان غافلاً وكيف بقلب كل أوقاته ورد يعني: هذا من الواصلين كما يقول، وإنما الصلاة عندهم للغافلين، أما الذين قلوبهم حية موصولة بالله عز وجل -كما يزعمون- فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك. فقال ابن القيم رحمة الله عليه: فمن لم ير القيام بالفرائض إذا حصلت له الجمعية- يعني: اجتماع القلب- فهو كافر منسلخ من الدين، ومن عطل لها مصلحةً راجحة كالسنن الرواتب، والعلم النافع، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنفع العظيم المتعدي، فهو ناقص، أي: أن فعله ناقص وفيه خلل. أيضاً يبين المقياس الأساسي في معرفة هذه الأمور: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع إلى الهواء فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشريعة. ونقل عن عبد الله الخياط قوله: الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مع ما يقع في قلوبهم- يعني: بحسب ما يقع في قلوبهم-، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فردهم من القلب إلى الدين والشريعة. المسألة التي في الدين ليست مسألة قلوب وأذواق ومواجيد، وإنما الأصل في الشريعة العمل بالشرع، فهو الذي يورث القلب الخير والاستقامة والصلاح ونحو ذلك. وأيضاً: علق على كلام للهروي في منازل السائرين، وإن كان هو متعقباً له، لكنه كان متأدباً معه، يقول ابن القيم في تعليقه على قوله: ويطوي خسة التكاليف: يقصد عبء التكاليف، لكن ليت الشيخ عبر عن هذه اللفظة بغيرها، فوالله إنها لأقبح من شوكة في العين وشجىً في الحلق -يعني: أن العبارة قبيحة لم يوفق فيها- وحاشا التكاليف أن توصف بخسة أو تلحقها خسة، وإنما هي قرة عين، وسرور قلب، وحياة روح، صدر التكليف بها عن حكيم حميد، فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه للعبد سبحانه وتعالى. وهكذا كانت له مثل هذه التعليقات والكلمات الجميلة. وله أيضاً الفوائد الواضحة التي هي من آثار العبادة والعلم. وقد ذكرت بعض النقولات التي تبين لنا هذا الأمر، وأحب أن أؤكد على أن كلام ابن القيم على التزكية في كتبه ومؤلفاته من أعظم ما يستفاد منه فيها رحمة الله عليه.

منهج ابن القيم فيما يتعلق بالفقه

منهج ابن القيم فيما يتعلق بالفقه أنتقل إلى الملامح الأخرى المتعلقة بالناحية الفقهية: ابن القيم رحمة الله عليه كان في هذا الشأن متميزاً، وقد أفادنا منهجه كثيراً في مجالات متعددة. فإن لـ ابن القيم في منهجه الفقهي ملامح ومعالم أساسية منها: الأول: الدعوة إلى مذهب السلف في المسائل الفقهية، وتقديمه لأقوال الصحابة والتابعين على أقوال من جاء بعدهم، والتفريق بين هذه وهذه في مراتب سيأتي ذكرها. الثاني: التحرر وعدم الجمود. الثالث: محاربة التلاعب بالدين. الرابع: تفهم روح الشريعة. وأوجز القول في كل واحدة من هذه الملاحم والمعالم: المعلم الأول: ارتباطه بسلف الأمة في المسائل الفقهية، فقد عقد ابن القيم رحمة الله عليه في أول كتابه "إعلام الموقعين" وكذا في آخره فصولاً مطولةً في أن فتاوى الصحابة والتابعين وعلمهم وما قالوه من الآراء هو الأقرب إلى الحق، والأوفق للصواب، والأكثر مطابقة لما يستنبط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم، وفصل في ذلك ودلل عليه، لماذا؟ لأن بعض الناس في ذلك العصر وحتى في عصرنا يرون أن قول الصحابي أو قول التابعين شيء لا يهمنا، وأنه لا يهمنا إلا الكتاب والسنة، صحيح أنه يهمنا الكتاب والسنة، ولكن فهمهم أصوب، وعلمهم بهما أكثر؛ ولذلك طول ابن القيم في هذا المقام وأتى بكلام نفيس، وبحث جليل عظيم في آخر المجلد الرابع من إعلام الموقعين. وهذه المنهجية مهمة جداً، على سبيل المثال: مسألة قول الصحابي الواحد الذي ربما لم تعضده السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو قد يكون ظاهره مخالفاً للسنة يقول: يحمل هذا على ستة أوجه -أذكر بعضاً منها-: إما أنه فعل ذلك نقلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينسبه له، أو نسبه ولم ينقل لنا ذلك أو كذا أو كذا، ثم قال: الوجه السادس: أنه أخطأ وخالف في ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: واحتمال وقوع خمسة من ستة أقرب من احتمال وقوع واحد من ستة، فيكون قول الصحابي مقدماً على غيره، وله مرتبته التي يعتبر بها ويستأنس بها. وقال فيما يذكر في أصول الفقه: كلام الصحابي إذا لم يوجد له مخالف يعد معتبراً مأخوذاً به في الجملة، وإن كان كما ينقل عن الإمام أحمد أنه لا يجعله حجةً، لكنه لا يرى دفعه والإعراض عنه؛ لما للصحابة من منزلة ومزية في العلم والأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. المعلم الثاني: أمر التحرر وترك الجمود، قد كان في عصر ابن القيم وقبله بأكثر من قرن نوع من العصبية المذهبية والتقليد والجمود، الذي جعل كثيراً من المسلمين يرون تقليد غيرهم هو الواجب اللازم عليهم، وضعف بذلك طلبهم للعلم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنرى ابن القيم رحمة الله عليه هو أحد أقطاب المدرسة التي كانت في ذلك العصر تجدد معنى الارتباط بالكتاب والسنة، والأخذ منهما لمن تأهل لذلك واستجمع المواصفات التي يأخذ بها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد عاب التقليد وذمه وبين المأخذ الشرعي عليه، وبين أن المقلد قد قلد دينه دون أن يبذل جهده في تعرف الحق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفصل في ذلك، وقد نقل عن بعض من كانوا آخذين بالمذاهب أقوالاً تدل على الإفراط الشديد في مسألة التقيد بالمذاهب والتقليد لها، حتى قال أحدهم: كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ! ونقل ابن القيم عن هؤلاء أنهم كانوا إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة يقولون: لا يجوز أن ينظر فيها في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة، بل إلى ما قاله مقلده ومتبوعه ومن جعله عياراً على القرآن والسنة، فما وافق قوله أفتى به وما خالفه لم يجز له أن يفتي به، وإن فعل ذلك تعرض لعزله عن منصب الفتوى والحكم! فمثل هذه المقالات المنتشرة ميزها ابن القيم وفندها ورد عليها، وبين أنواع التقليد المحرم، وذكر أنه أنواع ثلاثة: الأول: الإعراض عما أنزل الله عز وجل، وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء، وهذا كان شأن الكافرين والمشركين. الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله. الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد. وقال: هذه كلها مذمومة. وقد بين ابن القيم الخلاف بين التقليد وبين الاتباع، وبين من يقصر عن درجة الاجتهاد، وأن له أن يأخذ بقول غيره، ونقل عن الشافعي وغيره أنهم عندما لا يجدون دليلاً يأخذون بما أوثر عن الصحابة رضوان الله عليهم، وقلدوهم فيه، بل قد قال الشافعي في بعض فتاواه: أقول بهذا وأقلد فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهكذا كان ابن القيم يؤصل هذا المنهج ويوضحه، وأكثر ما بين ذلك في كتاب "إعلام الموقعين"، وذكر له أمثلة رائعة في كتاب "زاد المعاد" وغيرها من كتبه رحمة الله عليه. المعلم الثالث: التلاعب بالدين، وأنه ليس لكل أحد أن يأخذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو غير أهل لذلك، فيهرف بما لا يعرف، ويخلط ويأتي بالعجائب، فقد كان من منهج ابن القيم أيضاً حياطة الدين، وذلك بسد باب التلاعب بالدين، ومن أعظم ذلك انتصابه للكلام في الحيل والرد على الحيل وإبطالها؛ لأن الحيل المقصود بها ما يكون من التحايل بصورة فقهية من الناحية الشكلية، فيظنها الظان صحيحة ويجوز ويسوغ لنفسه بها فعل ما لا يجوز شرعاً، وعلى سبيل المثال: المحلل الذي يتزوج حيلة ليحلل المرأة لزوجها الذي بانت منه بينونة كبرى، وقد عقد ابن القيم مباحث مطولة في إعلام الموقعين وفي غيره أيضاً لإبطال هذه الحيل وما استدل به أربابها، فقد استدلوا ببعض الأمور وببعض ظواهر الآيات في قصص، واستدلوا بأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) واستشهد بعضهم بقصة يوسف عليه السلام لما ورى وأخفى على إخوته قصة أخيه، وما صنع، قالوا: كل ذلك يدل على جواز الحيل. وكذلك ما هو معلوم من قصة أيوب عليه السلام في قوله عز وجل: (((وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ)) [ص:44]، فإنه جمع مائة عود وضرب بها ضربة واحدة تحلة القسم، وغير ذلك من الأدلة. فهو رحمه الله جاء على هذه الأدلة ورد على من استدل بها، وبين الخطأ في الاستدلال، ثم استعرض ذلك بما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم. المعلم الرابع وهو مهم جداً: اعتبار المقاصد والنيات والعوائد والأحوال في مسائل الفتوى والأحكام، وقد عقد ابن القيم في أول المجلد الثالث من إعلام الموقعين فصلاً في هذا، فهو يقول: النية لها أثر في الحكم، ليس المقصود بالأحكام الفقهية الظواهر الشكلية، بل إذا كانت للمرء نية فإنها قد تؤثر في إبطال الصحيح من الأحكام، مثلاً: مسألة المحلل التي ذكرناها سابقاً، قد يعقد الرجل نكاحاً صحيحاً، لكن ما دامت نيته أنه يقصد بهذا النكاح هذا الغرض ولا يقصد غيره، بل يريد أن يتوصل به إلى أمر مذموم شرعاً؛ فهذه النية لها أثرها؛ ولذلك اعتبار المقاصد والحكم والعلل التي استنبطت من نصوص الشارع، والمقاصد التي روعيت في الأحكام الشرعية مع مراعاة اختلاف العوائد والأحوال؛ أمر عجيب جداً سيما في أمور المعاملات والبيوع. وقد ذكر ابن القيم على تغير الفتوى باختلاف الأحوال والعوائد والمقاصد والنيات أكثر من مائة مثال، مما كان في عهد الصحابة، ومما اقتبسه من نصوص الكتاب والسنة، مما يدل على أن هذا الأمر مهم جداً، وإلا كان الأمر كما قال ابن القيم: فينسب حينئذ للشريعة أمور لا تصح نسبتها لها؛ لأن الشريعة مبنية على العدل، وكلها محاسن، فلا ينبغي أن تكون هناك أمور تعارض المقاصد الحسنة الكلية لهذه الشريعة الغراء، فهذه المعالم المنهجية مما ينبغي أن يستفاد منها، ومن اطلع على كتب ابن القيم يستفيد منها فوائد مباشرة وواضحة.

منهج ابن القيم فيما يتعلق بالعقائد

منهج ابن القيم فيما يتعلق بالعقائد كان للإمام ابن القيم رحمة الله عليه في جانب العقائد منهج واضح بين، وهو مستفاد من منهج السلف رضوان الله عليهم ورحمهم الله تعالى أجمعين، فقد قرر منهجهم في كتبه، وكانت له في ذلك ملامح عامة يمكن إيجازها في الأمور الآتية: الأمر الأول: الاعتماد الكامل التام على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعندما نقول هذا يحسب بعض الإخوة أننا نقول قولاً من باب تحصيل الحاصل، لكني أقول: ليس الأمر كذلك، فإنه في عصر ابن القيم وقبله وبعده وإلى عصرنا يوجد من طوائف المسلمين ومن بعض أعلامهم من كان يرى تقديم العقل على النقل، ومن الناس من يأخذ بمسائل علم الكلام وبالدلائل العقلية، وأوجد مسائل منطقية وأنواعاً من الفهوم والعلوم شوشت على صفاء المنهج العذب الذي يستقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحق أن ابن القيم رحمة الله عليه في كتبه كثيراً ما يستدل بالكتاب والسنة في الرد على بعض من خالف أو أخطأ أو ابتدع في مسائل الاعتقاد، وأذكر مثالاً واحداً فحسب على هذا الأمر دون تطويل فيه: وذلك في مسألة رده على من أول اليد بالقدرة، فقد احتج عليهم بآيات من كتاب الله عز وجل تلجم الخصم الحجة وتعجزه عن الرد، أوجز كلامه حتى لا يطول بنا المقام، لقد استشهد بقول الله عز وجل في قصة خلق آدم: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، فيقول: لو كانت اليد تؤول بالقدرة، فما وجه التثنية هنا؟ أي: لو كانت اليد بمعنى القدرة لكان يغني أن يقول: لما خلقت بيدي، ولك أن تضع هذا السؤال ثم تطوف بعقلك وفكرك ما شئت، فلن تجد جواباً إلا أن هذا المنهج غير صحيح، وأن الإثبات الذي اعتمده أهل السنة هو الصحيح، ثم ثنى على ذلك بنصوص كثيرة من القرآن فيها ذكر اليد واليدين لله عز وجل بما يبطل حجة الخصم ولا يدع مجالاً لمثل هذا التأول، وذكر آيات كثيرة في هذا الشأن نصوصاً من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فهو يأتي بهذا المنهج ويعتمد عليه ويعول عليه. الأمر الثاني الذي نقتبسه من نهجه رحمة الله عليه: هو أنه كان يأخذ بالحجج العقلية رديفاً؛ وذلك لأمور مهمة كثيرة منها: أن الشارع لم يلغ العقل أصلاً، وإنما جعل العقل الصحيح يوافق النقل الصحيح، وليس هناك تعارض كما قال ابن تيمية رحمة الله عليه. ثم أيضاً لإقامة الحجة على من أخذوا بمثل هذه الحجج: فهو ينقض حجتهم بنفس منطقهم ومن خلال منهجهم، وهذا أيضاً قد برع فيه واستفاد كثيراً من شيخه رحمة الله عليهما جميعاً، ولقد برع في هذا خاصةً في كتابه "الصواعق المرسلة". الأمر الثالث في هذا المنهج: أنه كان يستقرئ استقراءً عظيماً جداً لنصوص الكتاب والسنة في المقام الواحد، مع ذكر المأثور عن الصحابة والتابعين بجمع فريد، ومعنى ذلك: أنه لا يكتفي في الموضع الواحد بالدليل الواحد، الذي قد يكون للخصم فيه تأويل أو له عنده شبهة أو نحو ذلك، فأنت ترى أنه قد يأتي في المسألة الواحدة بمئات الأدلة، وهذا كان نهجه في تقرير المسائل العقدية، فقد كان يفصل فيها تفصيلاً، ويسهب إسهاباً، ويجمع جمعاً طويلاً في كل ما يتعلق بهذه المسألة من الأدلة النقلية النصية، ومن أقوال وأحوال الصحابة والتابعين، ولا شك أن الله عز وجل قد نفع به وبغيره من علماء الأمة؛ لكونهم نقلوا وثبتوا دعائم مذهب السلف الصحيح بهذه الأدلة النقلية الجامعة، وبإثبات ما نقل وأثر عن الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين، وأهل القرون الثلاثة المفضلة الأولى، الذين كانوا في جملتهم على الحق والصواب، ولم تكن قد كثرت في عصورهم الفتن، ولا تعددت الفرق. الأمر الرابع: أن ابن القيم رحمة الله عليه كان يأخذ بمبدأ الشمول والكمال في مسألة تقرير هذه المسائل، بمعنى: أنه لا يأخذ المسألة جملةً ويرد عليها جملةً، بل يأخذها بشكل شامل فيرد منها ما يرد، ويقر منها ما يقر، وهذه مسألة من المسائل الدقيقة التي يغلط فيها كثير من الناس، فقد يأتي إلى مذهب من المذاهب أو مقالة من مقالات أهل الفرق، فيردها بالكلية، وقد يكون فيها بعض الحق والصواب، فلما استفصل ابن القيم رحمة الله عليه في هذه المسائل وطول النفس فيها، بين أن هذه المقالة فيها وجه حق وهو كذا وكذا، وفيها وجه باطل وهو كذا وكذا، أو قد يكون هذا حقاً، لكن بضوابط هي كذا وكذا، وهذا أمر مهم جداً من ناحية التأصيل العلمي، ومن ناحية مراعاة حقوق الآخرين، والحرص على أعراض المسلمين، حتى لا يتهموا بالباطل أو بالخطأ، أو بأنهم خالفوا الكتاب والسنة كما نرى من تعجل بعض المتعجلين في أوقاتنا المعاصرة، فما أن يسمع عن إنسان أنه قال كلمة أو قال كلاماً يحتمل بعض الأقوال إلا قال -على سبيل المثال-: إن فلاناً من الصوفية أو من الحلولية؛ لمجرد كلمة واحدة، ثم يرد كل ما عنده من قول وفعل، وهذا كما هو معلوم أمر غير صحيح في هذا الجانب. هذه بعض الملامح السريعة في هذا الجانب.

الأسئلة

الأسئلة

ذكر مراجع مترجمة لابن تيمية وابن القيم

ذكر مراجع مترجمة لابن تيمية وابن القيم Q أرجو ذكر بعض المراجع عن ابن تيمية؟ A أنا حضرت لكم عن ابن القيم وسأذكر الاثنين معاً إن شاء الله تعالى لأختم بهذا: هناك كتب كثيرة ترجمت لهذين العلمين، وكثرة هذه الكتب تدل على أن لهما شأناً عظيماً، وفي تراجمهما وعلمهما فوائد كثيرة، بالنسبة لـ ابن القيم هناك " ابن القيم وموقفه من التقليد" تأليف الدكتور عوض الله حجازي، وهناك " ابن القيم حياته وآثاره" للدكتور بكر أبو زيد، وقد جمع فيه موارد ابن القيم في كتبه، وضمه إليه في مجلد في الطبعة الأخيرة (طبعة دار الراية). وهناك "ابن قيم الجوزية عصره ومنهجه وآراؤه في الفقه والعقائد والتصوف" وهو كتاب واسع وجيد في جملته، تأليف: عبد العظيم عبد السلام شرف الدين. وهناك أيضاً كتاب "منهج ابن القيم في التفسير" للسمباطي، و" ابن القيم وآثاره العلمية" لـ أحمد ماهر محمود البقري، و"ابن قيم الجوزية" لـ محمد بن مسلم الغنيمي، وهناك بعض الكتب الأخرى المتعلقة بعلم ابن القيم من الناحية اللغوية التي لم نتعرض لها؛ فقد كان له في اللغة والبلاغة شأن واسع. أما ابن تيمية فقد ألف كثير من أهل العلم في ترجمته، منهم: تلميذه البزار له كتاب: "المراتب العليه في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه" وهناك أيضاً كتب كثيرة للمتأخرين والمعاصرين، ومن الكتب الجيدة والجامعة كتاب: "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية لـ أبي الحسن الندوي، وهناك أيضاً كتاب لـ محمد خليل هراس ولـ بهجة البيطار كلاهما بعنوان ابن تيمية، وكتب كثيرة جداً ترجمت لـ ابن تيمية، وكثيرون صنفوا فيها استقلالاً، فيمكن أن يرجع إلى بعضها ويستفاد منها. ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا نقتدي بهؤلاء الأئمة الأعلام، ونتأسى بهم في علمهم وسمتهم وحالهم، إنه ولي ذ لك والقادر عليه. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ذكر كتب تتعلق بآداب طلب العلم

ذكر كتب تتعلق بآداب طلب العلم Q صحب ابن القيم ابن تيمية واستفاد منه، فهل هناك كتب جيدة تبحث في آداب طالب العلم وطلب العلم بتوسع وإسهاب؟ A هناك كتب كثيرة لعلي أشير إلى بعض القديم منها والجديد، وهي من الكتب المعروفة المشهورة منها: "تذكرة السامع والمتكلم" لـ ابن جماعة وهو من الكتب الجيدة النافعة، وكتاب الزرنوجي "آداب طالب العلم"، وأيضاً لـ أبي هلال العسكري "طالب العلم وآدابه" وهي رسالة صغيرة. ومن الكتب التي جمعت الفوائد كتاب "جامع بيان العلم وفضله" لـ ابن عبد البر، وحد المعاصرين -وهو محمد الحاج -له كتاب في العلم وفضله وآدابه، وي الحقيقة رأيته من أوسع ما جمع من الكتب المعاصرة، وقرب كثيراً مما ذكر في كتاب ابن عبد البر "جامع بيان العلم وفضله". ومن هذه الكتب النافعة المفيدة أيضاً كتاب "حلية طالب العلم" للشيخ بكر أبو زيد فيه كلام نفيس جداً، وجمع فيه نقولات جيدة، وله كتاب آخر يتعلق بهذا، بين فيه الأخطأ التي قد تقع من بعض طلاب العلم، وهو أثر التعالم في الفكر والكتاب، وهو كتاب أحسب أنه لم يسبق إليه من حيث مضمونه وفكرته، إضافةً إلى أنه جمع فيه من التراجم والوقائع فما وقع لأهل العلم شيئاً عجيباً ربما لا يتوافر لغيره؛ لأنه ممن عرفوا باطلاع واسع وجمع كبير للمعلومات.

الحث على صيام يوم عاشوراء

الحث على صيام يوم عاشوراء Q لو ذكرتنا بعاشوراء؛ لأن غداً التاسع؟ A نذكر الإخوة جزاهم الله خيراً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو صيام يوم عاشوراء، وقد صامه وقال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، وفي مسند الإمام أحمد أنه قال: (صوموا يوماً قبله ويوماً بعده).

من كتب ابن القيم التي رد فيها على الصوفية

من كتب ابن القيم التي رد فيها على الصوفية Q هل يوجد كتاب خاص لـ ابن القيم للرد على الصوفية؟ A قد رد في مدارج السالكين وفي غيره على الأخطاء التي تنسب إلى الصوفية ممن غالوا وخرجوا عن حد الشرع، والمسائل الأخرى التي هي في دائرة المشروع أقرها وبين الدليل عليها، وبين فوائدها. واسم التصوف اسم قديم غلب على الشق المذموم غير المشروع من الأعمال، وقد أطلق أيضاً على عموم ما يعرف عند أهل العلم بعلم السلوك والتصوف، أي: العلم المتعلق بالعبادات والطاعات وما يتعلق بالقلوب ونحو ذلك.

حكم التحايل وضوابطه

حكم التحايل وضوابطه Q ذكرت أن التحايل لا يجوز، فإذا كان وراء هذا التحايل جلب مصلحة ودرء مفسدة عظيمة فهل يجوز؟ A حديثنا كان على سبيل الإيجاز، وإلا ففي بعض هذه المسائل تفصيل، ومثل هذا لا يعتبر تحايلاً، وإنما هو في جلب مصلحة ودرء مفسدة، فهو من باب مراعاة مقاصد الشريعة، وليس من باب التحايل.

عدم وجود مذهب خاص بابن تيمية

عدم وجود مذهب خاص بابن تيمية Q هل كان لـ ابن تيمية فقه أو مذهب خاص؟ ولماذا لم يشتهر؟ A كان ابن تيمية معروفاً بأنه مجتهد مطلق، بمعنى: أنه أخذ من أقوال الأئمة وخالفهم في بعض المسائل، وقد خالف الأئمة الأربعة في مسائل، وإنما اشتهر مذهبه في بعض المسائل، ولا يزال بعض أهل العلم في عصرنا يفتي ببعض ما خالف فيه شيخ الإسلام الأئمة الأربعة مثل: المسألة المشهورة التي هي: جعل طلاق الثلاث واحدة، ويقول بها بعض المشايخ مثل: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وغيره، لكن لم يكن ابن تيمية رحمة الله عليه متقدماً حتى يكون من الذين أخذت مذاهبهم ونقلت، ابن تيمية توفي سنة (728هـ) في القرن الثامن، والذين عرفت مذاهبهم واشتهرت بعضهم من أعيان القرن الثالث وبعضهم من أعيان القرن الثاني، ففرق بين هذا وذاك.

تقويم كتاب تهذيب مدارج السالكين

تقويم كتاب تهذيب مدارج السالكين Q ما رأيك في كتاب "تهذيب مدارج السالكين" لـ ابن العزي؟ A الأمر الأول: هو كتاب جيد، حاول فيه صاحبه التهذيب والاختصار للتسهيل في هذا العصر، فالأصل في ثلاثة مجلدات، والمختصر في مجلد، وربما المجلد طلب الناس له اختصاراً حتى يكون مجيلداً وهكذا. الأمر الثاني: أنه ابتعد فيه عن بعض ما كان يستطرد فيه ابن القيم من المسائل، لأنه كان يستطرد في بعض المسائل ويتفرع فيها، ويذكر بعض الأقوال، وهذا اختصرها، وردد فيها المعاني. وعلى كل حال الاختصار جيد، ولم يعمل مختصره إلا التهذيب، وأيضاً فقهه الذي فقه فيه عن مؤلفه، والكتاب مفيد نافع إن شاء الله تعالى.

استفسار عن استمرار شرح كتاب زاد المعاد وكتاب العقيدة

استفسار عن استمرار شرح كتاب زاد المعاد وكتاب العقيدة Q هل هناك استمرار في شرح كتاب "زاد المعاد" وكتاب العقيدة أم تتوقف؟ A الدرس مستمر، لكنه تعتريه وقفات بحسب الظروف، لكن الأصل أنه مستمر فيما بعد الفجر، وتوقفه لا يضر؛ لأن الحاضرين له قلة ممن يصلون معنا في هذا المسجد.

ذكر زواج ابن القيم وبعض أبنائه

ذكر زواج ابن القيم وبعض أبنائه Q هل تزوج ابن القيم وله أولاد؟ A قد أشرت في أثناء الحديث أن له عبد الله وإبراهيم، وكانا أيضاً من أهل العلم، ودرسا بعد والدهما في المدرسة التي كان يدرس فيها.

حقيقة نسبة القول بفناء النار لابن القيم

حقيقة نسبة القول بفناء النار لابن القيم Q هل صحيح أن ابن القيم يرى فناء النار؟ A هذه المسألة من المسائل التي فيها خلاف بين أهل السنة والسلف: وهي القول بفناء النار أو عدم فنائها، هل تفنى النار فيكون الخلود فيها المقصود به طول الأمد، فتفنى بمن فيها أو لا تفنى؟ قولان معروفان لأهل السنة، والأرجح والأشهر القول بعدم فناء النار، ونسب إلى ابن القيم أنه يقول بفنائها، وقد حرر بعض المعاصرين -وهو الشيخ بكر أبو زيد - هذه المسألة، وبين أن نسبة هذا القول إلى ابن القيم ليست صحيحة، وعلى كل حال هو قول معروف عن بعض أهل السنة أيضاً.

§1/1